فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها

د. غالب بن علي عواجي

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدمة الطبعة الثالثة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن دراسة الفرق ومعرفة الأخطار التي تجلبها على المسلمين من أهم ما ينبغي أن يهتم به عامة المسلمين، فضلاً عن طلاب العلم والدعاة إلى الله تعالى. وقد كان الصحابي الجليل حذيفة ري الله عنه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر؛ بينما طبيعة الإنسان هي السؤال عن الخير، وقد بيَّن سبب ذلك بقوله: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الخير وكنت أساله عن الشر؛ مخافة أن يدركني)) . ولقد مرت بالمسلمين ولا تزال تمر بهم الأخطار متلاحقة يتبع بعضها بعضاً بعد أن تكالب الأعداء على مختلف اتجاهاتهم،، ووقفوا صفاً واحداً متناسين ما بينهم من عداوات واختلاف في العقائد الحرب المسلمين وفتنتهم عن دينهم الحنيف، في الوقت الذي غفل فيه المسلمون عن واقعهم وركن كثير منهم إلى أعدائهم أعداء عقيدتهم - فنفر بعضهم عن البعض الآخر بسبب تلك المؤامرات الخفية والظاهرة، وما تبعها من اختلاف المسلمين في الموالاة والأهواء. وقد حذَّرنا الله عز وجل من الركون إلى الذين ظلموا فقال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} .

ومعلوم أنه لن تعود للمسلمين عزتهم ومكانتهم بين الأمم إلا إذا عادوا بصدق وإخلاص إلى كتاب ربهم وإلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولكن ومهما شعر بمرارة هذا التفرق ومهما بذلت من المحاولات لتكريس الفرقة - فإن الأمل يزداد في تجاوز المسلمين لهذا المحن. ومما يبشر بالخير ويجدد الآمال - هو إقبال الشباب على معرفة أسباب تلك التركة المشؤومة التي ورثوها، تلك التركة التي تحكم الفرقة بينهم وتجعل منهم أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، فجندوا أنفسهم للقضاء عليها وإعادة الوحدة الإسلامية بين قلوب المسلمين؛ ليصبحوا مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهي محاولات تحتاج إلى الصبر والإخلاص والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وإجلاء الأمور على حقيقتها؛ فإن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من التذكير، وإذا شاء الله شيئاً يسره: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . وقد طمعت في أن أدلي بدلوي المتواضع؛ لأتقدم إليك أخي القارئ بما يعتلج في صدري إزاء هذا التفرق الحاصل بين المسلمين؛ لأذكرك بالأسباب التي أدت إليه وما يبيته أعداء دينك لك، وما هو الواجب علينا أن نقوم به إزاء عقيدتنا ووحدة قلوبنا، وكشف كل المحاولات التي تهدف إلى تعميق الفرقة بيننا، وإلى إبعادنا عن تحقيق قوله الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} . أخي القارئ الكريم، لقد كنت ولا زلت أنظر إلى ما قدمته إليك في هذا

الكتاب على أنه دون ما كان ينبغي أن يبذل، وحسبي أنها إحدى الصيحات للوقوف في وجه تيار دعاة التفرقة وبيان أمرهم ومكائدهم ضد تآلف قلوب المسلمين ورغبتهم الشريرة في أن يبقى المسلمون على هذا التمزق والتنافر. ورغم ذلك فقد أخبرني الناشر للكتاب أن طلاب العلم قد أقبلوا على شرائه برغبة لم يكن يتوقعها كما ذكر لي ذلك؛ مما جعل الطبعة الأولى في سنة 1414هـ، 1993م تنفد بسرعة، فطلب إلي وألح في الطلب أن يعيد طباعته في سنة 1415هـ فأبيت بسبب لا أكتمك إياه؛ وهو أن تلك الطبيعة فيها أخطاء كثيرة جداً، وفيها تحريفات ونقص، وترك علامات الترقيم مما حدى بكثير من الغيورين وفقهم الله إلى إرسال ملاحظاتهم التي استفدت منها كثيراً. وتوقفت عن طباعة الكتاب حتى أنتهي من تصحيح كل الملاحظات، فإذا بي أفاجأ بظهور طبعة جديدة عليها الطبعة الثانية في سنة 1416هـ 1996م وهي تصوير عن الطبعة السابقة وبنفس العيوب السابقة تماماً، وقد آلمني هذا التصرف جداً إضافة إلى ما تلقيته من بعض الفضلاء من عتاب على نشره في الطبعة الثانية دون تصحيح لظنه رضاي عنها، مما جعلني أضاعف الجهد في تصحيح الكتابة للطبعة الثالثة التي هي في الحقيقة الطبعة الثانية بعد أن أخبرني الناشر بأنه لا يأمن أن تصدر عدة طبعات دون علمي بها ولا استشارتي فيها. وها أنا أقدم إليك هذه الطبعة على عجل، وهي مصححة وفيها اختلاف كثير عن الطبعات السابقة، مع طلبي من كل قارئ لها أن يتكرم بإبلاغي عن أي خطأ يجده لنتلافاه في المستقبل إن شاء الله تعالى؛ فإن الكمال لله تعالى والنقص من طبيعة البشر.

وفي الختام أتوجه بالشكر الجزيل إلى كل من أسهم في تقويم الكتاب ونبهني إلى الأخطاء ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم. أسأل الله عز وجل أن يتولى ثوابهم وأن يجزل لهم الأجر وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم إن شاء الله تعالى، وأن يعفو عن تقصيري وأن يجعلنا جميعاً من ورثة جنة النعيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. غالب بن علي عواجى في 20/10/1417 هـ. المدينة النبوية

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.... وبعد.... فأحمد الله تعالى على ما هيأ للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية من طلاب علم، جاؤوا من بلدان بعيدة وأماكن مختلفة للتزود بالعلم النافع في دينهم ودنياهم، ألّف الله بين قلوبهم في هذه الجامعة الإسلامية المباركة، وصاروا كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.... ولا شك أن هذا المجتمع الطيب مما تزداد القلوب به انشراحاً؛ فهي فرصة ثمينة للطلاب والمدرسين أتيحت لهم بفضل الله ثم بجهود القائمين على خدمة الإسلام والمسلمين بكل سخاء، وحين أسند إليَّ تدريس مادة الفرق منذ العام الدراسي 1405 هـ، كنت مستشعراً أهمية هذه المادة المفيدة لتفهيم أبناء المسلمين ما يبيته لهم أعداؤهم من الإصرار على تفتيت وحدتهم، والتشويش على أفكارهم - إن لم يتمكنوا من إخراجهم عن دينهم نهائياً - وهم يعلمون هذا تحت ستار إظهار الإسلام والانتساب إليه؛ مما جعل الكثير من أبناء المسلمين يقعون ضحية تلك المؤامرات الخفية منها والظاهرة، ومما يدعو إلى الأسف

زهد كثير من المسلمين عن البحث في حقيقة تلك الفرق فجعلوا الأخطار التي تبين لهم، فلم يعد البحث عن تلك الطوائف والتصدى لها مثال أخذ ورد بين الكثير من طلاب العلم - فضلاً عن العامة - وفي مقابل هذا أقول بكل تفاؤل: إنه مما يسرني جداً في أثناء تدريسي لهذه المادة شدة رغبة وإقبال الشباب على تفهم ودراسة أفكار تلك الطوائف ومعرفة جذورها التاريخية وعقائدها المختلفة وأفكارها المتباينة بحماس واضح ورغبة صادقة؛ بعد ما اتضح لهم مقدار الحاجة إلى مثل هذه الدراسة. ولقد كانت هذه الفرق التي يموج بها العالم الإسلامي ودراستها، ومعرفة مخاطرها الظاهرة والخفية على الإسلام والمسلمين محل اهتمامي؛ فكنت أقرأ كل ما تيسر لي الاطلاع عليه من كتب علماء السنة، وما كتبه غيرهم، ثم أثبت كل ما استحسنته وكان صواباً من تلك الكتب أثناء دراستي لها من فوائد علمية، وآراء مهمة، ومناقشات هادفة، فجمعت شتات كثير من الفوائد التي تهم الراغب في دراسة الفرق مع بيان الحق ورد كل ما يعارض الاعتقاد السليم، ولم أهتم بذكر الفرق الفرعية بكل طائفة إلا ما دعت إليه الحاجة وهو قليل وقد كتبت كل ذلك لنفسي، فلما اجتمع لي ما استحسنته من إثبات شتات كثير من المعلومات عن الفرق في مكان واحد رجوت الله تعالى أن ينفعني وإخواني طلاب العلم به، وأن يكون منجداً أولياً لدراسي الفرق. ولرغبة الأحبة من طلاب العلم قدمته لهم، سائلاً المولى جلت قدرته أن يجدوا فيه ما ينفعهم ويعينهم على فهم حقيقة تلك الفرق التي يدرسونها. مع اعتذاري عما يوجد فيه من سهو أو تقصير؛ فالخير أردت والكمال لله وحده. ولكل امرئ ما نوى....

تقسيم دراسة الموضوعات

وقد قسمت هذه الدراسة إلى: أبواب. وفصول لكل باب: الباب الأول مقدمة في دراسة الفرق، وتشمل الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق 2. الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق 3. الفصل الثالث: النهي عن التفرق وفيه مبحثان: المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم. المبحث الثاني: الأدلة من السنة النبوية. 4. الفصل الرابع: حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق، ويشتمل على مبحثين المبحث الأول: من الفرق؟ المبحث الثاني: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة)) . 5. الفصل الخامس: كيف ظهر الخلاف والتفرق بين المسلمين 6. الفصل السادس: مدى سعة الخلاف الذي كان يحصل بين الصحابة وموقفهم منه. وكيف تطور بعدهم إلى تمزيق وحدة الأمة الإسلامية 7. الفصل السابع: مظاهر الخلاف بين المسلمين 8. الفصل الثامن: كيف تبدأ الفرق في الظهور 9. الفصل التاسع: منهج العلماء في عدَّ الفرق 10. الفصل العاشر: ما المراد بأمة الإسلام؟ 11. الفصل الحادي عشر: أهم أسباب نشأة الفرق الباب الثاني: فرقة السلف أهل السنة والجماعة 1. الفصل الأول: تمهيد حول دراسة هذه الطائفة 2. الفصل الثاني: الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة 3. الفصل الثالث: عقيدة فرقة أهل السنة والجماعة 4. الفصل الرابع: أسماء هذه الطائفة وألقابهم 5. الفصل الخامس: ما هي عقيدة السلف وما هو منهجهم في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها؟ وما معنى كلمة عقيدة 6. الفصل السادس: أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع 7. الفصل السابع: لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك 8. الفصل الثامن: الثناء على السلف رحمهم الله تعالى 9. الفصل التاسع: جهودهم في خدمة الإسلام

10. الفصل العاشر: بيان وسطية أهل السنة في مسائل الاعتقاد وسلامتهم من ضلالتي الإفراط والتفريط صلى الله عليه وسلم 11. الفصل الحادي عشر: علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة مزايا العقيدة السلفية وأصحابها 12. الفصل الثاني عشر: ذكر أشهر أئمة أهل السنة ومؤلفاتهم في العقيدة 13. الفصل الثالث عشر: تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة الباب الثالث: دراسة عن الخوارج، وفيه الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: تمهيد وجود الخوارج في الماضي والحاضر 2. الفصل الثاني: التعريف بالخوارج لغة واصطلاحاً. 3. الفصل الثالث: أسماء الخوارج وسبب تلك التسميات 4. الفصل الرابع: متى خرج الخوارج 5. الفصل الخامس: محاورات الإمام علي للخوارج في النهروان 6. الفصل السادس: أسباب خروج الخوارج 7. الفصل السابع: حركات الخوارج الثورية وفرقهم وعددهم 8. الفصل الثامن: دراسة أهم فرق الخوارج، وهم الإباضية وتشمل دراسة هذه الطائفة ما يلي. 1- تمهيد. 2- زعيم الإباضية. 3- هل الإباضية خوارج؟ 4- فرق الإباضية. 5- دولة الإباضية. 6- موقف الإباضية من المخالفين لهم:

أ- موقفهم من سائر المخالفين. ب- موقفهم من الصحابة. 7- عقائد الإباضية. 9. الفصل التاسع: إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للخوارج، ويشمل الآتية: المسألة الأولى: هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط؟ المسألة الثانية: موقف الخوارج من صفات الله تعالى. المسألة الثالثة: حكم مرتكبي الذنوب عند الخوارج. المسألة الرابعة: الإمامة العظمى. المسألة الخامسة: موقفهم من عامة المسلمين المخالفين لهم. المسألة السادسة: حكم الخوارج في أطفال مخالفهم. 10. الفصل العاشر: الحكم على الخوارج الباب الرابع: وقد خصص لدراسة الشيعة، من خلال الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: التعريف بالشيعة لغة واصطلاحاً، وبيان التعريف الصحيح 2. الفصل الثاني: بيان متى ظهر التشيع. 3. الفصل الثالث: مراحل دعوى التشيع

4. الفصل الرابع: أسماء الشيعة 5. الفصل الخامس: فرق الشيعة وتشمل: 1- تمهيد. 2- السبب في تفرقهم. 3- عدد فرقهم. 4- السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرقهم. 6. الفصل السادس: دراسة أهم فرق الشيعة 1- السبئية. 2- الكيسانية. 3- المختارية. 4- الزيدية. 5- الرافضة: وتشمل دراستها ما يلي: أ- تعريفهم لغة واصطلاحاً. ب- سبب تسميتهم بالرافضة. ج- وجودهم قبل اتصالهم بزيد. د- أسماؤهم قبل اتصالهم بزيد. هـ فرقهم وهم: 1- المحمدية.

2- الاثنا عشرية: وتشمل دراستها: أ- أسماؤهم وسبب تلك التسميات. ب- سبب انتشار مذهبهم وأماكن انتشارهم. ج- فرقهم وأهمها: 1- الشيخية. 2- الرشتية. 7. الفصل السابع: إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للشيعة، ويشمل المسائل الآتية: 1- قصر استحقاق الخلافة في آل البيت على علي وذريته رضي الله عنهم، وإنها كانت بنص من النبي صلى الله عليه وسلم فيهم. 2- دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء. 3- تدينهم بالتقية. 4- دعواهم المهدية والرجعة. 5- موقفهم من القرآن الكريم. 6- موقفهم من الصحابة. 7- القول بالبداء على الله تعالى. وتحت كل عنصر من العناصر السابقة إيضاح تام له وبيان الحق في كل تلك المسائل، وبيان أدلة الشيعة ومناقشتها وإبراز العقيدة

السلفية في كل مسألة إن شاء الله تعالى. 8. الفصل الثامن: الشيعة في العصر الحاضر وهل تغير خلفهم عن سلفهم؟ 9. الفصل التاسع: الحكم على الشيعة الباب الخامس: وقد كان لدراسة الباطنية، وقد اشتمل على الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: تمهيد - في بيان خطر هذه الطائفة 2. الفصل الثاني: متى ظهر مذهب الباطنية 3. الفصل الثالث: الغرض من إقامة هذا المذهب وكيف تأسس 4. الفصل الرابع: أسماء الباطنية وسبب تسميتهم بتلك الأسماء 5. الفصل الخامس: الطرق والحيل التي يستعملها الباطنيون لإغواء الناس 6. الفصل السادس: عقائد الباطنية ويشمل: 1- عقائدهم في الألوهية 2- عقائدهم في النبوات. 3- عقائدهم في الآخرة. 4- عقائدهم في التكاليف الشرعية. الباب السادس: وهو دراسة عن النصيرية، وقد اشتمل على الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: تمهيد في بيان خطر النصيرية

2. الفصل الثاني: زعيم النصيرية وسبب انفصاله عن الشيعة وموقفهم منه 3. الفصل الثالث: أسماء هذه الطائفة والسبب في إطلاقها عليهم 4. الفصل الرابع: نشأة النصيرية. 5. الفصل الخامس: تكتم النصيرية على عقائدهم 6. الفصل السادس: طريقتهم في تعليم مذهبهم 7. الفصل السابع: أهم عقائد النصيرية 1- تأليه علي رضي الله عنه وبرأه الله منهم. 2- القول بالتناسخ. 3- تقديس الخمر - عبد النور. 8. الفصل الثامن: عبادات النصيرية 9. الفصل التاسع: أعياد النصيرية 10. الفصل العاشر: موقف النصيرية من الصحابة 11. الفصل الحادي عشر: فرق النصيرية 12. الفصل الثاني عشر: أماكن النصيرية 13. الفصل الثالث عشر: محاولات لم تثمر الباب السابع: وكان لدراسة الدروز، وفيه الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: في بيان خطر هذه الفرقة

2. الفصل الثاني: التعريف بالدروز لغة واصطلاحاً وبيان أصل الدروز. 3. الفصل الثالث: زعيم الدروز. 4. الفصل الرابع: أسماء الدروز 5. الفصل الخامس: كيف انتشرت العقيدة الدرزية 6. الفصل السادس: معاملة الدروز لمن يكشف شيئاً من عقائدهم 7. الفصل السابع: أماكن الدروز 8. الفصل الثامن: طريقة الدروز في تعليم ديانتهم 9. الفصل التاسع: من هو الحاكم بأمر الله الذي ألهه الدروز وبيان هلاكه. 10. الفصل العاشر: أهم عقائد الدروز 1- ألوهية الحاكم. 2- القول بالتناسخ. 3- إنكار القيامة. 4- عداوتهم للأنبياء. 5- إنكارهم التكاليف. 11. الفصل الحادي عشر: الدروز في العصر الحاضر

- كمال جنبلاط ودوره في تثبيت عقيدة الدروز 12. الفصل الثاني عشر: الفرق بين النصيرية والدروز الباب الثامن: دراسة عن البهائية، وفيه الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: نبذة عن أساس ظهور البهائية وبيان صلتها بالبابية. ثم بيان الطالب الآتية: 1- زعيم البابية 2- صلة البابية بالمستعمرين في ذلك الوقت. 3- نهاية الشيرازي. 4- مؤتمر بدشت وما تم فيه من خطط. 5- الكتاب المقدس للبابية. 6- هزيمة البابية. 2. الفصل الثاني: خطر البهائية 3. الفصل الثالث: زعيم البهائية. اسمه ومولده - دوره في مؤتمر بدشت - ثقافته - عمالته هو وأسرته لأعداء الإسلام من الإنجليز والروس واليهود - وفاته. 4. الفصل الرابع: المبادئ التي نادى بها البهائيون: ويشمل. 1- زعمهم وحدة جميع الأديان.

2- وحدة الأوطان. 3- وحدة اللغة. 4- السلام العالمي. 5- المساواة بين الرجل والمرأة. 6- عقائد أخرى للبهائيين. 5. الفصل الخامس: أمثلة من تأويلات البهائية للقرآن الكريم 6. الفصل السادس: موقف البهائية من السنة النبوية. 7. الفصل السابع: السبب في انتشار تعاليم البهائية. 8. الفصل الثامن: كتاب البهائية الذي يقدسونه. د 9. الفصل التاسع: أماكن البهائية الباب التاسع: وفيه دراسة عن القاديانية، وقد انتظم تمهيدا وفصول. تمهيد: التحذير من ظهور دجالين يدعون النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم: 1. الفصل الأول: كيف نشأت القاديانية 2. الفصل الثاني: زعيم القاديانية 3. الفصل الثالث: ختم النبوة وموقف القادياني منه 4. الفصل الرابع: كيف وصل القادياني إلى دعوى النبوة

1- اتجاهه إلى التأليف والناظرات. 2- إلهاماته. 3- دعواه أنه المسيح الموعود وأمثلة من تأويلاته الباطلة للنصوص بمساعدة صديقه الحكيم البهيروي. 4- ادعاؤه النبوة. 5. الفصل الخامس: نبوءات الغلام المتنبئ. 6. الفصل السادس: غلوه وتفضيله نفسه على الأنبياء وغيرهم 7. الفصل السابع: أهم عقائد القاديانية. 1- التناسخ. 2- التشبيه. 8. الفصل الثامن: علاقة القاديانية بالإسلام وبالمسلمين وبغير المسلمين، وموقف علماء الهند وباكستان من القاديانيين. 9. الفصل التاسع: أسباب انتشار القاديانية. 10. الفصل العاشر: وفاة القادياني. 11. الفصل الحادي عشر: بعض زعماء القاديانية 1- الحكيم نور الدين البهيروي. 2- محمود أحمد. 3- الخواجة كمال الدين

4- شخصيات أخرى. 12. الفصل الثاني عشر: الفرع اللاهوري. 1- زعيمه. 2- مبادئه. الباب العاشر: دراسة الصوفية، وفيه الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: تمهيد في بيان انحراف الصوفية بصفة عامة. 2. الفصل الثاني: التعريف بالصوفية لغة واصطلاحاً. 3. الفصل الثالث: هل توجد علاقة بين المتصوفة وأهل الصفة. 4. الفصل الرابع: أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها 5. الفصل الخامس: متى ظهر المذهب الصوفي 6. الفصل السادس: حقيقة التصوف 7. الفصل السابع: أقسام المتصوفة وذكر طرقهم واختيار الطريقة التجانية نموذجاً ودراستها بإيجاز. 8. الفصل الثامن: الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية. 9. الفصل التاسع: مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة "الورن" في نيجيريا 10. الفصل العاشر: كيفية الدخول في المذهب الصوفي. 11. الفصل الحادي عشر: أصول الصوفية.

12. الفصل الثاني عشر: إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية ويشمل: 1- عقيدة المتصوفة في الإله عز وجل. 2- عقيدة المتصوفة في الحلول. 3- وحدة الوجود. 4- وحدة الشهود، وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود. 5- الولاية وبيان المصطلحات الصوفية. 13. الفصل الثالث عشر: الكشف الصوفي. 14. الفصل الرابع عشر: الشطحات الصوفية. 15. الفصل الخامس عشر: التكاليف في نظر الصوفية. 16. الفصل السادس عشر: الأذكار الصوفية. 17. الفصل السابع عشر: الوجد والرقص عند الصوفية. 18. الفصل الثامن عشر: الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية. 19. الفصل التاسع عشر: تراجم زعماء الصوفية. الباب الحادي عشر: دراسة المرجئة، وفيه الفصول الآتية. أولاً: تمهيد: 1. الفصل الأول: التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحاً وبيان أقوال العلماء في ذلك

2. الفصل الثاني: الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة. 3. الفصل الثالث: كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب. 4. الفصل الرابع: بيان أول من قال بالإرجاء. 5. الفصل الخامس: أصول المرجئة. 6. الفصل السادس: أقسام المرجئة. 7. الفصل السابع: أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها. 8. الفصل الثامن: مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان. 9. الفصل التاسع: منزلة مذهب المرجئة عند السلف الباب الثاني عشر: الجهمية تمهيد: هل توجد آراء الجهمية في وقتنا الحاضر؟ 1. الفصل الأول: التعريف بالجهمية وبمؤسسها 2. الفصل الثاني: نشأة الجهمية 3. الفصل الثالث: بيان مصدر مقالة الجهمية. 4. الفصل الرابع: ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالاً. ثم دراسة الآتية: 1- إنكار الجهمية جميع الأسماء والصفات، شبهاتهم والرد عليهم. 2- قولهم بالإرجاء والجبر. 3- إنكارهم الصراط.

4- إنكارهم لميزان. 5- قولهم بفناء الجنة والنار. 5. الفصل الخامس: الحكم على الجهمية الباب الثالث عشر: المعتزلة، وتشمل دراستهم الفصول الآتية: 1. الفصل الأول: نشأتهم. 2. الفصل الثاني: أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات. 3. الفصل الثالث: مشاهير المعتزلة. 4. الفصل الرابع: ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا. 5. الفصل الخامس: الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها، والرد عليها. ويشمل: 1- التوحيد. 2- العدل. 3- الوعد والوعيد. 4- القول بالمنزلة بين المنزلتين. 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الباب الرابع عشر: " الأشاعرة أو السبعية " وتشمل دراستهم المطالبة الآتية: 1- ظهور الأشاعرة:

2 - أبو الحسن الأشعري: 3 - عقيدته. 4- عقيدته كما بينها في كتابه الإبانة. 5 - أشهر زعماء الأشعرية. 6 - موقف الأشاعرة من صفات الله تعالى. الباب الخامس عشر: الماتريدية: 1 - التعريف بمؤسس الماتريدية: 2 - أهم آراء الماتريدي إجمالا: الباب السادس عشر: دراسة أهم المسائل التي اتفق عليها أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية، وتشمل: 1 - تقديم العقل على النقل. 2 - جهل أولئك بمعنى توحيد الألوهية. 3- معنى التأويل عندهم الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى المرجوح. 4 - تعطيل النصوص عن مدلولاتها. بيان شبههم والرد عليها في كل تلك المسائل.

5- جدول مختصر لبيان ثبوت صفات الله تعالى وتأويل الخلف لها. هذا وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجد فيه قارئه ما يؤمله من الاستفادة وأن ينفع به. وأرجوا من كل محب اطلع عليه أن يرشدني إلى ما يجد فيه من أخطاء؛ فإن المؤمن للمؤمن كالمرآة، وهو من التعاون الذي حث الله عز وجل عليه في كتابه الكريم. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. 20/ 3/ 1414 هـ المدينة النبوية

الباب الأول: مقدمة في الفرق

الباب الأول: مقدمة في الفرق

الفصل الأول الهدف من دراسة الفرق

الفصل الأول الهدف من دراسة الفرق دراستنا للفرق ليس إقراراً أو فرحاً بها، أو شماتة على الآخرين، وإنما ندرسها مع أسفنا الشديد للتفرق الحاصل بين المسلمين، والذي نرجو من وراء هذه الدراسة أن تحقق أهدافاً طيبة في خدمة الإسلام، وفي كسر حدة الخلافات التي مزقت المسلمين وفرقتهم إلى فرق وأحزاب. والتي تهدف كذلك إلى جمع كلمتهم، ولفت أنظارهم إلى مواقع الخلاف فيما بينهم؛ ليبتعدوا عما وقع فيه من سبق من هذه الأمة، فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، فهي نوع من أنواع العلاج لتلك المآسي الحالَّة بالمسلمين، وسبب من الأسباب التي تبذل لينفع الله بها إن شاء؛ لأن معرفة الدواء النافع يتوقف على معرفة الداء. ولا يحتاج المسلمون لجمع كلمتهم، وإعادة مجدهم وعزهم وانتصارهم على جحافل الكفر والطغيان إلا إلى العودة الصادقة والنية الخالصة، فإن الأسس التي قام عليها عز الإسلام والمسلمين فيما سبق لا تزال كما هي قائمة قوية جديدة على مر الأيام والليالي -كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وتلك الأهداف التي نتطلع إلى تحقيقها كثيرة نذكر أهمها فيما يأتي: 1- تذكير المسلمين بما كان عليه أسلافهم من العزة والكرامة والمنعة حينما

كانوا يداً واحدة، وقلباً واحداً. 2- لفت أنظارهم إلى الحال الذي يعيشونه، ومدى ما لحقهم من الخسارة بسبب تفرقهم. 3- توجيه الأمة الإسلامية إلى الوحدة فيما بينهم، وذلك بالتركيز على ذم التفرق وبيان مساوئه، وبيان محاسن اتحاد المسلمين، وجمعهم على طريق واحد. 4- تبصير المسلمين بأسباب الخلافات التي مزقتهم فيما سبق من الزمان ليجتنبوها بعد أن يتدارسوها فيما بينهم بعزم قوي وصدق نية. 5- معرفة ما يطرأ على العقيدة الإسلامية الصحيحة من أفكار وآراء هدامة مخالفة لحقيقة الإسلام بعيدة عن طريقه الواضحة. 6- رصْد تلك الحركات والأفكار التي يقوم بها أولئك الخارجون عن الخط السوي والصراط المستقيم؛ لتعرية دورهم الخطر في تفريق وحدة الأمة الإسلامية بتعريف الناس بأمرهم، وجلاء حقيقتهم للتحذير منهم، وبيان ما يقومون به من خدمة تلك الأفكار وترويجها. ذلك أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم في وضوح تام؛ فلكل قوم وارث (¬1) . 7- حتى تبقى الفرقة الناجية علماً يهتدي به بعيدة عن تلك الشوائب ¬

(¬1) قال ولي الله الهلوى ((إذا قرأت القرآن فلا تحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأ نموذج بحكم الحديث ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) الحديث أخرجه الترمذي (ج ص 475) . انظر ((مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم ص نقلا عن الفوز الكبير ص 26)) .

الطارئة على العقيدة. 8- وصل حاضر هذه الأمة بماضيها، وبيان منشأ جذور الخلافات بينهم والتي أدت إلى تفرقهم فيما مضى من الزمان للتحذير منها، وللرد على أولئك الذين يحاولون دعوة المسلمين إلى قطع صلتهم بماضيهم، والبناء من جديد كما يزعمون. 9- ثم إن دراستنا للفرق وإن كان يبدو عليها أنها بمثابة جمع لتراث الماضين- فإنه يراد من وراء ذلك دعوة علماء المسلمين إلى القيام بدارسته وفحصه واستخراج الحق من ذلك، واستبعاد كل ما من شأنه أن يخرج بالمسلمين عن عقيدتهم الصحيحة أو يفرق كلمتهم. وهذا فيما أرى هو أنجح الطرق وأقربها إلى إشعار المخالفين بالإنصاف وطلب الحق للاستدلال على خلافهم وخروجهم عن الصواب من كتبهم ومن كلام علمائهم لقطع كل حجة مخالفة بعد ذلك.

الفصل الثاني أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها

الفصل الثاني أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها بيّنّا فيما مضى بعض الأهداف التي ندرس الفرق من أجلها، ونجيب هنا عن شبهة لكثير من الناس ربما يرددها بعضهم منخدعاً بحسن نية، والبعض الآخر يرددها بنية سيئة. وهي: لماذا نشغل أنفسنا بدراسة فرق انتهت، وربما لم يعد لها ذكر على الألسنة..وقد رد العلماء عليها قديماً وحديثاً وانتهى الأمر؟ والجواب: إن هذا التساؤل قد انطوى على مغالطات خفية ونية سيئة، أو جهل شنيع، وذلك: أولاً: إن هذه الفرق وإن كانت قديمة فليست العبرة بأشخاص مؤسسي تلك الفرق ولا بزمنهم، ولكن العبرة بوجود أفكار تلك الفرق في وقتنا الحاضر. فإننا إذا نظرنا إلى فرقة من تلك الفرق الماضية نجد أن لها امتداداً يسري في الأمة سريان الوباء. وأقرب مثال على ذلك فرقة المعتزلة، أليس أفكارهم لا زالت حية قوية يتشدق بها بعض المغرضين من الذين استهوتهم الحضارة الغريبة أو الشرقية،

فراحوا يمجدون العقل ويحكمونه في كل الأمور، ويصفون من يعتمد على ما وراء ذلك بالتأخر والانزواء. إنهم يريدون الخروج عن النهج الإسلامي ولكنهم لم يجرءوا صراحة على ذلك، فوجدوا أن التستر وراء تلك الآراء التي قال بها من ينتسب إلى الإسلام خير وسيلة لتحقيق ذلك، فذهبوا إلى تمجيد تلك الأفكار لتحقيق أهدافهم البعيدة. ثانياً: مما هو معلوم أن كل الأفكار والآراء التي سبقت لها أتباع ينادون بتطبيقها، فالنزعة الخارجية وتنطع أهلها في الدين، واستحلال دماء المسلمين لأقل شبهة، وتكفيرهم الشخص بأدنى ذنب- قائمة الآن في كثير من المجتمعات الإسلامية على أشدها، موهمين الشباب ومن قلت معرفته بالدين أن الدين هو هذا المسلك فقط. كذلك نرى الصوفية وقد اقتطعت من المسلمين أعداداً كثيرة، مثقفين وغير مثقفين، جَرَفَهُم التيار الخرافي فراحوا ينادون بالجهل والخرافات، واتباع المنامات، وتحضير الأرواح، ومعرفة المغيبات، وتعظيم الأشخاص والغلو فيهم. وغير ذلك من مسالك الصوفية التي سندرسها بالتفصيل إن شاء الله تعالى. وعلى هذا، فدراستنا هذه وإن كنت في ظاهرها دراسة للماضي، ومراجعة للتاريخ لفرق المبتدعة الذين جَنَوا على ماضي المسلمين إلا أنها دراسة حاضرة كذلك من حيث إنها تكشف جذور البلاء الذي شتت قوى

المسلمين وفرقهم شيعاً، وجعل بأسهم بينهم شديداً، بل هي نور يضيء لشبابنا طريقه وسط هذا الظلام الفكري المفتعل، الذي لا يخدم إلا أعداء الإسلام وشانئيه بتوجيه الأنظار إلى تلك الفرق التي تعمل في الظلام لنشر أفكارها، وفرض مخططاتها المعادية للإسلام. ثالثاً: إن دراسة الفرق والدعوة إلى الاجتماع واتحاد كلمة المسلمين -فيه تكثير لعدد الفرقة الناجية بانضمام أولئك الخارجين عن الحق ووقوفهم إلى جانب إخوانهم أهل الفرقة الناجية؛ فيكثر عددهم فيصح فيهم ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام فرقة من المسلمين: ((ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك)) (¬1) وتَرْكُنا لدراسة الفرق يفوِّت علينا هذا الخير العظيم. رابعاً: أضف إلى ذلك أن ترك الناس دون دعوة إلى التمسك بالدين الصحيح، ودون بيان أضرار الفرق المخالفة، فيه إبطال لما فرضه الشرع من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الفرق التي ظهرت، ما من فرقة منها إلا وقد قامت مبادئها على كثير من المنكرات، وهي تدعي أنها هي المحقة وما عداها على الضلال، فألبسوا الحق بالباطل، وأظهروا مروقهم وخروجهم وفجورهم عن منهج الكتاب والسنة في أثواب براقة لترويج بدعهم، والدعوة لها. خامساً: إن عدم دراسة الفرق والرد عليها وإبطال الأفكار المخالفة للحق، ففيه إفساح المجال للفرق المبتدعة أن تفعل ما تريد، وأن تدعو إلى كل ما تريد ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (ج 4ص 485 و 504) .

من بدع وخرافات دون أن تجد من يتصدى لها بالدراسة والنقد كما هو الواقع؛ فإن كثيراً من طلاب العلم- فضلاً عن عوام المسلمين- يجهلون أفكار فرق يموج بها العالم، وهي تعمل ليلاً ونهاراً لنشر باطلهم، ولعل هذه الغفلة من المسلمين عن التوجه لكشف هذه الفرق المارقة لعله من تخطيط أولئك المارقين الذين نجحوا في حجب الأنظار عنهم وعن مخططاتهم الإجرامية. ولا أدل على ذلك من أنك تجد بعض الأفكار وبعض العبارات يرددها كثير من المسلمين دون أن يعرفوا أن مصدرها إما من المعتزلة (¬1) ، أو من الصوفية (¬2) ، أو البهائية (¬3) ، أو القاديانية (¬4) ، أو الخوارج (¬5) ، أو الشيعة (¬6) ، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن ذلك إنما يعود إلى الجهل بأفكار هذه الطوائف (¬7) . ****************************** ¬

(¬1) أي تقديس المعتزلة للعقل، وجعله هو الحكم الفاصل في كل قضية، وتقديمه علي النصوص. (¬2) مثل إطلاق لفظ العشق علي الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم، كقولهم ((عاشق النبي..... يصلي عليه)) . (¬3) مثل تقديس العدد 19. (¬4) مثل تأويل آيات القرآن بالهوى. (¬5) مثل تكفير المجتمعات الإسلامية. (¬6) مثل بغضهم الصحابة، ومثل انتظار محمد بن الحسن العسكري، ومثل المبالغة في حب الحسين، الخ ... (¬7) انظر كتاب ((مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم)) تأليف محمد العبدة، وطارق عبد الحكيم (ص 27- 28 وكذا ص 36 - 38) .

الفصل الثالث النهي عن التفرق

الفصل الثالث النهي عن التفرق لقد كان هذا الأمر مما عني به القرآن الكريم أيما عناية وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اهتدى بهديه من أصحابه البررة والتابعين لهم بإحسان، ويشتمل هذا الفصل على مبحثين وهما: المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم: ومما جاء في القرآن الكريم، وهي آيات كثيرة نثبت منها قوله تعالى: 1- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) . 2- {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (¬2) . 3- {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬3) . والآيات واضحة في معناها ودلالتها ولا تحتاج إلا إلى التطبيق بجد وإخلاص، فهي تحذر من التفرق وتدعو إلى الوحدة وجمع كلمة المسلمين، والسير في طريق واحد. فإذا تفرق المسلمون بعد ذلك فهم خارجون عن ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية153. (¬2) سورة آل عمران: الآية103 (¬3) سورة الأنعام: الآية159

المبحث الثاني: الأدلة من السنة النبوية

السير فيه، وحينما تفرق المسلمون أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، زعمت كل فرقة أنها هي الناجية، وما عداها هالك، حتى التبس الأمر على كثير من المسلمين فلم يهتد إلى الفرقة الناجية بسبب تلك المزاعم، ولا ينبغي أن نأبه لتلك المزاعم، بل نعرض كل ما نسمع على كتاب الله وسنة نبيه، فما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما عرفنا أنه باطل وهذا هو الميزان الذي ينبغي أن نزن به كل قول ومعتقد مهما كان مصدره كما هو حال أهل السنة في عرضهم للأقوال والمعتقدات على كتاب الله وسنة رسوله، وهو توفيق من الله لهم، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق إلى أن تقوم القيامة. المبحث الثاني: الأدلة من السنة النبوية: ومن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى اجتماع كلمة المسلمين وتحذيرهم عن التفرق أحاديث كثيرة منها على سبيل المثال: 1- ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: ((هذه سبيل الله)) ثم خط خطوطاً عن يمينه، وخطوطاً عن يساره ثم قال: ((هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه)) ثم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) . 2- وفي حديث العرباض بن سارية قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه الدارمي في مسنده ولا شك أن الحديث ينطبق تماماً على الفرق الخارجة عن الحق، فإن علي رأس كل طائفة شياطين يدعون الناس إلي مسالكهم، والسير في سبيلهم. (¬2) أخرجه الترمذي جـ 4صـ 209 وأبو داود جـ 2 صـ 506 واللفظ له.

3- وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة عند ظهور الخلاف والتفرق في الدين بقوله: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) قال حذيفة: قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬1) . 4- وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ... وهي الجماعة)) (¬2) . وفي رواية عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)) (¬3) . ولا بد لنا من وقفة عند هذا الحديث الذي أضاف إلى التحذير من الافتراق الإخبار بهلاك تلك الفرق الضالة إلا واحدة منها، ثم حصر الفرق في العدد المذكور، ورغم كثرة الروايات المختلفة لحديث المذكور إلا أنه لم يخل عن الاختلاف في صحته، وسنقف هنا عند دراسته على الأمور التالية: سند الحديث: رُوي هذا الحديث بعدة أسانيد، إلا أن العلماء وقفوا بالنسبة لقبوله المواقف التالية: ¬

(¬1) متفق عليه البخاري جـ 13 صـ 35 ومسلم جـ 4 صـ 514. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة 2/503، والترمذي 5/25، 26، وابن ماجه 2/ 1322، وأحمد 2/ 322، 3/ 120، 145. (¬3) أخرج نحوه أبو داود عن أبي هريرة (ج 2 ص 503) .

1- منهم من لم يصححه، ولم يجوز الاستدلال به. وهم بعض العلماء كابن حزم وغيره. 2- ومنهم من اكتفى بتعدد طرقه. وتعدد الصحابة الذين رووا هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3- ومنهم من أخذ به وحاول أن يحصر الفرق في العدد المذكور كالبغدادي رحمه الله وغيره (¬1) . وحينما تعرض شيخ الإسلام -رحمه الله- للكلام عن الفرق، قال عن الحديث: ((مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن وروي من طرق)) (¬2) . وفي مجموع الفتاوى ورد قوله: ((الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي)) (¬3) . * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر ((الفرق بين الفرق)) تعليق محمد محي الدين ص 6. (¬2) منهاج السنة ج 5 ص 48- 49. (¬3) مجموع الفتاوى ج 3 ص 345.

الفصل الرابع حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق

الفصل الرابع حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق ويشمل مبحثين: والواقع أن حصر الفرق في العدد المذكور تفصيلاً ليشمل كل فرقة -فيه إشكال، وذلك أن أصول الفرق لا تصل إلى هذا العدد، وفروعها تختلف وجهات نظر العلماء في عدّها أصلية أو فرعية، ثم إن فروع الفرق تصل إلى أكثر من هذا العدد، فهل نعد الأصول مع الفروع؟ أو الأصول فقط؟ أو الفروع فقط؟. كذلك فإن الفرق ليس لظهورها زمن محدد، أي لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد لنهاية تفرق أمته. وعلى هذا فإن الصواب أن يقال: إن الحديث فيه إخبار عن افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون تحديدهم بزمن بعينه، بحيث لا يصدق إلا على أهله فقط، وإنما أخبر عن افتراق أمته، وأمته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ... إذاَ فلا نحددها بزمن. وينبغي أيضاً أن نعد الفرق في أي عصر ظهرت فيه، بغض النظر عن وصولها إلى العدد المذكور في الحديث أو عدم وصولها، فلا بد أن يوجد هذا العدد على الوجه الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر به، في عصرنا أو في غير عصرنا (¬1) . ¬

(¬1) انظر الاعتصام ج 2 ص 222. وانظر تعليق محمد محي الدين عبد الحميد في أول كتاب ((الفرق بين الفرق)) ، ص 7.

المبحث الأول: من الفرق الناجية؟

المبحث الأول: من الفرق الناجية؟ أما من هي الفرق الناجية، فقد اختلف العلماء في المراد بهم على أقوال، هي إجمالاً: 1- قيل: إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام. 2- وقيل: هم العلماء المجتهدون الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)) (¬1) ، أي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة، وخصهم شيخ الإسلام بعلماء الحديث والسنة. 3- إنهم خصوص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية: ((ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (¬2) . 4- إنهم جماعة غير معروف عددهم ولا تحديد بلدانهم، أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخبار الله له أنهم على الحق حتى يأتي أمر الله. ولعل هذا هو الراجح من تلك الأقوال ونحن نطمع إن شاء الله أن نكون منهم مادمنا على التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى منهج سلفنا الكرام. 5- وفيه قول خامس، أن الجماعة هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه 2/1303، وابن أبي عاصم في السنة 1/41، وأبو داود 4/ 452، والترمذي 4/ 466 وقال: غريب من هذا الوجه، الحاكم في المستدرك 1/ 155 (¬2) أخرجه الترمذي.5 / 26. (¬3) الاعتصام - بتصرف - ج 2 ص 260 - 264، وقد فصل القول فيها. وانظر مجموع الفتاوى ج 3 ص 345.

المبحث الثاني معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة))

المبحث الثاني معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة)) وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار)) فقد ذكر الشاطبي ما حاصله: 1- أن هذه الفرق لا بد أن ينفذ فيها الوعيد لا محالة. 2- أنهم مثل أهل الكبائر تحت المشيئة (¬1) . 3- أن الأولى عدم التعرض لتعيين الفرق غير الناجية بالحكم عليها بالنار، لأن النبي عليه السلام نبه عليها تنبيهاً إجمالياً لا تفصيلياً إلا القليل منهم كالخوارج (¬2) . والذي يظهر لي أن الفرق تختلف في بعدها أو قربها من الحق، فبعضها يصح أن يطلق على أصحابها أنهم أهل بدعة أو معصية وحكمهم حكم أصحاب الكبائر، وبعضها لا يصح وصف أصحابها إلا بالكفر لخروجهم عن الإسلام مثل فرق الباطنية والسبئية والميمونية من الخوارج..الخ، ويكون حكمهم حكم الكفار الخارجين عن الملة، ولو تظاهروا بالإسلام. * * * * * * * * * ¬

(¬1) الاعتصام جـ2 ص 247- 248. (¬2) ذكره الشاطبي في الموافقات. انظر أهم الفرق في هذا الكتاب.

الفصل الخامس كيف ظهر الخلاف والتفرق بين المسلمين

الفصل الخامس كيف ظهر الخلاف والتفرق بين المسلمين كان الخلاف في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي فور وصوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حين يحكم فيه، وبعد وفاته وحتى آخر عصر الخلفاء الراشدين كان المسلمون على منهج واحد في أصول الدين وفي فروعه، إلا أنه قد وجدت بعض الأمور التي كانت محل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولكنهم قضوا عليها بثباتهم ونياتهم الصادقة -بعد توفيق الله لهم- نذكر منها على سبيل الإيجاز ما يلي: 1. ما أصاب بعض الصحابة من الدهشة من موت الرسول صلى الله عليه وسلم هل مات الرسول كما مات غيره من الأنبياء؟ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (¬1) ، أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت وإنما هو في غيبوبة وسيفيق منها، حتى قال عمر رضي الله عنه: من قال إن رسول الله مات-ضربته بالسيف؟ وحينما جاء أبو بكر رضي الله عنه قضى على هذا الخلاف، وأقر الجميع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم. هكذا يذكر أصحاب المقالات، ومن وجهة نظري لا أرى أن هذا يشكل خلافاً حقيقياً وإنما هي حالة طارئة مرّت بالمسلمين دون أن تشكل ظاهرة خلافية. ¬

(¬1) الزمر:30

2. اختلفوا كذلك في موضع دفنه: 1- فأراد أهل مكة رده إلى مكة. 2- وأراد أهل المدينة دفنه بها. 3- وقال آخرون بنقله إلى بيت المقدس. ولكل فريق من هؤلاء حججه على ما يراه لكن الخليفة الراشد الصديق رضي الله عنه قضى على هذا الخلاف حينما روي لهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) (¬1) ... والخلاف في هذه المسألة يعتبر خلافاً خطيراً؛ إذ لو وقف كل فريق عند رأيه وعاند لأدى ذلك إلى فتنة عظيمة. 3. اختلفوا في تسيير جيش أسامة، هل يبقى بالمدينة كما يرى عمر وغيره، لضرورة الحاجة إليه؟ أم يذهب لما وجهه الرسول عليه السلام كما يرى أبو بكر؟ وقد شرح الله صدورهم لتوجيهه، وكان في ذلك خير عظيم. 4. ثم اختلفوا في قتال مانعي الزكاة، هل يقاتلون كما يقاتل الكفار لأنهم فرقوا بين ركنين من أركان الإسلام؟ أم لا يقاتلون ما داموا يشهدون الشهادتين، ويؤدون الصلاة؟. ثم انتهى الخلاف بقبول رأي أبي بكر في قتال هؤلاء. وحتى الذين خالفوا في قتال مانعي الزكاة ما كانوا يريدون تركهم مطلقاً، وإنما كانوا يرون تأخير حسابهم معهم إلى حين القضاء على من هو أخطر منهم وأشد شوكة. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي 3/ 338، وصححه الألباني صحيح الجامع 5649.

5. وكالاختلاف في الإمامة لمن تكون لقريش أم للأنصار؟ واجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، ورجوعهم أخيراً إلى مبايعة أبي بكر الصديق حينما تبين لهم الحق في قوله. ثم تفاقم التصدع والانشقاق الخطير شيئاً فشيئاً إلى أن انتهى بمقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، حينما سعى في ذلك عدو الله ابن سبأ، ثم أصبح المسلمون فرقاً وأحزاباً وفشت بينهم العداوة والبغضاء إلا من رحم الله (¬1) ؛ مصدقاً لقول عثمان رضي الله عنه: ((فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي ولا تصلون بعدي جميعاً ولا تقتلون بعدي جميعاً عدواً أبداً)) (¬2) . * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) ذكر البغدادي جملة من تلك الاختلافات ابتداء من ص 14 في كتابه ((الفرق بين الفرق)) . (¬2) انظر البداية والنهاية ج 7 / 184.

الفصل السادس مدى سعة الخلاف الذي كان يحصل بين الصحابة وموقفهم منه، وكيف تطور بعدهم إلى تمزيق وحدة الأمة الإسلامية

الفصل السادس مدى سعة الخلاف الذي كان يحصل بين الصحابة وموقفهم منه، وكيف تطور بعدهم إلى تمزيق وحدة الأمة الإسلامية رأينا فيما سبق أن الصحابة اختلفوا في مسائل لو أنها عند غيرهم لأريقت في بعضها الدماء، ولكن الصحابة ما كانوا يريدون الخلاف لذاته أو لأهوائهم كما حصل فيما بعد عند غيرهم. إلاّ أن جل خلافهم إنما كان حول فهم نص من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهي أمور أكثرها اجتهادية شبيهة بما كان يحصى أحياناً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حصل في أمر صلاة العصر حينما توجهوا إلى بني قريضة، وكان أحدهم إذا تبين له صحة وجهة نظر أخيه ترك خلافه، ورجع إلى الحق، بل وربما يرجع عن خلافه في مثل المسائل الاجتهادية؛ حرصاً على جمع الكلمة، وسداً لمنافذ الخلافات أو فتح الثغرات التي يأوي إليها المتربصون بهم ... ومما ورد في كره الصحابة للخلاف، ورجوع بعضهم عنه في مسائل الاجتهاد خوفاً من تفرق الكلمة ما جاء في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال: ((اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي)) (¬1) . ¬

(¬1) صحيح البخاري جـ 7 صـ 71.

قال ابن حجر في معناه نقلاً عن أيوب: ((إن ذلك بسبب قول علي في بيع أم الولد، وأنه كان يرى هو وعمر أنهن لا يبعن وأنه رجع عن ذلك فرأى بيعهن)) قال عبيدة (¬1) : فقلت له رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلى من رأيك وحدك في الفرقة، فقال علي ما قال، قلت وقد وقعت في رواية حماد بن زيد أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عنه، وعنده قال لي عبيدة: بعث إلى علي وإلى شريح فقال: ((إني أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم تقضون)) ثم قال ابن حجر في شرح قول علي رضي الله عنه: ((فإني أكره الاختلاف)) أي الذي يؤدي إلى النزاع. قال ابن التين: ((يعني مخالفة أبي بكر وعمر، وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدي إلى النزاع والفتنة (¬2) ، وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه ما يفيد رجوعه عن خلافه خوفاً من قيام فتنة)) (¬3) . وظل الخلاف في حياتهم لا يراد به إلا الوصول إلى الحق والتمسك به. ثم جاء من بعدهم أشكال من الناس بعضهم كان منافقاً فأظهر الإسلام والموافقة، ثم عمل في الداخل على تضخيم الخلاف، وفتح ثغرة في مفاهيم المسلمين، وجادل بالتأويل والشبهات، وبعضهم استغل اختلاف الصحابة في بعض المسائل، واتخذ منه سبيلاً لتمزيق وحدة الأمة الإسلامية بتقليب الأدلة ومعارضة بعضها ببعض، وإذكاء التعصب، وزيادة حدة الخلاف ليحقق هدفه في الحقد على المسلمين (¬4) . ¬

(¬1) راوي الحديث عن علي. (¬2) فتح الباري جـ 7 صـ 73. (¬3) انظر البداية والنهاية جـ 7 صـ 218. (¬4) انظر مقالات الإسلاميين جـ 1 ص 34 (تعليق محمد محي الدين) .

ثم تطور الخلاف بين المسلمين من سيء إلى أسوأ، إلى أن وصل الحال إلى الواقع المؤسف الذي نعيشه اليوم من التباكي على الوحدة الإسلامية التي صارت صعبة المنال، بما اقترفوه من أفكار نفرت بعضهم عن بعض، وأذكى علماؤهم الأحقاد، وضخموا حجم الخلافات حتى صاروا فرقاً متناحرة، وتكثروا من ألقاب المدح بما لم يفعلوا، وصدق عليهم قول الشاعر الأندلسي: ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد وتوالت على المسلمين الضربات والإهانات، وتأمر عليهم أهل الشرق والغرب، ونسوا أن الله طلب منهم أن يكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، فذل المسلمون ذلاً شنيعاً وخصوصاً في عصرنا الحاضر، ولكنهم لم يستيقظوا من الضربات، ولا تدري هل ذلك من هول ما أصابهم، أم يطلبون المزيد من الإهانات. والعرب بخصوصهم الذين كانوا قبل الإسلام أذل الناس، يريد الكثير منهم الآن العودة إلى تلك الجاهلية التي أخرجهم الله منها، وأبدلهم بالهدى والنور بعد أن كانوا على شفا حفرة من النار، وسيعلمون لو تم لهم ما يريدون- لا سمح الله- كم جَنَوْا على أنفسهم وعلى أمتهم، وهؤلاء أحد عوامل الهدم وإضعاف المسلمين. فقد توالت على المسلمين عوامل كثيرة أضعفتهم، عوامل خارجية أتقن تخطيطها أعداؤهم، فضربوهم في عقر دارهم، وحاربوا الدعوات الإسلامية بشتى الأساليب، وتأثر كثير ممن ينتسب إلى الإسلام بالدعايات المضللة، وبقي قلة من المخلصين قد خذلهم القريب والبعيد وهم نواة الخير في الأرض، ولن يخذلهم الله تعالى. وعوامل داخلية من العصبية البغيضة، وإثارة النعرات الجاهلية، واتباع

الهوى، واتخاذ رؤساء جهالاً معجبين بآرائهم، وصاروا كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((غثاء كغثاء السيل)) (¬1) ، ولهذا فإن هذه الكثرة تُرى في المسلمين لا تُفْرِحْ كثيراً، فقد رأينا كيف وقفوا عاجزين أما أعدائهم في كل مكان، اللهم إلا فئات قليلة صدقوا ما عاهدوا الله عليه. * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند جـ 5 صـ 278.

الفصل السابع مظاهر الخلاف بين المسلمين

الفصل السابع مظاهر الخلاف بين المسلمين مر المسلمون بخلافات عديدة، والمتتبع لكل تلك الخلافات يجد أنها: 1- إما أن تكون خلافات عملية جردت فيها السيوف والمدافع والبنادق، ولا شك أنها نتيجة لخلافات عقدية في أكثرها، وإن كانت تبدوا أنها سياسية، وبعضها خلافات سياسية خصوصاً في القرون الأولى. وهذه الخلافات يهتم بها كتّاب التاريخ، يسجلونها ويوضحون أسبابها، ويذكرون نتائجها، وهي كثيرة على مدى التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً. قديماً ما وقع بين علي رضي الله عنه والخوارج، وما وقع بين الخوارج والدولة الأموية، وما وقع بين الدولة الأموية وابن الزبير. وحديثاً ما نراه واضحا في لبنان وغيره من فتك الشيعة- الذين يتظاهرون بالإسلام- بأهل السنة وتنكيلهم بهم إلى حد الاستهتار بدمائهم، أو بين أهل السنة وبين مم يتظاهر بالإسلام على ديانة القاديانية أو البهائية أو غيرهم، ممن يتظاهر بالإسلام ويصوب السلاح إلى صدور المسلمين. 2- وإما أن تكون خلافات علمية، وهذه خاض غمارها العلماء، كل فريق يؤيد ما يذهب إليه، وينقض ما ذهب إليه المخالف دون أن يصغي لأدلة من يخالفه بعين الإنصاف -في أكثر الأحوال-، حتى إن كل فريق من المختلفين يقول: رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.

وهذه الخلافات وإن لم تكن عملية، إلا أنها في كثير من القضايا أسهمت في إذكاء نار العداوة والبغضاء بين المسلمين، وساعدت في نفره المسلمين بعضهم عن بعض، خصوصاً بعد أن تولاها قوم معجبون بآرائهم، جهال بمعرفة النصوص وما تهدف إليه؛ فتعصبوا لمشايخهم وأفكارهم، ثم انطووا على ذلك (¬1) . ودارس الفرق يهمه الإلمام بالأمرين جميعاً؛ حتى يتسنى له الحكم على الأمور بوضوح، فإن معرفة الحوادث التاريخية، ومعرفة الأفكار والمعتقدات ثم عرضها على كتاب الله وسنة نبيه، ثم الاسترشاد بما فهمه السلف من تلك النصوص هو بالإضافة إلى أنه من الإحسان إلى النفس وإلى الآخرين، طريق الإنصاف، ومعرفة الداء ودوائه. * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 1/ 16.

الفصل الثامن كيف تبدأ الفرق في الظهور

الفصل الثامن كيف تبدأ الفرق في الظهور يذكر علماء الفرق أنه عندما يريد شخص معرفة ظهور فرقة من الفرق على وجه التحديد، فإن ذلك من غير اليسير الوصول إليه والجزم به دون تخمين أو شك، وذلك: لأن الفرقة لا تستحق هذا الاسم إلا بعد مرورها بمراحل متعددة، تبدأ فكرة صغيرة، فردية أو جماعية، ثم تتكون شيئاً فشيئاً إلى أن تصبح فرقة ذات منهج مميز لها سياسياً أو اجتماعياً. وهذا ما عناه الأستاذ أبو زهرة حين قال: ((إن رأينا أن الأفكار التي تشيع وتنتشر، من الصعب الوصول إلى مبدئها على وجه الجزم واليقين من غير حدس أو تخمين)) (¬1) . والتخطيط لقيام الفرقة قد تطول مدته وقد تقصر، حسبما يتهيأ لها من الظروف والعوامل المساعدة لقيامها، وعلى هذا فإنه ينبغي حسبما يبدو لي أن نفرق بين ظهور الفرقة كفرقة ذات أفكار وآراء اعتقادية وبين ظهورها كفكرة. والصعوبة إنما تكمن في ظهورها فكرة، وأما تحديد ظهورها فرقة فهو ما سجله العلماء عن ظهور كل الفرق والطوائف. * * * * * * * * * * * * ** * * * ¬

(¬1) تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 1/ 125.

الفصل التاسع منهج العلماء في عد الفرق

الفصل التاسع منهج العلماء في عدَّ الفرق لم يوجد لعلماء الفرق قانون يسيرون عليه في عدّهم للفرق الإسلامية، بل سلكوا طرقا عديدة، كل واحد منهم يعدها حسب اجتهاده، وما وصل إليه علمه. وفي هذا يقول الشهر ستاني - رحمه الله-: ((اعلم أن لأصحاب المقالات طرقاً في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص)) . ثم قال: ((فما وجدت مصنّفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أنه ليس كل من تميز عن غيره- بمقالة ما في مسألة ما -عُدّ صاحب مقالة، وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد)) . وقال أيضاً: ((وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيف ما اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر وأصل مستمر)) (¬1) . والواقع أننا نجد مصداق كلام الشهر ستاني عند تتبع العلماء للفرق، وأقرب مثال لذلك أنك تجد أمهات الفرق عند الأشعري عشر أصناف، وعند ¬

(¬1) الملل والنحل ج 1 ص 14.

الشهر ستاني نفسه أربع فرق، وعند غيرهما ثمان فرق، وعند آخرين ثلاثاً، وبعضهم يجعلها خمساً، إلى غير ذلك مما يوحي بعدم وجود قانون لعدّ الفرق مستقلة أو تابعة لغيرها؛ إذا كان هَمُّ الأولين فيما يبدو تسجيل ما يجدون من آراء فردية كانت أو جماعية. ولعل بعض هؤلاء العلماء اختلط عليه الأمر فيمن يستحق أن يطلق عليه أنه من أهل ملة الإسلام فيعتبر خلافه، أو لا يعتبره من المسلمين فلا يذكر خلافه، وهذه المسألة تحتاج إلى إيضاح نوجز ما ذكره البغدادي عنها فيما يلي: * * * * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل العاشر ما المراد بأمة الإسلام؟

الفصل العاشر ما المراد بأمة الإسلام؟ اختلف المنتسبون إلى الإسلام في الذين يدخلون بالاسم العام في ملة الإسلام، وحاصل الأقوال في هذه المسألة كما يلي: 1- أن هذه التسمية تشمل كل مقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء به حق، كائناً قوله بعد ذلك ما كان. وهذا قول زعيم طائفة الكعبية من المعتزلة أبي القاسم الكعبي. 2- أنها تشمل كل من يرى وجوب الصلاة إلى جهة الكعبة. 3- أنها تشمل كل من أقر بالشهادتين ظاهراً ولو كان مضمراً للنفاق والكفر. والواقع: أن تلك الأقوال لا تخلو من إيراد عليها وانتقاد لها، فقول الكعبي الأول، وقول مجسمة خراسان الأخير ينقضه ما موقع من يهود إصبهان من إقرارهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل، وكذا قال قوم من موشكانية اليهود- نسبة إلى زعيمهم موشكان- فإنهم أقروا بجميع شرائع الإسلام، ونفوا أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم نبي إلى كافة البشر، بما فيهم اليهود. ومع ذلك فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا تعتبر أقوالهم ضمن أقوال الفرق الإسلامية (¬1) . ¬

(¬1) انظر الفرق بين الفرق ص 12 - 14.

والصحيح في هذا كله أنه لا يدخل في الإسلام إلا من أقر به ظاهراً وباطناً، والتزم بالإيمان بالشريعة الإسلامية، ثم إذا كان له بعض البدع فإنه ينزل من الإسلام حسب قربه أو بعده عنه، ويعامل على هذا الأساس، ويحترز من تكفير شخص بعينه إلا إذا ظهر كفره من قوله أو فعله أو اعتقاده بعد إقامة الحجة عليه. * * * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الحادي عشر أهم أسباب نشأة الفرق

الفصل الحادي عشر أهم أسباب نشأة الفرق أ- تمهيد: التفرق في عصرنا الحاضر. ب- الأسباب العامة للتفرق. أ- التفرق في عصرنا الحاضر: سبق أن عرفنا نهي الدين عن التفرق، وذكرنا الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية على ذلك، كما تبين لنا كذلك الخطر الذي يكمن في طريق الأمة الإسلامية، والذي يعوقها عن الوصول إلى الغاية التي أمرهم الله بها. وكيف أنهم حينما يتفرقون ويصبحون أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون-يصبحون أمة ضعيفة لا قيمة لها، كما هي سنة الله في الذين خَلَوا من قبل. ويجري عليهم نفس المصير الذي جرى على الأمم قبلهم، لأنه لا نجاة ولا عزة إلا بالتمسك بالإسلام الذي رفع الله به أقواماً قبلوه وأذل به آخرين استكبروا عنه، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة ومن الجهل إلى العلم، وعاش الناس في ظلاله عيشة في منتهى السعادة. وقد مضت تلك الأيام غرة في جبين الدهر، ولسان حال المسلمين اليوم يقول: وودّ بجدع الأنف لو عاد عهدها ... وعاد له فيها مصيف ومريع

تنكر للإسلام كثير ممن يتظاهر به، ويزعم أنه يسير على نهجه فألحق بالمسلمين الذل بعد ذلك العز الذي غمر شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، وكان هؤلاء أشد على الإسلام والمسلمين من أعدائه الظاهرين حين أعرضوا عن تعاليم الإسلام المشرقة، وصاروا صعاليك يستجدون موائد الشرق والغرب القذرة، وعملوا ليلاً ونهاراً، سراً وإعلاناً على إضعاف المسلمين وتشكيكهم في دينهم وتشتيت أمرهم. وقد ساعدهم على ذلك أعداء الإسلام الذين يتربصون به الدوائر {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (¬1) والذين يمدونهم بكل ما لديهم من التشجيع المادي والمعنوي، فإذا بهم يتحولون إلى وحوش وسباع ضارية، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. لقد تربى هؤلاء على موائد الكفرة ودرسوا في مدارسهم، وأتقنوا مناهجه ثم أظهروا أنفسهم أبطالاً فاتحين، واتخذوا لأنفسهم شعارات براقة خادعة وهم ما بين ثوري اشتراكي شيوعي، أو بعثي زنديق حاقد، أو رأسمالي جشع حقود حسود، أو ماسوني أينما يوجه لا يأت بخير، فابتلي المسلمون بهم أشد البلاء، وتوالت عليهم المحن، وظهر الإلحاد، وتفرقت بسببهم الكلمة، وظهر قرن الشر، وفشت الدعارة علانية، وصار المتمسكون بدينهم غرباء. وبعد تلك المحن كلها مما لا يمكن وصفه امتن الله على المؤمنين، وظهرت بوادر صحوة يتمنى كل مسلم أن تتم بخير، مع الخوف الشديد أن توجه تلك الصحوات وجهة في غير مسارها الصحيح، فتنتكس الأمة انتكاساً ربما لا ¬

(¬1) سورة الفتح:6

تقوم لهم قائمة - لا سمح الله- إذا نجح هؤلاء النقلابيون على كل شيء حتى على دينهم ورسالة نبيهم، لأنهم يريدون قلب كل شيء، وتحويل كل معتقد إلى معتقداتهم الفاسدة، ثم السير بهم في تلك السبل التي تربوا عليها، وهي السبل التي حذرنا الله من سلوكها، إن المتتبع لنشاط هؤلاء ودوافعهم تنكشف له اللعب السياسية والاجتماعية الخطيرة التي تدفع بأتباعها من ظهورهم إلى حيث لا يدرون، ومن حيث لا تمكنهم من معرفة ما هم واردون عليه. قد أحاطوهم بصراخ وعويل أفقدوهم حتى مجرد اللحظة التي يفكرون فيها، وبخبث ودهاء تظافرت جهودهم يصدق بعضها بعضاً، الجريدة، والمجلة، والكتاب، والتلفزيون، والإذاعة، وإعلانات الشوارع، وندوات المجالس، ونثر ونظم، وتمثيليات وفكاهات؛ فأحاطوهم من كل جهة، ودخلوا معهم في كل مجال من مجالات الحياة. وجعلوهم لا يفكرون إلا فيهم، وفي تنفيذ دعاياتهم في كل وقت -وهم يمشون، أو على مكاتبهم، أو في بيوتهم، أو في اجتماعاتهم، أو في انفرادهم؛ حتى أخذوا منهم كل أوقاتهم، وخدعوهم عن كل ما يمت إلى تدبر أمرهم فأصبحوا فريسة سهلة، لا حراك بها أمام هؤلاء سراق عقول البشر الذين يصطادون في الماء العكر، قد دخلوا في المجتمعات المحافظة على سلامة عقيدتها كما تدخل الجراثيم. فأصبح الكثير من شباب الأمة الإسلامية - إلا من رحم الله- عقولهم معهم وأيديهم تكتب عنهم وتمجدهم وأرجلهم تمشي إلى مجالسهم، وألسنتهم تنطق بدعاياتهم وأكاذيبهم وحيلهم. ولا شك أن ثمن ذلك كله تفرق الكلمة وتشتت الآراء تحت غطاء إصلاح وتقدم الأمة، والوصول إلى التطور

والتجديد، أو غير ذلك من الأكاذيب. جندوا كل أولئك لهدف واحد هو محاربة الدين والعادات الإسلامية، وتفكيك الروابط المتينة التي بناها الإسلام والتي تقف دون رغباتهم الجنسية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وجنَّدوهم كذلك لقطع أوصال الأمة وإلقاء بذور الشقاق بينهم- على طريقة فَرِّقْ تَسُد- ودربوهم على طريقة إلصاق التهم بالآخرين من أهل الحق وتشويه سمعتهم، ثم ألقوا بينهم مختلف الآراء الفكرية شغلوا الأمة بها. ولم يفلحوا في شيء مثلما أفلحوا في تفريق كلمة المسلمين، وإشاعة الفرقة والعداوة بينهم، وبغي بعضهم على بعض، والتفنن في اللمز ورفع الشعارات، وهذا ما يفسره لنا وَلَعُهُمْ بقيام الأحزاب المتناقضة في الآراء لإلهاء الناس عن مراقبة ما يقومون به. ونتج عن ذلك استحكام الفرقة، ونشوء الأحزاب والجماعات المتصارعة، وإفساح المجال واسعاً لكل طامع في تفتيت الأمة، الذين هم كالجسد الواحد؟ إنهم يلهثون لاستعباد عقول الناس بأي ثمن كان، حتى ولو كان تفرقة أهل البيت الواحد ما دام ذلك يحقق لهم مصالحهم، ويجعلهم قادة للقطعان الذين يتبعونهم بغير تدبر ولا روية منخدعين بزخارف أقوال أولئك الذين فسدت فطرهم، وانتكست مفاهيمهم، حتى أصبحوا يرون المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً، والحق باطلاً. عقاب من الله لهم لانحرافهم عن النهج الرباني، وعن الصراط المستقيم، والسبيل المبين إلى سبل وشبهات على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه كما تقدم بيان المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذا المسلك في الحديث الثابت عنه (¬1) ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

وبالبحث عن أسباب تفرق الأمة الإسلامية، قديماً وحديثاً، يتضح أن أسباباً عديدة عملت مجتمعة على ذلك التفرق بعضها معلن وبعضها خفي، وهذا لا يمنع أنه قد يوجد لكل طائفة من العوامل ما لا توجد عند الطوائف الأخرى، ولهذا فإنه من الإطالة البحث عن الأسباب التي أدت إلى خروج كل طائفة من الطوائف التي يموج بها العالم الإسلامي. وتفصيل ذلك والتوسع فيه كل طائفة على حدة ودراسة تلك الأسباب والمقارنة بينها وبين الأسباب للطوائف الأخرى فهذا يحتاج إلى دراسة خاصة، تبدأ بذكر ما جرى بين المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحداث مروراً ببيان الخلاف الحاد الذي أنتجه أمر الخلافة لمن تكون وكيف تمت في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ومواقف الناس منها. ثم بيان ما حصل من ابن سبأ من مؤامرات ومواقف خبيثة أدت إلى ارتكاب جريمة مروعة في عصر الصحابة؛ وهي قتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه علانية، وما أعقب ذلك من مواجهة حربية بين علي رضي الله عنه وطلحة والزبير ومن معهما في معركة الجمل بتأثير أعداء الله السبيئة. ثم امتداد الفتنة بصورة شاملة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في معركة صفين، وما نتج عنها بعد ذلك من أمر التحكيم الذي شطر جيش علي رضي الله عنه إلى حزبين متضادين هما: الخوارج والشيعة، وما أحدثه هؤلاء من أفكار نسبوها إلى الدين الإسلامي بعد ذلك. وتلك الأحداث كانت بمثابة مرض ألمّ بجسم الأمة أفقده الكثير من المناعة؛ فظهرت بوادر أمراض كثيرة فيه، فَبَزَغَ قرن الشيطان عند ذلك وتوالت المصائب وأسباب التفرق المتعددة الأشكال، فظهرت العصبيات البغيضة،

والقوميات المتصارعة، والرغبة في السيطرة والزعامة، وتفاوتت المفاهيم فظهرت المذاهب الفكرية للفرق المختلفة، من خوارج، ومعتزلة، وقدرية، ومرجئة، وشيعة ... الخ، فأسسوا الآراء التي فرقت المسلمين، وغذوها بالتأويلات الفاسدة اتباعاً لأهوائهم. وظهر الغلو الممقوت نتيجة لتمجيد كل طائفة لآرائها ولرجالها وقويت الرغبة لدى كل طائفة للاستقلال بأتباعها. ثم جاء دور التلاعب بالنصوص من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلة الله عليه وسلم، وجرت كل طائفة مفاهيم تلك النصوص إلى ما يوافق ما أسسته من مفاهيم سقيمة وعقائد خاطئة فاختلفوا من بعد ما جاءهم البينات. ولئن كانت دراسة كل تلك الأمور بالتفصيل والتوسع غير واردة هنا لما قدمناه سابقاً فإنه يمكن الاقتصار والإشارة إلى أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك التفرق الحاصل في العالم الإسلامي بصورة إجمالية عامة، سواء كان ذلك في الزمن القديم أو في الأزمان التي جاءت بعده. ب- الأسباب العامة: 1- وجود علماء انحرفت عقائدهم، على رأس كل طائفة منهم مردة أسهموا في تثبيت الفرقة بين المسلمين. 2- غلبة الجهل وفشوه بين أوساط المسلمين في مختلف العصور بصفة عامة. 3- عدم فهم النصوص فهماً سليماً، حتى وإن كانت النيّة ربما تكون حسنة عند البعض منهم.

4- موافقة الخلاف والفرقة لهوى في النفس فأصروا عليه. 5- تدخل سلطان العصبية البغيضة. 6- استحكام قوة الحسد في النفوس. 7- الرغبة في إحياء البدع والخرافات، وميل كثير من النفوس إليها. 8- تقديس العقل وتقديمه على النقل. 9- بث الدعايات المنفرة عن الاعتقاد الصحيح الموافق للكتاب والسنة الذي يُمثله السلف الصالح. 10- وجود تأثيرات خارجية. أما بالنسبة للسبب الأول وهو وجود العلماء الذين انحرفت عقائدهم؛ فمما لا يكاد يجهله طالب العلم أن أكثر العقبات التي تواجه الداعية إلى الله هم هؤلاء الأصناف الذين تمكنوا من استجلاب العامة، وجذبهم إليهم، حتى أصبحوا يقدسونهم، ويرون أن لا علم إلا ما كان لديهم، ولا حق إلا ما سلكوه، وحذروا من الالتقاء معه في أي شيء، ولنا في ضحايا علماء البريلوية، وعلماء الصوفية، وعلماء الباطنية وغيرهم-أمثلة قريبة على تثبيت وإحكام الفرقة بين المسلمين. ومن الغريب في الأمر أن البينات التي هي أقوى شيء لقطع النزاع، وانتهاء الاختلافات صارت البينات هي التي قام عليها محور الاختلاف كما ذكر الله ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا

جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1) ، وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬2) . ومن المعلوم أن أصحاب هذا الاختلاف بعد وجود البينات.. إنما هم علماء السوء الذين يظهرون منها ما يوافقهم ويخفون منها ما لم يتفق وهواهم. وفتنة هؤلاء من أعظم الفتن حيث أضلوا الناس بغير علم ولا هدى، ومن حيث كان أتباعهم يتوقعون منهم معرفة الحق والوصول إليه، فصار هؤلاء العلماء يحرمون ما يشاءون ويحللون ما يشاءون، ويفتون بما يريدون، ثم جعلوا أتباعهم وراء ستار كثيف من الجهل والنفور عن الآخرين؛ لئلا يكتشف جهلهم. وجرت الرياح بما تشتهي سفنهم ووجدت لهم عوامل كثيرة ساعدتهم وقوَّت من عزائمهم فأبعدوا الهوة بينهم وبين الوصول إلى الحق واجتماع الكلمة عليه، وقد حذرنا من لا ينطق عن الهوى سوء فعل هؤلاء حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)) (¬3) . وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: - ((أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)) (¬4) . أما بالنسبة للسبب الثاني وهو غلبة الجهل وفشوه بين أوساط عوام ¬

(¬1) سور آل عمران:105 (¬2) سورة البينة:4 (¬3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم صـ 34 نقلاً عن البرقاني في صحيحه. (¬4) جامع بيان العلم وفضله صـ 193 وعزاه إلى ابن عدي في الكامل عن عمر رضي الله عنه.

المسلمين، فقد مرت بالمسلمين في عصورهم المختلفة فترات حلّ فيها الجهل واستحكمت الخرافات في النفوس محل العلم والاعتقاد الصحيح فضعف نور الإيمان في نفوس هؤلاء، وقلَّ وجود علماء متكاتفين متعاونين على إظهار وقمع الباطل؛ فانتشرت الخرافات وقوي أمر التحزب الباطل والفرقة الممقوتة. وقد عاب الله تعالى في كتابه الكريم الجهل وأخبر أن سبب ترك الناس لدين الله وتفرقهم فيه إنما هو الجهل. قال تعالى في شأن موسى وقومه حين وصل بهم الجهل إلى أن طلبوا من موسى أن بنصب لهم إلهاً: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬1) . وآيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم فيها ذم الجهل والدعوة إلى العلم والمعرفة. وكذا في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الجهل والتحذير من قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضوا وأضلوا)) (¬2) . وقد نشأ عن الجهل الغلو في تعظيم بعض المخلوقين تعظيماً خارجاً عن هدي الإسلام، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- عن نوع من أنواع أسباب الاختلاف بين المسلمين وتفرقهم وهو الغلو.. قال: ((ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلاّل المتعبدة والمتصوفة..حتى ¬

(¬1) سورة لأعراف: الآية138 (¬2) أخرجه البخاري جـ 1 / 194 ومسلم جـ 16 / 223.

خالط كثيراً منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى، أو مثله، أو دونه)) . وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (¬1) الآية. وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم: ((أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم)) وكثير من أتباع المستعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به، وإن تضمن تحليل حرام، أو تحريم حلال (¬2) . وقد دخل رجل على ربيعة بن عبد الرحمن فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم.. ثم قال ربيعة في شأن الجهال حين يتزعمون الناس، ويخرجونهم بفتاواهم عن الحق..قال: ((ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق)) (¬3) . وأما عدم فهم النصوص فهماً سليماً فقد أدى ذلك إلى نتائج سيئة، حيث أخذت كل فرقة تؤول النصوص لصالحها، وتقوية ما تذهب إليه من أفكار وآراء، ومصداق ذلك أنك ترى النص الواحد من الكتاب أو من السنة يفسر بعدة أفكار، متعارضة في بعض الأحيان حسب ما تذهب إليه كل طائفة. وصار بعضهم يعيب البعض الآخر، وذموا أهل السنة، وسخروا من مفاهيمهم، وفرحوا بما عندهم من تلك التأويلات الملفقة، وصار حال أهل ¬

(¬1) سورة التوبة: 31. (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم صـ 19. (¬3) جامع بيان العلم وفضله صـ 21.

السنة معهم كما قال الشاعر: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم وكان لهذه المواقف نتائج ظاهرة هي تفرق الأمة الإسلامية وظهورهم طوائف، كل طائفة لا تلوي على أخرى بعد أن تحجرت العقول وجمد كل ذي رأي على رأيه، وقدم فهمه على مفاهيم من هو أفقه منه، واستنكف أن يرجع عما تقرر في ذهنه، وهي قضية طالما وقفت حجر عثرة في طريق الدعوة إلى الإصلاح واجتماع الكلمة قديماً وحديثاً. وأما موافقة الخلاف لهوى في النفوس فإنه أمر خطير بل هو من أشد الأمور التي تفرق بسببها المسلمون قديماً وحديثاً، وبالاسترسال مع الهوى أقصى العقل وأهملت الشرائع وأخرجت النصوص عن مدلولاتها وقامت البدع وانتشرت الخرافات، بل وسفكت الدماء أحياناً كثيرة، وهو الذي حال بين كثير من البشر وأنبيائهم. والنصوص من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في ذم الهوى لا تخفى على أي مسلم من عوام المسلمين فضلاً عن طلاب العلم، لقد أخبر الله تعالى أن الهوى أحيانا يحل في بعض النفوس محل الإله فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (¬1) . وأخبر تعالى أن الهوى هو الذي حال بين الأنبياء وأممهم، إذ لم يستفيدوا من أنبيائهم لاستكبارهم الذي أملاه عليهم هواهم قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ¬

(¬1) سورة الجاثية: 23

اسْتَكْبَرْتُمْ} (¬1) . وآيات أخرى كثيرة في ذم إتباع الهوى وعواقبه الوخيمة. وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه: ((وثلاث مهلكات: هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه)) (¬2) . وعن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد ذكره حديث افتراق الأمة: ((وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب لصاحبه)) ، وقال عمرو: ((الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (¬3) . وأما تدخل سلطان العصبية البغيضة فكان إحدى المعاول الهدامة لوحدة الأمة الإسلامية؛ حيث غطت على أبصار وقلوب أتباعها فحجبتهم عن النظر إلى الآخرين بعين الأخوة والترابط العام ومحاولة تألف القلوب وجمع الكلمة. فأخذت كل طائفة تمجد أفكارها، وتتحزب حولها، وتشنع على الآخرين، فكم سفكت بسببها من الدماء وكم خربت من مدن عامرة وكم خرج بسببها عن الدين من بشر، وقديماً قالت ربيعة عن الكذاب مسيلمة: ((كذاب ربيعة خير من صادق مضر)) (¬4) ؛ لأن سلطان العصبية لا عقل عنده، والتعصب كما يقول بعض العلماء: ((ظاهرة ذميمة لا يؤدي إلا إلى التفرقة ¬

(¬1) البقرة: 87 (¬2) الترغيب والترهيب جـ1 /162. (¬3) سنن أبي داود جـ2 ص 504. (¬4) تاريخ الطبري جـ3 صـ286.

والتعادي ... وثمرة التعصب الاختلاف والفرقة والتباغض)) (¬1) . وليس هذا فحسب؛ بل إنه المستنقع الخصب لانتشار أوبئة البدع على اختلاف أنواعها، وما تؤدي إليه من تعظيم الآباء والمشايخ، وتقديم أفكارهم على النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، معرضين عن قول الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (¬2) . وقال تعالى حاكياً عن حالهم وهم في النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (¬3) . وهذه الطاعة الناشئة عن التعصب هي التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة (¬4) . قال: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) (¬5) . وإذا وصل الحال إلى هذا الحد فكيف تتفق الكلمة وكيف يحصل الاتحاد بين المسلمين وتنتهي الفرقة البغيضة. ¬

(¬1) مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم صـ84 - 85. (¬2) المائدة:104 (¬3) الأحزاب:67 (¬4) سمعه يقرأ قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} التوبة: من الآية31. (¬5) سنن الترمذي كتاب التفسير5 / 278.

وأما استحكام قوة الحسد في النفوس. فهذا هو الداء العضال الذي يأكل الأخضر واليابس ويفرق الكلمة ويجعل المسلمين شيعاً وأحزاباً متباغضة، هذا العامل متمم لعامل العصبية البغيضة، وقد ابتلي به كثير من أصحاب النفوس المريضة والقلوب الغافلة؛ حيث أوجد لدى هؤلاء النفور التام والاستكبار الممقوت عن قبول الحق وتجاوز الخلافات التي تحصل بين الناس. وهؤلاء ماضون على طريقة أول الحاسدين لبني آدم وهو إبليس؛ حيث قال فيما أخبرنا عنه: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} (¬1) وقوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (¬2) . إن أول نتائج الحسد استحكام الفرقة بين المسلمين وبغي بعضهم على بعض وظهور العداوة والبغضاء، وغير ذلك من المفاسد التي لا يعلمها إلا الله. وقد قال نبي الهدى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من الأدواء المهلكة: ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب- أو قال-: العشب)) (¬3) وفي رواية أخرى ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) (¬4) الحديث. وفي التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة على مدى الضرر الذي لحق بوحدة الأمة الإسلامية من جراء الحسد قديماً وحديثاً، فقد ورد عن بعض العلماء أن ما حصل بين ربيعة ومضر في الزمن القديم من العداوة والحروب إنما كان ناشئاً ¬

(¬1) الاسراء: من الآية61 (¬2) لأعراف:12. (¬3) رواه أبو داود ج 2 ص 574. (¬4) رواه ابن ماجه جـ2 ص 1408.

عن الحسد لمضر؛ لمكان النبوة فيهم، ومن هنا قال المأمون فيما يذكر عنه: ((لو خرج اثنان ثائران لكان أحدهما من ربيعة)) (¬1) ، وتقدم قول أهل العصبية السخيفة: ((كذاب ربيعة خير من صادق مضر)) . وأما عامل حب البدع والخرافات وميل أكثر النفوس إليها، فمما هو واضح أن الابتداع في الدين وإحياء الأمور البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، ثم التصميم على تنفيذ تلك البدع -كان من أعظم الأسباب في تفرق كلمة المسلمين ونفور بعضهم من بعض كما أنه كان من أعظم العوامل التي أبعدت الكثير من الناس عن تفهم العقيدة الحنيفية، وأخرجتهم إلى حمأة الجهل والتعلق بالخرافات واعتبارها من الدين. فكان لحب البدع وإحيائها أكبر الأثر في قيام كثير من الحركات والفرق على امتداد تاريخ الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمننا الحاضر. وكأن لسان حال هؤلاء يقول لا حاجة بنا إلى الشرع الذي لا يوافق ما نريد فشرعوا لأنفسهم ما شاءوا من الزيادة والنقص في دينهم؛ فاختلط الأمر على كثير من الناس، التفريق بين الشرع الذي جاء به المرسلون وبين التشريع الذي أحدثه أصحاب البدع ورؤوس الفرق، فأصبح التفرق بين المسلمين بعد ذلك نتيجة حتمية؛ فإن النفوس إذا لم تشتغل بالحق اشتغلت بالباطل. ولم يهتم أصحاب تلك البدع بتفهم ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى التزام الشرع الحنيف، والابتعاد عن كل ما يضاد منهج الله وصراطه المستقيم، والتمسك بعه وحده كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ¬

(¬1) انظر الفرق بين الفرق ص 301 وضحى الإسلام جـ1 ص 43.

فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬2) كما لم يهتم أولئك بنصح نبيهم لهم وتحذيره إياهم من الوقوع في البدع التي تحيط الأعمال وتسبب لأصحابها الوبال في الدنيا والآخرة. قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬3) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)) (¬4) . وهذا تحذير شديد وترهيب خطير، وأخطر منه أن ضرر صاحب البدعة قد لا يقتصر عليه وحده , فهو يضر نفسه ويضر غيره، ويتحمل إثم نفسه وإثم غيره ممن تسبب في إغاوئهم، وهو ما يفسره قوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئاً)) (¬5) . وأما عامل تقديس العقل وتقديمه على النقل فإنه سيأتي الكلام عنه إن شاء الله في آخر هذه الدراسة بمزيد من الإيضاح. واعتبار هذا العامل من الأسباب المفرقة لصفوف المسلمين من الوضوح بمكان، فإن المعتزلة ومن تبعهم حينما قدسوا العقل وقدموه على النقل، واعتبروه المرجع الأول والأخير والحكم الفصل في كل قضايا الدين، فتحوا بهذا الموقف فتنة وتفريق بين المسلمين، لم يستطع أحد إغلاقه إلى يومنا الحاضر. ¬

(¬1) الأنعام: الآية153 (¬2) الأنعام: الآية159 (¬3) رواه البخاري في كتاب الصلح ج 5 ص 301 ومسلم في الأقضية جـ1 ص 313. (¬4) رواه مسلم جـ4 ص 312. (¬5) رواه مسلم جـ5 صـ532.

إن العقل له حدود إذا تجاوزها الشخص خرج عن الحق من حيث يطلبه، سنة الله في خلقه، وصارت نعمة العقل العظيمة آفة في حق صاحبها حين تجاوز حدوده. ويعود تمجيد العقل وتقديسه إلى ما أحدثته ترجمة الكتب اليونانية وظهور عل الكلام المذموم والفلسفة والمنطق واحتدام الخصام بين الطوائف الإسلامية في تطبيق هذه الأفكار المخالفة للشريعة الإسلامية، وانقسام المسلمين بعد ذلك بين مؤيد ومخالف ومحتال للتوفيق بين هذه الأفكار والشريعة الإسلامية، فازداد الخرق على الواقع، وظهر شر كثير فقيَّض الله من عباده من وقف في طريق هؤلاء وأزال الشبهة (¬1) . وأما بالنسبة لموقف المخالفين للسلف من التهجم عليهم وبث الدعايات الكاذبة عنهم، وإغراء بعض المسلمين بالنفرة عن البعض الآخر؛ فإن موقف السلف كما هو معروف من سلوكهم لا يحبون الغمز واللمز واللغو الباطل وإلصاق التهم بالآخرين ظلماً وعدواناً؛ لأنهم على خلق وأدب إسلامي يمنعهم من ذلك، يتمثلون قول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬2) . بخلاف المواقف الشائنة للمخالفين لهم من أهل الضلال والتفرق الممقوت، فإنهم لا يبالون ما قالوه من السباب وكيل التهم وقذف الألقاب الظالمة عليهم جزافاً، والغرض من كل ذلك هو التنفير عنهم وعن عقيدتهم السلفية، والنتيجة من كل ذلك زيادة إحكام التفرق وتعميقه بين المسلمين. ¬

(¬1) وعلى رأس هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه البديع ((درء تعارض العقل والنقل)) وما كتبه تلميذه شمس الدين ابن القيم. (¬2) المائدة: من الآية8

فمن الأوصاف الظالمة التي أطلقها هؤلاء على أصحاب العقيدة السلفية- وصفهم بالمشبهة والحشوية والمجسمة والنابتة والنواصب، وغير ذلك من الألقاب التي أطلقها هؤلاء على أهل السنة؛ ليتم لهم تنفير الناس عنهم، كما كان الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يطلقون عليه ألقاباً كاذبة، بقصد التنفير عنه فوصفوه بأنه شاعر وكاهن ومجنون وصابئ وساحر، وسموه مذمماً، وهو أفضل الخلق وسيد الأولين والآخرين. وكبار الفرق الذين بثوا الدعاية السيئة والألقاب الشنيعة على السلف هم الخوارج والمعتزلة والروافض والجهمية والقدرية والأشاعرة والماتريدية والصوفية، وكل طائفة من هذه الطوائف أطلقت ما حلا لها من الألقاب الظالمة على أهل السنة فسموهم مجسمة وحشوية ونابتة ... إلخ. وفي كل طائفة من هذه الطوائف علماء ومجادلون هم وراء كل تلك التشنيعات. وما أبعد هؤلاء عن امتثال قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1) . ((إن كل فرقة من تلك الفرق قد ألبست الحق بالباطل فأخرجت للناس بدعها وضلالها تحت لافتات إسلامية، وفي قوالب إسلامية، ليغتر بها العامة فيتبعوهم معتقدين أنهم على الكتاب والسنة مقيمون، ولمذهب السلف الصالح متبعون)) (¬2) . ¬

(¬1) الحجرات:11 (¬2) مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم ص 32.

وأما ما قيل عن وجود تأثيرات خارجية أسهمت هي الأخرى في تفرق كلمة المسلمين فقد وقع ذلك بالفعل. وهذه التأثيرات تكمن في الأمور التالية: (أ) في اختلاط المسلمين بغيرهم، ودخول غير المسلمين في الإسلام، وإصرارهم- متعمدين وغير متعمدين- على التمسك ببعض الأفكار التي كانوا عليها قبل دخلوهم في الإسلام، ومحاولتهم تغطية تلك الأفكار بغطاء إسلامي، على طريقتهم الخاصة؛ فنتج عن ذلك نشوة جماعات تتمسك به وتعادي من يخالفها، وبالتالي تكونت هذه الجماعات في شكل فرق إسلامية فيما بعد. (ب) وجود حركة ثقافية، وترجمات لكتب عديدة تحتوي على أمور جديدة غريبة أخذت حيزاً من تفكير المسلمين، وتنمية الخلاف بينهم قديما كما فعله المأمون، وحديثاً هذه الحركة القوية لترجمة كتب الملاحدة والماديين. (ج) تأثر بعض المسلمين بغيرهم من أهل الديانات السابقة بعد أن عايشوهم، كما ظهر ذلك في بعض المعتقدات التي تبنتها جماعات تدعي الإسلام، وكان أساس تلك المعتقدات إما فارسي، وإما هندي، وإما نصراني، وإما يهودي تأثر بهم المسلمون بحكم الاختلاط والتقارب. (د) وأيضاً ما قد يواجهه المسلمون من ضغوط ينتج عنها - على الزمن البعيد- جيل من المسلمين ينظر إلى تلك الأمور على أنها حقائق وعقيدة صحيحة للآباء والأجداد. ومن هنا ينشأ المزيد من التفرق بين المسلمين. (هـ) دخول كثير من الناس في الإسلام ظاهراً، وهم يبيتون النية لهدمه وزعزعته في صدور أهله! وأكثر هذا الصنف هم اليهود والنصارى. وقد ظهر

تأثير هؤلاء على المسلمين بوضوح في آراء كثير من الفرق التي تنتمي إلى الإسلام مثل آراء الروافض الغلاة والجهمية والمعتزلة والنصيرية، وغير هؤلاء ممن ظهرت الأفكار الأجنبية واضحة في معتقداتهم، وقد نبه علماء الإسلام على هذه القضية وأولوها عنايتهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن تأثير المسلمين بغيرهم من الأمم خصوصاً فارس والروم: ((وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمم من الآثار الرومية قولاً وعملاً، والآثار الفارسية قولا وعملا ما لا خفاء فيه على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه)) (¬1) . ويقول ابن حزم رحمه الله: ((والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام؛ أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء (¬2) ، وكانوا يعدُّون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب- وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً- تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام)) (¬3) إلى آخر ما ذكر من مشاهير أولئك القوم وحيلهم في إخراج المسلمين عن دينهم. ويقول طارق عبد الحكيم: ((وبعد أن تم الفتح الإسلامي لبلاد فارس، ودخل الفرس في دين الله أفواجاً، ولكن -بطبيعة الحال- لم يكن من السهل أن يعرف كل الفرس المسلمون الإسلام كما أراده الله عز وجل، فالأعداد المسلمة ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 11. (¬2) لعلها الأسياد كما نقلها الملك محمد صديق خان في خبئية الأكوان ص 75. (¬3) الفصل 2 / 115.

غفيرة، والعادات والأديان والأفكار القديمة متأصلة في النفوس، فكان أن ترعرعت نبتة الرفض البغيضة في تلك البلاد (¬1) ، واستمدت أفكارها الرئيسية بشأن الإمام المعصوم، وآل بيته مما رسخ في الأذهان من قديم)) . وهو يشير هنا إلى ما قاله ضياء الدين الريس عن الفرس الذين دخلوا في الإسلام وأذهانهم مملوءة بمذاهبهم القديمة وحضارتهم البائدة..فقال: ((والفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور أن يوجد خليفة بالانتخاب، وإنما المبدأ الوحيد الذي يمكن أن يفهمه هو مبدأ الوراثة..وليس من المبالغة إذا في شيء أن يقال: إن البيت النبوي وقد مثله ((أل عليّ)) قد حلَّ في قلوب هؤلاء الفرس واعتبارهم محل بيت ((آل ساسان)) (¬2) . وعن تأثر المسلمين بالفكر اليوناني قال طارق عبد الحكيم: ((زعم أن الأثر اليوناني قد ظهر كأشد ما يكون في فكر من يسمون بفلاسفة الإسلام (¬3) كالفارابي وابن سينا، وفي فكر المعتزلة - إلا أنه قد أثر في مناهج الفكر بشكل عام عند بقية الفرق، بل وعند بعض علماء أهل السنة الذين دافعوا عن علم الكلام الذي استقوه من المنهج المنطقي اليوناني، وقد تجلى ذلك في كتابات أئمة الأشاعرة)) (¬4) . وعن تأثرهم بالأفكار الهندية قال: ((وقد كان من أهم ما أثر به فكر الهنود في الفرق المبتدعة في الإسلام هي فكرة ((التناسخ)) ، فقد نشأت عدة فرق تقول بهذه الفكرة منها والسبئية من الروافض، كذلك تأثرت الصوفية بالهندوكية. ¬

(¬1) الواقع أن نبته الرفض والغلو فيه إنما أسسه ابن سبأ. وقد انتشر بسرعة بين الفرس لملائمة تلك الأفكار لما رسخ في أذهان الفرس من تعظيم ملوكهم. (¬2) مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم ص 121. (¬3) الإسلام ليس فلسفة فكرية وإنما هو دين رب العالمين. (¬4) المصدر السابق ص 124. وقد أدخل المؤلف الأشاعرة ضمن أهل السنة

إلى أن قال: ((ومن الفرق التي تأثرت بالتناسخ النصيرية والدروز الذين يعتقدون أن مرتكبي الآثام يعودون إلى الدنيا يهوداً أو نصارى أو مسلمين سنيين)) (¬1) . وسيتضح كل ذلك إن شاء الله عند دراستنا لهذه الفرق. أما أثر اليهودية في المسلمين فإنه يظهر من خلال شخصية عبد الله بن سبأ، والأحداث التي افتعلها، والأفكار التي روَّجها من القول بالرجعة والوصية وغيرها من الأفكار التي اخترعها. ومن خلال شخصية لبيد بن الأعصم الذي كان يقول بخلق التوراة، فأخذ ذلك عنه ختنه طالوت، وأخذ عن طالوت أبان بن سمعان، وعنه الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان، ثم بشر المريسي الذي كان أصله يهودياً. وكذا تأثير اليهود فيمن أخذ عنهم فكرة القول بالبداء على الله تعالى، وهي فكرة يهودية كفكرة الرجعة. وعن تأثر المسلمين بالنصرانية يقول: ((فمن المفاهيم النصرانية التي تسربت إلى عقول طوائف من المسلمين، وأدى بهم إلى الصوفية هي نظرة النصارى إلى الدنيا، واحتقارهم الكامل لها في ظاهر الأمر)) . كذلك كان للمفاهيم النصرانية عن اللاهوت والناسوت والاتحاد بينهما أثر في تنمية وتشكيل مبدأ الحلول والاتحاد، الذي قال به متأخرو الصوفية كالحلاج وابن سبعين وابن عربي. كذلك مفهوم الولاية بالمعنى الصوفي فإنها مذهب نصراني (¬2) . ¬

(¬1) المصدر السابق ص 125. (¬2) المصدر السابق ص 129.

وأخيراً أقول بأن كلام العلماء حول قضية تأثر بعض المسلمين بالمفاهيم والحضارات الأخرى كثير، وإنما الغرض والتنبيه على وجود هذا الداء بين صفوف المسلمين بعد أن تراخت قبضتهم على دينهم بفعل تلك العوامل الكثيرة. وسبب هذا التأثر هو أن الأفكار تتغلغل في النفوس وتنتشر، ثم تستحكم في أصحابها حين تجد عقولاً مفلسة وقلوباً غافلة، فتتمكن حينئذ- على حد ما قاله أحد الشعراء عن الهوى-: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا وهذا البعض من المسلمين إنما أوقعه في مثل هذه المزالق- بعده عن العلم وعن أهل العلم، ومثل هؤلاء إنما هم سهم الصائد الأول. ومن هنا نجد أن تلك الأفكار الخاطئة إنما تنشأ في المجتمعات الجاهلة لعدم وجود حصانة ضدها لديهم، ولجهل تلك المجتمعات أيضاً أسباب لا تخفى على طالب العلم. * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

الباب الثاني: فرقة السلف أهل السنة والجماعة

الباب الثاني: فرقة السلف أهل السنة والجماعة

الفصل الأول تمهيد حول دراسة هذه الطائفة

الفصل الأول تمهيد حول دراسة هذه الطائفة من المعروف أن طلاب العلم خصوصاً في هذه المرحلة - الماجستير - عندهم إلمام جيد عن هذه الفرقة إلا أنه قد يكون عند البعض إلمام غير مرتب في دراسة خاصة ومتوالية ومتسعة للنقاش والمداولة في فصل الدراسة ومن هنا حصلت القناعة أنه يجب أن تكون دراسة هذه الطائفة ضمن منهج السنة المنهجية لدارسي مرحلة الماجستير وأن تكون بمثابة التصفية النهائية في دراستهم عن أهل السنة من حيث طرح اعتقاد أهل السنة بوضوح دراسة ومناقشة واستنتاجات شفهية داخل الفصل من جميع الجوانب التي يحتاج إليها المسلم داعية أو مدرساً أو غير ذلك والباحث كلما تعمق في دراسة عقيدة أهل السلف كلما ازداد علماً ومعرفة ومن أراد العلم النافع فعليه ببذل الجهد فيها وفهمها. وأعتقد أنه من نافلة القول أن عقيدة السلف ما كانت في يوم من الأيام مشتملة على غموض أو اضطراب يحتاج إلى توضيح ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان من ظهور علماء السوء الذين أحاطوا كثيراً من التعاليم الإسلامية بشبهاتهم التي ورثوها عن مختلف الفلسفات ثم أضرموا الخلاف فيها وقلبوا الأمور حتى ظهرت أنها في حاجة إلى الدراسة والبيان إذ فوجئ السلف بالأمر الواقع فاحتاجوا إلى البيان والجدل وضرب الأمثلة لإعادة المسلمين إلى نبع العقيدة الصافي وأخذ هذا المنحى جهداً ووقتاً كان الأولى أن يستغل في غيره

لولا تلك الفتنة الهوجاء التي شوشت أفكار كثير من المسلمين وبعد أن أدرجت هذه الطائفة ضمن مقرر أهل السنة المنهجية بالدراسات العليا وأسند إلى تدريسها رغبت أن أثبتها ضمن ما سبق طباعته من المقررات في كتاب فرق معاصرة قصد الفائدة إن شاء الله تعالى فإليك أخي القارئ خلاصة تلك المناقشات والدراسة بإيجاز. أرجو أن تجد فيها ضالتك عن حقيقة فهم مذهب السلف إن شاء الله.

الفصل الثاني الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة

الفصل الثاني الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة مما لا ريب فيه أن المسلمين عموماً تطبق عليهم خطط وتنفذ فيهم مؤامرات قد أحكم حبكها ولا أظن القارئ في حاجة إلى ضرب الأمثلة على هذا الواقع فإن كل شيء يشهد بذلك من الاستعمار الفعلي إلى الاستعمار الفكري إلى التفرق الحاصل بين المسلمين في نظرتهم إلى الأخوة فيما بينهم وإلى ولاءاتهم المختلفة بل المتناقضة وإلى الطوق الغليظ الذي وضعوه في أعناقهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون وهنا أعتذر للقارئ الكريم عن المتابعة والاستفاضة في دراسة جوانب التأثير الذميم النازل بأحوال المسلمين عموماً فقد كتب المصلحون والناصحون والمفكرون ما يشفي ويكفي لو كان السامعون أحياء القلوب إلا أن أكثرهم أصبحوا كما قال الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي وتحقق ما نسب إلى الشافعي رحمه الله في قوله: نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا نعم أعتذر عن الاسترسال في الكتابة عن هذا المجال فإن حديثه ذو شجون وأحداثه تكاد أن تتكلم عن نفسها فالخطب جسيم والحمل عظيم وإذا لم يفق المسلمون اليوم فإن قوارع الدهر وسنن الله في خلقه ستوقظهم عاجلاً أم آجلاً ولنتحسر مع القائل: أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى فلم *** يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

نترك الكلام عن أحوال المسلمين وفرقهم وأحزابهم المتناحرة وولاءاتهم المتناقضة والإهانات التي تواجههم في كل مكان وفي كل يوم على أيدي أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وسائر ملل الكفر والضلال الذين تداعوا على المسلمين كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. نترك هذا كله لنتجه بالنصيحة إلى البقية والصفوة من المسلمين الذين بقوا قابضين على مفاهيم كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيبقون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله مهما كانت قلتهم ومهما كانت حالهم الذين أدركوا أنهم تتهددهم في دينهم وفي دنياهم بل وفي وجودهم أخطار كثيرة تتطلب جمع الكلمة وصدق المؤازرة ونشر النصيحة صافية نقية في جميع الجوانب وهي كثيرة الجوانب جداً وما لا يدرك كله لا يترك كله فعسى أن يكون في التذكير بها فتح باب خير وعودة وثبات إذ من السهولة العودة إلى ما كان عليه المسلمون في ماضيهم من العزة والمنعة حين تكون النيات خالصة والقلوب متوجهة بصدق ومن تلك الأخطار التي بقيت للمسلمين ما أشير إليه هنا بإيجاز سريع. 1- محاربة المسلمين في تمسكهم بكتاب ربهم تعالى. 2- محاربة المسلمين في تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. 3- محاولة دق إسفين بين الكتاب والسنة وذلك بدعواهم أنه يجب الأخذ فقط بالقرآن الكريم دون السنة النبوية. 4- بتشكيكهم في صلاحية تعاليم ديننا الإسلامي في هذا العصر بزعمهم.

5- بث الدعايات ضد أهل السنة وتشويه ما هم عليه من المعتقدات الصحيحة. 6- محاربتهم عن طريق تمجيد العقل وتقديسه وجعله مصدر التشريع. 7- محاربتهم عن طريق التأويلات الفاسدة للنصوص لإبعادهم عن مدلولاتها. 8- محاربتهم عن طريق الحرب النفسية وإدخال اليأس والوهن في قلوبهم. 9- محاربتهم عن طريق تقوية بعضهم على بعض ليضربوا عصفورين بحجر: أ- إضعافهم مادياً وبشرياً. ب- دوام حاجتهم إليهم. 10- إحياء البدع على أعلى المستويات بل ومحاولة إخضاع أهل الحق لها بالترهيب والترغيب. 11- محاولة حصر مفهوم الإسلام وتعاليمه في القيام بالعبادة فقط دون أن يكون له أي شأن في حياة الناس وسلوكهم وسموه في الجانب الروحي حتى ظن كثير من الناس أن أهل السنة والمتمسكين بالدين لا يعرفون ما وراء المسجد شيئاً عن الحياة. 12- إشغال أهل الحق بفتن مختلفة ونظريات باطلة بقصد صرفهم عن التوجه إلى نقد المخالفين أو بقصد إشغالهم بالردود عليها. 13- إشغالهم بدعوات التجديد في الدين أي بإحداث البدع وإحداث أمور في الشريعة الإسلامية ما أنزل الله بها من سلطان خصوصاً وهذه الدعوات تصدر عن أناس يجهلون كثيراً من أحكام الشريعة وحكمها. 14- تأييد كل الدعوات الهدامة والمبادئ المنحرفة كدعوى النبوة ونسخ الشريعة الإسلامية بها مع أنها قضية معلومة من الدين بالضرورة لا يجعلها مسلم سليم الفطرة والعقل وأوتي ولو يسيراً من العلم فإن ختم النبوة

بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية قال الله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬1) وفي أحاديث كثيرة يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه آخر الأنبياء لا نبي بعده ومن ادعاها فهو كاذب مفترٍ على الله تعالى وثبت هذا في قلب كل مسلم فجاء أهل الباطل بتأويلاتهم الفاسدة للنصوص وأفرغوها من مدلولاتها الحقيقية وألبسوها معاني زور هي منها براء كزعمهم أن خاتم بمعنى أفضل أو خاتم الأنبياء المشرعين أو أن خاتم بمعنى زينة كزينة الختم في الورق، لقد أفرغوا معنى ختم النبوة من معناه فذهبوا يدعون أنهم أنبياء وأنه يجب على كل مسلم أن يؤمن بهم بعد أن شنعوا على أهل السنة والجماعة وكفروهم لعدم انسياقهم مع هذه الضلالات المعلوم بطلانها من دين الإسلام بالضرورة وشغل أهل السنة بمقارعتهم والردود عليهم وذهبت أوقات وجهود كان ينبغي أن تستغل لرفع راية الإسلام خفاقة لولا تكالب أعداء الإسلام ومخططاتهم الخطيرة ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2) وما حفظه الله فإنه لا يستطيع أحد أن يضيعه. ثم وضعوا أمام أهل السنة عراقيل كثيرة في حرب ضروس معهم تمثلت من ضمن ما تمثلت فيه بث الفرقة وقيام الأحزاب التي قامت على الهوى والأنانيات البغيضة غير ملتفتين إلى النصوص المتظافرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بالتحذير من هذه المسالك التي يعج بها العالم اليوم خصوصاً العالم الإسلامي الذين لا يريدون أن يتعظوا بغيرهم بل يريدون أن يكونوا هم العظة وهو ما حصل بالفعل حينما اتبعوا سنن من كان قبلهم ¬

(¬1) الأحزاب: الآية40 (¬2) الحجر:9

شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو فكر أولئك في دخول جحر الضب لوجد من بعض المسلمين اليوم من يريد ذلك وهذا يدل على الانهزامية الكاملة والانبهار بما عند الغرب أو الشرق من مغريات الحياة الدنيا التي يعلمون ظاهراً منها وهم عن الآخرة هم غافلون مصداقاً لما أخبر الله به من أنه سيريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يعلموا أنه الحق وأن ما هم عليه إنما هو ابتلاء وإقامة للحجة عليهم وإلا فليسوا أقرب إلى رضاء الله من خلّص المؤمنين الذين لا يملكون تلك المادة التي يملكها أعداء الإسلام مع أن الواقع يشهد بما عليه حال أهل السنة من ارتفاع الكلمة والعزة حتى بين أظهر أعداء الإسلام فإن مساجدهم عامرة وشعائرهم قائمة قد حفظ الله بهم دينه وأعلى بهم كلمته وذلك بدون شك أنه بسبب تمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم وسيرهم على ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وهو الطريق الذي يأمن سالكه من التفرقة في السبل المتشابهة الكثيرة المؤدية إلى الضياع والهلاك والتمسك بهدى الصحابة رضوان الله عليهم أولئك الذين امتازوا بالذكاء ورجاحة العقل والأخذ من فم النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يسمع منه مهما كان صلاحه ورجاحة عقله أولئك هم الجماعة وهم الذين بشرهم نبيهم بأنهم ومن يتبعهم سيبقون ظاهرين على الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإذا كانت دراستنا ومناقشاتنا في هذه القاعة تخص فريقاً من أكرم الناس وهم أهل السنة والجماعة فلنبدأ بالتعريف بهم وإجلاء حقيقتهم وحقيقة مبادئهم والأدلة على ذلك. * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثالث عقيدة فرقة أهل السنة والجماعة

الفصل الثالث عقيدة فرقة أهل السنة والجماعة لقد ألف العلماء في بيان العقيدة السلفية المؤلفات الواسعة ملئت بها المكتبات الإسلامية بين مطولات ومتوسطات ومختصرات مطبوعات ومخطوطات. ومن العجيب أنه على كثرة ما كتب في ذلك فلا يزال الكثير من الناس يجهلون عقيدة هذه الطائفة ويجهلون كثيراً من مبادئها لأسباب كثيرة حسب ما يظهر لي: 1- بسب انصراف الناس عن مدارستها بجد. 2- لعدم وجود من يقدمها للناس في أماكن تجمعاتهم وبالصورة المرضية. 3- لقوة الدعايات ضد السلف وضد كتبهم. 4- لعدم تمكينهم وتمكين كتبهم من الانتشار في كثير من بلدان المسلمين لوقوف أعداء السلفية ضدها. ومهما وصل الشخص في علمه بها فإنه دائماً في حاجة إلى تجديد معلوماته ولهذا كلما قرأ الشخص عنها وفي كتب أصحابها ازداد معرفة واكتسب علماً جديداً وربما يعود هذا إلى كثرة ما كتب عنها وكثرة الأساليب المستخدمة في الكتابة عنها وسعة مفاهيم كتابها وكثرة ردودهم على أهل الباطل المناوئين لهم ودحض كل شبهة توجه لهم ولهذا فإن أهل السنة وعلومهم مثل الجداول وينابيع المياه العذبة متجددة على الدوام ولنا في

شهادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكبر شاهد ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. كما أن فرقة السلف أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وهم خير الفرق وأزكاها ولا تقارن بهم أي فرقة أخرى مهما بلغت في انتسابها إلى الكتاب والسنة. فقد اتضح منهاجهم القويم وشهد لهم النبي العظيم صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق والهدى وأنه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على الحق وهي فرقة قائمة بذاتها لا تعلق لها بالفرق الأخرى وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ظاهرين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وإنما نذكر ههنا في هذه العجالة على حد ما قيل (وبضدها تتميز الأشياء) كما أن معرفة هذه الطائفة وفهم مبادئها حق الفهم هو العلم والخير كله وبهذه المعرفة يستطيع المسلم الدفاع عن دينه ومبادئه ورد شبهات المبطلين وتفنيدها. فإن من حق معرفة طريقة السلف أهل السنة والجماعة فقد أمن العثار وسار في طري الأبرار. ولقد كنت في بداية تدريسي لهذه المادة أرى أنه يجب أن يرفع قدر أهل السنة أن يدرسوا ضمن الفرق الأخرى المنحرفة لأنهم هم الأساس وهم الدعامة القوية لحفظ السنة وليس فرقة طارئة كسائر الفرق ولكن حصلت القناعة بعد ذلك لإبرازها بالدراسة فقد ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ فرقة وطائفة ولا يضيرهم أن يذكروا مع ذكر الفرق المخالفة للحق بل إن ذكرهم يعتبر من إقامة الحجة على كل مخالف. * * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الرابع أسماء هذه الطائفة وألقابهم

الفصل الرابع أسماء هذه الطائفة وألقابهم 1- الألقاب الصحيحة أطلقت على أهل السنة أسماء وألقاب صحيحة تدل على حالهم وتطابق معتقداتهم هي كالرحيق بالنسبة لكل مؤمن صحيح العقيدة وكالشجى في حلق كل مبتدع مخرف وهي أسماء مشرقة أخذت من أوصافهم التي وردت على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أحوالهم وسلوكهم. فمن شكك فيها أو ردها فإنما ذلك لمرض في قلبه وعقيدة باطلة في نفسه كما هو شأن أهل الباطل في مقاومتهم دائماً للحق وأهله والتشنيع عليهم وذكرهم بالألقاب والأسماء المنفرة الكاذبة. وأسماء السلف الصحيحة التي أطلقت عليهم هي: 1- أهل السنة والجماعة. 2- السلف الصالح. 3- الفرقة الناجية. 4- أهل الحديث والسنة. 5- أهل الأثر. 6- الطائفة المنصورة. وفي ما يلي بيان هذه الأسماء وبيان أحقية السلف بإطلاقها عليهم.

1- أهل السنة والجماعة أ - التعريف بأهل السنة: 1- معنى السنة في اللغة هي الطريقة أو الطرق الواضحة والسلوك الطيب قال الجوهري: "السنن الطريقة يقال استقام فلان على سنن واحدة" أي على طريقة واحدة. وقال ابن الأثير مبيّناً المعنى اللغوي ومتعرضاً كذلك للمعنى الاصطلاحي في مادة "سنن" "قد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها والأصل فيها الطريقة والسيرة وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وندب إليه قولاً وفعلاً مما لم ينطق به الكتاب العزيز ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة أي القرآن والحديث". وبما ذكر وغيره يتضح أن معنى السنة في اللغة هي الطريقة أو الطريق وقد ورد في الحديث ما يؤيد ما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد مضر "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". وقد دل الحديث على أن السنة تنقسم إلى قسمين إما أن تكون سنة حسنة أو تكون سنة سيئة ولكل واحدة جزاؤها العادل.

2 - معناها في الاصطلاح: تطلق تسمية السنة على كل ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته ويطلق على المتمسكين بها أهل السنة وهي تسمية مدح لهم كما يطلق على المخالفين لها أهل البدعة تسمية ذم لهم. ومن كرامة الله لأهل السنة هدايته لهم إلى الانتساب إليها دون غيرها كما هو حال أهل الطرق البدعية فلم ينتسبوا إلى رأي ولا إلى شخص ولا إلى بلد أو قوم أو غير ذلك وهي مزية فيهم قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أما أهل الطرق البدعية فما أكثر انتسابهم إلى مشائخهم أو آرائهم أو بلداتهم وغير ذلك. ولهذا تجد أن الكثير من تلك التسميات والآراء لهم بل والأشخاص المتزعمين لهم يضمحلون ويندثرون مهما بلغوا من القوة والتمكين ومهما تطول بهم المدة قال الراغب "سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يتحراها" ومن الملاحظ أنه مع اتفاق كل المسلمين على هذا المفهوم للسنة فقد وقع بعض التفاوت في مفاهيم علماء كل فن. فالسنة عند المحدثين هي "ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو سيرة سواءً أكان قبل البعثة أو بعدها" بينما هي عند العلماء الذين يتتبعون الأحكام الشرعية العامة كالأصوليين يقتصرون في التعريف بها على أنها "ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير" وكالفقهاء الذين يبحثون عن حكم الشرع في أفعال المكلفين من حيث الوجوب أو عدمه حيث فسروا السنة بأنها خلاف الواجب

أي ما يثاب العبد على فعله ولا يعاقب على تركه كفعل المستحبات أو تركها. ويتحصل من أقوال العلماء أن المراد بالسنة عند الإطلاق ما يلي: 1- يراد بها كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2- يراد بها الحديث النبوي. 3- يراد بها العقيدة. 4- يراد بها التمسك بالكتاب والسنة وهدى الصحابة في كل الأمور سواء أكانت في الأمور الاعتقادية أو أمور العبادات. 5- يراد بها ما يقابل البدع وأهل هذا القول - السلف - يفرقون بين السنة والحديث لأن السنة ما يقابل البدعة والحديث ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد يكون الرجل محدثاً ولكنه ليس بسني. ويفهم من هذه الإطلاقات عموماً أن السنة يراد بها ما كان في أمر الدين بدليل قوله تعالى في الحث على التمسك بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1) وغير ذلك من الآيات وبدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"وقد أطلق على السلف أهل السنة لتمسكهم بها منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن تبعهم بإحسان والقرآن الكريم والسنة النبوية ¬

(¬1) النساء: الآية80

في مجال الاعتقاد والاستدلال لا فرق بينهما في وجوب العمل والتمسك بهما فهما وحيان إلا أن السنة النبوية صدرت على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم من كلام الله عزّ وجلّ وهذا هو اعتقاد أهل السنة كلهم المتمسكون بها حقيقة عدا من انحرف عنها من الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام (¬1) . ب - معنى الجماعة: تطلق الجماعة على الطائفة أو الفرق أو الأمة الذين يرتبطون بمنهج واحد وهدف واحد ولم يتفرقوا في الاعتقاد والسلوك وتطلق تسمية أهل السنة والجماعة - وهو المراد - على السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم إلى يوم الدين كما تقدم - وأطلقها بعضهم على أهل الحديث ولا ريب أن اقتران اسم أهل السنة بالجماعة يفيد مزية خاصة لأهل السنة إذ هم الجماعة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على الانضمام إليهم والسير في منهجهم حينما أخبر عليه الصلاة والسلام عن هلاك الطوائف إلا واحدة وهي الجماعة وهذا هو الحق والاعتقاد مهما كان من الخلاف وإنما نذكر الخلاف فيما يلي تتمة للبيان. الخلاف في المراد بالجماعة هذه 1- قيل الجماعة هم السواد الأعظم واختلف في المقصود بالسواد الأعظم فقيل هم كثرة الناس وهذا مردود فلا يلزم أن تكون الجماعة التي معها الحق هم الكثرة دائماً والله تعالى يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} (¬2) خصوصاً إذا فهم من السواد الأعظم العوام وغيرهم. ¬

(¬1) كالرافضة والخوارج وغيرهم من المنحرفين وهم يزعمون الانتساب إليها ويخالفونها بالتأويلات والهوى الفاسد. (¬2) الأنعام: من الآية116

وقيل السواد الأعظم هم العلماء العاملون بالحق المتبعون للسنة حتى لو كان عالماً واحداً وقوّى هذا القول كثير من العلماء فقد قيل: "وواحد كالأنف إن أمر عني". 1- أنهم العلماء المجتهدون في كل عصر إلا أنه يرد على هذا أنه ضيق موسعاً باشتراط الوصول لرتبة الاجتهاد ثم إنه تعريف غير جامع ولا مانع فإن كل فن له علماؤه المجتهدون فيه وعلماء السلف يدخلون دخولاً أولياً في عداد أهل السنة والجماعة الممدوحة. 2- أنهم خصوص الصحابة رضوان الله عليهم ولكنه قول غير راجح مع دخول الصحابة دخولاً أولياً في الجماعة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحكم على المسلمين بالهلاك ما عدا الصحابة فقط ولقوله: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". 3- أنهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير واحد وجب على الجميع طاعته إلا أنه يرد على هذا القول أن الحديث لم يرد في باب الإمارة وشأنها وإنما ورد في التحذير من التفرق. 4- أنهم جماعة على الحق أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الصفات دون تعيين لأسمائهم وبلدانهم (¬1) وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. وهذا هو الذي يترجح - والله أعلم - ولأهل السنة والجماعة نصيب من صحة تلك الأقوال كلها. ¬

(¬1) في بعض الرويات والآثار أن هذه الجماعة هم أهل الغرب ((أي الدلو الكبير وعم العرب)) وفي بعضها أنهم أهل الشام ورجحه شيخ اٌسلام والذي رجحه عامة العلماء أن هذه الطائفة لا يلزم أن تكون في مكان واحد من الأرض ويمكن أن يكون آخرهم بالشام عند انقضاء الأمر والله أعلم.

2 - السلف التعريف بالسلف في اللغة وفي الاصطلاح أ - في اللغة: "يقال سلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف" (¬1) وقد استدل الراغب لمجيء (¬2) السلف على المتقدم بقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} (¬3) وقوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} (¬4) وقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (¬5) . وقال ابن منظور ابن منظور: "قيل سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح" (¬6) . وهذا التعريف اللغوي للسلف عام يشمل كل من سبق وتقدم على غيره وهو دون المعنى الاصطلاحي للسلف في المفهوم الحقيقي لهم. والسلف الصالح قد تقدمونا وهم قدوتنا ولهذا فلا منافاة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي من تلك الناحية إلا من حيث الخصوص والعموم كما سيتضح هذا عند ذكر التعريف الاصطلاحي لهم فيما يلي: ب - التعريف الاصطلاحي: اختلف العلماء في المفهوم من إطلاق تسمية السلف على من تطلق وفي أي زمن أطلقت وهل هذا الوصف باق يصح الانتساب إليه أم لا؟ 1- ذهب المحققون من أهل العلم إلى أن مفهوم السلف عند الإطلاق ¬

(¬1) انظر الصحاح ج4ص1376. (¬2) المفردات للراغب ص 239. (¬3) الزخرف:56 (¬4) البقرة: الآية275 (¬5) النساء: من الآية22 (¬6) لسان العرب ج ص 331.

يراد به الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان وأتباع التابعين من أهل القرون الثلاثة الوارد ذكرهم في الحديث ومن سلك سبيلهم من الخلف وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله ومن قال بقوله ويظهر هذا في قوله: "مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف" (¬1) إلى آخر كلامه ولفظة أهل الحديث الواردة في كلام شيخ الإسلام يقصد بها عامة من يتمسك بالسنة النبوية وليس المراد ما تعارف عليه الناس اليوم في التخصصات العلمية بدليل قوله في معرض ثنائه على أئمة الحديث: "وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول وأعلمهم بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه وأعظمهم بحثاً عن ذلك وعن نقلته وأعظمهم تديناً به وإتباعاً له واقتداء به وهؤلاء هم أهل السنة والحديث حفظاً له ومعرفة بصحيحه وسقيمه وفقهاً فيه وفهماً يؤتيه الله إياه في معانيه وإيماناً وتصديقاً وطاعة وانقياداً واقتداءاً وإتباعاً مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم ورأياً وأصدق الناس رؤياً وكشفاً". إلى أن يقول: "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً واتباعه باطناً وظاهراً وكذلك أهل القرآن وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبها ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم" (¬2) . وفي هذا البيان الطيب يتضح أن أهل الحديث هم الذين يعلمونه ويعملون به أما من علمه ولم يعمل به فإنه ليس منهم بل لا فرق بينه وبين أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم ممن برزت جهودهم في خدمة ¬

(¬1) ج 6 ص355. (¬2) الفتاوى ج4 ص 85- 95.

الحديث وأصحاب المعجم المفهرس أقوى مثال وهم بخلاف أهل الحديث مع كثرة ما دونوه لتتم حجة الله عليهم. 2- وهناك من خصص لفظ السلف عند الإطلاق بالصحابة فقط. 3- ومنهم من خص لفظ السلف بالصحابة ومن تبعهم دون غيرهم. 4- ومنهم من خص السلف بالقرون الثلاثة فقط. ويتضح من هذه التعريفات أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين أن الصحابة هم السلف الصالح الأخيار الأبرار وأن أفضل الناس بعد الصحابة هم التابعون لهم بإحسان ثم أتباع التابعين ثم من سار على نهج الجميع دون تقييد بزمن. وأما من خص السلف فقط بالصحابة أو التابعين أو أتباعهم فقط أو صهم بزمن محدد فهو استحسان منه واجتهاد وليس له دليل فإن السلف ليسوا جماعة بخصوصهم أو في زمن بخصوصه وإنما السلف هم المتمسكون بالكتاب والسنة فإن المدار عليهما والعبرة بهما ولا ريب أن الصحابة لهم القدح المعلى في هذه النسبة لملازمتهم النبي صلى الله عليه وسلم وجودة أفهامهم وذكائهم ولهذا كان ما عملوا به حجة يجب العمل به وما تركوه يجب تركه بخلاف غيرهم بعد القرون الثلاثة وإن كان وصف السلف يشملهم بسبب تمسكهم بالشرع الشريف مع تفوق الصحابة عليهم بالفضل والأسبقية (¬1) . السلف والسلفية وبيان صحة الوصف وجواز الانتساب والاعتزاء إليه والرد على ما أنكر ¬

(¬1) الأسبقية لا تكون مزية إذا لم يصاحبها الالتزام بالكتاب والسنة فقد وجد في زمن الرسول صلى الله علسه وسلم وزمن الصحابة من لم يكن له أدنى فضل أو خير مثل المنافقين والمرتدين الذين سيقول الرسول صلى الله علسه وسلم لهم في يوم القيامة سحقاً سحقاً كما ثبت بذلك النص وعلى هذا فلا تظهر مزيتها إلا مع التحقيق والابتاع والانقياد.

ذلك لم يكن هذا الوصف مجرد لقب أو اسم أو ظهر صدفة على ألسنة الناس. لم يكن كذلك ولكنه نشأ عن أساس ثابت كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها لقد نشأ الاسم عن سلوك عميق لما كان عليه الصحابة ومن بعدهم بإحسان فاستحقوا هذا الاسم نتيجة عمل واقتداء والتزام بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. ولا ريب أن من اتصف بهذا الوصف يستحق أن ينتسب إلى السلفية أو سلف هذه الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان. ولا اعتبار لنبز أصحاب الأهواء والبدع وتزهيدهم عن هذه الفرقة الناجية ومن أراد أن يقف على الحق فليقرأ سيرة هذه الجماعة وليقف على البلاء الذي تحملوه في سبيل الدفاع عنها لتبقى جوهرة مكنونة صافية نقية. وفي تاريخ الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن جاء بعدهم من تلامذتهم وأتباعهم إلى يومنا الحاضر خير شاهد على استحقاق هؤلاء لهذا الاسم السلفية وعلى غبطة الانتساب إليهم الذي هو في النهاية انتساب إلى الإسلام الذي رضيه الله تعالى. وقد ظهر من كلام الشيخ أبي زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية والدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "إسلام بلا مذاهب" أن السلفيين هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم في القرن الرابع ثم تجدد ظهوره على يد الشيخ ابن تيمية في القرن السابع الهجري ثم جدده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة وقد

أخطأ الحقيقة كما أخطأها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي". حيث رد وبعنف على القول بأن السلفية لقب لفئة من الناس واعتبره خطأً وبدعة طارئة على المسلمين بزعمه وقد ظهر خطأه من تسمية كتابه هذا وقد ذهب إلى أن الاقتداء بالسلف ليس معناه اتباع آرائهم وأقوالهم ومواقفهم التي اتخذوها وسلوك طريقتهم وإنما يكون بالرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص وتأويلها وأصول الاجتهاد والنظر في المبادئ والأحكام (¬1) وهذا حكم قاصر وغير صحيح فإن السلفية ليست فترة زمنية ثم إن تفسيره الاقتداء بالصحابة بهذا التفسير لا يعتبر إتباعاً حقيقياً فإذا لم نتبعهم في آرائهم وفي أقوالهم وفي مواقفهم التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سلوكهم وطريقتهم في العبادات وفي المعاملات إذا لم نتبعهم في هذا كما يرى البوطي فماذا بقي لهم من فضل الصحبة والتلقي من النبع الصافي قبل أن تعكره مختلف الآراء والمذاهب والفرق. وأما ما يراه من إتباعهم يكون في الرجوع إلى ما احتكموا إليه عند الاختلاف فهذا أيضاً لا يمنع الاقتداء بهم وتقديم آرائهم على آراء من جاء بعدهم. على أن القواعد التي أشار إليها البوطي وأن الشافعي رحمه الله عملها حيث وضع قواعد أصول الفقه لم تكن قد بينت في الزمن الذي كان قبله فماذا يحكم عليهم البوطي (¬2) ولو أنه سلم بما اتفق عليه السلف لكان خيراً وأشد ¬

(¬1) انظر وسيطة أهل السنة بين الفرق ص 112. (¬2) وللدكتور صالح الفوزان جزاه الله خيراً تعقيبات قوية في الرد على أبي زهرة والدكتور سعيد البوطي فيما زعماه عن السلف في كتابه الجيد ((البيان لأخطاء بعض الكتاب)) انظر ص 127و 187 وانظر وسيطة أهل السنة بين الفرق ص 112 وص 113.

تثبيتاً ولأغناه ذلك عن تكلف القواعد والشروط وموقف العقل بالنسبة للنصوص في أخبار الآحاد وأخبار التواتر التي شغلته فإنها كلها مبنية على الاستحسان والاجتهاد على طريقة المتكلمين. والخلاصة من كل ما سبق أن مذهب السلف والانتساب إليه أمر لا غبار ولا اعتراض عليه وأنه لا يحق لأحد الانتساب إليه إلا إذا كان متبعاً قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً كما كان عليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وأما من حاد عنهم إلى كلام الفلاسفة وعلماء الكلام الباطل وإلى إتباع العقل دون الالتفات إلى النص فهو ليس على طريقتهم وإن انتسب إليهم لأنه انتساب غير حقيقي. 3- الفرقة الناجية الفرقة في اللغة اسم يطلق على الطائفة أو الجماعة من الناس: والناجية وصف لتلك الفرقة بالنجاة دون أن يكون له تعلق بالزمن والمقصود بهم هم أهل الحق ممن تمسكوا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على مدى الأزمان ولا عبرة بدعاوى المنحرفين أنهم هم تلك الفرقة الناجية. ووصفهم بالناجية لعله أخذ من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه" (¬1) أو لأن المتمسك بالوحيين سبيله النجاة أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة ... الحديث" ولا ريب أن من تمسك بكتاب الله وسنة نبيه أنه من الناجين بتوفيق الله له ينجو من الضلالة والفتن وينجو إذا ما مات على ذلك من عذاب الله وغضبه قال ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ ص 899 كتاب القدر.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك" (¬1) . وهذا الاسم - الفرقة الناجية - يشمل كل من اتصف بالعقيدة الصحيحة التي كان عليها الصحابة ومن استن بسنتهم واهتدى بهديهم وربما أخذت التسمية أيضاً من حديث افتراق الأمة حيث أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفرق كلها هالكة إلا واحدة هي الناجية (¬2) وهم الصحابة ومن تمسك بهديهم وهذا الوصف لا ينطبق إلا على السلف الذين اتبعوا الصحابة بإحسان. ويجب أن نلاحظ أن السلف حين تسموا بهذه التسمية لا يقصدون من ورائها الشهادة لأنفسهم بالجنة ولا تزكية أنفسهم وإنما المقصود بها إظهار ما هم عليه من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله الكريم وهما مصدر النجاة ولا يمنع أن تكون التسمية من باب التفاؤل أو من باب إظهار البراءة من المخالفين كما يرى البعض ولا مانع من ملاحظة كل ذلك. 4- تسميتهم أهل الحديث (¬3) والسنة كثير من العلماء يطلق هذه التسمية على السلف أهل السنة كشيخ الإسلام وغيره من رجال العلم. وإذا أطلقوا في تسميتهم فقالوا أهل الحديث والسنة فإنهم لا يريدون التقسيم إنما هما عندهم بمعنى واحد فالسنة هي الحديث والحديث هو السنة حسب ما يظهر من صنيع المحدثين من السلف. ولكن ينبغي الانتباه إلى أن بعض علماء السلف قد يطلق تسمية أهل ¬

(¬1) أخرجه البخاري مع الفتح ج 13ص 293 كتاب الاعتصام. (¬2) أخرجه ابن ماجه ج 2 ص 1322 كتاب الفتن. (¬3) الحديث: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله علسه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة - كما تقدم.

السنة احترازاً عن غيرهم من أهل البدع فتكون السنة عامة والحديث أخص ويظهر الافتراق في أبواب الاعتقاد عند هذا الاستعمال. وعلى هذا فهناك فرق بين مصطلح أهل السنة وأهل الحديث وإن عبر بأحدهما عن الآخر في أبواب الاعتقاد لما بينهما من التقارب في الغالب وإلا فقد يكون المرء من أهل السنة وليس من أهل الحديث من الناحية الصناعية أي ليس بمحدث وقد يكون من أهل الحديث صناعة وليس هو من أهل السنة فقد يكون مبتدعاً (¬1) . ولاشك في أن هذه التسمية شرف عظيم لرجال العقيدة الصحيحة الحاملين لواء علم الحديث المنتسبين إليه. 5 - أهل الأثر أطلقت الأثرية أو أهل الأثر على أهل السنة والجماعة والمراد بهم كل من تمسك بنصوص الكتاب والسنة ويريدون بالأثر ما أثر عن الله تعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم من تلك النصوص. وواضح أنهم لا يريدون به ما أصبح معروفاً عند بعض العلماء من تقسيماتهم للحديث إلى أقسام ومنها المأثور أو الأثر وهو ما وقف على الصحابي ولم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن السلف لا ينطبق عليهم هذا الاصطلاح إذ هم من أحرص الناس على التمسك بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ورفع إليه. وإنما يقصدون بالأثر الحديث عموماً فأهل الأثر أي أهل الحديث الملتزمون بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما ورد عن السلف من الصحابة ومن ¬

(¬1) انظر وسطية أهل السنة ص 118.

بعدهم من التابعين لهم بإحسان من آثارهم الصحيحة لأن رد الآثار الصحيحة إنما هو من سمة أهل البدع المتنطعين في دينهم الذين لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم مع أنهم يقدمون كلام مشايخهم وآبائهم على ما تفيده النصوص حمية وعصبية. ولكنهم يستكبرون عن الآثار التي هي أشرف وأرفع من كلام من جاء بعد الصحابة مهما بلغ في العلم والشرف. 6- تسميتهم الطائفة المنصورة: هذه التسمية للسلف أخذت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" (¬1) وعن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) : "ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله" وفي بعض الروايات: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين ... " (¬3) الحديث وقد فسّر العلماء هذه الطائفة بأنهم كل من تمسك بالكتاب والسنة وعمل الصحابة المجانبين البدع وأهلها وهم أصحاب الحديث الذي يعملون به قولاً وعملاً المجاهدون في سبيل الله تعالى. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النصر سيكون حليفهم إلى أن تقوم الساعة وهي بشارة عظيمة مفرحة لأهل الحق والواقع يشهد بذلك فكم من المؤامرات والخطط تبيت لهم قديماً وحديثاً ولكن الله تعالى بلطفه يخرجهم منها ويجعل لهم منها فرجاً ومخرجاً لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين إلى يوم القيامة وهؤلاء هم حفظته بإذن الله تعالى وقد تكفل الله عزّ وجلّ بنصرة من ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام ج 13 ص 293. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام ج 13 ص 293. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ج4 ص 485 باب ما جاء في الشام.

ينصر دينه وأن يجعل العاقبة الحسنة له في الدنيا والآخرة. وقد يفهم البعض أن هذا الحديث يدل على أن السلطة والحكم لابد أن يكونا بأيدي العلماء من أهل السنة. وهذا فهم خاطئ إذ لا يلزم من كونهم منصورين إلى قيام الساعة أن يكونوا بشكل حكومات ولا بد فإن الله تعالى ينصرهم بهذا وبغيره بلطفه العظيم كما هو الواقع فأحياناً يكون الحكم بأيديهم وأحياناً بأيدي غيرهم ولا يؤثر ذلك في سلوكهم الإيجابي أبداً. 2 - الأسماء والألقاب الباطلة التي ينبز بها أهل الباطل أهل الحق من السلف الصالح لم يتورع أهل الباطل في إطلاق مختلف الأسماء الذميمة والألقاب الباطلة على أهل الحق لينفروا الناس عنهم وعن عقيدتهم الصافية. وهو نفس المسلك الذي كان عليه المشركون تجاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث أطلقوا عليه أنه ساحر شاعر مجنون ... الخ. ورغم تلك الدعايات الكاذبة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد أنصاره وأتباعه فإن الحق بقي دائماً يتلألأ فوق رؤوسهم ويجذب الناس إليهم زرافات ووحداناً وبقي الباطل وأهله في تقهقر وذلة. وسوف لا يزال الأمر كذلك. ولأهل السنة أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وما دام وقد ظهر فضل أهل السنة واضحاً جلياً فإن ذامهم يدل على نقصه على حد ما قيل: وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني فاضل كما أن سب الصالحين بغير ذنب فيه زيادة لهم في الأجر وفيه رفع لدرجاتهم عند الله تعالى وقد تلمس المخالفون للسلف حججاً واهية وأقوالاً

كاذبة لفقوها ضد السلف وجاؤوا إلى أحسن الصفات عند السلف وجعلوها ذماً لهم وصدق من قال: وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم ولهذا فقد أصبح من علامات أهل البدع سبهم لأهل السنة والتشهير بهم واختراع الألقاب الباطلة لهم بل لم يقف نبز أهل الباطل لأهل السنة فحسب بل تعدوا في باطلهم إلى نبز رب العالمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون ذلك أن الله تعالى حينما أطلق على نفسه صفات وأوصافاً تمدح بها فإذا بأهل الأهواء يخترعون لها مفاهيم وأسماء باطلة شنيعة تنفر من يسمعها من اعتقادها إذا لم يكن على معرفة بأباطيلهم. والله تعالى وصف نفسه بصفات الكمال المعروفة فجاء هؤلاء وأطلقوا عليها لقب التشبيه والتجسيم والتمثيل {قل أأنتم أعلم أم الله} (¬1) . فإذا بتلك الصفات الحميدة في مكان الذم وكذلك وصف الله نفسه بأن له وجهاً ويدين الخ وسماها هؤلاء تركيباً وتبعيضاً لا يليق بالله تعالى بزعمهم فقالوا يجب أن ينزه الله عن التركيب والتبعيض ليصلوا إلى نفي صفاته ووصف الله نفسه بأنه مستو على العرش فسمى هؤلاء هذه الصفة تحيزاً وإثبات جهة محدودة لله تعالى بزعمهم ومن هنا حولوها إلى كلمة "استولى" ووصف الله نفسه بصفات الأفعال من الكلام والنزول ونحو ذلك ويسمى هؤلاء هذه الصفات أفعالاً لا توجد إلا في المخلوق بزعمهم فقالوا للعامة يجب أن ننزه الله عن صفات الأفعال التي هي حوادث وسموها أعراضاً والأعراض لا تليق بالله تعالى ومن هنا جاءهم مفهوم الإيمان الحقيقي بالله تعالى ¬

(¬1) سورة االبقرة: 140.

وبصفاته كما يزعمون فإذا هو أن ننزه الله تعالى عن التراكيب والتقسيم والأعراض والأغراض والتحيز والجهة وظن الجاهلون أن هؤلاء على شيء وأن ذلك هو ما يقتضيه تنزيه الله ولم يعلموا أن هؤلاء هم من أشد الناس إعراضاً عن الله تعالى وما يليق به ومن أشدهم محادة لرسوله صلى الله عليه وسلم ولسائر المؤمنين وإتماماً لمحاربتهم أهل السنة وتنفير الناس عنهم رأوا لزاماً أن ذلك لا يتم إلا بإطلاق الألقاب الشنيعة والمنفرة على أهل السنة فكان مثلهم كما قيل قديماً "رمتني بدائها وانسلت" فقد ألقوا بالعيوب التي هم أحق بها ألقوا بها على أهل السنة كذباً منهم وزوراً دون رادع من إيمان أو ضمير لكي ينتقص الناس أهل السنة بينما نجدهم قد تعاظموا أنفسهم واستكبروا ولهذا فقد أطروا أنفسهم بأسماء وبألقاب عديدة وزكوا أنفسهم والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1) ظناً منهم أن الحق وأهله سيندثرون {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (¬2) وما تكفل الله بحفظه فلن يضيع أبداً. فمن الأسماء والألقاب التي أطلقها عليهم أهل الباطل نبزاً لهم: 1- المشبهة - النقصانية - المخالفة - الشكاك وتنبزهم بهذه الألقاب الجهمية لإثباتهم صفات الله تعالى. 2- الحشوية - النابتة أو النوابت - المجبرة المشبهة وتنبزهم بهذه الألقاب المعتزلة والزنادقة وسائر أهل الكلام والخوارج. 3- المجبرة أو الجبرية وتنبزهم بهما القدرية. ¬

(¬1) لنجم: من الآية32 (¬2) يونس:82

4- الناصبة أو النواصب - العامة - الجمهور - المشبهة - الحشوية وتنبزهم بها الرافضة. 5- المشبهة - المجسمة - الحشوية - النوابت - الغثاء - الغثراء وتنبزهم بها الأشاعرة والماتريدية. وبهذا يتضح أن أهل الانحراف قد يتفقون وقد يختلفون في إطلاق بعض الألقاب الباطلة على أهل السنة والهدف بينهم مشترك. 1- فأما إطلاقهم عليهم مشبهة فقد تصور هؤلاء المبطلون أن السلف حينما أثبتوا تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته لورودها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصوروا أن هذا الإثبات يقتضي نشبيه الله بخلقه لأنهم لم يدركوا من دلالات هذه الأسماء إلا ما أدركوه من تعلقها بالمخلوق وفاتهم الفرق الذي لا يعلمه إلا الله بين الخالق والمخلوق. وقد أثبت السلف أن هذا التصور الخاطئ لتلك الطائفة هو الذي جعلهم بحق مشبهة وليس أهل السنة الذين لم يثبتوا فيها أي شبه بين الخالق والمخلوق إلا مجرد التسمية مع معرفة معنى الصفة والتقويض في الكيفية فإن أولئك لم ينفوها عن الله إلا بعد أن شبهوه بخلقه فأي الفريقين أولى بتسمية المشبهة أهل السنة أم أولئك أهل الباطل من الجهمية الذين هم أول من ولج باب التشبيه الخطير ونفى عن الله تعالى ما أثبت لنفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم وشبهوه بالمعدومات حين أطلقوا عليه كل صفات السلوب ورموا أنبياء الله تعالى مثل موسى وعيسى ومحمداً عليهم صلوات الله وسلامه بأنهم مشبهة في قول موسى كما حكى الله عنه أنه قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} (¬1) وفي ¬

(¬1) لأعراف: الآية155

قول عيسى ابن مريم: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (¬1) وفي قول محمد صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا" (¬2) فإن كان الأنبياء مشبهة فمن هم المنزهة؟ لو كان لهؤلاء عقول سليمة وفطر مستقيمة لما أقدموا على هذا المعتقد الباطل والذي يكاد أن لا يكون له نظير في جرأته وحماقته. 2- وأما زعمهم أن أهل السنة نقصانية فلقولهم أن الإيمان يزيد وينقص فلا ريب أنهم يكذبون بهذا النبز قول الله عزّ وجلّ وقول نبيه صلى الله عليه وسلم في إثبات زيادة الإيمان ولردهم النصوص الواردة في هذا حيث زعموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأما أهل السنة فإنهم لا يختلف منهم إثنان في أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي كما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم مثل قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} (¬3) . وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} (¬4) . وآيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم كلها تثبت أن الإيمان يزيد وما قبل الزيادة قبل النقص حتماً. ووردت أحاديث كثيرة أيضاً في هذا تؤكد كلها زيادة الإيمان ونقصه قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة وأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" (¬5) . ¬

(¬1) المائدة: الآية116 (¬2) انظر صحيح البخاري ج 3 ص29 ومسلم ج 1 ص 521. (¬3) لأنفال: الآية2 (¬4) مريم: الآية76 (¬5) البخاري الفتح ج1 ص51 ومسلم في باب شعب الإيمان ج1 ص 210.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (¬1) . والأحاديث في هذا كثيرة وإنما المقصود التنبيه على صحة عقيدة السلف وبطلان عقائد المخالفين في قضية زيادة الإيمان ونقصه وأن تسمية السلف نقصانية تسمية خاطئة سببها الجهل. والسلف كلهم مطبقون على أن الإيمان يزيد وينقص ووردت عنهم روايات كثيرة تؤكد هذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: "الإيمان يزداد وينقص" (¬2) . قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه"وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: "هلموا نزدد إيماناً فيذكرون الله عزّ وجلّ" (¬3) إلى آخر النصوص المستفيضة عن السلف وعلى هذا فإن السلف أتوا بالكمال المطلوب حسب ما أفادته النصوص فكيف يكونون نقصانية وما النقصانية إلا من نقص عن العمل بالنصوص الشرعية وسرق مدلولاتها الواضحات كالجهمية المشبهة ومن تبعهم وعلى كل حال فلا عبرة بقول أهل البدع أن السلف نقصانية لأنهم يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه فإنهم على الحق في هذا مستندين على ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف هذه الأمة كما ترى أخي القارئ الكريم. ولولا أن المخالفين قد كابروا عقولهم وعاندوا ليتيقنوا من أنفسهم أن الإيمان يزيد وينقص كما يجده كل شخص من نفسه في مختلف الحالات فمن زعم أنه على حد سواء دائماً في اتجاهه ورغبته ورهبته إلى الله فقد افترى على ¬

(¬1) صحيح مسلم كتاب الإيمان ج 1 ص 50. (¬2) الشريعة ص111. (¬3) انظر الشريعة للآجري ص 112.

نفسه وأراد أن يغالطها فمن ذا الذي يكون على حالة واحدة طوال وقته ثم أليس كذلك أن من المسلمين به أن الناس يتفاوتون في إيمانهم وتصديقهم أيضاً حسب القرائن وما وقر في القلب من حب الله عزّ وجلّ وتصديق الأنبياء وهل يحق لأحد أن يزعم أن إيمانه وتصديقه مثل إيمان خير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان وأهل معركة بدر والمؤمنون الذين اتبعوه في ساعة العسرة. إن من زعم ذلك فقد جانب الصواب. 3- وأما تسميتهم لأهل السنة مخالفة. فنعم أن أهل السنة مخالفة لأهل الأهواء والبدع بل ومعادية ويكفي أنهم من أشد الناس اتباعاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قيمة لمخالفتهم أهل الأهواء وما يقصده هؤلاء من أن السلف مخالفة للحق فإنه اتهام باطل هم أحق به وليس أهل السنة فإن القول إذا لم تعضده الأدلة الصريحة الواضحة لا يسمى حقاً ولو زعم قائله أنه حق وهذه المخالفة لأهل البدع هي من أجمل المخالفات بل كانوا يتقربن بها إلى الله تعالى. 4- أما تسميتهم لأهل السنة بالشكاك من قبل المرجئة فإنها تسمية ظالمة لأن السلف لم يشكوا في دينهم ولا في أخبار ربهم ونبيهم ولا في شيء ثبت بالكتاب والسنة فالمرجئة أولى بهذا النبز لشكهم - بل لردهم - ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم ثم هم لا يملكون أي دليل على أن السلف تطرق إليهم الشك فيما يعتقدونه مما ثبت به النص وأما مجرد دعواهم أن السلف شكاك فليس بدليل كما أن زعمهم أن السلف يشكون في إيمانهم بسبب تجويزهم الاستثناء فيه فهذا بسبب عدم معرفتهم المقصود بكلام السلف حينما أجازوا الاستثناء وذلك أنهم لم يجيزوه على سبيل الشك في إيمانهم ولكنهم أجازوه على سبيل التواضع وعدم تزكية

النفس المنهي عنه ثم لعلمهم أن الإيمان يشتمل الإيتان بكل الأعمال المأمور بها واجتناب كل الأعمال المنهي عنها وهذا باب واسع فخافوا أن يثبتوه على وجه الجزم ويكونون قد قصروا في جانب منه وبهذا يتضح أنه لا وجه لتسميتهم بالشكاك وربما يكون تحويرهم الاستثناء على سبيل التواضع لله تعالى ولا مانع من حصول كل ذلك (¬1) . 5- وأما بالنسبة لنبزهم لأهل السنة بأنهم حشوية: فهو بمعنى أنهم حشو الناس أي لا قيمة لهم أو بمعنى أنهم يروون الأحاديث لا يميزون بين صحيحها وسقيمها سواء أكانت صحيحة أو ضعيفة أو موضوعة أو متعارضة أو بمعنى أنهم مجسمة لله تعالى بسبب إثباتهم صفات الله تعالى وعدم نفيها أو تأويلها فانظر أخي القارئ إلى هذه الجرأة للمعتزلة ومن شايعهم كيف يفترون الكذب على السلف ثم إذا كان خيرة الناس لا قيمة لهم ولا اعتبار بكلامهم فلمن تكون القيمة والاعتبار؟ ألمن اتبعوا أهواءهم وحاربوا الله وردوا كلامه بشبهات ملاحدة الفلاسفة وأهل الكلام الباطل؟ أم لمن اتبع هدى الله تعالى وآمن به ظاهراً وباطناً؟ ولكن ما الذي يضير أهل السنة من السلف احتقار هؤلاء لهم بعد أن أكرمهم الله وأثنى عليهم في كتابه الكريم وأثنى عليهم نبيه وصفهم بالطائفة المنصورة القائمة على الحق إلى أن تقوم الساعة. أما زعمهم أن السلف يروون الأحاديث كيفما اتفق فهي دعوى تدل على ضحالة معرفتهم بطريقة المحدثين وما امتازوا به من خدمة السنة من فحص الأحاديث وغربلتها كما يغربل الدقيق أو أشد. ¬

(¬1) انظر وسطية أهل السنة بين الفرق ص 130.

وفحصهم كذلك لرجال الأسانيد فرداً فرداً حتى ليخيل للقارئ والسامع أنه ما من راوٍ للحديث إلا وكأنه قد عاش مع أهل السنة أهل الحديث في منزل واحد ومن تتبع طريقة السلف في رواية الأحاديث عرف عظم احتياطهم ومدى الجهود المباركة التي خدموا بها سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأما تجسيم الله تعالى فحاشا أن يكون السلف مجسمة بل هم أعداء المجسمة والمحاربين لهم فإن مذهب السلف هو الابتعاد عن إطلاق مثل هذه العبارات على الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً حتى يستفسروا من قائلها لأنها تحمل معنى حقاً ومعنى باطلاً وعلى حسب ما يريد المتكلم بهذا يحكم السلف. وعن تسمية أهل الباطل لأهل السنة حشوية يقول شيخ الإسلام رحمه الله في رده وذبه عنهم. فقد تبين أن الذين يسمون هؤلاء وأئمتهم حشوية هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه وأئمة هؤلاء أحق بكل علم نافع وتحقيق وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال المنكرون عليهم المكذبون لله ورسوله. فإن نبزهم بالحشوية إن كان لأنهم يروون الأحاديث بلا تمييز فالمخالفون لهم أعظم الناس قولاً لحشو الآراء والكلام الذي لا تعرف صحته بل يعلم بطلانه. وإن كان لأن فيهم عامة لا يميزون. فما من فرقة من تلك الفرق إلا من اتباعها من هو من أجهل الخلق وأكفرهم. وعوام هؤلاء هم عمار المساجد بالصلوات وأهل الذكر والدعوات والحجاج البيت العتيق والمجاهدون في سبيل الله وأهل الصدق والأمانة وكل خير في العالم فقد تبين لك أنهم أحق

بوجوه الذم وأن هؤلاء أبعد عنها وإن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم فيما اختصهم الله به من الوراثة النبوية التي لا توجد إلا عندهم (¬1) . 6- وأما نبزهم لأهل السنة بأنهم نوابت بمعنى أن أهل السنة يشبهون نوابت الأشجار الصغيرة. أي أنهم صغار في العلم والمعرفة كصغار النوابت من الأعشاب التي لم تكتمل قوتها ونضجها. أو أنهم نوابت شر نبتوا في الإسلام مبتدعين فيه مغيرين له بزعمهم فإن هذا النبز من الافتراءات الكاذبة على أهل السنة الذين هم أساس العقيدة وحماتها الذين تربوا على فهمها والعمل بها ولم يعرفوا أو يعملوا بغيرها مما جاءت به الفلسفات الإلحادية وعلم الكلام الباطل والحقيقة أن نبزهم لأهل السنة بهذا الاسم يصدق عليه أنه من باب قلب الحقائق والمغالطات المكشوفة. فإن الأحق بتسمية النوابت هم أهل الكلام المذموم والفلسفات الباطلة الذين نبتوا دون علم مسبق بالكتاب والسنة وإنما نبتوا على علم الكلام وأنواع الفلسفات المنحرفة التي لم تعرف عند المسلمين إلا بعد أن نبت هؤلاء فيهم. وتسلطوا على معاني النصوص فعطلوها عن مدلولاتها وقالوا إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا استواء، إلى آخر أوصافهم السلوبية التي مفادها في النهاية إنكار وجود الله تعالى الذي تضمنه قولهم أن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا يحس ولا يشم ولا يشار إليه.. الخ. مما جرأ الملاحدة على القول بأنه لا فرق بين المنكرين لوجود الله ¬

(¬1) الفتاوى ج4 ص 87.

تعالى والواصفين له بتلك الصفات الجهمية الاعتزالية التي تدل أخيراً على إنكار وجوده سبحانه وأنه لا مكان له إلا في الذهن وافتراضاته الخيالية إذ أن شيئاً ليس هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا يحس ولا يشم ولا يشار إليه أمر لا يقبله عقل ولا يقره منطق. 7- أما نبزهم لأهل السنة بأنهم جبرية أو مجبرة أو قدرية فإنه بالتأمل في مذهب القدرية والجبرية وأهل السنة يتبين الحق من يستحق اسم الجبرية أهل السنة أم المبتدعة من خلال معرفة ما يلي: 1- مذهب القدرية المحتجون بالقدر على الله تعالى وهم المشركون. 2- مذهب الجبرية. 3- مذهب أهل السنة. - فالقدرية المحتجون بالقدر هم الذين يزعمون رضى الله عن كل عمل يعملونه ويحتجون على الله بالقدر والمشيئة فيقولون قدر الله علينا فكيف يعاقبنا؟. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬1) الآية. ومقصودهم أن الله تعالى لو كان يكره ما هم عليه من الشرك والسلوك لغيّر ذلك وعاقبهم ولكنه قد شاءه ورضيه وبذلك فلا عقوبة عليهم لأن الله قدره عليهم وجبرهم عليه لمشيئته النافذة له. وفي مقابل هؤلاء جاءت فرقة أخرى تنفي أن يكون لله تعالى أي أثر في فعل الإنسان تركاً أو فعلاً بل الإنسان هو الذي يخلق فعله كما يريد. ¬

(¬1) النحل: الآية35

وقد وصل الغلو بهؤلاء إلى القول: "بأن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وإن ما يفعله العباد أيضاً" لا يعلم به إلا بعد وقوعه فلا تأثير له في أي فعل يفعله العبد وهذا مذهب غلاة القدرية وقد انقرضوا فيما يذكره عنهم العلماء إلا أن المتأخرين منهم يثبتون علم الله بالأشياء قبل وقوعها ولكنه لا يتدخل في أعمال البشر بل هم الذين يخلقونها كما يريدون فهؤلاء القدرية (المعتزلة) هم نفاة القدر عن الله تعالى وهم ومن سبقهم على ضلال. وأما الجبرية: فهم على النقيض من مذهب القدرية في أفعال العباد لأن المعتزلة القدرية لا يقولون بأن الله قدر على العبد فعله ولا جبره عليه فسلبوا عنه القدرة. بينما الجبرية على النقيض من ذلك يقولون كل عمل يعمله العبد فإنه مقدر عليه من الله ومجبور على فعله فهو كالريشة في مهب الريح فإن الله هو الفاعل الحقيقي بقوته وليس للعبد إلا نسبة الفعل إليه عن طريق المجاز، كما يقال تحركت الشجرة ونحو ذلك فسلبوا عن العبد القدرة والمشيئة التي أخبر الله تعالى عنها وجعلوا العبد أشبه ما يكون بالجماد المسير من غيره وإذا كان مذهب القدرية والجبرية هو ما تقدم فإن مذهب السلف بخلاف ذلك كله ومعنى هذا أنهم لا تصح تسميتهم لا قدرية ولا جبرية. فإن معتقد أهل الحق أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد تنسب إليهم حقيقة فإذا صلى أو صام أو سرق أو زنى فهو فعلة حقيقة وأيضاً بمشيئته التي لا تخرج عن إطارها العام عن مشيئة الله تعالى لها وخلقه لها كوناً ولو شاء الله لما تمكن العبد من أي فعل فالله هو الخالق الحقيقي لها والعبد هو الفاعل الحقيقي لها بتمكين الله له مع ملاحظة الفرق بين مشيئة الله الكونية والشرعية.

ويتضح من خلال ما تقدم ما يذكره أهل السنة من أن الجبرية أصابوا في قولهم أن الله هو الخالق لأفعال العباد بقدرته الكونية وأن القدرية أصابوا أيضاً في قولهم أن العبد هو المتسبب في فعله وبقدرته وهو مسؤول عنه ولكن الخطأ في قول الجبرية يكمن في زعمهم أن العبد لا فعل له ولا قدرة له وإنما هو مجبور والفاعل هو الله تعالى وأما الخطأ في قول القدرية فيكمن في قولهم أن العبد هو الذي يخلق فعله بقدرته وإرادته دون أن يكون لله تعالى تدخل في ذلك والحق في ذلك كله هو ما هدى الله إليه أهل طاعته كما سبق مستدلين بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (¬2) وغير ذلك من الآيات. 8- وأما نبزهم للسلف بأنهم ناصبة فقد كذب الرافضة وافتروا أن يكون أي شخص من السلف قد نصب العداوة لأهل البيت أو للرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ابتداءاً بعلي رضي الله عنه ثم جميع أهل البيت وهذا النبز دلالة قاطعة على جهل الرافضة بمذهب السلف في أهل البيت لأنهم لم يقرؤوا لهم ولم يطلعوا على كلامهم ومعتقدهم فيهم فأيهما أولى بهذا النبز الرافضة الذين نصبوا العداوة لكل المسلمين ابتداءًا بالصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وبأهل البيت الذين لاقوا المصائب المتتالية عليهم بسبب مؤامرات الرافضة وخذلانهم لهم في أكثر من موقف والشواهد على هذا أكثر من أن تحصر. أيهما أولى بهذا النبز هؤلاء أم السلف الذين يترضون عن كل واحد من أهل البيت ما دام صالحاً ويفضلونه على غيره بتلك الصفة ويقدمونه ولا ¬

(¬1) الإنسان: الآية30 (¬2) البقرة: الآية253

يتبرؤون من أحد من المسلمين ما دام على الإسلام والتزام القرآن والسنة وقاعدة الرافضة "لا ولاء إلا ببراء" من أكبر الأدلة على بغضهم خيرة الصحابة الكرام وجرأتهم على تكفيرهم مخالفة لما ثبت من فضلهم في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 9- وأما نبزهم لمن عداهم من السلف وسائر المسلمين بالعامة فهو لقب تشنيع في مقابل تسميتهم لأنفسهم الخاصة وهذه التزكية الكاذبة لأنفسهم شابهوا فيها اليهود الذين سموا أنفسهم شعب الله المختار وسموا من عداهم بالجوييم فهل هؤلاء الباطنية هم خاصة الله بينما أحباءه ومتبعي أمره ونهيه هم العامة؟ الذين لا اعتبار بهم ولا قيمة لهم؟ بل أيهما العامل رجل متبع للنصوص الثابتة الموافقة للحق والعقل أم رجل متبع لهواه متدين بالخرافة يصدق ما لا يصدقه عاقل من الغلو في أشخاص مثلهم مثل غيرهم من البشر الذين قال الله فيهم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وهذه التسمية لمن عداهم بالعامة هي مثل تسميتهم لمن عداهم بالجمهور ومن العجيب أن يحكموا على كل المسلمين بصفة واحدة بينما يقابل تلك التسمية تسمية واحدة لهم "الخاصة" الدالة على تعاليهم وغرورهم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلالة فكيف اجتمع المسلمون كلهم على الضلالة ولم يخرج عنها إلا هؤلاء الروافض الذين يكفرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويتهمون أم المؤمنين وينتظرون مهدياً خرافياً يأتي بقرآن غير القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون أن الأئمة يعلمون الغيب ولا يموتون إلا باختيارهم إلى غير ذلك من العقائد التي جمعها الكليني في كتابه الذي يقدسونه "الكافي" وغيره من كتبهم التي تدل على تطاولهم

على سائر المسلمين دون أي دليل من عقل أو نقل غير ما زين لهم من سوء معتقداتهم المعبرة عن جهلهم وبعدهم عن سبيل المؤمنين {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} (¬1) . 10- وأما نبزهم لأهل السنة بأنهم مجسمة لإثباتهم صفات الله تعالى كما جاءت في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة. فهو نبز أبان عن جهلهم بحقيقة عقيدة السلف وأبان عن قصورهم في الفهم السليم لنصوص الوحيين فإن لفظ التجسيم عند السلف هو من الألفاظ التي يجب التحرز منها عند إطلاقها على الله تعالى ولا بد أن نسأل من أطلقها عن مراده بالجسم فإن أراد بإطلاق الجسم على الله معناه في لغة العرب من أنه يوصف بصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب وأنه مستو وأنه تصح الإشارة إليه ويصح أن يسأل عنه بأين وأن له وجهاً ويدين فإطلاق الجسم بهذا المعنى صواب مع أن القائل مخطئ في إطلاق هذه العبارة التي أحدثها علماء الكلام وليكْتفِ بالألفاظ الشرعية مثل ليس كمثله شيء وله المثل الأعلى وقل هو الله أحد وغير ذلك. وإن أراد بإطلاقه نفي الجسم عن الله تعالى أنه ليس جسماً مثل سائر الأجسام التي تتكون من أجزاء متفرقة فهو صواب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء ومع تصويبه فإنه مخطئ في إطلاق هذه العبارة التي أحدثها علماء الكلام فإنه لم يعهد عن السلف أن أطلقوا لفظ الجسم على الله لا نفياً ولا إثباتاً فإن كان ولا بد من إطلاقها فلتكن بالألفاظ الشرعية التي تدل على تنزيه الله تعالى على الإطلاق مثل ليس كمثله شيء وقل هو الله أحد وله المثل الأعلى وغير ¬

(¬1) النساء: الآية38

ذلك من الألفاظ العامة المشتملة على التنزيه الصحيح كما تقدم وأما إن أريد بهذا الإطلاق نفي الجسمية عن الله تعالى بمعنى نفي صفاته الثابتة بالكتاب والسنة كالاستواء والنزول والوجه والسمع والبصر إلى آخر صفاته عزّ وجلّ - وهو ما يهدف إليه علماء الكلام فهذا النفي باطل بهذا المعنى لأن إثبات هذه الصفات لا يلزم منه وقوع التشبيه الذي حذره هؤلاء المبطلون بزعمهم فإن تصور إثبات الصفات أنه يقتضي التشبيه هو نفس التشبيه المذموم فإن النافي للصفات لم ينفها إلا بعد أن أصبح مشبهاً فيها فوقع في الخطأ الذي جره إلى خطأ أكبر منه وهو إثبات ذات خالية عن الصفات وهو أمر لا يمكن وقوعه إلا في تخيلات الذهن وهي تخيلات فاسدة وأما في خارج الذهن فلا يمكن وجودها. وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فمن قال أنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل" أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلاً في شيء من صفاته فهو مبطل ومن قال أنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل ومن قال أنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا قوله باطل وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيماً تلبيس منه فله إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسماً فقد أبطل وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسماً مركباً من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة أو إن هذا يقتضي أن يكون جسماً والأجسام متماثلة قيل له أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة وفي أنها مركبة فلا يقولون

أن الهواء مثل الماء ولا أن الحيوان مثل الحديد والجبال فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلاً لخلقه إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة والله تعالى قد نفى المماثلات في بعض المخلوقات وكلاهما جسم كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬1) . مع أن كلاهما بشر فكيف يجوز أن يقال إذا كان لرب السماوات علم وقدرة أن يكون مماثلاً لخلقه والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (¬2) . ومن قال إن السلف مجسمة فقد افترى عليهم لأنهم من أبعد الناس ومن أشدهم تحذيراً من إطلاق العبارات التي فيها حق وصواب وانحراف وبطلان ومنها إطلاق الجسمية على الله تعالى فإن السلف يمنعون منعاً قاطعاً من إطلاقها على الله تعالى ولكن في حال إطلاقها يقيدونها بما سبق أن عرفته فكيف يصح وصفهم بعد هذا بأنهم مجسمة؟ وهل يصح أن يوصف النافي للشيء بأنه مثبت له؟. 11- وأما نبزهم لهم بأنهم غثاء وغثراء فهو بمعنى أن أهل السنة هم كالغثاء الذي يحمله السيل عند انحداره وكما ورد في الحديث "ولكنكم غثاء كغثاء السيل" (¬3) . والغثراء بمعنى سفلة الناس وأراذلهم والمعنى بهذا النبز الباطل أن أهل السنة هم سفلة الناس الذين هم كزبد السيل أي لا خير فيهم ولا نفع. ¬

(¬1) محمد: من الآية38 (¬2) انظر مجموع الفتاوى ج 17 ص 317. (¬3) أخرجه أبو 4/111 وأحمد 5/ 278 من حديث ثوبان رضي الله عنه.

وهذه مغالطة ظاهرة وظلم واضح ويستطيع أي شخص أن يتبين صحة هذا حينما يتصور أن الناس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلوا على الهدى الذي تركهم عليه المصطفى إلى أن نبتت الدعوات الهدامة والآراء الضالة بسبب ترجمة كتب اليونان واستعلاء الأهواء فأي الفريقين يستحق هذا اللقب الذين بقوا على الحق ولا يزالون عليه وهو الأصل في المسلمين أم الذين انحرفوا وأخذوا بآراء اليونان وفلاسفتهم؟ وقد دخل الصحابي عائد بن عمرو على عبيد الله بن زياد فقال أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن شر الرعاء الحطمة فإياك أن تكون منهم فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال عائد رضي الله عنه وهل كانت لهم نخالة إنما النخالة كانت بعدهم وفي غيرهم (¬1) . 12- وقد نبزوهم أيضاً بتسميتهم "زوامل أسفار" تشبيهاً لهم بالجمال التي يحمل عليها و "أصحاب أقاصيص وحكايات وأخبار" وكل هذه الأوصاف هم منها براء. وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني فاضل وفي الرد عليهم يقول أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني رحمه الله "وفي الحقيقة ما ثلموا إلا دينهم ولا سعوا إلا في هلاك أنفسهم وما للأساكفة (¬2) وصوغ الحلي وصناعة البز وما للحدادين وتقليب العطر والنظر في الجواهر أما يكفيهم صدأ الحديد ونفخ في الكير وشواظ (¬3) الذيل والوجه وغيرة في الحدقة وما لأهل الكلام ونقض حملة الأخبار " (¬4) . وهذا النقد يذكر القارئ بالمقالة ¬

(¬1) انظر أبو داود 4/ 200 الترمذي 5/ 44 وابن ماجه 1/15 وأحمد 4/ 126. (¬2) الخرازون الذين يصنعون الخفاف. (¬3) اللهب الذي لا دخان له. (¬4) الانتصار لأصحاب الحديث ص 2

المشهورة بين عامة الناس "رحم الله امرأ عرف قدره فوقف عنده". ويصدق كلام السمعاني في اقتحام هؤلاء لما لا يحسنونه ما قرروه في عقائدهم من المتناقضات والجهل الشنيع من حيث ظنوا أنهم وصلوا إلى العلم الغزير فكانوا مثل التي نقضت غزلها بعد إحكامه في كل مرة أو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وقد قال عنهم من تبين له خطر ما هم عليه من العقائد الفاسدة يا ليتني أموت على دين أمي أو نحوه من الكلام الذي يتحسر فيه على ما فات من سنين عمره التي قضاها في الاشتغال بعلم الكلام وفلسفة اليونان. * * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الخامس ما هي عقيدة السلف وما هو منهجهم في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها؟ وما معنى كلمة عقيدة

الفصل الخامس ما هي عقيدة السلف وما هو منهجهم في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها؟ وما معنى كلمة عقيدة العقيدة هي ما يعتقده الشخص في قرارة نفسه ويعقد العزم عليه ويراه صحيحاً سواء أكان صحيحاً في حقيقة الأمر أم باطلاً. ومن هنا فإن عقيدة السلف التي يعتقدونها في قرارة أنفسهم وقد عقدوا العزم على العمل بها هي جملة ما أخذوه عن كتاب الله وسنة نبيه وهو الاعتقاد الصحيح والواقع الحق الذي لا يزيغ عنه إلا هالك بخلاف عقائد غيرهم الذين خلطوا بعلم الكلام وآراء الفلاسفة فجاءت نتاجاً مشوهاً خصوصاً في ما يتعلق بأسماء الله وصفاته وبعضهم لم يقف عند هذا الحد بل تعدى هذا الخطأ إلى أخطاء أخرى تتعلق بالنبوات وبالسمعيات بسبب تأثرهم بالأفكار المنحرفة فإذا بعقائدهم تقوم على خليط من الآراء والأفكار المنحرفة بأدلة متنوعة إما من القرآن الكريم الذي حرفوا معانيه وأولوها لتوافق أهواءهم أو من السنة النبوية التي لا يميزون في قبولها بين الصحيح والضعيف والمكذوب وغيره سواء أكان بسند أم بغير سند ولا يهمهم من الراوي إلا أن يكون على وفق معتقدهم أو من المكاشفات التي يزعمون أن الله يخاطبهم بها أو من الأحلام المنامية أو من التقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما يدعون كذباً وزوراً أو من العلم اللدني الذي يقذفه الله في قلوبهم كما يدعون أو من الخرافات والأساطير التي

لا تصلح إلا في سمر العجائز بالليل لأن تلك كلها في ميزان السلف أمور مرفوضة لانقطاع التشريع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبق في مفهوم السلف إلا الاجتهاد حول فهم النصوص واستخراج الحق منها. وقد ذكر بعض العلماء أن أهل الأهواء إزاء السنة النبوية ينقسمون إلى فريقين: فريق لا يتورع عن ردها وإنكارها إذا خالفت مذهبه وما ألفه من أقوال وأفعال ثم يختلق لردها شتى الأعذار الباطلة. ومنهم فريق آخر يثبتون السنة في ظاهرهم ويعتقدون بصحة النصوص ولكنهم يشتغلون بتأويلها إلى ما يوافق هواهم وينصر معتقداتهم وهؤلاء الحقيقة ماكرون فإن عملهم هذا هو رد للسنة ولكنه بطريق قد تخفى على غير طلاب العلم. وأحياناً يضرب هؤلاء بالنصوص جانباً بحجة أنها متعارضة مع أنه في الواقع لا يوجد بين النصوص الصحيحة أي تعارض إذا تبين الناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر منها فإن لم يتبين ذلك فإنه يمكن الجمع بينها ولا محالة إلا إذا كانت أحاديث موضوعة وصحيحة فحينئذٍ طريقة أهل السنة أنه لا تعارض بين الصحيح والموضوع إذ لا قيمة للموضوع وشبهه إزاء الصحيح لأن عدم فهم النصوص هو الذي أدى إلى تفرق الأمة وسفك دماء بعضهم بعضاً وما نشأ عنه من الاستكبار والبغي والعدوان واستحكام العداوات وكل هذا لا تحتمله الشريعة الإسلامية التي تركنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. إن منهج السلف في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها يقوم على إيمانهم

بكل ما ثبت دليله من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إيماناً راسخاً ظاهراً وباطناً. سواء كان ذلك الأمر الذي يعتقدونه من الأمور الغيبية كالإيمان بكل ما أخبر الله به أو أخبر عنه رسوله بأنه قد وقع كالإيمان بخلق الله لآدم من طين وخلق زوجه منه وإهباط الله لهما إلى الأرض بسبب معصيتهما ثم توبة الله عليهما وإنزال الكتب وإرسال الرسل وجميع ما جاء بإثباته النص في سائر الأمور التي قد وقعت من قبلنا أو كان من الأمور التي أخبر الله ورسوله أنها ستقع كالإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من الثواب والعقاب في الحساب والجنة والنار وما فيهما وغير ذلك من أمور العالم الآخر أو كان من الأمور التي تقع في الدنيا التي جاء النص بوقوعها فيها قبل يوم القيامة مثل ما أشار إليه الله في القرآن الكريم أو أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مثل موقعة بدر وفتح مكة وظهور الدجال ونزول المسيح وغير ذلك. وبصفة عامة الإيمان بكل الأخبار الغيبية التي وقعت أو التي ستقع على حد سواء هي مزية عظيمة تدل على قوة إيمانهم وطمأنينة نفوسهم غير متأولين بعقولهم لرد النصوص كما تفعل الفرق الباطلة الذين لا يؤمنون إلا بما تراه عقولهم مقدمينها على النصوص كالمعتزلة وغيرهم غير ناظرين إلى نقص العقول عن إدراك المغيبات عنها واضطرابها في معرفة الحقائق حينما لا تستند إلى النصوص الشرعية وإلى الوحي الإلهي الذي يخرج الله به من يشاء من الظلمات إلى النور لأن السلف يعلمون تمام العلم أن الدين لا يؤخذ إلا من مصدره ومصدره الشرع الشريف وليس العقول ومختلف الآراء القاصرة. ويعلمون كذلك أنه من الحمق والغباء والضلال البعيد أن يتركوا الطرق الواضحة البينة إلى الطرق المظلمة المحفوفة بالمخاطر.

وأن الطريق الواضح هو ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تاماً كاملاً الذي لا يقبل الله ديناً سواه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (¬1) وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬2) . ولقد جعلوا هذه الآية هي أساس منهجهم وأبرز صفاتهم فكانوا المثل الأول في التسليم لنصوص الشرع لاعتقادهم أن التسليم هو الطريق الذي فيه النجاة وأنه ثمرة الإيمان الحقيقي لحب الله له والثناء على أهله وقد تواصى السلف بالتزام ذلك قولاً وعملاً وصرحوا به ورغبوا فيه الناس نصحاً منهم لله ولرسوله ولعامة المسلمين لمعرفتهم أنه أساس بناء الإسلام لأن من لم يسلم للشرع أمره سلمه إلى الشيطان والبدع والخرافات وشاق الله ورسوله وخالف سبيل المؤمنين وحال المخالفين أقوى شاهد على ما هم فيه من التخبط والاضطراب والضعف. وهكذا نجد أن منهج أهل السنة في تقرير العقيدة يتمثل في الأمور التالية: 1- التمسك بالكتاب والسنة وعدم التفريق بينهما وتحكيمهما والعمل بهما في كل ما يعرض لهم من قضايا العبادة وغيرها دون رد أو تأويل سواء كانت الأخبار الواردة عن الرسول متواترة أو آحاداً لا فرق فيها بعد صحتها وثبوتها إذ التفريق بينهما إنما هو من سمات أهل البدع. 2- العمل بما ورد عن الصحابة في قضايا العقيدة والدين وغيرهما والسير على نهجهم وسننهم لأنهم أعرف بالحق من غيرهم. 3- الوقوف عند مفاهيم النصوص وفهم دلالاتها وعدم الخوض فيما لا ¬

(¬1) المائدة: الآية3 (¬2) النساء:65

مجال للعقل فيه مع الاستفادة من دلالة العقل في حدوده وعدم الخوض فيها بالتأويلات الباطلة. 4- الإعراض عن البدع وعن أهلها فلا يجالسونهم ولا يسمعون كلامهم ولا شبههم بل يحذرون منهم أشد تحذير خصوصاً من عرف منهم بعناده واتباعه الهوى. 5- لزوم جماعة المسلمين ونبذ التفرق والتحذير منه. هذا هو منهجهم وكان لهذا المنهج مزايا قيمة من أهمها: 1- أن هذا المنهج هو ما دل عليه كتاب الله تعالى ودلت عليه سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ودل عليه عمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان. 2- أن هذا المنهج الذي ساروا عليه كان من أقوى أسباب بقاء عقيدتهم صافية نقية لا تشوبها شوائب الضلال وهي نعمة من الله عليهم لما علمه من حسن نياتهم وصدق عزائمهم. أما أدلتهم على وجوب لزوم ذلك المنهج فهو ما نعرض بعضه فيما يلي: استدلال أهل السنة على وجوب التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويشتمل على مبحثين هما: 1- استدلالهم من القرآن الكريم: وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على وجوب التمسك بالقرآن الكريم وأنه لا يخرج عنه مؤمن وأن الدين لا يؤخذ إلا منه ومن سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فمن زاغ عنهما خرج إلى الضلالة وفارق هدى الإسلام ومن تلك الآيات البينات: - قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬1) .. - وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (¬2) . - وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3) . - وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (¬4) . وهذه الآيات واضحة الدلالة على أن الهدى كله في كتاب الله تعالى وفي هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن الواجب على كل مسلم الانقياد والإذعان والتسليم التام دون أي تردد أو شك وذلك لأن كل أمر بان رشده لا يتردد العاقل في قبوله والاعتماد عليه. 2- استدلالهم من السنة النبوية: وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يحث فيها على وجوب التمسك بكتاب الله تعالى وأن من فارقه فلا حظ له من الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: " مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر" (¬5) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" (¬6) . ¬

(¬1) النساء:65 (¬2) آل عمران: الآية103 (¬3) الأنعام: الآية153 (¬4) السجدة:22 (¬5) البخاري مع الفتح ج9 ص58- 59 ومسلم رقم 797. (¬6) مسلم 817.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" (¬1) . وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مرعوب فقال أطيعوني ما كنت بين أظهركم وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه (¬2) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال إن هذا القرآن شافع مشفع من اتبعه قاده إلى الجنة ومن تركه أو أعرض عنه (أو كلمة نحوها) زج في قفاه إلى النار. (¬3) - وجاء في موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم بغدير خم قوله: "أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" (¬4) وفي رواية أخرى "كتاب الله وسنتي". - ومن حديث يرويه العرباض بن ساريه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (¬5) . - وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل ما ¬

(¬1) الترمذي رقم 2914 (¬2) رواه الطبراني في الكبير ورواته الترغيب والترهيب ج 1 ص80. (¬3) الترغيب والترهيب ج1 ص80 وقال المنذري رواه النزار وهكذا موقوفاً على ابن مسعود وروته موقوفاً من حديث جابر وإسناد المرفوع جيد (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم الحديث 2408. (¬5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ج1 ص75.

بعثني به مثل رجل أتى قومه فقال إني رأيت جيشاً بعيني وإني النذير العريان فالنجاة فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا على مكانتهم فصبحهم الجيش واستباحهم فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق" (¬1) . - وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني" (¬2) . والأحاديث في هذا كثيرة كلها تؤكد وجوب التمسك والعمل بكتاب الله تعالى وأنه هو الصراط المستقيم الذي أوله في الدنيا وآخره في الجنة. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم الحديث 6472 و 7483 ومسلم 2283. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص97ج1.

الفصل السادس أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع

الفصل السادس أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع كما وردت عن السلف الكرام أقوال كثيرة في الحث على التمسك بكتاب الله تعالى وأن الهدى والخير والفلاح كله في ذلك وأنه يجب على كل المسلمين الرجوع إلى كتاب الله والتمسك به في كل أحوالهم واختلافاتهم كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1) . وهذا هو منهج كل من جاء بعد السلف الكرام من التابعين ومن تبعهم من علماء المسلمين وعامتهم وفي كتب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهما كالطبري وابن كثير وأهل الحديث كالشيخين وغيرهما ممن تزخر بأقوالهم المكتبات الإسلامية في كتبهم من الأقوال والشروحات ما لا مزيد عليه في وجوب التمسك بكتاب الله والعمل به والرجوع إليه. وعلى هذا "فقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة والمجتهدين هو الرد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام الناطق بذلك الكتاب العزيز {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنته بعد وفاته وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين" (¬2) . ¬

(¬1) النساء: الآية59 (¬2) شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص 596 من الجامع الفريد.

- وهم يؤكدون أن الخير كله فيها وأن الشر كله في الابتعاد عنها وفي الابتداع الذي يسببه اتباع الهوى والبعد عن السنة والسير خلف التأويلات الباطلة التي هلك بسببها الكثير ممن جرفتهم التيارات المنحرفة ومن تلك الأقوال. - قال عبد الله بن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" (¬1) . - وعن معاذ بن جبل من كلام له رضي الله عنه قال: "فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة" (¬2) . - وقال حذيفة اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً وإن تركتموه يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً" (¬3) . - وعن عبد الله بن مسعود قال يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا يعني الإصبع فإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى وإنه لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول ما يتركون "السنة" وإن آخر ما يتركون الصلاة ولولا أنهم يستحيون لتركوا الصلاة (¬4) .. - وعن عبد الله بن الديلمي قال: "إن أول ذهاب الدين ترك السنة يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة" (¬5) - وعن حسان بن عطية قال: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة" (¬6) . - وعن عمر بن عبد العزيز قال: " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص86. . (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص89. (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص90. (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص91. (¬5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص93. (¬6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص93.

الأخذ بها تصديق لكتاب الله عزّ وجلّ واستكمال لطاعته وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها فمن اقتدى بما سنوا فقد اهتدى ومن استبصر بها بصر ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله عزّ وجلّ ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيرا" (¬1) . - وأقوالهم في هذا الصدد كثيرة وإنما تلك أمثلة يكتفى بها طالب الحق الحريص على سلامة دينه من غوائل أقوال أهل الباطل الذين يقدمون البدع على السنة ويحلونها محلها ويعتبرونها ديناً يجب اتباعه. استدلالهم على وجوب العمل بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم: يعمل السلف بما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة أفقه وأعرف بما يقولون وقد زكاهم الله ورسوله وبذلك تعتبر أقوالهم وأفعالهم سنة يجب العمل بها وخصوصاً الخلفاء الراشدين منهم. ومما ورد في وجوب العمل بما صح عن الصحابة: - جاء عن العرباض بن سارية رضي الله عنه من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجذ" (¬2) . - وعن خصوص أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدين أبي بكر وعمر" (¬3) وهذا يدل على مزيد فضلهما ووجوب الاقتداء بهما. وعلى هذا أجمع السلف وهو من أسس عقائدهم وقد مدح الله السلف ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص93. (¬2) أبو داود 4/200 الترمذي 5/44. (¬3) أخرجه الترمذي 5/609.

الكرام من الصحابة ومن سار على نهجهم بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬1) فهم السابقون الأولون وأصحاب الشرف العظيم في وقوفهم إلى جانب نبيهم في ساعة العسرة وفدائهم له بأموالهم وأنفسهم وهم أول المجاهدين في سبيل الله من هذه الأمة. وكانت نسبتهم في البداية بالنسبة إلى نسبة الكفار كنسبة الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود فإن الأرض كلها على الشرك وعبادة الأصنام. فاستعذبوا العذاب في سبيل نشر النور إرضاءاً لله تعالى وقرباً إليه ولا يوجد مسلم على ظهر الأرض إلا وهو مدين للصحابة بالشكر والتقدير على نصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فتوحاتهم التي عمت أكثر البقاع في عهودهم المجيدة. وتلك الحقيقة يعيها كل مسلم إلا من فسدت فطرته وانحرف واتبع هواه كالرافضة الذين ذهبوا يسبونهم ويكفرونهم مضادة للآية الكريمة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} (¬2) ولهذا فقد كان ابن حزم رحمه الله حينما يدحض النصرانية ويثبت لهم تحريف كتابهم يستدلون عليه أن المسلمين أيضاً أثبتوا أن في القرآن تحريفاً وزيادة ونقصاً فيقول لهم لا تحتجوا بكلام الرافضة واحتجوا بكلام المسلمين أو نحو ذلك لمعرفته التامة بأنه لا يمكن أن يقدم مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً أن يدعي بأن هذا القرآن الموجود بين أيدينا قد تخلى الله عن ¬

(¬1) التوبة: الآية100 (¬2) الحشر: الآية10

وعده بحفظه أو أنه سلط عليه من يغيره ويبدله فإن من اعتقد حدوث هذا فقد خرج عن الإسلام إن كان يدعيه وكفر به. وقوف السلف عند حدود النص أما بالنسبة لوقوف السلف عند حدود النص وعدم الخوض فيما لا مجال للعقل فيه فهذا دليل من أقوى الأدلة على عمق فهمهم وقوة ذكائهم وحرصهم على ما ينفعهم في دينهم به يظهر صدق متابعتهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام وحرصهم على إقامة سنته والبعد عن ما يكدرها فقد علموا أن العقل من أكبر نعم الله على عباده وأن الله جعله عوناً لصاحبه وربط الله به كثيراً من القضايا ونوّه به وبعلو شأنه ولكن السلف مع هذا يعلمون علم اليقين أن العقل له حد ينتهي إليه فإذا تجاوزه انقلب إلى الجهل والحمق سنة الله في خلقه وإن تكلف الأمور التي لا سبيل لمعرفتها إلا عن طريق النص يعتبر تعدياً وظلماً وقد يجر إلى القول على الله بغير علم والكذب عليه مع أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك فإن السنة واضحة ونهج من سبقهم فيها واضح وقد يجر كذلك إلى إحداث البدع وهو الأمر الذي ينفر منه السلف أشد نفور ويحذرون منه أشد تحذير فطالما جر عدم الوقوف عند النصوص إلى إحداث البدع والخرافات بل وإماتة كثير من السنن كما هو الحال عند أصحاب الأهواء وعباد العقول وتقديمهم لها على النصوص وكم من الفظائع والمآسي ارتكبت بسبب عدم فهم النصوص كما يحدثنا عنها التاريخ بل وإن تكفير أهل البدع بعضهم بعضاً ودليلهم واحد لهو أقوى الأدلة على مضار عدم فهم النصوص إذ إنه لا يوجد أي نص يؤدي إلى تكفير العاملين به بعضهم بعضاً وهو أمر معروف بداهة.

إعراض السلف عن أهل البدع أما إعراضهم عن أهل البدع وعن مخالطتهم فقد أصبح أمراً معلوماً بالضرورة عند أهل السنة فقد حذروا من مجالسة أهل البدع والاستماع إليهم لعلمهم أن أصحاب البدع يوردون شبهات يضللون بها العامة قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬1) . وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} (¬2) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (¬3) . وفي رواية: "وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (¬4) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" (¬6) . وهذه الآيات والأحاديث كلها تدل على وجوب الإعراض عن المبتدعين وعن أقوالهم وما يحدثونه في دينهم بأهوائهم التي يقدمونها على السنة ومن هنا كانت نفرة أهل السنة عن أهل البدع اتباعاً لأمر الله وأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ونصحاً لأنفسهم ولغيرهم. ¬

(¬1) الأنعام: الآية68 (¬2) النساء: من الآية140 (¬3) من حديث أخرجه أبو داود 4/ 200. (¬4) مسلم 867 كتاب الجمعة ج 2 ص 592 ا (¬5) البخاري كتاب الصلح مع الفتح ج5 ص301 ومسلم كتاب الأقضية ج3 ص 343. (¬6) باب نقض الأحكام الباطلة ةرد محدثات الأمور المسند ج2 ص 158.

وقد أكد السلف التحذير من أهل البدع ووجوب البعد عنهم. - قال ابن مسعود رضي الله عنه: "وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق" (¬1) . - عن مجاهد قال قيل لابن عمر: "إن نجده يقول كذا وكذا فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء" (¬2) . وعن تحذيرهم من سماع كلام القدرية جاء عن أبي أمامة الباهلي قال: "ما كان شرك قط إلا كان بدؤه تكذيب بالقدر ولا أشركت أمة قط إلا بدؤه تكذيب بالقدر وإنكم ستبلون بهم أيتها الأمة فإن لقيتموهم فلا تمكنوهم من المسألة فيدخلوا عليكم الشبهات" (¬3) . - وعن تحذيرهم من الدخول في الخصومات مع أهل الأهواء جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: "يا أبا سعيد إني أريد أن أخاصمك. فقال الحسن: إليك عني فإني قد عرفت ديني إنما يخاصمك الشاك في دينه" (¬4) . - وعن بغض أهل الأهواء وحب الابتعاد عنهم قال أبو الجوزاء: "لئن يجاورني قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني أحد منهم" (¬5) . يعني أهل الأهواء. - وكان الحسن يقول: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم" (¬6) . ¬

(¬1) البدع والنهي عنها لابن وضاح ص59. (¬2) انظر شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ص128. (¬3) انظر شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ص128. (¬4) اللالكائي 1/128. (¬5) ابن سعد في الطبقات 7/224. (¬6) اللالكائي ص133.

وكان ابن طاوس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال فجعل يتكلم قال فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه أي بني أدخل إصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر راوي الخبر يعني أن القلب ضعيف (¬1) . وروى الدارمي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: "إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة" (¬2) . وكان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول: "أحدهم إذا خالف صاحبه قال كفرت والعلم فيه أنما يقول أخطأت" (¬3) . وقال علي بن المديني: "من قال فلان مشبه علمنا أنه جهمي ومن قال فلان مجبر علمنا أنه قدري ومن قال فلان ناصبي علمنا أنه رافضي" (¬4) . وقد رويت عن السلف من النصوص الكثيرة ما لا يحتمل المقام ذكرها هنا وكلها تهدف إلى أمر واحد هو اجتناب أهل البدع والتحذير منهم امتثالاً لقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬5) . وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬6) . ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ج1 ص135. (¬2) أخرجه اللالكائي ص135. (¬3) أخرجه اللالكائي ج1 ص146. (¬4) شرح السنة اللالكائي ج1 ص 147. (¬5) سورة الأنعام:68. (¬6) سورة النساء: 140.

وفي عدم مجالستهم حماية للعقيدة وحماية لقلوبهم لئلا تميل إلى شيء من شبهات أهل الباطل وحتى لا تنتشر أفكارهم بين الناس وفيه كذلك قيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أهل البدع إن لم يجدوا من يرد عليهم تمادوا في باطلهم وضعف في نفوس الناس الإحساس بوجوب تغيير المنكر بل يستمرئون بعد ذلك وقد يعترض البعض فيقول إن مجالستهم ومناظرتهم فيها إقامة للحجة عليهم ودعوة لهم للرجوع أو يقول قد ناظر بعض السلف أهل الباطل كما فعل ابن عباس مع الخوارج وعمر بن عبد العزيز معهم أيضاً والمناظرة المشهورة لعبد العزيز الكناني مع بشر المريسي وغير ذلك والجواب والله أعلم أن مناظرة السلف لأهل البدع تعتبر بالجملة قليلة ولا يناظرونهم إلا إذا رأوا أن المصلحة تقتضي ذلك وفي مجامع عامة وعلنية. وهي أيضاً لا تكون إلا مع من يرجى منه الرجوع أما المعاندين منهم المصرين على بدعهم الداعين إليهم فإنهم كانوا يحذرونهم ويحذرون منهم وهذا من باب الحزم وإنكار المنكر والبعد عن الشر قبل الوقوع فيه فإن مجالسة أهل البدع والاستماع لكلامهم قد يجذب الشخص إليهم وقد يتشوش فكره بكلامهم فإذا حسم الشر من أوله كان أضمن لسلامته ومن هنا فإنه يجب الحذر من قراءة كتب المخالفين والاستماع لخطبهم وكلامهم قبل أن يحصن الشخص نفسه بالقراءة عنهم ومرد شبهاتهم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (¬1) . * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) رواه البخاري مع الفتح 1/126 ومسلم 3/219.

الفصل السابع لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك

الفصل السابع لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك أما لزومهم جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق فهذا أحد الأسس التي قامت عليها عقيدتهم امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقد استفاضت الأدلة من كتاب الله عزّ وجلّ ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم على وجوب لزوم الجماعة والحذر من التفرق وما يؤدي إليه مهما كان نوعه. وفي كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يوضح ويؤكد هذا الجانب بمزيد من العناية والبيان. 1- الأدلة من كتاب الله تعالى: - قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (¬1) . - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬2) . - وقال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬3) . - قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (¬4) . ¬

(¬1) سورة آل عمران: 103. (¬2) سورة الأنعام: 159. (¬3) سورة آل عمران: 105. (¬4) سورة الأنعام: 153.

وهذه الآيات وغيرها مما جاء في معناها واضحة الدلالة والمراد وكلها تهدف إلى منع التفرق في الآراء والمعتقدات التي لا يتصف بها قوم إلا كانوا في طريقهم إلى الفضل رغم وضوح هذه الأدلة ورغم حاجة الأمة الإسلامية إلى العمل بمفهوم هذه الآيات البينات إلا أن المسلمين في عصرنا هذا لم يستفيدوا منها بل كان بعضهم قريباً من حال الذين أخبر الله عنهم أنهم ازدادوا بمجيء البينات اختلافاً وفرقة وبعداً عن منهج الله تعالى. قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬1) . فما أكثر ما يجتمع المسلمون في شكل مؤتمرات وندوات ولقاءات ويكون شعارهم هو العمل بهذه الآية: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ولكنهم يخرجون وهم على أشد ما يكونون من الاختلاف والتنافر وما أكثر ما يقرأ المسلمون هذه النصيحة الإلهية: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} . وما أكثر ما يقرؤون غيرها من الآيات ولكن لماذا لم يستفيدوا منها؟ والجواب: أنهم حينما يجتمعون يكون كل فريق وحزب في غاية الإصرار على أن حبل الله الذي يجب التمسك به هو ما هو عليه وحزبه ويجب على الآخرين الانضواء تحت رايتهم والسير على نهجهم وكل يرى نفس هذا الرأي وبالتالي يكون اجتماعهم لتعميق هذه الفرقة فلا يستفيدون من تلاوة هذه الآيات شيئاً لعدم إخضاع رغباتهم وأهوائهم لتحكيمها ولعدم رضاهم بالرجوع إلى الحق الذي هدى الله إليه سلف هذه الأمة وصلح عليه أمرهم وما دام كل حزب وكل فرقة تستدل بالآيات على أن الآخرين مفارقين للحق وأن الحق هو بأيديهم فقط وما داموا كذلك فلا أمل في عودة الوحدة ¬

(¬1) سورة البينة:4.

الإسلامية. ومن عجيب أمر أهل الأهواء أن البينات التي تفصل النزاعات أصبحت هي بمفاهيم هؤلاء البدعية مصدر الاختلاف والنزاع بسبب عدم التسليم لمفهومها الصحيح وإلا فهي ليست كذلك وحبل الله وصراطه المستقيم واحد لا تعدد فيه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} فكيف يتعدد الحق وكيف تصبح كل تلك الفرق والطوائف المبتعدة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعن سبيل المؤمنين كيف يصبحون كلهم على حق. 2- الأدلة من السنة النبوية وكما تعددت الأدلة من كتاب الله تعالى على النهي عن التفرق وعلى وجوب التمسك بالجماعة تعددت الأدلة كذلك من السنة النبوية على هذا الجانب الهام في العقيدة الإسلامية. ومما ورد في ذلك: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" (¬1) . 2- عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال نعم قلت وهل بعد هذا الشر من خير قال نعم وفيه دخن قلت وما دخنه قال قوم يهدون بغير ¬

(¬1) أخرجه مسلم ج3 ص1340.

هديي تعرف منهم وتنكر قلت فهل بعد الخير من شر قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (¬1) . - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية.. الحديث (¬2) . - وعن عرفجة بن شريح الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان" (¬3) . - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة" (¬4) . - وهذه الأحاديث وغيرها مما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها تؤكد على وجوب لزوم الجماعة والتحذير من التفرق ولو تمسك بها المسلمون وحققوها لكانوا على الخير الذي مضى عليه السلف الكرام من الصحابة ومن تبعهم بإحسان ولعاد للمسلمين سؤددهم وكرامتهم التي فقدت في عصرنا الحاضر بسبب التفرق وعدم الإذعان لتعاليم الشريعة السمحاء ومع ذلك لا ¬

(¬1) البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوة الفتح ج6 ص 615 ورواه مسلم. (¬2) أخرجه مسلم ج3 ص1476. (¬3) مسلم في كتاب الإمارة باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع ج1 ص 1479. (¬4) البخاري كتاب الديات الفتح ج12 ص 201 وأخرجه مسلم أيضاً.

يزال الخير إن شاء الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة ما داموا متمسكين بالحق قولاً وعملاً والله تعالى يقول: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) سورة الرعد:11.

الفصل الثامن الثناء على السلف رحمهم الله تعالى

الفصل الثامن الثناء على السلف رحمهم الله تعالى 1- الثناء على الصحابة الكرام من كتاب الله تعالى: أثنى الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم وأثنى رسوله صلى الله عليه وسلم على الصحابة الكرام وأن لهم محاسن وفضائل لا يمكن أن يلحقهم فيها من جاء بعدهم فهم خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين وزمنهم أفضل الأزمان ورضي الله عنهم فوق كل اعتبار لا ينتقصهم إلا ضال منافق لا يعرف الإسلام وكلهم عدول. وينقسمون إلى قسمين إلى مهاجرين وإلى أنصار رضي الله عنهم جميعاً هذا هو تقسيم أهل الحق لهم أما غيرهم من أهل الباطل فيقسمونهم إلى قسمين مرتدين وهم سائر الصحابة وغير مرتدين وهم عدد لا يتجاوز أصابع اليد. - ومن ثناء الله سبحانه وتعالى على الصحابة في كتابه العزيز. قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬1) . - وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} (¬2) . ¬

(¬1) سورة التوبة:100 (¬2) سورة الفتح:29.

- وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬1) . - وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} (¬2) . - وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬3) . - وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4) . وهذه الآيات الكريمات كلها تدل على فضل الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار ومن السابقين إلى الإسلام قبل الفتح ومن جاء بعدهم على طريقتهم مع تفضيل السابقين بمزيد فضل - وكلهم على فضل - وفيها بيان ما أعد الله لهم من ثواب ونعيم في الآخرة وبيان ما امتازوا به من الشدة على الكفار والرحمة فيما بينهم بل أن شدتهم هي في حقيقتها رحمة ¬

(¬1) سورة الفتح:18. (¬2) سورة الأنفال: 72. (¬3) سورة الحديد: 10. (¬4) سورة الحشر: 8- 10.

بالكفار لكي يدخلوا في الإسلام ويخرجوا من الظلمات إلى النور وهي صفات عظيمة المسلمون اليوم في أحوج ما يكونون للإنصاف بها بعد أن انعكس الأمر لدى الكثير منهم حيث صاروا أشداء فيما بينهم رحماء مع مخالفيهم وقد أخبر سبحانه عن رضاه عن الصحابة جميعاً وبالأخص أصحاب بيعة الرضوان وأثنى على الأنصار وبين صفتهم التي لا يصل إليها إلا الموفق في الكرم والإيثار. وبين أن فريقاً من المؤمنين جاؤوا من بعدهم دائماً يتوسلون إلى الله تعالى أن يغفر لهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان وهي صفة عظيمة تدل على فطر سليمة ونفوس طاهرة وقد اتصف السلف بهذه الصفة الطيبة وحققوها في أكمل صورها كما اتصف مبغضوهم بعكسها تماماً فقد ظهر حثالة البشر من الرافضة النواصب والخوارج وسائر من ألحد وخرج عن هدى السلف ظهر هؤلاء يسبون الصحابة ويفترون عليهم وعلى سائر السلف مما يدل على أنهم ليسوا على طريق هؤلاء الكرام الذي يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وبدلاً من قيامهم بهذا الواجب من الاستغفار لهم ذهبوا يكيلون التهم ويدعون عليهم ويستهزئون بهم محاده لله تعالى وهذه دلالة قاطعة على جهل هؤلاء بسيرة السلف الصالح بل وبأمر الله تعالى في هذا. 2- ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم: أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم ثناءًا عاطراً على الصحابة الكرام ويكفيهم فخراً أنه كان راضياً عنهم محباً لأخلاقهم خصوصاً أولئك الذين نصروه في ساعة العسرة باذلين أموالهم وأنفسهم وأولادهم حباً فيه وفي رفع هذا الدين العظيم حتى أتم الله لهم ودخل الناس في دين الله أفواجاً فلهم الفضل بعد الله على سائر البشر وسائر الناس مدينون لهم بالشكر والتقدير إذ لولا فضل الله ثم قيام

أولئك بنصرة الإسلام لما وصل إلى ما وصل إليه ولهذا فكل منتسب إلى الإسلام مدين لهم بالشكر والتقدير ومن ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم: - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" (¬1) وذلك لامتياز عبد الرحمن بن عوف بالأسبقية إلى الإسلام وتأخر خالد إلى ما بعد بيعة الرضوان فإن حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة لكنهم ليسوا على درجة من سبقهم في الفضل وفي مضاعفة الحسنات لهم فإن نصف مد منهم أجره أعظم من أجر من تصدق بمثل أحد ذهباً لو حصل ذلك فكيف بحال من ظهر في قرون الشر وصار ينتقص كل أولئك الصحابة. - وورد في الصحيحين عن عمران بن حصين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة (¬2) . - وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها (¬3) . - وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن ¬

(¬1) أخرجه البخاري ج7 ص 21 ومسلم ج 4 ص 1967. (¬2) أخرجه البخاري ج5 ص 258 ومسلم ج 4 ص 1963. (¬3) مسلم ج4 ص 1942.

أذاني فقد أذى الله تعالى ومن آذى الله تعالى فيوشك أن يأخذه" (¬1) . كما أثنى الله تعالى وأثنى رسوله صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة بخصوصهم مثل أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وابن مسعود وأبو عبيدة وأبو ذر ومعاذ بن جبل وغيرهم ممن صحت فيه النصوص. وأجمع علماء الإسلام على عدالتهم وفضلهم والمفاضلة بينهم من دون انتقاص أحد منهم وإنما هو تفضيل كتفضيل بعض الأعضاء على البعض الآخر منها وتلك المفاضلة بين الصحابة تعود إلى الأسبقية في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الإيمان والبذل في سبيل الله إرضاء الله ثم لنبيه الكريم في الدفاع عنه وعن ما جاء به من الحق وإذا كان هذا حال الصحابة فما هو حال من لا يساوي شيئاً بالنسبة لهم. 3- ثناء السلف عليهم: - وبهذا المعنى ورد أنه قيل لعائشة رضي الله عنها أن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر (¬2) . - وعن ابن عباس أنه قال لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة وفي رواية وكيع: "خير من عبادة أحدكم عمره" (¬3) . ¬

(¬1) سنن الترمذي ج5 ص 696 وقد ضعفه الألباني انظر تعليقه على الطحاوي ص 471 وأحال إلى سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 2901. (¬2) انظر الطحاوية ص 530. (¬3) أخرجه أحمد ج2 ص 907.

- وقد وصفهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ" (¬1) . - وفي رواية عنه أنه قال: " من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (¬2) . ¬

(¬1) انظر الطحاوية ص 432. (¬2) المصدر السابق.

الفصل التاسع جهودهم في خدمة الإسلام

الفصل التاسع جهودهم في خدمة الإسلام تنوعت جهود السلف في خدمة الإسلام وأهمها: 1- جهودهم الحربية. 2- جهودهم في بيان العقيدة الإسلامية. أما جهودهم الحربية فإن التاريخ مليء بذكرها غني بأحداثها لا يجهل أي مسلم ذلك ابتداءاً بجهودهم الحربية بين يدي نبيهم صلى الله عليه وسلم في معارك عديدة كبدر وأحد والخندق وسائر الغزوات التي خاضوا غمارها لا يطلبون منها إلا رضى ربهم ونبيهم ولم ينتقل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا وقد قرت عينه وانشرح صدره ومات وهو عنهم راض. ولم تنقطع المعارك الحربية والفتوحات بوفاته صلى الله عليه وسلم بل اشتدت وتعددت على يد خلفائه الميامين ابتداءاً بأبي بكر رضي الله عنه وما قام به من جهود عظيمة في محاربة المرتدين ومن بعدهم من الكفار وجعل الله في أيامه خيراً عظيماً ونفعاً بليغاً أعاد الجزيرة إلى دولة إسلامية واحدة ثم انتقل إلى البلاد الأخرى يفتحها البلد تلو البلد. وبعد وفاته وانتقال الخلافة إلى عمر رضي الله عنه ازدادت رقعة الدولة الإسلامية وأوصلها بجهوده بعد نصر الله إلى ما يسمى في عصرنا الحاضر بالامبراطورية وكذا في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه ثم تتابعة الفتوحات على يد معاوية رضي الله عنه وبلغت الدولة الإسلامية قمة مجدها

وازدهارها وجاءت الدولة العباسية وسلكت نفس الاتجاه إلى أن جاءت أيضاً الدولة العثمانية وكانت لها جهود رائعة في انتشار الإسلام ونشره وكان علماء السلف هم المحركون لتلك الأحداث بخطبهم الحماسية وإثارة روح التضحية في سبيل الله تعالى بل والمشاركة الجادة في خوض المعارك ولا يغيب عن ذهن القارئ ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في وقوفهم ضد التتار وانتصارهم عليهم فحفظ الله بهم الدين لما ادخره لهم من جزيل الأجر والثواب. 2- جهودهم في خدمة العقيدة: ولا ريب أن العقيدة الإسلامية صافية نقية محجة بيضاء ولهذا ما إن ظهرت البدع والفتن التي أراد أهلها - بسوء نية - التشويش على صفاتها وطمس نورها إلا ووقف السلف بكل حزم وشجاعة ويقين لردها والإنكار عليها وعلى أهلها لا تأخذهم في الله لومة لائم فحفظ الله بهم الدين وأتم بهم النعمة ولولا فضل الله ثم تلك الجهود التي بذلوها لاختلط الحق بالباطل وقال من شاء في الدين بما شاء ولانتشرت البدع والخرافات الباطلة إلى أن يصبح المسلمون في دينهم كما أصبح عليه من قبلهم ولكن الله لم يرض بهذا فقد تكفل بحفظ دينه الذي ارتضاه إلى يوم القيامة وسخر له رجالاً خدموه يبتغون فضل الله ورضوانه ما كانت تأخذهم في الله لومة لائم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. فقد كان السلف من الرعيل الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخلص الناس وأشدهم حفاظاً على شعائر الإسلام كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم يتناصحون ويرشدون لا يقر لأحدهم قرار إذا رأى منكراً أو بدعة من قريب أو من بعيد لا يداهنون أحداً ولا يرهبون إلا ربهم. ولو بدأنا التعرف على جهودهم في زمن الخليفة الراشد أبي بكر رضي

الله عنه لرأينا مدى اهتمامه بالحفاظ على العقيدة الإسلامية صافية نقية وما محاربته لأهل الردة وإرجاعهم إلى الدين إلا مظهر من مظاهر اهتمامه بخدمة العقيدة بل وما كانت هجرته إلى المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أحد الشواهد على ذلك فلقد ترك المال والبنين والأهل والأحبة ليفر إلى البلد الذي يأمن فيه على عقيدته وما إنفاقه في سبيل الله وإعتاقه الرقاب إلا لوجه الله وخدمة عقيدته الحنيفية ولقد أسلم على يده أفذاذ كانوا مفخرة الإسلام والمسلمين ويطول الشرح لو أردنا استقصاء أعماله التي قدمها مبتغياً بها وجه الله وخدمة دينه. وكذلك الحال مع الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي اقض مضاجع أعداء الإسلام وأعلى الله به كلمة الحق وظهر المسلمون على أعدائهم ودخل الناس في دين الله أفواجاً وكانت درته سيفاً مسلطاً على رقاب أهل البدع وكانت سيرته العطرة وأخباره المشرقة مثار دهشة وإعجاب العالم أجمع كان شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم شديد على أهل البدع يضربهم بالدرة مؤدباً لرعيته بأقواله وأفعاله. دخل عليه شاب طويل الثوب وعمر يجود بنفسه فسلم عليه فلما خرج ناداه عمر فرجع إليه الشاب فقال له يا بني أقصر من ثوبك فإنه أنقى لثوبك واتقى لربك أو كلاماً نحو هذا ولم يشغله ما هو فيه من سكرات الموت حتى عن التنبيه على هذه المسألة فما الظن بغيرها؟ وقد ضرب رجلاً اسمه صبيغ حتى أدمى رأسه لأنه كان مغرماً بالسؤال عن المتشابهات وهدد أبا موسى الأشعري حين استأذن ثلاثاً وانصرف قائلاً له لماذا استأذنت ثلاثاً وانصرفت فقال له هكذا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وكان أبو موسى صادقاً وعمر يعرفه بالصدق ولكنه أراد أن يحد ويؤدب من عسى أن

تسول له نفسه التقول على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له هات شاهداً وإلا فعلت وفعلت بك وكان مهاباً رغم تواضعه الجم تهابه الناس وتهابه الشياطين كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يسلك وادياً أو فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر وأخباره لا تستقصيها هذه العجالة رضي الله عنه. وبعد وفاته واستشهاده خلفه عثمان رضي الله عنه فأبلى في الإسلام وفي خدمته وفي الفتوحات ونشر الإسلام وخدمة العقيدة الحنيفية ما طفحت به المراجع التاريخية. ومن أجل خدماته للإسلام كرمه الواسع ابتغاء مرضات الله تعالى وإنفاقه الذي فاق التصور ثم فتوحاته ونشر الإسلام ولا ينسى القارئ أجل خدمة قام بها عثمان في شأن كتاب الله تعالى إلى أن استشهد على يد البغاة عاقبهم الله بما يستحقون. ثم خلفه علي رضي الله عنه على نفس الأهداف في خدمة الدين ورفع رايته ومحاربة أهل الكفر وأهل البدع بأقواله وأفعاله حتى لقي ربه ثم جاءت الدولة الأموية وكان لأول ملوكهم معاوية رضي الله عنه وهو من خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين خدماته الجليلة للإسلام والمسلمين فقد فُُتحت البلدان الكثيرة في عهده وعهد خلفائه وانتشر الإسلام انتشاراً واسعاً وكان رضي الله عنه محارباً لكل محدث في الدين حماية للعقيدة الإسلامية أن تدنس بالشبهات. ونبغ في عهد الدولة الأموية ثم العباسية علماء أجلاء خدموا الدين وقدموا أنفسهم في سبيل الحفاظ على صفائه ونقائه. ولم يخل عهد من العهود إلا وفيه جهابذة من علماء السنة ومن المحافظين على بقاء ونقاء الإسلام إلى يومنا الحاضر ولله الحمد فلا ننسى تلك المواقف المشرفة لعلماء السلف في خدمة الدين الإسلامي. أمثال الإمام

المبجل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أن جاء في العهد القريب الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي جدد الله به كثيراً من السنن التي كادت أن تندثر وأذل به كثيراً من أهل البدع التي انتشرت وأخذت حيزاً واسعاً في عقول المسلمين ويطول جداً ذكر علماء السنة وذكر جهودهم في خدمة العقيدة فقد كُتبت المطولات العديدة في هذا الشأن ومن الصعوبة حصرها جميعاً أو حصر جهود مؤلفيها في وقفاتهم التي أصبحت نموذجاً يحتذى به ومشعلاً يستضاء به تلك الجهود التي قمع بها فتن المارقين أصحاب البدع ومختلف الفرق من جهمية ومعتزلة أشعرية وما تريدية وخوارج ومرجئة من بدء ظهورهم إلى يومنا الحاضر فأدوا الأمانة الملقاة على عواتقهم وابرؤوا ذممهم ونصحوا الأمة فحذروا وبينوا وألفوا الكتب والمقالات وكم لهم من محاضرات ومناظرات دحضوا فيها شبه الضالين وأقاموا الحجة على كل السامعين فانقلبوا بنعمة من الله تعالى وما هذه المؤلفات العديدة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية إلا ثمرة من ثمار جهودهم وأقوى الشواهد على بلائهم. بيان مجمل اعتقادات السلف في سائر أبواب الاعتقاد لقد تميزت عقيدة السلف بقيامها على الكتاب والسنة في كل جزئية منها فكانت تلك العقيدة هي المحجة البيضاء التي تركنا عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم سهلة في تطبيقها واضحة في دلالاتها لا يزيغ عنها إلا المبتدعون أصحاب الأهواء الباطلة والاتجاهات الفاسدة. ومما أود التنبيه عليه أن عقيدة السلف قد دونها العلماء بمؤلفات كثيرة بل كتبوا في كل جزئية مجلدات ضخمة كما سبق بيانه.

ولذلك فمن غير السهولة أن أذكرها هنا مفصلة وإنما أكتفي بذكرها على طريق الإجمال والإيجاز بحيث يكفي المستعجل فينال بغيته في التعرف على عقيدة السلف إن لم يتمكن من الاطلاع عليها بالتفصيل في مراجعها. وقد عبر عن ذلك الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) بعد أن رجع إلى مذهب السلف ودان الله به كما عبر عنه أيضاً في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ففي كتابه (الإبانة) قال رحمه الله تعالى: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عزّ وجلّ، وبسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نريد من ذلك شيئاً وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده

ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1) وأن له وجهاً بلا كيف كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} (¬2) وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3) . وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬4) وأن له عيناً بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (¬5) وأن من زعم أن أسماء الله غيرة كان ضالاً وأن لله علماً كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬6) . وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (¬7) . ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونثبت أن لله قوة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬8) نقول: إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئاً إلا وقد قال له: كن فيكون، كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬9) . وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عزّ وجلّ وأن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله (¬10) . ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عزّ وجلّ وأنه ¬

(¬1) سورة طه: 5 (¬2) سورة الرحمن: 27. (¬3) سورة ص: 75. (¬4) سورة المائدة: 64. (¬5) سورة القمر: 14. (¬6) سورة النساء: 166. (¬7) سورة فاطر: 11. (¬8) سورة فصلت: 15. (¬9) سورة النحل: 40. (¬10) أي قبل أن يريد الله ويمكنه من الفعل.

لا خالق إلا الله (¬1) وأن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة، كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬2) وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون، كما قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (¬3) وكما قال: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (¬4) وكما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} (¬5) ، وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (¬6) . وهذا في كتاب الله كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر إليهم، وأصلحهم، وهداهم، وأضل الكافرين، ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك وتعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬7) وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم (¬8) وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وأنّا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله وأنا نلجأ في أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر - ¬

(¬1) هذا هو تحقيق الاعتقاد بتوحيد الربوبية. (¬2) سورة الصافات: 96. (¬3) سورة فاطر: 3. (¬4) سورة النحل: 20. (¬5) سورة النحل: 17 (¬6) سورة الطور: 35. (¬7) سورة الأعراف: 178. (¬8) ولو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم كما ورد النص بذلك..

وندين بأن الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة كما قال الله عزّ وجلّ: {كلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬1) وأن موسى عليه السلام سأل الله عزّ وجلّ الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلى للجبل، فجعله دكاً، فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، ونرى بأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب (¬2) يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها كان كافراً. ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً. وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب: ((وأن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ (¬3) ، وأنه سبحانه يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع)) (¬4) . كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف. وندين بأن لا ننزل أحداً من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنةً ولا ناراً إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجوا الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين. ونقول: إن الله عزّ وجلّ يخرج قوماً من النار بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً ¬

(¬1) سورة المطففين: 15. (¬2) يرى بعض العلماء ومنهم ابن أبي العز أن الأنسب أن يقال لا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب. (¬3) رواه مسلم في القدر ج5 ص 509 وأحمد ج 2 ص 173 وص 168. (¬4) أخرجه البخاري ج 13 ص 393 ومسلم ج5 ص 654.

عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وإن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق وأن الله عزّ وجلّ يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بحب السلف الذين اختارهم الله عزّ وجلّ لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونثني عليهم بما أثنى به عليهم، ونتولاهم أجمعين ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأن الذين قتلوه قتلوه ظلماً وعدواناً، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم. وندين الله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم. ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن ((الرب عزّ وجلّ يقول: هل من سائل، هل من مستغفر)) (¬1) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، وما كان في معناه. ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عزّ وجلّ يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ ¬

(¬1) رواه مسلم ج2 ص 408 وأبو داود في سننه ج 2 ص 536.

رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وأن الله عزّ وجلّ يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر، كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافاً لقوله من أنكر ذلك. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بإنكار الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال (¬1) كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج (¬2) ونصحح كثيراً من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيراً ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحراً وسحرة، وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان. وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله عزّ وجلّ يرزقها عباده حلالاً وحراماً وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ ¬

(¬1) البخاري ج13 ص 90 ومسلم ج5 ص 780. (¬2) البخاري ج13 ص 478 ومسلم ج1 ص 246.

الْمَسِّ} (¬1) وكما قال: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (¬2) ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عزّ وجلّ بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين (إن الله يؤجج لهم في الآخرة ناراً، ثم يقول لهم اقتحموها) كما جاءت بذلك الرواية (¬3) ، وندين الله عزّ وجلّ بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعته ومجانبة أهل الأهواء: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه مما لم نذكره باباً باباً وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى. ونجد الأشعري قد أكد أيضاً تلك الأمور في كتابه: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) وفي بيانه لاعتقاد أصحاب الحديث. وقد رغبت أن أثبتها كما جاءت في الكتاب القيم تتميماً للفائدة وتأكيداً لكلامه في الإبانة وأن مصدر هذين الكتابين هو الأشعري رحمه الله تعالى. هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة (¬4) : جملة ما عليه أهل الحديث والسنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون ¬

(¬1) سورة البقرة: 175. (¬2) سورة الناس: 4-6. (¬3) اختلف العلماء في مصير الأطفال في الآخرة فبعضهم يرى أنهم يمتحنون بطاعة رسول يرسله لهم ويطلب منهم أن يدخلوا النار فمن دخلها كانت عليه جنة ومن أبى عذب في النار وفيها غير ذلك من الأقوال والله أعلم. (¬4) انظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ج 2 ص 345.

من ذلك شيئاً، وأن الله -سبحانه- إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله -سبحانه- على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1) وأنه له يدين بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2) ، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬3) وأنه له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (¬4) وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} (¬5) . وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله؛ كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله -سبحانه- علماً كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬6) وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (¬7) وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬8) وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر، إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال عزّ وجلّ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬9) وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله. ¬

(¬1) سورة طه: 5 (¬2) سورة ص: 75. (¬3) سورة المائدة: 64. (¬4) سورة القمر: 14. (¬5) سورة الرحمن: 27. (¬6) سورة النساء: 166. (¬7) سورة فاطر: 35. (¬8) سورة فصلت: 15. (¬9) سورة التكوير: 29.

وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجلّ، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين، ونظر لهم، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطف بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأن الله -سبحانه- يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن لا يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم، وأضلهم وطبع على قلوبهم. وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خير وشره حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، إلا ما شاء الله كما قال، ويُلجئون أمرهم إلى الله -سبحانه- ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال. ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. ويقولون: إن الله -سبحانه- يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله عزّ وجلّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وإن موسى -عليه السلام- سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن الله -سبحانه تجلى للجبل، فجعله دكاً، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة.

ولا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإنما ارتكبوا الكبائر والإيمان -عندهم- هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خير وشره، حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطأهم. والإسلام هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، على ما جاء في الحديث، والإٍسلام عندهم غير الإيمان. ويقرون بأن الله -سبحانه- مقلب القلوب. ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، والمحاسبة من الله عزّ وجلّ للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله -سبحانه- ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله -سبحانه- يخرج قوماً من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينكرون الجدل، والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، وينازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، لما جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عدلاً عن عدل، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة. ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض

بالشر، وإن كان مريداً له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله -سبحانه - لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضوان الله عليهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم. ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله -سبحانه- ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله عزّ وجلّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] . ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وألا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. ويقرون أن الله -سبحانه- يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] . ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام، بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر. ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر عصابة تقاتل الدجال، وبعد ذلك. ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله. ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم.

ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر كما قال الله تعالى، وأن الساحر كائن موجود في الدنيا. ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وموارثتهم ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان. وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله وأن الأرزاق من قبل الله -سبحانه- يرزقها عباده، حلالاً كانت أم حراماً وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تُنسخ بالقرآن وأن الأطفال أمرهم إلى الله: إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله. ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والفخر والكبر والإزراء عن الناس والعجب. ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير. وفي كتب أهل السنة والجماعة تفصيل وأدلة كل مسألة مما تقدم ذكره

فارجع إلى كتبهم إن أحببت الاطلاع على تلك التفاصيل. وقد أورد اللالكائي رحمه الله فصلاً طويلاً عن اعتقاد علماء السلف وعدد أسمائهم وذكر مقالاتهم تحت عنوان ((سياق ما روي عن المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنة والتمسك بها والوصية بحفظها قرناً بعد قرن)) (¬1) . ثم شرع في بيان اعتقادهم (الصحابة فمن بعدهم) في مسائل العقيدة وقد سار على هذا المنهج عدة من المؤلفين السلف رحمهم الله جميعاً. * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم 1، 2 ابتداء من ص 151 ج1 تحقيق الدكتور أحمد سعيد الغامدي.

الفصل العاشر بيان وسطية أهل السنة في مسائل الاعتقاد وسلامتهم من ضلالتي الإفراط والتفريط

الفصل العاشر بيان وسطية أهل السنة في مسائل الاعتقاد وسلامتهم من ضلالتي الإفراط والتفريط (¬1) المتتبع لمنهج السلف يجد أن الله تعالى قد هداهم إلى الوسط في عقيدتهم فلا إفراط ولا تفريط قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (¬2) أي خياراً عدولاً وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الأمور أوسطها)) (¬3) . وقد ميز الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المزية العظيمة وشرفهم بها وهداهم إلى الحق فلا تجد عند المتمسكين بهدي الكتاب والسنة إفراطاً ولا تفريطاً (¬4) ، لأنهما أشد مصادر الهلاك والضلال وبسببهما انتشرت البدع والخرافات بل وعبادة غير الله تعالى والشرك به بتزيين الشيطان وخدعه المتنوعة كما وقع لقوم نوح في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسراً وكما وقع لغيرهم من بعدهم من الأمم. وتظهر وسطية أهل السنة في جميع مسائل الاعتقاد سواء ما يتعلق منها بذات الله عزّ وجلّ أو بصفاته. ¬

(¬1) ارجع لمزيد الفائدة لرسالة الدكتوراه - وسطية أهل السنة بين الفرق - د. باكريم. (¬2) سورة البقرة: 143. (¬3) انظر كشف الخفاء للعجلوني 1/ 469. (¬4) الإفراط هو مجاوزة الحد في الشيء والتفريط هو التقصير في الشيء وتضييعه.

ويتبين فيما يلي: وسطيتهم بين الأمم الكافرة أصحاب الديانات الوضعية. وسطيتهم بين الفرق التي تنتسب إلى الإسلام. 1- وسطيتهم بين الأمم الكافرة: ويظهر هذا بوضوح عند المقارنة بين مفهوم الذات الإلهية في عقيدة أهل السنة وفي عقائد غيرهم. أ- وسطيتهم بالنسبة للإيمان بذات الله تعالى: فإن الله تعالى في عقيدة أهل السنة لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء فذاته بخلاف ما يتصور العقل، له ذات تليق بجلاله وله صفات تليق بجلاله وله أسماء تليق بجلاله حتى ولو كانت صفاته وأسماؤه قد أطلقت على المخلوق فإن العقل يدرك تماماً أن مجرد الاتفاق في التسمية لا يدل على المماثلة وهو واضح في المخلوقات تمام الوضوح فكيف بالخالق سبحانه وتعالى ولقد ضلت سائر الملل عن هذا المنهج (¬1) فبعضهم وصف ذات الله تعالى بأنها كذوات خلقه وهم اليهود، والمشبهة وبعضهم وصفوا غير الله تعالى بذات الله كالنصارى حينما ادعوا أن المسيح ابن الله وأنه إله، واليهود وصفوه عزّ وجلّ بأنه قد كبر وشاخ ولم يعد قادراً على تصريف الأمور إلا بمشورة موسى عليه السلام (¬2) كما تدل على ذلك التوراة ونصوص التلمود وتصريح زعماء ¬

(¬1) يوجد لكاتب هذه الأسطر مؤلف في عقائد اليهود والنصارى بالتفصيل فارجع إليه إن شئت. (¬2) وذلك حينما صرحت رئيسة وزراء إسرائيل في حرب الأيام الستة بقولها إن أميركا هي إله إسرائيل.

إسرائيل ووصفوه بالنقص وألحقوا العيوب به فلا فرق بينه وبين خلقه تعالى في مفاهيم المنحرفة. ولكن عند المسلمين هو سبحانه: ((أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)) . وقرروا أن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين وهذا المفهوم السهل الواضح وهو ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ولولا ظهور الشبهات واستحواذ الشياطين على عقول المخالفين لكان تصور ما تقدم يكفي لردهم إلى الحق. ب-وسطيتهم بالنسبة للإيمان بالأنبياء: وأهل السنة وسط في ما يتعلق بأنبياء الله تعالى فهم يؤمنون بأنهم بشر مثل سائر البشر شرفهم الله بوحيه ورسالته وأنهم أطهر الناس وأعقل الناس ولكن لا يرفعونهم فوق مرتبتهم ولا ينزلونهم عن قدرهم ويؤمنون أنهم لا يعلمون الغيب ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا بإذن الله. بينما تجد التوراة مملوءة بذكر عيوب أنبياء الله وأنهم حسب إفك كتاب التوراة من أحرص الناس على المال وأشدهم طلباً ولو كان سبيل ذلك تقديم العرض كما يكذبون على خليل الله إبراهيم وزوجته سارة وأنهم- وحاشاهم- زناة كما يكذبون على لوط ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم وبينما تجد هذا البهت عند اليهود تجد أن النصارى قابلوهم بالضد فادعوا لبعض الأنبياء وغيرهم الألوهية كعيسى عليه الصلاة والسلام وأمه وروح القدس. ثم غلوا في علمائهم فأنزلوهم منزلة الخالق في التشريع والتحليل

والتحريم كما أخبر الله عنهم وبرأ الله المسلمين من ذلك كله وأهل السنة والجماعة في قمة التوسط في نظرتهم إلى علمائهم على حد قول الشاعر: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد * * * كلا طرفي قصد الأمور ذميم وما أكثر ما كان يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (¬1) . كما نجد في القرآن الكريم أكثر من آية يوجه الله الخطاب فيها إلى أهل الكتاب ويذمهم بسبب غلوهم في الأنبياء وفي عبادتهم التي قامت على الإفراط والتفريط اتباعاً لما تمليه عليهم الشياطين. ج- وسطيتهم في عبادة الله تعالى: سلك أهل السنة مسلكاً صحيحاً يؤيده الكتاب والسنة حيث عبدوا الله بما شرع لهم في كتابه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يزيدون في عبادتهم ولا ينقصون كما شرع لهم ربهم، ولا يشرعون لأنفسهم عبادة لم يؤيدها الدليل في كل جزئية من أمور العبادة البدنية أو القولية بينما تجد من خرج عن هدى الإسلام قد جعل إلهه هواه وأهل الكتاب هم القمة في هذه الصفة الذميمة. فاليهود -وهم أهل تفلت وتحريف واستكبار- نجدهم من أشد الناس ابتعاداً عن العبادة حسب ما شرع الله لهم ومن أشد الناس كسلاً عنها، فقد أمرهم الله أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوه زحفاً على أعقابهم وأمرهم أن يقولوا حطة فقالوا حنطة بل وأمرهم أن يدخلوا فلسطين فقالوا لموسى: ((اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)) بل وأمرهم الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري مع الفتح ج12 ص144.

تعالى أن يعبدوه فعبدوا العجل والحية نخشتان وآلهة أخرى. ولهذا وصفهم موسى عليه الصلاة والسلام بأنهم أصلاب غلاط الرقبة عصاة أصحاب عناد واستكبار وحب للفتن. ووضعهم اليوم في فلسطين مع جيرانهم أقوى شاهد على هذا السلوك البغيض منهم فإنهم لا يعيشون إلا في الفتن وتأجيجها وفي التفنن في المؤامرات. وأما النصارى فهم بضد اليهود غلوا في العبادة والتقرب إلى الله حتى خرجوا عن منهج الله وأمره بتزيين الشيطان لهم وحرموا على أنفسهم ما أحل لهم وابتدعوا رهبانية لم يستطيعوا القيام بها. وقد وصف الله هذا السلوك الأحمق بقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1) . د- وسطيتهم في صفات الله تعالى بين أصحاب الأديان المحرفة: من أصول أهل السنة والجماعة في باب الصفات: - وجوب الإيمان واليقين بجميع أسماء الله وصفاته كما وردت بألفاظها الشرعية نفياً وإثباتاً بينما نجد المشركين وأهل الكتاب في غاية البعد عن التزام ذلك. - وأن لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم ولا يجوزون اختراع أسماء أو صفات لله تعالى لم ترد في الوحيين. ¬

(¬1) سورة الحديد: 27.

- الإيمان بمعاني الصفات وقطع الطمع عن البحث في كيفياتها. - الإيمان بأن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر. - الإيمان بأن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات. وهذه الأمور المجملة عن عقيدتهم في هذا الجانب هو الذي يتفق ونصوص الشرع ويرتاح العقل إلى قبوله، فهو أمر منطقي لا تكلف فيه ولا هضم وهو الذي عاد إليه المتنطعون من أصحاب علم الكلام وأقروا به وأذعنوا وندموا على مخالفتهم (¬1) له بسبب تشبعهم بفلسفة اليونان وحكمائهم الجاهلين. وهذه العقيدة سهلة وواضحة بعيدة عن التصورات الباطلة ولهذا فقد أراحوا أنفسهم من الدخول في ظلمات الشكوك والتخيلات التي لا تقف عند حد فتجدهم يعبرون عن معتقدهم في هذا الباب بأنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله عنه في كتابه أو أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم من صفات عليا. ويعرفون معنى كل صفة ويفوضون في الكيفيات ويعلمون أن صفات الله لا تشبه صفات خلقه معتمدين قوله عزّ وجلّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2) . وينفون عنه كل صفة تشعر بالذم أو لم ترد في الكتاب ولا في السنة ويتوقفون في إطلاق الأسماء والصفات عليه جل وعلا إذا لم ترد في الكتاب والسنة. وهذا بخلاف ما عليه من أهل الكلام ممن ينتسبون إلى الإسلام وممن لا ينتسبون إليه مثل اليهود والنصارى فإن اليهود: وصفوا الله تعالى ¬

(¬1) كالجويني والرازي وغيرهما. (¬2) سورة الشورى: 11.

بصفات النقص والذم ومثلوه بخلقه وقد أخبر عزّ وجلّ عنهم أنهم وصفوه بالبخل قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (¬1) ووصفوه بالفقر كما قال تعالى عنهم {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ستكتب شهادتهم} (¬2) ووصفوه في التوراة وفي التلمود بأنه يتعب ويندم ويبكي ويلهو مع حواء ويعقد شعرها ويلعب مع السمكة الكبيرة وأنه يقرأ التوراة كل يوم وقبل النوم وأنه لا يعرف الأشياء إلا بعد وقوعها وأنه مثل الإخطبوط وأنه يكتب بالقلم ووصفوه بالنسيان الكثير والوقوع في الأخطاء والتوبة منها وغير ذلك من الصفات التي ملئت بها التوراة مما لا يتسع المقام لبسطه هنا. ولم ينتشر التشبيه والتجسيم إلا من قبل اليهود المفترين، وأما النصارى فإنهم في صفات الله تعالى على وفق ما عليه الوثنيون لأن النصرانية التي أحدثها بولس هي عين الوثنية ولهذا راقت في نظر قسطنطين وسائر الوثنيين من أباطرة الرومان فتظاهروا بأنهم على النصرانية. وقد مدحوا بعض من يؤلهونهم بكل صفات الله تعالى وتقدس كما ادعوا في المسيح عليه السلام وادعوا أن لله ولداً وصاحبة -المسيح وأمه- وأن المسيح يجلس إلى جوار أبيه وأنه وحيد الله تعالى وغير ذلك من عقائدهم الباطلة التي تبرأ منها المسيح ومن معتقديها في الدنيا والآخرة كما بين الله تعالى ذلك في كتابه الكريم. 2- وسطيتهم بين الفرق التي تنتسب إلى الإسلام: تعددت الفرق الإسلامية وتباينت مفاهيمهم وادعت كل طائفة أنها هي التي على الحق وغيرها على الباطل. ¬

(¬1) سورة المائدة: 46. (¬2) سورة آل عمران: 181.

وقد تقدم أنه لا عبرة بادعاء أي طائفة وأن العبرة إنما هي بعرضها على الكتاب والسنة فما وافقهما فهو على الحق وما خالفهما فهو على الباطل كائناً المخالف من كان وكان لأهل السنة بتوفيق الله موقفهم المتميز بين تلك الفرق كلها. وسيجد القارئ إن شاء الله ما يوضح له الحق ويبين له وسطية أهل السنة في مسائل العقيدة بالنسبة للفرق الأخرى ممن ينتسبون إلى الإسلام من خلال ما يلي: 1- وسطيتهم بالنسبة لأسماء الله تعالى وصفاته بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام: موضوع الأسماء والصفات من أهم مواضيع العقيدة ومن أكثرها مجالاً لخلافات الناس ولقد كانت من أسهل المواضيع ومن أقلها إشكالاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خلفائه الكرام ولهذا لم يبحثوها ولم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لعلمهم التام وعقولهم الراجحة ومعرفتهم أن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات حتى إذا ما ظهر قرن الشيطان من وراء علوم اليونان وفلسفاتهم وعلوم الكلام ومتاهاته. فإذا بها كما وصف المتنبي شعره ولغته ((ويسهر الخلق جراها ويختصم)) . وأخذ الخلاف فيها أشكالاً عديدة ووقعت الفتن التي لا يعلم مداها إلا الله وحده ولا يزال المسلمون يجترون آثارها إلى اليوم في مناقشات ومجادلات عقيمة سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا يزداد بها الشخص إلا جهلاً وضلالاً وبعداً عن الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، وتظهر وسطية أهل السنة في باب الأسماء والصفات بمقارنة

عقيدتهم بعقائد المخالفين من الفرق ذلك أن أهل السنة يؤمنون بأن لله أسماء وصفات حسنى وصف بها نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه العظيم آمن بها السلف كما وردت من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل. - الصحيحة والمعتقد الأسلم والأعلم والأحكم التي حاد عنها أصحاب الأهواء والبدع عقوبة لهم على تركهم الكتاب والسنة وطريق المؤمنين وتقديمهم لأفكار الملاحدة من عتاة الحضارة اليونانية والهندية وغيرها وإذا نظرنا إلى عقائد أصحاب الأهواء والانحراف فسنجد أن بينهم وبين عقائد أهل السنة تفاوتاً بعيداً وتعارضاً صارماً، أما أهل التعطيل، فقد كان إيمانهم بصفات الله تعالى على أسوأ الاضطراب فقد نفوا عن الله تعالى اتصافه بالأسماء أو بالصفات بحجة تنزيه الله تعالى عن التشبيه كما قرره زعيمهم الجهم بن صفوان في أن إثبات أي صفة أو اسم لله تعالى فيه مشابهة لله بخلقه وهو كفر حسب زعمه فيجب عدم إثباته. ومذهب الجهمية هذا كان أصرح من مذهب المعتزلة الذين أثبتوا أسماء الله تعالى ولكنهم نفوا صفاته ونفوا أن تدل الأسماء على معان ومدلولات وقد أرجعوا الصفات إلى الذات فقالوا سميع بذاته عليم بذاته ... الخ. وهذا الموقف الباطل يلحقهم بالجهمية إذ أن النتيجة واحدة وهي نفي الصفات ومدلولاتها. وأما الأشاعرة فقد تناقض موقفهم حيث أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ثم أولوا أو نفوا بعضها الآخر أو أرجعوها إلى الإرادة والمشيئة لا غير ومعلوم أن ما نفوه عن الله تعالى يعتبر تعطيلاً ويلزمهم أن يقولوا فيما نفوه مثل قولهم فيما أثبتوه وإلا كان إثباتهم ونفيهم تحكماً بلا دليل صحيح ومن هنا

كان هؤلاء محل نقمة جميع الفرق عليهم أهل السنة والمعتزلة والجهمية وإذا كان من تقدم ذكرهم عطلوا الله تعالى عن ما يستحقه من معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا فقد قابلهم فريق آخر من أصحاب الأهواء وهم المشتبهة ومذهبهم أن الله عزّ وجلّ في صفاته وأسمائه مثل الإنسان تماماً وذهب غلاتهم كهشام بن الحكم الرافضي وهشام بن الحكم الجواليقي ومقاتل بن سليمان وداود الجواربي وغيرهم إلى وصف الله عزّ وجلّ بأوصاف يتنزه عنها جل وعلا افتروا فيها على الله تعالى وطرقوا باباً حجبه الله عن الخلق وكل تلك الآراء مجانبة للحق بعيدة عن الصواب لأنها قامت على غير أساس ثابت {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} بسبب إعراضهم عن الحق الذي هدى الله إليه السلف وبسبب تشبعهم بعلم الكلام والفلسفة والمنطق وظنهم أنهم على شيء وأنهم أوتوا علماً غزيراً {ومن أظلم ممن ذُكّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} (¬1) ومعلوم بالعقل أن الله تعالى لو سأل الشخص وقال له لماذا أثبتَّ لي الأسماء والصفات فأجابه بأني آمنتُ بها كما نطقتُ بها لكان هو الجواب الحق وهو أمر بدهي ولولا تنطع أصحاب الأهواء لما توقف أحد عن الإيمان بهذا فإن الله تعالى أعلم بنفسه وبما وصفها به من صفات عليا وأسماء حسنى وله المثل الأعلى. فأهل السنة أثبتوا الأسماء والصفات دون أن ينساقوا إلى التشبيه بل لم يخطر في أذهانهم أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم المشابهة والمماثلة لمعرفتهم أن الاتفاق في التسميات لا يلزم منه الاتفاق في الذات كما أنهم لم ¬

(¬1) سورة السجدة: 22.

يعطلوا الله تعالى عن دلائل أسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه بل أثبتوا من الأسماء والصفات ودلائلها كما يليق به تعالى وهو المسلك الحق الذي يجب اتباعه ونبذ ما عليه المعطلة والمشبهة أهل الإفراط والتفريط ومثل وسطية أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسطيتهم كذلك في الأمور الأخرى مثل ما يتعلق بأهل المعاصي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 2-وسطيتهم في الحكم على أصحاب المعاصي: وتظهر وسطية أهل السنة في أصحاب المعاصي من خلال معرفة حكمهم عليهم في الدنيا والآخرة وحكم المخالفين عليهم في الدنيا والآخرة أيضاً. فما هو حكم أصحاب المعاصي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة؟ والجواب: عند أهل السنة حكم العاصي في الدنيا أنه لا يخرج عن اسم الإسلام ويقال له مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأما في الآخرة فحكمه إلى الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عاقبه ولا يخلد في النار مثل سائر الكفار إن دخلها، وهذا هو الذي تجتمع عليه النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أما غير أهل السنة فكانوا بين إفراط وتفريط في الحكم على العاصي فقد حكم عليه بعضهم كالخوارج بأنه كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار أو هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا فلا هو مؤمن ولاهو كافر ولكنه في الآخرة مخلد في النار، وهذا حكم المعتزلة وقابلت الجميع المرجئة فحكموا بإيمانه إيماناً كاملاً في الدنيا وهو في الآخرة مع النبيين الصديقين والشهداء. وحجة الجميع تتفق في أنهم يرون أن الإيمان كشيء واحد لا يتبعض

فلا يزيد ولا ينقص فإما يكون الشخص عاصياً -والعاصي ليس بمؤمن- وإما أن يكون طائعاً -وهو المؤمن- وحكم الكافر والمؤمن معروفان في الإسلام. وبالتأمل في موقف أهل السنة من أصحاب الذنوب وموقف من سواهم ممن ذكرنا تتضح بجلاء وسطية أهل السنة وصدق قول الله تعالى فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (¬1) . 3- وسطيتهم في الإيمان بالقدر: كما تظهر وسطيتهم في كل الأمور العقدية الأخرى التي خالف فيها أصحاب الأهواء والبدع ومنها قضية الإيمان بالقدر فإن قضية القدر من المسائل الشائكة التي يجب فيها التسليم والرضى. وكان لأهل السنة موقفهم الذي يعضده النقل معاً فقد تأكد في مذهبهم أن القدر سر الله تعالى وأن الواجب على المسلم الإيمان به دون تعمق لما وراء الأدلة وترك الاحتجاج به على فعل المعاصي والإيمان بتقدير الله تعالى لكل الأمور بمشيئته، وأن الله هو الخالق لكل شيء بما فيها أفعال العباد ولكنها لا تسمى فعل الله بل هي أفعال العباد والله هو الذي أقدرهم على فعلها ولو شاء لما فعلوها كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (¬2) وهي مشيئته الكونية العامة وهذا بخلاف ما تقوله الجبرية الذين يرون أن الله هو الخالق لها ثم يضيفون قولهم الخاطئ أن العباد لا قدرة لهم على الفعل وإنما هم كريشة في مهب الريح وأن الخالق والفاعل معاً هو الله تعالى ومن هنا نشأ ¬

(¬1) سورة البقرة: 143. (¬2) سورة البقرة: 253.

خطأهم، وكذلك خطأ القدرية الذين زعموا أن العبد هو الخالق لفعله وقدرته وإرادته دون أي تدخل من الله تعالى ومن هنا وصفوا بأنهم يثبتون خالقين مع الله تعالى مشابهة للمجوس، وأهل السنة توسطوا في ذلك كما عرفت سابقاً فأثبتوا مشيئة الله الكونية والشرعية وقدرة الله على كل شيء وأثبتوا أن العبد له قدرة ومشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى وقدرته وهو الفاعل للفعل حقيقة. وموقف القدرية والجبرية الخاطئ يعود إلى عدم فهمهم لإرادة الله ومشيئته فهماً صحيحاً على الطريقة التي سار عليها السلف وهي الإيمان بأن لله مشيئة وإرادة لا يخرج أي شيء عنهما فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ثم يعود كذلك إلى عدم تفريقهم بين الإرادة والمحبة ذلك أن الإرادة إما أن تكون كونية وهي الإرادة العامة لجميع الموجودات ودليلها قوله عزّ وجلّ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (¬1) وإما أن تكون الإرادة شرعية وهي التي تتعلق بمحبة الله تعالى ورضاه عن الشيء كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (¬2) وأهل السنة يؤمنون أن الإرادة الكونية هي التي تعلقت بكل شيء حتى معصية العاصي فلا يلزم منها التفرقة بين ما يحبه الله وما لا يحبه. أما الإرادة الشرعية فهي التي تعلقت بمحبته ورضاه فهو وإن كان قدَّر وقوع الشر كوناً لكنه في الإرادة الشرعية لم يرضه ولم يحبه فهو لا يحب الظالمين ولا الفاسقين ولا العاصين. أما بالتأمل في مذهب المخالفين فنجد أن المعتزلة لا يفرقون بين الإرادتين الكونية والشرعية فيعتقدون أن كل ما أراده الله فقد أحبه. وبذلك توصلوا إلى أن المعاصي لا يريدها الله تعالى ولا يحبها وبالتالي ¬

(¬1) سورة البقرة: 253. (¬2) سورة النساء: 82.

فلم يأمر بها ولا إرادة له في وقوعها وإلا لكان مريداً للمعاصي وبالتالي فلا يعاقِب عليها حسب زعمهم. بينما ذهبت الجبرية إلى عدم التفريق بين الإرادتين أيضاً ولكنهم ناقضوا المعتزلة فقالوا كل ما يقع من أفعال خيِّرة كانت أم شريرة طاعة أم معصية كلها بإرادة الله تعالى ومحبته ورضاه وإلا لما وقعت فاحتجوا بالقدر على أفعالهم كالمشركين الذين احتجوا بمشيئة الله ورضاه على وقوعهم في الشرك وفي التحليل والتحريم. وبالتأمل في مذهب أهل السنة والمخالفين لهم يتضح تماماً وسطية أهل السنة بين غلو القدرية والجبرية وعدم وقوف القدرية والجبرية عند الحق الذي هدى الله إليه أهل السنة بلطفه وكرمه. 4-وسطيتهم في موقفهم من الصحابة رضي الله عنهم وكما توسط أهل السنة في تلك المعتقدات السابقة توسطوا أيضاً في قضية أخرى تتعلق بالصحابة رضوان الله عليهم وقبل بيان هذا الجانب أقول أن العقل لا يكاد يتصور أن يمس جانب الصحابة بأدنى أذى احتراماً لهم وتوقيراً واعترافاً بجميل ما قدموه للبشرية جمعاء وأياً كان الحال فقد وقعت الخصومة فيهم بين مختلف الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام وكان لأهل السنة موقفاً مشرفاً منهم كانوا به وسطاً فيهم فكيف تم ذلك؟ وقف أهل السنة بالنسبة للصحابة بين غلو الغالين وتقصير المخالفين وقد تميز موقفهم منهم بأمور كثيرة منها: 1- أن الصحابة هم خير البشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم. 2- الاعتراف بكل ما ذكر عنهم من الفضائل في القرآن والسنة وأقوال أهل العلم.

3- السكوت عما شجر بينهم من اختلاف وفتن داخلية ولا نذكرهم إلا بخير. 4- الشهادة بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بها أو جاءت في القرآن. 5- الاعتراف بأنهم كلهم على فضل ولكنهم يتفاضلون فيما بينهم وأن أفضلهم على الإطلاق أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعاً دون انتقاص لفضل كل منهم وأن خلافة كل واحد منهم ثابتة على النهج الصحيح وأن من أسلم قبل الفتح وبيعة الرضوان أفضل ممن أسلم بعد ذلك. 6- الاقتداء بهم والتحلي بفضائلهم واقتفاء آثارهم. 7- لا نرفع أحداً منهم فوق منزلته ولا ندعي له فضائل لم تثبت وهم في غنى عن مدحهم بما لم يثبت يهم. 8- الإيمان بأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم طاهرات مطهرات وأنهن أمهات المؤمنين ويؤمنون بوجوب محبة أهل البيت ويقدمونهم وفق وصية النبي صلى الله عليه وسلم بهم دون إفراط ولا تفريط. 9- لا يدّعون عصمة أي شخص كائناً من كان مع الاعتقاد أن من جاء بعدهم لا يصل إلى جزيل ما أعد الله لهم من الثواب لأن مُدَّ أحدهم خير من إنفاق مثل جبل أحد ذهباً من غيرهم. 10- لا يكفرون أحداً من الصحابة ولا اعتبار للمرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. 11- يتولون الصحابة كلهم ويترضون عنهم بخلاف الرافضة وغيرهم من الفرق الضالة وبهذه المزايا التي اتسم بها أهل السنة كانوا وسطاً فيما يتعلق

بجانب الصحابة وستتضح وسطيتهم من خلال ما تلاحظه في مواقف المخالفين لهم فيما يأتي: فالخوارج كفّروا الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكفروا كل من شارك في قضية التحكيم وتبرؤوا منهم بل وأوجبوا لهم النار كما تبرؤوا من الحسن والحسين وكفروا الخليفة ذي النورين أيضاً رضي الله عنه وكذا طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعاً وهذا الموقف منهم غاية في الغلو المذموم وجرأة ممقوتة على هؤلاء الأخيار وقد تبعهم في هذا الموقف الشنيع بعض كبار المعتزلة كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد حيث قالوا بفسق أصحاب الجمل وعلي ومعاوية ومن معهم من أهل صفين ومن عثمان كذلك رضي الله عنه، وهذا قول عمرو بن عبيد وأما شيخه واصل بن عطاء فقد قال بفسق أحد الفريقين دون تعيين كما تتبرأ المعتزلة من معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وبالجملة فإن المعتزلة كان موقفهم من الصحابة قريب من مواقف الخوارج في غلوهم متناسين ما قدمه أولئك الفضلاء من خيرٍ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بل غلبوا ما تصوروه عنهم من بعض المواقف التي لم يفهموا تفسيرها أو كانت تخالف آراءهم الاعتزالية فوقفوا منهم تلك المواقف الشنيعة وخالفوا ما أمرهم الله به من الاستغفار والترحم والترضي على من سبق بالإيمان فضلاً عن خيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين. وأما الرافضة فقد كان موقفهم من صحابة نبي الله صلى الله عليه وسلم سبة وعاراً فقد وصلوا في حمقهم وغبائهم أن شتموا الصحابة بل وتقربوا بسبهم إلى الله تعالى ولهذا كان النصارى أعقل منهم حين قيل لهم من خير أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب عيسى وكان اليهود أعقل منهم حين قيل لهم من خير أهل

ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى أما الرافضة فإنهم لو قيل لهم من شر أهل ملتكم لقالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عليه ولهذا نجد كثيراً من المسلمين الذين هم على الفطرة يترضون عن جميع الصحابة وما أن يدخل الشخص في مذهبهم إلا وأصبح لعن الصحابة وخصوصاً من شهد له الله تعالى بصحبة نبيه من أول التزاماته العقدية. فما الذي سيجنيه المسلمون من شخص يزعم أنه مسلم وهو عدو مبين لسلف هذه الأمة مقتدياً بابن سبأ والحاقدين من أصحاب الديانات التي قضى عليها الفتح الإسلامي على أيدي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وإذا كان موقفهم تجاه الصحابة كله موقف عداء وبغض وشتم فإن موقفهم تجاه أهل البيت وعلي بخصوصه أشد شناعة وعداوة وإن كان ظاهرهم أنهم يحبونهم ويتشيعون لهم ذلك أن التاريخ كله يشهد بأن أكثر المآسي وأفدحها التي وقعت لأهل البيت كان وراءها عقول الرافضة وسيوفهم ابتداء بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وابنه الحسين ومن جاء بعده من أهل البيت الذين استدرجهم الرافضة للخروج على الدولة الأموية ثم خذلانهم في أحرج المواقف كما وقع لمسلم بن عقيل والحسن بن علي وزيد بن علي ين الحسين وابنه يحيى وغيرهم. ولقد غلا الرافضة غلواً فاحشاً في حق علي رضي الله عنه ورفعوه إلى منزلة أحرق من قال بها في حياته وهي تأليههم له. فقد فضلوه على سائر الصحابة وادعوا أنه سيرجع قبل يوم القيامة وأنه خير الأوصياء وأنه لم يجمع القرآن كما أنزل إلا هو. وأن أهل بيته كلهم من الأئمة المعصومين عن الذنوب والخطايا وأنهم

يعلمون الغيب وأنهم لا يموتون إلا بإذنهم وإرادتهم وأنهم أفضل من الأنبياء والمرسلين وعندهم الجفر والجامعة ومصحف فاطمة وأنهم يوحى إليهم وغير ذلك من غلوهم الفاحش المدون في كتبهم يتوارثونه خلفاً عن سلف كما في كتابهم الكافي للكليني وغيره. وفي المقابل صبوا جام غضبهم على الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين عائشة وحفصة وسائر الصحابة وأنهم حسب افترائهم ارتدوا عن الإسلام وخصوصاً من حضر غدير خم لعدم مبايعتهم علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولولا أن الحديث لا يتطلب تفصيل هذه الافتراءات والأباطيل لكان إثبات ذلك عنهم من مراجعهم من أيسر الأمور فليرجع إليها الباحث عن الحق النهم بالمعرفة ليقف على كل ضلالات الرافضة وخروجهم عن الحق وليظهر له توسط أهل السنة والجماعة في موقفهم من كل صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفيما تقدم إشارة كافية للبيب. (¬1) ¬

(¬1) ارجع لمزيد من التفصيل كتاب وسيطة أهل السنة بين الفرق د. محمد باكريم وإلى دراستنا للرافضة ضمن هذا الكتاب فرق معاصرة.

الفصل الحادي عشر علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة مزايا العقيدة السلفية وأصحابها

الفصل الحادي عشر علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة مزايا العقيدة السلفية وأصحابها امتازت عقيدة السلف بمزايا عظمية ميزتهم عن جميع العقائد التي قامت على الهوى وما أفرزته العقول البشرية. لأن العقيدة السلفية مصدرها غير مصدر العقائد البدعية فلا بد أن يحصل بينهم التمايز وإضافة إلى أنها قامت على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنها لم تدنس بعلم الكلام والمنطق وسائر ما أفرزته عقول فلاسفة اليونان وغيرهم بل هي عقيدة نقية تملأ النفوس يقيناً وطمأنينة وأتباعها يعظمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجتمعون عليها ولا يتفرقون في ثبات عظيم كثبات عقيدتهم الناصعة التي رضيها الله عزّ وجلّ وهدى أحباءه إليها. فقد انعكست هذه العقيدة بصفائها على معتنقيها فصاروا أثبت الناس على الحق بخلاف أهل الأهواء الذين تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه وسبب ثباتهم يعود إلى يقينهم بصحة ما هم عليه واقتناعهم به وهم من أكثر الناس اتفاقاً وأقلهم اختلافاً لأن هدفهم أصبح واحداً وتفكيرهم واحداً وهذا التوحد سببه تمسكهم بعقيدة واحدة وثقتهم أن السلف من قبلهم كانوا على الحق والصراط المستقيم فاحتذوا أثرهم وسلكوا مسالكهم وأخلصوا في نشر عقيدتهم فملأت الدنيا نوراً وأخرج الله بهم أقواماً من

الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وكانوا أمة وسطاً عدولاً يستحقون ثناء الله وثناء رسوله عليهم وكانوا من أحرص الناس على اجتماع الكلمة وعدم التفرق في الآراء والأفكار ولا أدل على هذا من أن بعضهم كان إذا اختلف مع آخر في قضية واشتد الخلاف بينهم وخشي أن تكون فتنة كان يترك خلافه لأخيه حباً في اجتماع الكلمة وكراهية للتفرق كما يذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولهذا استحقوا أن يسموا أهل السنة والجماعة وهما وصفان يدلان على أفضليتهم وحسن ما هم عليه من السلوك الحميد والمعتقد السليم. وإذا كنا نذكر سماتهم هنا وسمات غيرهم من أهل الأهواء فإنما ذلك على حد ما قال الشاعر ((وبضدها تتميز الأشياء)) والناظر في مذهب السلف والخلف يجد لكل منهم علامات تميزهم نابعة عن اعتقاد كل منهم لأنه كما يقال ((كل إناء بالذي فيه ينضح)) . فلأهل السنة علامات وصفات ولغيرهم من المخالفين علامات وصفات ولا تشكل على طالب العلم التمييز بينها. فإن المتتبع لسلوك السلف سيجد أنهم تميزوا بصفات كثيرة منها: 1. أنهم أعرف الأمة بالحق. 2. وأرحم الأمة بالخلق. 3. وأرحم الناس بخصومهم من بعضهم البعض. 4. ومن أشد الناس رجوعاً إلى الحق وانقياداً له ووقوفاً عنده. 5. ومن أشدهم رحابة صدر ودماثة خلق وتسامح وإنصاف في حال قدرتهم على المخالفين لهم.

6. ومن أكثرهم تواضعاً وتلطفاً وأبعدهم عن السباب والفحش وسيء الأخلاق. 7. لا يشمتون بأحد ولا يظهرون الاستهزاء إلا بالقدر الذي يتبين به غرضهم من الرد على المخالفين إن كان ذلك ضرورياً. ولقد كانت لهم مواقف تشهد بنبل أخلاقهم وحبهم للتسامح والشفقة على المخالفين يتمثلون ما كان عليه نبيهم الكريم من الصبر حينما كان يؤذيه قومه وهو يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬1) . والأمثلة على هذا كثيرة سجلها التاريخ لهم وتاريخ الصحابة مليء بالأمثلة المشرفة ومن ذلك: - مواقفهم في سقيفة بني ساعدة. - مواقفهم تجاه أهل الذمة. - مواقفهم في حال الحرب مع المخالفين. - مواقفهم في الحفاظ على العهود والمواثيق. وكان نصيب الخلفاء الراشدين من تلك الصفات القمة والحظ الأعلى ومن اطلع على تأريخهم عرف ذلك فهذا الخليفة الصديق صاحب النبي صلى الله عليه وسلم كان من أشد الناس شفقة ورحمة بالمخالفين له وفي غاية التسامح مع كل من أساء إليه يبادر بالعفو إذا ذُكّر به مهما كان الحال. وقصته مع مسطح خير دلالة على ذلك فإنه حين غضب عليه لمشاركته مع أصحاب الإفك وكان ينفق عليه آلى على نفسه أن لا يُنفق عليه بعدها فلما أنزل الله تعالى: {ولا يأتلِ أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ¬

(¬1) انظر البخاري مع الفتح ج6 ص 514 ومسلم ج4 ص 1417.

والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} (¬1) فرجع ينفق عليه حباً في مغفرة الله. ومواقف أخرى عديدة كلها تدل على تأصل هذه الصفة في نفسه، ومثل موقفه حين تشاجر مع عمر وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر واحمر وجهه وأخذ يعاتبه حتى أشفق أبو بكر على عمر وهدّأ من غضب الرسول صلى الله عليه وسلم شفقة بعمر رضي الله عنهما. وكذلك عمر الفاروق رضي الله عنه فقد كان من أشد الناس رحمة على رعيته وأبنائه، وكل المسلمين كانوا عنده كأنهم رجل واحد يتعهد فقراءهم فيواسيهم ويرشد ضالهم ويعلمه وقصته مع المرأة التي باتت تعلل بنيها بالماء فوق النار توهمهم أن بها أكلا ليناموا فلما وقف عليها عمر رضي الله عنه وسألها عن حالها وشكت فقرها فذهب وجاء بالدقيق والمسن وكان ينفخ النار والدخان يخرج من خلال لحيته حتى أنضج لهم الطعام ولم ينصرف إلا والأطفال يلعبون فرحين من الشبع. وكان من رحمته برعيته أنه كان يبذل النصيحة ويرشد المخطئ حتى في أحرج المواقف فقد دخل عليه رجل يعوده حين طعنه أبو لؤلؤة المجوسي فلما خرج الشاب رأى عمر أن ثوبه طويل فاستدعاه وهو في تلك الحال التي كان يجود بنفسه فيها وقال له ارفع ثوبك يا ابن أخي فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك. وما فعله مع صبيغ من تأديبه لإرجاعه إلى الحق وغير ذلك من المواقف التي تدل على رحمته وحبه للمسلمين. ¬

(¬1) سورة النور: 22.

وكذلك عثمان رضي الله عنه وما كان يتصف به من الرقة والحياء والكرم أمر مشهور في كتب التاريخ فقد كان سريع العفو لا ينتقم لنفسه محباً للعافية تجاه رعيته فقد واساهم في زمن المجاعة ابتغاء مرضاة الله بقافلة من الشام وقعد لتمريض زوجته رضي الله عنهما بل عفا عن البغاة الذين أتوا للنقمة عليه في المدينة. ومثلهم علي رضي الله عنه وما ميزه به الله من الأخلاق الطيبة والرحمة بالمساكين والعطف على رعيته وتقديم نفسه في المعارك حماية للمسلمين ودفاعاً عنهم. وإذا تجاوزنا الحديث عن بقية الصحابة الكرام ومآثرهم العظيمة وانتقلنا إلى علماء السلف من المسلمين فإننا نجدهم من أرحم الناس وأشدهم شفقة على المخالفين وأنصحهم لهم ويأتي في أول هؤلاء إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وتأريخه مع القائلين بخلق القرآن وما لقيه من الآلام التي تنفطر لها القلوب خير شاهد على ذلك وعلى محبته للمسلمين ولقد ابتلي بالضراء فكان أصلب من الرواسي وابتلي بالسراء فكان شديد الحلم والتواضع لم تخضعه نقمة ولم تستخفه نعمة. وتاريخ السلف غني بالرجال الأفذاذ فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كان من أحرص الناس على بيان الحق ومن أشدهم عفواً عن من ظلمه لم يبال بالسجن والإهانات التي وجهت له من قبل المخالفين الحاقدين عليه وطالما تمكن من الانتصاف منهم ولكنه كان يبادر إلى العفو عنهم ولا يطلب منهم إلا معرفة الحق والتبصر في الدين قال رحمه الله عن إنصاف أهل السنة وشفقتهم بمخالفيهم ((أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم

لأن الكفر حكم شرعي فليس الإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك فليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأن الكذب والزنى حرام لحق الله وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلى من كفره الله ورسوله)) (¬1) . وإذا تجاوزنا تاريخ تلك الحقبة ورجالاتها إلى رجال العصور الأخيرة من السلف فسنجد رجالاً كانوا مثال الأخلاق الفاضلة وحب الخير للناس جميعاً ومن أشدهم رحمة بكل المسلمين حتى المخالفين منهم وفي أول هؤلاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي بذل نفسه لخدمة العقيدة وتفهيم الناس بدينهم الصحيح. وكذا من سار على طريقته مثل الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله، الذي أخرج الله به أقواماً من الظلمات إلى النور ومن الشرك إلى التوحيد ومن الخرافات الجاهلية إلى الحقائق الإسلامية في منطقة جيزان ففتح الله به القلوب ونور به البصائر وكان رحمة من الله تمكن حبه في القلوب وتمكنت دعوته في النفوس ولن تزال أبداً إن شاء الله قوة راسخة. هذه نماذج سقتها على عجل مكتفياً بمن تقدم ذكرهم كأمثلة مشرفة لسلف هذه الأمة وما امتازوا به من حميد الصفات وهناك مئات الأمثلة التي لا تكاد تحصى إلا بالكلفة. ومن المعلوم أن هذا التسامح ليس هو تسامح العاجزين فقد كانوا فرسان الوغى وليوث الحروب لا يخافون إلا ربهم من فوقهم وإنما هو تسامح الواقف عند الحق المقدم له الراضي به أما بالنسبة لسمات أهل البدع من الفرق الهالكة فقد اتصفوا بأسوأ الصفات التي أبانت عن سوء معتقداتهم لعدم تحليهم بآداب السنة الغراء وهو أمر بدهي فإن المخالف لها لا بد أن يركب ¬

(¬1) الرد على البكري ص 258.

هوى نفسه والهوى من أخطر المطايا وأسرعها إلى الهلاك ومخالفة الشرع. وبتتبع الصفات التي يتصف بها هؤلاء تجد أنها كثيرة ومنها: 1. بغي بعضهم على بعض والتطاول في السباب. 2. اختلافهم لأتفه الأسباب وكثرة تفرقهم. 3. اتباعهم لما يهوون حسبما تمليه عليهم رغباتهم وتكفير بعضهم البعض وتكفير كل طائفة لما عداها. 4. تتبعهم المتشابه وإثارة الخلافات حوله. 5. بغضهم لأهل السنة واختراع الألقاب الباطلة لهم تنفيراً عنهم. 6. بغض مذهب السلف وتسميته بالأسماء والألقاب الباطلة. 7. قبولهم للروايات الكاذبة وعدم تحريهم النصوص الصحيحة. 8. قبولهم للأخبار التي لا يصدقها العقل ولا تعضدها حجة. 9. عدم اهتمامهم -كما يجب بالسنة النبوية- وتسلطهم عليها بالتأويل أو الرد بحجة أنها غير ملزمة مثل القرآن. وغير ذلك من الصفات التي عرفت عنهم قديماً وحديثاً. فالخوارج وهم أول الفرق الهالكة خروجاً تجد أنهم يتصفون بالجفاء والخروج عن الدين وضيق الأفق وتكفير المخالفين لهم واستحلال دمائهم وأموالهم فكانوا يقتلون المصلين في المساجد حينما يغيرون عليهم محكمين بزعم أنهم كفار وأن جهادهم قربة إلى الله، وقد كفروا خيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين من عظماء الصحابة رضوان الله عليهم مثل علي بن أبي طالب وعثمان وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص والحسن والحسين وغيرهم من فضلاء الصحابة ومن سار المسلمين.

وكفروا الناس بالمعاصي واستحلوا دماءهم بها وأوجبوا الخروج على الحكام لأتفه الأسباب فسفكوا من الدماء ما لا يعلمه إلى الله وحده وتفرقوا فيما بينهم تفرقاً لا يكاد يكون له نظير إذ كان أقل خلاف يحصل بينهم يختلفون ويتقاتلون لا يرعون في بعضهم إلاًّ ولا ذمة. فكانوا أشبه ما يكونون بالوحوش المسعورة لقي الناس منهم الأمرين وشغلوا الناس حكاماً ومحكومين وأذاقوهم الفتن المتلاحقة والويلات المتعاقبة، وما ذلك إلا لبعدهم عن هدى الكتاب والسنة وطريق سلف هذه الأمة وهو طريق من تركه ضل وارتكب الظلم وفعل المحرمات وخرج عن الحق وتلقفته السبل التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه حينئذ يصبح مثل البهيمة التائهة أو الجمل الذي لا خطام له. وبعد الخوارج نجد مثالاً آخر من تلك الطوائف وهم الرافضة الضالة الذين وقفوا أسوأ المواقف من الصحابة وسائر أهل السنة كما لا يخفى على طالب العلم. ثم نبغت المعتزلة الذين تشبعوا بآراء الخوارج وبعلم الكلام وآراء الشيعة فإذا بهم يملأون كتبهم سباباً لأهل السنة والمتمسكين بها وإذا بهم يحرضون الحكام عليهم ليشفوا غيظ صدورهم وما فعله ابن أبي دؤاد بإمام أهل السنة وغيره من علماء المسلمين المخالفين لآراء هذه الفرقة الضالة لهو أقوى مثال على ذلك. ثم توالت الأمثلة على مر العصور فظهرت المرجئة والقدرية والأشعرية وغيرها من الطوائف الكثيرة الذين اتصفوا بضيق الأفق والشدة على كل من خالف آراءهم حتى وإن كان في المسائل البسيطة الاجتهاد به، فكان المعتزلة لا يرجعون إلى كتاب ولا إلى سنة في مسائل الصفات ولا في أحكامهم على

المخالفين لهم وإنما يأخذون ما تمليه عليهم عقولهم إضافة إلى الشبهات التي تلقفوها من علماء الكلام. ولذلك تقرر في مذهبهم أنه إذا تعارض العقل والنقل فإنه يقدم العقل ويؤول النص أو يترك. مع أنه في الواقع الصحيح لا تعارض أبداً بين العقل السليم والنص الصحيح وكذلك الجهمية وهم مشائخ المعتزلة الذي أسسوا كثيراً من الشبهات وفتحوا أبواب الجدل والخوض في مسائل العقيدة فضلوا وأضلوا وفرقوا الأمة وكانوا من أسوأ الناس أخلاقاً وفضاضة على المخالفين لهم ولعل القارئ قد سمع عن هذا النمط من المنحرفين وما يقولونه عن أهل الحق. ولعل القارئ أيضاً لا يخالفني في أن الكوثري في وسط أهل البدع والخرافات شيخ الإسلام رحمه الله في وسط أهل السنة والجماعة وكم للكوثري ولمشائخه ومن سار على نهجه من أفكار خاطئة وكم له من الردود والسباب والشتائم لأهل السنة ولعقيدتهم الصافية وقد صب جام غضبه على مشاهير أهل السنة على مدار تاريخهم وأطلق عليهم عدة ألقاب باطلة هم منها براء، جاءت منه على طريقة أهل البدع في التسرع إلى التكفير والسخرية بالصالحين لغلبة الهوى عليهم وضيق أفهامهم. وقد رد عليه علماء السلف قديماً وحديثاً ردوداً كالصواعق وبينوا أخطاءه بالدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة مجانبين التجني عليه أو على غيره- كما هي عادتهم- في رأفتهم بالمخالفين وبالتالي دعوتهم بالتي هي أحسن. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الأهواء والبدع ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم)) (¬1) وقد تحدث علماء ¬

(¬1) أخرجه البخاري مع الفتح ج8 ص 209 ومسلم ج4 ص 1053.

السلف عن سمات الفرق الهالكة وأسباب تفرقهم وما أحدثوه في الدين تحدثوا من باب النصيحة والتحذير. فقد سأل عمرو بن قيس الحكم بن عتبة ((ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال الخصومات)) (¬1) وقال الفضيل بن عياض ((لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله)) (¬2) وفي مصنف عبد الرزاق أن رجلاً قال لابن عباس الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم. فقال كل هوى ضلالة)) (¬3) . وعن أبي قلابة قال: ((ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف)) (¬4) . وقال علي بن المديني: ((من قال فلان مشبه علمنا أنه جهمي ومن قال فلان مجبر علمنا أنه قدري ومن قال فلان ناصبي علمنا أنه رافضي)) . وأقوالهم في هذا كثيرة جداً وما قصدناه هو الإشارة التي يفهم بها اللبيب. ¬

(¬1) اللالكائي في اعتقاد أهل السنة ج1 ص 82. (¬2) سنن الدارمي رقم 406. (¬3) المصنف لأبي ابن شيبة ص 126 ج11. (¬4) الشريعة للآجري ج1 ص 46.

الفصل الثاني عشر ذكر أشهر أئمة أهل السنة ومؤلفاتهم في العقيدة

الفصل الثاني عشر ذكر أشهر أئمة أهل السنة ومؤلفاتهم في العقيدة لقد يسر الله تعالى لحفظ دينه رجالاً وهبوا أنفسهم لخدمة هذه العقيدة المباركة ويسر لهم الأمور ورزقهم الذكاء والإخلاص فنبغ منهم العلماء الفطاحل أصحاب البيان والسحر الحلال فكانوا جنوداً أوفياء لدينهم ما إن تظهر فتنة إلا ودفنوها ولا صاحب بدعة أو هوى إلا وحذروا منه فأقام الله بهم حجته على الناس، ومن الصعوبة بمكان حصرهم هنا وإنما نذكر ما يتيسر ذكره منهم كمثال على الثراء الفكري عند علماء السلف ومن هؤلاء: أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري..... سفيان بن عيينة.... مسلم بن الحجاج....ابن عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.... أحمد بن حنبل..... علي بن المديني.....أبو ثور إبراهيم بن خالد..... أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.....أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم.... أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. الأئمة الأربعة. ابن كثير.....

ابن خزيمة..... ابن القيم.... سهل بن عبد الله التستري.... ابن تيمية. وغيرهم الكثير ممن أثروا المكتبات الإسلامية بمؤلفاتهم القيمة التي تشهد بإخلاصهم وتوفيق الله وعونه لهم ولا نزكي على الله أحداً. أهم مؤلفات علماء السنة في بيان العقيدة السلفية والرد على المخالفين وقد ألف علماء السلف في بيان عقيدتهم وإيضاحها والرد على المخالفين، المؤلفات الكثيرة مدعومة بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهي من الكثرة بحيث لا يكاد أحد يستطيع حصرها. ومن أجلّ علماء السلف ومؤلفيهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله وله مؤلفات في بيان عقيدة السلف والذب عنها، منها ما دونه بنفسه ومنها ما دونه تلامذته في مؤلفاتهم. ومن كتبه في الحديث المسند وقد جمع فيه أحاديث كثيرة بين فيها عقيدة السلف ضمن تلك الأحاديث التي أوردها، وكتب في بيان العقيدة الكتب الآتية: السنة..... الإيمان.... الرد على الزنادقة.... فضائل الصحابة. ومنهم الإمام البخاري رحمه الله وقد أودع في صحيحه كثيراً من بيان عقيدة السلف وكذا كتابه خلق أفعال العباد والآداب المفرد ومنهم الإمام مسلم

رحمه الله وقد أودع في صحيحه أيضاً كثيراً من أبواب العقيدة، ومنهم: - ابن ماجه في سننه - أبو بكر بن الأثرم في كتابه "السنة". - عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية. - عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الرد على الجهمية وكتابه الرد على بشر المريسي. - ابن أبي عاصم في كتابه " السنة". - عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه "السنة". - محمد بن نصر المروزي في كتابه "السنة". - الإمام الطبري في كتابه "صريح السنة". - الخلال في كتابه "السنة". - ابن خزيمة في كتابه "التوحيد وإثبات صفات الرب عزّ وجلّ". - الطحاوي في كتابه "العقيدة الطحاوية". - الأشعري بعد رجوعه إلى مذهب السلف في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" والمقالات. - عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه "الرد على الجهمية". - الحسن بن علي البربهاري في كتابه "السنة". - الآجري في كتابه "الشريعة" وكتابه "التصديق بالنظر إلى الله تعالى". - أبو حمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني في كتابه "العظمة".

- الدارقطني في كتابه "أحاديث النزول كتاب الصفات". - ابن بطه - عبيد الله بن محمد بن حمدان بن بطة العكبري في كتابه "الإبانة - الصغرى والكبرى". - ابن منده أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده في كتابه "الرد على الجهمية، الإيمان"، التوحيد بتحقيق د. علي ناصر فقيهي. - ابن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة". - اللالكائي أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" بتحقيق زميلي د. أحمد سعد حمدان الغامدي. - قوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصفهاني في كتابه "الحجة في بيان المحجة" بتحقيق الزميل د. محمد ربيع ود. محمد أبو رحيم. أبو المظفر السمعاني في تفسيره. الإمام مالك ... ربيعة الرأي ... سفيان الثوري. شيخ الإسلام ابن تيمية صاحب الباع الطويل في بيان عقيدة السلف وكتبه كثيرة مشهورة وقد احتوت الفتاوي على كثير منها (¬1) . ابن قيم الجوزية وله عدة مؤلفات مشهورة. ¬

(¬1) للدكتور صلاح الدين المنجد كتيب باسم ((أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية)) صدر عن دار الكتاب الجديد بيروت-لبنان.

الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأهم مؤلفاته "كتاب التوحيد المتداول بين طلبة العلم وكتاب كشف الشبهات وغيرهما من الرسائل التي كتبها وكذا الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله". وفي عصرنا الحاضر كتب كثير من الفضلاء في بيان السنة والرد على المخالفين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكذا الألباني رحمه الله وما ذكر سابقاً فإنما هو من باب التمثيل إذ أن حصر كتب السلف يكاد أن يكون مستحيلاً جمعه في هذه العجالة فالمكتبة الإسلامية ثرية بمؤلفات متنوعة بين الضخم والمختصر والنثر والنظم والأسئلة والأجوبة ولا يزال الخير في أهل السنة إن شاء الله إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم. رحم الله جميع علماء السلف ونفع بمؤلفاتهم جميع أهل الأرض إنه على كل شيء قدير.

الفصل الثالث عشر تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة

الفصل الثالث عشر تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة وفي ختام هذه الدراسة الموجزة عن السلف وعقيدتهم أحب التنبيه إلى ما وقع فيه بعض الناس من إطلاق عبارات ومفاهيم لا تتفق مع عقيدة السلف ومنهجهم بزعم أنها هي العقيدة الصحيحة السلفية. متأثرين فيها بشتى المذاهب المخالفة ومؤثرين في غيرهم ممن قلت معرفتهم بحقيقة مذهب السلف وكل ذلك ناتج عن جهل بحقيقة معاني تلك الكلمات وتلك المفاهيم وهي كثيرة بحيث لا يستوعبها وقت كتابة هذه العجالة ولكن أشير إلى أهمها ولأهميتها وخفائها أيضاً أحببت أن أنبه إليها إخواني طلاب العلم وكل من يراها نصيحة لهم ودفاعاً عن العقيدة تتمة لدراسة فرقة السلف الطائفة المنصورة جمعتها من شتى المصادر. ومن الملاحظ أن بعض هؤلاء الذين يخطئون في جوانب من العقيدة بعضهم على مستوى من المعرفة والثقافة ولكن الكمال لله تعالى والتذكير ينفعهم {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) فقد يكون للشخص أخطاء في جوانب ولكنه في جوانب أخرى لا يشق له غبار. والمشكلة ليس الوقوع في الخطأ - فهذا شأن الإنسان - ولكن الخطأ هو الإصرار على الخطأ لأن الإصرار على الخطأ ليس من سمة طلاب العلم بل ¬

(¬1) سورة الذاريات: 55

علامتهم وشعارهم دائماً {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (¬1) و"الحكمة ضالة المؤمن" فإن من طلب الزيادة في العلم زاده الله ومن أصر على ما عنده من المعرفة فقط فكأنه يقول بلسان حاله لا أريد زيادة على ما عندي والله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (¬2) وفيما يلي بيان ما تقدمت الإشارة إليه: - الزعم بأن التفويض في الصفات هو مذهب السلف وذلك أن عقيدة السلف في هذا هي الالتزام التام بما جاء في كتاب الله تعالى أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الوحيين كل النصوص تؤكد على الإثبات في الصفات لا على التفويض وهو ما كان عليه الصحابة في اعتقادهم في باب الصفات وما كان عليه سائر التابعين ومن تبعهم بإحسان وسائر من كتب من السلف في العقيدة من المتقدمين والمتأخرين لم يخالف إلا من خرج عن هديهم. - ومن المزاعم الباطلة أيضاً قول البعض أن السلف يمرون الصفات كما جاءت دون فهم معانيها وهذا غير صحيح فإن السلف إنما يريدون بإمرارها كما جاءت في الكيفيات لا في معانيها فإن كيفية الصفات من الأمور المجهولة والسؤال عنها بدعة أما المعاني فواضحة ومعقولة. - الزعم بأن الله تعالى في كل مكان واستدلالهم بآيات معية الله لخلقه وتفسيرهم لها بأنها المعية الذاتية لله تعالى عن ذلك فإن السلف فسروا هذه المعية من الله تعالى بأنها إحاطة علمه عزّ وجلّ بجميع ما يجري فلا يخفى عليه شيء وذاته تعالى فوق عرشه وهو مع كل مخلوق بعلمه وإحاطته. - الزعم بأن السلف يعتقدون أن الله في السماء أي في داخلها أو أنها ¬

(¬1) سورة طه: 114. (¬2) سورة الإسراء: 85.

تحيط به أو أنه بإحدى السماوات تحوزه تعالى الله عن ذلك فإن هذا ليس من أقوال السلف بل هو من أقوال أهل البدع لأن معنى أن الله في السماء أي في مطلق العلو فوق عباده وفوق عرشه هكذا عقيدة السلف كما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} . - الزعم بأن السلف مجسمة أو حشوية أو مشبهة أو جبرية أو قدرية أو نابتة أو غثاء أو غثراء أو غير ذلك من الألقاب التي أطلقت على السلف نبزاً لهم فإن مذهب السلف هو بخلاف ذلك كله كما اتضح في دراستنا السابقة. - الزعم بأن آيات الصفات من المتشابه قول لأهل البدع لا لأهل السنة الذين يعتقدون أنها من المحكم المعروف المعنى. - القول بأن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة أو أنه لا فرق بينهم وبين أهل السنة هذا قول من يجهل الفرق بينهم في قضية الصفات وغيرها من القضايا التي خالفوا فيها السلف. لأن أهل السنة يثبتون كل الصفات من غير تأويل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل والأشاعرة لا يثبتون الصفات كلها كما هو معلوم من مذهبهم بل يؤولون أكثرها بحجة التنزيه وهو اعتقاد فاسد لا يقره أهل السنة والجماعة. - القول بأن الأشاعرة هم المتمسكون بمذهب الأشعري رحمه الله، وهذا الخطأ نشأ من عدم اعتراف هذه الطائفة برجوع الأشعري رحمه الله إلى مذهب أهل السنة والجماعة كما صح عنه ذلك وكما قرره في كتبه كالإبانة والمقالات وغيرها وقد صرح بما لا خفاء به بأنه على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى.

- قول بعض أهل البدع ننزه الله عن التشبيه والتمثيل والتركيب والتبعيض وحلول الحوادث والجسم وتعدد القدماء.. الخ. كلها من كلمات أهل البدع ولا شك أن السلف ينفون عن الله تعالى كل صفة لم ترد في الكتاب أو في السنة وبالنسبة لإطلاق بعض العبارات المجملة فإنهم يستفسرون من قائلها وماذا يقصده من كلامه مثل الجسم وغيره من الألفاظ المجملة ثم يحكمون عليه تبعاً لذلك. - تقسيم أهل السنة والجماعة إلى سلف وخلف وإن جميعهم يسمون بالسلف وبأهل السنة والجماعة. هذا خلط غير صحيح وجمع بين نقيضين فإن الخلف مؤولة الصفات وليسوا هم السلف المثبتة لها ويلتحق بهذا أيضاً ما أصله أهل البدع بقولهم مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم وهو تقسيم باطل وتفضيل للمؤولة والمحرفة على السلف أصحاب السنة والجماعة الذين مذهبهم أسلم وأعلم وأحكم. - الزعم بأنه يجب التأويل خصوصاً في بعض النصوص وأن من لم يؤولها وقع في الخطأ وأن من منع التأويل فإنه سيضطر هنا إليه وإلا كان كلامه باطلاً بزعمهم، وكذلك فإن من منع التأويل مطلقاً وقال به هنا كان دليلاً على تناقضه فيما يزعم هؤلاء الخلف ومن أمثلة ذلك: 1- قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} (¬1) 2- وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬2) . ¬

(¬1) سورة المجادلة: 7. (¬2) سورة ق: 16.

3- وقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} (¬1) . 4- وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (¬2) . 5- وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (¬3) . كما استدل المخالفون للسلف على وجوب التأويل بأحاديث من السنة النبوية زاعمين أن من لم يؤولها فإنه لا يكون سلفياً. 1- مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" (¬4) . 2- ومثله الحديث الآخر أن الله تعالى قال: "ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" (¬5) . 3- الحجر الأسود يمين الله في الأرض (¬6) وقد زعم المخالفون للسلف أننا لو لم نؤول هنا لأصبحنا ملاحدة نؤمن بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود كما يزعمون. 4- حديث نزول الله تعالى في ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا (¬7) . وقد زعم المخالفون للسلف أن تلك الآيات والأحاديث مما يتوجب فيها ¬

(¬1) سورة القمر: 13، 14. (¬2) سورة الفجر: 22. (¬3) سورة الأنعام: 185 (¬4) أخرجه البخاري ج11 ص 240. (¬5) أخرجه البخاري ج13 ص 511- 512 ومسلم 4/ 2061. (¬6) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 6/ 328. (¬7) أخرجه البخاري ج3 ص 29.

التأويل فقوله تعالى: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} أي بعلمه لا بذاته وهذا المعنى اللمعية هو الذي سماه المخالفون تأويلاً وهي تسمية غير صحيحة فإن معنى وهو معكم أي مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن وعالم بكل ما تأتون وما تذرون ولا يمكن أن تفسر المعية في هذه الآية بغير هذا التفسير والمنزه الله تعالى لا يمكن أن يفهم منها معية ذاته جل وعلا إلا إذا أراد التعطيل أو التشبيه أو القول بوحدة الوجود. وأما الآية الثانية: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي وملائكتنا وقدرتنا وعلمنا أقرب إليه من قبل وريده وقد وصف المخالفون هذا المعنى بأنه لجوء إلى التأويل وهو فهم غير صحيح فإنه ليس بتأويل بل هو على ظاهره صحيح فإن الملائكة يعملون بقدرته وإرادته وهم جنود له تعالى مطيعون ولهذا عبر بكلمة "نحن" المفيدة للتعظيم وإحاطة علمه تعالى بكل شخص ومخلوق صغيراً كان أو كبيراً. وأما الآية الثالثة {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا ورعايتنا لها وبمرأى منا وليس هذا من قبيل التأويل كما زعم المخالف بل هو المعنى الحقيقي ولهذا قال تعالى: {بِأَعْيُنِنَا} ولم يقل في أعيننا أي تجري على مرآه عزّ وجلّ وحفظه. وأما قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} فهو مجيء حقيقي ولا نحتاج إلى أي تأويل له للأدلة الأخرى من القرآن الكريم والسنة النبوية فمن أوله إلى مجيء أمره أو مجيء ملك كبير ونحو ذلك فقد خالف الحق ومذهب السلف إذ لا مانع من مجيء الله تعالى. وأما الآية: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} فإن الجواب عنها هو كالجواب في "وجاء ربك" فالإتيان والمجيء والنزول كلها صفات حقيقية نعرف معانيها ونتوقف في معرفة كيفياتها ولا نحتاج إلى أي تأويل لها.

أما بالنسبة لما استدلوا به من السنة النبوية وأنه لابد فيه من التأويل وإلا لما كنا على السلفية بزعمهم فهو تكلف منهم وتقوية لمذهبهم في حب التأويل: 1- أما الحديث الأول: فمعناه كما يفيده كلام العلماء أن العبد إذا أحب الله تعالى من خالص قلبه فإن عمله كله لا يكون إلا لله فلا يستعمل أعضاءه كلها إلا لله وفي مرضاته عزّ وجلّ فلا يسمع ولا يبصر ولا يبطش بيده ولا يمشي برجله إلا وفق ما أراده الله منه وبالتأويل يوفقه الله ويستجيب له وهذا هو المعنى الحقيقي وليس بتأويل كما يدعي غير السلف ولا حاجة إلى ركوب التأويل ما دام المعنى في غاية الوضوح. 2- وأما الحديث الثاني وهو قرب الله تعالى فقد وصف الله نفسه بالقرب فقال {فإني قريب} وقربه صفة لا نعرف كيفيتها ولكنها ثابتة لمن تقرب إلى الله تعالى ومع أن الكون كله في قبضة الله تعالى ليس فيه قريب ولا بعيد لكنه عزّ وجلّ يكون إلى أوليائه أكثر قرباً وعناية وهو فوق عرشه ويقرب من عبده حسب مشيئته وإرادته عزّ وجلّ في زيادة العناية به. وإذا تصورنا هذا المفهوم فإنه لا حاجة بنا إلى التأويل فراراً من إثبات هذا القرب إذ لا يعقل أن يتصور أن الله يكون قريباً من كل خلقه بذاته عزّ وجلّ. 3- وأما الحديث الثالث: فقد أراح الله منه فإنه حديث غير صحيح كما ذكره علماء الحديث وعلى فرض صحته فإنه لا يحتاج إلى تأويل إذ معناه يتضح في تمام الحديث بقوله: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه". والمعنى واضح في قوله "فكأنما" أي ليس المراد أن الحجر الأسود هو صفة لله تعالى أو يد له عزّ وجلّ بل من قبله فله من الأجر مثل الذي

يقبل يد الله تعالى وهذا المفهوم لا يحتاج معه إلى التأويل إذ لا محذور فيه فهو افتراض المقصود به حصول الأجر العظيم وما دام الحديث غير صحيح فلا حاجة إلى تكلف الجواب عنه. 4- وأما حديث النزول: فمعناه ينزل جل وعلا حقيقة على صفة لا نعرفها ولا تكيفها مهما اختلفت الأوقات من بلد لبلد فكما أننا لا نعرف كيفية الصفات فكذلك كيفية النزول ولهذا فلسنا بحاجة إلى تأويل نزول الله تعالى بنزول أمره وقدرة الله عزّ وجلّ فوق ما يتصوره العقل فهو يرزق خلقه ويميتهم بمشيئته ويحاسبهم في وقت واحد كما أنه لا يمر وقت إلا وأمره وقضاؤه عزّ وجلّ نازل فلماذا نقصر نزول أمره على تلك الأوقات فقط لو لم يكن نزولاً حقيقياً لا يعلم كيفيته إلا هو عزّ وجلّ. - من الأخطاء في العقيدة كذلك قولهم عن الله تعالى: "أنه الموجود الحق" لأن الموجود ليس من أسماء الله تعالى أو قولهم: "المنفرد بالوجود الحقيقي" لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة أنهما من صفاته تعالى. وقولهم "واجب الوجود" أو العقل الأول أو اليهولي على إنما أسماء الله تعالى لأنها أسماء مبتدعة لله تعالى لم ترد في الشرع الشريف فلا نطلقها لا نفياً ولا إثباتاً وفي غيرها من أسماء الله تعالى ما يغني عنها. - " لا معبود سوى الله" جملة ناقصة صوابها " لا معبود بحق إلا الله" لأنه قد عبد غير الله وإله. - فلان شهيد. لفظ لا يجوز الجزم به لأن الشهادة علمها إلى الله تعالى ولا يشهد لأحد بجنة أو بنار إلا من ورد النص فيه.

وقد تساهل الناس في أمر الشهادة حتى صاروا يقولون شهيد الحب شهيد الوطن شهيد الواجب شهيد الكرة.. الخ. وهو تساهل يدل على جهل عظيم بمنزلة الشهداء عند الله تعالى. - بعضهم يعبر عن توحيد الله عزّ وجلّ بأنه خالق الكون ومدبره.. الخ. والحقيقة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي لا يدخل الشخص بالإقرار به في توحيد الألوهية حتى يقر بتوحيد الألوهية وإفراد الله تعالى بعبادته لا شريك له الذي بعث الله رسله من أجله لا من أجل تقرير توحيد الربوبية الذي تقر به الفطر والعقول السليمة على مر الدهور. - الزعم بأن السلفية ليست مذهباً معروفاً كلام باطل وتجاهل لطائفة أهل السنة والجماعة كما ذكرنا سابقاً. - رد أخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد هو مذهب أهل البدع أما أهل السنة والجماعة فيتقبلون أخبار الآحاد ويعملون بها في كل أمر ما دامت قد ثبتت صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. - التوسل بالجاه أو بالذات لأي كائن - غير الله تعالى - يعتبر شركاً لا يجوز فعله ومن نسب إلى السلف جواز التوسل بالجاه أو بالذات فقد أخطأ فهم عقيدتهم. - القول بأن رؤية الله تعالى في الآخرة تستلزم التحيز لله عزّ وجلّ كلام باطل وهو ليس من أقوال السلف الذين يؤمنون برؤية الله تعالى على كيفية لا نحيط بها استناداً إلى نصوص رؤيته تعالى حقيقة إذ لا مانع من رؤيته لا نصاً ولا عقلاً. - نفي الجهة عن الله تعالى مطلقاً أو إثبات أنه في كل جهة بذاته هو

معتقد فاسد فإن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه في جهة الفوقية المطلقة ولا يلزم منه التحيز أو كونه بذاته في كل مكان فإنه مما يتنزه الله عنه. - تجويز التوسل بذات أحد من البشر سواء أكانوا من الرسل عليهم الصلاة والسلام أو غيرهم بدعة منكرة لم يجوزها السلف اتباعاً للنصوص الناهية عن ذلك. - القول بالتفريق بين الحقيقة والشريعة ليس من أقوال السلف بل هو من اختراعات غلاة الصوفية وذلك أن أي شيء يخالف الشريعة يجب نبذه وعدم الالتفات إليه فضلاً عن قبول معارضته. - اعتقاد أنه لا فرق بين الإرادة والمشيئة الإلهية خطأ لأن الإرادة تنقسم إلى إرادة كونية: تتعلق بكل شيء مما يحبه الله أو لا يحبه وإرادة شرعية: تتعلق بما يحبه الله ويرضاه بينما المشيئة تتعلق فقط بالإرادة الكونية من حيث العموم. - تنشر بعض الصحف بين آونة وأخرى أخباراً كاذبة فيها تهويل يجذب القراء مثل ما تزعمه بعض الصحف عن علماء الآثار من أنهم يجدون أحياناً جماجم تدل على أن الإنسان كان يشبه القرد تماماً وهذه تقوية لنظرية الملحد داروين أو أن القيامة ستقوم في وقت كذا وكذا من السنين، أو أنه وجد في بلد كذا جنين يقرأ القرآن بصوت مسموع وهو في بطن أمه أو أن الدابة ستخرج وقت كذا وغير ذلك من الأخبار التي تدل على أن مصدرها ملاحدة يريدون ترويع الناس لمصالح لهم ومعلوم أن من ادعى علم الغيب فإنه كاذب وكافر بجميع الأديان حاشا الأنبياء الذين يطلعهم الله على ما يشاء من المغيبات. - قول بعض الناس بالله وبك أو على الله وعليك أو غير ذلك من الألفاظ التي فيها التشريك بين الله وبين غيره هي من الأمور المنهي عنها والتي

لا يقرها السلف وأما إذا أدخلت "ثم" مكان "الواو" فلا حرج. قول علماء الكلام "الكلام غير المتكلم به"، أو "القول غير القائل" أو "العلم غير العالم" أو "القدرة غير القادر" إلى غير ذلك من العبارات التي نسجوها على هذا النحو كل ذلك كلام باطل ليس من مذهب السلف فإن مراد هؤلاء أن تلك الصفات مباينة لله تعالى ومنفصلة عنه وأنه لا يصح وصفه بأية صفة لأن الصفات مغايرة له حسب زعمهم ومن هنا تسلطوا على نفي كل صفات الله تعالى واعتبروها تركيباً لا يجوز على الله تعالى ففرقوا بين الله تعالى وبين صفاته بتعمقهم في علم الكلام المذموم ظانين أنه علم غزير. - القول بوجوب الموازنة قول يخالف طريقة السلف (¬1) وذكر الموازنة فيه محاذير كثيرة فإن المخالف لا ينظر إلى ما يذكر عن أهل البدع من المساوئ بل يقف عند ذكر المحاسن ويضخم أمرها ويستدل بها على صحة ما هو عليه من المبادئ والعقائد كما أن السلف لم يكونوا يستجيزون الثناء على أهل البدع ولهذا فإن ترك ذكر المحاسن يعتبر عقوبة جيدة لأهل البدع. فإنه قد يكون لهم أخطاء تذهب بجميع حسناتهم فلا فائدة من ذكر الحسنات بعد ذلك وقد يكون ما نذكره عنهم من الحسنات ليست هي حسنات حقيقية بل قد تكون سيئات عند الله تعالى. ثم إن في الثناء على الفساق تغرير بمن لا يعرفهم ولم يذكر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أي حسنات أو ثناء على الكفار بل ذم كفرهم وأعمالهم المخالفة. ¬

(¬1) أي أن تذكر حسنات المخالفين وسيئاتهم لتوازن بينها.

أما إذا كان الشخص من أهل السنة والجماعة ولكنه أخطأ في بعض الأمور الاجتهادية فلا حرج من مدحه والثناء عليه مع التنبيه على خطإه إن أخطأ وكذا ذكر الآراء التي يخالفون فيها مع تفنيدها لا حرج فيه. - السلف لا يفرقون بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ومن فرق بينهما فقد جانب الصواب والمفرق إما أن يكون جاهلاً أو في قلبه شيء من بغض السلف وكيف تكون منصورة وهي غير ناجية وكيف تكون ناجية وهي غير منصورة لأن الله تعالى لا يجعل النصر في النهاية إلا لجنده الذين رضي عنهم أما الباطل فله صولة ثم يضمحل وصاحبه لا يكون ناجياً ولا منصوراً. - السلف لا يحبون إطلاق كلمة "الصحوة الإسلامية" مع أن هذه العبارة قد انتشرت كثيراً على ألسنة الناس وسبب كراهتهم لها أنها تشعر السامع أن المسلمين كانوا في غفوة تامة وليس لهم دعوة إلى الله ولا جهاد في سبيله ولم يعرفوا الإسلام إلا بعد أن نبغ دعاة هذه العبارة وحركتهم التي يزعمون أنها صحوة جديدة في الإسلام. - ليس من عقيدة السلف الاحتفاء بأعياد الميلاد ولا رأس السنة الميلادية أو الهجرية ولا يعترفون إلا بعيدين كبيرين هما عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد ثاني صغير هو يوم الجمعة ومن نسب إليهم غير ذلك فقد جانب الصواب. - ليس من عقيدة السلف الاعتراف بما يسمى "تقارب الأديان" لأن هذه خدعة جديدة ويهدفون من ورائها الإيحاء للناس بصحة أديان الطوائف المعادية للإسلام وبالتالي الهجوم على الإسلام وأهله. - كلمة الأديان السماوية إطلاق غير دقيق فإن السماء ليس لها أديان ولا

ترسل رسلاً ولا تنزل كتباً ولا يوجد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دين إلهي واحد فيجب إسناد الكتب وإنزالها ثم نسبة الدين الصحيح إلى الله تعالى وإن كان بعضهم يتجوز ذلك بحجة أن المقصود واضح وهو الله تعالى. ليس من عقيدة السلف الزعم بأن الإكثار من قراءة سورة "تبت يدا" غير مناسب لأن فيها تعريضاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو أن هذه الخرافة صدرت عن العوام والجهال لما كان لذكرها ضرورة ولكني سمعت بعض أهل العلم ممن نقرأ لهم بعض مؤلفاتهم والله المستعان يحذر من تعمد القراءة بسورة تبت يدا مراعاة لخاطر النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقولون بل ويزعمون في تخويفهم لمن يتعمد ذلك أنه يصاب بالشلل وهو كلام باطل يجب التوبة منه والاستغفار من اعتقاده وكذا الزعم بأن من قرأ سورة قريش دائماً فإنه يصبح غنياً وإن كان جائعاً يصبح شبعاناً وهي خرافات تنافي الاعتقاد الصحيح. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين * * * * * * * * * *

الباب الثالث دراسة عن الخوارج

الباب الثالث دراسة عن الخوارج ونبدأ الآن بعون الله وتوفيقه في بيان الفرق التي تنتسب إلى الإسلام وأول ما نبدأ به منها حسب ترتيبها في الظهور واعتبارها فرقة من الفرق ((هي فرقة الخوارج)) . وسنخص بالتفصيل أهم آرائهم الاعتقادية مع إبطالها بالرد عليها وتفنيد شبهها تاركين في هذه الفرقة وفي غيرها من الفرق التي سيأتي الكلام عنها ما يمكن الاستغناء عنه أولاً تدعو الحاجة إلى ذكره في هذه العجالة.... وقد قسمت الدراسة عن هذه الفرقة إلى الفصول الآتية: * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الأول وجودهم في الماضي والحاضر

الفصل الأول تمهيد وجود الخوارج في الماضي والحاضر الخوارج فرقة كبيرة من الفرق الاعتقادية، وتمثل حركة ثورية عنيفة في تاريخ الإسلام السياسي. شغلت الدولة الإسلامية فترة طويلة من الزمن، وقد بسطوا نفوذهم السياسي على بقاع واسعة من الدولة الإسلامية في المشرق وفي المغرب العربي، وفي عمان وحضرموت وزنجبار (¬1) وما جاورها من المناطق الإفريقية وفي المغرب العربي، ولا تزال لهم ثقافتهم المتمثلة في المذهب الإباضي المنتشر في تلك المناطق. ولا يخفى كذلك أن بعض أفكار الخوارج- ولاسيما الأزارقة- المتعلقة بتكفير العصاة لا يزال لها أتباع يمثلون تنطع الخوارج وتشددهم في وقتنا الحاضر، مما يستدعي عرض ودراسة هذه الفرقة، وما أنتجت من آراء وأفكار، وبيان ما جناه أتباعها على الإسلام والمسلمين. ومما يجدر ذكره بالنسبة لكتب الخوارج أنها تكاد أن تكون مفقودة تماماً إذا ما استثنينا الإباضية منهم، فلم تعرف لهم مؤلفات موفورة كبقية الفرق، وأكثر ما نرجع في ذلك إلى ما كتبه العلماء من أهل السنة، مع ثقتنا بصحة ما نقلوه عنهم لمعايشتهم لهم، وكذلك لاحتمال أنهم عثروا على كتب للخوارج لم تصل إلينا، على أن ما وصل من كتب الإباضية تدل على مصداق أولئك في نقلهم لمذهب الخوارج (¬2) . * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) وتسمى الآن ((تنزانيا)) . (¬2) انظر: الخوارج تاريخهم وأرؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها ص: ب.

الفصل الثاني التعريف بالخوارج

الفصل الثاني التعريف بالخوارج في اللغة: الخوارج في اللغة جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة ((خرج)) على هذه الطائفة من الناس؛ معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي، أو لخروجهم على الناس (¬1) . في الاصطلاح: اختلف العلماء في التعريف الاصطلاحي للخوارج، وحاصل ذلك: 1. منهم من عرفهم تعريفاً سياسياً عاماً، اعتبر الخروج على الإمام المتفق على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان. قال الشهرستاني: ((كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان)) (¬2) 2. ومنهم من خصهم بالطائفة الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه. قال الأشعري: ((والسبب الذي سُمّوا له خوارج؛ خروجهم على ¬

(¬1) انظر كتب اللغة مادة ((خرج)) انظر تهذيب اللغة: جـ7 / ص 50، تاج العروس: جـ2 / ص 30. (¬2) الملل والنحل: ج 1 / ص 114.

علي بن أبي طالب)) (¬1) . زاد ابن حزم بأن اسم الخارجي يلحق كل من أشبه الخارجين على الإمام عليّ أو شاركهم في آرائهم في أي زمن. وهو يتفق مع تعريف الشهرستاني (¬2) . 3- وعرفهم بعض علماء الإباضية بأنهم طوائف من الناس في زمن التابعين وتابع التابعين أولهم نافع بن الأزرق (¬3) ، ولم أر هذا التعريف عند أحد غير الإباضية. وهذا التعريف لأبي إسحاق أطفيش يريد منه أن لا علاقة بين المحكمة الأولى -الذين لا يعتبرهم خوارج لشرعية خروجهم كما يزعم- وبين من بعدهم إلى قيام نافع سنة 64هـ، وهذا التعريف غير مقبول حتى عند بعض علماء الإباضية، ويبقى الراجح هو التعريف الثاني؛ لكثرة من مشى عليه من علماء الفرق في تعريفهم بفرقة الخوارج، وقيام حركتهم ابتداء من خروجهم في النهروان، وهو ما يتفق أيضاً مع مفهوم الخوارج كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقاديه أحدثت في التاريخ الإسلامي دوياً هائلاً. * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) المقالات: 1/ 207. (¬2) الفصل: 2/ 113. (¬3) عمان تاريخ يتكلم ص: 103.

الفصل الثالث أسماء الخوارج وسبب تلك التسميات

الفصل الثالث أسماء الخوارج وسبب تلك التسميات للخوارج أسماء كثيرة، بعضها يقبلونه وبعضها لا يقبلونه، ومن تلك الأسماء: 1- الخوارج. ... 2- الحرورية. ... 3- الشراة. 4- المارقة. ... 5- المحكمة. ... 6- النواصب. أما بالنسبة للاسم الأول: فهو أشهر أسمائهم، هم يقبلونه باعتبار وينفونه باعتبار آخر، يقبلونه على أساس أنه مأخوذ من قول الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (¬1) وهذه تسمية مدح. وينفونه إذا أريد به أنهم خارجون عن الدين أو عن الجماعة أو عن علي رضي الله عنه؛ لأنهم يزعمون أن خروجهم على عليّ رضي الله عنه كان أمراً مشروعاً بل هو الخارج عليهم في نظرهم. ¬

(¬1) النساء: الآية100.

والإباضيون بخصوصهم يسمونها فتنناً داخلية بين الصحابة. قال نور الدين السالمي الإباضي عن تسميتهم خوارج على سبيل المدح: ((ثم لما كثر بذل نفوسهم في رضى ربهم وكانوا يخرجون للجهاد طوائف - سُمُّوا خوارج، وهو جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج في سبيل الله)) (¬1) . وقال أحد شعراء الخوارج (¬2) . كفى حزناً أن الخوارج أصبحوا *** وقد شتت نياتهم فتصدعوا وأما بالنسبة للتسمية الثانية: فهي نسبة إلى المكان الذي خرج فيه أسلافهم عن عليّ، وهو قرب الكوفة. قال شاعرهم مقارناً بين جحف الثريد أي أكلة وبين جحف الحروري بالسيف أي ضربه به: ولا يستوي الجحفان جحف ثريدة *** وجحف حروري بأبيض صارم (¬3) ووردت هذه التسمية في قول عائشة رضي الله عنها: ((أحرورية أنت)) (¬4) قالته للمرأة التي استشكلت قضاء الحائض والصوم دون الصلاة. وأما بالنسبة للتسمية الثالثة: فهي نسبة إلى الشراء الذي ذكره الله بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية (¬5) . ¬

(¬1) نقله عنه على يحى معمر في كتابه ((الأباضية بين الفرق الإسلامية ص: 384.)) (¬2) شعراء الخوارج تحقيق د/ إحسان عباس ص: 134. (¬3) شعراء الخوارج ص: 232. (¬4) أخرجه أحمد في المسند جـ6 ص 97. (¬5) التوبة: الآية111

وهم يفتخرون بهذه التسمية ويسمون من عداهم بذوي الجعائل: أي يقاتلون من أجل الجُعْل الذي بذل لهم. قال شاعرهم عيسى بن فاتك: فلما استجمعوا حملوا عليهم *** فظل ذوو الجعائل يقتلونا (¬1) وأما التسمية الرابعة: فهي من خصوم الخوارج، لتنطبق عليهم أحاديث المروق الواردة في الصحيحين في مروقهم من الذين كمروق السهم من الرمية. قال ابن قيس الرقيات من أبيات له: إذا نحن شتى صادفتنا عصابة *** حرورية أضحت من الدين مارقه (¬2) وأما التسمية الخامسة: فهي من أول اسمائهم التي أطلقت عليهم وقيل أن السبب في إطلاقه عليهم إما لرفضهم تحكيم الحكمين وإما لتردادهم كلمة لا حكم إلا لله وهو الراجح، وهي كلمة حق أريد بها باطل ولا مانع أن يطلق عليهم لكل ذلك غير أن السبب الأول ينبغي فيه معرفة أن الخوارج هم الذين فرضوه أولاً وهم يفخرون بهذه التسمية كما قال شاعرهم شبيل بن عزره: حمدنا الله ذا النعماء أنّا *** نحكم ظاهرين ولا نبالى (¬3) . وأما تسميتهم بالنواصب فلمبالغتهم في نصب العداء لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -. * * * * * * * * * * ¬

(¬1) شعراء الخوارج ص: 54. (¬2) الكامل لابن الأثير: 4/ 198. (¬3) شعر الخوارج: 209.

الفصل الرابع متى خرج الخوارج

الفصل الرابع متى خرج الخوارج 1- اختلف المؤرخون وعلماء الفرق في تحديد بدء نشأتهم وخلاصة ذلك ما يبلى: - 1- أنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 2- أنهم نشأوا في عهد عثمان رضي الله عنه. 3- أنهم نشأوا في عهد علي رضي الله عنه حين خرج عليه طلحة والزبير، كما يزعم بعض علماء الإباضية. 4- أو حين خرج الخوارج من المحكمة عن جيشه كما هو الراجح. 5- أنهم ظهروا في عهد نافع بن الأزرق ابتداء من سنة 64هـ، كما تقدم في التعريف بهم. وفيما يلي مناقشة تلك الأقوال وبيان الصحيح منها: أما بالنسبة للقول الأول، فإن المقصود به ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم من قيام ذي الخويصرة- عبد الله ذي الخويصرة التميمي- في إحدى الغزوات في وجه الرسول معترضاً على قسمة الرسول صلى الله عليه وسلم للفيء، وأنه لم يعدل -حاشاه- في قسمتها. وقد قال بهذا القول كثير من العلماء منهم: الشهرستاني وابن حزم وابن الجوزي، والآجري، إلا أنه ينبغي التفريق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراء وتجمع قوي.

فذو الخويصرة لا يعتبر في الحقيقة زعيماً للخوارج، لأن فعلته حادثة فردية- تقع للحكام كثيراً- ولم يكن له حزب يتزعمه ولا كان مدفوعاً من أحد -إلا طمعه وسوء أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فيمكن القول بأن نزعة الخروج قد بدأت بذرتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬1) وأما بالنسبة للقول الثاني، فهو رأي لبعض العلماء أيضاً كابن كثير وابن أبي العز (¬2) ، ولكن يرد على هذا أن أولئك الثوار البغاة كان هدفهم قتل عثمان وأخذ المال، ولا ينطبق عليهم وصف فرقة ذات طابع عقائدي خاص، ولهذا اندمجوا مع المسلمين بعد تنفيذ جريمتهم ولم يشكلوا فرقة مستقلة -وإن كان فعلهم يعتبر خروجاً عن الطاعة وخروجاً على الإمام -إلا أنهم ليسوا هم الخوارج كفرقة عقائدية سياسية لما تقدم. وأما بالنسبة للقول الثالث؛ وهو للورجلاني الإباضي، فأنه قول مردود؛ فإن طلحة والزبير رضي الله عنهما لا يصح وصفهما بالخوارج ولا ينطبق عليهما وصف الخوارج كفرقة، وكان معهما أيضاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد شهد الله لها بالإيمان، وطلحة الزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة (¬3) . وأما بالنسبة للقول بأن نشأتهم تبدأ من قيام نافع بن الأزرق؛ فإنه لم يقل به غير من ذكرنا من علماء الإباضية (¬4) ؛ لنفيهم وجود صلة ما بين المحكمة ¬

(¬1) انظر الحديث الوارد في صحيح البخاري 8/ 52- 53، ومسلم: 3/ 110 - 116. (¬2) انظر البداية والنهاية: 7/ 189 وشرح الطحاوية ص 472. (¬3) انظر الدليل لأهل العقول ص: 15. (¬4) أبو إسحاق طفيش وتبعه على يحيى معمر أحد علماء الأباضية المتأخرين وقد اعتبروا أحداث المحكمة الأولى قتنة داخلية بين الصحابة وليس لهم أساس الخوارج في نظرهم. انظر: الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 377 وانظر الأباضية في موكب التاريخ ص 33.

ومن ثار على طريقتهم وبين الأزارقة بعدهم، وهو قول غير مقبول لوجود تسلسل الأحداث وارتباطها من المحكمة إلى ظهور نافع بن الأزرق. والحاصل أن الخوارج بالمعنى الصحيح اسم يطلق على تلك الطائفة ذات الاتجاه السياسي والآراء الخاصة، والتي خرجت عن جيش الإمام علي رضي الله عنه والتحموا معه في معركة النهروان الشهيرة (¬1) . ومما نذكره هنا محاورات بين عليّ رضي الله عنه والخوارج، تصور لنا مدى التعنت الذي اتصف به الخوارج. * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر لتلك الأقوال: ((تلبيس إبليس)) ص: 90 الفصل لابن حزم 4/ 157، والملل والنحل للشهرستاني: 1/ 21 شرح الطحاوية لابن أبي العز 472، البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 189، الدليل لأهل العقول للورجلانى ص 15، عمان تاريخ يتكلم للسالمي ص 103.

الفصل الخامس محاورات الإمام علي للخوارج في النهروان

الفصل الخامس محاورات الإمام علي للخوارج في النهروان (¬1) . وقعت بين الإمام علي وبين الخوارج -قبل نشوب المعركة- عدة محاورات، وحينما طلب منهم علي رضي الله عنه بيان أسباب خروجهم عنه أجابوه بعدة أشياء منها: 1- لماذا لم يبح لهم في معركة الجمل أخذ النساء والذرية كما أباح لهم أخذ المال؟ 2- لماذا محى لفظة أمير المؤمنين وأطاع معاوية في ذلك عندما كتب كتاب الهدنة في صفين، وأصر معه على عدم كتابة ((علي أمير المؤمنين)) ؟ 3- قوله للحكمين: إن كنت أهلاً للخلافة فأثبتاني. بأن هذا شك في أحقيته للخلافة. 4- لماذا رضي بالتحكيم في حق كان له. هذه أهم الأمور التي نقموا عليه من أجلها كما يزعمون، وقد أجابهم عن كل تلك الشبه ودحضها جميعاً حيث أجابهم عن الشبهة الأولى والتي تدل على جهلهم بما يلي: أ- أباح لهم المال بدل المال الذي أخذه طلحة والزبير من بيت مال ¬

(¬1) انظر: الفرق بين الفرق ص 79، وشرح نهج البلاغة 2/ 275، الكامل للمبرد: 2/ 117.

البصرة، ثم هو مال قليل ب- النساء والذرية لم يشتركوا في القتال وهم أيضاً مسلمون بحكم دار الإسلام ولم تكن منهم ردة تبيح استرقاقهم. ج- قال لهم: لو أبحت لكم استرقاق النساء والذرية فأيكم يأخذ عائشة سهمه فخجل القوم من هذا ورجع معه كثير منهم كما قيل. وأجابهم على الشبهة الثانية: 1- بأنه فعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وذكر -إن صحت الرواية- أنه قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لي منهم يوماً مثل ذلك. والله أعلم بصحة هذه الرواية التي يتناقلها المؤرخون، ذلك أن معاوية رضي الله عنه ما كان يطالب بالخلافة حتى يحق له أن يطلب محو كلمة ((أمير المؤمنين)) . ومعاوية كذلك كان يعرف أسبقية عليّ وفضله، وإنما النزاع حول أمر آخر غير الخلافة، اللهم إلا أن يكون هذا الفعل من صنيع المفاوضين دون علم معاوية بذلك. وأجابهم عن الشبهة الثالثة على افتراض صحة الرواية عنه: بأنه أراد النصفة لمعاوية ولو قال: احكما لي؛ لم يكن تحكيماً، ثم استدل بقصة وفد نصارى نجران ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى المباهلة لإنصافهم. وأجابهم عن الشبهة الرابعة: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة في حق كان له. ثم نشبت المعركة مع من بقي منهم على عناده وهزم الخوارج شر هزيمة،

وتذكر بعض كتب الفرق أنه لم يَنْجُ من الخوارج إلى تسعة، ولم يُقتل من جيش عليّ إلا تسعة (¬1) ، وصار هؤلاء التسعة من الخوارج هم نواة الخوارج في البلدان التي ذهبوا إليها، وفي هذا نظر (¬2) ، وقتل زعيم الخوارج في هذه المعركة وهو عبد الله بن وهب الراسبي سنة 37، أو 38هـ. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري: 5/ 89 والبداية والنهاية لابن كثير: 6 / 218 والكامل لابن الأثير: 3453، ومروج الذهب: 2/ 417 وانظر اعتراض على يحي معمر على نتيجة المعركة في كتابه الأباضية بين الفرق ص 68. (¬2) من جهة تلك النتيجة حيث التقى أولئك في معركة مصيرية ثم يقتل فيها كل الجيش ويبقى تسعة ويسلم الجيش الآخر ولا يقتل منه إلا تسعة فقط. فإن التكلف في هذه النتيجة ظاهر بخصوص هذا العدد، كما أنه ترده تلك الأحداث المتلاحقة التي أعقبت معركة النهروان من تتابع حركة الخوارج الثورية على عليّ - رضي الله عنه - إلى أن استشهد لتبدأ أقوى مما كانت على الدولة الأموية. كما أنه من التكلف أن يقال أن كل واحد من التسعة الناجين من الخوارج كون مذهب الخوارج في المنطقة التي ذهب إليها. خصوصاً وأن الرويات في عدد الباقين فيها اضطراب واختلاف شديد؛ مما يجعل النتيجة غامضة. والله أعلم بحقيقة الأمر.

الفصل السادس أسباب خروج الخوارج

الفصل السادس أسباب خروج الخوارج. في البحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى خروج الخوارج، يختلف العلماء في هذا السبب أو ذاك، وفي تحديد مدى فاعلية بعض الأسباب، والراجح أن أسباباً مجتمعة هي التي أدت بهم إلى الخروج، ونوجز أهم الأسباب فيما يلي: 1- النزاع حول الخلافة: وربما يكون هذا هو أقوى الأسباب في خروجهم، فالخوارج لهم نظرة خاصة في الإمام معقدة وشديدة، والحكام القائمون في نظرهم لا يستحقون الخلافة، لعدم توفر شروط الخوارج القاسية فيهم، أضف إلى هذا عدم الاستقرار السياسي الذي شجعهم على الخروج، وإلى الحسد الذي كان كامناً في نفوسهم ضد قريش. إضافة إلى أنهم فسروا الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بأنه نزاع حول الخلافة. ومن هنا استسهلوا الخروج على عليّ ومعاوية من بعده. 2- قضية التحكيم: فقد أجبروا الإمام عليّ على قبول التحكيم، وحينما تم ذلك طلبوا منه أن يرجع عنه بل ويعلن إسلامه، فرد عليهم رداً عنيفاً. وهناك من يقلل من شأن هذه القضية كعامل في ظهور الخوارج، ولا شك أن هذا خطأ، فقد كان التحكيم من الأسباب القوية في ظهورهم.

وقد رد بعض العلماء وشنع على من يقول من المؤرخين وكتاب الفرق، بأن كان في قضية التحكيم خداع ومكر، كالقاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم؛ حيث فصّل القول في هذا الأمر. 3- جور الحكام وظهور المنكرات: هكذا كان الخوارج يرددون في خطبهم ومقالاتهم، أن الحكام ظلمة والمنكرات فاشية، والواقع أنهم حينما فعلوا خرجوا أضعاف ما كان موجودا من المظالم والمنكرات، حينما رأوا أن قتال المخالفين لهم قربة إلى الله تعالى، وأن الأئمة ابتداءً بالإمام علي -مع عدله وفضله- ثم بحكام الأمويين والعباسيين-كلهم ظلمة في نظرهم دون تحرٍّ أو تحقيق، مع أن إقامة العدل والنهي عن المنكرات يتم بغير تلك الطريقة التي ساروا عليها في استحلال دماء مخالفيهم حكاماً ومحكومين. 4- العصبية القبلية: التي ماتت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر عمر رضوان الله عليهما. ثم قامت في عهد عثمان وما بعده قوية شرسة، وكانت قبل الإسلام بين ربيعة- وأكثر الخوارج منهم- وبين مضر قوية، وقد قال المأمون في إجابته لرجل من أهل الشام طلب منه الرفق بالخوارج: ((وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شارياً)) . وهناك أسباب أخرى عوامل اقتصادية؛ كقصة ذي الخويصرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وثورتهم الممقوتة على عثمان رضي الله عنه؛ حيث نهبوا بيت المال بعد قتله مباشرة، ونقمتهم على عليّ في معركة الجمل، ومنها كذلك الحماس الديني الذي مدحهم به بعض المستشرقون كجولد زيهر حينما ذكر أن تمسك الخوارج

الشديد بالقرآن أدى بهم إلى الخروج على المجتمع، والمغالطة في قوله هذا واضحة، فإن التمسك بالقرآن لا يؤدي إلى سفك الدماء بغير حق (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر تاريخ الطبري: 5/ 84 والكامل لابن الأثير: 3 / 344. وانظر: العقيدة الشريعة في الإسلام لجولد زهير ص: 192، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 10 / 69، الخوارج والشيعة لفلهوزن، فجر الإسلام لأحمد أمين ص 262، وقعة صفين لنصري بن مزاحم ص 573.

الفصل السابع حركات الخوارج الثورية وفرقهم وعددهم

الفصل السابع حركات الخوارج الثورية وفرقهم وعددهم. أ- أشرنا فيما مضى إلى أن الخوارج قد كونوا لهم دولة وصار لهم نفوذ، وإذا تتبعنا حركاتهم الثورية فإننا نجدها متصلة عنيفة، ابتداءً من خروج المحكِّمة على الإمام عليّ ومن خرج بعدهم على الإمام عليّ في شكل جماعات حربية تثور هنا وهناك عليه وعلى الحكام الأمويين من بعده حرب عصابات، إلى أن جاء نافع بن الأزرق سنة 64هـ، وبدأ الخوارج يظهرون كفرق كبيرة امتدت إلى عصر الدولة العباسية، لا يقر للخوارج قرار أو يستكينون إلا ريثما يتم عددهم وعدتهم يمثلون المعارضة بالتعبير الحديث، وتلك الحركات مدونة في كتب التاريخ والفرق مما لا نرى التطويل بذكره؛ لأنها أحداث تاريخية. ب- فرق الخوارج أما فرقهم فإن من رحمة الله بالناس أن الخوارج تفرقوا فيما بينهم، ولو اتحدوا لكانوا كارثة على المسلمين المخالفين لهم، ويذكر العلماء أن الخوارج كانوا يختلفون ويتفرقون لأتفه الأسباب، وحينما جاء نافع بن الأزرق ببعض التفاصيل في المذهب كحكم التقية والقعدة (¬1) وأطفال المخالفين لهم فزاد ¬

(¬1) أي هل يحل لهم المقام بين المخالفين أم لا يحل ويكون المقيم بينهم كافر حلال الدم والمال كما يرى نافع ذلك حتى وإن كان منهم - وحينما وصل نافع إلى أحداث تلك الأمور بينهم انفصلت عنه النجدات بقيادة نجدة بن عامر قائلين لنافع: أحدثت ما لم يكن عمله السلف من أهل النهروان وأهل القبلة، فأجابهم: بأن هذه حجة عرفها وقامت عليه وينبغي الأخذ بهذا ففار قوه.

الطين بلة والنار اشتعالاً فتفرقوا فرقاً كثيرة قد لا يكون ضرورياً عدها هنا فإن بعض تلك الفرق انتهى في وقته، وبعضها اندمج مع الفرق الأخرى، وبعضها رجع عن مقالاته كما فصلته كتب الفرق (¬1) . ج- عدد فرق الخوارج وأما عددهم فإنه يجد الباحث عن عدد فرق الخوارج الأصلية والفرعية أنه أمام أعداد مختلفة؛ وذلك لأن كتب الفرق الإسلامية لم تتفق على تقسيم فرقهم الرئيسية أو الفرعية على عدد معين، فنجد الأشعري مثلاً يعد فرق الخوارج أربع فرق، وغيره يعدها خمساً، وبعضهم يعدها ثمانياً، وبعضهم سبعاً، وآخرون خمساً وعشرين، وقد تصل إلى أكثر من ثلاثين فرقة، والواقع أنه يصعب معرفة عدد فرق الخوارج (¬2) ، والسبب في ذلك يعود إلى: 1- أن الخوارج فرقة حربية متقلبة، فلم يتمكن العلماء من حصرهم حصراً دقيقاً. 2- أن الخوارج كانوا يتفرقون باستمرار لأقل الأسباب، كما أنهم يختلفون أيضاً لأقلها. ¬

(¬1) انظر مقالات الأشعري: 1 / 1983، الفرق بين الفرق للبغدادي ص 24، 72، أبانة المناهج لجعفر بن أحمد ص 155، التنبيه والرد للملطي ص 167، تاريخ الفرق الإسلامية ص 266، 271 الاعتصام: 2/ 219) . (¬2) انظر مقالات الأشعري: 1 / 1983، الفرق بين الفرق للبغدادي ص 24، 72، أبانة المناهج لجعفر بن أحمد ص 155، التنبيه والرد للملطي ص 167، تاريخ الفرق الإسلامية ص 266، 271 الاعتصام: 2/ 219) .

3- أن الخوارج أخفوا كتبهم إما خوفاً عليها من الناس أو ضناً بها عنهم، مما يجعل دراستهم من خلال كتبهم في غاية الصعوبة. وندرة كتبهم في عصرنا الحاضر دليل على ذلك، إلا ما وجد للإباضية على قلته- إلى غير ذلك من الأسباب، إلا أنه من المعلوم تماماً أن أشهر فرق الخوارج فرقة الإباضية كما يذكر كتاب الفرق المتقدمون منهم والمتأخرون، رغم أن علماء الإباضية -خصوصاً علي يحيى معمر- ينفي نفياً قاطعاً أن تكون الإباضية فرقة من فرق الخوارج، وقد ذكرنا فيما سبق السر في ذلك. وفيما يلي نذكر نبذة موجزة عن هذه الطائفة: * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثامن دراسة أهم فرق الخوارج وهم الإباضية

الفصل الثامن دراسة أهم فرق الخوارج وهم الإباضية. وتشمل دراسة هذه الطائفة ما يلي: 1- تمهيد: ولا بد من وقفة يسيرة عند هذه الفرقة من الخوارج، نذكر عنهم على سبيل الإيجاز بعض ما قيل عنهم، سواء ما جاء عن المخالفين أو الموافقين لهم، أو ما ذكروه في كتبهم، ولكون هذه الطائفة لا يزال لها أتباع وأنصار في أماكن كثيرة من العالم، ولكونهم كانت لهم صولة وقوة، ولكثرة ما جاء من أخبارهم السياسية والعقدية والاجتماعية-فإنها تحتاج إلى دراسة خاصة قد تأخذ حجماً كبيراً لمن أراد أن يتتبع أخبارهم ويقف على مبادئهم (¬1) . ولذا فإننا نحيل القارئ -إذا أراد تفاصيل أخبار هذه الطائفة بأن يرجع إلى الكتب التي اهتمت بذكر تواريخهم وبيان عقائدهم، سواء ما كان منها قديماً أو جديداً؛ حيث ظهرت بعض كتب الإباضية على ندرتها وشدة تحفظهم عليها منذ القدم، إضافة إلى توجه بعض العلماء للكتابة عنهم في عصرنا الحاضر (¬2) . ¬

(¬1) وقد وجدت أحد المشائخ في الأزهر 1397 تقريباً يكتب رسالة للدكتوراه عن الأباضية. (¬2) مثل ما كتبه عليّ يحي معمر في كتبه الكثيرة عنهم، الأباضية بين الفرق الإسلامية، والأباضية في موكب التاريخ. الأباضية مذهب إسلامي معتدل. وكذا كتاب السالمي ((عمان تاريخ يتكلم)) . وما كتبه د/ صابر طعيمة ((الأباضية عقيدة ومذهباً)) إلى غير ذلك من الكتب المتيسر وجودها عن هذه الفرقة.

2- زعيم الإباضية

وأما أماكنهم فقد ذكر بكير بن سعيد أعوشت -أحد علمائهم- أنهم يوجدون حالياً في الجزائر وتونس وليبيا وعمان وزنجبار (¬1) . 2- زعيم الإباضية أما بالنسبة لزعيم الإباضية فإنهم ينتسبون في مذهبهم- حسبما تذكر مصادرهم- إلى جابر بن زيد الأزدي الذي يقدمونه على كل أحد ويروون عنه مذهبهم، وهو من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه (¬2) . وقد نُسبوا إلى عبد الله بن إباض لشهرة مواقفه مع الحكام (¬3) ، واسمه عبد الله بن يحيى بن إباض المري من بني مرة بن عبيد، وينسب إلى بني تميم، وهو تابعي، عاصر معاوية وابن الزبير وكانت له آراء واجه بها الحكام. وهذا هو اسمه المشهور عند الجمهور، إلا أن بعض العلماء التبست عليه شخصية ابن إباض بشخصية أخرى يسمى ((طالب الحق)) . فالملطي سماه في بعض المواضع من كتابه التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع إباض بن عمرو، وهذا خطأ منه مع أنه ذكره في مواضع أخرى بتسميته الصحيحة (عبد الله بن إباض) ، وصاحب إبانة المناهج سماه يحيى بن عبد الله الإباضي، وهذا خطأ منه، حيث التبس عليه تسميته ((ابن إباض)) برجل ¬

(¬1) انظر كتابه دراسات إسلامية في الأصول الأباضية ص 136. (¬2) انظر أجوبة ابن خلفون ص 9. وانظر: ترجمة جابر بن زيد أبو الشعثاء في البداية والنهاية لابن كثير 10/ 93، وانظر: ما كتبه أحد علمائهم المعاصرين بكير بن سعيد اعوشت في كتابه دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص 20. (¬3) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 353.

آخر من زعماء الإباضية اسمه ((يحيى بن عبد الله طالب الحق المتقدم)) ثار باليمن وجمع حوله من الأتباع والانصار ما شجعه على الخروج في وجه حكام بني أمية سنة 128هـ، أصله من حضرموت، تأثر بدعوة أبي حمزة الشاري فخرج على مروان بن محمد وأخذ حضرموت وصنعاء، فسير إليه مروان بن محمد قائده عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي فدارت معركة أسفرت عن قتل طالب الحق سنة 130هـ (¬1) . وقد ذهب بعض العلماء من الإباضية إلى تحديد الوقت الذي استعملت فيه تسمية الإباضية، وأن ذلك كان في القرن الثالث الهجري، وقبلها كانوا يسمون أنفسهم ((جماعة المسلمين)) ، أو ((أهل الدعوة)) ، أو ((أهل الاستقامة)) كما يذكر ابن خلفون من علمائهم (¬2) ، وهذا القول لا يتفق مع نشأة الإباضية بزعامة جابر بن زيد أو عبد الله بن إباض. وقد ذهب ابن حزم إلى القول بأن الإباضية لا يعرفون ابن إباض، وأنه شخص مجهول (¬3) ، وهذا خطأ منه، فإن ابن إباض شخص يعرفه الإباضيون، ولهذا رد عليه علي يحيى معمر الإباضي وذكر أن الإباضية يعرفون ابن إباض معرفة تامة ولا يتبرءون منه وأن ابن حزم تناقض حين ذكر أن الإباضية يتبرءون منه؛ إذ كيف يتبرءون من شخص مجهول لا يعرفونه (¬4) ثم نتساءل كذلك من أين لهم تسميتهم ((إباضية)) إذا لم يكن ابن إباض ¬

(¬1) انظر: الكامل للمبرد: (2/ 179) . التنبيه والرد للملطي ص: 55. إبانة المناهج لجعفر بن أحمد ص 155. (¬2) انظر أجوبة ابن خلفون ص 9. (¬3) انظر الفصل: 4/ 191. (¬4) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 48، 50.

3- هل الإباضية من الخوارج؟

من أوائلهم. وقد ذهب الشهرستاني إلى أن ابن إباض خرج في أيام مروان بن محمد وقتل في ذلك الوقت (¬1) ، وهذا غير صحيح، لأن ابن إباض توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. 3- هل الإباضية من الخوارج؟ اتفقت كلمة علماء الفرق -الأشعري فمن بعده- على عد الإباضية فرقة من فرق الخوارج، وليس المخالفون للإباضية فقط هم الذين اعتبروهم في عداد الخوارج، وإنما بعض علماء الإباضية المتقدمون أيضاً؛ إذ لا يوجد في كلامهم ما يدل على كراهيتهم لعد الإباضية فرقة من الخوارج. ولكن بالرجوع إلى ما كتبه بعض العلماء الإباضية مثل أبي اسحاق أطفيش، وعلي يحيى معمر- نجد أنهم يتبرءون من تسمية الإباضية بالخوارج براءة الذئب من دم يوسف. ولقد خاض علي يحيى معمر في كتبه الإباضية بين الفرق الإسلامية، والإباضية في موكب التاريخ، وغيرها -خاض غمار هذه القضية وتفانى في رد كل قول يجعل الإباضية من الخوارج وهاجم جميع علماء الفرق المتقدمين منهم والمتأخرين على حد سواء، واعتبر عدهم للإباضية من الخوارج ظلماً وخطأ تاريخياً كبيراً، لأن تاريخ الخوارج عنده يبدأ من سنة 64هـ بقيام نافع بن الأزرق فمن بعده، وسمى ما قام به المحكِّمة الأولى فتناً داخلية. ونفى وجود أي صلة ما بين المحكِّمة الأولى والخوارج بقيادة نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، وغيرهما من الخوارج كما تقدم (¬2) . ¬

(¬1) الملل والنحل: 1/ 134. (¬2) انظر: الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 377 و 383 ((والأباضية في موكب التاريخ)) ص 62 كلاهما لعلي يحيي معمر.

ولا شك أن هذا القول فيه مغالطة خاطئة، ذلك أن الأحداث متسلسلة ومرتبطة من المحكِّمة إلى ظهور نافع بن الأزرق، بحيث يظهر أن الأولين هم سلف الخوارج. والحقيقة أن ظهور نافع بن الأزرق كان على طريقة من سبقه في الخروج إلا أنه ساعدته الظروف بحيث تغير وضع الخوارج من جماعات صغيرة تثور هنا وهناك إلى جماعات كبيرة هزت الدولة الأموية هزاً عنيفاً في فترات متقطعة. وزعم علي بن يحيى معمر أن لفظة الخوارج كاصطلاح على جماعة، لم يكن معروفاً بين الصحابة، وهذا غير صحيح، لأن لفظة الخوارج وردت في الأحاديث وفي كلام الصحابة كثيراً كعلي وعائشة وابن عباس وغيرهم من الصحابة. وتعجب جداً حينما تر تعليل أطفيش وتبعه علي يحيى معمر لمعركة النهروان بين علي والمحكِّمة الأولى. فهو لا يرى أن السبب فيها خروج أولئك عن الطاعة وسفكهم الدماء وإرهاب المسلمين، بل إن السبب في حرب عليّ لهم كما يرى هو أن القيادة أو الخلافة أسندت إلى أزدي-ابن وهب- لا إلى قرشي، فحاربهم علي عصبية لقريش (¬1) . ¬

(¬1) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 470 وانظر ((عمان تاريخ يتكلم)) ص 105 - 106.

فهل عليّ كان واثقاً من بقاء الخلافة لنفسه وهو في حالة حرب مع معاوية حتى يحارب لبقاء الخلافة في قريش. ثم لو كان الأمر عصبية لقريش فلماذا لم يترك حرب معاوية ويسلمه الخلافة وهو قرشي! هذا أمر واضح لولا أن التعصب الذي يحمله بعض علماء الإباضية على عليّ رضي الله عنه هو الذي أدى بهم إلى هذا الخلط في الفهم وتغيير وقلب الحقائق. ونذكر فيما يلي بعض النصوص من كلام علماء الإباضية حول الخوارج: قال مؤلف كتاب الأديان وهو إباضي: ((الباب الخامس والأربعين في ذكر فرق الخوارج، وهم الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب لما حكَّم، ثم أخذ يذكر الخوارج بهذا الاسم في أكثر من موضع من هذا الكتاب على سبيل المدح قائلا: هم أول من أنكر المنكر على من عمل به، وأول من أبصر الفتنة وعابها على أهلها، لا يخافون في الله لومة لائم، قاتلوا أهل الفتنة حتى مضوا على الهدى)) إلى أن يقول: ((وتتابعت الخوارج وافترقت إلى ستة عشر فرقة بفرقة أهل الاستقامة يعني الإباضية)) (¬1) . ويقول نور الدين السالمي عن الخوارج: ((لما كثر بذل نفوسهم في رضى ربهم وكانوا يخرجون للجهاد طوائف سُموا خوارج، وهو جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج في سبيل الله. وكان اسم الخوارج في الزمان الأول ¬

(¬1) قطعة من كتاب في الأديان لمؤلف أباضي مجهول الاسم ص: 96.

مدحاً لأنه جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج للغزو في سبيل الله)) (¬1) . ويقول صاحب كتاب وفاء الضمانة الإباضي: ((وكان الصفرية -إحدى فرق الخوارج- مع أهل الحق منا في النهروان)) (¬2) . ولا أدري معنى لهذا الحرص من بعض الإباضية على عدم دخولهم في دائرة الخوارج. فإذا كانت الإباضية -كما هو معروف- تتولى المحكِّمة ويعتبرونهم سلفاً صالحاً لهم وينفون عنهم اسم الخارجية فلماذا تذكر بعض كتبهم لفظة المحكمة وتفسرها بين قوسين ((بالخوارج)) كما فعل السالمي في كتابه عمان تاريخ يتكلم! والأغرب من هذا أنه يسمي الخوارج في العصر العباسي بالمحكِّمة كما نرى في نص كلامه حين يقول موازناً بين قوة الخوارج في الدولتين الأموية والعباسية يقول: ((ولم تكن قوة المحكِّمة أو ((الخوارج)) في العصر العباسي كما كانت في العهد الأموي)) . ثم يمضي المؤلف المذكور ذاكراً شواهد من مناوءة المحكِّمة أو الخوارج للعباسيين، ويمثل للخوارج بأئمة الإباضية المعتبرين عندهم مما يدل على أن لا فرق بين الخوارج والإباضية في التسمية والمبادئ (¬3) . ومن هنا يتبين لنا أن تسميتهم باسم الخوارج قديمة وجدت قبل ظهور الأزارقة، سواء كان ذلك من التنبأ بظهورهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو في ¬

(¬1) نقله عنه على يحيى معمر الأباضى كما تقدمت الإشارة إليه. انظر: ص 384 من كتابه الأباضية بين الفرق الإسلامية. (¬2) وفاء الضمانة بأداء الأمانة للعيزابي: 3/ 22. (¬3) انظر عمان تاريخ يتكلم ص 117، 120.

4- فرق الإباضية

ترديد هذا الاسم على لسان عليّ رضي الله عنه، أو على ألسنة غيره من الناس وعلى ألسنة بعض علماء الإباضية أيضاً، وعلى هذا فلا يخطئ من ألحق تسمية الإباضية بالخوارج، ويبقى ما امتاز به الإباضية من تسامح، أو تسامح أغلبيتهم تجاه مخالفيهم قائماً وثابتاً لهم ورغم ما يظهر أحياناً في بعض كتب الإباضية من الشدة والقسوة تجاه المخالفين لهم والحكم عليهم بالهلاك والخسران، كما يقرره الوار جلاني منهم في كتابه الدليل لأهل العقول. 4- فرق الإباضية: انقسمت الإباضية إلى فرق، منها ما يعترف به سائر الإباضية، ومنها ما ينكرونها ويشنعون على من ينسبها إليهم، ومن تلك الفرق: 1-الحفصية: أتباع حفص بن أبي المقدام. 2-اليزيدية: أتباع يزيد بن أنيسة. 3-الحارثية: أتباع حارث بن يزيد الإباضي. 4-أصحاب طاعة لا يراد بها الله (¬1) . ولهذه الفرق من الأقوال والاعتقادات ما لا يشك مسلم في كفرهم وخروجهم عن الشريعة الإسلامية. ورغم أن علماء الفرق قد أثبتوا نسبتها إلى الإباضية إلا أن عليّ معمر-في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية- أخذ يصول ويجول وينفي وجود هذه الطوائف عند الإباضية أشد النفي، ويزعم أن علماء الفرق نسبوها إلى ¬

(¬1) انظر مقالات الأشعرى: 1/ 183، الفرق بين الفرق للبغدادي: ص 105، 279.

الإباضية ظلماً وخطأ (¬1) وهذا الرد منه لا يسلم له على إطلاقه، لأن انحراف هذه الفرق في آرائهم لا يقوم دليل قاطع على عدم انتسابهم إلى الإباضية؛ إذ يجوز أن يكون هؤلاء الزعماء كانوا في صفوف الإباضية ثم انفصلوا عنهم بآرائهم الشاذة، وتظل نسبتهم إلى الإباضية ثابتة في الأصل، كما أنه لا يمنع أن يخرج بعض أفراد المذهب عن عامة أهل المذهب وتبقى نسبتهم إليهم لو مجرد التسمية -ثابتة- وإضافة إلى تلك الفرق السابقة فإنه يوجد ست فرق أخرى للإباضية في المغرب هي: 1-فرقة النكار: زعيمهم رجل يسمى أبا قدامة يزيد بن فندين الذي ثار في وجه إمام الإباضية بالمغرب عبد الوهاب بن رستم. وسميت هذه الفرقة بالنكارية لإنكارهم إمامة ابن رستم. وقد سميت الفرقة الموافقة لعبد الوهاب بن رستم ((بالوهابية أو الوهبية)) . 2-النفاثية: نسبة إلى رجل يسمى فرج النفوسي المعروف بالنفاث، ونفوسة قرية تقع في ليبيا. 3-الخلفية: نسبة إلى خلف بن السمح بن أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري الذي كانت له مناوشات مع الدولة الرستمية. 4-الحسينية: وزعيمهم رجل يسمى أبا زياد أحمد بن الحسين الطرابلسي. 5-السكاكية: نسبة إلى زعيمهم عبد الله السكاك اللواتي من سكان قنطرار، تميز بأقوال تخرجه عن الإسلام، وقد تبرأت من الإباضية. ¬

(¬1) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 23.

5-دولة الإباضية

6-الفرثية: زعيمهم أبو سليمان بن يعقوب بن أفلح. ونفس الموقف السابق لعليّ يحيى بن معمر من الفرق السابقة وقفه أيضاً ضد هذه الفرق وأنكر أن تكون من الإباضية وشكك في وجود بعض هذه الفرق، فضلاً عن نسبتها إلى الإباضية (¬1) إلا أن كثيراً من العلماء يذكرون أن هذه الفرق هي ضمن الإباضية بالمغرب. 5-دولة الإباضية: قامت للإباضية دولتان: إحداهما في المغرب والأخرى في المشرق -عمان- تمتع المذهب الإباضي فيهما بالنفوذ والقوة. وساعد انتشار المذهب الإباضي في عمان بُعْدُها عن مقر الخلافة، ثم مسالكها الوعرة. ويرجع دخول المذهب الإباضي عمان إلى فرار بعض الخوارج بعد معركة النهروان إلى هذا البلد؛ كما يرى بعض العلماء. ولكن السالمي من علماء الإباضية يرى أن دخول المذهب إلى عمان يرجع إلى قدوم عبد الله بن إباض. وعلى أي حال فقد قوي المذهب وأراد أهل عمان الاستقلال عن الخلافة العباسية عهد السفاح والمنصور، وانتخبوا لهم خليفة هو الجلندي بن مسعود ابن جيفر الأزدي، إلا أن جيوش الخلافة العباسية قضت على حلم أهل عمان وظلت جزءاً من الدولة العباسية إلى سنة 177هـ، حيث بدأت نزعة ¬

(¬1) انظر كتاب الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 258، 278.

الاستقلال وولوا عليهم سنة 179هـ إماماً منهم، واستمر ولا تهم في الحكم في عمان ابتداءً بأول خليفة وهو محمد بن أبي عفان الأزدي، ثم الوارث بن كعب الخروصي، ثم غسان بن عبد الله، ثم عبد الملك بن حميد، ثم المهنا بن جيفر اليحمدي، ثم الصلت بن مالك الخروصي، ثم راشد بن النظر اليحمدي الخروصي، ثم عزام بن تميم الخروصي، ثم سعيد بن عبد الله بن محمد بن محبوب، ثم راشد بن الوليد، ثم الخليل بن شاذان، ثم محمد علي، ثم راشد بن سعيد، ثم عامر بن راشد بن الوليد (¬1) . وبعده محمد بن غسان بن عبد الله الخروصي، والخليل بن عبد الله ومحمد بن أبي غسان وموسى بن أبي المعالي وخنبش بن محمد والحواري بن مالك، وأبو الحسن بن خميس وعمر بن الخطاب ومحمد بن محمد بن إسماعيل الماضري وبركات بن محمد بن إسماعيل. ثم جاءت أئمة اليعارية الذين قوي نفوذهم جداً واستمروا إلى أن حدثت الانشقاقات والتفرق بينهم، فتدخلت الدول الاستعمارية وقضت على الإمامة (¬2) . أما بالنسبة لدولة الإباضية في المغرب فإن قيام هذه الدولة كان نتيجة لانتشار المذهب الإباضي هناك بين قبائل البربر. ولقد كانت البصرة هي إحدى القواعد الأساسية لدعاة المذهب الإباضي، حيث يتخرج منها دعاة هذا المذهب وينتشرون في أماكن كثيرة، وتعتبر المرجع ¬

(¬1) مخطوطة المازغينني في افتراق فرق الأباضية الست بالمغرب ص 1-7 وانظر تعليق أبي إسحاق على كتاب الوضع للجناوني وانظر كذلك كتاب الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الأباضية: 2/ 148ر 152، 167، 174، 102، 112، 206. (¬2) انظر كتاب ((عمان تاريخ يتكلم)) ص 131 للسالمي، وكتاب ((الأزهار الرياضية للباروني)) : 2/ 2 والكامل لابن الأثير: 5/ 192 - 194.

لجميع الإباضية في كل مكان، إذ يأتون إليها ويتزودون منها علماً وخططاً لنشر مذهبهم وإقامة حكمهم، في ذلك الوقت وفد إليها رجال هذا المذهب ثم خرجوا إلى المغرب وأسسوا دولتهم إلى جانب دولة الصفرية الخارجية. وطريقة قيام المذهب الإباضي تمت بوضع خطة للقبض على زمام السلطة شيئاً فشيئاً، وكان أول زعيم لهم هو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري، فاستولوا على طرابلس ثم عيَّن عبد الرحمن الرستمي قاضياً عليها وواصل أبو الخطاب انتصاراته، ولكن جيش الخلافة العباسية دحرهم في معركة قتل فيها أبو الخطاب وتفرقت الإباضية. ثم قام عبد الرحمن الرستمي الذي يعتبر مؤسس الدولة الرستمية الإباضية في المغرب بمحاولات الاستقلال، وتمت له السيطرة على أماكن كثيرة وسلموا عليه بالخلافة سنة 160هـ وهو فارسي الأصل. وقد توفي سنة 171هـ فاختاروا ابنه عبد الوهاب الذي واصل تنمية المذهب واجتمعت عليه الكلمة إلى أن مات، فخلفه ابنه أفلح بن عبد الوهاب وسار على طريقة والده وأحبه الناس، وبعد وفاته تولى ابنه أبو اليقظان محمد ابن أفلح، فأحب الناس سيرته إلى أن توفي فخلفه ابنه أبو حاتم يوسف بن محمد بن أفلح إلا أن العلاقة ساءت بينه وبين عمه يعقوب بن أفلح ودارت بينهم معارك هائلة، ومن هنا بدأت الدولة الرستمية في الأفول وداهمتهم الشيعة بقيادة أبي عبيد الله الشيعي وانتهت أسرتهم في سنة 296هـ فرثاهم علماء الإباضية كثيراً (¬1) . ¬

(¬1) انظر الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الأباضية. الجزء الثاني في عدة صفحات منه.

6- موقف الإباضية من المخالفين لهم

6- موقف الإباضية من المخالفين لهم: أ- موقفهم من سائر المخالفين: تتسم معاملة الإباضية لمخالفيهم باللين والمسامحة وجوزوا تزويج المسلمات من مخالفيهم وهذا ما يذكره علماء الفرق عنهم، إضافة إلى أن العلماء يذكرون عنهم كذلك أن الإباضية تعتبر المخالفين لهم من أهل القبلة كفار نعمة غير كاملي الإيمان ولا يحكمون بخروجهم من الملة، إلا أن هذا المدح ليس بالاتفاق بين العلماء؛ فهناك من يذكر عن الإباضية أنهم يرون أن مخالفيهم محاربون لله ولرسوله وأنهم يعاملون المخالفين لهم أسوأ المعاملة. والحقيقة أن القارئ لكتب علماء الفرق يجد أنهم متعارضون في النقل عنهم إلا أن يقال: إن طائفة من الإباضية معتدلون وآخرون متشددون. ولهذا وجد علي يحيى معمر ثغرة في كلام علماء الفرق ليصفهم بالتناقض والاضطراب في النقل إلى آخر ما أورد من انتقادات لا تسلم له على إطلاقها. وذلك أنك تجد في بعض كلام علماء الإباضية أنفسهم الشدة في الحكم على المخالفين لهم ووصفوهم بأنهم الكفار وأنهم من أهل النار ما لم يدينوا بالمذهب الإباضي، وتجد آخرين يتسامحون في معاملة المخالفين لهم ويبدو عليهم اللين تجاههم. وتجد التعصب في حكمهم على مخالفين ظاهراً قوياً من قراءتك لكتاب مقدمة التوحيد لابن جميع، وكتاب الحجة في بيان المحجة في التوحيد بلا

تقليد للعيزابي، ورسالة في فرق الإباضية بالمغرب للمارغيني، وكتاب الدليل لأهل العقول للورجلاني، وكذا العقود الفضية، وكشف الغمة الجامع لأخبار الأمة- فإن القارئ لهذه الكتب يجد التشدد تجاه المخالفين قائماً على أشده كما تشهد بذلك مصادرهم المذكورة. ومع هذا فإن العلماء والمتقدمين وكثيراً من المتأخرين يذكرون عبارات كثيرة تصف الإباضية بالتسامح واللين تجاه المخالفين ممن يدعون الإسلام إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وحرابة، ومع ذلك نفى عليّ يحيى معمر أن يكون من مذهب الإباضية أنهم يرون أن معسكر السلطان معسكر بغي وحرابة، ولكنه-وهو يقسم حكام المسلمين في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية- جعل هذا الوصف ينطبق على الحاكم الذي يخرج عن العدل ولا يطبق أحكام الإسلام كاملة (¬1) . ومن خلال الأمثلة الآتية من كلام العلماء حول موقف الإباضية من المخالفين لهم تجد مصداق ما قدمنا إجماله فيما يلي: 1- اللين والتسامح مع المخالفين: أ-ما قاله عنهم كتَّاب الفرق. ب-ما قالوه هم في كتبهم. أما ما قاله علماء الفرق عنهم: فمثلاً نجد أن الأشعري يقول: ((وأما السيف فإن الخوارج جميعاً تقول به وتراه، إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف)) (¬2) . ¬

(¬1) انظر الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 27، 28. (¬2) المقالات جـ1ص204.

وقال أيضاً: ((وجمهور الإباضية يتولى المحكِّمة كلها إلا من خرج، ويزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار ليسوا بمشركين)) (¬1) . ثم قال عنهم كذلك: ((وزعموا أن الدار أي دار مخالفيهم- دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر يعني عندهم)) (¬2) . إلى أن قال: ((وفي المعركة لا يقتلون النساء ولا الأطفال على عكس ما يفعله الأزارقة)) (¬3) أما البغدادي والشهرستاني فيذكران عن الإباضية أنهم يرون أن مخالفيهم براء من الشرك والإيمان، وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار (¬4) . وأما ما قالوه هم عن أنفسهم: فنجد صاحب كتاب الأديان الإباضي وهو يعدد آراء الأخنس -زعيم فرقة الأخنسية -يقول: ((وجوَّز تزويج نساء أهل الكبائر من قومهم على أصول أهل الاستقامة)) (¬5) . ونجده كذلك يؤكد على أنه لا يجوز من أهل القبلة إلا دماءهم في حالة قيام الحرب بينهم وبين الإباضية (¬6) . ويأتي أبو زكريا الجناوني فيؤكد أنه يجوز معاملة المخالفين معاملة حسنة، غير أنه ينبغي أن يدعو إلى ترك ما به ضلوا فإن أصروا ناصبهم إمام المسلمين ¬

(¬1) المقالات 1/184. (¬2) المصدر السابق صـ185. (¬3) المصدر السابق صـ285. (¬4) الفرق بين الفرق صـ103، الملل والنحل ج 1 ص 134. (¬5) كتاب الأديان ص - 105. (¬6) المصدر السابق صـ99.

الحرب حتى يذعنوا للطاعة ولا يحل منهم غير دمائهم (¬1) . وهناك نصوص في مسامحة الإباضية للمخالفين لهم من حسن المعاملة وعدم اغتيالهم أو استعراضهم وتحريم أموالهم. يذكرها عنهم علي يحيى معمر مع عزوها إلى قائليها في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية، في معرض نقده كلام علماء الفرق عن الإباضية (¬2) لا نرى ضرورة للتطويل بنقلها هنا. 2- الشدة على المخالفين: 1-ما يقوله عنهم علماء الفرق: يقول البغدادي عنهم: ((إنهم يرون أن المخالفين لهم كفار وأجازوا شهادتهم وحرموا دماءهم في السر واستحلوها في العلانية ... وزعموا أنهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ولا يدينون دين الحق، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض والذي استحلوه الخيل والسلاح، فأما الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابها عند الغنيمة)) (¬3) . وكان الأشعري قد سبق إلى قوله عنهم. ((وقالوا جميعاً: إن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل، فإن تاب وإلا قتل، كان ذلك الخلاف فيما يسع جهله وفيما لا يسع (¬4) . ¬

(¬1) انظر كتاب الوضع للجناوي. (¬2) انظر الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 335 - 385. (¬3) الفرق بين الفرق صـ 103. (¬4) المقالات ج 1 صـ186.

2-ما قالوه هم في كتبهم: روى الجيطالي الإباضي عن الإمام عبد الوهاب أنه قال: سبعون وجهاً تحل بها الدماء، فأخبرت منها لأبي مرداس بوجهين فقال: من أين هذا من أين هذا؟ وفي كتاب سير المشائخ أن الإمام كان يقول: عندي أربعة وعشرين وجهاً تحل بها دماء أهل القبلة، ولم تكن منهم عند أبي مرداس رحمه الله إلى أربعة أوجه وقد شدد علي فيهم (¬1) . ويقول المارغيني منهم: ((وقالت المشائخ إن هذا الدين الذي دنا به الوهبية من الإباضية من المحكِّمة دين المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الحق عند الله وهو دين الإسلام، من مات مستقيماً عليه فهو مسلم عند الله، ومن شك فيه فليس على شيء منه، ومن مات على خلافه أو مات على كبيرة موبقة فهو عند الله من الهالكين أصحاب النار)) (¬2) . وقال العيزابي منهم: ((الحمد لله الذي جعل الحق مع واحد في الديانات فنقول معشر الإباضية الوهابية: الحق ما نحن عليه والباطل ما عليه خصومنا؛ لأن الحق عند الله واحد، ومذهبنا في الفروع صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفينا خطأً يحتمل الصدق)) (¬3) . ولا يقلُّ الوار جلاني تشدداً عن من سبق، فهو يقول: فإن قال قائل: هذه أمة أحمد صلى الله عليه وسلم قد قضيتم عليها بالهلاك وبالبدعة والضلال وحكمتم عليها بدخول النار ما خلا أهل مذهبكم. قلنا: إنما قضاه ¬

(¬1) قواعد الإسلام ص 105. (¬2) رسالة في فرق الأباضية للمغرب ص 13. (¬3) الحجة في بيان الحجة في التوحيد بلا تقليد ص 37.

ب- موقف الإباضية من الصحابة:

رسول الله صلى الله عليه وسلم-لا نحن- بقوله: حيث يقول: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهن في النار ما خلا واحدة ناجية ... كلهم يدعي تلك الواحدة)) (¬1) . وهناك نصوص كثيرة أخرى في تزكية مذهبهم وبطلان ما عداه من المذاهب، وأن الله لا يقبل أي دين غير دين الإباضية والوهبية عن صاحب العقود الفضية (¬2) والسالمي (¬3) وجاعدين خميس الخروصي (¬4) ، وصاحب كشف الغمة (¬5) ، وصاحب النيل وشفاء العليل (¬6) وابن جميع (¬7) وغيرهم من علماء الإباضية. ب- موقف الإباضية من الصحابة: موقف الإباضية من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم: من الأمور المتفق عليها عند سائر الخوارج الترضي التام والولاء والاحترام للخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، لم تخرج فرقة منهم عن ذلك. أما بالنسبة للخليفتين الراشدين الآخرين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقد هلك الخوارج فيهما وذموهما مما برأهما الله عنه. ¬

(¬1) تقدم تخريج الحديث وذكر ألفاظه وهو في كتاب الدليل لأهل العقول ص 35 - 36. (¬2) العقود الفضية ص 169. (¬3) المصدر السابق صـ172. (¬4) المصدر السابق صـ172. (¬5) كشف الغمة صـ306. (¬6) انظر النيل وشفاء ص 1061، 1062 جـ3. (¬7) مقدمة التوحيد صـ19.

والذي يهمنا، أن نشير هنا إلى رأي الإباضية في الصحابة رضوان الله عليهم بإيجاز، تاركين تفصيل الحجج والردود عليها لمقام آخر: 1- موقف الإباضية من عثمان رضي الله عنه: من الأمور الغريبة جداً أن تجد ممن يدعي الإسلام ويؤمن بالله ورسوله من يقع في بغض الصحابة؛ خصوصاً من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وثبتت بذلك النصوص في حقه. فعثمان رضي الله عنه صحابي جليل شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، أما بالنسبة للخوارج فقد تبرءوا منه ومن خلافته، بل وحكموا عليه بالارتداد والعياذ بالله وحاشاه من ذلك. وفي كتاب كشف الغمة لمؤلف إباضي من السب والشتم لعثمان ما لا يوصف، ولم يكتف بالسب والشتم، وإنما اختلق روايات عن بعض الصحابة يسبون فيها عثمان بزعمه ويحكمون عليه بالكفر (¬1) ، ولا شك أن هذا بهتان عظيم منه. ويوجد كذلك كتاب في الأديان (¬2) وكتاب آخر اسمه الدليل لأهل العقول (¬3) للورجلاني، فيهما أنواع من السباب والشتم لعثمان ومدح لمن قتلوه؛ حيث سماهم فرقة أهل الاستقامة، وهم في الحقيقة بغاة مارقون لا استقامة لهم إلا على ذلك. 2-وأما بالنسبة لموقفهم من علي رضي الله عنه: فإنه يتضح موقفهم منه ¬

(¬1) كشف الغمة ص 268. (¬2) كتاب الأديان ص 26- 27. (¬3) الدليل لأهل ص 28-28.

بما جاء في كتاب كشف الغمة تحت عنوان فصل من كتاب الكفاية قوله: فإن قال ما تقولون في علي بن أبي طالب، قلنا له: إن علياً مع المسلمين في منزلة البراءة، وذكر أسباباً- كلها كذب- توجب البراءة منه في زعم مؤلف هذا الكتاب، منها حربه لأهل النهروان وهو تحامل يشهد بخارجيته المذمومة. وقد ذكر لوريمر عن موقف المطاوعة -جماعة متشددة في الدين- كما يذكر قوله: ((ويعتقد المطوعون أن الخليفة علياً لم يكن مسلماً على الإطلاق؛ بل كان كافراً!!)) (¬1) . كما تأول حفص بن أبي المقدام بعض آيات القرآن على أنها واردة في علي، وقد كذب حفص (¬2) . ومن الجدير بالذكر أن علي يحيى معمر -المدافع القوي عن الإباضية يزعم أن الإباضية لا يكفرون أحداً من الصحابة، وأنهم يترضون عن علي رضي الله عنه فهو ينقل عن كتاب وفاء الضمانة بأداء الأمانة مدحاً وثناءً لعلي (¬3) . وأورد علي يحيى معمر فصلاً طويلاً بيّن فيه اعتقاد الإباضية في الصحابة بأنهم يقدرونهم حق قدرهم، ويترضون عنهم ويسكتون عما جرى بينهم، ونقل عن أبي إسحاق أطفيش في رده على الأستاذ محمد بن عقيل العلوي أنه قال له: أما ما زعمت من شتم أهل الاستقامة لأبي الحسن علي وأبنائه فمحض اختلاق. ¬

(¬1) دليل الخليج: 6/3406. (¬2) انظر المقالات: 1/ 183. (¬3) وفاء الضمانة: 3/22.

ونقل عن التعاريتي أيضاً مدحه للصحابة خصوصاً علياً وأبناءه، وكذلك التندميري الإباضي. وأخيراً قال علي يحيى معمر: ((ولم يكن يوماً من الأصحاب شتم له أو طعن، اللهم من بعض الغلاة، وهم أفذاذ لا يخلو منهم وسط ولا شعب)) (¬1) . وهذه الحقيقة التي اعترف بها أخيراً تجعل ما ملأ به كتابه الإباضية بين الفرق من الشتائم على كل كتّاب الفرق غير صحيح، فما الذي يمنع أن يكون نقل هؤلاء العلماء يصدق على أقل تقدير على هؤلاء الأفذاذ الذين أشار إليهم، مع أن ما يذكره علي يحيى معمر لا يتفق مع النصوص المستفيضة عن علماء الإباضية في ذمهم لبعض الصحابة، فهل الورجلاني يُعتبر- على حد التعبير السابق ليحيى معمر- من الغلاة المتشددين، وهو من هو في صفوف الإباضية؟ فهذا الرجل يواصل في كتابه الدليل لأهل العقول تكفيره وشتمه لمعاوية رضي الله عنه ولعمرو بن العاص، بل قد قال زعيم الإباضية عبد الله بن إباض نفسه في كتابه لعبد الملك عن معاوية ويزيد وعثمان كما يرويه صاحب كشف الغمة: ((فإنا نُشهد الله وملائكته أنا براء منهم وأعداء لهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، نعيش على ذلك ما عشنا، ونموت عليه إذا متنا، ونبعث عليه إذا بعثنا، نحاسب بذلك عند الله)) وكفى بهذا خروجاً. وصاحب كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة يشتم الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأوجب البراءة منهما بسبب ولايتهما لأبيهما على ظلمه وغشمه، كما يزعم- كذلك بسبب قتلهما عبد الرحمن بن ملجم، وتسليمهما الإمامة لمعاوية، وهي أسباب لا يعتقدها من عرف الصحابة الذين شهد الله ورسوله ¬

(¬1) الأباضية بين الفرق ص 287.

7- عقائد الإباضية

لهم بالسابقة والفضل، ولكن انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر، وصدق الشاعر حين قال: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل ونفس الموقف الذي وقفه الخوارج عموماً والإباضية أيضاً من الصحابة السابقين- وقفوه أيضاً من طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأوجب لهما الورجلاني النار (¬1) ، وقد بشرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهؤلاء يوجبون عليهما النار، فسبحان الله ما أجرأ أهل البدع والزيغ على شتم خيار الناس بعد نبيهم الذين نصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ومات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬2) ، وأنه لما يحار فيه الشخص هذا الموقف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان أخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم غير مرضيين عند هذه الطوائف من خوارج وشيعة فمن المرضي بعد ذلك؟ 7- عقائد الإباضية: من الأمور الطبيعية أن تخرج هذه الفرقة وغيرها من الفرق عن المعتقد السليم في بعض القضايا ما دامت قد خرجت عن أهل السنة والجماعة وارتكبت التأويل، ولا بد كذلك أن توجد لها أقوال فقهية تخالف فيها الحق إلى جانب أقوالهم في العقيدة، ولا يسعنا هنا ذكر جميع مبادئ فرقة الإباضية العقديّة والفقهية، فهذا له بحث مستقل خصوصاً ما يتعلق بالمسائل الفقهية، ¬

(¬1) انظر: كشف الغمة ص 304. الدليل لأهل العقول ص 28. (¬2) أخرجه مسلم 7/188.

فإن دارس الفرق قلما يوجه همه إلى إيضاحها وتفصيلاتها إلا عند الضرورة. والذي نود الإشارة إليه هنا أن الإباضية أفكاراً عقدية وافقوا فيها أهل الحق، وعقائد أخرى جانبوا فيها الصواب. 1- أما ما يتعلق بصفات الله تعالى: فإن مذهب الإباضية فيها أنهم انقسموا إلى فريقين: فريق نفى الصفات نفياً تاماً خوفاً من التشبيه بزعمهم، وفريق منهم يرجعون الصفات إلى الذات فقالوا أن الله عالم بذاته وقادر بذاته وسميع بذاته إلخ الصفات فالصفات عندهم عين الذات، قال أحمد بن النضر: وهو السميع بلا أداة تسمع *** إلا بقدره قادر وحداني وهو البصير بغير عين ركبت *** في الرأس بالأجفان واللحظان جل المهمين عن مقال مكيف *** أو أن ينال دراكه بمكان أو أن يحيط به صفات معبرس *** أو تعتريه هماهم الوسنان (¬1) ويقول السالمى: أسماؤه وصفات الذات ... *** ليس بغير الذات بل عينها فافهم ولا تحلا وهو على العرش والأشيا استوى *** وإذا عدلت فهو استواء غير ما عقلا وإنما استوى ملك ومقدرة *** له على كلها استيلاء وقد عدلا كما يقال استوى سلطانهم فعلى ... *** على البلاد فحاز السهل والجبلا (¬2) ¬

(¬1) كتاب الدعائم ص: 34. (¬2) غاية المراد ص: 7.

وقال العيزابي منهم ((الحمد لله الذي استوى على العرش أي ملك الخلق واستولى عليه وإلا لزم التحيز وصفات الخلق)) (¬1) وهذا في حقيقته نفي للصفات ولكنه نفي مغطي بحيله إرجاعها إلى الذات وعدم مشابهتها لصفات الخلق وقد شنع الورجلاني منهم على الذين يثبتون الصفات بأنهم مشبهة كعبادة الأوثان وأن مذهب أهل السنة هو - حسب زعمه - تأويله الصفات فاليد النعمة والقدرة والوجه الذات ومجئ الله مجئ أمره لفصل القضاء لأن إثبات هذه الصفات لله هو عين التشبيه كما يزعم (¬2) . ومعلوم لطلاب العلم أن هذا ليس هو مذهب السلف الذي يثبتون الصفات لله كما وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل. قال ابن تيمية في بيان مذهب السلف: ((أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل)) . ويقول ابن القيم: ((لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال وأخبر أنه يحب ويكره ويمقت ويغضب ويسخط ويجئ ويأتي وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصراً ووجهاً، وأن له يدين وأنه فوق عباده وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة صـ6، 18. (¬2) الدليل لأهل العقول ص: 32.

المتقين، وأن السموات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك)) . (¬1) فهل بعتبر هذا الوصف تشبيه لله بخلقه؟ {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (¬2) وطريقة السلف في إثبات كل صفة لله أنهم يقولون فيها أنها معلومة والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة. وأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬3) . وهذه الآية أساس واضح في إثبات الصفات لله. ولم ير أهل السنة أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه لمعرفتهم أن الإتقان في التسمية لا يستلزم الاتفاق في الذات فالله سميع وبصير والإنسان بصير وبين الذاتين ما يعرفه كل عاقل من الفرق ومن تصور التشبيه فقد جمع بين التشبيه والتعطيل. والحاصل أن الإباضية هنا وافقوا المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من أهل الفرق في باب الصفات معتمدين على عقولهم وعلى شبهات وتأويلات باطلة على أن الإباضية أنفسهم مختلفون في إثبات صفات الله تعالى فأباضية المشرق يختلفون عن أباضية المغرب ذلك أن أباضية المشرق تعتقد أن صفات الله تعالى حادثة وأباضية المغرب تعتقد أنها قديمة وبين الفريقين من التباعد في هذا مالا يخفى. (¬4) . 2- وأما عقيدة الإباضية في استواء الله وعلوه، فإنهم يزعمون أن الله ¬

(¬1) مختصر الصواعق المرسلة من ص 16 إلى ص 29. (¬2) [البقرة: الآية140] (¬3) سورة الشورى: 11 (¬4) انظر الأباضية عقيدة ومذهباً للدكتور صابر طعيمة ص 35.

يستحيل أن يكون مختصاً بجهة ما بل هو في كل مكان وهذا قول بالحلول وقول الغلاة الجهمية ولهذا فقد فسر الإباضية معنى استواء الله على عرشه باستواء أمره وقدرته ولطفه فوق خلقه أو استواء ملك ومقدرة وغلبة وإذا قيل لهم لما خص العرش بالاستيلاء والغلبة أحابوا بجواب واه قالوا لعظكته، وقد خرجوا بهذه التاويلات عن المنهج الشرعي إلى إعمال العقل واللغة بتكلف ظاهر مخالف للاعتقاد السليم والمنطق والفطرة. 3- وذهبت الإباضية في باب رؤية الله تعالى إلى إنكار وقوعها لأن العقل - كما يزعمون - يحيل ذلك ويستبعده واستدلوا بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (¬1) وأولوا معنى الآية تأويلاً خاطئاً على طريقة المعتزلة. ومن أدلتهم قوله تعالى {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} (¬2) . واستدلوا من السنة بحديث عائشة حين سئلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة الإسراء فأجابت بالنفى كما رواه صاحب وفاء الضمانة (¬3) وقد أورد الربيع بن حبيب صاحب كتاب الجامع الصحيح أو مسند الربيع الذي هو عندهم بمنزلة صحيح البخاري ومسلم عند أهل السنة ويعتبرونه أصح كتاب بعد القرآن الكريم - كما يزعمون. أورد عدة روايات عن بعض الصحابة - تدل على إنكارهم رؤية الله تعالى بزعمه (¬4) . ¬

(¬1) سورة الأنعام: 103. (¬2) الأعراف: الآية143 (¬3) وفاء الضمانة ص 376، 377. (¬4) انظر: مسند الربيع بن حبيب: 3/ 35.

والواقع أن كل استدلالاتهم التي شابهوا فيها المعتزلة، إما استدلالات غير صحيحة الثبوت أو صحيحه ولكن أولوها على حسب هواهم في نفي الرؤية. فإن الآية الأولى ليس فيها نفي الرؤية وإنما نفي الإحاطة والشمول فالله يرى ولكن من غير إحاطة به عز وجل. وقوله لموسى {لن تراني} أي في الدنيا وقد علق الله إمكان رؤيته تعالى بممكن وهو استقرار الجبل. وحديث عائشة إنما أرادت نفى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه في ليلة الإسراء وليس المقصود نفي الرؤية مطلقاً فهذا لم ترده أم المؤمنين ومن فهم النفي مطلقاً فهو سيئ الفهم جاهل بالنصوص. وخلاصة القول في هذه المسألة أن رؤية الله تعالى تعتبر عند السلف أمراً معلوماً من الدين بالضرورة لا يمارى فيها أحد منهم بعد ثبوتهم في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفي أقوال الصحابة رضي الله عنهم وفي أقوال علماء السلف قاطبة رحمهم الله تعالى. 4- ومن عقائد بعض الأباضية في كلام الله تعالى القول بخلق القرآن - بل حكم بعض علمائهم كابن جميع والورجلاني أن من لم يقل بخلق القرآن فليس منهم. (¬1) وقد عرف المسلمون أن القول بخلقه من أبطل الباطل إلا من بقى على القول بخلقه منهم وهم قلة شاذة بالنسبة لعامة المسلمين وموقف إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وهو القول ¬

(¬1) مقدمة التوحيد ص 19 الدليل لأهل العقول ص: 50.

بأن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ واليه يعود ولا يتسع المقام هنا لبسط شبه القائلين بخلقه وأدلة من يقول بعدم خلقه وردهم على أولئك المخطئين. ومن قذف الله الإيمان والنور في قلبه يعلم أن الله تعالى تكلم بالقرآن وبلغة جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والكلام صفة لله تعالى، ومما ينبغي الإشارة إليه هنا بعض الإباضية قد خرج عن القول صفة لله تعالى، ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن بعض الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن كصاحب كتاب الأديان (¬1) وكذا أبو النضر العماني (¬2) وردا على من يقول بخلقه وبسطا الأدلة في ذلك وبهذا يتضح أن الإباضية قد انقسموا في هذه القضية إلى فريقين. 5- وقد اعتدل الإباضية في مسألة ووافقوا أهل السنة فأثبتوا القدر خيره وشره من الله تعالى وأن الله خالق كل شيء وأن الإنسان فاعل لأفعاله الاختيارية مكتسب لها محاسب عليه وبهذا المعتقد صرح زعماؤهم كالنفوسي (¬3) والعيزابي (¬4) والسالم (¬5) وعلى يحي معمر (¬6) . 6- وقد اختلف الأباضيون في إثبات عذاب القبر. فذهب قسم منهم إلى انكاره موافقين بذلك سائر فرق الخوارج. وذهب قسم آخر إلى إثبات قال النفوس في متن النونية: وأما عذاب القبر ثبت جابر *** وضعفه بعض الأئمة بالوهن (¬7) ومعتقد السلف جميعاً هو القول بثبوت عذاب القبر ونعيمه كما صحت بذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة ومن أنكره فليس له دليل إلا مجرد الاستبعاد ومجرد الاستبعاد ليس بدليل. ¬

(¬1) كتاب الأديان ص 104. (¬2) كتاب الدعائم ص: 31- 35. (¬3) متن النونية ص: 12. (¬4) الحجة في بيان المحجة ص 23. (¬5) غاية المراد ص 9. (¬6) الأباضية بين الفرق ص 248. (¬7) متن النونية ص: 27.

7- ويثبت الأباضيون وجود الجنة والنار الآن ويثبتون الحوض ويؤمنون بالملائكة والكتب المنزلة. 8- وأما بالنسبة للشفاعة: فإن الإباضية يثبتونها ولكن لغير العصاة للمتقين وكأن المتقى في نظرهم أحوج إلى الشفاعة من المؤمن العاصي. قال صاحب كتاب الأديان - والشفاعة حق للمتقين وليست للعاصين (¬1) . وقال السالمي: وما الشفاعة إلا للتقي كما *** قد قال رب العلا فيها وقد فصلا (¬2) وذكر الربيع بن حبيب روايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل في زعمه على هذا المعتقد وقرر الحارثي في كتابه العقود الفضية تلك القضية (¬3) . ومذهب أهل السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع في عصاة المؤمنين أن لا يدخلوا النار ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها بعد إذن الله ورضاه وثبت أن الله يقبل شفاعته في ذلك وشفاعة الصالحين من عباده بعضهم في بعض. 9- وأما الميزان: الذي جاءت به النصوص وثبت أن له كفتان حسيتان مشاهدتان توزن فيه أعمال العباد كما يوزن العامل نفسه فإن الإباضية تنكر هذا الوصف ويثبتون وزن الله للنيات والأعمال بمعنى تمييزه بين الحسن منها والسيئ وإن الله يفصل بين الناس في أمورهم ويقفون عند هذا الحد غير مثبتين ما جاءت به النصوص من وجود الموازين الحقيقية في يوم القيامة (¬4) وعلى الصفات التي جاءت في السنة النبوية. 10- وكما أنكر الإباضية الميزان أنكروا كذلك الصراط وقالوا إنه ¬

(¬1) انظر: كتاب الأديان ص 53 (¬2) غاية المراد ص 9. (¬3) مسند الربيع بن حبيب، الجامع الصحيح: 4/ 31، 34. (¬4) متن النونية ص 25.

ليس بجسر على ظهر جهنم (¬1) ، وذهب بعضهم - وهم قلة - إلى إثبات الصراط بأنه جسر ممدود على متن جهنم حسبما نقله د/ صابر طعيمه عن الجيطالي من علماء الإباضية (¬2) والسلف على اعتقاد أن الصراط جسر جهنم وأن العباد يمرون عليه سرعة وبطئاً حسب أعمالهم ومنهم من تخطفه كلاليب النار فيهوى فيها. 11- ووافق -معظم الإباضية - السلف في حقيقة الإيمان من أنه قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (¬3) وقد خالف بعضهم فذهب إلى الإيمان يزيد ولا ينقص وقد نقل الدكتور صابر صعيمه بعض الأدلة من كتبهم على هذا الرأي (¬4) 12- وزيادة الإيمان ونقصه مسألة خالف فيها الإباضية سائر الخوارج الذين يرون أن الإيمان جملة واحدة لا يتبعض وأن العبد يكفر ويذهب إيمانه بمجرد مواقعته للذنب ويسمونه كافراً ومخلداً في النار في الآخرة إلا أن الإباضية مع موافقتهم للسلف في الحكم لكنهم يسمون المذنب كافر كفر نعمة ومنافقاً. يقول إعوشت ((فالكفر إذن عند الإباضية ينقسم إلى ما يلي: 1- كفر نعمة ونفاق وبتمثل في المسلم الذي ضيع الفرائض الدينية أو ارتكب الكبائر أو جمع بينهما.)) (¬5) . ¬

(¬1) انظر غاية المراد ص 9. (¬2) قناطر الخيرات: 1/ 318 - 319 نقلاً عن الأباضية عقيدة ومذهباً ص 126 (¬3) كتاب الأديان ص 53 غاية المراد ص 7. (¬4) الأباضية عقيدة ومذهباً ص 116 - 117. (¬5) الإباضية بين الفرق - علي معمر ص 289، غاية المراد ص 18 للسالمي.

وفي الآخرة مخلد في النار إذا مات من غير توبة (¬1) ، وكان الحال يقتضى أنهم لا يطلقون عليه كلمة الكفر ولا النفاق ولا يحكمون عليه بالخلود في النار بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ونجد هنا أن الإباضية وافقوا أيضاً سائر الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار إذا مات قبل التوبة بناء على اعتقاد إنفاذ الوعيد لا محالة. واستدلوا بسائر أدلة الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار وأهل السنة لا يرون ذلك بل يقولون إذا مات المذنب قبل التوبة فأمره إلى الله وهو تحت المشيئة، ويقولون أيضاً أن أخلاف الوعد مذموم وإخلاف الوعيد كرم وتجاوز. 13- وأما مسألة الإمامة والخلافة فقد ذكر بعض العلماء عن الإباضية في مسألة الإمامة والخلافة أن الإباضية يزعمون أنه قد يستغني عن نصب الخليفة ولا تعود إليه حاجة إذا عرف كل واحد الحق الذي عليه للآخر، وهذا القول أكثر ما شهر عن المحكِّمة والنجدات. وأما الإباضية فقد ذكر هذا القول عنهم. ج لوريمر في كتابه دليل الخليج (¬2) ولكن بالرجوع إلى كتب الإباضية نجد أنهم ينفون هذا القول عنهم ويعتبرونه من مزاعم خصومهم عنهم وإن مذهبهم هو القول بوجوب نصب حاكم للناس ومن قال غير هذا عنهم فهو جاهل بمذهبهم على حد ما يقوله علماؤهم كالسالمي وعلي يحي معمر وغيرهما. قال السالمي: ((والإمامة فرض بالكتاب والسنة والإجماع ¬

(¬1) متن النونية ص 18. (¬2) دليل الخليج لوريمر 6/ 3303 وانظر الفصل لابن حزم: 4/87.

والاستدلال)) (¬1) وموقفهم هذا يتفق مع مذهب أهل السنة فإنهم يرون وجوب نصب الحاكم حتى وإن كانوا جماعة قليلة، فلو كانوا ثلاثة في سفر لوجب تأمير أحدهم كما دلت على ذلك النصوص الثابتة وأن من قال بالاستغناء عن نصب الحاكم فقد كابر عقله وكذب نفسه ورد عليه الواقع من حال البشر وصار ما يقوله من نسج الخيال وأدلته على الاستغناء مردودة واهية. والخوارج كافة ينظرون إلى الإمام نظرة حازمة هي إلى الريبة منه أقرب ولهم شروط قاسية جداً قد لا تتوفر إلا في القليل النادر من الرجال وإذا صدر منه أقل ذنب فإما أن يعتدل ويعلن توبته وإلا فالسيف جزاؤه العاجل. وقد جوَّز الإباضية كأهل السنة صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا تمت للمفضول؛ خلاف لسائر الخوارج. (¬2) . 14- وجوز الإباضية التقية خلاف لأكثر الخوارج (¬3) . وقد أورد الربيع بن حبيب في مسنده روايات في الحث عليها تحت قوله ((باب ما جاء في التقية)) ومنه قال جابر سئل ابن عباس عن التقية فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما لم يستطيعوا وما أكرهوا عليه)) قال: ((وقال ابن مسعود ما من كلمة تدفع عني ضرب سوطين إلا تكلمت ¬

(¬1) الأباضية بين الفرق - على معمر ص 289، غاية المراد ص 18 للسالمس. (¬2) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 462. (¬3) انظر مسند الربيع بن حبيب: 3/ 12.

بها وليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضرب أو عذب أو حبس أو قيد)) (¬1) أي وهو يجد خلاصاً في الأخذ بالتقية وبهذا نكتفي بما تقدم ذكره عن فرقة الإباضية. * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) مسند الربيع بن حبيب: جـ3 ص 12. وقد أخرج الحديث ابن ماجه في سننه 1/659، والبهيقي في السنن الكبرى 3/ 356، 357، والحاكم في المستدرك 2/ 198، والدارقطني في سننه 4/ 170. ولفظ الحديث ((إن الله وضع عن أكتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، بدون ((وما لم يستطيعوا)) الزائدة عند الربيع.

الفصل التاسع إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للخوارج

الفصل التاسع إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للخوارج. وفيه مسائل. وتشمل المسائل الآتية: خاض الخوارج - كغيرهم من الفرق - في مسائل اعتقادية إلا أن الخوارج بصفة خاصة لم تصل إلينا أكثر أراءهم من كتبهم وإنما وصلت إلينا من كتب أهل السنة وقد صح نقل أهل السنة وغيرهم من علماء الفرق الآخرين وقد ذكرنا فيما مضى السبب في قبولنا لتلك النقول عن الخوارج وفيما يلي نذكر أهم المسائل التي كان للخوارج فيما دور بارز: 1- هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط تعريف التأويل في اللغة: يطلق التأويل في اللغة على عدة معاني منها التفسير والمرجع والمصير والعاقبة وتلك المعاني موجودة في القرآن والسنة قال الله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} (¬1) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) . تعريفه في الاصطلاح: عند السلف له معنيين: 1- يطلق بمعنى التفسير والبيان وإيضاح المعاني المقصودة من الكلام فيقال تأويل الآية كذا؛ أي معناها. ¬

(¬1) سورة الأعراف: 53.

2- ويطلق بمعنى المآل والمرجع والعاقبة فيقال هذه الآية مضى تأويلها وهذه لم يأت تأويلها. والفرق بينهما: أنه لا يلزم من معرفة التأويل بمعنى التفسير معرفة التأويل الذي هو بمعنى المصير والعاقبة فقد يعرف معنى النص ولكن لا تعرف حقيقته كأسماء الله وصفاته فحقيقتها وكيفبتها كما هي غير معلومة لأحد بخلاف معانيها. 3- وعند الخلف من علماء الكلام والأصول والفقه هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح. وهذا التأويل مرفوض عند السلف واعتبروه تحريفاً باطلاً في باب الصفات الإلهية (¬1) وقد ظهر هذا المعنى للتأويل متأخراً عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة بل ظهر مع ظهور الفرق ودخلوا منه إلى تحريف النصوص وكانت له نتائج خطيرة إذ كلما توغلوا في تأويله المعاني وتحريفها كلما بعدوا عن المعنى الحق الذي تهدف إليه النصوص وبالنسبة لموقف الخوارج فإن العلماء اختلفوا في الحكم على الخوارج بأنهم نصيون أو مؤولون. 1- فذهب بعضهم إلى أن الخوارج نصيون يجمدون على المعنى الظاهر من النص دون بحث عن معناه الذي يهدف إليه وهذا رأي أحمد أمين (¬2) وأبو زهرة (¬3) ¬

(¬1) كتحريفات الجهمية. (¬2) ضحى الإسلام: 3/ 334. (¬3) تاريخ المذاهب الإسلامية: 1/ 66.

2- موقف الخوارج من صفات الله عز وجل

2- وذهب آخرون إلى أن الخوارج يؤولون النصوص تأويلاً يوافق أهوائهم وقد غلطوا حين ظنوا أن تأويلهم هو ما تهدف إليه النصوص وعلى هذا الرأي ابن عباس وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) وابن القيم (¬2) . 3- ومن العلماء من ذهب إلى القول بأن الخوارج ليسوا على رأي واحد في هذه القضية بل منهم نصيون ومنهم مؤولون كما ذهب إلى هذا الأشعري في مقالاته. (¬3) وهذا هو الراجح فيما يبدو من آراء الخوارج ولا يقتصر الأمر على ما ذكره من اعتبار بعض الفرق نصيين وبعضهم مؤولين مجتهدين وإنما يتردد أمر الخوارج بين هذين حكمهم على الخوارج كما يتضح ذلك جلياً في مواقف الخوارج المختلفة. ويبدو لي أن التأويل الذي نفاه الأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة رحمهما الله إنما هو التأويل الصحيح الذي يفهم صاحبه النص على ضوء مقاصد الشريعة. وأما التأويل الذي يثبته للخوارج أصحاب الاتجاه الثاني ويذمونهم به فهو حمل الكلام على غير محامله الصحيحة وتفسيره تفسيراً غير دقيق. 2- موقف الخوارج من صفات الله عز وجل. هذه المسألة لم أجد فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كتب علماء الفرق بياناً ¬

(¬1) النبوات ص 89. (¬2) النونية ص 85. (¬3) مقالات الأشعري: 1/ 183.

3- حكم مرتكبي الذنوب عند الخوارج

لرأي الخوارج فيها بصفة عامة. وقد ذكر الشهرستاني عن فرقة الشيبانية قولاً لأبي خالد زياد بن عبد الرحمن الشيباني في صفة العلم لله أنه قال: ((إن الله لم يعلم حتى خلق لنفسه علما، وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها)) . (¬1) . وأما بالنسبة لفرقة الإباضية بخصوصهم - فقد تبين من أقوال علمائهم أنهم يقفون منها موقف النفي أو التأويل بحجة الابتعاد عن اعتقاد المشبهة فيها كما تقدم. وموضوع الصفات والبحث فيها يحتاج إلى دراسة مستقلة وبالرجوع إلى أي كتاب من كتب السلف يتضح الحق فيها بكل يسر وسهولة. وأما بالنسبة لما ذكر عن رأي زياد بن عبد الرحمن أو الإباضية فلا شك أنه لا يتفق مع المذهب الحق - مذهب السلف - ولو كان الأمر يخص زياد بن عبد الرحمن وحده لما كان له أدني أهمية، ولكن الأمر أخطر من ذلك، فقد اعتقدت الجهمية ذلك. وبطلان هذا القول ظاهر والتناقض فيه واضح. فإن صفات الله عز وجل قديمة بقدمه غير مخلوقة وما يخلق الله من الموجودات فإنما يخلقه عن علم وإرادة، إذا يستحيل التوجه إلى الإيجاد مع الجهل، ثم كيف علم الله أنه بغير علم حتى يخلق لنفسه علماً؟ هذا تناقض ظاهر. 3- حكم مرتكبي الذنوب عند الخوارج اختلف حكم الخوارج على أهل الذنوب بعد اتفاقهم بصفة عامة على ¬

(¬1) الملل والنحل 1/ 133.

القول بتكفيرهم كفر ملة. وحاصل الخلاف نوجزه فيما يلي: 1- الحكم بتكفير العصاة كفر ملة، وأنهم خارجون عن الإسلام ومخلدون في النار مع سائر الكفار. وهذا رأي أكثرية الخوارج. وعلى هذا الرأي من فرق الخوارج: المحكمة والأزارقة والمكرمية والشبيبية من البيهسية واليزيدية والنجدات. إلا أنهم مختلفون في سبب كفره: فعند المكرمية أن سبب كفره ليس لتركه الواجبات أو انتهاك المحرمات وإنما لأجل جهله بحق الله إذ لم يقدره حق قدره. وأما النجدات فقد فصلوا القول بحسب حال المذنب، فإن كان مصراً فهو كافر ولو كان إصراره على صغائر الذنوب، وإن كان غير مصر فهو مسلم حتى وإن كانت تلك الذنوب من الكبائر وهو تفصيل بمحض الهوى والأماني الباطلة. 2- أنهم كفار نعمة وليس كفار ملة:. وعلى هذا المعتقد فرقة الإباضية كما تقدم. ومع هذا فإنهم يحكمون على صاحب المعصية بالنار إذا مات عليها، ويحكمون عليه في الدنيا بأنه منافق، ويجعلون النفاق مرادفاً لكفر النعمة ويسمونه منزلة بين المنزلتين أي بين الشرك والإيمان، وأن النفاق لا يكون إلا يكون إلا في الأفعال لا في الاعتقاد (¬1) . وهذا قلب لحقيقة النفاق إذ المعروف أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نفاقهم في الاعتقاد لا في الأفعال، فإن أفعالهم كانت في ¬

(¬1) نقلاً عن الأباضية بين الفرق الإسلامية عن كتاب المقالات في القديم والحديث ص 315 وانظر دراسات إسلامية في الأصول الأباضية. الأصل التاسع ص 60.

الظاهر كأفعال المؤمنين أدلتهم: تلمس الخوارج لما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب بعض الآيات والأحاديث وتكلفوا في رد معانيها إلى ما زعموه من تأييدها لمذاهبهم وهي نصوص تقسم الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، قالوا: وليس وراء ذلك الحصر من شيء. ونأخذ من تلك الأدلة قوله تعالى: 1- {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬1) . 2- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2) 3- {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (¬3) إلى غير ذلك من الآيات. ووجه استدلالهم بالآية الأولى: أن الله تعالى حصر الناس في قسمين: قسم ممدوح وهم المؤمنون وقسم مذموم وهم الكفار، والفساق ليسوا من المؤمنين، فإذاً هم كفار لكونهم مع القسم المذموم واستدلالهم هذا لا يسلم لهم. أن الناس ينحصرون فقط في الإيمان أو الكفر. فهناك قسم ثالث وهم العصاة لم يذكروه هنا، وذكر فريقين لا يدل على ¬

(¬1) سورة التغابن: الآية (2) (¬2) سورة المائدة: الآية (44) (¬3) سورة سبأ: آية (17)

نفى ما عداهما والآية كذلك واردة على سبيل التبعيض بمن، أي بعضكم كافر وبعضكم مؤمن. وهذا لا شك في وقوعه ولم تدل الآية على مدعى الخوارج أن أهل الذنوب داخلون في الكفر. وأما وجه استدلالهم بالآية الثانية:. فقد زعموا أنها شاملة لكل أهل الذنوب، لأن كل مرتكب للذنب لابد وأنه قد حكم بغير ما أنزل الله. وقد شملت الفساق لأن الذي لم يحكم بما أنزل الله فيجب أن يكون كافر والفاسق لم يحكم بما أنزل الله حين فعل الذنب. وهذا الاستدلال مردود كذلك لأن الآية واردة على من استحل الحكم بغير ما أنزل الله. أما أن يدعى الشخص إيمانه بالله ويعترف بأن الحق هو حكم الله فليس بكافر وإنما من أصحاب المعاصي حتى تقام عليه الحجة. وأما وجه استدلالهم بالآية الثالثة. فهو أن صاحب الكبيرة لابد وأن يجازي - على مذهبهم - وقد أخبر القرآن أنه لا يجازى إلا الكفور. والفاسق ثبتت مجازاته عندهم فيكون كافراً. وهذا الدليل مردود عليهم، وينقضه أن الله يجازي الأنبياء والمؤمنين وهم ليسوا كفاراً، وبأن الآية كانت تعقيباً لبيان ذلك العقاب الذي حل بأهل سبأ، وهو عقاب الاستئصال، وهذا ثابت للكفار لا لأصحاب المعاصي. (¬1) . ¬

(¬1) انظر تفسير الفخر الرازي لهذه الآيات من سورة سبأ. وانظر جامع البيان: 4/ 19، 30/ 226، وانظر تفسير الطبري: 6/ 252، فتح القدير: 5/ 453، 2/ 45.

وأما ما استدلوا به من السنة على بدعتهم في تكفير العصاة من المسلمين فقد أساءوا فهم الأحاديث وحملوها المعاني التي يريدونها، ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)) (¬1) . ولهم أدلة أخري نكتفي منها بهذا الحديث. فقد فهموا من هذا الحديث نفى الإيمان بالكلية عن من فعل شيئاً مما ذكر في الحديث، وهذا لا حجة لهم فيه، فإن الحديث - كما يذكر العلماء - إما أن يكون واردا فيمن فعل شيئاً مما ذكر مستحلاً لتلك الذنوب أو أن المراد به نفي كمال الإيمان عنهم، أو أن نفي الإيمان عنهم مقيد بحال مواقعتهم لتلك الذنوب. ولو كانت تلك الكبائر تخرج الشخص عن الإيمان لما اكتفى بإقامة الحد فيها. ولهذا فقد ذكر بعض العلماء أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاء، ولا يخاض في معناها. وقال الزهري في مثل هذه الأحاديث ((أمروها كما أمرها من قبلكم)) . (¬2) وقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: ((ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت وإن زني وإن سرق ثلاثاً ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر)) قال: ((فخرج أبو ذر وهو وإن رغم أنف ¬

(¬1) أخرجه البخاري: 8/ 13، ومسلم 1/ 54. (¬2) انظر شرح النووي لصحيح مسلم 2/ 41- 42.

4- الإمامة العظمي

أبي ذر)) . (¬1) والكلام في أهل الكبائر مبسوط في موضعه من كتب التوحيد وكتب الفرق والمقصود هنا هو التنبيه على خطأ الخوارج فيما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب من المسلمين مخالفين ما تضافرت النصوص عليه من عدم كفر مرتكبي الذنوب كفر ملة إلا بتفصيلات مقررة في مذهب السلف. 4- الإمامة العظمي هذه هي مشكلة الخوارج الكبرى منذ نشأوا وطوال عهد الدولة الأموية وزمن متقدم من عهد الدولة العباسية، شغلتهم قضية الإمامة عملياً، فجردوا السيوف ضد الحكام المخالفين لهم ناقمين عليهم سياستهم في الرعية من عدم تمكينهم من اختيار أمامهم بأنفسهم ثم سياستهم الداخلية في الناس وشغلتهم فكرياً بتحديد شخصية الإمام وخصائصه ودوره في المجتمع، وكانوا يظهرون بمظهر الزاهد عن تولى الخلافة حينما يكون الأمر فيما بينهم وحربا لا هوادة فيها ضد المخالفين لهم. حكم الإمامة عند الخوارج الإمامة منصب خطير وضرورة اجتماعية إذ لا يمكن أن ينعم الناس بالأمن وتستقر الحياة إلا بحاكم يكون هو المرجع الأخير لحل الخلافات وحماية الأمة وقد أطبق على هذا جميع العقلاء. أما بالنسبة للخوارج فقد انقسموا فيها إلى فريقين:. 1- الفرق الأول: وهم عامة الخوارج. وهؤلاء يوجبون نصب الإمام ¬

(¬1) أخرجه مسلم: 1/ 66.

والانضواء تحت رايته والقتال نعه ما دام على الطريق الأمثل الذي ارتأوه له. 2- الفريق الثاني: وهم المحكمة والنجدات والإباضية فيما قيل عنهم. وهؤلاء يرون أنه قد يستغنى عن الإمام إذا تناصف الناس فيما بينهم وإذا احتيج إليه فمن أي جنس كان ما دام كفئا لتولى الإمامة (¬1) . ومن مبرارتهم: 1- استنادهم إلى المبدأ القائل لا حكم إلا لله، والمعنى الحرفي لهذا المبدأ يشير صراحة إلى أنه لا ضرورة لوجود الحكومة مطلقاً. 2- أن الحكم ليس من اختصاص البشر بل تهيمن عليه قوة علوية. 3- إن الضروري هو تطبيق أحكام الشريعة، فإذا تمكن الناس من تطبيقها بأنفسهم فلا حاجة إلى نصب خليفة. 4- ربما ينحصر وجود الإمام في بطانة قليلة وينعزل عن الأعلبية فيكون بعيداً عن تفهم مشاكل المسلمين فلا يبقى لوجود فائدة. 5- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر صراحة ولا وضع شروطاً لوجود الخلفاء من بعده. 6- أن كتاب الله لم يبين حتمية وجود إمام وإنما أبان وأمرهم شوري بينهم (¬2) . هذه مبرراتهم بالنفي، فهل بقى القائلون بالاستغناء عن نصب الإمام على مبدأهم؟ والجواب بالنفي فإن المحكمة حينما انفصلوا ولو عليهم عبد الله ¬

(¬1) مقالات الأشعري: 1/ 205، مروج الذهب: 3 / 236. (¬2) آراء الخوارج للطالبي ص 125، عمان تاريخ ص 123.

بن وهب الراسبي والنجدات حينما انفصلوا. تزعمهم نجدة بن عامر وأما ما قيل عن الإباضية من أنهم يقولون بالاستغناء عن نصب الإمام (¬1) فإن مصادرهم التي تيسرت لي قراءتها تذكر أن هذا القول إنما نسبه إليهم خصومهم بقصد الإشاعة الباطلة عنهم (¬2) . وأما تلك المبررات التي نسبت إلى من ذكرناهم فلا شك أنها مبررات واهية ولا تكفي للقول بالاستغناء عن نصب الخليفة. أما القول بعدم وجود الإنسان الكامل، فإنه لا يمنع من نصب الإمام حيث يختار أفضل الموجودين. ومن التصور الساذج القول بتناصب الناس فيما بينهم. وأما انعزال الإمام فإن مدار الأمر على التزامه بواجباته الشرعية وعدم إيجاد الحجب بينه وبين رعيته، وذلك مناط الحكم بضرورة وجود الإمام شرعاً وعقلاً. وقد ذهبت الخليفة من الخوارج الإباضية إلى أن كل إقليم أو حوزة يستقل بها أمامها فلا يجوز لإمام أن يجمع بين حوزتين (¬3) ويكون لهذا المناطق أئمة بعدد تلك المناطق وهذا باطل ولا يتفق مع روح الإسلام وأهدافه لأن ذلك يؤدي إلى المشاحنات والعداوة وتفريق كلمة المسلمين وحينما قرروا أن كل إقليم ينبغي أن يكون مستقلا عن الآخر لا يخضع إقليم ولا منطقة لمنطقة أخرى تجاهلوا دعوة المسلمين إلى الاتحاد الذي يكمن فيه عزهم وقوتهم. شروط الإمام وضع الخوارج شروطاً قاسية لمن يتولى الإمام ومنها: ¬

(¬1) كما يذكر لوريمر في كتابه دليل الخليج: 6 / 3303. (¬2) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 290. (¬3) نقلاً عن آراء الخوارج صـ 128. لكن عموم الأباضية لا تجيز هذا حسب ما جاء في مدارج الكمال ص 172.

1- أن يكون شديد التمسك بالعقيدة الإسلامية مخلصاً في عبادته وتقواه حسب مفهومهم. 2- أن يكون قوياً في نفسه ذا عزم نافذ وتفكير ناضج وشجاعة وحزم. 3- أن لا يكون فيه ما يخل بإيمانه من حب المعاصي واللهو. 4- ألا يكون قد حد في كبيرة حتى ولو تاب. 5- أن يتم انتخابه برضى الجميع، لا يغنى بعضهم عن بعض. ولا عبرة بالنسب أو الجنس، كما يقولونه ظاهراً دعاية لمذهبهم وفي باطنهم يملأهم التعصب وكون الإمام ينتخب برضى أهل الحل والعقد، هذا مبدأ إسلامي لم يأت به الخوارج كما يقول بعض المستشرقين دعاية للخوارج. ولم يلتفت الخوارج إلى ما صح من الأحاديث في اشتراك القرشية لتولي الخلافة وتقديم قريش فيها عند صلاحية أحدهم لها. ولم يشترط الشرع في الإمام أن يكون ليله قائماً ونهاره صائماً، أو أنه لا يلم بأي معصية، أو يكون انتخابه برضي كل المسلمين من أقصاهم إلى أدناهم، لا يغنى بعضهم عن بعض في مبايعتهم له كما يزعمه الخوارج (¬1) . محاسبة الإمام والخوارج عليه يعيش الإمام عند الخوارج بين فكي الأسد - عكس الشيعة - فالخوارج ينظرون إلى الإمام على أنه المثل وجهه الأعلى وينبغي أن يتصف بذلك قولاً وفعلاً ¬

(¬1) مدارج الكمال للسالمي ص 171، تاريخ المذاهب الإسلامية ص 1/ 71 التفكير الفلسفي 1/191 للدكتور عبد الحليم محمود، آراء الخوارج ص 121، عمان تاريخ يتكلم ص 126.

وبمجرد أقل خطأ ينبغي عليهن القيام في وجه ومحاسبته، فإما أن يعتدل وإما أن يعتزل. ومن غرائبهم ما يروى عن فرقة البيهسية منهم والعوفية، فقد اعتبر هؤلاء كفر الإمام سبباً في كفر رعيته، فإذا تركه رعيته دون إنكار فإنهم يكفرون أيضاً (¬1) ، ولا شك أن هذا جهل بالشريعة الإسلامية، وعلى هذا فما تراه من كثرة حروبهم وخروجهم على أئمتهم أو أئمة مخالفهم يعتبر أمراً طبيعياً إزاء هذه الأحكام الخاطئة. وقد حث الإسلام على طاعة أولى الأمر والاجتماع تحت رايتهم إلا أن يظهروا كفر بواحا. فلا طاعة المخلوق في معصية الخالق، وينبغي معالجة ذلك بأخف الضرر، ولا يجوز الخروج عليهم ما داموا ملتزمين بالشريعة بأي حال. إمام المفضول اختلف الخوارج في صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إلى فريقين: 1- ذهب فريق منهم إلى عدم الجواز وأن إمامة المفضول تكون غير صحيحة مع وجود الأفضل. 2- وذهب الفريق الآخر منهم إلى صحة ذلك وأنه تنعقد الإمامة للمفضول مع وجود الأفضل، كما هو الصحيح (¬2) . ¬

(¬1) مقالات الأشعري: 1/ 194، الطرماح بن حكيم ص 55 الملل والنحل: 1/ 126 الفرق بين الفرق ص 109 التنبيه والرد للملطي ص 169. (¬2) الفصل لابن حزم حزم 4/ 163، الأباضة بين الفرق الإسلامية ص 462 آراء الخوارج لعمار الطالبي: 128.

5- موقف الخوارج من عامة المسلمين المخالفين لهم

إمامة المرأة الإمامة مسؤلية عظمي وعبء ثقيل يتطلب سعة الفكر وقوة البصير ة ويتطلب مزايا عديدة جعل الله معظمها في الرجال دون النساء، ولا أدل على هذا من اختيار الله عز وجل لتبليغ رسالته من جنس الرجال، وقد أطبق جميع العقلاء على أن الخلافة لا يصلح لها النساء. ولكنا نجد فرقة من فرق الخوارج وهي التشبيبة تذهب إلى جواز تولي المرأة الإمامة العظمى مستدلين بفعل شبيب حينما تولت غزالة - زوجته وقبل أمه - بعده (¬1) . موقف الخوارج من عامة المسلمين المخالفين لهم انقسم الخوارج في نظرتهم إلى المخالفين لهم إلى فريقين 1- فريق منهم غلاة. 2- وفريق آخر أبدي نوعاً من الاعتدال. ويذكر الأشعري رحمه الله في مقالاته أن الخوارج مجمعون على أن مخالفيهم يستحقون السيف ودماؤهم حلال إلا فرقة الإباضية فإنها لا تري ذلك إلا مع السلطان (¬2) . واختلف علماء الفرق في أول من حكم بكفر المخالفين هل هم المحكمة الأولى أم هم الأزارقة ومن سار على طريقتهم من فرق الخوارج فيما بعد. وبتتبع حركة المحكمة الأولى نجد أنهم سبقوا إلى تكفير المخالفين لهم ¬

(¬1) الفرق بين الفرق ص 110. (¬2) المقالات: 1/ 204.

واستحلال دمائهم والشواهد في كتب الفرق كثيرة كقتلهم عبد الله بن خباب بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره في حوادث كثيرة إلا أن أشد من بالغ في تكفير المخالفين لهم وأعمل فيهم السيف هم الأزارقة وفرقة منهم تسمى البيهسية وكذلك أتباع حمزة بن أكرك. - أما المعتدلون منهم - وهو اعتدال لا يكاد يذكر - فنجد مثلاً الأخنسية منهم يحرمون الغدر بالمخالفين أو قتلهم قبل الدعوة وجوزوا تزويج المسلمات - منهم لمخالفيهم - الذين يعتبرونهم مشركين، وكذلك بعض البيهسية. ومن أكثر المعتدلين والمتسامحين مع المخالفين هو تلك الشخصية المرموقة عند كافة الخوارج أبو بلال مرداس بن أدية فقد خرج وهو يقول لمن يلقاه أنا لا نخيف أمناً ولا نجرد سيفاً وكان مما آثاره للخروج على الدولة أن زيادا ذات يوم خطب على المنبر وكان مرداس يسمعه فكان من قوله ((والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء والحاضر منكم بالغالب والصحيح بالسقيم)) . وهذا بالطبع لا يحتمله الخوارج فقام إليه مرداس فقال قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام إذا يقول: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاص ثم خرج عقب هذا اليوم. وينبغي أن يعلم أن كل فرقة لابد فيها من غلاة يخرجون على جمهورهم إلا أن السمة الغالبة على الخوارج الشدة على المخالفين لهم ¬

(¬1) سورة النجم: 37، 38.

6- حكم الخوارج في أطفال مخالفيهم

وقد تعود هذه الشدة إلى ما يراه الخوارج من وجهة نظرهم من خروج مخالفيهم عن النهج الإسلامي وبعدهم عنه وبالتالي الرغبة في إرجاع الأمة إلى ما كانت عليه في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما يدعى الخوارج ... حكم الخوارج في أطفال مخالفيهم لابد وأن يكون في حكم العقل تمييز بين معاملة الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف وبين الكبير المكلف. والخوارج لم يتفقوا على حكم واحد في الأطفال سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة ونوجز أهم آرائهم في هذه القضية فيما يلي:. 1- منهم من اعتبرهم في حكم آبائهم المخالفين فاستباح قتلهم باعتبار أنهم مشركون لاعصمة لدماء آبائهم. 2- ومنهم من جعلهم من أهل الجنة ولم يجوز قتلهم. 3- واعتبرهم بعضهم خدما لأهل الجنة. 4- ومنهم من توقف فيهم إلى أن يبلغوا سن التكليف ويتبين حالهم. 5- والإباضية تولوا أطفال المسلمين وتوقفوا في أطفال المشركين، ومنهم من يلحق أطفال المشركين بأطفال المؤمنين. أما القول الأول: فهو للأزارقة واستدلوا بقوله الله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} (¬1) . وتبعهم في هذا بعض فرق الخوارج كالعجاردة والحمزية والخلفية. ¬

(¬1) سورة نوح:27

وأما القول الثاني: فهو للنجدات والصفرية والميمونية واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (¬1) والذين توقفوا في الحكم عليهم قالوا لم نجد في الأطفال ما يوجب ولا يتهم ولا عداوتهم إلى أن يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا به أو ينكرونه. هذه خلاصة أهم آراء الخوارج في هذه القضية والواقع أن هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أطفال المؤمنين إذا ماتوا على الإيمان فإن الله تعالى يدخلهم الجنة مع آباءهم وإن نقصت أعمالهم عنهم لتقر أعين أبائهم بهم فيكونون مع أبائهم في الجنة تفضلا من الله تعالى على ضوء قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬2) . ونقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال بأنهم في الجنة دون خلاف. وبعضهم ذهب إلى أنهم تحت المشيئة. وجدير بالذكر أن أطفال المؤمنين الذين نتحدث عنهم هنا هم الذين يعتبرهم الخوارج أطفال مشركين. وأما أطفال المشركين الذين هم عبدة الأوثان ومن في حكمهم فإن العلماء اختلفوا فيهم اختلافاً كثيراً. 1- فذهب بعضهم إلى التوقف في أمرهم فلا يحكم لهم بجنة ولا نار ¬

(¬1) انظر كتاب الأديان 104. (¬2) الطور: 21 وانظر تفسير ابن كثير ج 4 ص 241.

وأمرهم إلى الله. 2- أنهم في النار. 3- أنهم في الجنة. 4- أنهم في منزلة بين المنزلتين أي الجنة والنار. 5- أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا ولآخرة تبعاً لآبائهم حتى ولو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لإفراطهما بالنار. 6- أنهم يمتحنون في عرصات القيامة بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فمن أطاعه منهم دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. وقد استعرض ابن القيم أدلة القائلين بهذه الآراء وانتهي إلى نصرة الرأي الأخير ثم قال ((وبهذا يتألف شمل كلها وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله الذي أحال عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) . وأيد ابن حزم القول بأن أطفال المشركين في الجنة وكذا النووي وقد توقف شيخ الإسلام في الحكم عليهم. وأما استباحة قتل النساء كما - يرى الخوارج - فقد أخطأوا حين جوزوا ذلك سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين فقد صحت الأحاديث بالمنع من قتلهم إلا أن يكون ذلك في بيات لا يتميز فيه الأطفال والنساء فلا بأس من قتلهم إذا وقع دون عمد. (¬1) ******************************* ¬

(¬1) انظر: التفسير القيم ص 451، فتح القدير5/ 98 جامع البيان: 27/25 طريق الهجرتين: 387، الفصل لابن حزم: 4/ 74.

الفصل العاشر الحكم على الخوارج

الفصل العاشر الحكم على الخوارج. اختلفت وجهات النظر في الحكم على الخوارج فيما ظهر لي من خلال دراستي عنهم إلى قولين: 1- أحدهما الحكم بتكفيرهم. 2- الحكم عليهم بالفسق والابتداع والبغي. وقد استند الذين كفروهم على ما ورد من أحاديث المروق المشهورة عند علماء الفرق؛ رادين الخوارج إلى سلفهم القديم ذي الخويصرة وموقفه الخاطئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم موقف الخوارج أيضاً من الصحابة خصوصاً الإمام علياً وغيره ممن شارك في قضية التحكيم. والأحاديث الواردة فيهم كثيرة غير أن علي يحيى معمر يرى أن هذه الأحاديث إنما تصدق -على فرض صحتها كما يذكر- على المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنه (¬1) . وما رأيت أحداً من العلماء سبقه إلى هذا القول. ثم إن ما في الأحاديث من أوصاف الخوارج من كثرة قراءتهم للقرآن وتعمقهم في العبادة لا ينطبق على هؤلاء المرتدين في زمن أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد كفرهم كثير من العلماء، لا نرى التطويل بذكر أسمائهم هنا. ¬

(¬1) الإباضية في موكب التاريخ: 1/ 29.

وإذا كان بعض العلماء يتحرج عن تكفيرهم عموماً فإنه لا يتحرج عن تكفير بعض الفرق منهم، كالبدعية من الخوارج الذين قصروا الصلاة على ركعة في الصباح وركعة في المساء. والميمونية- حيث أجازوا نكاح بعض المحارم كبنات البنين وبنات البنات وبنات بني الأخوة، ثم زادوا فأنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن لاشتمالها -فيما يزعمون- على ذكر العشق (¬1) والحب، والقرآن فيه الجد، وكذا اليزيدية منهم، حيث زعموا أن الله سيرسل رسولاً من العجم فينسخ بشريعته شريعة محمد صلى الله عليه وسلم (¬2) . أما الرأي الثاني: وهو القول بعدم تكفير الخوارج؛ فأهل هذا الرأي يقولون: إن الاجتراء على إخراج أحد من الإسلام أمر غير هين، نظراً لكثرة النصوص التي تحذر من ذلك إلا من ظهر الكفر من قوله أو فعله فلا مانع حينئذ من تكفيره بعد إقامة الحجة عليه. ولهذا أحجم كثير من العلماء أيضاً عن إطلاق هذا الحكم عليهم وهؤلاء اكتفوا بتفسيقهم، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لقيامهم بأمر الدين- وأن لهم أخطاء وحسنات كغيرهم من الناس، ثم إن كثيراً من السلف لم يعاملوهم معاملة الكفار كما جرى لهم مع علي رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز؛ فلم تسبى ذريتهم وتغنم أموالهم. ولعل الصحيح أن الذين حكموا على الخوارج بالكفر الصريح قد غلوا ¬

(¬1) انظر الملل والنحل: 1/129. والقرآن لم يدعو الناس إلى العشق وضرب المواعيد الفاجرة وإنما دعي إلى ما تضمنته هذه السورة الكريمة من العفة وتقديم خوف الله على خوف غيره وكبح جماح النفس الأمارة بالسوء والشهوات الطائشة ولو صار العشاق على حسب ما تضمنته سورة يوسف لصاروا أولياء. (¬2) الفصل لابن حزم: 4/ 188.

في تعميم الحكم عليهم، والذين حكموا عليهم بأنهم كغيرهم من فرق المسلمين أهل السنة قد تساهلوا، بل الأولى أن يقال في حق كل فرقة ما تستحقه من الحكم حسب قربها أو بعدها عن الدين. وإطلاق ما أطلقته النصوص في الحكم العام، ويتوقف عن إطلاق التكفير المخرج من الملة على المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه، أو إذا ظهر كفره من قوله أو فعله أو اعتقاده. وإلى هنا ينتهي المطلوب بالنسبة لفرقة الخوارج، وقد تركنا مسائل كثيرة للخوارج (¬1) يجدها الباحث حين يرجع إلى ما كتبه علماء الفرق عنهم، وربما يجمع تلك المسائل كلها وجميع فرقهم وما يتعلق بهم رسالة ماجستير تسمى: ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها)) لكاتب هذه الأسطر، وقد ذكرتها من باب تسهيل الرجوع إلى ما يتعلق بالخوارج لمن يهمه دراسة هذه الفرقة بالتفصيل. ******************************** ¬

(¬1) كبحث موقف الخوارج من رؤية الله عز وجل وإنكارهم لها في الدنيا والآخرة. وموقفهم من القول بخلق القرآن واعتقادهم أن ذلك حق يجب الإيمان به واختلافهم في مسائل القدر إلى ثلاث طرائف مؤيدة للقدرية ومؤيدة للجبرية وموافقة لمذهب السلف - وكذا إنكار الخوار لوجود الجنة والنار الآن - أي قبل يوم القيامة. وإنكار أكثرهم لعذاب القبر غير طائفة الإباضية. وموقف الخوارج من الشفاعة وإنكارهم لها غير الإباضية الذين يثبتونها فقط للمتقين وإنكارهم الميزان والصفات الثابتة له. وإنكارهم الصراط والصفات الثابتة له، واختلافهم في حقيقة الإيمان هل هو الإقرار والمعرفة فقط أو هو قول وعمل واعتقاد أكثرهم عدم زيادة الإيمان ونقصه. وموقفهم من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن ذلك يتم عندهم بالعنف والقوة وليس له مراتب وغير ذلك من المسائل التي تهم دارس هذه الفرقة بالتفصيل والتدقيق وما ذكرته عنهم فإنما هو من باب الإيجاز والتنبيه.

أولا: مراجع فرقة الخوارج ومنها

المراجع أولاً: مراجع فرقة الخوارج ومنها: 1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: لأبي الحسن الأشعري. 2- الملل والنحل: للشهرستاني. 3- الفرق بين الفرق: للبغدادي. 4- الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم. 5- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: للملطي. 6- التبصير في أمور الدين: للإسفراييني. 7- الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها، رسالة ماجستير لكاتب هذا البحث. 8- آراء الخوارج: للدكتور عمار الطالبي. 9- فرق المسلمين والمشركين: للرازي. 10- المواقف: للإيجي. ثانياً: مراجع فرقة الإباضية بخصوصهم: 1- الإباضية بين الفرق الإسلامية: لعلي يحيى معمر. 2- الإباضية في موكب التاريخ: لعلي يحيى معمر. 3- العقود الفضية: للحارثي.

4- الدليل لأهل العقول: للورجلاني. 5- متن النونية: للنفوسي. 6- كتاب الأديان: لمؤلف إباضي مجهول الاسم. 7- أجوبة ابن خلفون. 8- تلقين الصبيان ما يجب على الإنسان: للسالمي. 9- كتاب الدعائم: لأحمد بن النضر. 10- مسند الربيع بن حبيب أو ((الجامع الصحيح)) . 11- مدارج الكمال نظم مختصر الخصال: للسالمي. 12- الإباضية عقيدة ومذهباً: د. صابر طعيمة. ********************************

الباب الرابع الشيعة

الباب الرابع الشيعة (¬1) تمهيد: تتركز هذه الدراسة لهذه الفرقة في الرد على أولئك الذين أسسوا كثيراً من الأفكار الشيعية على محاربة الإسلام وأهله ببيان ضلالهم وبيان موقفهم من النصوص وموقفهم من الشعائر الإسلامية وموقفهم من أهل البيت ومن القرآن الكريم ومن الصحابة الكرام وغير ذلك من تعاليمهم. وأيضاً لنضم أصواتنا إلى أصوات كثير من مفكري الشيعة كالدكتور موسى الموسوي وغيره من الذين تبين لهم حجم الخرافات الهائلة في المذهب الشيعي، وبعدهم عن تعاليم الإسلام المشرقة في كثير من المعتقدات، فجاشت نفوسهم بالرغبة في بذل النصح لهم وبيان الأخطاء الشيعية التي دونها علماؤهم في كتبهم من المتقدمين أو من المتأخرين. إننا نحرص كل الحرص ونرغب أشد رغبة في عودة هؤلاء إلى الحق، وسنلتزم إن شاء الله ببيان الحق بدليله، مع الاستناد في تخطئتهم إلى كتبهم؛ لعله يتبين لهم أن ما هم عليه أكثره سراب مأخوذ عن أحد شخصين: إما ¬

(¬1) قد يعترض البعض على تسمية هؤلاء الروافض بالشيعة بحجة عدم صدقهم في تشيعهم لأهل البيت، لأنهم هم أعداء أهل البيت وليسوا شيعتهم، وهذا المعترض محق في ذلك ولكن أثبت تسميتهم شيعة كاسم علم يعم جميع الفرق التي تظاهرت بزعم التشيع لئلا يعترض أحد بإخراج بعض الطوائف التي تظاهرت بنصرة أهل البيت حينما نطلق على الجميع تسميتهم الروافض كالذين يرون رأى زيد مثلاً، ولأن إطلاق هذه التسمية ((روافض)) إنما عرفت حينما أطلقها عليهم زيد.

رجل حاقد على الإسلام وأهله، وإما رجل قد اتخذ الخرافات ديناً، متعصب لما ألفى عليه آباءه ومشائخه. وقد أوجب الإسلام بذل النصح وبيان الحق وإقامة الحجة. والحق هو ما أثبته كتاب الله وأثبتته السنة النبوية، وما عداه باطل. والشيعة -كطائفة ذات أفكار وآراء- غلب عليهم هذا الاسم وهم من أكذب الفرق على أئمتهم، ومن أخطرها على المسلمين، وذلك بسبب: 1- استعمالهم التقية المرادفة للكذب. 2- تظاهرهم بنصرة آل البيت، حيث انخدع بهم كثير من عوام المسلمين. 3- بغضهم لأهل السنة بسبب تعاليم خاطئة وضعها بعض كبرائهم نتج عنها نفور الشيعة وعدم الوصول -بعد محاولات كثيرة من جانب أهل السنة- إلى التقارب. وقد قام التشيع في ظاهر الأمر على أساس الاعتقاد بأن علياً رضي الله عنه وذريته هم أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن علياً أحق بها من سائر الصحابة بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم، كما زعموا في رواياتهم التي اخترعوها وملأوا بها كتبهم. ومن الملاحظ على هذه الفرقة أنها كانت باباً واسعاً لكل طامع في تحقيق أغراضه من أهل الأهواء: 1- إذ تشيع قوم إيماناً بأحقية أولاد علي بالخلافة حسبما سمعوا من النصوص التي لفقها علماء التشيع.

وتشيع قوم كرهوا الحكم الأموي ثم العباسي فقاموا بتلك الثورات العديدة التي سجلها علماء الفرق والتاريخ تحت غطاء دعوى التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وتشيع آخرون للانتقام من الإسلام كالباطنية. وتشيع قوم لتحقيق مطامع سياسية كالمختار مثلاً. 2- ولأن الشيعة أيضاً لا يتحرون النصوص الصحيحة، ولا يهتمون بإيصال السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا فإن أكثر أحاديثهم رُويت عن الأئمة. 3- ولأنهم كذلك أهل عاطفة نحو أهل البيت -فيما يظهرون للناس-، فلذا يكفي لتوثيق الشخص عندهم أن يكون ظاهره الغلو في أهل البيت، ويكون بذلك من الثقات الإثبات. * * * * * * * * * * * * *

الفصل الأول التعريف بالشيعة لغة واصطلاحا، وبيان التعريف الصحيح

الفصل الأول التعريف بالشيعة لغة واصطلاحاً، وبيان التعريف الصحيح أولاً: في اللغة: أطلقت كلمة الشيعة مراداً بها الأتباع والأنصار والأعوان والخاصة. قال الأزهري: ((والشيعة أنصار الرجل وأتباعه، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة)) (¬1) وقال الزبيدي: ((كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وكل من عاون إنساناً وتحزب له فهو شيعة له، وأصله من المشايعة وهي المطاوعة والمتابعة)) (¬2) . استعمال مادة ((شيعة)) في القرآن الكريم: وردت كلمة شيعة ومشتقاتها في القرآن الكريم مراداً بها معانيها اللغوية الموضوعة لها على المعاني التالية: 1-بمعنى الفرقة أو الأمة أو الجماعة من الناس: قال الله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} (¬3) أي من كل فرقة وجماعة وأمة (¬4) . ¬

(¬1) تهذيب اللغة ج 3 ص 61. (¬2) انظر تاج العروس ج 5 ص 405. (¬3) سورة مريم: 69 (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم ج 3 ص131.

2-بمعنى الفرقة: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬1) أي فرقاً (¬2) . 3- وجاءت لفظة أشياع بمعنى أمثال ونظائر: قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬3) أي أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية (¬4) . 4-بمعنى المتابع والموالي والمناصر (¬5) : قال تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (¬6) (¬7) . ثانياً: في الاصطلاح: اختلفت وجهات نظر العلماء في التعريف بحقيقة الشيعة، نوجز أقوالهم فيما يلي: 1- أنه علم بالغلبة على كل من يتولى علياً وأهل بيته. كقول الفيروز آبادي: ((وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته، حتى صار ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية159. (¬2) تفسير القرآن الحكيم - تفسير المنارج 8 ص 214. (¬3) سورة القمر:51. (¬4) جامع البيان ج 27 ص 112. (¬5) فتح القدير ج 4 ص 163. (¬6) سورة القصص: الآية15. (¬7) انظر تهذيب اللغة ج 3 ص 63.

اسماً لهم خاصاً)) (¬1) . 2- هم الذين نصروا علياً واعتقدوا إمامته نصاً، وأن خلافة من سبقه كانت ظلماً له. 3- هم الذين فضّلوا علياً على عثمان رضي الله عنهما. 4- الشيعة اسم لكل من فضل علياً على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم جميعاً، ورأى أن أهل البيت أحق بالخلافة، وأن خلافة غيرهم باطلة وكلها تعريفات غير جامعة ولا مانعة إلا واحداً منها. مناقشة تلك الأقوال: أما التعريف الأول: فهو غير سديد، لأنه أهل السنة يتولون علياً وأهل بيته، وهم ضد الشيعة. وأما التعريف الثاني: فينقضه ما ذهب إليه بعض الشيعة من تصحيحهم خلافة الشيخين، وتوقف بعضهم في عثمان، وتولي بعضهم له كبعض الزيدية فيما يذكر ابن حزم (¬2) . ثم أيضاً ما يبدو عليه من قصر الخلافة في علي فقط دون ذكر أهل بيته. والتعريف الثالث غير صحيح كذلك؛ لانتقاضه بما ذهب إليه بعض الشيعة من البراءة من عثمان. كقوله كثير عزة: ¬

(¬1) القاموس المحيط ج 3 ص 49، ونحوه عند الأزهري في تهذيب اللغة ج 3 ص 61. (¬2) انظر الفصل ج 4 ص 92.

برأت إلى الإله من ابن أروى *** ومن دين الخوارج أجمعينا ومن عمر برئت ومن عتيق *** غداة دعي أمير المؤمنينا ويبقى الراجح من تلك التعريفات الرابع منها لضبطه تعريف الشيعة كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقادية (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 145.

الفصل الثاني متى ظهر التشيع؟

الفصل الثاني متى ظهر التشيع؟ اختلفت أقوال العلماء من الشيعة وغيرهم في تحديد بدء ظهور التشيع تبعاً لاجتهاداتهم. وقد قدمنا بيان السبب في مثل هذا الخلاف، وحاصل الأقوال هنا: 1- أنه ظهر مبكراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يديه حيث كان يدعو إلى التوحيد ومشايعة علي جنباً إلى جنب. وقد تزعم هذا القول محمد حسين الزين من علماء الشيعة وغيره (¬1) . وهو ما ذكره النوبختي أيضاً في فرقه (¬2) ، وهو ما أكده أيضاً الخميني (¬3) في عصرنا الحاضر، بل ذهب حسن الشيرازي إلى القول: ((بأن الإسلام ليس سوى التشيع والتشيع ليس سوى الإسلام، والإسلام والتشيع اسمان مترادفان لحقيقة واحدة أنزلها الله، وبشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم)) (¬4) . 2- أنه ظهر في معركة الجمل حين تواجه علي وطلحة والزبير، وقد تزعم هذا القول ابن النديم حيث ادعى أن الذين ساروا مع علي واتبعوه سمّوا ¬

(¬1) الشيعة والتشيع ص 19. (¬2) فرق الشيعة اانوبختي ص 39. (¬3) الحكومة الإسلامية ص 136. (¬4) الشعائر الحسينية ص 11.

شيعة من ذلك الوقت (¬1) . 3- أنه ظهر يوم معركة صفين، وهو قول لبعض علماء الشيعة كالخونساري، وأبو حمزة، وأبو حاتم. كما قال به أيضاً غيرهم من العلماء، مثل ابن حزم، وأحمد أمين (¬2) . 4- أنه كان بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وهو قول كامل مصطفى الشيببي وهو شيعي؛ حيث زعم أن التشيع بعد مقتل الحسين أصبح له طابع خاص (¬3) . 5- أنه ظهر في آخر أيام عثمان وقوي في عهد علي (¬4) . والواقع أن القول الأول الذي قالت به الشيعة مجازفة وكذب صريح لا يقبله عقل ولا منطق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الوثنية إلى التوحيد، وإلى جمع الكلمة وإلى عدم التحزب، والقرآن والسنة مملوءان بالدعوة إلى الله وعدم الفرقة. وقد قال محمد مهدي الحسيني الشيرازي: ((وقد سماهم بهذا الاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال مشيراً إلى علي عليه السلام: ((هذا وشيعته هم الفائزون)) (¬5) ، وهذا باطل. ولعل الراجح من تلك الأقوال هو القول الثالث -أي بعد معركة صفين- ¬

(¬1) الفهرست لابن النديم ص 249. (¬2) الشيعة والتشيع ص 25. (¬3) انظر الصلة بين التصوف والتشيع ص 23. (¬4) انظر: رسالة في الرد على الرافضة ص 42. (¬5) قضية الشيعة ص3.

حين انشقت الخوارج وتحزبوا في النهروان، ثم ظهر في مقابلهم أتباع وأنصار علي حيث بدأت فكرة التشيع تشتد شيئاً فشيئاً.. على أنه -فيما يبدو- لا مانع أن يوجد التشيع بمعنى الميل والمناصرة والمحبة للإمام علي وأهل بيته قبل ذلك - إذا جازت تسمية ذلك تشيعاً - لا التشيع بمعناه السياسي عند الشيعة، فإن هؤلاء ليسوا شيعة أهل البيت وإنما هم أعداؤهم والناكثون لعهودهم لهم في أكثر من موقف. * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الثالث المراحل التي مر بها مفهوم التشيع

الفصل الثالث المراحل التي مر بها مفهوم التشيع كان مدلول التشيع في بدء الفتن التي وقعت في عهد علي رضي الله عنه بمعنى المناصرة والوقوف إلى جانب علي رضي الله عنه ليأخذ حقه في الخلافة بعد الخليفة عثمان، وأن من نازعه فيها فهو مخطئ يجب رده إلى الصواب ولو بالقوة. وكان على هذا الرأي كثير من الصحابة والتابعين، حيث رأوا أن علياً هو أحق بالخلاقة من معاوية بسبب اجتماع كلمة الناس على بيعته، ولا يصح أن يفهم أن هؤلاء هم أساس الشيعة ولا أنهم أوائلهم، إذ كان هؤلاء من شيعة علي بمعنى من أنصاره وأعوانه. ومما يذكر لهم هنا أنهم لم يكن منهم بغي على المخالفين لهم، فلم يكفروهم، ولم يعاملوهم معاملة الكفار بل يعتقدون فيهم الإسلام، وأن الخلاف بينهم لم يعدُ وجهة النظر في مسألة سياسية حول الخلافة وقد قيل: إن علياً كان يدفن من يجده من الفريقين دون تمييز بينهم. وقد أثمر موقف الإمام علي هذا فيما بعد، إذ كان تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية انطلاقاً من هذه المواقف الطيبة التي أبداها والده رضي الله عنهما. ولم يقف الأمر عند ذلك المفهوم من الميل إلى علي رضي الله عنه

ومناصرته، إذ انتقل نقلة أخرى تميزت بتفضيل علي رضي الله عنه على سائر الصحابة، وحينما علم علي بذلك غضب وتوعد من يفضله على الشيخين بالتعزير، وإقامة حد الفرية عليه (¬1) . وقد كان المتشيعون لعلي في هذه المرحلة معتدلين، فلم يكفروا واحداً من المخالفين لعلي رضي الله عنه ولا من الصحابة، ولم يسبوا أحداً، وإنما كان ميلهم إلى علي نتيجة عاطفة وولاء. وقد اشتهر بهذا الموقف جماعة من أصحاب علي، قيل منهم أبو الأسود الدؤلي، وأبو سعيد يحيى بن يعمر، وسالم بن أبي حفصة، ويقال أن عبد الرزاق صاحب المصنف في الحديث، وابن السكيت على هذا الاتجاه (¬2) . ثم بدأ التشيع بعد ذلك يأخذ جانب التطرف والخروج عن الحق، وبدأ الرفض يظهر وبدأت أفكار ابن سبأ تؤتي ثمارها الشريرة فأخذ هؤلاء يظهرون الشر، فيسبون الصحابة ويكفرونهم ويتبرءون منهم، ولم يستثنوا منهم إلا القليل كسلمان الفارس، وأبي ذر، والمقداد، وعمار بن ياسر، وحذيفة. وحكموا على كل من حضر ((غدير خم)) بالكفر والردة لعدم وفائهم -فيما يزعم هؤلاء - ببيعة علي وتنفيذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعلي في غدير خم المذكور. ¬

(¬1) انظر مختصر التحفة الاثني عشرية صـ5-6. (¬2) انظر مختصر التحفة الاثني عشرية صـ5 وهم ثقاة كما في تقريب التهذيب إلا سالم بن أبي حفصة فقد قال عنه صدوق في الحديث إلا أنه شيعي غال انظر صـ279 جـ1 وقال عن عبد الرزاق بن همام ثقة حافظ.. وكان يتشيع جـ1 صـ505.

وكان عبد الله بن سبأ هو الذي تولى كبر هذه الدعوة الممقوتة الكافرة، وقد علم علي بذلك فنفاه إلى المدائن وقال: ((لا تساكنني ببلدة أبداً)) . وأخيراً بلغ التشيع عند الغلاة إلى الخروج عن الإسلام، حيث نادى هؤلاء بألوهية علي. وقد تزعم هذه الطبقة ابن سبأ، ووجد له آذاناً صاغية عند كثير من الجهال، ومن الحاقدين على الإسلام. وقد أحرق علي رضي الله عنه بالنار كل من ثبت أنه قال بهذا الكفر (¬1) وكان له مع ابن سبأ موقف نذكره بالتفصيل عند ذكر فرقة السبئية (¬2) * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) على القول بأنه أحرقهم فإنه لم يحرقهم بالنار مباشرة، وإنما حفر ثلاث حفر كبار، ثم أضرم النار في حفرتين وجعلهم في الثالثة، وجعل الدخان يتسرب إليها من الحفرتين فاختنقوا بالدخان وماتوا به، وحينما رأوا بأنه يريد أن يحرقهم ازدادوا عنادا واستكبارا متخذين من عزمه على حرقهم دليلا على ألوهيته، لأنه - كما عللوا بذلك - لا يحرق بالنار ألا رب النار. (¬2) انظر مختصر التحفة صـ3-9، الشيعة والتشيع ص 40- 41.

الفصل الرابع أسماء الشيعة

الفصل الرابع أسماء الشيعة 1- الشيعة: وهو أشهر اسم من أسمائهم، ويشمل جميع فرقهم، ولا خلاف بين العلماء في إطلاقه عليهم كاسم علم. 2- الرافضة: وقد أطلقه عليهم بعض العلماء فجعله اسماً لجميع الشيعة. 3- الزيدية: وهي تسمية لبعض الناس يطلقونها على جميع الشيعة (¬1) . وكل هذه الأسماء الثلاثة وردت من خلال كتابات بعض العلماء عن طائفة الشيعة، واختيار كل منهم للاسم الذي يطلقه عليهم لا أن هذه التسميات بالاتفاق أو بهذا الترتيب. والواقع أن إطلاق اسم الرافضة على عموم الشيعة، بمن فيهم بعض فرقهم كالزيدية التي نشأت في نهاية القرن الأول للهجرة غير سديد، لأن التسمية -رافضة- إنما أخذت من قول زيد بن علي لبعض الشيعة: ((رفضتموني)) (¬2) فسموا الرافضة. وليس معنى هذا أنهم لم يكونوا على عقيدة الرفض بل هم رافضة، ولهذا طلبوا من زيد أن يكون رافضياً مثلهم فامتنع. لكن لم تجرِ هذه التسمية عليهم قبل ذلك، ومعنى هذا أن الشيعة كان لهم وجود قبل زيد تحت أسماء أخرى كما سيأتي بيانه. وكذا إطلاق اسم الزيدية على جميع فرق الشيعة (¬3) يرد عليه اعتراض، ¬

(¬1) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 146. (¬2) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 146. (¬3) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 146.

فقد كانت الشيعة لهم وجود قبل زيد الذي تنسب إليه الزيدية متمثلاً في فرق السبئية والكيسانية. ثم إن الزيدية لا تقول بكل مقالات الشيعة الغلاة، بل بينهما خلافات حادة في كثير من الآراء، وسباب كما ذكره البغدادي، وهو واضح من موقف زيد نفسه فلم يرفض زيد خلافة الشيخين ولم يسبهما. ويتضح من هذا أن إطلاق اسم الشيعة على كل طوائف التشيع لا يرد عليه اعتراض إذا أريد به اسم علم، بغض النظر عن صدق هذا الاسم عليهم أو عدم صدقه، فقد يكون الاسم من المسلمين وصاحبه من الملحدين، وقد يكون العكس، فلا تأثير للأسماء في الحقيقة والواقع.

الفصل الخامس فرق الشيعة

الفصل الخامس فرق الشيعة 1- تمهيد: 1- انقسمت الشيعة إلى فرق عديدة، أوصلها بعض العلماء إلى يقارب سبعين فرقة (¬1) . وبدراسة تلك الفرق قد يتضح أن منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام وهم يدَّعونه ويدَّعون التشيع، ومنهم دون ذلك، ويمكن أن نقتصر على دراسة أربع فرق كان لها دور بارز في العالم الإسلامي وهي: - السبئية. ... - الكيسانية. - الزيدية. ... - الرافضة. والرافضة الاثنا عشرية هي الواجهة البارزة في عصرنا الحاضر للتشيع. وقبل الخوض في تفاصيل تلك الفرق نذكر السبب في تفرق الشيعة ذلك التفرق، ونذكر أيضاً السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة. ¬

(¬1) مختصر التحفة الإثني عشرية، القسم الأول من الكتاب.

السبب في تفرق الشيعة

2- السبب في تفرق الشيعة: من الطبيعي جداً أن يحصل خلاف بين الشيعة، شأنهم شأن بقية الفرق أهل الأهواء، فما داموا قد خرجوا عن النهج الذي ارتضاه الله لعباده، واستندوا إلى عقولهم وأهوائهم فلا بد أن نتوقع الخلافات خصوصاً حينما يكون الخلاف مراداً لذاته. ونضيف إلى هذا أنه ربما يعود تفرق الشيعة إلى عدة أسباب بعضها ظاهر وبعضها غير ظاهر، ومن ذلك: 1- اختلافهم في نظرتهم إلى التشيع: إذ منهم الغالي المتطرف الذي يسبغ على الأئمة هالة من التقديس والإطراء، وعلى من خالفهم أحط الأوصاف وأشنع السباب، بل وإطلاق الكفر عليهم، مما يكون بعد ذلك هوة عميقة لاختلاف وجهات النظر، ومنهم من اتصف بنوع من الاعتدال، فلا يرى أن المخالفين لهم كفار وإن كانوا على خطأ كما يرى هؤلاء. 2- اختلافهم في تعيين أئمتهم من ذرية علي. فمنهم من يقول هذا، ومنهم من يقول ذلك، كما سيتضح ذلك من دراستنا لهذه الطائفة حينما ندرس مواقف الاثني عشرية والزيدية والنصيرية والباطنية في تعيين الأئمة، وكيفية تسلسلهم فيها. 3- كون التشيع مدخلاً لكل طامع في مأرب: وحينما كان التشيع مدخلاً لكل طامع في مأرب فقد أحدث هؤلاء الطامعون في السلطة، أو في الانتقام من الآخرين أو في حب الظهور - أحدث

عدد فرق الشيعة

هؤلاء انشقاقاً كبيراً بين صفوف الشيعة حينما طلبوا تحقيق أغراضهم بالتظاهر بالتشيع لآل البيت، ثم البدء بما يهدفون إليه. فمثلاً دخلت الباطنية عن طريقهم، وتزعم المختار عن طريقهم، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. 3- عدد فرقهم: وكشأن العلماء في اختلافهم في عدد الفرق نجدهم قد اختلفوا في عدد فرق الشيعة. فالأشعري (¬1) مثلاً يذكر أنهم ثلاث فرق رئيسية، وما عداها فروع. بينما نرى البغدادي (¬2) وهو يسمي الشيعة الروافض - أي بما فيهم السبئية والزيدية- يعدهم أربعة أصناف والباقي فروعاً لهم. ويعدهم الشهرستاني (¬3) خمس فرق والباقي فروعاً لهم. وبعضهم يعدهم أكثر بكثير من هذه الأعداد كما قدمنا، والأقرب إلى الصواب أن يقال: إن من أكبر فرقهم أكثرهم نفوذاً ووجوداً في العالم الإسلامي إلى اليوم فرقة الإمامية الرافضة وفرقة الزيدية. ومما لا شك فيه أن هذا الاختلاف تكمن وراءه أسباب. فما هي تلك الأسباب أو الظاهر منها؟ ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين ج 1 ص 65. (¬2) الفرق بين الفرق ص 21. (¬3) الملل والنحل ج1 ص147.

السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة

4- السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة؟ ذكرنا قبل قليل أن فكرة التشيع قد جذبت إليها كثيراً من أهل الأهواء والأغراض، وهؤلاء بدءوا يُدخلون في الإسلام ما لا يتفق مع الإسلام، بل يتفق مع هواهم، فأضافوا إلى الفكر الشيعي أفكاراً جديدة أسهمت في كثرة تفرق من ينتسب إلى التشيع. وهذه الكثرة والظهور المتتابع جعلت العلماء لا يتفقون في عدهم لهم، ومن هنا بدأ علماء الفرق يسجلون ما يصل إليهم من عدد فرق الشيعة، فجاء عدّهم غير منضبط لتجدد الأفكار الشيعية وتقلبها. وربما أيضاً لتباعد هؤلاء العلماء فيما بينهم، ولكثرة ظهور الفرق الشيعية أيضاً في تتابع لم يمكِّن العلماء من ملاحقته ورصده، بل وربما يوجد لكثير من هذه الفرق رغبة ملحة في صرف الأنظار عنهم فيحاولون زيادة التشويش لصرف التوجيه إليهم ودراستهم ومتابعة حركاتهم المريبة، ليتم لهم تنفيذ مآربهم بهدوء دون أن يفطن الناس لهم. إضافة إلى ذلك التشويش الحاصل فعلاً في طريقتهم عند طباعة كتبهم بحيث لا يهتدي الشخص إلى المكان الذي يريد تسجيله عليهم للاختلاف البعيد بين طبعات الكتاب الواحد، واختلاف الصفحات. * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل السادس دراسة أهم فرق الشيعة

الفصل السادس دراسة أهم فرق الشيعة 1- السبئية: السبئية: هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي. قيل إنه من الحيرة (¬1) بالعراق، وقيل -وهو الراجح- إنه من أهل اليمن من صنعاء (¬2) ، وقيل أصله رومي (¬3) . أظهر الإسلام في زمن عثمان خديعة ومكراً، وكان من أشد المحرضين على الخليفة عثمان رضي الله عنه حتى وقعت الفتنة. وهو أول من أسس التشيع على الغلو في أهل البيت، ونشط في التنقل من بلد إلى بلد؛ الحجاز والبصرة والكوفة، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر وبها استقر، ووجد آذاناً صاغية لبثّ سمومه ضد الخليفة عثمان والغلو في علي، وهذا النشاط منه في نشر أفكاره مما يدعو إلى الجزم بأن اليهود يموِّلونه، إذ كلما طرد من بلد انتقل إلى آخر بكل نشاط، ولاشك أنه يحتاج في تنقله هو وأتباعه إلى من يموِّلهم وينشر آراءهم، ومن يتولى ذلك غير اليهود الذين آزروه في إتمام خطته ليجنوا ثمارها بعد ذلك الفرقة وتجهيل المسلمين والتلاعب بأفكارهم. ¬

(¬1) انظر الفرق بين الفرق ص 235. (¬2) انظر تاريخ الطبري ج 4 ص 340. (¬3) انظر البداية والنهاية ج7 ص 173.

وقد بدأ ينشر آراءه متظاهراً بالغيرة على الإسلام، ومطالباً بإسقاط الخليفة إثر إسلامه المزعوم. ثم دعا إلى التشيع لأهل البيت وإلى إثبات الوصاية لعلي إذ إنه -كما زعم- ما من نبي إلا وله وصي، ثم زعم بعد ذلك أن علياً هو خير الأوصياء بحكم أنه وصي خير الأنبياء. ثم دعا إلى القول بالرجعة (¬1) ، ثم إلى القول بألوهية علي، وأنه لم يقتل بل صعد إلى السماء، وأن المقتول إنما هو شيطان تصور في صورة علي، وأن الرعد صوت عليّ، والبرق سوطه أو تبسمه، إلى غير ذلك من أباطيله الكثيرة. وفيما أرى أنه قد بيّت النية لمثل هذه الدعاوى، ولهذا لم يفاجئه موت علي بل قال وبكل اطمئنان وثبات لمن نعاه إليه: ((والله لو جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته، ولا يموت حتى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها)) (¬2) . وهذه الرجعة التي زعمها لعلي كان قد زعمها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: ((إنه ليعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع)) . واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬3) . وقد كذب عدو الله وأخطأ فهم الآية أو تعمد ذلك في أن المعاد هنا هو رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فلم يقل بهذا أحد من المفسرين، وإنما فسروا المعاد بأنه: ¬

(¬1) انظر المقالات للأشعري ج 1 ص 86. (¬2) انظر الفرق بين الفرق ص 235. (¬3) القصص: الآية 85

موقف علي رضي الله عنه من ابن سبأ

- الموت. - أو الجنة. - أو أنه رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة. - أو رجوعه إلى مكة (¬1) . وهي أقوال لكل واحد منها حظ من النظر بخلاف قول ابن سبأ، فإنه قول يهودي حاقد كاذب على الله دون مبالاة. وقد تبرأ جميع أهل البيت من هذا اليهودي، ويذكر أن بعض الشيعة قد تبرأ منه أيضاً (¬2) . موقف علي رضي الله عنه من ابن سبأ: اختلفت الروايات عن موقف علي رضي الله عنه من ابن سبأ حينما ادعى ألوهيته: 1- بعض الروايات تذكر أن علياً استتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه في جملة سبعين رجلاً (¬3) . 2- وبعض الروايات تذكر أن ابن سبأ لم يظهر القول بألوهية علي إلا بعد وفاته، وهذا يؤيد الرواية التي تذكر أنه نفاه إلى المدائن حينما علم ببعض أقواله، وغلوه فيه (¬4) . ¬

(¬1) انظر تفسير القرآن العظيم ج 3 ص 402-403. (¬2) انظر مقالات القمي ص 20. (¬3) منهج المقال ص 203 للاسترابادي. وكذا قال الشيعي الحسن بن علي في كتابه ((الرجالي)) ص 469 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص56-57. (¬4) شرح نهج البلاغة ج2ص309، وانظر الملل والنحل للشهرستاني. ج ص157.

3- وبعض الروايات تذكر أن علياً علم بمقالة ابن سبأ في دعوى ألوهيته، ولكنه اكتفى بنفيه خوف الفتنة واختلاف أصحابه عليه، وخوفاً كذلك من شماتة أهل الشام. وكان هذا بمشورة ابن عباس رضي الله عنهما، أو الرافضة كما قيل في هذه الرواية (¬1) . والواقع أن الروايات التي تذكر أن علياً ترك ابن سبأ فلم يحرقه واكتفى بنفيه مع عظم دعواه وشناعة رأيه فيه -أمر فيه نظر، بل غير وارد كما أتصور، إذ يستعبد- حسبما يظهر لي- أن يتركه علي يعيث في الأرض فساداً، ويدعوا إلى ألوهيته أو نبوته أو وصايته أو التبرأ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يكتفي بنفيه فقط إلى المدائن، وهو يعلم أنه باق على غلوه، وأنه سيفسد كل مكان يصل إليه. ويمكن أن يقال -وهو أقل اعتذار: إنه تركه لعدم ثبوت تلك الأقوال عنده؛ لأن ابن سبأ كان يرمي بها من خلف ستار. أو لأن دعوى الألوهية لم توجد إلا بعد وفاة علي رضي الله عنه كما يرى بعضهم، وأنه حينما نفاه إلى المدائن كانت دعواه لم تصل إلى حد تأليهه لعلي رضي الله عنه. وقد جرأت هذه الدعوى الكثير بعد ذلك على دعوى الألوهية لأشخاص من آل البيت بل ومن غيرهم. ومما يجدر التنبيه إليه وقوع أخطاء حول هذه الشخصية تناقلها بعض ¬

(¬1) انظر الفرق بين الفرق ص 235.

العلماء نبيِّنها فيما يلي: 1- أن بعض علماء الشيعة، ومن المستشرقين أيضاً من يحاول إنكار وجود ابن سبأ ويزعم أن شخصيته أسطورية منتحلة (¬1) . وهؤلاء لا يوجد لهم مستند إلا شبهات واهية، وأصبح إنكارهم له أشبه ما يكون بإنكار ضوء الشمس في وسط النهار، إضافة إلى أن هذا الإنكار دعوى خطيرة، إذ لو صح التشكيك في وجوده لسهل التشكيك أيضاً في وجود غيره ممن امتلأت بهم مصادر المسلمين، ولعلها خطة يبيتها هؤلاء للوصول إلى هذا الهدف البعيد ليفقد المسلم بعد ذلك ثقته بتاريخه وفيما كتبه علماؤه، فيكذبهم أو يبقى في حيرة وشك. 2- وقع لبعض العلماء التباس بين عبد الله بن سبأ، وعبد الله بن وهب الراسبي (¬2) ، ورأى أنهما شخصية واحدة، وهذا خطأ ظاهر. فإن الراسبي هو زعيم المحكمة الأولى -كما سبق-، وابن سبأ هو زعيم الحركة السبئية. 3- وجد من كلام بعض العلماء ما يشير إلى التفرقة بين ابن السوداء، وبين ابن سبأ (¬3) . والواقع الصحيح غير ذلك فإن ابن سبأ هو نفسه ابن السوداء كما يسميه بعضهم. ومن فرق بينهما فلاشتباه الأمر عليه. وأما بالنسبة للرد على المسألة الأخيرة ((دعوى ألوهية علي)) فهي واضحة ¬

(¬1) انظر ابن سبأ حقيقة لاخيال ص 7 - 24. (¬2) انظر عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام ص 39- 42. (¬3) المصدر السابق ص 42.

البطلان، فإن ادعاء الألوهية لأي شخص كلام ساقط يدل على نية خبيثة ومعتقد رديء أو جنون صاحبه. ومثله الزعم بأن علياً لم يقتل، وأنه لا يجوز عليه الموت. وقد رد البغدادي في كتابه ((الفرق بين الفرق)) (¬1) ، وكذا ابن حزم أيضاً (¬2) وغيرهما على مزاعم ابن سبأ بعدم موت عليّ بأدلة عقلية منها: 1- إن كان مقتول عبد الرحمن بن ملجم شيطاناً وليس بعليّ، فلم لعنتم ابن ملجم وقد قتل شيطاناً؟ 2- قولكم إن الرعد صوت علي، والبرق تبسمه أو سوطه يبطله أن البرق والرعد كانا موجودين ومعروفين منذ القدم، واختلف الفلاسفة قبل الإسلام في علتهما لا في وجودهما. 3- موسى وهارون ويوشع أعظم رتبة في نفس ابن سبأ واليهود من علي ... فلم صدقوا بموتهم ونفوا حلول الموت بعلي؟ 4- دعواهم أن الأئمة ينبع لهم العسل والسمن من الأرض (¬3) - يكذبه أن الحسين وأصحابه بكربلاء قتلوا عطاشاً، ولم ينبع لهم الماء فضلاً عن السمن والعسل (¬4) . ¬

(¬1) الفرق بين الفرق ص 236. (¬2) الفصل لابن حزم ج 4 ص180. (¬3) يشير هنا قول ابن سبأ حينما بلغه قتل علي ((والله لينبغي لعلي في مسجد الكوفة عينان تفبض إحداهما عسلا والأخرى سمنا ويغترف منهما شيعته)) . (¬4) انظر الفرق بين الفرق ص 236.

2-الكيسانية:

زعمهم أن علياً في السحاب على حد ما قال إسحاق بن سويد (¬1) . برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزّال منهم وابن باب ومن قوم إذا ذكروا علياً ... يردون السلام على السحاب هذا الزعم يبطله أن السحاب متفرق فوق الأرض، يبدأ وينتهي في حركات متواصلة ومتقطعة..ففي أي سحاب يكون؟ وعلى أي أرض يستقر؟ ورغم تفاهة هذه الدعوى في علي رضي الله عنه إلا أنها وجدت مؤيدين ومناصرين، وقد صدق الله تعالى حين قال في وصف البشر حين يضلون الصراط المستقيم: {أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} . ورغم تفاهة دعوى ابن سبأ في علي رضي الله عنه فقد ذكر علماء الفرق من الردود عليها والإلزامات الواردة عليها ما لا تستحق من الاهتمام. 2-الكيسانية: بدأ ظهور هذه الفرقة بعد قتل الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، وعرفوا بهذه التسمية واشتهروا بموالاتهم لمحمد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، وظهر تكونهم بعد تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهما (¬2) . فحينما تم الصلح مالوا عن الحسن والحسين وقالوا بإمامة محمد بن الحنفية، وقالوا: إنه أولى بالخلافة بعد علي، وهو وصي علي بن أبي طالب، ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) مقالات القمي ص 26.

3- المختارية:

وليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه أو يخرج بغير إذنه. وقالوا: إن الحسن خرج لقتال معاوية بأمر محمد بن الحنفية، وإن الحسين خرج لقتال يزيد بإذن ابن الحنفية، بل وقالوا بأن من خالف ابن الحنفية فهو مشرك كافر. وفرقة من هؤلاء الكيسانية قالوا: إن الإمامة لعلي ثم الحسن ثم الحسين ثم لابن الحنفية لأنه أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بها بعد الحسن (¬1) . وقد اختلف في كيسان زعيم الكيسانية: 1- فقيل إن كيسان رجل كان مولى لعلي بن أبي طالب. 2- وقيل: بل كان تلميذاً لمحمد بن الحنفية (¬2) . 3- وقيل: بل هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب، وقد كان يلقب بكيسان (¬3) . وهذا غير صحيح لأن قيام الكيسانية كان قبل ظهور أمر المختار كما تقدم. 3- المختارية: كيف صارت الكيسانية مختارية؟ حينما تقرأ بعض كلام علماء الفرق تجد أن فيه مشكلة خفية وخلطاً في التسمية، إذ يجعل بعضهم الكيسانية هي نفسها فرقة المختارية التي تزعمها ¬

(¬1) مقالات القمي ص 23. وانظر لمزيد الأخبار فرق الشيعة للنوبختي. (¬2) الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 147. (¬3) انظر مقالات القمي ص21.

المختار ابن أبي عبيد كما فعل القمي وغيره (¬1) . وبعضهم يجعل الكيسانية فرقة مستقلة، تزعمها رجل يقال له كيسان كما فعل الشهرستاني وغيره. والذي يتضح لي أن الكيسانية عندما نشأت كانت فرقة مستقلة، تزعمهم رجل يسمى كيسان الذي هو تلميذ لمحمد بن الحنفية أو مولى لعلي، وحينما جاء المختار بن أبي عبيد انضم إليه هؤلاء وكونوا بعد ذلك فرقة المختارية ... ولقد كان لفرقة المختارية أحداث هامة في التاريخ بقيادة المختار. فمن هو المختار بن أبي عبيد الذي تلقفته الكيسانية للانقضاض به على قتله الحسين ابن علي رضي الله عنه؟ المختار بن أبي عبيد الثقفي: هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ولد في الطائف في السنة الأولى للهجرة، ووالده صحابي استشهد في معركة الجسر حينما كان قائداً لجيش المسلمين في فتح العراق، وقام بكفالة المختار عمه سعيد بن مسعود الثقفي الذي كان والياً على الكوفة لعلي رضي الله عنه. وقد نشأ المختار على جانب من الذكاء والفطنة مراوغاً ماكراً غير صادق في تشيعه، وإنما كان يريد من ورائه تحقيق طموحه السياسي بأي وجه، وله مواقف تشهد بصحة هذا القول عنه ذكرها أهل التاريخ والفرق (¬2) . وقد لقب بكيسان لأسباب هي: ¬

(¬1) مقالات القمي ص21. (¬2) انظر ترجمة البداية جـ8 صـ289، وانظر والنحل ج 1 صـ147.

1- منهم من يقول: إنه نسبة إلى الغدر (¬1) ، لأن كيسان في اللغة العربية اسم للغدر، وكان المختار كذلك. 2- أنه أطلق عليه هذا اللقب باسم مدير شرطته المسمى بكيسان (¬2) والملقب بأبي عمرة الذي أفرط في قتل كل من شارك ولو بالإشارة في قتل الحسين، فكان يهدم البيت على من فيه، حتى قيل في المثل: ((دخل أبو عمرة بيته)) كناية عن الفقر والخراب. أنه أطلق على المختار هذا اللقب باسم كيسان الذي هو مولى علي بن أبي طالب (¬3) . وذهب بعض الشيعة ومنهم النوبختي (¬4) إلى أن هذا اللقب أطلقه عليه محمد بن الحنفية على سبيل المدح، أي لكيسه، ولما عرف عنه من مذهبه في آل البيت؛ لأن الكيسانية زعموا أن محمد بن الحنفية هو الذي كلف المختار بالثورة في العراق لأخذ الثأر للحسين، وهذا ليس بصحيح كما سيأتي. وقد كان للمختار أدوار مع ابن الزبير، وخاض معارك في العراق خرج منها ظافراً فأعجبته نفسه، وأخذ يسجع كسجع الكهان، ويلمح لأناس ويصرح لآخرين أنه يوحى إليه، فانفض عنه كثير من أصحابه، وقُتل في ¬

(¬1) القاموس المحيط ج2 ص 275. (¬2) مقالات القمي ص 21، فرق النوبختي ص 45. (¬3) مقالات القمي ص 22، فرق النوبختي ص 45. (¬4) فرق الشيعة ص48.

حربه مع مصعب بن الزبير سنة 67هـ، وتفرق أتباعه (¬1) ، وصدق عليه الحديث الذي روته أسماء بنت أبي بكر وغيرها أنه كذاب ثقيف (¬2) . محمد بن الحنفية: أما ابن الحنفية الذي جعله المختار واجهة له ... فهو محمد بن علي بن أبي طالب، وأمه خولة، قيل: بنت جعفر، وقيل: بنت أياس الحنفية، وهي من سبي اليمامة في حروب الردة، صارت إلى علي. وقيل: إنها سندية وكانت أمة لبني حنيفة فنسبت إليهم. ولد ابن الحنفية سنة 16هـ في عهد عمر بن الخطاب، ونشأ شجاعاً فاضلاً عالماً، دفع إليه أبواه الراية يوم الجمل وعمره 21سنة، وقد تنقل بعد وفاة والده فرجع إلى المدينة ثم انتقل إلى مكة ثم منى في عهد ابن الزبير ثم إلى الطائف، ثم قصد عبد الملك بن مروان بالشام وتوفي سنة 81هـ قبل بالطائف، وقيل بأيلة من فلسطين، وقيل لم يمت بل حبسه الله في جبل رضوى القريب من ينبع، وهذا من تحريف الشيعة. وبعد وفاته اختلف الشيعة فيما بينهم: فذهب بعضهم إلى أنه مات وسيرجع. وذهب آخرون إلى أنه لا زال حياً بجبل رضوى قرب المدينة عنده عينان نضاختان، إحداهما تفيض عسلاً، والأخرى تفيض ماءً، عن يمينه أسد يحرسه، وعن يساره نمرٌ يحرسه، والملائكة تراجعه الكلام، وأنه المهدي المنتظر، وأن الله حبسه هناك إلى أن يؤذن له في الخروج، فيخرج ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ¬

(¬1) تاريخ الطبري ج 6 ص 65. (¬2) سنن الترمذي ج 4 ص 499.

وفي هذه الخرافات يقول السيد الحميري أو كثير عزة على رواية في قصيدة له: ألا حي المقيم بشعب رضوى *** واهد له بمنزله السلاما وقل ياابن الوصي فدتك نفسي *** أطلتَ بذلك الجبل المقاما وما ذاق ابن خولة طعم موت *** ولا وارت له أرض عظاما لقد أمسى بجانب شعب رضوى *** تراجعه الملائكة الكلاما وإن له لرزقاً كل يوم *** وأشربه يعل بها الطعاما أضر بمعشر وآلوك منا *** وسموك الخليفة والإماما وعادوا فيك أهل الأرض طرا *** مقامك عنهم سبعين عاما (¬1) وقد اختلف الكيسانية في سبب حبس ابن الحنفية بجبل رضوى: 1- ذهب بعضهم -وأراد أن يقطع التساؤل- إلى القول بأن سبب حبسه سر الله، لا يعلمه أحد غيره، وهو تخلص من هذه الكذبة التي زعموها في حبسه. 2- وبعضهم قال: إنه عقاب من الله له بسبب خروجه بعد قتل الحسين إلى يزيد بن معاوية، وطلبه الأمان له، وأخذه عطاءه. 3- بعضهم قال: إنه بسبب خروجه من مكة قاصداً عبد الملك بن مروان هارباً من ابن الزبير ولم يقاتله (¬2) . ¬

(¬1) أوردها القمي في مقالاته ص21 - 32، والنوبختي في فرقه ص 51 باختصار. (¬2) وانظر أخباره في مروج الذهب ج 4 ص 85 -123. وفي الفرق بين الفرق ص39-53 وفي مقالات القمي ص 30-31.

4-الزيدية:

والحقيقة أنك لا تدري كيف تبلدت عقول هؤلاء إلى حد أن يعتقدوا هذا الاعتقاد الغريب في أن الله غضب على ابن الحنفية من مجرد زيارته لهؤلاء الحكام من المسلمين، والذين لهم يد مشكورة في انتشار رقعة الإسلام، فأوصل الله -بزعمهم- عقابه إلى هذا الحد من السنين الطويلة التي شكى منها الحميري سبعين عاماً، وقد بقي الكثير جداً والتي ستمتد إلى أن يغير هؤلاء الحمقى عقيدتهم هذه. 4-الزيدية: بعد قتل الحسين بن علي (¬1) ظهرت معظم الفرق التي تزعم التشيع، بل وأخذت دعوى التشيع تتصاعد في الغلو. وفي أيام علي بن الحسين الملقب بزين العابدين طمع الشيعة في استجلابه إليهم غير أنه كان على ولاء تام ووفاء كامل لحكام بني أمية متجنباً لمن نازعهم (¬2) ، بل إن يزيد بن معاوية وهو خليفة كان يكرمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا معه (¬3) . وقد أنجب أولاداً، منهم: - زيد بن علي بن الحسين. - محمد بن علي بن الحسين المكنى بأبي جعفر الباقر. - عمر بن علي بن الحسين (¬4) . ¬

(¬1) إذا أردت أن تعرف موقف يزيد من الحسن فانظر البداية والنهاية ج8 ص 191- 194. (¬2) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 154، التشيعة والتشيع ص 204. (¬3) الإمام زيد ص 23. (¬4) وتسمية علي ابن الحسين ابنه باسم عمر إفحام لكذب الشيعة فيما يدعون من كراهة علي لأبي بكر ولعمر، حيث إنهم يجنبون أولادهم التسمية باسم خيار الصحابة مثل أبو بكر وعمر وعائشة. بل ومثله سمى علي رضي الله عنه أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.

وقد اختلف الشيعة في أمر زيد بن علي، ومحمد بن علي أيهما أولى بالإمامة بعد أبيهما؟ فذهبت طائفة إلى أن لزيد فسموا زيدية، وهؤلاء يرتبون الأئمة ابتداءاً بعلي رضي الله عنه، ثم ابنه الحسن، ثم الحسين، ثم هي شورى بعد ذلك بين أولادهما-كما ترى الجارودية منهم (¬1) - ثم ابنه علي بن الحسين زين العابدين، ثم ابنه زيد وهو صاحب هذا المذهب، ثم ابنه يحيى بن زيد، ثم ابنه عيسى بن زيد -كما ترى الحصنية منهم فيما يذكره القمي (¬2) -، وبعد ذلك يشترطون في الإمام أن يخرج بسيفه سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمامة لمحمد بن علي بن الحسين المكنى بأبي جعفر الباقر (¬3) . ونحن هنا بصدد دراسة الزيدية كيف قامت؟ وما هي مواقف الناس منهم؟ وقد وصف أبو زهرة الزيدية بأنهم ((أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية، وأكثر اعتدالا، وتشيعهم نحو الأئمة لم يتسم بالغلو؛ بل اعتبروهم أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتدلوا في مواقفهم تجاه الصحابة، فلم يكفروهم وخصوصاً من بايعهم علي رضي الله عنه واعترف بإمامتهم)) (¬4) . هكذا قال عنهم، والذي يظهر لي أن هذا الحكم غير صحيح على جميع ¬

(¬1) المقالات والفرق صـ18. (¬2) انظر المقالات والفرق صـ74. (¬3) انظر الشيعة والتشيع ص 204. (¬4) تاريخ المذاهب الإسلامية ج 1 ص 47، وانظر تاريخ الفرق الإسلامية للغرابي ص 296. وأهم الفرق الإسلامية للنيفر ص 80.

زيد بن علي

الزيدية- فإن بعض طوائفهم رافضة، وهم الذين خرجوا عن مبادئ زيد وآرائه، سواء كانوا متقدمين أو متأخرين فقد قسم أبو زهرة الزيدية من حيث الاعتقاد إلى قسمين (¬1) : 1- المتقدمون منهم؛ المتبعون لأقوال زيد، وهؤلاء لا يعدون من الرافضة، ويعترفون بإمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. 2- وقسم من المتأخرين منهم، وهؤلاء يعدون من الرافضة، وهم يرفضون إمامة الشيخين ويسبونهما ويكفرون من يرى خلافتهما. وهذا يحتاج من الزيدية إلى إعادة النظر؛ ليتقاربوا من إخوانهم أهل السنة، وإلا أصبحوا في صف الإمامية الرافضة، وعموماً فإن مذهبهم في الإمامة يحصرونه في أولاد فاطمة فقط من غير تحديد بأحد منهم، وإنما يشترطون أن يكون كل فاطمي اجتمعت فيه خصال الولاية من الشجاعة والسخاء والزهد، وخرج ينادي بالإمامة - يكون إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين (¬2) ، عكس الاثني عشرية الذين حرصوا على الأئمة في أولاد الحسين فقط. زيد بن علي وهو الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية: وهو زيد بن علي بن الحسين بن علي، ولد سنة 80هـ تقريباً، وتوفي سنة 122هـ، وأمه أمة أهداها المختار إلى علي زين العابدين فأنجبت زيداً (¬3) . وكان زيد -كما تذكر الكتب التي تترجم له -شخصية فذة، صاحب ¬

(¬1) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 52 جـ1. (¬2) الملل والنحل جـ1 صـ154، وانظر فرق الشيعة للنوبختي صـ43. (¬3) انظر ترجمته في كتاب ((الإمام زيد)) ص 22.

علم وفقه وتقوى، واتصل بواصل بن عطاء وأخذ عنه، واتصل بأبي حنيفة وأخذ عنه (¬1) ، وكان أبو حنيفة يميل إلى زيد ويتعصب له، وقد قال في خروجه لحرب الأمويين: ((ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر)) كما يذكر ذلك أبو زهرة (¬2) . موقفه من حكام بني أمية: خرج زيد على الحكام الأمويين، وأشهر السلاح في وجوههم، فما هو الدافع لزيد على هذا الخروج؟ والجواب هو حسب ما قيل في بعض المصادر أن زيداً خرج على بني أمية منكراً للظلم والجور، وبعضها يذكر أنه لم يكن يريد الخروج، ولا طلب الخلافة، ولكن حدث في تصرف هشام بن عبد الملك وعماله إهانات وإساءة لزيد لم يطق أن يعيش معها مسالماً لهشام بن عبد الملك، وذلك أن زيداً أحس أن والي المدينة من قبل هشام ويسمى خالد بن عبد الملك ابن الحارث ووالي هشام على العراق يوسف بن عمر الثقفي يتعمدان الإساءة له، وربما تصور أن ذلك بإيعاز من الخليفة هشام، فقرر أن يذهب للشام ويشرح أمره لهشام ليزيل ما في نفسه من تخوف أن يثور عليه زيد. لكن حدث ما لم يكن في حسبانه، فقد قابله الخليفة مقابلة غير لائقة به ¬

(¬1) وبعض العلماء كالشهرستاني يصرح بتلمذة زيد لواصل ولأبي حنيفة، ولكن الأستاذ أبو زهرة يرى أنها ليست تلمذة بمعنى الكلمة، وإنما كان اتصاله يزيد على سبيل المذكرة لتسويهما في العمر إذا واصل بن عطاء وزيد بن علي ولد في سنة 80هـ، ولكن هذا لا يمنع أن يتتلمذا ويتأثر زيد بواصل وأن يتتلمذ كذلك على أبي حنيفة، فإن تأثر زيد بهما، وتأثر الزيدية بعد ذلك بالمعتزلة والحنفية ظاهر على سبيل التلمذة لا المذاكرة التي يذهب إليها أبو زهرة، ولهذا قيل ((الزيدية معتزلة في الأصول، حنفية في الفروع)) . (¬2) الإمام زيد ص 72.

حاصلها: أن زيداً وقف بباب هشام فلم يؤذن له بالدخول مدة، فكتب له كتاباً يشرح أمره ويطلب الإذن له فكتب هشام في أسفل الكتاب: ارجع إلى أميرك بالمدينة. فعزم زيد على مقابلته وقال: والله لا أرجع إلى خالدا أبداً. وأخيراً أذن له وقد رتب هشام الأمر، فوكل به من يحصي عليه جميع ما يقول، وحينما صعد زيد إلى هشام قال زيد: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل. فلما مثل بين يدي هشام لم ير موضعاً للجلوس فيه حيث انتهى به المجلس، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى الله، ولا يصغر دون تقوى الله. فقال هشام: اسكت لا أم لك. أنت الذي تنازعك نفسك الخلافة وأنت ابن أمَة. فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك جواباً إن أجبتك أحببتك به، وإن أحببت أمسكت- ولو أن هشاماً يريد العافية لقال له أمسك - فقال: بل أجب. فقال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمَة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبياً، وجعله للعرب أباً، وأخرج من صلبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم تقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي؟ فقال هشام: اخرج. فقال زيد: أخرج، ولا أكون إلا حيث تكره. ومن هنا قرر أنه بين أمرين أحلاهما مر؛ فاختار الخروج (¬1) ... وكم أسديت له من النصائح للرجوع عن رأيه، ولكنه -وبدفع من الشيعة- ¬

(¬1) والله أعلم عن صحة ذلك كله، وقد علمت أن أكثر المؤرخين يتجوزون في نقل الأخبار اعتماداً على الرواة تاركين لمن جاء بعدهم مهمة تحقيقها

آراء زيد والزيدية

واصل سيره إلى أهل الكوفة الذين عاهدوه على نصرته ثم نكسوا على أعقابهم حين تراءى الجمعان، جيش الخلافة وهؤلاء، وفي هذا الموقف الحرج قام هؤلاء وسألوه- ليأخذوا حجة في الهرب ولرداءة معتقدهم- قالوا له: إنا لننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب. فقال زيد - دون نفاق -: إني لا أقول فيهما إلا خيراً، وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيراً، وقد كانا وزيري جدي، وإنما خرجت على بني أمية الذي قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة، ثم رموا بيت الله بالمنجنيق والنار. فلما سمعوا هذا الجواب تفرقوا عنه ورفضوه. فقال لهم: رفضتموني؟ فسموا رافضة-، وبقي في شرذمة قليلة سرعان ما قضى عليهم يوسف ابن عمر، وقد قتل زيد ودفن في ساقية فاستخرجه يوسف وكتب إلى الخليفة، فأمره هشام أن يصلبه مدة وأن يحرقه، وتم ذلك فيما ذكره علماء الفرق والمؤرخين (¬1) . آراء زيد والزيدية: للشيعة عموماً آراء متضاربة متناقضة وأفكار تأثرت بجهات شتى من وثنية ومجوسية ويهودية ونصرانية إلا القليل منهم. وأما بالنسبة لزيد فإن آراءه كما ذكر علماء الفرق والمؤرخين نوجزها فيما يلي: ¬

(¬1) انظر الكامل لابن الأثير ج 5 ص 229 - ص 235، ومن 242 - ص 247. وانظر مروج الذهب ج 3 ص 217- 220. وانظر البداية والنهاية ج 9 ص 329- 330. وانظر مقاتل الطالبين ص 86 - 102. ويجب أن تدرك المبالغات التي ذكرها المسعودي والأصفهاني صاحب مروج الذهب بناء على تشيعها.

1- في السياسة: يرى زيد جواز ولاية المفضول، أي إن الإمامة عنده ليست وراثة، فإذا اقتضت المصلحة تقديم المفضول فلا بأس بذلك، وكان مع تفضيله لعلي على أبي بكر يرى أن خلافة الشيخين خلافة صحيحة. ولما قيل له في ذلك قال: ((كان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة إلى أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين ثائرة الفتنة وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوا باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... )) (¬1) إلى آخر كلامه. وفي هذا الجواب بعض الأمور التي فيها نظر، فإن الصحابة ما كانوا ليحقدوا عليه قتل أقربائهم من المشركين، وأما الشدة فإن عمر كان أشهر منه فيها وقد ولاه الصحابة أمرهم. 2- القول بعدم عصمة الأئمة أو وصايتهم من النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول الإمامية وبعض فرق الزيدية، فإن زعمهم عصمة الأئمة أو وصايتهم كان أساسه الاعتقاد الخاطئ أن تولي الأئمة كان من النبي صلى الله عليه وسلم. والنبي ما كان يتصرف إلا بوحي، ومن غير المعقول أن يختار الله ورسوله الأئمة ثم يجري عليهم الخطأ في أحكامهم وهم المرجع للدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) الملل والنحل جـ1 صـ155 الإمام زيد 188.

ولكن زيداً لم يلتفت إلى هذا القول الخاطئ والاعتقاد الباطل فيما قيل عنه (¬1) . إذ لم تثبت العصمة لأحد غير الأنبياء فيما كلفوا بتبليغه. 3-لم يقل بالمهدي المنتظر ولا بالغائب المكتوم (¬2) . وهي من عقائد الشيعة الأساسية، فكل طائفة منهم لها مهدي وغائب مكتوم، وتفرقوا في هذه الخرافة طوائف متعارضة: فالمهدي عند الكيسانية هو محمد بن الحنفية، وعند الاثني عشرية محمد بن الحسن العسكري، وعند بقية طوائفهم أئمة مهديون ينتظرون خروجهم بغتة يملأون الأرض عدلاً بزعمهم. وسبب هذه الخرافة أنهم يعتقدون أن لآل البيت مزية عن غيرهم فهم يحيون قروناً، وأن الخلافة لا تخرج من أيديهم سواء كانوا ظاهرين أو مستترين، ولم يلتفت زيد إلى وجود مهدي سيخرج، كما يذكر عنه أبو زهرة (¬3) . والواقع أن أهل السنة يؤمنون بمجيء مهدي في آخر الزمان على ما بينته الأحاديث (¬4) ، لكن هؤلاء الشيعة استغلوا هذه القضية استغلالاً خاطئاً، وقررها علماؤهم وزعماؤهم لأغراض سياسية أكثر منها دينية. ¬

(¬1) انظر الإمام زيد صـ191 ولكن الزيديه في عصرنا الحاضر يقولون بعصمتهم. انظر انظر نصيحة الإخوان صـ4. (¬2) وقد زعمت الجارودية من الزيدية إن محمد بن عبد الله بن الحسن لم يمت وإنه يخرج ويغلب وفرقة أخري زعمت. أن محمد بن القاسم صاحب الطالقان حيي لم يمت وأنه يخرج ويقلب وفرقة قالت مثل في يحيى بن محمد صاحب الكوفة [انظر مقالات الإسلامية جـ1 صـ141] . (¬3) انظر الإمام زيد ص 195. (¬4) توجد فروق بين أهل السنة والرافضة في المهدي كثيرة؛ هذا أحدها، ومنها تسمية المهدي عند أهل السنة اسمه محمد بن عبد الله، وعند الرافضة محمد بن الحسن العسكري. المهدي عند أهل السنة يحكم بالشريعة الإسلامية، ومهدي الرافضة يحكم بحكم داود. المهدي عند أهل السنة نعمة، ومهدي الرافضة نقمة وبلاء. المهدي عند أهل السنة يتميز بالعدل بين الناس، ومهدي الرافضة لإعلاء أمرهم فقط، المهدي عند أهل السنة يفر إلى البيت الحرام ويتبعه الناس فيبايعونه دون حرص منه عليها، أما المهدي عند الرافضة فهو يخرج بمشيئته على اختلاف بينهم في مكان خروجه، المهدي عند أهل السنة له مدة محدودة، ومهدي الرافضة ليس لحكمة تحديد. إلى آخر الفروق بين أهل السنة والرافضة في قضية المهدي.

4- حكم في مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة بين المنزلتين تبعاً لرأي المعتزلة: وقيل: إنه خالفهم في تخليده في النار، وقال: لا يخلد في النار إلا غير المسلم (¬1) هكذا ذكر عنه أبو زهرة. ولكن الأشعري ينقل عن فرق الزيدية القول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار كما تقول الخوارج (¬2) والمعتزلة، وإنهم مجمعون على ذلك. وأهل الحق يقولون: هم تحت المشيئة، ولا يقولون بحتمية دخولهم النار ولا بتخليدهم فيها. 5- قال بالإيمان بالقضاء والقدر من الله تعالى، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار بتمكين الله له، وبها يحاسب فيثاب أو يعاقب كما يذكره عنه أبو زهرة (¬3) رغم أن الزيدية معتزلة في الأصول بسبب تلمذة زيد لواصل بن عطاء الغزال زعيم المعتزلة. 6- لم يقل بالبداء على الله، وهو القول بحدوث حوادث جديدة متغيرة في علم الله - على حسب ما يحدث-، وهذا القول تزعمته الكيسانية وكثير ¬

(¬1) انظر الإمام زيد ص204. (¬2) انظر المقالات جـ1 صـ149، تاريخ الفرق الإسلامية 294. (¬3) انظر ((الإمام زيد)) ص 208.

من الروافض، واعتقاده كفر. ومذهب زيد أن علم الله تعالى أزلي قديم، وأن كل شيء بتقديره سبحانه، وأن من النقص في علم الله أن يغير إرادته لتغير علمه (¬1) ولم يتأثر بعقائد الإمامية في هذا. 7- لم يقل بالرجعة المزعومة عند الشيعة. وهي بدعة غريبة، وهي أن كثيراً من العصاة سيرجعون إلى الدنيا ويجازون فيها قبل يوم القيامة، وينتصف أهل البيت ممن ظلموهم، كما أنه يرجع أقوام آخرون لا عقاب عليهم لينظروا ما يحل بمن ظلم أهل البيت (¬2) ، إلى غير ذلك من الآراء التي تهم أهل الاختصاص والتفرغ لدراستها. ولكن: هل استمر الزيدية على هذه المبادئ التي قيلت عن زيد. والجواب: لا، فقد جاءت طوائف حرفت مذهب زيد، ورفضوا خلافة الشيخين (¬3) ، وقالوا بالرجعة (¬4) وعصمة الأئمة وغير ذلك من أقوال فرقهم الأربع التي هي: الجارودية، والسليمانية أو الجريرية، والبترية أو الصالحية، واليعقوبية. وأشهرها الجارودية. ¬

(¬1) الإمام زيد ص 211 وانظر مواقف الرافضة منه ((مقالات الإسلامية جـ1 صـ113)) . (¬2) انظر مقالات الأشعرية ج1 ص 144 عن الفرقة البترية منهم، وص 145 عن فرقة اليعقوبية حيث ظلوا على رأى زيد في إنكار الرجعة. (¬3) كما هو مذهب الجارودية فيهما ومذهب السليمانيه في تكفيرهم عثمان رضي الله عنه عند الأحداث التي نقمت عليه أو البراءة منه كما هو مذهب البترية أصحاب الحسن بن صالح بن حي والنعيمية أصحاب نعيم بن اليمان حيث تبروأ من عثمان ومن محارب علي وشهدوا عليه بالكفر وذكر الأشعري بعد ذكره ما تقدم أن الفرقة الخامسة من الزيدية يتبرأون من أبي بكر وعمر. (¬4) كالفرقة الخامسة منهم فإنهم لا ينكرون رجعة الأموات قبل يوم. ((المقالات جـ1 صـ145)) .

5- الرافضة:

5- الرافضة: 1 - معنى الرافضة لغة واصطلاحاً: الرفض في اللغة يأتي بمعنى الترك. يقال: رفض يرفض رفضاً، أي ترك. وعرفهم أهل اللغة بقولهم: ((والروافض كل جند تركوا قائدهم)) (¬1) ، هذا هو معنى الرفض في اللغة. وأما في الاصطلاح: فإنه يطلق على تلك الطائفة ذات الأفكار والآراء الاعتقادية الذين رفضوا خلافة الشيخين وأكثر الصحابة، وزعموا أن الخلافة في علي وذريته من بعده بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن خلافة غيرهم باطلة. 2 - سبب تسميتهم بالرافضة: أطلقت هذه التسمية على الرافضة لأسباب كثيرة: 1-قيل: إنهم سموا رافضة لرفضهم إمامة زيد بن علي، وتفرقهم عنه كما تقدم (¬2) . 2-وقيل: سموا رافضة لرفضهم أكثر الصحابة، ورفضهم لإمامة الشيخين (¬3) . 3-وقيل: لرفضهم الدين (¬4) . ¬

(¬1) انظر الصحاح للجوهري ج 3 ص 1078، وانظر القاموس المحيط ص 344. (¬2) انظر البداية والنهاية ج 9 ص 330. (¬3) مقالات الأشعري ج 1 ص 89. (¬4) المصدر السابق، تعليق محمد محيي الدين عبد الحميد.

3 - وجود الرافضة قبل اتصالهم بزيد بن علي

ولعل الراجح هو الثاني، ولا منافاة بينه وبين الأول، لأنهم كانوا رافضة يرفضون الشيخين وقد رفضوا زيداً كذلك إذ لم يرض مذهبهم. 3 - وجود الرافضة قبل اتصالهم بزيد: وجدت هذه الطائفة قبل انضمامهم لزيد بن علي، وكانت عقيدتهم هي الرفض، ولهذا طلبوا من زيد أن يوافقهم على أهوائهم ويتبرأ من الشيخين فخيب آمالهم وانفصلوا عنه. وسبب ذلك يعود إلى تشبعهم بأفكار اليهودي ابن سبأ، وانحرافهم التام عن التشيع لأهل البيت الذي كان عبارة عن الحب والمناصرة. 4 - أسماؤهم قبل اتصالهم بزيد: ومن أسمائهم في تلك الفترة: 1-الخشبية. 2-الإمامية (¬1) . وسبب تسميتهم بالخشبية: أنهم - كما قيل- كانوا يقاتلون بالخشب ولا يجيزون القتال بالسيف إلا تحت راية إمام معصوم من آل البيت. وسبب تسميتهم بالإمامية: لزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي رضي الله عنه نصاً ظاهراً ويقيناً صادقاً، ولم يكتف فيه بالوصف بل صرح بالاسم لعلي ولأولاده من بعده -كما يدعي هؤلاء. 5 - فرق الروافض: لقد تفرقت الشيعة الروافض إلى أقسام كثيرة لم يتفق العلماء على ¬

(¬1) انظر الفصل لابن حزم ج4 ص 185، وانظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 176.

1- المحمدية

عددها، ولا على اعتبار من هم الأصول ومن هم الفروع منهم. ولا حاجة إلى التطويل بذكر جميع تلك الفرق الأصول والفروع؛ إذ الكل يجمعهم معتقد واحد حول الإمامة وأحقية علي بها، وأولاده من بعده، ورفض من عداهم. وأشهر فرق الروافض: الشيعة الاثنا عشرية -كما سندرسهم بالتفصيل-، وفرقة أخرى منهم تسمى المحمدية. وسنقتصر على دراسة هاتين الطائفتين ليتضح من خلالهما مدى تناقض الشيعة في عقائدهم الهامة مثل الإيمان بالمهدي (¬1) والرجعة (¬2) وغير ذلك من عقائدهم، إضافة إلى أن هذه الفرقة لا تزال طائفة منهم - وهم الذين صدقوا بقتل زعيمهم الذي ينتسبون إليه- النفس الزكية- يأتون إلى قبره- الذي ظنوا بأنه دفن في مكانه ذلك -يأتون إليه ويتمسحون به ويدعون عنده إلى اليوم. 1- المحمدية: خلاصة أمر هذه المحمدية أنهم طائفة يعتقدون أن الإمام والمهدي المنتظر هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي، ويعرف بالنفس الزكية. ولد محمد سنة 93هـ (¬3) ، ويوصف بأنه كان فاضلاً صاحب عبادة وورع، ولذا أطلق عليه لقب النفس الزكية. ¬

(¬1) لأن مهدي الاثني عشرية غير مهدي المحمدية. (¬2) لأن المحمدية تؤمن برجعة كل الأموات قبل يوم القيامة قال شاعرهم: إلى يوم يؤب الناس فيه **** إلى دنياهم قبل الحساب ((الفرق بين الفرق)) صـ59. (¬3) حركة النفس الزكية ص 55.

خرج بالمدينة المنورة سنة 145هـ على أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى الهاشمي، فدارت المعركة على محمد فسقط قتيلاً بعد مدة قليلة من إعلان خروجه، وقد احتز عيسى رأس محمد وأرسله إلى أبي جعفر المنصور (¬1) جرياً على العادة التي سنها الأمويون من قبل لإرهاب المخالفين. ومما يجدر ذكره أن شخصاً ماكراً اسمه المغيرة بن سعيد العجلي كانت له آراء ضالة استغل توجه الناس إلى محمد بن علي بن الحسن فأخذ يدعو الناس إلى البيعة لمحمد، وجدَّ في ذلك، وزعم للناس أن المهدي المنتظر قد خرج، وأنه محمد بن الحسن، وبشر الناس بأن ملكه سيمتد طويلاً ويعيد الأمور إلى نصابها ويملأ الأرض عدلاً، وأن على الجميع أن يبادروا بالطاعة والانطواء تحت لوائه للقيام بواجبهم نحو المهدي. وحينما قتل محمد في أول لقاء مع عيسى بن موسى أسقط في يد أتباعه من هؤلاء الحمقى الذين صدقوا أقواله وانقسموا فيما بينهم، فطائفة تبرأت من المغيرة وقالوا: لا يجوز لنا متابعته بعد أن ظهر كذبه، فإن محمد بن عبد الله ابن الحسن مات مقتولاً ولم يملك ولا يملأ الأرض عدلاً، ولو كان هو المهدي لتكفل الله بظهوره. وطائفة أخرى -لأغراض في أنفسهم ولبقاء شوكتهم- استمروا على الولاء للمغيرة ولمحمد بن عبد الله بن الحسن، ولجئوا إلى أقوال السبئية، فقالوا: إن محمداً لم يقتل، وإنما المقتول كان شيطاناً تصور للناس في صورة ¬

(¬1) انظر مقاتل الطالبين ص 185.

2- الاثنا عشرية. أسماؤهم وسبب تلك التسميات

محمد بن عبد الله بن الحسن، وأن محمداً لا يزال حياً في جبل حاجر بنجد، ولا بد أن يظهر مرة أخرى، ويملأ الأرض عدلاً، وأن البيعة ستعقد له بين الركن والمقام في بيت الله الحرام بمكة (¬1) . وقد ذكر لي بعض أهل المعرفة أن جماعة من الشيعة يأتون إلى مكان في المدينة المنورة خلف مسجد ثنية الوداع لزيارته لاعتقادهم أنه قبر محمد بن عبد الله بن الحسن، وقد أزيل هذا المكان في مشروع. ويظهر أن هؤلاء الشيعة هم من القسم الذين صدقوا بموته وفارقوا المغيرة. وقد استمر المغيرة على ضلالاته حتى قتله خالد بن عبد الله القسري. 2- الاثنا عشرية: هذه هي الواجهة الرئيسية والوجه البارز للتشيع في عصرنا الحاضر وهم القائمون على نشر هذا المذهب الرافضي والممول له بشتى الطرق والأساليب، وقد تحقق لهم الكثير مما أرادوه في العالم الإسلامي وذلك لما يبذلونه من مساعدات مادية ومعنوية. فتعتبر هذه الطائفة أشهر فرق الشيعة، وأكثرها انتشاراً في العالم، وإليها ينتمي أكثر الشيعة في إيران والعراق وباكستان وغيرها من البلدان التي وصلت إليها العقيدة الشيعية، ولهم نشاط ملموس في كثير من البلدان في الآونة الأخيرة؛ حيث توغلوا إلى أماكن من بلدان المسلمين ما كان لهم فيها ذكر. ¬

(¬1) انظر لأخبار هذه الفرقة: الفرق بين الفرق ص 240- 242. ومقالات الأشعري ح1 ص 98، والملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 177.

وهم مجموعة من الطوائف المختلفة الآراء بعضها معلن وبعضها مستتر، ويجمعهم هدف عام واحد وهو علو المذهب الاثنا عشري الجعفري الذي زعم الخميني أن أتباعه يبلغون 200 مليون شيعي، كان النواة الأولى فيها لمذهب التشيع هو الرسول وعلي بن أبي طالب وخديحة، حيث بدأ الرسول - حسب زعمه- يدعو للتشيع من نقطة الصفر (¬1) . 1- أسماؤهم وسبب تلك التسميات: للاثنا عشرية أسماء تطلق عليهم، بعضها من قبل مخالفيهم وبعضها من قبلهم هم، وهذه الأسماء هي: 1- الاثنا عشرية (¬2) . وسبب تسميتهم بها لاعتقادهم وقولهم بإمامة اثني عشر رجلاً من آل البيت، ثبتت إمامتهم -حسب زعمهم- بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد منهم يوصي بها لمن يليه. وأولهم: علي -رضي الله عنه- وآخرهم محمد بن الحسن العسكري المزعوم الذي اختفى في حدود سنة 260هـ، وسيعود بزعمهم ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويسير الخير بين الناس وافراً إلى آخر مزاعمهم الكثيرة، وفيه قال الشيرازي: ((كما تسمى الشيعة بالاثني عشرية لأنهم يعتقدون بإمامة الأئمة الاثني عشرية)) (¬3) . وهؤلاء الأئمة الاثنا عشر هم: ¬

(¬1) انظر كتاب ((ولاية الفقيه)) ص 136 - 137. (¬2) انظر الفرق الإسلامية ص 80، والأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 181. (¬3) قضية الشيعة ص4.

1. علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. 2. الحسن بن علي -رضي الله عنه-. 3. الحسين بن علي -رضي الله عنه-. 4. علي بن الحسين. 5. محمد بن علي بن الحسين الباقر. 6. جعفر بن محمد بن الحسين -أبو عبد الله- الصادق-. 7. موسى بن جعفر الكاظم. 8. علي بن موسى -الرضي-. 9. محمد بن علي -الجواد-. 10. علي بن محمد الهادي. 11. الحسن بن علي العسكري. 12. محمد بن الحسن العسكري الغائب الموهوم، كما يسميه الشيخ إحسان إلهي -رحمه الله تعالى -، ومن الملاحظ أن الشيعة الاثني عشرية حصروا الإمامة في أولاد الحسين بن علي دون أولاد الحسن -رضي الله عنهما-، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تزوج الحسين بن علي بنت ملك فارس يزدجرد، ومجيء علي بن الحسين منها. 2-الجعفرية: نسبة إلى جعفر بن محمد الصادق الذي بنوا مذهبهم في الفروع على

أقواله وآرائه -كما يزعمون- وهو بريء من أكاذيب الشيعة هذه، فإنهم يسندون إليه أقوالاً واعتقادات لا يقول بها من له أدنى بصيرة في الإسلام، فكيف به؟ وهذا الاسم من أحب الأسماء إليهم بخلاف تسميتهم بالرافضة، فإنهم يتأذون منه، وهم أحق بتسميتهم بالرافضة لا الجعفرية؛ لأنهم لا يعرفون مذهب جعفر الصادق، وإنما هي تخرصات جمعوها، وتلفيقات استحسنوها ثم نسبوها إليه (¬1) ، وأكثرها مما لا يرضي الله ورسوله، بل ولا يقوله عاقل ولا طالب علم يعرف الشريعة الإسلامية، ومع ذلك يتبجح الشيعة بانتسابهم إليه ظلماً وزوراً. يقول الخميني مفتخراً: نحن نفخر بأن مذهبنا جعفري ففقهنا هذا البحر المعطاء بلا حد، وهو من آثار جعفر الصادق (¬2) . ويقول الشيرازي: كما تسمى الشيعة بالجعفرية لأن الإمام جعفر بن محمد الصادق -ع- تمكن أن يوسع نشر الإسلام أصولاً وفروعاً وآداباً وأخلاقاً، وأما سائر الأئمة فلم يتمكنوا من ذلك لما كانوا يلاقونه من الاضطراب، كما في زمان علي والحسن والحسين. -ع-؛ والكبت والإرهاب من أيدي الخلفاء الأمويين والعباسيين. لكن الإمام الصادق -ع- حيث كان في زمن التصادم بين بني أمية وبني العباس اغتنم الموقف فرصة لنشر حقائق الإسلام بصورة واسعة، والشيعة أخذوا منه أكثر معالم الدين، ولذا نسبوا إليه (¬3) . ¬

(¬1) انظر مؤتمر النجف ص 101 من الخطوط العريضة. (¬2) الوصية الإلهية ص 5. (¬3) قضية الشيعة ص3.

3-الرافضة: الرافضة - أو الروافض- وهو اسم غير محبوب لديهم وقد سموا به، إما: 1- لأنهم رفضوا مناصرة زيد بن علي -كما تقدم -. 2- أو لرفضهم أئمتهم وغدرهم بهم. 3- أو لرفضهم الصحابة وإمامة الشيخين. 4- أو لرفضهم الدين (¬1) . 5- وهناك تعليل لبعض الشيعة وهو أنهم سموا بهذه التسمية من قبل خصومهم للتشفي منهم. ولكن توجد رواية في الكافي عن جعفر بن محمد أن الله هو الذي سماهم رافضة، وهذا ينقص ما زعموه أنهم لا يستحقون هذه التسمية. وكل تلك التعليلات غير الخامس تصدق عليهم. جاء في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبيه أنه قال: قلت لأبي -عبيد الله - جعفر_: جعلت فداك إنّا قد نبزنا نبزاً أثقل ظهورنا وماتت له أفئدتنا واستحلت به الولاة دماءنا قال: فقال أبو عبد الله -ع- الرافضة؟ قلت: نعم. قال لا والله ما هم سموكم به ولكن الله سماكم به (¬2) . 4-الإمامية: 1- إما نسبة إلى الإمام (الخليفة) لأنهم أكثروا من الاهتمام بالإمامة في تعاليمهم كما هو واقع بحوثهم. ¬

(¬1) قد سبق عزو هذه الأقوال. (¬2) انظر الشيعة والتشيع نقلاً عن الكافي - كتاب الروضة ص 34.

6- سبب انتشار مذهب الرافضة وأماكن انتشارهم

2- أو لزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي وأولاده. واختار هذا التعريف الشهرستاني (¬1) ، وهو التعريف الذي ذكره الشيرازي منهم حيث قال: وتسمى الشيعة بالإمامية لأنهم يعتقدون بإمامة علي -أمير المؤمنين- وأولاده الأحد عشر (¬2) 3- أو لانتظارهم إمام آخر الزمان الغائب المنتظر -كما يزعمون-. 5-الخاصة: وهذه التسمية هم أطلقوها على أنفسهم وأهل مذهبهم (¬3) . وقد ذكر العلماء كثيراً من الأمور التي شابه الشيعة اليهود فيها (¬4) ، ومن ذلك تسميتهم لأنفسهم الخاصة، ومن عداهم العامة كما فعلت اليهود حينما سموا أنفسهم -شعب الله المختار-، وسموا من عداهم- الجوييم أو الأمميين-وتوجد بينهم وبين اليهود مشابهات في أشياء كثيرة سنذكر بعضها بعد قليل. سبب انتشار مذهب الرافضة وأماكن انتشارهم: لقد انتشر هذا المذهب الرديء انتشاراً واسعاً، وسبب ذلك يعود -فيما يظهر لي- إلى أمور من أهمها: ¬

(¬1) الملل والنحل 1/62. (¬2) قضية الشيعة ص3. (¬3) انظر: الشيعة والتشيع ص271. (¬4) انظر (أوجه الشبه بين اليهود والرافضة في العقيدة) رسالة ما جستير للرحيلي، وانظر كتاب (رسالة في الرد على الرافضة) .

1- جهل كثير من المسلمين بحقيقة دينهم الإسلامي. 2- وإلى جهلهم بحقيقة مذهب الرافضة. 3- وإلى نشاط هؤلاء الروافض في نشره بشتى الوسائل. وقد اغتر بهم كثير من المسلمين متناسين أو جاهلين أنه لا فائدة للإسلام أو للمسلمين من شخص يدعي الإسلام ثم يلعن الصحابة ويكفرهم ويحكم عليهم بالردة، ويرى بأن القرآن فيه تحريف وزيادة ونقص، ثم ينتظر المهدي الذي يأتي ويسفك دماء أهل السنة بدون رحمة، كما قرروه في كتبهم تنفيساً عن أحقادهم عليهم. أهم الأماكن التي انتشر فيها هذا المذهب: 1- إيران: وهو المذهب الرسمي للدولة، وقد أعلن الخميني في دستورهم أن دين الدولة يقوم على المذهب الجعفري. 2- العراق. 3- الهند. 4- باكستان. وفي هذه البلدان أعداد منهم، وقد انبثوا في بقاع من سوريا ولبنان ودول الخليج، وكثير من البلدان الإسلامية مستغلين غفلة أهل السنة. ولم أثبت هنا أعدادهم في تلك البلدان لعدم اقتناعي بصحة تلك الأعداد التي تذكر عنهم؛ لما يحصل في الغالب من مغالطات في ذكر عدد نسبة السنة أو الشيعة في أي بلد لأغراض سياسية ودعائية.

7- فرق الاثنا عشرية

7- فرق الاثني عشرية وانقسامها: انقسمت الشيعة الاثنا عشرية إلى فرق كثيرة (¬1) ، من أهمها وأشدها خطراً وأكثرها نفوذاً وشوكة وتأثيراً في المجتمع الشيعي، ومن أشدها نشاطاً في دعوى ظهور المهدي: الشيخية والرشتية، بغض النظر عن الخلاف بينهم وبين الاثني عشرية. 1- الشيخية: قال الألوسي: وقد يقال لهم الأحمدية (¬2) ، وهي طائفة تنتسب إلى رجل يقال له الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي البحراني، المولود سنة 1166هـ، والمتوفى سنة 1243هـ، وهو شيخ ضال ملحد، له آراء كفرية وزندقة ظاهرة، ومهد السبيل بآرائه لظهور ملاحدة جاءوا بعده. وأما بالنسبة للشيعة فقد مجدوه، وذكروا له ألقاباً هائلة من التبجيل والتعظيم، فأطلقوا عليه -كذباً وزوراً- ترجمان الحكماء، لسان العرفاء، غرة الدهر، فيلسوف العصر ... إلخ. وقد عاش الإحسائي كاتباً ومدرساً في مدن الشيعة الهامة، مثل كربلاء وطوس وغيرهما من البلدان، ونشر أفكاره ومعتقداته الضالة، وكون له أتباعاً كان لهم أثر في قيام حركات أخرى كالبابية والبهائية. أهم معتقداته: 1- زعم أن الله -تعالى عن قوله- تجلى في علي وفي أولاده الأحد عشر، ¬

(¬1) عند الأشعري - 30- فرقة بالزبدية. وفي مختصر التحفة الاثنا عشرية أنهم - 39 - فرقة ص 21. (¬2) مختصر التحفة الاثنا عشرية ص 22.

2- الرشتية

وأنهم مظاهر الله، وأصحاب الصفات الإلهية، وهي عقيدة حلولية مستمدة من عقائد البراهمة وغلاة الصوفية. 2- أرجع وجود هذا الكون وما فيه إلى وجود الأئمة، وأنهم هم العلة المؤثرة في وجوده إذ لولاهم ما خلق الله شيئاً، وبمثل هذا قال الغلاة عبارتهم المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم - بما لا يرضاه-: ((لولاك لولاك..لما خلقت الأفلاك)) وهو غلو فاحش يجب التوبة منه. 3- وزعم في محمد بن الحسن العسكري المهدي المزعوم عند الشيعة مزاعم غريبة، منها أن المهدي المذكور يتجلى ويظهر في كل مكان في صورة رجل يكون هو المؤمن الكامل، أو الباب إلى المهدي، وتحل فيه روح المهدي، ثم ادعى لنفسه وجود هذه الصفة فيه، وضلل كثيراً ممن سار على شاكلته إلى أن هلك. 2- الرشتية: وبعد هلاك الشيخ أحمد الإحسائي قام بأمر الشيخية أحد تلامذته وخريجيه، ويسمى كاظم الحسنى الرشتي (¬1) سنة 1242هـ.. ونهج نفس المنهج والطريق التي عليها سلفه في كثير من المسائل، وخالفه في أخرى، إلا أنه زاد الطين بلة حين: إنه حل فيه روح الأبواب كما حل في الإحسائي، ولكن آن الأوان لانقطاع الأبواب ومجيء المهدي نفسه. ومن هنا بدأ يلتمس ظهور المهدي، وهو في الحقيقة إنما بحث عن صيد فوجده، حيث وقع اختياره على شخصية من تلاميذه ليجعل منه المهدي المنتظر بعد أن لمس أن هذه الدعوى يمكن أن تجد لها أتباعاً. ¬

(¬1) مختصر التحفة الإثنا عشرية ص 22.

وقد نشر الرشتي مذهبه الفاسد حتى صارت له أماكن كثيرة وأتباع كثيرون من شيعة إيران وعربستان وأذربيجان والكويت، وانتشرت أفكاره أيضاً في الهند وباكستان، وافتتحت فيهما مراكز كثيرة، وتأتيهم المساعدات من تلك الأماكن التي وصل انتشار الشيخية إليها. وهناك فرقة أخرى هي محل نظر في إلحاقها بالشيعة الاثني عشرية أو الصوفية، وتسمى النوربخشية نسبة إلى رجل يسمى محمد نور بخش القوهستاني المولود سنة 795 هـ (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر الشيعة والتشيع ص 307 - 314.

الفصل السابع إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للرافضة

الفصل السابع إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للرافضة للرافضة آراء اعتقادية كثيرة لا يتسع المقام هنا لبسطها، إلا أننا سنقتصر في دراستنا لآرائهم على أهم المسائل الاعتقادية عندهم، والتي كان لها أثر هام في تباعدهم عن هدي الكتاب والسنة، وطريقة أهل الحق، وسنقتصر على المسائل الآتية على سبيل الإيجاز: قصر استحقاق الخلافة في آل البيت. علي وذريته رضي الله عنهم، وأنها كانت بنص من النبي صلى الله عليه وسلم فيهم. 1. دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء. 2. تدينهم بالتقية. 3. دعواهم المهدية. 4. ودعواهم الرجعة. 5. موقفهم من القرآن الكريم. 6. موقفهم من الصحابة. 7. القول بالبداء على الله تعالى. وتوجد لهم آراء أخرى -كما ذكرنا- مثل دعوى النبوة في بعض من يتشيعون لهم ... ومثل القول بالتناسخ والحلول، وغير ذلك. وهذه الآراء

1- موقفهم من الخلافة والإمامة

- الظاهر سقوطها وبطلانها- توجد في فرقهم القديمة والحديثة، وقد تخرج بعض فرقهم عن رأي وتلتزم بآخر لايقل عنه سوءاً وضلالاً إلا من اعتدل منهم، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق وهم قليل. أولاً: موقفهم من الخلافة والإمامة: هذه القضية هي الشغل الشاغل لهم، وهي مركز بحوثهم، ومن أهم الأسس لعقيدتهم، وأكثر المسائل الفرعية ترجع إليها، وأهم ما يدور من الخلاف بينهم وبين أهل السنة، أو فيما بينهم إنما يدور حولها. ويعتبر الشيعة الإمامة وتسلسلها في آل البيت ركناً من أركان الإسلام، ويعتقدون أنها منصب ثبت من عند الله تعالى، يختار الله الإمام كما يختار الأنبياء والمرسلين. والاثنا عشرية يحصرونها في علي وفي أولاده، ولا يصححونها في غيرهم. وفيما يلي نستعرض أهم آرائهم فيها: 1- الإمام له صلة بالله تعالى من جنس الصلة التي للأنبياء والرسل (¬1) : روى الكليني عن أبي عبد الله أنه قال: ((أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة)) (¬2) . وفي هذا يروي الكليني في كتابه الكافي: ((أن الحسن بن العباس المعروفي ¬

(¬1) انظر الاضطراب إلى الحجة ص 128. وباب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ص 133. وباب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث ص 134 في الكافي ج1 للكليني. (¬2) الكافي ج1ص143.

كتب إلى الرضا يقول له: ((جعلت فداك، أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟)) . قال: فكتب أو قال: ((الفرق بين الرسول والنبي والإمام، أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى منامه نحو رؤيا إبراهيم، والنبي ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص)) (¬1) . أي أن الإمام- حسب هذا الكلام- يوحى إليه، وهذا خلاف ما يعتقده المسلمون من انقطاع الوحي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيعة -وهم يقررون أن رتبة الإمام لا يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل -كما ادعى الخميني في هذا العصر (¬2) -لا يمنعهم مانع من هذا الادعاء. 2- الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله: ((روى أبو حمزة قال: قال لي جعفر ع: إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً. قلت: جعلت فداك. فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل، وتصديق رسوله -ع- وموالاة علي -ع- والائتمام به وبأئمة الهدى ع، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم ... هكذا يعرف الله عز وجل)) (¬3) . ومن الذي أخبرهم أن معرفة الله لا تكفي بدون معرفة الإمام؟! ومتى ¬

(¬1) الكافي، كتاب الحجة ج1 ص134، وذكر روايات غيرها. (¬2) ولاية الفقيه ص 61. (¬3) الكافي ج1ص138.

كانت معرفة أهل البيت من أركان الإيمان بالله تعالى؟! 3- حرفوا معاني القرآن الكريم إلى هواهم في الأئمة، ومن ذلك: أ- تفسيرهم لقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} النور: الإمام علي والأئمة من بعده، كما فسره أبو عبد الله -حسب زعم الكليني (¬1) . ب- تفسيرهم لقول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ** وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} (¬2) الحسنة: معرفة الولاية وحب آل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغض آل البيت، كما فسرها علي بن أبي طالب لعبد الله الجدلي، كما يزعم الكليني (¬3) . ج- تفسيرهم لقول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬4) أي إمام يهديهم ابتداءً بعلي وانتهاءً بالمهدي (¬5) . إلى غير ذلك من الآيات التي فسروها بمثل هذه المعاني الباطلة في كتبهم المعتبرة، وأهمها الكافي. 4- زعموا في الأئمة أنهم هم الذين جمعوا القرآن كله كما أنزل (¬6) ولا ¬

(¬1) الكافي ج1ص150. (¬2) سورة النمل: 89، 90. (¬3) الكافي ج1ص142. (¬4) سورة الرعد: 7. (¬5) الكافي ج1ص148. (¬6) انظر باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام وأنهم يعلمون كله ((الكافي ج1 ص 178، أورد روايات وأحاديث كثيرة نسبها إلى أبي عبد الله وأبي جعفر)) .

يعترفون بغير ذلك، وجحدوا جهود الخليفة الراشد أبي بكر رضي الله عنه، وأبيِّ بن كعب، وغيرهما من خيار الصحابة رضي الله عنهم. 5- الأئمة عندهم اسم الله الأعظم (¬1) ، وعندهم الجفر وهو وعاء من أدم - فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، وعندهم مصحف فاطمة، وفيه مثل قرآننا ثلاث مرات، وليس فيه من قرآننا حرف واحد (¬2) ، وأن الأئمة لا يموتون إلا بمشيئتهم واختيارهم (¬3) . 6- وأن الإمام إذا مات لا يغسله إلا الإمام الذي يليه، وهو أكبر أولاده (¬4) . ومن خرافاتهم في خلق الإمام من الإمام ما يرويه يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله أنه قال: ((إن الله عز وجل، إذا أراد أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكاً وأخذ شربة من ماء تحت العرش، ثم أوقعها أو دفعها إلى الإمام فشربها، فيمكث في الرحم أربعين يوماً لا يسمع الكلام، ثم يسمع الكلام بعد ذلك. فإذا وضعته أمه بعث الله إليه ذلك الملك الذي أخذ الشربة فكتب على عضده الأيمن ((وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته)) . فإذا قام بهذا الأمر رفع الله له في كل بلدة مناراً ينظر به إلى أعمال العباد (¬5) . وهذا منتهى ¬

(¬1) الكافي ج 1 ص 178 باب ما أعطي الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم. (¬2) انظر كتاب الحجة من الكافي جـ1 صـ185 باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة ع والأحاديث كما يسمونها التي أوردها في هذا الغلوا الفاحش. (¬3) جـ1 صـ201. (¬4) جـ1 صـ315. (¬5) جـ1 صـ318.

الكذب فلا يعلم بأعمال العباد إلا الذي خلقهم، وهذا المنار المزعوم لا وجود له إلا في أذهانهم. وإذا كانت هذه الرواية في الكافي، فإن رواية أخرى هي أيضاً في نفس هذا الكتاب تناقض هذه الرواية حيث تقول: ((روى غير واحد من أصحابنا أنه قال -أي جميل بن دراج-: لا تتكلموا في الإمام فإن الإمام يسمع الكلام وهو في بطن أمه)) (¬1) . إلى آخر ترهاتهم ومبالغاتهم الباطلة في الأئمة. وجميع العقلاء -وعلى رأسهم أهل السنة- يعرفون أن الخليفة إنسان ككل الناس، يولد كما يولدون، ويعلم أو يجهل كما يعلمون ويجهلون، ليس له مزية إلا أن كفايته وأخلاقه جعلت الناس يختارونه لتنفيذ الأحكام فيما بينهم، فإذا جار وخرج عن حكم الله متعمداً فلا طاعة له. أما عند الشيعة فالخير ما فعله الإمام، والشر ما تركه أياً كان ذلك. ومعلوم أن عقيدتهم في الإمام تشل الفكر وتميته وتعطي للحاكم سلطة لا حد لها ولا حصر، فالعدل ما حكم به مطلقاً، والجور ما لم يحكم به بغض النظر عن صواب الحكم أو خطئه، فهم المشرعون وهم الحاكمون، والله عز وجل حين قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... } (¬2) لم يشمل تشريعات الأئمة حسب معتقد هؤلاء، حيث جاء هؤلاء الأئمة بتشريعات- حسب ما يروونه عنهم- لم يأت بها الشرع من قبل. والشيعة حين قصروا استحقاق الخلافة في علي رضي الله عنه وفي الأئمة من بعده تلمسوا لهم شبهاً كثيرة ودعاوى مردودة، على أن ما ذهبوا إليه هو ¬

(¬1) انظر: كتاب الحجة من الكافي 1/319. (¬2) سورة المائدة: 3.

الصواب كما يرون (¬1) . نذكر منها ما يلي: 1- قالوا: إن أمر الإمامة لا يحتمل عدم البيان، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث لرفع الخلاف، فلا يجوز أن يترك بيان الإمام الذي يليه إلى اختلافات الناس واجتهاداتهم (¬2) . 2- يستدلون ببعض الروايات الواردة في فضائل علي رضي الله عنه ومن ذلك: أ - ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) (¬3) . ب - ((أقضاكم علي)) (¬4) . ج - ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) (¬5) زاد الرافضة في الحديث ((إنه لا ينبغي أذهب إلا وأنت خليفتي)) (¬6) . 3- استدلوا ببعض الاستنباطات من وقائع يزعمون أنها كانت من النبي صلى الله عليه وسلم تشير إلى خلافة علي منها: أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على علي أحداً من الصحابة، فحيثما انفرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أو سفر كان هو الأمير (¬7) . ¬

(¬1) أدلتهم علي ذلك كثيرة جداً، حيث لفقوا عشرات الأحاديث في إثبات الوصية والخلافة في علي وأولاده كما فعل العاملي في كتابه المراجعات انظر من ص 239 إلى ص 246، وانظر بابا خاصاً في الوصة هو المراجعة رقم 86. (¬2) انظر فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب ص 163. (¬3) الكافي ج 1 233. (¬4) الملل والنحل ج1 ص 163. (¬5) صحيح البخاري جـ7 صـ71. (¬6) انظر: المراجعات صـ162 وانظر أضواء علي خطوط محب الدين العريضة لعبد الواحد الأنصاري صـ98. (¬7) الملل والنحل ج1 ص 163

ب- أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علياً بسورة براءة ليقرأها على الناس في الحج مع أن أمير الحج هو أبو بكر رضي الله عنه حينئذ، فأرجعه كما يزعم عبد الواحد الأنصاري (¬1) . والواقع أن فضائل الإمام علي مما يتباهى به أهل السنة، ويحرصون على ذكرها، إلا أنه ليس فيما ذكره الرافضة من الأخبار ما يدل صراحة على ما زعموه. فأما قولهم: إن أمر الإمامة لا يحتمل عدم البيان، وأن الرسول بيّنه -فصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّنه بمقدمات كثيرة، تدل على استخلافه لأبي بكر، وإن كان هناك خلاف بين أهل السنة هل بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم خلافة أبي بكر بالنص الصريح أو الإشارة، إلا أن أسعدهم بالدليل من قال إنها ثبتت بالنص والإشارة معاً. ومن ذلك ما جاء عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تقول الموت. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن لم تجديني فأت أبا بكر)) (¬2) . وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)) (¬3) . ¬

(¬1) أضواء علي خطوط محب الدين صـ95. (¬2) أخرجه البخاري ج 7 ص17، ومسلم ج4 ص 249. (¬3) أخرجه الترمذي ج 5 ص 609.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ((ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى: ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) (¬1) . وأحاديث أخرى كثيرة عرف منها الصحابة أحقية الصديق بالخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للشيعة في دفعها إلا الكذب والبهتان، وليس معهم أي دليل عن علي رضي الله عنه ثابت يدعي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على استخلافه، كما شهد بذلك المنصفون من الشيعة أنفسهم في كتبهم (¬2) . ولو قال علي ذلك لما كذبه أحد من الناس، وكان علي يعلم أن الخلافة ليست بالوراثة، وإنما تكون إذا اجتمع رأي أهل الحل والعقد من المسمين على اختيار من يتولى الخلافة، ثم تعقب ذلك المبايعة العامة في المسجد. وقد رد على من قال له: استخلف علينا -كما يرويه ابن كثير - فقال: لا، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن يرد الله بكم خيراً بجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3) . والشاهد في هذا النص أن علياً لم يذكر نصاً من الرسول صلى الله عليه وسلم على ولايته، وفيه شاهد أيضاً على اعترافه بفضل أبي بكر رضي الله عنه. ويزيد هذه الحقيقة وضوحاً ما ورد أن ابن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم طلب إلى علي أن يتحدث ويطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ليوصي لبني هاشم بالخلافة، أو يوصي بهم الناس فأبى علي ذلك وقال: ((إنا والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم ج5 ص 248. (¬2) انظر الشيعة والتصحيح للموسوي ص 19-20. (¬3) انظر البداية والنهاية ج 325. (¬4) البخاري 8/ 325.

وهذا يدل على بعد نظره وقوة فهمه رضي الله عنه، فلو كان يعلم نصاً في ذلك لما تردد في إعلانه، وقد دعت الضرورة إليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عنه، بل أعلن على منبر الكوفة أمام جمهور أتباعه أن الخلفاء الثلاثة من قبله هم أفضل هذه الأمة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميته)) . وعنه أنه قال نازل من المنبر)) ثم عثمان ثم عثمان)) (¬1) وحينما تمت مبايعة الحسن بعد استشهاد الإمام علي لم يذكر فيها تصريحاً ولا تلميحاً أن هناك نص من أبيه على مبايعته، وإنما كان أول من تقدم لمبايعته قيس بن سعد بن عبادة قائلا له: ((ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه)) فسكت الحسن فبايعه ثم بايعه الناس بعده (¬2) . ولو أن الحسن يعرف نصا على استخلافه لما جاز له ترك الخلافة ولا السكوت عن إخبار الصحابة به وإعلامهم بحقيقة الأمر ليخرج أقل ما يقال من إثم الكتمان، إذا أغفلنا النظر عن حقيقة هامة وهي أنه كان من الذين لا يخافون في الله لومة لائم. وإذا كان الحسن قد تنازل عن الخلافة لمصلحة المسلمين وحقن دمائهم، فإنه من الكذب أن يقال أنه أوصي للحسين من بعده، فكيف يوصي بها للحسين وقد تنازل عنها، وصارت حقاً لغيره، وإذا كان هو زهد عنها وكرهها، فكيف يرضاها لأحد من أهل بيته؟ ¬

(¬1) انظر البداية والنهاية جـ8، ص 13، 14. (¬2) انظر البداية والنهاية جـ8، ص 14.

وإذا كان تنازله عنها لحقن الدماء أفيوصي بسفكها بعد موته؟ إضافة إلى أنه لا يوجد لأحد من أهل البيت نص ثابت يدل على دعوى ثبوت الخلافة فيهم، لا عن الحسن، ولا عن الحسين، ولا عن غيرهما من أهل البيت لا فيهم، ولا في غيرهم، وقد وجد من المسلمين من كانت له ميول قوية في إسناد الخلافة إلى من يصلح من آل البيت خصوصاً حينما أسندت إلى بعض بني أمية الذين ما كانوا في المنزلة المرضية بمقارنة بعضهم بآل البيت، وتجلى ذلك كثيراً حينما تولى الخلافة يزيد مع وجود الحسين وغيره من كبار آل البيت. ثم ما كان لبعض الولاة من الأمويين من معاملة سيئة لبعض أهل البيت. إضافة إلى تلك الطريقة التي كان يتم بها نقل الخلافة دون اختيار ولا مشورة، ومع ذلك كله فإنه لم يزعم أحد من بني هاشم أن لديه أيّ نص من الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي يعطي له ولبنيه الحق في تولي هذا الأمر من بعده أو توارثه في أعقابهم ولا أعقاب أعقابهم، كما قرره علماء الشيعة. ومما لا شك فيه أن الأحداث السيئة التي تلاحقت بآل البيت خصوصاً استشهاد الحسين مما أثار في النفوس تعاطفاً قوياً نحو آل البيت، وقد ظهر هذا التعاطف في كثير من الأمور أنه كان لمصلحة بعض المغامرين الذين يتطلعون إلى تحقيق أهداف لهم، كما فعل المختار وغيره ممن تظاهر بالتشيع وحب أهل البيت ليصل إلى غرضه من أقرب الطرق. وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) فجوابه أن هذه الولاية لا تستلزم الولاية العامة بمعنى الإمارة. فقد وردت نصوص كثيرة فيها إثبات

موالاة المؤمنين بعضهم لبعض في كتاب الله تعالى وسنة نبيه، وأن المؤمنين أولياء لله، وأن الله وملائكته والمؤمنين موالي رسوله. كما أن الله ورسوله والذين آمنوا أولياء المؤمنين، وليس معناه أن من كان ولياً لآخر كان أميراً عليه دون غيره، وأنه يتصرف فيه دون سائر الناس، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬1) وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (¬2) {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3) . وولاية علي رضي الله عنه واجبة على كل أحد، من جنس موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً، فكل من كان الرسول صلى الله عليه وسلم مولاه فعلي مولاه ولا شك، فالذي لا يتولى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً لعلي رضي الله عنه، ولم يكن المراد من الحديث من كنت مولاه أي أميراً عليه فعلي مولاه أي أميراً عليه؛ لأن معناه لا يوحي بهذا. وأما استدلالهم بحديث: ((أقضاكم علي)) فالجواب أنه على فرض صحته ليس فيه نص على الخلافة لعلي، فإن معرفة الإنسان بشيء لا يلزم أن يكون هو المتولي له، فلا يلزم من معرفة الشخص للقضاء أن يكون هو الحاكم أو الخليفة للمسلمين. وصحيح أن معرفة القضاء أمر مهم في الحكم إلا أنه ليس من شرط الإمامة أن يكون أعلم الناس بالقضاء، وقد جاء في القرآن الكريم أن داود ¬

(¬1) سورة التوبة 71. (¬2) سورة محمد:11 (¬3) سورة التحريم: 4

عليه السلام كان هو الخليفة، ومع ذلك خفي عليه إصابة الحكم في بعض القضايا، وفهمها سليمان كما أخبر الله بذلك في قصة التحاكم في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم: {ففهمناها سليمان} (¬1) ولم يوجب هذا الموقف أن يكون سليمان هو الخليفة في عهد أبيه. ولو كان الحديث يؤدي إلى ما فهم الشيعة لوجب على الناس تغيير الحكام باستمرار كلما وجد شخص أعرف من غيره. وأما استدلالهم بحديث: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) . فالجواب أن هذا الحديث ليس فيه نص على إمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن هارون لم يكن هو خليفة موسى فقد مات قبله. وسبب الحديث يوضح مراد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن يتوجه إلى تبوك ترك علياً في المدينة للنظر في أمور المسلمين، فقال بعض المنافقين في المدينة: إنما خلف علياً لأنه يستثقله ولا يحبه. فلما علم علي بذلك أخذ سيفه ولحق بالرسول وهو نازل بالجرف (¬2) ، وأخبره بقول المنافقين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)) ، فبين له أن استخلافه على المدينة لم يكن لاستثقاله كما زعم أولئك، وإنما كان استخلافه كاستخلاف موسى لهارون حينما ذهب موسى لميقات ربه، ولم يستخلف موسى هارون بغضاً له أو استثقالاً، كما أن الحنان الذي كان بين موسى وهارون يوجد مثله بين الرسول صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) سورة الأنبياء: 79. (¬2) الجرف مكان معروف كان خارج المدينة علي المدينة علي طريق تبوك، والآن قربت المساكن في المدينة أن تتصل به، ولا يزال بهذه التسمية إلى الآن.

وعلي رضي الله عنه، وهذا بعيد عن الخلافة والولاية، وإنما هو من الرسول صلى الله عليه وسلم كهارون من موسى في الوصية له ووجوب احترامه ومعرفة فضله. وأما استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤمر على أبي بكر وعمر غيرهما من الصحابة، ولم يؤمر على علي أحداً. فجوابه: فجوابه: 1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ولّى أبا بكر أموراً كثيرة لم يشركه فيها أحد، مثل ولاية الحج والصلاة بالناس، وغير ذلك. 2- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، وخالد بن الوليد، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك ولاية أبي بكر في بعض الأمور لكونه ناقصاً عن هؤلاء. وقد ولى الرسول صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة كما ولى غيره في بعض أمره فلم ينفرد علي رضي الله عنه بالولاية. ربما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم ولايته في بعض الأمور لأن بقاءه عنده أنفع له منه في تلك الولاية، وحاجته إليه في المقام عنده وغناه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في الولاية. وأما إرساله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بسورة براءة فلم يكن ذلك لرد أبي بكر عن ولاية الحج، ولكن أردفه لينبذ إلى المشركين عهدهم، وقد كانت عادتهم ألا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع المسؤول العام، أو رجل من أهل بيته فقط، وعلي له هذه القرابة. وأيضاً كان علي يصلي خلف أبي بكر كسائر أهل الحج. ومن قال: إن

2- دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء

الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل علياً لرد أبي بكر عن إمارة الحج فقد كذب باتفاق أهل العلم، فإن المهمة التي كلف بها عليّ إنما هي تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في إخبار المشركين بنبذ العهد الذي بينهم وبين المسلمين كما أمر الله تعالى (¬1) . ثانياً: دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء: هذه إحدى خرافات الشيعة في أئمتهم فقد ادعوا عصمتهم من كل الذنوب والخطايا، الصغائر والكبائر، لا خطأ ولا نسياناً منذ طفولتهم إلى نهاية حياتهم وجوباً لا شك فيه. سبب ذلك: وعند البحث عن سبب هذا الاعتقاد الذي جعلهم ينزلون أئمتهم هذه المنزلة المستحيلة، نجد أن الذي حملهم على ذلك هو أن العصمة عندهم شرط من شروط الإمامة (¬2) ، ثم رفعوا أئمتهم وغلوا فيهم غلواً فاحشاً إلى أن اعتبروهم أفضل من الأنبياء، لأنهم نواب أفضل الأنبياء (¬3) . ثم زادوا فادعوا لهم أنهم يعلمون الغيب (¬4) ، وأن جزءاً إلهياً حل فيهم وإذا كان الأمر كذلك فالعصمة أمر طبيعي أن توجد فيهم. ¬

(¬1) انظر كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. ص 87، ومن ص92 إلى ص 94، وص 221، ومن ص 84 إلى ص 87. (¬2) كما نص على ذلك الطوسي في كتاب الغيبة ص 3/4. (¬3) مختصر التحفة الإثني عشرية ص 284. (¬4) انظر كتاب الحجة من الكافي ونصه: ((باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفي عليهم شيء صلوات الله عليهم جـ1 صـ203 لترى الغلو في الأحاديث التي أوردها وسماها أحاديث أيضاً، وانظر أيضاً باب نادر فيه ذكر الغيب ص 200 ج1 لترى النصوص علي أن الأئمة يعلمون الغيب.

إضافة إلى ذلك قالوا: إن تنصيب الإمام إنما شرع من أجل جواز الخطأ على غير الأئمة، فلو جاز الخطأ على الإمام وهو الهادي إلى الحق لاحتجنا إلى هاد آخر، وهذا الهادي يمكن أن يلحقه الخطأ فيحتاج إلى هاد آخر، وهكذا فيلزم التسلسل فقطعاً للتسلسل ينبغي أن يكون كل إمام من أولئك معصوماً في وقته - حسب زعمهم- حتى يؤمن على حفظ الشريعة، وإلا احتجنا إلى حافظ آخر، إذ كيف يؤتمن على الشريعة شخص معرض للخطأ (¬1) . كذلك من الأسباب أيضاً في استنادهم في القول بعصمتهم إلى ما يزعمونه من النصوص عن أئمتهم، فقد نقل الكليني -فيما يكذب الشيعة على آل البيت- أن جعفر الصادق قال: ((نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا.. نحن حجة الله البالغة على من دون السماء وفوق الأرض)) . وفي رواية أنه قال لرجل اسمه سدير حين سأله بقوله: جعلت فداك، ما أنتم؟ قال: نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض (¬2) . وادعاء الشيعة لأئمتهم علم الجفر هو غلو آخر منهم، وهو عبارة عن العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر والمحتوي على كل ما كان وما يكون كلياً وجزئياً، وأنه علم يتوارثه أهل البيت ومن ينتمي إليهم، ويأخذ منهم المشائخ الكاملون، وكانوا يكتمونه كل الكتمان. ¬

(¬1) انظر كتاب الغيبة ص 15. (¬2) الكافي، كتاب الحجة ج1 ص 149.

ويذكر الجرجاني أن الجفر والجامعة كتابان ذكر فيهما على طريقة الحروف والحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم كما يدعي هؤلاء الغلاة. وقيل: إن الجفر كتاب وضعه جعفر الصادق، وهو مكتوب على جلد الجفر لأخبار أهل البيت. وقال ابن خلدون: إن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه، لأن الجفر في اللغة هو الصغير، وهذا لا شك من الكذب الذي اختلقه غلاة الشيعة في أئمتهم، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، ولم يكتب الله لأحد علم المغيبات. ولقد جاء الكليني بالغرائب عن أبي عبد الله تحت باب سماه هكذا: ((باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام)) (¬1) حيث عرَّف بالصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة في حديثه الآتي: ((عدة من أصحابنا ... عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله فقلت له: جعلت فداك، إني أسألك عن مسألة، ههنا أحد حتى يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد الله ((ع)) ستراً بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه، ثم قال: يا أبا محمد، سل عما بدا لك، قال: قلت: جعلت فداك، إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم علياً باباً يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: يا أبا محمد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ((ع)) ألف باب، يفتح من كل باب ألف باب. قال: قلت: هذا والله العلم. ¬

(¬1) المصدر السابق صـ 184

قال: فنكت ساعة في الأرض، ثم قال: إنه لعلم، وما هو بذلك. قال: ثم قال: يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله، وإملائه من فلق فمه، وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش. وضرب بيده إلي وقال: أتأذن لي يا أبا محمد؟ قال: جعلت فداك، إنما أنا لك فاصنع ما شئت. قال: فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا، كأنه مغضب. قال: قلت: وهذا والله العلم. قال: إنه لعلم وليس بذاك. ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني اسرائيل. قال: قلت: إن هذا هو العلم. قال: إنه لعلم، وليس بذاك. ثم سكت ساعة. ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة (ع) ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة (ع) قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم

حرف واحد. قال: قلت: هذا والله العلم. قال: إنه لعلم، وما هو بذاك. ثم سكت ساعة، ثم قال: إن عندنا علم ما كان، وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. قال: قلت: جعلت فداك. هذا والله هو العلم. قال: إنه لعلم، وليس بذاك. قال: قلت: جعل فداك، فأي شيء العلم؟ قال: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر بعد الأمر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة (¬1) . ثم أورد روايات أخرى كثيرة، ولا نملك إزاء هذه الخرافات إلا أن نقول: {سبحانك هذا بهتان عظيم} (¬2) . ولا تستغرب أيها القارئ الكريم حين يتحدثون ويكذبون على أبي عبد الله، فقد كذبوا حتى على حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم عفير، حيث أورد الكليني في ذلك رواية طويلة قال في آخرها: إن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم عفير كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي، إن أبي حدثني عن أبيه، عن جده، عن أبيه أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله، ثم قال يخرج من صلب هذا الحمار، حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم ... فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار. ¬الكافي ص 184.) ¬

(¬1) الكافي 1/ 185. (¬2) سورة النور: 16.

وكانت نهاية هذا الحمار فيما يذكر الكليني أنه حين مات الرسول صلى الله عليه وسلم قطع الحمار خطامه، ثم فر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها، فكانت قبره. إنهم لا يتورعون عن الحديث حتى على الحيوانات فما بالك بأئمتهم؟ ومن كلام الخميني -وهو أحد أئمتهم في هذا العصر- قوله عن هذه الخرافة: ((نحن نفخر بأن أئمتنا هم الأئمة المعصومون، بدءاً من علي بن أبي طالب وختماً بمنقذ البشرية الإمام المهدي صاحب الزمان، عليه وعلى آبائه التحية والسلام، وهو بمشيئة الله القدير حي يراقب الأمور)) (¬1) . وقد أعان الله على الكاذب بالنسيان -كما يقال- إذ توجد لهم روايات في كتبهم يخبرون فيها عن بعض أهل البيت من الأئمة، وفيها اتهامات لهم وذم في مقابل ذلك الغلو فيهم فيصفونهم أحياناً بقلة العلم، وأحياناً أخرى بالغفلة والتناقص في أفكارهم أيضاً؛ بل ويصفونهم بصفات شنيعة مما يكذب هذه العلامات والشروط التي تصوروا وقوعها في كل إمام من أئمتهم. قال الطوسي في ذم جعفر بن علي بعد سباب كثير له قال فيه: ((وما روي فيه وله من الأقوال والأفعال الشنيعة أكثر من أن تحصى ننزه كتابنا عن ذلك)) (¬2) . ثم انظر تفضيل الخميني لإيران في عصره على الحجاز في عصر ¬

(¬1) الوصية الإلهية للخميني ص 5 (¬2) كتاب الغيبة ص 137.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الكوفة والعراق في عهد علي رضي الله عنه، حيث قال: ((إنني أقولها بجرأة: إن شعب إيران بجماهيره المليونية في العصر الحاضر هو أفضل من شعب الحجاز، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعب الكوفة والعراق على عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي)) (¬1) . إبطال ما ادعته الشيعة من عصمة أئمتهم: أما اعتقادهم خوف وقوع الخطأ من الإمام لو لم يكن معصوماً، فإنه من المعلوم عند الناس أن المقصود من تنصيب الإمام هو تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد، وحفظ الأمن والنظر في مصالح العامة وغير ذلك، وليس من شرط بقائه في الحكم أن يكون معصوماً. ولم يطالبه الشرع بإصابة عين الحق حتما في كل قضية، وإنما المطلوب منه أن يتحرى العدل بقدر الإمكان، ولا مانع بعد ذلك أن يخطئ ويصيب كبقية الناس. وادعاؤهم أنه لا يجوز عليه الخطأ يكذبه العقل والواقع. وكذلك زعمهم أنه لا بد من إمام معصوم للناس، فإنه لا يكفي إمام واحد فإن البلدان متباعدة، ووجود إمام واحد في كل عصر لا يكفي للجميع، فوجب إذاً أن يكون في كل بلد إمام معصوم يباشر الحكم بنفسه وإلا هلك الناس، ولا يجوز له أن ينيب أحداً مكانه لجواز الخطأ عليه، وفي هذا من العنت ما لا خفاء فيه. ولو طلب من هؤلاء الشيعة الذين يدّعون عصمة أئمتهم أن يأتوا بدليل واحد من القرآن أو السنة النبوية أو عن الصحابة، أو عن إجماع الأمة لما ¬

(¬1) الوصية الإلهية ص 16.

استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، إذ القرآن الكريم لم يصرح بعصمة أحد، بل أثبت أن المعصية من شأن الإنسان، فإنه قد صدرت من آدم الذي هو أبو البشر، وأخبر عن موسى بأنه قتل، وعن يونس أنه ذهب مغاضباً. وفيه عتاب من الله تعالى لبعض أنبيائه ورسله بسبب تصرفات صدرت منهم. وورد في السنة النبوية ما يشير إلى ذلك في وقائع صدرت من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (¬1) ، وما ورد في عتابه عن أخذهم الفداء من أسارى معركة بدر، وغير ذلك مما هو معروف في الكتاب والسنة وأقوال علماء الإسلام. ومن العجيب أنه قد صدح كل الأئمة بعدم عصمتهم في كثير من المناسبات، ثم يروي الشيعة بعض ذلك في كتبهم، ثم لا يأخذون بها. روى الكليني في باب التسليم على النساء، عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره التسليم على الشابة منهن ويقول: ((أتخوف أن يعجبني صوتها، فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر)) (¬2) . وكان يقول لأصحابه: ((لا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل فإني لست آمن أن أخطئ)) (¬3) . ورووا كذلك أن الحسين بن عليّ بن أبي طالب كان يبدي الكراهية من صلح أخيه الحسن مع معاوية، ويقول: ((لو جز أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي)) (¬4) . ¬

(¬1) سورة التوبة: 43. (¬2) الكافي ج2 ص 473 ولو كان علي يدعي العصمة لنفسه كما يزعم جهال الشيعة لما خاف الإثم (¬3) انظر مختصر التحفة الإثني عشرية ص121 (¬4) المصدر السابق، نفشس الجزء والصفحة.

3- تدينهم بالتقية

ومن المعلوم أنه إذا خطأ أحد المعصومين الآخر ثبت خطأ أحدهما بالضرورة، فأين العصمة بعد ذلك؟ ثم أن دعوى عصمة أحد من الناس -إلا ما ورد فيه الخلاف في عصمة الأنبياء- دعوى تعارض الطبيعة البشرية المركبة من الشهوات، كما أنه لا يمدح الإنسان لأنه معصوم، بل يمدح لأنه يجاهد نفسه على فعل الخير كما أخبر الله بذلك في أكثر من موضع من كتابه الكريم. ولهذا رتب الله الجزاء على حسب قيام الشخص بما كلفه الله به، وأعطاه القدرة والإرادة ليكون بعد ذلك طائعاً أو عاصياً، فاعلاً أو تاركاً، ولو عصم الله من المعاصي أحداً -غير الأنبياء- لما كان للتكليف معنى، بل حتى الأنبياء كلفهم الله تعالى ولم يرفع الله عن أحد التكليف وامتثال أمره ونهيه، ما دام الشخص في كامل عقله وصحته، ولو لم يكن الإنسان محلاً للطاعة والعصيان لما كان للتكليف معنى. ثالثاً: تدينهم بالتقية: التقية في اللغة يراد بها الحذر. يقال توقَّيت الشيء أي حذرته. والتقية في مفهوم الشيعة معناها أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن. أي أن معناها النفاق والكذب والمراوغة والبراعة في خداع الناس، لا التقية التي أباحها الله للمضطر المكره (¬1) . وقد ذمهم في هذا الموقف بعض علمائهم الذين يحبون الإنصاف، فهذا الدكتور موسى الموسوى يقول: ¬

(¬1) انظر الخطوط العريضة ص7، الشيعة في الميزان ص 86، الشيعة وتحريف القرآن ص 36.

((لقد أراد بعض علمائنا -رحمهم الله- أن يدافعوا عن التقية، ولكن التقية التي يتحدث عنها علماء الشيعة وأمْلَتْها عليها بعض زعاماتها هي ليست بهذا المعنى إطلاقا، إنها تعني أن تقول شيئاً وتضمر شيئاً آخر، أو تقوم بعمل عبادي أمام سائر الفرق وأنت لا تعتقد به، ثم تؤديه بالصورة التي تعتقد به في بيتك)) (¬1) . ونجد مصداق هذا في أصح الكتب عندهم حيث يروي الكليني عن أبي عبد الله أنه قال: ((خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية)) (¬2) . وللتقية عند الشيعة مكانة مرموقة، ومنزلة عظيمة فقد اعتبروها -على حسب المفهوم السابق عندهم- أصلاً من أصول دينهم لا يسع أحداً الخروج عنها، وقد بحثوها في كتبهم كثيراً، وبينوا أحكامها وما ينال الشخص من الثواب الذي لا يعد ولا يحصى ولا يصدق لمن عمل بها، وعامل الناس بموجبها فخدعهم وموه عليهم، وكم تأثر الناس وانخدعوا بحيل هؤلاء الذين جعلوا التقية مطية لهم. ولبيان منزلة التقية عند الشيعة نورد الأمثلة التالية: 1- التقية أساس الدين، من لا يقول بها فلا دين له. روى الكليني عن محمد بن خلاد قال: سألت أبا الحسن (ع) عن القيام للولاء فقال: قال أبو جعفر (ع) : ((التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له)) (¬3) . وفيما يرويه عن أبي عبد الله أنه قال لأبي عمر الأعجمي: ((يا أبا عمر، إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له)) (¬4) ¬

(¬1) انظر الشيعة والتصحيح ص 52. (¬2) الكافي ج1ص175 (¬3) المصدر السابق ج2 ص 174. (¬4) المصدر السابق ج2 ص 172.

بل وصل اعتناؤهم بالتقية إلى حد تأويل الآيات عليها، مثل قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} (¬1) قال أبو عبد الله -كما زعم الكليني-: ((الحسنة: التقية: والسيئة: الإذاعة)) (¬2) . 2- اعتقدوا أن التقية عز للدين، ونشره ذل له. كما روى الكليني عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله: ((يا سليمان، إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله)) (¬3) ولا شك أن هذا قلب للحقائق، فإن الله عز وجل طلب من الناس جميعاً نشر العلم وبيانه. وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬4) ، وقال الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬5) . وقد امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه فلم يكتم من العلم شيئاً، بل وطلب إلى أمته أن ينشروا العلم بكل وسيلة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) (¬6) ، وقال: ((نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع)) (¬7) . ¬

(¬1) سورة فصلت: 34. (¬2) المصدر السابق ج2 ص 173. (¬3) المصدر السابق ج2 ص 176. (¬4) سورة المائدة: 67 (¬5) سورة الحجر:94 (¬6) صحيح البخاري ج 6 ص 496. (¬7) لهذا الحديث طرق كثيرة إستوعبها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه ((دراسة حديث ((نضر الله امراء سمع مقالتي)) .

وقد أثنى الله في كتابه الكريم على الصادقين الشجعان الذين لا يخافون في الله لومة لائم، فقال عز وجل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} (¬1) وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (¬2) كما ذم الله تعالى المنافقين المخادعين للناس فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (¬3) وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (¬4) . وليس من هدي الإسلام استحلال الكذب على طريقة الشيعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله عند الله صديقاً. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) (¬5) . ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 39 (¬2) سورة الأحزاب:23 - 24 (¬3) سورة المنافقون:1 (¬4) سورة البقرة:14 (¬5) صحيح مسلم ج4 ص 2013.

3- جعل الشيعة ترك التقية مثل ترك الصلاة تماماً. قال القمي: ((التقية واجبة، من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة)) (¬1) . وهذا من أغرب الأقوال، فإن التقية رخصة جعلها الله في حالة الضرورة القصوى، بشرط أن لا يشرح بالكفر صدراً فكيف يعاقب من تركها، بل قال البغوي: ((والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} (¬2) ، ثم هذا رخصة! فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم (¬3) . 4- حدد الشيعة لجواز ترك التقية بخروج القائم من آل محمد (المهدي المنتظر) . قال القمي: ((التقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج على دين الله تعالى، وعن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة)) (¬4) . والحقيقة أن من تركها لا يخرج إلا عن دين الإمامية فقط وعن خرافاتها. 5- حرفوا معاني الآيات إلى ما يوافق هواهم، وكذبوا على آل البيت. قال القمي: ((وقد سئل الصادق عليه والسلام عن قول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬5) قال: أعلمكم بالتقية)) (¬6) ، أي على هذا التفسير أكرمكم هو أكذبكم على الناس. ¬

(¬1) نقلا عن الشيعة والسنة ص 157، عن الاعتقادات، فصل التقية للقمي. (¬2) سورة النحل: 106 (¬3) تفسير البغوي ج1 ص 292. (¬4) الشيعة والسنة ص 157. (¬5) سورة الحجرات: 13. (¬6) الشيعة والسنة ص 157. نقلا عن كتاب الاعتقادات للقمي.

6- زعم الشيعة أن المعيار الصحيح لمعرفة الشيعي من غيره هو الاعتقاد بالتقية، وينسبون إلى الأئمة المعصومين- في زعمهم- أنهم هم الذين قالوا هذا الكلام. فقد رووا عن الحسين بن علي بن أبي طالب الإمام الثالث أنه قال: ((لولا التقية ما عرف ولينا من عدونا)) (¬1) . ومعنى هذا أن معرفة خداع الناس، والمبالغة فيه هو الذي يميز الشيعة عن غيرهم. 7- ساوى الشيعة بين التقية وبين الذنوب التي لا يغفرها الله كالشرك. فرووا عن عليّ بن الحسين الإمام الرابع أنه قال: ((يغفر الله للمؤمن كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين، ترك التقية، وترك حقوق الإخوان)) (¬2) . ولكن الله تعالى قد قال: {إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬3) وهذه المواقف للشيعة تجعل من الصعوبة بمكان التفاهم المخلص بينهم وبين المخالفين لهم -خصوصاً أهل السنة- وذلك أن الشيعي إذا رأى أنه في موقف الضعف لجأ إلى التقية، وفي هذه الحال له من الأجر الذي قدّره الشيعة ¬

(¬1) الشيعة والسنة ص 157. نقلا عن كتاب الاعتقادات للقمي. (¬2) المصدر السابق ص 185. (¬3) النساء: من الآية 116

ما يعادل مصافحته لعلي رضي الله عنه أو الصلاة خلف نبي من الأنبياء (¬1) كما افتروا على الله وعلى رسوله. وأقرب مثال على عدم حصول التفاهم تلك المحاولات التي قامت للتقريب بين الشيعة وأهل السنة، ثم خابت الآمال وتيقن أهل السنة أنه لا وفاء ولا إخلاص ولا صدق عند أولئك الذين يتعبدون الله بالتقية. أسباب قول الشيعة بالتقية: اختلفت كلمة الشيعة في الأسباب الحاملة لهم على التمسك بالتقية واعتبارها أساساً في الدين، وفيما يلي نوجز أهم ما قيل فيها: 1- قالت طائفة: إن التقية تجب للحفاظ على النفس أو العرض أو المال أو الإخوان. 2- وقالت طائفة: إن التقية تجب لأنها فضيلة، والفضائل يجب التحلي بها، وسواء كانت التقية للحفاظ على النفس أو لغير ذلك فهي واجبة في نفسها، وصاحبها أعرف بحاله، بينما روى الكليني عن أبي جعفر أنه قال: ((التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه الله له)) (¬2) . 3- والحق أنهم أوجبوا التقية لظروف أحاطت بهم، ورأوا أن لا خلاص لهم إلا بالاتكاء على دعوى التقية. ومن ذلك: أ- أنهم وقفوا على أقوال متضاربة عن الأئمة المعصومين عندهم ¬

(¬1) انظر مختصر التحفة الإثني عشرية ص 290. (¬2) الكافي ج2 ص 175.

يختلفون في الشيء الواحد، وتتناقض فيه أقوالهم دون أن يجدوا مبرراً لذلك التناقض؛ فخرجوا من ذلك بدعوى أن ذلك الكلام صدر من الأئمة على سبيل التقية. وهذه الأقوال أكثرها من أكاذيب رواتهم، ليست من الأئمة الذين عرفوا بالشجاعة والصراحة، كما صرح بذلك أحد علماء الشيعة المنصفين (¬1) . ب- ومنها ما وجدوه من كلام الأئمة في مدح الصحابة الذين تبرأ منهم الشيعة ويعتبرونهم كفاراً، فزعموا أن ذلك المدح إنما كان تقية. ومهما كان، فإن التقية التي يراها الشيعة لا يجوز اعتقادها في الإسلام لأنها قائمة على الكذب والخداع. وما رووه عن الأئمة وأنهم كانوا يلجؤون إليها كذب، بل كذَّبوا أنفسهم بأنفسهم حيث يذكرون روايات كثيرة لأناس سألوا بعض الأئمة المعصومين -حسب زعمهم- عن مسائل فأجابوا فيها بجواب، ثم سألوهم بعد مدة فأجابوا فيها بجواب آخر دون أن يوجد أي داع للتقية لصدور تلك الإجابات المختلفة من إمام واحد عن مسألة واحدة بين خاصة الإمام وشيعته وأنصاره كما صرحت بهذا مصادرهم ... وهذا اعتراف منهم بأن الأئمة لا يلجؤون إلى التقية بسبب الخوف وإنما هو بسبب الجهل، ولا شك أن هذا طعن شنيع في أولئك الذين يدعون عصمتهم. فانظر إلى ما أورده النوبختي عن عمر بن رباح، وما أورده عنه أيضاً الكشّي في رجاله أنه سأل أبا جعفر (ع) عن مسألة فأجاب فيها بجواب، ثم ¬

(¬1) الشيعة والتصحيح ص 58.

عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجاب فيها بخلاف الجواب الأول فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية فشكك في أمره وإمامته. فلقي رجلاً من أصحاب أبي جعفر يقال له محمد بن قيس فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب، ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: فعلته للتقية: وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به، فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي. فقال محمد بن قيس: فلعلّه حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري، لا، ولكن جوابيه جميعاً خرجا على وجه التبخيت ولم يحفظ ما أجاب به العام الماضي فيجيب بمثله، فرجع عن إمامته وقال: ((لا يكون إماماً من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال، ولا يكون إماماً من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله)) (¬1) . وما أحسن ما أجاب به سليمان بن جرير الشيعي عن تخليط الشيعة في تمسكهم بالتقية ليجعلوها مخرجاً لأكاذيبهم على أئمتهم، حيث قال كما يرويه عنه النوبختي، وهو من كبار علماء الشيعة: ((إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معها من أئمتهم على كذب أبداً، وهما القول بالبداء، وإجازة التقية. فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا ¬

(¬1) فرق الشيعة ص 80، 81.

لشيعتهم: إنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون. فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم بدا الله في ذلك بكونه. وأما التقية، فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوا فيها، وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودوّنوه، ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة بتقادم العهد وتفاوت الأوقات، لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد، ولا شهر واحد بل في سنين متباعدة وأشهر متباينة وأوقات متفرقة. فوقع في أيديهم في المسألة الواحد عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه، وأنكروا عليهم، فقالوا: من أين هذا الاختلاف وكيف جاز ذلك؟ قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا لأن ذلك إلينا، ونحن أعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم، فمتى يظهر من هؤلاء على كذب؟ ومتى يعرف لهم حق من باطل)) (¬1) . ولا شك أن هذه الصراحة تامة وشهادة على الشيعة منهم، وهذا التخليط إنما هو إفك علمائهم لا من الأئمة الذين ينتسبون إليهم مثل جعفر الصادق وغيره، وقد حاول محمد صادق آل بحر العلوم المعلق على كتاب النوبختي ¬

(¬1) انظر فرق الشيعة للنوبختي ص 85-87.

إيجاد مبررات ورد لهذا القول، لكنها مبررات واعتذارات مثل بيت العنكبوت. أدلة الشيعة على جواز التقية: تلمس الشيعة لمبدأ التقية بمفهوم لها نصوصاً حمَّلوها ما لم تحتمله من المعاني التي يعتقدون أنها تؤيد ما يذهبون إليه. ومن تلك الأدلة التي تمسكوا بها ما ذكره بحر العلوم في تعليقه على فرق الشيعة للنوبختي بقوله: ((التقية مما دل على وجوبه العقل إذا كانت لدفع الضرر الواجب، وقد دل عليه أيضاً القرآن العظيم، ثم نقل عن الطبرسي بعض الآيات يحتج بها (¬1) : 1- قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬2) . 2- قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} (¬3) 3- قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (¬4) . 4- قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} (¬5) . وفي هذا يقول محمد مهدي الحسيني الشيرازي عن الشيعة: وهم يرون التقية لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (¬6) . ¬

(¬1) انظر فرق الشيعة تعليق ص 85-86. وانظر الكافي ج 2 ص 172. (¬2) سورة البقرة: 195 (¬3) سورة الصافات:88 (¬4) سورة آل عمران: 28 (¬5) سورة النحل: 106 (¬6) قضية الشيعة ص 6. والآية من سورة آل عمران: 28.

والواقع أن استدلالهم بهذه الآيات على التقية التي يرونها استلال خاطئ وهذه الآيات وآيات أخرى كثيرة ليس فيها دلالة للشيعة على التقية التي هي بمعنى الكذب واستحلاله، بل تشير إلى جواز التورية في ظاهر الكلام إذا لزمت الضرورة، كقول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} (¬1) أي من عملكم وعبادتكم للأوثان، وليس هو من الكذب بل فيه تعريض لمقصد شرعي كما يذكر العلماء (¬2) وهو تكسير آلهتهم بعد ذهابهم عنها. وأما الاستدلال بالآية: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) فإن معناها الأمر بالاتقاء من الكفار. قال البغوي: ((ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان؛ دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يظهر الكفار على عورات المسلمين)) (¬3) . وأما الآية {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} أي إلا من كان حاله مشرفاً على الخطر، واضطر إلى القول بالكفر فله أن يتقول به من غير أن يعتقد ويعمل به، بل يقول ما فيه تورية ومعاريض مع طمأنينة قلبه بالإيمان، وبحيث لا يشرح صدور الكفار بالمدح الظاهر لهم ولديانتهم، وإنما يلجأ إلى المعاريض التي ¬

(¬1) سورة الصافات 89. (¬2) انظر تفسير القرآن العظيم ج4 ص13. (¬3) انظر تفسير البغوي ج1 ص 292.

يكون فيها صادقاً، ولا تؤثر في دينه، كأن يقول لهم إنكم على معرفة، وعندكم تقدم ظاهر، قصوركم عالية وبساتينكم مثمرة، ويريد به أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون)) . قال ابن جرير في معنى الآية، بعد أن ذكر أنها نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه: ((فتأويل الكلام إذن، من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره على الكفر، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح على عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) (¬1) . ومن الجدير بالذكر أن هذه التقية الشيعية الباطلة لم يقصروها على الناس فقط بل جوزوها حتى على الأنبياء، وهذا خطأ وخلاف الحق، فإن الأنبياء لا يسلكون التقية التي يريدها الشيعة، ولا تجوز أبداً، فالكذب لا يجوز عليهم، وكتمان الحق وإظهار الموافقة للكفار كذلك لا يجوز لهم، وإلا لما انتشرت دعوتهم، ولما ظهر الخلاف بينهم ويبن أقوامهم، ولما حصل عليهم من المتاعب والأخطار ما حصل مما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم مما لم يكن ليقع أبداً لو استعمل الأنبياء التقية الشيعية المملوءة جبناً ونفاقاً، وحاشا أن يسلكوا ذلك. وقد يقول بعض الشيعة في احتجاجهم بالسنة: إننا نجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يلين القول ويبتسم في وجوه بعض الفسقة والظلمة، وهذا كما يرى هؤلاء تقية. ¬

(¬1) انظر جامع البيان ج14 ص182

والواقع أن هذه الأفعال التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت من باب المداراة، ومن باب حسن الخلق وتأليف القلوب، مع أنه حصل مثل هذه المواقف لأناس ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف من جانبهم شيئاً حتى يقال إنها تقية منه لهم، ثم لم تكن هذه المداراة في أمور الدين إذ لم يعرف عن أحد من الأنبياء أنه دارى أحداً في دينه، وإنما هو حسن الخلق ومقابلة الناس بالبشر مع تألفهم لأقوامهم، ولا ينافي هذا أن يقع في القلب كراهية ما هم عليه من فجور مع محبة الخير لهم وإرشادهم إليه وبذل النصح لهم بصدق وإخلاص. وفي مختصر التحفة الاثني عشرية فوائد في هذا المعنى، ارجع إليها إن أحببت الزيادة (¬1) . وفي الختام نود التنبيه إلى أن ما ينسبه الشيعة إلى علي رضي الله عنه من قوله بالتقية -غير صحيح بروايات الشيعة أنفسهم وتناقضهم من حيث لا يعلمون. شأن كل باطل: فقد رووا في كتبهم أن علياً كان يهدد عمر في مواقف كثيرة، بل ويصل أحياناً إلى الضرب والإهانة ورفع الصوت فيما يزعمون، وأن علياً لو شاء لخسف بعمر وبغيره، وهذا يدل على أن علياً ما كان بحاجة إلى التقية. ثم رووا عن علي أيضاً أنه توقف عن بيعة أبي بكر زمناً ((ستة أشهر)) لو كان يرى وجوب التقية لبايعه وأبطن الخلاف. وعلى هذا فإنهم حين ينسبون إلى الأئمة القول بالتقية، ثم يثبتون لهم صفات لا تليق إلا بالله يعتبر كلامهم متناقضاً. ¬

(¬1) مختصر التحفة الإثني عشرية ص 288 - 296.

فقد روى الكليني أن الأئمة لا يموتون إلا برغبتهم واختيارهم، وقد أجمع الشيعة على صحة هذا. كما روى أيضاً أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء، ومن كانت هذه صفاته فإن التقية في حقه تعتبر جبناً وخوفاً لا داعي له، وكيف يلجؤون إلى التقية وهم يعلمون كل ما سيجري عليهم. ثم يتناقض كلامهم في القضية الواحدة تبعاً لحال الإمام وظروفه، ولنفرض أنهم يصادفون متاعب من مخالفيهم فهل يجمل بهم الهرب منها بالتقية وخداع الناس؟ فأين فضيلة الصبر وامتثال أمر الله وتحمل المشاق في سبيل الله؟ لأن هذه هي وظيفة الأنبياء والمصلحين من الناس، وهي فضيلة لا يليق بهم تجنبها باستحلال الكذب. وأخيراً فإنه يلزم الشيعة أن يصفوا الحسن بن علي رضي الله عنه بأنه ليس له كرامة وفضل، لأنه لم يلتزم بالتقية مع معاوية، وأن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل الناس لأنهم أتقاهم أي أكثرهم عملاً بالتقية حسب تفسير الشيعة الخاطئ (¬1) . ولولا شدة التعصب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم لرأوا أن هذه الخرافات التي جعلت أعداء الإسلام يسخرون منهم بسببها أنها من أهم ما ينبغي عليهم محاربتها، وأن عليهم أن يحرروا أفكارهم من هذه الشنائع التي هي إلى الوثنية أقرب- وكل ذلك من أهم ما ينبغي عليهم القضاء عليه إذا أرادوا تصحيح دينهم وتحرير عقولهم من هذه المبادئ البدائية: يقول الدكتور الموسوي في رده على علماء الشيعة: ¬

(¬1) انظر لمزيد التفاصيل مختصر التحفة الاثني عشرية الصفحات المشار إليها سابقا، حيث ذكر أشياء كثيرة يضيق المجال عن ذكرها.

4- المهدية والرجعة عند الشيعة

((إن على الشيعة أن تجعل نصب أعينها تلك القاعدة الأخلاقية التي فرضها الإسلام على المسلمين، وهي أن المسلم لا يخادع، ولا يداهن، ولا يعمل إلا الحق، ولا يقول إلا الحق ولو كان عليه، وأن العمل الحسن حسن في كل مكان، والعمل القبيح قبيح في كل مكان. وليعلموا أيضاً أن ما نسبوه إلى الإمام الصادق من أنه قال التقيّة ديني ودين آبائي ((إن هو إلا كذب وزور وبهتان على ذلك الإمام العظيم)) (¬1) . 4- المهدية والرجعة عند الشيعة: من هو المهدي؟ يؤمن أهل السنة بالمهدي الذي صحت به الأحاديث، ولكن غير مهدي الشيعة الخرافي الذي وصلوا في إيمانهم به وانتظاره وترقبه إلى حد جعلهم محل سخرية العالم منهم، وأخباره عندهم أكثر من أن تذكر، وقد أفرده الطوسيّ بكتابه المسمى: ((كتاب الغيبة)) . إن القول بالمهدي وانتظاره من عقائد الشيعة البارزة والأساسية، ذلك المهدي الذي يزعمون أنه غاب عنهم لأسباب مؤقتة، وسيرجع وسيملأ الأرض عدلاً ورخاءً كما ملئت ظلماً وجوراً (¬2) . ولهذا فهم يقيمون على سردابه بسامراً الذي زعموا أنه مقيم فيه دابة ترابط دائماً ليركبها إذا خرج من سردابه، ويقف جماعة ينادون عليه بالخروج يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج، ويشهرون السلاح، وفي أثناء مرابطتهم لا يصلون خشية أن يخرج وهم في الصلاة فينشغلون بها عن خروجه وخدمته، ¬

(¬1) الشيعة والتصحيح ص 59. (¬2) مما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أنه ليس للشيعة مهدى واحد ينتظرون عودته بل لهم مهديون كثيرون حسب معتقداتهم وأما مهدى الإثني عشرية فهو ابن الحسن العسكري كما سيأتي.

بل يجمعون الخمسة الفروض. وليس هذا فقط عند السرداب، بل أحياناً يكونون في أماكن بعيدة عن مشهده ويفعلون هذا إما في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإما في غير ذلك يتوجهون إلى المشرق وينادونه بأصوات عالية، يطلبون خروجه مع أنه لا مهدي هناك. وإنما هي خرافة نفذ منها ومن غيرها أعداء الإسلام إلى الطعن في الإسلام وتجهيل حامليه، وإلا فما الداعي لمثل رفع هذه الأصوات وهذه المرابطة المضنية؟ فإنه على فرض أن هذا المهدي موجود هناك، فإنه لا يستطيع أن يخرج إلا بإذن الله، ثم إذا أذن الله له فإنه يحميه وينصره وييسر له كل ما يحتاجه، وليس هو في حاجة إلى أولئك الغلاة الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فعملهم على كل الاحتمالات باطل لا يؤيده عقل ولا نقل، وكيف سيملأ الله به الأرض عدلاً ورخاءً بعد خروجه ولا يحميه حتى تلك اللحظات عند خروجه؟ أليس هذا تناقضاً؟ لأنه قد تقرر في عقيدتهم حسبما يؤكده الكليني في ((الكافي)) : أن الأرض لا تخلو من إمام حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فحينئذ لا يوجد حجة، ولا تقبل توبة من أحد (¬1) . ومن الغريب أن يؤكد ¬

(¬1) انظر للمزيد من أخباره كتاب الغيبة للطوسي، وانظر كتاب الحجة من المافي من ص 264- ص 277 الأبواب التالية: باب في تسمية من رآه (ع) باب في النهي عن الاسم (2) وانظر كتاب الغيبة للطوسي. باب نادر في حال الغيبة. وانظر باب في الغيبة. وانظر ص 300 باب كراهية التوقيت إلى ص 303 باب التمحيص والامتحان. وانظر باب أنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذه الأمر أو تأخر. ثم انظر باب مولد الصاحب (ع) وانظر جزء 2 الصفحات 264/ 265/266/268 وانظر من كتب السلف: منهاج السنة ج1 ص 12. 29 - ومختصر التحفة الإثني عشرية ص 200، 294 - والشيعة والتشيع ص 351 - 388.

الكليني أيضاً أنه لا يجوز السؤال عن اسمه بأي حال، وأنه لا يسميه باسمه إلا كافر، ويكتفي عن ذكر اسمه بذكر لقبه القائم، حيث لقب بذلك لأنه يقوم بعد ما يموت حسب الرواية التي أوردها الطوسي عن أبي سعيد الخرساني عن أبي عبد الله (¬1) . وأنه يحج في سنة ماشياً على رجله، ثم لا يرى عليه أثر السفر (¬2) . وأن أقرب ما يكون الناس إلى الله حين ينتظرون الغائب، وأشد ما يكونون بغضاً عند الله حينما يفتقدونه ولم يظهر لهم (¬3) . بل وسمى الكليني أمة محمد صلى الله عليه وسلم أشباه الخنازير والأمة الملعونة لعدم إيمانهم بغيبة المهدي (¬4) والتي سوف لا تتأخر كثيراً فقد سأل الأصبغ بن نباته أمير المؤمنين عن مدة الغيبة فقال: ستة أيام، أو ستة أشهر، أو ست سنين (¬5) فهو لا يتأخر بعد أن امتن الله به على خلقه، فإن الكليني يذكر أن موسى بن جعفر فسّر قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (¬6) ¬

(¬1) انظر كتاب الغيبة ص 260. (¬2) الكافي ج2 ص268. (¬3) الكافي ج2 ص269. (¬4) الكافي ج2 ص272. (¬5) الكافي ج2 ص273. (¬6) الكافي ج2 ص274. وقوله تعالى {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} أي ظهر الإمام جـ2 صـ431.

قال: إذا غاب عنكم إمامكم، فمن يأتيكم بإمام جديد (¬1) . وقد وقعت علامات كثيرة تبشر بقرب ظهوره، فإنه قبل ظهوره تقع الفتن بين الشيعة ويسمي بعضهم بعضاً كذابين، ويتفل بعضهم في وجوه بعض (¬2) ، ثم أورد الكليني روايات وقصصاً كثيرة حول علم المهدي بالمغيبات وأساطير وخرافات كثيرة ذكرها عنه. وأما الطوسي في كتابه المسمى كتاب الغيبة فقد حطب في أخبار المهدي بليل، ولذا فلا أدري ما الذي أذكره عنه في أخبار هذا المهدي غير أني سأشير إلى بعض ذلك فيما يلي: أكد الطوسي أن المهدي الغائب شوهد مرات عديدة حول الكعبة وهو يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم انتقم لي من أعدائك)) (¬3) . وأنه يظهر في كل سنة لخواصه يوماً واحداً، فيحدثهم ويحدثونه، ويقلب لهم الحصى ذهباً (¬4) وهو لا يحب أن يساكن أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الطوسي عنه أنه قال -كما أوصاه أبوه-: ((لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم، ولهم الخزي في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب أليم)) (¬5) . وقد أورد الطوسي روايات كثيرة تفيد علم المهدي بالمغيبات (¬6) . ¬

(¬1) الكافي ج2 ص275. (¬2) الكافي ج2 ص276. (¬3) انظر ص 431 -441. (¬4) ص152. (¬5) كتاب الغيبة ص 161. (¬6) ص 162.

واقرأ هذا العنوان: ((فصل، وأما ظهور المعجزات الدالة على صحة إمامته في زمان الغيبة فهي أكثر من أن تحصى، غير أنا نذكر طرفاً منها)) (¬1) فإذا استطعت أن تقرأه فإنك ستجد ما يدهش العقل ويضيق الصدر من الأخبار التي لا يحتمل سماعها من له عقل وذوق. واقرأ توقيعات المهدي لنوابه حال غيبته عنهم (¬2) ، وما أورده من الفتاوى والأقوال الجاهلة في تلك التوقيعات المزورة على أيدي أولئك النواب والذين كثر عددهم إلى حد أنهم أصبحوا فريقين متضادين، وكلاء وسماسرة ممدوحين وعددهم عند الطوسي 13 رجلاً، ووكلاء وسماسرة مذمومين وعددهم 6، له ولسائر الأئمة ومنهم سفراء ممدوحين وعددهم 3، وآخرين مذمومين وهم عدد كثير، قال الطوسي بعد أن ذكر عدداً من أسماء السفراء قال: ((فهؤلاء جماعة المحمودين وتركنا ذكر استقصائهم لأنهم معروفون مذكورون في الكتب فأما المذمومون فجماعة، ثم ذكر عدداً كثيراً منهم (¬3) . وهناك الكثير من المزاعم والتهويلات حول شخصية هذا المهدي في كتب الشيعة، لعل فيما أشرنا إليه من ذلك ما يكفي لمعرفة مدى ضحالة هذه الأفكار، ونسيان أهلها لعقولهم، وتلاعب الشيطان بهم واستخفافهم بعقول الناس عند شغفهم بتثبيت آرائهم، وإظهار مذاهبهم، وركوبهم لذلك كل صعب وذلول غير مبالين بنتائج تهورهم وشناعة معتقداتهم. أما هذا المهدي عندهم فهو الإمام الثاني عشر من أئمتهم حسب ترتيبهم ¬

(¬1) كتاب الغيبة ص 170. (¬2) ص172 (¬3) انظر: ص 199 - 241.

لهم، واسمه محمد بن الحسن العسكري. ومع كل اهتمام الشيعة بأخباره والتلهف على لقائه فلقد اضطرب كلامهم حوله وتناقضت فيه أقوالهم، ومع أنه -كما هو الصحيح عند أكثر العلماء- أنه شخصية خيالية لا وجود له إلا في أذهان الشيعة الذين يزعمون إمامته وينتظرون خروجه بعد غيبته الكبرى (¬1) ، ومن تلك التناقضات الشيعية ما تجده من: 1- اختلاف الشيعة في وجود محمد بن الحسن وولادته. فقد اختلفت كلمتهم في وجود هذا الشخص، فبعضهم ذهب إلى أن الحسن العسكري مات ولم يعرف له ولد أصلاً، وقال هؤلاء بأن الحسن العسكري حين توفي ظن بعضهم أن بجاريته حملاً فوكلوا بها من يراقبها حتى تبين أن لا حمل بها. واستدلوا أيضاً بأن الحسن العسكري حينما مات أخذ أخوه جعفر تركته، ولو كان للحسن ولد لما حصل على ذلك. 2- وذهب آخرون إلى إثبات ولادة محمد بن الحسن، بل وحددها محمد صادق آل بحر العلوم المعلق على فرق الشيعة للنوبختي بأنها كانت يوم الجمعة منتصف شعبان على أشهر الأقوال كما زعم سنة 255هـ، بينما الكليني في الكافي يذكر أنه ولد سنة 256هـ (¬2) ، بينما هو يقرر أنه خفي الولادة والمنشأ (¬3) . وهؤلاء الذين أثبتوا ولادته تناقضت أقوالهم واضطربت أفكارهم فيه ¬

(¬1) لأنهم يزعمون أن له غيبتين: إحدهما يوم وفاة أبيه وهي الصغرى ومدتها 8أو 9 وستين سنة وثانيتهما: الكبرى وتبدأ من وفاة أبي الحسين على بن محمد السمري أخر السفراء الأربعة المزعمون ... (¬2) الكافي ((باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار)) . (¬3) الكافي ج2 ص - 277.

أيضاً، فبعضهم قال بأنه ولد بعد وفاة والده الحسن بثمانية أشهر، وكذَّبوا من زعم غير هذا كما نص عليه النوبختي. وقال آخرون: إنه ولد قبل وفاة والده بسنين. وقال بعضهم: بخمس سنوات. كما اختلفوا كذلك في تحديد السنة التي اختفى فيها، فبعضهم يجعلها سنة 256هـ، وآخرون 258هـ، وغيرهم 255هـ. كما اختلفوا في اسم أمه على أقوال: * فقيل: اسمها نرجس. * وقيل: صقيل أو صيقل. * وقيل: اسمها حكيمة. * وقيل اسمها سوسن (¬1) . وأقاويل أخرى كثيرة مضطربة يطول نقلها، وهذا الاختلاف كله دليل على أن هذا الإمام لم يولد وإنما هو استحساناتهم وتخميناتهم، وهذه الاختلافات تدل أيضاً على مدى تخبطهم وعلى الجهل الذي يخيم عليهم إذ كيف تخفى ولادة محمد بن الحسن العسكري وهم متأكدون -حسب شروطهم في الخلافة والإمامة ورواياتهم العديدة- أن الحسن العسكري هو الإمام الحادي شعر، ولابد أن يخلفه عقب منه هو أكبر أولاده، وهو الذي يتولى الأمر بعده، ويغسله ¬

(¬1) انظر لأخبار هذا المهدي للشيعة ((كتاب الغيبة)) لشيخ الطائفة أبي محمد بن الحسن الطوسي حيث جاء بكل ما عندهم من الخرفات والأقاويل في إثباته، وانظر أيضاً كتاب فرق الشيعة للنوبختي وتعليق بحر العلوم عليها من ص 115 إلى ص 132، وانظر الفصل لابن حزم ج 4 ص 193 وصـ 181 والشيعة والتشيع ص 273 إلى ص 282.

ويصلي عليه كما يقررون ذلك. ثم إن شخصية كهذه تملأ الأرض عدلاً ونوراً لا ينبغي بل ولا يصدق أن تكون ولادته محل خلاف أو خفاء. ولك أن تستنتج من مواقفهم المتناقضة ما يزيدك يقيناً برداءة مذهبهم فيه، هذا مع ما لهم من حكايات وخرافات هي من نسيج الخيال الغير معقول رواها الطوسي في كتابه ((الغيبة)) عن حكيمة والخادم نسيم، كلها تدور حول ما حدث عند ولادة المهدي مباشرة. فإنه حين سقط من بطن أمه كان يقرأ القرآن بصوت مسموع، وأنه كان متلقياً الأرض بمساجده، وأن والده أمره أن يتكلم فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم استفتح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم صلى على أمير المؤمنين -علي بن أبي طالب- وعلى الأئمة إلى أن وقف على أبيه ثم تلا قول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (¬1) . كما زعم الطوسي أن خادم الحسن العسكري حينما عطس بحضرة المهدي وكان عُمْر المهدي عشر ليال قال هل المهدي: يرحمك الله، قال الخادم: ففرحت بذلك. فقال له: ألا أبشرك في العطاس؟ هو أمان من الموت ثلاثة أيام (¬2) . وجاء الطوسي بأخبار كثيرة وكلمات نسبها إلى المهدي وهو طفل رضيع لا يعرفها إلا فيلسوف، وأنه حينما ولد كانت الملائكة تهبط وتصعد وتسلم ¬

(¬1) سورة القصص 5-6 (¬2) كتاب الغيبة ص 139. 142. 147.

عليه وتتبرك به، وأن روح القدس طار به ليعلمه العلم مدة أربعين يوماً،؟ وأنه حينما ولد كان مكتوباً على ذراعه الأيمن {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (¬1) . وزعموا كذلك في رواياتهم على لسان الحسن العسكري أن ابنه المهدي كان ينمو في السنة والواحدة مثل نمو سنتين من غيره (¬2) . كشأن سائر الأئمة، ومزاعم كثيرة ظاهرها يشهد عليها بالكذب والتهويل الأجوف لولا خوف الإطالة لكان في ذكرها ما يتعجب من العاقل على جرأة هؤلاء على التلفيق الذي لا يقبله عقل سليم ولا فطرة نقية، كما فعل الطوسي في كتاب (الغيبة)) (258) صفحة، كلها مثل هذه المبالغات والتلفيقات دون أن يجد الشخص جواباً شافياً لما يدور في ذهنه من أسئلة مهمة. لماذا اختفى المهدي في السرداب مع انه لا داعي لهذا الخوف ما دامت الملائكة تحميه وتتبرك به وتنصره، فإن ملكاً واحداً يكفيه كل أهل الأرض؟ ثم لماذا يختفي الآن وقد ذهب كل من كان يخاف منهم، وجاء قوم يتلهفون على خروجه ونصرته، فلماذا إذاً تخلف عنهم بدون عذر مقبول، وهم يصيحون ليل نهار عجل الله خروجه؟ ثم لماذا لم يشب ولم ينم الحسن والحسين -سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم- مع عظم ¬

(¬1) سورة الإسراء:81. (¬2) انظر لهذه المبالغة والتوقيعات التي كان يرسلها المهدي وهو في عيبته حسب زعمهم كتاب الغيبة عدة صفحات منه، وانظر العنوان)) أخبار بعض من رأى صاحب الزمان وهو لا يعرفه أو عرفه فيما بعد ص 185 - 170. وانظر معجزات الحجة ص 170. في ذكر التوقيعات ص 172، ص199 التي كان يرسلها لهم من سردابه بواسطة السفراء الأربعة) - انظر ص 142، 150.

مكان وجود المهدي:

مكانتهما مثلما شب ابن الحسن والعسكري بتلك العجلة؟ وما الداعي أيضاً لتلك العجلة في تنموه ومصيره أن يختفي في السرداب ثم لا يراه أحد بعد ذلك ولا ينتفع به أحد؟ قد تجد عند الطوسي (¬1) وغيره من علمائهم بعض الإجابات التي لفقوها في أسباب غيبته، ولكنها إجابات غير كافية ولا مقنع فيها لأحد، ومن أعجب الأمور أن ينكر الهاشميون وجود ولد الحسن العسكري على مرأى من الناس ومسمع، وذلك حينما ادعى شخص زمن المقتدر الخليفة العباسي أنه هو ابن الحسن العسكري، فجمع الخليفة جميع بني هاشم وعلى رأسهم نقيب الطالبيين أحمد بن عبد الصمد المعروف في كتب التاريخ __بابن الطومار)) للبت في أمر هذا الرجل، فشهد الجميع على كذبه بدليل أن الحسن العسكري لم يعقب، فحبس المدعي وشُهّر وضرب. ورغم أن أهل البيت أدرى بم فيه، لكن هؤلاء الشيعة أبوا إلا المكابرة مهما كانت النتائج، وادعوا وجود هذا المهدي ولا بد أن دافعاً قوياً دفعهم إلى هذه المجازفة، فما هو السبب في هذا الإصرار على وجود هذه الشخصية؟ سنذكر الجواب إن شاء الله في آخر الكلام عن هذه الشخصية. مكان وجود المهدي: اختلف الشيعة في المكان الذي اختفى فيه مهديهم محمد بن الحسن العسكري على أقوال متضاربة توحي لأهل كل مكان ذكروه بقرب المهدي منهم. ¬

(¬1) انظر كتاب الغيبة ص 66. 73، 199.

ومن تلك الأقوال، وهي كثيرة: 1- أنه مختف في سامراء، في سرداب دار أبيه، وهذا من أشهر أقوال الشيعة والمتداول بينهم، وفي كتبهم (¬1) . 2- أنه مختف في المدينة المنورة. قال أبو هاشم الجعفري للحسن العسكري: ((يا سيدي هل لك ولد؟ قال: نعم. قلت: فإن حدث حادث فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة (¬2) 3- أنه مختف بمكة المكرمة (¬3) . وقد أورد الطوسي روايات كثيرة في هذا، وأورد الكليني حديثاً في هذا. 4- وبعضهم قال: هو بذات طوى (¬4) . 5- وبعضهم قال: إنه في اليمن بواد يسمى شمروخ (¬5) . 6- وبعضهم قال: إنه بالطائف حسب رواية الطوسي الطويلة عن علي بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي (¬6) . وكل هذه الخلافات دليل على بطلان تلك الدعوى، والباطل أهله يخلفون فيه حتماً، ولا يخفى التباعد بين هذه الأماكن، وهذا التباعد بينها ¬

(¬1) انظر رواية محمد بن يعقوب بإسناده عن ضوء بن علي العجلي عن رجل من أهل فارس، كتاب الغيبة ص 140 / 146. (¬2) كتاب الغيبة ص 139. (¬3) المصدر السابق 2ص 151 / 152، وانظر الكافي ج 1 ص 180. (¬4) كشف الأستار للطبرسي ص 2145، نقلا عن الشيعة والتشيع ص 354. (¬5) الأنوار النعمانية للجزائري ج2 ص 65 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 354. (¬6) كتاب الغيبة ص 159 - 161.

رجعة المهدي ومتى تتم؟

دليل على أنها افتراضات مبنيّة على هوى وأغراض سياسية، إذ لا يمكن لأي شخص أن يجمع بينها ويصل إلى نتيجة مرضية مهما أوتي من المعرفة والذكاء، ولكن هكذا شريعة الهوى والسياسة حيث لا تستند على أي أساس ثابت. وإذا كان المهدي قد اختار أن يختفي ويتوارى عن الأنظار فهل يجعل لذلك الاختفاء والهرب عن الناس حداً ومدة يعود بعدها إلى قيادة الشيعة، ومتى يتم ذلك؟ الجواب نذكره فيما يلي. رجعة المهدي ومتى تتم؟ يؤمن سائر العقلاء أنه لا رجعة لأحد بعد موته ليعيش في الدنيا- ويؤمن المسلمون برجعة واحدة تكون في يوم القيامة حين يجمع الله الخلائق لفصل القضاء، كما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، بخلاف ما عليه كثير من الشيعة من إمكان ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة. فقد قرروا في عقائدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليّ والحسن والحسين وبقية الأئمة سيرجعون. وفي المقابل يرجع أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ويزيد وابن ذي الجوشن، وكل من آذى أهل البيت بزعمهم. كل هؤلاء سيرجعون إلى الدنيا مرة أخرى قبل يوم القيامة عند رجوع المهدي إلى الظهور -كما قرره لهم عدو الله ابن سبأ- يرجعون ليتم عقابهم كما آذوا أهل البيت واعتدوا عليهم ومنعوهم حقوقهم، فينالهم العقاب الشديد ثم يموتون جميعاً، ثم يحيون يوم القيامة للجزاء الأخير مرة أخرى. وقد بلغ بهم كرههم للصحابة أن زعم غلاتهم ومتعصبيهم وهو الشريف المرتضي أن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي

وهي خضراء فتيبس فيضل بسبب ذلك جمع كثير من الناس، وهم يقولون: إن هذين البريئين قد ظلما ولذا صارت الشجرة الخضراء يابسة، وقيل: تكون تلك الشجرة يابسة قبل الصلب ثم تصير رطبة خضراء بعد الصلب فيهتدي كثير من الناس. قال الألوسي: ((والعجيب أن هؤلاء الكاذبين مختلفون بينهم في هذا الكذب أيضاً)) (¬1) . ولهم في هذه الرجعة أخبار غريبة وخرافات يمجها العقل السليم. وقد أحاطوها بتهويلات عظيمة حتى يخيل للقارئ أن رجوع المهدي هو يوم القيامة الذي أخبر الله عنه، وهل خيالات وخرافات لا يصدقها إلا من لم يمن الله عليه بمعرفة دين الإسلام. وقد ذكر الطوسي أن المهدي يخرج يوم عاشوراء يوم السبت بين الركن والمقام. وهذه الرواية عن أبي جعفر، وذكر رواية عن أبي عبد الله أنه ينادي باسم المهدي ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم يوم عاشوراء يوم قتل الحسين (¬2) . وفي بعضها أن جبريل ينادي يوم ستة وعشرين من شهر رمضان باسم القائم، ويقوم في يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين بين الركن والمقام، فتسير إليه شيعته، ومنهم من يطير طيراناً، ومنهم من يمشي في السحاب، وهم أفضل أصحابه، وتكون الملائكة حوله صافِّين ومعه جميع الكتب المقدسة التي أنزلها الله على الأنبياء من أولهم إلى آخرهم. ثم يأمر بحصر المخالفين للشيعة فينكل بهم، ثم تعلو كلمة الشيعة ويمتد حكمهم إلى جميع الأرض وتكون الغلبة لهم ... إلخ. ¬

(¬1) انظر مختصر التحفة الإثني عشرية ص 201. (¬2) كتاب الغيبة ص 274.

ويذكر الطوسي عن أبي الحسن الرضا أنه قال: ((ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء..صوتا منها..ألا لعنة الله على الظالمين، والصوت الثاني: أزفت الآزفة يا معشر المؤمنين، والصوت الثالث: يرون بدنا بارزاً نحو عين الشمس، هذا أمير المؤمنين، قد كرّ في هلاك الظالمين (¬1) ، وأن أول من تنشق عنه الأرض في الرجعة هو الحسين بن علي رضي الله عنه)) . وأما عن الغلظة التي سيسير عليها فقد زعموا تنفيساً عن أحقادهم ضد العرب- كما دلّت عليه رواياتهم- أنه بعد رجعة المهدي أول ما يبدأ به أنه يقتل قريشاً ويصلبهم أحياءً وأمواتاً، أي بعد أن يحيي الله من مات منهم فيجازيهم أشد الجزاء بسبب ما فعلوا نحو أهل البيت فيضع السيف فيهم لا يستتيب أحداً منهم، ويستمر في هذا القتل مدة ثمانية أشهر لا يضع السيف عن عاتقه. وزعم الطوسيّ في روايته عن أبي عبد الله أن المهدي يقطع أيدي بني شيبة ويعلقها في الكعبة (¬2) ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سلمهم مفتاحها. كما زعموا أن يقتل سبعين قبيلة من قبائل العرب (¬3) . كما افترى علماء الشيعة على الله تعالى وردوا شهادته في كتابه الكريم في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي برأها الله من كل سوء ... فزعموا أن المهدي يقيم عليها الحد، فيجلدها الحد (¬4) ، لعن الله من اعتقد هذا الاعتقاد وأخزاه الله في الدنيا والآخرة، وهذه الزندقة ذكرها الصافي في تفسيره (¬5) . ¬

(¬1) كتاب الغيبة ص 268. (¬2) كتاب الغيبة ص 282. (¬3) المصدر السابق ص 284 (¬4) تفسير الصافي ص 359 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 378. (¬5) تفسير الصافي ص 359 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 378.

وبعد ذلك قالوا: إنه سيستأنف طريقة جديدة كما استأنف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، قال الطوسي عن أبي عبد الله (ع) قال: ((إذا قام القائم جاء بأمر غير الذي كان)) (¬1) . وقد فسروا هذا الاستئناف بأنه يسير على حكم سليمان بن داود - كما يذكر الطوسي (¬2) ، بل ويهدم ما كان قبله ويستأنف الإسلام من جديد (¬3) . ومعنى هذا أنه يكفر بالإسلام ويبدأ من جديد - على حسب هذه النصوص- هذا هوا الظاهر. ووصل سوء الأدب بأولئك أن اعتقدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الرجعة الثانية لعلي رضي الله عنه يكون جندياً يقاتل بين يدي علي بن أبي طالب، ويبايع كذلك المهدي هو وسائر الأنبياء كما يروي العياش عن جعفر أنه قال لم يبعث الله نبياً ولا رسولاً إلا ردهم جميعاً إلى الدنيا حتى يقاتلون بين يدي علي بن أبي طالب (¬4) . وأن دابة الأرض المذكورة في القرآن هي عليّ بن أبي طالب (¬5) . ونترك خرافات كثيرة يمجها العقل، وتستثقل ذكرها النفس، إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الحقد والكراهية التي كان عليها كتَّاب مثل هذه الأفكار وشدة كيدهم للإسلام ولزعماء المسلمين من الصحابة الكرام فمن بعدهم الذين قضوا على اليهودية والوثنية المجوسية، وأنزلوهم من عروشهم ¬

(¬1) كتاب الغيبة ص 283. (¬2) المصدر السابق ص 283. (¬3) بجار الأنوار 13 ص 194 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 382. (¬4) تفسير العياشى ج 1 ص 281 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 386. (¬5) مختصر التحفة الإثني عشرية ص 201.

وساووهم بعامة المسلمين. مما أغضب هؤلاء الذين لفقوا مثل هذه الأخبار والترهات في ذم قريش وحكام المسلمين أجمعين، وذم كثير من أهل البيت وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله بخلاف ما هو معلوم من دين الإسلام، بل وجميع الأديان السماوية مجمعة على أن الإنسان إذا انتهى عمره في الدنيا ومات فإنه لا رجعة له إلا للقاء ربه يوم القيامة للحساب والجزاء. وهذا هو ما صرح به الله عز وجل في القرآن الكريم؛ حيث قال رداً على من تمنى الرجعة إلى الدنيا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬1) ، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين، ولم يقل بخلاف هذا أحد لا سلف الأمة ولا أحد من آل البيت الذي تزعم الشيعة أنهم تبع لهم، والقرآن صريح وواضح في إبطال هذه البدعة، والخرافة العقدية التافهة. وقولهم: إن المهدي هو الذي يحاسب الناس وينزل بهم العقاب بسبب ما قدّموه في حق آل البيت، فإن الإسلام يصرح بأن الله عز وجل يتولى حساب جميع خلقه، ويثيب أو يعاقب. أما البشر، فليس لهم ذلك لقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (¬2) . وقول هؤلاء الشيعة إنما اقتبسوه من قول النصارى بأن المسيح هو الذي ¬

(¬1) سورة المؤمنون:99- 100 (¬2) سورة مريم:93

يتولى حساب الخلق -تشابهت قلوبهم. وقول هؤلاء: إن الرسول يقاتل بين يدي عليّ بن أبي طالب، ويبايعه المهدي الذي هو من ولدهما- إهانة واستخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإهانة أيضاً لعلي رضي الله عنه، إضافة إلى تفسيرهم دابة الأرض بأنها علي رضي الله عنه، ولقد صدق عليهم الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (¬1) . وأما ما زعموه من عقوبة خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من صلبهما على شجرة وهي رطبة فتصبح يابسة، فهو افتراء ومخالفة للعقل والواقع، إذ كيف يعقل أن يجازيا بقتل الحسين وليس لهم بذلك صلة، ثم إن ذنبهما -إن كان أخذ الخلافة ذنب- لا يعقل أن يصل إلى هذا الحد من العقوبة. ثم كيف يجازيهما الله أمام أقوام لم يشهدوا ذنبهما ولم يعرفوا له سبباً، إذ الأولى أن يتم جزاءهما أمام من شهد أمرهما في الوقت الذي آذوا فيه أهل البيت حتى تقر أعينهم بجزائهما، مع أن إثبات هذا العقاب يؤدي في النهاية إلى عكس ما يريد الشيعة، ويناقض أقوالهم، وذلك: 1- أن أولئك الناس لو أرجعهم الله إلى الدنيا للجزاء قبيل يوم القيامة لكان أمرهم في الآخرة إلى الجنة، إذ من الظلم أن يعذبوا مرة أخرى، فحصل لهم بتعذيبهم في رجعتهم إلى الدنيا تخفيف وراحة. وهذا ينقض ما ذهب إليه الإمامية، فإنه على أصولهم أن عذاب جهنم لا بد وأن يكون مستمراً على من آذى آل البيت، ثم ما هو الداعي إلى هذه العجلة يخرجهم فيعذبهم ثم يموتون ويعذبون مرة أخرى، وأيضاً لماذا لم تكن ¬

(¬1) أخرجه البخاري 6/3515 الفتح، وأحمد في المسند 4/ 121، وأبو داود 5/148 وابن ماجه 2/ 1400.

هذه العجلة في وقت وقوع الجريمة لتكون أنكى، أما تركهم هذه المدة كلها ثم يعذبهم في زمن المهدي فهو برود مثل برود الشيعة في أكاذيبهم. 2- أن الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الذين حكم الشيعة عليهم بالرجوع، لعظم ما ارتكبوه في حق آل البيت وجزاؤهم الشديد في الدنيا ثم يموتون-بزعمهم- ويبعثون يوم القيامة. ذنوبهم بإقرار الشيعة غصب الخلافة وبعض حقوق آل البيت -على زعم الشيعة-، وهذا الذنب -إذا جاز تسميته ذنباً- لا يصل إلى درجة الكفر بالله والشرك به بل هو فسق والفسق لا يصل إلى هذا الحد من العقاب ولا يوجب الرجعة في الدنيا، ولو كان الأمر يقتضي الرجعة لكان إرجاع الكفرة والمشركين والذين ادعوا الألوهية مع الله- كفرعون ونمرود وغيرهما- أولى بالرجوع، والشيعة لم يقولوا بذلك، فوجب أن يكون - حسب مقياسهم- أن غصب الخلافة أو التعدي على آل البيت أعظم جرماً من الشرك ومن ادعاء الألوهية وقتل الأنبياء بغير حق، وهم لا يقولون بهذا؛ فظهر بطلان قولهم بوجوب إعادة ورجعة أولئك الخلفاء لعقابهم في الدنيا بسبب غصبهم الخلافة، أو أخذ أبي بكر لفدك بغير حق كما يدعون لجهلهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم فيها. 3- ثم إن قولهم برجوع النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وسائر الأئمة وإخراجهم من قبورهم لحضور هذا العقاب في الرجعة -فيه تعذيب لهم بالموت مرة أخرى، والموت أشد آلام الدنيا ... فلم يجوز الله سبحانه وتعالى إيلام أحبائه عبثاً؟ إذ الموت لا بد أن يشمل كل كائن حيّ، وإذا أحيا الله هؤلاء فلا بد من تجرعهم الموت مرة أخرى- على حسب هذا المعتقد الخرافي-، فكيف يعذب أولياءه

بالموت مرتين في الدنيا وغيرهم مرّة واحدة؟ 4- إنه على عزم الشيعة بإعادة هؤلاء وإيقاع العذاب عليهم في الدنيا - فيه نفع لهؤلاء المبعوثين إلى الدنيا إذ يعلمون حينئذ أنهم أخطئوا فيتوبون حتما توبة نصوحاً، والتوبة مقبولة في الدنيا ولو بعد الرجعة، فكيف بعد ذلك يمكن تعذيبهم، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. فوجب على معتقد الشيعة برجعتهم أن يقولوا بأنهم في الآخرة في الجنّة لصدق توبتهم في الدنيا في الحياة الثانية. إلى غير ذلك من الردود التي تدحض مذهب الشيعة في القول بالرجعة، وأنه خلاف العقل والنقل والواقع، والله الهادي إلى سواء السبيل (¬1) . ومما ينبغي الإشارة له هنا أنه قد خرج عن القول بالمهدي على تلك الصورة المزعومة عند الشريعة بعض فرقهم كالزيدية، وقد أنكروا عودة المهدي وردّوها بروايات عن الأئمة أيضاً، وكفى الله المؤمنين القتال. وقد سبقت الإشارة إلى هذه القضية في درس الزيدية، كما سبقت الإشارة إلى أن الشيعة ليسوا كلهم على مذهب واحد في المهدي المنتظر، وإنما اشتهر اسم محمد بن الحسن العسكري بالمهدي المنتظر، لأنها عقيدة الرافضة الإمامية في عصرنا الحاضر. ¬

(¬1) انظر مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 201 - 203، ص 294. وانظر أيضاً بحار الأنوار للمجلسي فيما ينقله عنه إحسان إلهى رحمه الله في كتابه الشيعة والتشيع من ص 376 إلى ص 390. وانظر دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ص 148 - 152. وانظر الشيعة في الميزان ص 77 - 84.

أما متى يخرج المهدي؟ فقد وقَّت بعض الشيعة لخروج المهدي زمناً معيناً، وذلك بعد وفاة الحسن العسكري بزمن، إلا أن الذين وقّتوا خروجه بزمن حينما انتهى التقدير ورأوا أن المسألة ستتضح ويظهر فيها الكذب مددوا هذه الغيبة إلى وقت غير مسمى، واختلقوا لذلك أعذاراً كاذبة، فرواية وردت عن الأصبغ بن نباته -كما ينقلها الكليني- تذكر أنه سيخرج بعد ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنوات، وهذه الروايات هي المتقدمة والقريبة من وفاة الحسن العسكري (¬1) . ورواية أخرى يذكرها الكليني عن أبي جعفر تذكر أنه سيخرج بعد سبعين سنة، ثم مددت هذه المدة أيضاً حين أفشي السر إلى أجل غير مسمى، وذلك حسب ما روى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر أن الله تبارك وتعالى قد كان وقّت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين -صلوات الله عليه- اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة، فحدَّثناكم فأذعنتم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً ... إلخ (¬2) . والواقع أنه لن يخرج حتى تخرج هذه العقيدة من أذهانهم ومعتقداتهم التي صنعها علماؤهم لأغراض ومقاصد كثيرة، في أولها حرب الدولة الإسلامية وإعادة السيطرة الفارسية. وقد أبان سر هذه المهزلة المهدية أحد الشيعة وهو علي بن يقطين حين سئل عن المهدي فأجاب: ((إن أمرنا لم يحضر فعلَّلنا بالأماني، فلو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلا إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة -لقست القلوب، ولرجع ¬

(¬1) الكافي كتاب الحجة ج 1ص 272. (¬2) المصدر السابق ص 300.

سبب إصرار الشيعة على القول بوجود مهديهم

عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألفاً لقلوب الناس، وتقريباً للفرج)) (¬1) . فانظر إلى هذه الشهادة عليهم، وقارن بينهم وبين السلف الذين ينتظرون المهدي الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لترى ثبات السلف وعدم وجود تلك العجلة واللهثة التي توجد في الشيعة، لأن السلف مطمئنون واثقون بدينهم ونبيهم، ويعلمون أن العجلة لا تقدمه ولا تؤخره، ولأنهم كذلك ليست لهم أحقاد يريدون أن يشتفوا من المخالفين لهم عند ظهور المهدي. سبب إصرار الشيعة على القول بوجود محمد بن الحسن العسكري عرفنا فيما تقدم عمق هذه الفكرة في أذهان الشيعة وتشبثهم بوجود ابن للحسن العسكري الذي جعلوا منه مهديهم المنتظر، ومكابرتهم وإصرارهم على القول بولادته، فما هو السر في هذا؟ والجواب حاصله أن الشيعة قد وضعوا شروطاً وقواعد وأوصافاً للإمام ألزموا أنفسهم بتصديقها وهي من صنع الخيال، وبالتالي فهي صعبة المنال ثم جعلوها جزءاً من العقيدة الشيعية، بحيث لو لم تتحقق لانتقض جزء كبير من تعاليمهم، ولأصبحوا في حرج. وأكثر تلك الشروط هي تقول على الله ومجازفة وحكم على الغيب، فمنها على سبيل المثال لا الحصر: 1- أن الإمام لا يموت حتى يكون له خلف من ذريته هو الذي يتولى الإمامة من بعده حتماً لازماً وقد روى الطوسي عن عقبة بن جعفر قال: قلت لأبي الحسن: قد بلغت ما بلغت وليس لك ولد؟ ¬

(¬1) المصدر السابق ص 301.

فقال: يا عقبة بن جعفر، إن صاحب هذا الأمر لا يموت حتى يرى ولده من بعده (¬1) 2- أن الإمامة لا تعود في أخوين بعد الحسن والحسين أبداً؛ بل في الأعقاب وأعقاب الأعقاب. ومعنى هذا أن الحسن العسكري -وهو الإمام الحادي عشر- لو مات دون عقب لانتقضت هذه القاعدة، وقد روى الطوسي عن أبي عيسى الجهني قال أبو عبد الله ع: لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما، إنما هي في الأعقاب وأعقاب الأعقاب (¬2) . 3- الإمام لا يغسله إلا إمام هو أكبر أولاده. ولقد ذكر ابن بابويه القمي عن علي بن موسى بن جعفر كثيراً من الشروط التي اشتملت على خرافات وآراء ضالة ليست من الإسلام في شيء، كقولهم: ((للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختوناً، ويكون مطهراً، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل. وإذا وقع على الأرض من بطن أمه وقع على راحته رافعاً صوته بالشهادة ولا يحتلم، وتنام عينيه ولا ينام قلبه، ويكون محدثاً، ويستوي عليه درع رسول الله صلى الله عليه وسلم - لأنها محفوظة بزعمهم عند الأئمة يتوارثونها- ولا يرى له بول ولا غائط، لأن الله عز وجل قد وكل الأرض بابتلاع ما يخرج منه، ويكون ¬

(¬1) كتاب الغيبة ص 133. وذكر الكلينى على هذا الزعم أحاديث كثيرة في كتاب الحجة في الجزء الأول الذي يبدأ هذا الكتاب من 128 إلى 459. (¬2) المصدر السابق ص 136.

له رائحة أطيب من رائحة المسك. ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم وأمهاتهم، ويكون أشد الناس تواضعاً لله عز وجل، ويكون آخذ الناس بما يأمرهم به، وأكف الناس عما ينهى عنه، ويكون دعاؤه مستجاباً حتى إنه لو دعى على صخرة لانشقت نصفين، ويكون عنده سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه محفوظ عند الأئمة والسيف ذو الفقار. ويكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة، وتكون عنده الجامعة وهي صحيفة طولها سبعون ذراعاً، فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم ويكون عنده الجفر الأكبر والجفر الأصغر؛ إهاب ماعز وإهاب كبش فيهما جميع العلوم حتى أرش الخدش، وحتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف فاطمة)) (¬1) . ويروي الكليني عن أبي جعفر قال: ((للإمام عشر علامات: يولد مطهرا مختوناً، وإذا وقع على الأرض وقع على راحته رافعاً صوته بالشهادتين، ولا يجنب، وتنام عينيه ولا ينام قلبه، ولا يتثاءب، ولا يتمطى، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه، ونجوه كرائحة المسك، والأرض موكلة بستره وابتلاعه، فإذا لبس درع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عليه وفقاً، وإذا لبسها غيره من الناس طويلهم وقصيرهم زادت عليه شبراً، وهو محدث إلى أن تنقضي أيامه)) (¬2) . ¬

(¬1) ذكرها عنه احسان الهي في كتابه ((الشيعة والتشيع)) ص 286. نقلاً عن كتاب القمي ص 527. (¬2) كتاب الكافي ج 2 ص 319. وقد ذكر الكليني في هذا الكتاب في الجزء الأول في كتاب الحجة كثيراً من تلك المبالغات في الأئمة مثل قولهم: باب أن الحجة لا تقوم على خلقه إلا بإمام ص 135. باب أن الأئمة هم أركان الأرض ص 152. باب أن الأئمة هم أركان الأرض ص 152. باب عرض الأعمال على النبي والأئمة ص 170. باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة. باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله ومتاعه ص 181. باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة ص 185. باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم ص 202. باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله وسلامه عليهم ص 203. باب أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة ص 315. وأبواب أخرى كثيرة تركتها خوف الإطالة، وقد حشيت تلك الأبواب بمبالغات وأكاذيب على أئمتهم لا يقبلها عاقل له أدني تمييز.

وبغض النظر عن دراسة هذه الخيالات والخرافات التي يمجها العقل ويرفضها الفكر ويكذبها الواقع، إذ لا يوجد رجل تتوفر فيه هذه الشروط التي لم تتوفر حتى في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة السلام مجتمعة - بغض النظر عن ذلك كله فإن الذي يهمنا هنا هو معرفة السر الذي أصرَّ بموجبه الشيعة على القول بوجود ابن للحسن العسكري يخلف والده في إمامتهم. وقد اتضح مما تقدم أن الذي حمل الشيعة على ذلك الإصرار هي تلك الشروط التي تنص على أن الإمام لا يموت حتى يوجد له عقب من أولاده هو الذي يتولى تجهيزه ودفنه، والقيام بأمر الشيعة بعده حتماً ... وكان موت الحسن من دون ولد يهدم تلك الشروط التي وضعوها. ومن هنا قرّروا أن يوجدوا للحسن ولداً تخلصاً من هذا المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، وليكن بعد ذلك ما يكون، وهم على ثقة بأن لكل صوت صدى، بل هم واثقون من أن استجابة الأكثر من الناس للخرافات والخزعبلات أقوى من استجابتهم للحق، وأقرب إلى نفوس الكثير من بني آدم. وإضافة إلى ما تقدم في سبب دعواهم وجود المهدي، فإنه ينبغي ملاحظة أنه قد مرت بالشيعة ظروف سياسية واجتماعية ودينية ذاقوا فيها مرارة الحرمان

من عدم إقامة دولة لهم تنظر إليهم بالعين التي يريدونها من تقديمهم واعتبار آرائهم، وغير ذلك مما كانوا فيه من العزة والتطاول على الناس، واعتبار عنصرهم أفضل العناصر. وحينما غلبتهم الدولة الإسلامية وبلغ السيل الزبى بإخضاع الدولة الأموية لهم -فكر رؤساؤهم في ذلك الوقت في أمر يجتمع عليه عامتهم؛ لئلا يذوبوا في غيرهم، وييئسوا من استعادة أمرهم، فبدأوا في حبك المخططات السرية والعلنية، وتوجيه أنظار جميع الشيعة إلى الالتفاف حول أمل إذا تحقق عادت به سيادتهم كما يتصورون. وهو انتظار المهدي الغائب (¬1) الذي سيزيل عند رجوعه جميع من ناوأهم، ويقضي على قريش بخصوصهم بكل شراسة حتى يقول الناس: لو كان هذا من قريش لما فعل بهم هكذا حسب ما يرويه النعماني (¬2) ، وحسبما يروونه عنه في كتبهم. وهذه الشراسة والشدة على العرب بخصوصهم ومنهم قريش تدل دلالة واضحة على أن هذا المهدي ليس له صلة بالعرب، فهو عدو شرس لهم ليس بينه وبينهم أية عاطفة أو صلة. وفعلاً هذا المهدي ليس من قريش، بل هو مهدي فارسي متعصب ليزدجرد وللأسرة الساسانية التي قضى عليها الإسلام، يتضح ذلك في هذه الرواية التي يرويها الطوسي عن أبي عبد الله أنه قال: ((اتقوا العرب فإن لهم خبر سوء، أما إنه لا يخرج مع القائم منهم أحد)) (¬3) ¬

(¬1) انظر فجر الإسلام ص 274/ 275، وانظر دراسة عن الفرق ص 160. (¬2) كتاب الغيبة للنعماني، نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 376. (¬3) كتاب الغبية للطوسى ص 284.

5- موقفهم من القرآن الكريم

وبهذا يتضح أن هذا المهدي مصنوع بمعرفة الشيعة وعلى طريقتهم، حقود شديد، يمثل الغلظة بأجلى صورها. 5- موقفهم من القرآن الكريم: القرآن الكريم كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تكفل الله بحفظه وحمايته من أيدي العابثين وتأويلات المبطلين فقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) ، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} . (¬2) نزل به جبريل الأمين على قلب محمد سيد المرسلين وبلغنا رسول الله كما تبلِّغه عن الله تعالى، جمع الله به الكلمة، ووحد به القلوب، ولا تزال البشرية بخير ما تمسكوا به، مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور كما أنزله الله لم يزد فيه ولم ينقص منه بشهادة الله عز وجل. هكذا يعتقد المسلمون في القرآن الكريم، فما هو رأي غلاة الشيعة (الرافضة) في صون القرآن عن التبديل والتغيير؟ إن الحق والواجب أن يكون القرآن الكريم بعيداً عن أي مساس، وأن يكون نواة تجتمع عليها كلمة كافة المسلمين، وأن يجعل الحكم له في كل قضية، إلا أنه -ومع الأسف الشديد- لم يسلم القرآن الكريم من تدخل أهواء الشيعة -المتعمقين في الغلو- فقالوا بأقوال لا تجتمع معها كلمتهم وكلمة أهل السنة أبداً حتى يرجعوا عنها؛ لأنهما يسيران في طريقين متباعدين لا يلتقيان. لقد أعلن غلاة الشيعة أن في القرآن تحريفاً ونقصاً كثيراً، ولم يكن هؤلاء ¬

(¬1) سورة الحجر:9 (¬2) سورة الحاقة: 45- 46

من عامة الشيعة أو علمائهم غير المشاهير، بل هم من علمائهم الكبار عندهم كالقمي والكليني وأبي القاسم الكوفي والمفيد والأردبيلي والطبرسي والكاشي والمجلسي والجزائري (¬1) والكازراني وغيرهم، وهؤلاء قد صرّحوا وبكل وضوح أن في القرآن نقصاً وتحريفاً في الآيات التي يذكر فيها علي بن أبي طالب، أو الآيات التي فيها ذم المهاجرين والأنصار ومثالب قريش، وأن القرآن لم يجمعه كما أنزل إلا عليّ فقط. كما يعتقدون أن مصحفاً مفقوداً سيصل إلى أيديهم يوماً ما يسمى ((مصحف فاطمة)) فيه أضعاف ما في المصحف العثماني الموجود بين أيدي المسلمين، وأنه يختلف عن هذا المصحف اختلافاً كثيراً. وتوجد نماذج كثيرة من تحريفاتهم للقرآن الكريم، اهتم علماء السنة بذكرها عنهم قديماً وحديثاً لعلّ المقام لا يتسع لسرد أسماء من كتب في هذا أو سرد الآيات التي يدعي الشيعة أنها محرفة أو ناقصة عن مصحف آل البيت فيما يذكره كتاب ((فصل الخطاب)) في تحريف كتاب ((رب الأرباب)) للطبرسي)) ، وفي الكافي وغيرهما من كتب الشيعة. والحقيقة أن هذا الموقف لا يمت للإسلام بأدنى صلة، ومعتقده لا شك في كفره وخروجه عن الملة مهما كان ادعاؤه للإسلام بعد ذلك. ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه كبير علماء النجف الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي، والذي بلغ من إجلالهم له عند وفاته سنة 1320هـ أنهم دفنوه في بناء المشهد المرتضوي بالنجف، في إيوان حجرة بانو ¬

(¬1) نعمة بن عبد الله الجزائري.

العظمى بنت السلطان الناصر لدين الله، وهو أقدس مكان عندهم. هذا الرجل ألّف سنة 1292هـ وهو في النجف عند القبر المنسوب للإمام عليّ كتابه المسمى: ((فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)) جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة قديماً وحديثاً أنهم يعتقدون بوجود النقص والتحريف في القرآن الكريم، وطبع الكتاب في إيران. وعند طبعه قامت ضجة كبيرة حوله، خصوصاً ما أبداه بعض عقلائهم لا لأجل ما في الكتاب، وإنما كانوا يرغبون أن يبقى التشكيك في القرآن سراً مبثوثاً في كتبهم المعتبرة لا أن يذاع في كتاب واحد تقوم به الحجة عليهم. وبدلاً من أن يستكين مؤلفه أو يعتذر ألف كتاباً آخر سماه: ((رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)) دافع فيه عن ما أودعه في كتابه السابق ((فصل الخطّاب)) ، وقد كتب هذا الدفاع قبل موته بسنتين (¬1) . ولبيان نظرتهم إلى القرآن نورد بعض الشواهد والأمثلة فيما يلي: 1- ادعى الشيعة أن سورة من القرآن تسمى سورة ((الولاية)) قد أسقطت من المصحف العثماني، ونصها: ((يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم الصراط المستقيم (*) نبيّ ووليّ بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير (*) إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم (*) والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبين (*) إن لهم في جهنم مقاماً عظيماً إذا نودي بهم يوم القيامة أين الظالمون المكذبون للمرسلين (*) ما خلفهم المرسلين إلا بالحق وما كان الله ¬

(¬1) انظر: الخطوط العريضة ص 9- 10.

ليظهرهم إلى أجل قريب (*) فسبح بحمد ربك وعليّ من الشاهدين)) (¬1) . فانظر إلى هذا الكلام الفارغ الذي لو قدمه تلميذ في مادة الإنشاء لاستحق عليه الرسوب، كلام مفكك ركيك، ثم يزعمون أنه كلام الله تعالى، وأن هذه سورة من عند الله تعالى أنزلها ضمن القرآن الكريم. وفي كتاب الكافي وفصل الخاطب من الآيات التي زعم الشيعة أنها محرفة وناقصة ما جعلني أحتار في أيها أثبته هنا وأيها أتركه فهي كثيرة جدا، أخذت صفحات عديدة، وكلها مما يقتل النفس أسى على ضلال هؤلاء وتطاولهم على كتاب الله دون خوف من الله ولا مبالاة بمشاعر المسلمين. وبعد البحث وبذل الجهد في تصفح كتاب فصل الخطاب عثرت على الطامة الكبرى وهي ((سورة الولاية)) بكاملها، وقد رغبت أن أنقلها ليعتبر المؤمن، ويرجع المغالط، ويعرف أهل الشر على حقيقتهم؛ فقارن أيها القارئ الكريم بين كتاب الله وبين هذا القرآن الذي يزعمه علماء الشيعة ويتقولونه على الله تعالى، ولا تنخدع بأكاذيبهم حين يجحدون مثل هذا الافتراء، فإنهم يقدسون الكليني والطبرسي أشد تقديس، ولم يظهر منهم أحد يشنع عليهما ويرد ضلالتهما ويبرأ إلى الله من أباطيلهما وجرأتهما على كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. سورة الولاية كما هي في فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب للطبرسي: قال الطبرسي فيما ينقله عن صاحب كتاب ((بستان المذاهب)) بعد ذكر عقائد الشيعة ما معناه: وبعضهم يقولون: إن عثمان أحرق المصاحف، وأتلف ¬

(¬1) انظر التعليق الموجود في ص 22 من مختصر التحفة الإثني عشرية وصورة ((سورة الولاية)) .

السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام، ومنها هذه السورة: ((بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم (*) نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم (*) إن الذين يوفون ورسوله في آيات لهم جنات النعيم (*) والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم (*) ظلموا أنفسهم وعصوا الوصيّ الرسول أولئك يسقون من حميم (*) إن الله الذي نوّر السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (*) قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم (*) إن الله قد أهلك عاداً وثموداً بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة أفلا تتقون (*) وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعين (*) ليكون لكم آية وإن أكثركم فاسقون (*) إن الله يجمعهم في يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم (*) . يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون (*) قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون (*) مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم (*) إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم (*) وإن علياً من المتقين (*) وإنا لنوفيه حقه يوم الدين (*) ما نحن عن ظلمه بغافلين (*) وكرمناه على أهلك أجمعين (*) فإنه وذريته لصابرون (*) وإن عدوهم إمام المجرمين (*) قل للذين كفروا بعدما آمنوا أطلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون (*) .

يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات مبينات فيها من يتوفاه مؤمناً ومن يتولاه من بعدك يظهرون (*) فأعرض عنهم إنهم معرضون (*) إنا لهم محضرون في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون (*) وإن لهم في جهنم مقاماً لا يعدلون (*) فسبح باسم ربك وكن من الشاهدين (*) . ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل (*) فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعنّاهم إلى يوم يبعثون (*) فاصبر فسوف يبصرون (*) ولقد آتينا بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين (*) وجعلنا لكم منهم وصياً لعلهم يرجعون (*) ومن يتول عن أمري فإني مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلاً فلا تسأل عن الناكثين (*) . يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين (*) إن علياً قانتاً بالليل ساجداً يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون (*) سنجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون (*) . إنا بشرناك بذريته الصالحين (*) وإنهم لأمرنا لا يخلفون (*) فعليهم مني صلوات ورحمة أحياءً وأمواتاً يوم يبعثون (*) وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين (*) وعلى الذين سلكوا مسلكهم منّي رحمة وهم في الغرفات آمنون (*) والحمد لله رب العالمين (*)) ) . وبعد أن أورد الطبرسي هذا الهذيان -حاشا ما سرقه من القرآن الكريم- قال: ((قلت: ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثراً فيها غير أن الشيخ محمد بن علي بن شهر أشوب المازندراني ذكر في كتاب ((المثلب)) على ما حكي عنه أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه

السورة (¬1) . فانظر أيها القارئ المسلم إلى مدى ما وصل إليه ضلال هؤلاء؛ حيث جعلوا هذا الكلام الفراغ قرآناً أنزله الله، لعن الله من قاله وغضب عليه. وقد أوردت ((السورة)) -كما يسميها هؤلاء الفجار -بتمامها لكي يتضح المقارنة بينها وبين ((سورة الولاية)) التي هي سبع آيات كما يكذبون ... فكيف زادت بعد ذلك؟ هذا التساؤل يزول إذا عرفت أيها القارئ الكريم أن الشيعة يزيدون في كل نص لهم فيه غرض على منواله إن كان شعراً أو نثراً مع عزوه إلى أصل الكلام، وما الذي يمنعهم من ذلك وقد كذبوا على الله تعالى. واعلم أيها القارئ الكريم أنني تركت مئات الآيات من كتاب الله سطى عليها الطبرسي وأوردها على أنها زائدة أو ناقصة أو محرفة. وأرى أنه يكفي مرارة أنني نقلت من كتابه الرديء ((سورة الولاية)) هذه، بل وأرى أن مجرد قراءة هذه السورة يكفي لجلب الغثيان وإثارة الأسى والحزن على ما وصل إليه هؤلاء وهم يتظاهرون بعد ذلك بالإسلام. على أن هذه السورة لا تحتاج في نقدها وتعرية خوائها وضحالة فكر من اخترعها -قبّحه الله- إلى أدنى اهتمام. وأما الكليني فقد جاء من كتابه ((الكافي)) بمئات الآيات التي زعم أن الله أنزلها هكذا، ونأخذ كمثال الآيات الآتية التي أوردها في ((باب فيه نكت من ¬

(¬1) فصل الخطاب ص 156- 157.

التنزيل في الولاية)) (¬1) . 1- عن أبي بصير عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: ((ومن يطع الله ورسوله في ولاية عليّ وولاية الأئمة من بعده فقد فاز فوزاً عظيماً)) هكذا أنزلت (¬2) . 2- عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) في قوله: ((ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من ذريتهم فنسي)) . هكذا والله أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬3) (لعن الله الكاذبين) . 3- عن جابر قال: نزلت جبريل (ع) بهذه الآية على محمد هكذا ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في علي فأتوا بسورة من مثله)) (¬4) . 4- عن الرضا (ع) في قول الله عز وجل: (كبر على المشركين بولاية عليّ ما تدعوهم إليه يا محمد ولاية علي)) هكذا في الكتاب مخطوطة (¬5) . 5- عن أبي عبد الله في قول الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع (*) للكافرين بولاية عليّ ليس له دافع)) ثم قال: هكذا والله نزل بها جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم 6- عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) الكافي ج1ص341. (¬2) الكافي صـ342. (¬3) الكافي صـ34. (¬4) الكافي صـ345. (¬5) الكافي ج1ص356.

هكذا ((فبدل الذين ظلموا آل محمد حقهم قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمد حقهم رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون)) (¬1) . 7- قرأ رجل عند أبي عبد الله (ع) : {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (¬2) . قال: ليس هكذا هي، إنما هي والمأمونون فنحن المأمونون)) (¬3) . وهناك آيات أخرى كثيرة على هذا الصنيع تلاعب بها أولئك الفجار تركتها اكتفاءاً بالأمثلة السابقة، ولعلهم حينما وضعوها كانوا يظنون ويتمنون أنها ستقرأ في المساجد والصلوات على حسب تحريفاتهم؛ لأنهم لا يعلمون أن الله تكفل بحفظ كتابه، وأن المسلمين يكتشفون كل محاولة للتلاعب بالقرآن مهما كان خفاؤها بتوفيق الله لهم. وفد نتج عن هذا التلاعب بالقرآن أن اختلط أمره على عامة الشيعة فلم يوجد عندهم التمييز بين كلام الله في القرآن وما أدخله أولئك الفجار عليه، وهذا ما يرويه الكليني بقوله: ((روى عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن - أي أبو الحسن الثاني علي بن موسى الرضا المتوفى سنة 206 قال: قلت له: جعلت فداك، أنا أسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها، ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: لا، اقرؤوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم)) (¬4) . ¬

(¬1) الكافي ص341. (¬2) سورة التوبة: 105 (¬3) المصدر السابق. (¬4) الكافي ج1ص453.

ينبئ عن مدى التشويش الذي أصاب الشيعة من جراء أكاذيب علمائهم عليهم وعلى أئمتهم المعصومين بزعمهم، وتوجيه لأنظار الشيعة عامة إلى ترقب مجيء من يعلمهم بمصحف آل البيت، مصحف فاطمة الذي يختلف تمام الاختلاف مع المصاحف الموجودة بأيدي المسلمين، وقرآنه يختلف مع القرآن الذي عرفه المسلمون من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى الكليني عن أبي بصير قال: ((دخلت على أبي عبد الله ... إلى أن قال أبو عبد الله -جعفر الصادق- كما يزعم الكليني وأبو بصير-: وإن عندنا مصحف فاطمة عليها السلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة (ع) ؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد)) (¬1) . هذه الرواية أيضاً من أكاذيب الشيعة، وصدق من قال: ((عدو عاقل خير من صديق جاهل)) ، إذا قلنا بأن لهم صداقة مع أهل البيت كما يزعمون. وكان لابن حزم رحمه الله تعالى مواقف مشهورة وكثيرة مع النصارى، كان يناظرهم ويقيم عليهم الحجج الدامغة أن كتبهم محرفة وفيها نقص وزيادات وضياع لأصولها الصحيحة ولم تعد تصلح للاحتجاج بها فضلاً عن التدين بما فيها، فكان القسس يردّون عليه نفس الحجة قائلين إن القرآن كذلك فيه تحريف ونقص، وضاع كثير من أصوله باعتراف المسلمين من الشيعة، فيجيبهم ابن حزم بقوله: ((إن دعوى الشيعة ليست حجّة على القرآن ولا على المسلمين، لأن الشيعة ¬

(¬1) الكافي في ج1ص186.

غير مسلمين)) . وقال رحمه الله: ((وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القراءات، فإن الروافض ليسوا من المسلمين، إنما هي فرق حدث أولها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، وكان مبدؤها إجابة ممن خذله الله تعالى لدعوى من كاد للإسلام، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر ... (¬1) إلى آخر كلامه. ومهما حاول الحاقدون على الإسلام من أي ملة كانوا فإن الله عزّ وجلّ تكفل بحفظ كتابه وحمايته، وما كان في حماية الله عز وجل فإنه لا يضيع. وكم حاول كثير من الفجار التطاول على القرآن فأخزاهم الله. وسيبقى القرآن دستوراً خالداً للمسلمين محفوظاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكم يتمنى كل مسلم غيور على دينه أن تمحى مثل هذه الأباطيل والشوائب، وأن تقترب قلوب المسلمين وتتوحد أهدافهم وتصدق نياتهم، ويأتوا إلى حكم القرآن خاضعين مسلمين إن أرادوا النجاة واجتماع كلمة المسلمين وقوَّة شوكتهم، لولا أن العداوة قد استحكمت، والآراء قد ثبتت في الأذهان بتحريض علماء السوء. وإن التغيير الكامل لمثل هذه المواقف يتطلب نية صادقة وعزماً قوياً على الالتفاف حول الأساس الذي بني عليه الإسلام وهو كتاب الله وسنة نبيه لرفع كلمة المسلمين مما هم فيه من التفرق والخذلان، والعودة بهم إلى سابق مجدهم وعزهم إذا أراد الله بهم الخير والخروج من أيدي الطغاة الذين تكالبوا عليهم من الشرق والغرب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2) . ¬

(¬1) انظر الفصل ج2 ص 78. (¬2) سورة الرعد: 11

6- موقفهم من الصحابة

6- موقفهم من الصحابة: وأما بالنسبة لموقف الشيعة من الصحابة رضي الله عنهم. فقد هلكوا فيهم؛ إذ بالغوا في العداء لهم وكفّروهم، وحكموا بردة أخيارهم -حاشاهم من ذلك- بل وجعلوا من عبادتهم لله التقرب إلى الله بلعنهم صباحاً ومساءً وأثبتوا من الأجر-بافترائهم على الله - ما لا يعد ولا يحصى لمن سبهم صباحاً ومساءً واختلقوا عليهم أكاذيب وافتراءات لا يصدّقها من له أدنى مسكة من عقل. وبلغ من حقدهم على خيرة الصحابة أن كرهوا لفظة العشرة التي تذكرهم بالعشرة المبشرين بالجنة، وهم في موقفهم هذا قد خرجوا عن منهج الله ورسوله حيال المؤمنين عموماً والصحابة خصوصاً، الذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بكل خير فردوا شهادة الله فيهم، وتعبّدوه بسبِّ أوليائه وتكفيرهم، وحتى لم يشكروا لهم إحسانهم في إيصال الدين إليهم وإخراجهم من الوثنية والمجوسية إلى نور الإسلام، وتناسوا جهادهم في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وأخرجوهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ولا يخلو كتاب من كتب الشيعة - على كثرتها وبطلانها- من سب وشتم للخلفاء الراشدين وسائر الصحابة إلا من استثنوهم. وقد عبّروا عن أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة بصنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما، وأحياناً يعبّرون عن أبي بكر وعمر بالجبت والطاغوت، وأحياناً بكلمة الأول والثاني وقد يضيفون، والثالث يقصدون

عثمان رضي الله عنه. وفيما يلي نذكر بعض النصوص من كتبهم تجاه الصحابة ليكون أوثق للحجة عليهم وأدعى إلى الإنصاف. وأول ما نذكره هو تطاولهم على الصحابة وتفضيلهم لأنفسهم عليهم. فقد أورد الطوسيّ عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن كنا معك ببدر وأحد وحنين، ونزل فينا القرآن؟ فقال: إنكم لو تحملوا ما حملوا، لم تصبروا صبرهم)) (¬1) . أي أن حثالة الناس الذين يبكون على المهدي، ويصيحون في كل يوم ليخرج؛ أجر الواحد منهم مثل أجر خمسين ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) . وأما الكليني فإنه لم يتورع عن تفسير القرآن على حسب هواه في جرأته المعروفة، فقال معرِّضاً بأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم عند شرحه لقول الله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} (¬2) : ((عن زرارة، عن أبي جعفر في قوله تعالى: {لتركبن طبقاً عن طبق} قال: يا زرارة، أو لم تركب هذه الأمة بعد نبيها طبقاً عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان)) (¬3) . ((وعن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (¬4) . ¬

(¬1) كتاب الغيبة ص 275. (¬2) سورة الانشقاق: 19. (¬3) الكافي ج1 ص 343. (¬4) سورة النساء: 137.

قال: نزلت في فلان وفلان وفلان آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وكفروا حين عرضت عليهم الولاية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه فعليّ مولاه)) ، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين (ع) ثم كفروا حيث مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه البيعة لهم لم يبق فيهم من الإيمان شيء (¬1) . وعن أبي عبد الله في قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (¬2) ، قال: ذلك حمزة وجعفر وعبيدة وسلمان وأبو ذر و ... (¬3) بن الأسود وعمار، هدوا إلى أمير المؤمنين (ع) ، وقوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬4) يعني أمير المؤمنين، و {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (¬5) . الأول والثاني والثالث)) (¬6) . ومن أحاديث الكليني وذمّه للصحابة رضوان الله عليهم ما يرويه عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، في قوله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (¬7) ، قال لما نزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (¬8) اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) الكافي ص 348. (¬2) سورة الحج: 24. (¬3) الاسم ممسوح في النسخة المصورة عندي. ولعله المقداد (¬4) سورة الحجرات: 7. (¬5) سورة الحجرات: 7. (¬6) الكافي ج1 ص 353. (¬7) سورة النحل: 83. (¬8) سورة المائدة: 55.

في مسجد المدينة فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في هذه الآية؟ فقال بعضهم: إنا كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا ابن أبي طالب. فقالوا قد علمنا أن محمداً صادق فيما يقول، ولكنا نتولاه ولا نطيع علياً فيما أمرنا فقال: فنزلت هذه الآية: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} يعرفون يعني ولاية عليّ بن أبي طالب وأكثرهم الكافرون بالولاية (¬1) . وقال في ذمّه للخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم: ((والجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان والعبادة طاعة الناس لهم)) (¬2) . ويبلغ الحقد والكراهة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن يتهمها الكليني في دينها وفي عرضها وعفتها، حين يفتعل الرواية الآتية -على من اخترعها لعنة الله- وهي طويلة نقتصر منها على هذه الكلمات: 1- قال الحسن لأخيه الحسين: ((واعلم أنه سيصيبني من الحميراء ما يعلم الناس من صنيعها وعداوتها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وعداوتها لنا أهل البيت)) . 2- قال لها الحسين بن عليّ: ((قديماً هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قربه)) . 3- قال لها الحسين: ((وقد أدخلت أنت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال بغير إذنه ... إلى أن قال: ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند إذن ¬

(¬1) الكافي ج1 ص 354. (¬2) الكافي ج1 ص 356.

رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاول)) . 4- ((ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربهما منه الأذى، وما رعيا من حقّه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬1) . إلى آخر ما أورده من كلام السفهاء والسفلة حاشا الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية أن يتلفظوا به، بل ولا يتلفظ به من هو أقل منهم إيماناً، فكيف بهم؟؟؟ ولكنها الغفلة والطيش الذي امتازت به هذه الطائفة حينما قادهم علماء السوء منهم إلى بغض الصحابة والحكم عليهم بالردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم الذين استحلوا الكذب على أئمتهم بما ملأوا به كتبهم من روايات هي من مخترعاتهم، والتي هي أيضاً امتداد لأفكار ابن سبأ الضال. وأما شرف الدين العاملي في مراجعاته التي زعم فيها أنه منصف يقول الحق، فقد جاء في كتابه هذا بالطامات والدواهي الغليظة بما افترى من الكلام والوقيعة في الصحابة عموماً، والخلفاء الثلاثة خصوصاً بطرق غامضة وأساليب ملتوية. فقد عرَّض بأبي بكر وعمر أنهما خطبا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة فلم يزوجها من أحد منهما، وزوجها من علي فحسداه على ذلك وكاداه بكل وسيلة فلم ينجحا. فقال العاملي في ذلك مع الشتم لأبي بكر وعمر رضوان الله عليهما: ((وقد تظافرت الروايات أن أهل النفاق والحسد والتنافس لما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيزوج علياً من بضعته الزهراء وهي عديلة مريم وسيدة نساء أهل الجنة. حسدوه لذلك وعظم عليهم الأمر؛ لا سيما بعد أن خطبها من خطبها فلم يفلح. ¬

(¬1) الكافي ج1 ص 240-241

وقالوا: إن هذه ميزة يظهر بها فضل علي، فلا يلحقه بعدها لاحق، ولا يطمع في إدراكه طامع فأجلبوا بما لديهم من إرجاف، وعملوا لذلك أعمالاً، فبعثوا نساءهم إلى سيدة نساء العالمين ينفرنها، فكان مما قلن لها: إنه فقير ليس له شيء لكنها عليها السلام لم يخف عليها مكرهن وسوء مقاصد رجالهن، ومع ذلك لم تبد لهن شيئاً يكرهنه حتى تم ما أراده الله عز وجل ورسوله لها (¬1) . ولقد نسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم زوج عثمان على ابنتيه، وتمنى أن لو كانت له ثالثة فيزوجه أيضاً. وأن أبا بكر وعمر لم يصنعا هذا الصنيع ولا شيئاً منه تجاهها ولا تآمرا عليه. وقد تناقض العاملي فإنه ذكر أيضاً ما يدل على تبرم فاطمة بزواجها من علي، فقد افترى على أبي هريرة، قال: قالت فاطمة: يا رسول الله زوجتني من علي وهو فقير لا مال له؟ قال صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة أما ترضين أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض فاختار رجلين أحدهما أبوك والآخر بعلك (¬2) . وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة في مرض أصابها على عهده فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت: والله لقد اشتد حزني واشتدت فاقتي وطال سقمي. قال صلى الله عليه وسلم: أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي إسلاماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً)) (¬3) ثم قال العاملي: ((والأخبار في ذلك متضافرة لا تحتملها مراجعاتنا)) (¬4) . وقد طعن في إيمان أبي بكر وعمر وطاعتهما للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عثمان رضي الله عنه، وكل من أطاعهم فزعم أنهم كانوا لا يمتثلون لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤولون قوله لصالحهم دون أي اكتراث بمخالفته ... إلى أن قال: ((أما الخلفاء ¬

(¬1) المرجعات ص 255. (¬2) المرجعات ص 256. (¬3) المرجعات ص 257. (¬4) المرجعات ص 257.

الثلاثة وأوليائهم فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها)) (¬1) وزعم أن علياً كان دائم الشكوى من قريش، ومن أبي بكر وعمر، فقال: ((وكم احتج أيام خلافته متظلماً، وبث شكواه على المنبر متألماً)) (¬2) . وأنه دائم الدعاء عليهم بقوله: ((اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي)) . ولقد نسي أن علياً بن أبي طالب كان لا يرى الدنيا تساوي شيئاً عنده فكيف بالخلافة التي أخذوها وهو كاره لها، لولا ما كان يؤمله من استقامة الناس على الدين، والقضاء على الفتن. ومن الأمور التي لم يتورع عنها العاملي زعمه أن الحسن بن عليّ جاء إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: انزل عن مجلس أبي، ووقع للحسين مثل ذلك مع عمر وهو على المنبر أيضاً (¬3) . وهناك افتراءات كثيرة وتشويه للحقائق وسباب لخيرة الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لم يجد العاملي أي حرج في ذكر هذه المواقف التي لا تمت إلى الإسلام بأدنى صلة. وله في أم المؤمنين عائشة من التعريض بها والسب والشتم -الذي لا يليق إلا به ومن يعتقد معتقده - ما لا أستطيع ذكره هنا لطوله، ولعدم صبر المؤمن على النظر فيه وقراءته. فقد ذكر في وسط السبب والتعريض بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً على منبره فأشار نحو مسكنها قائلاً: ((ههنا الفتنة، ههنا الفتنة، ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان)) (¬4) . ¬

(¬1) المرجعات ص 300. (¬2) المرجعات ص 337. (¬3) المرجعات ص 345. (¬4) المرجعات ص 284.

ولقد أذهب الحقد والكراهية لأم المؤمنين عقله فادّعى أن قرن الشيطان يطلع من بيت النبي صلى الله عليه وسلم من حجرة عائشة التي دفن فيها، وأن الفتن والشرور كلها تنبعث منه، وحاشا أن يقع، فانظر إلى سفه هؤلاء الفجار ... ثم أسند الحديث إلى البخاري ومسلم متجاهلاً معنى الحديث المقصود منه، مؤكدا أنه وارد في عائشة، وفي ذم حجرتها التي حوت قبر الرسول خير البشر صلى الله عليه وسلم واختلق العاملي حديثاً أورده عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ((ادعوا لي أخي. فجاء أبو بكر فأعرض عنه. ثم قال: ادعوا لي أخي. فجاء عثمان فأعرض عنه، ثم دعي له علي فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال لك؟ قال علمني ألف باب، كل باب يفتح له ألف باب)) (¬1) ويذكر أيضاً أنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كاد للإسلام كثير من العرب والمنافقين، والذين يريدون للإسلام شراً، وهؤلاء في جانب، وفي جانب آخر كان فيه كثير من العناصر الجياشة بكل حنق من محمد وآله وأصحابه، تريد انتهاز الفرصة، وأخذ الحكم قبل أن يستتب الإسلام بقوته ونظامه، ويقصد بهذا أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة. ثم قال: ((فوقف أمير المؤمنين بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يقدم حقه قرباناً لحياة الإسلام، وإيثاراً للصالح العام ... فانقطاع ذلك النزاع، وارتفاع الخلاف بينه وبين أبي بكر لم يكن إلا فرقاً على بيضة الدين)) (¬2) . وينقل عن عمر رضي الله عن أنه قال لابن عباس في كلام دار بينهما: ((إن قريشاً كرهت أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة فتجحفون على الناس)) (¬3) . ¬

(¬1) المرجعات ص 282. (¬2) المرجعات ص 294. (¬3) المرجعات ص 299.

وهذه الكذبة مثل الكذبة التي تقول في كتبهم عن الباقر والصادق: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة ليست له، ومن جحد إماماً من عند الله، ومن زعم أن أبا بكر وعمر لهما نصيب في الإسلام)) (¬1) أو الكذبة الأخرى في قولهم: ((ولله وراء هذا العالم سبعون ألف عالم في كل عالم سبعون ألف أمّة، كل أمّة أكثر من الجن والإنس، لا هم لهم إلا اللعن على أبي بكر وعمر وعثمان)) (¬2) . وللشيعة دعاء يسمونه ((دعاء صنمي قريش)) أبي بكر وعمر، ونصّه: ((اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما ... )) وهذا الدعاء انتظم الخليفة الراشد أبو بكر وعمر وعائشة وحفصة رضوان الله على جميعهم. وقد أشرنا إلى عدائهم للخلفاء في درس الرجعة والمهدية. وعلى العموم فإن كتبهم مملوءة بالسب والطعن في الصحابة، لا يستثنون إلا خمسة منهم، وقيل سبعة عشر من مجموع ذلك العدد الضخم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. وللطبرسي في كتابه ((فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)) من الغمز واللمز والأكاذيب على آل البيت ما يدل دلالة واضحة على بعد هؤلاء العتاة عن الدين الإسلامي الحنيف، وجهلهم بحق الصحابة، وأنهم بعيدون عن هدي الإسلام كل البعد، وهكذا فعل الطوسي في كتابه ((الغيبة)) ، ¬

(¬1) انظر الوشيعة ص 21. (¬2) المصدر السابق ص 22.

والخميني في كتبه ردد تلك الأفكار، وبالغ في زخرف القول مثل كتابه ((ولاية الفقيه)) وغيره من كتبه ووصاياه. وإذا كنت قد وعيت أيها القارئ الكريم كل ما تقدم، ورأيت مواقف الشيعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته وأهل بيته، بل والقرآن الكريم وعامة أهل السنة، ورأيت تلك العداوة الشديدة، وتلك المواقف التي يئن لها قلب كل مسلم ... فإن مما ينبغي أن يطأطأ له الشيعة رؤوسهم خجلاً أن تكون تلك الموقف هي عقيدتهم نحو دين الإسلام وأتباعه وهم يدعون أنهم من أتباعه وأن يذكر المنصفون من كتّاب الشرق والغرب ما يرفع رأس المسلم فخراً واعتزازاً بدينه وبأسلافه، ومن بيانهم لحقائق الإسلام والخلفاء ودورهم المشرق، ودور الصحابة في إسعاد البشرية بوصول الخير إليهم، ونقلهم بكل أمانة ما سعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف نشروا الإسلام، لا لشيء إلا لإرضاء الله تعالى، وقياماً بواجب الدعوة نحو البشرية جمعاء، مع ما كانوا فيه من الفاقة والزهد والترفع عما في أيدي أهل البلاد المفتوحة، وقيامهم بذلك العدل الذي أدهش أهل كل مكان وطئته أقدامهم الكريمة فدخلوا في دين الله أفواجاً راغبين مغتبطين لهذا الدين، وصاروا فيما بعد ذلك من جنود الإسلام الميامين. شهادة المنصفين: والآن اسمع ما يقوله المنصفون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهناك عشرات الأمثلة تركتها لئلا يطول البحث، ويمكنك الرجوع إليها بسهولة ويسر (¬1) ¬

(¬1) ارجع إلى كتاب ((الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب القسم الثاني لترى ما يزيدك إيماناً واعتزازاً بدينك.

يقول الكاتب الإنجليزي المشهور كاريل في إعجابه بالقرآن الكريم: ((إن القرآن كتاب لا ريب فيه، وإن الإحساسات الصادقة الشريفة والنيات الكريمة تظهر لي فضل القرآن، الفضل الذي هو أول وآخر فضل وجد في كتاب نتجت عنه جميع الفضائل على اختلافها، بل هو الكتاب الذي يقال عنه في الختام: (( {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬1) لكثرة ما فيه من الفضائل المتعددة)) (¬2) . ويقول الفريد غليوم أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن: ((علينا من المبدأ أن نقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان واحداً من أعلام التاريخ العظماء ... إلى أن يقول: إن إخلاص خلفائه لدعوته وإيمانهم بها وفهمهم لها قد جعلهم يعملون على تعميم الدعوة الرحيمة)) (¬3) . وقالت الدكتورة لورافيتشا فاليري الكاتبة الإيطالية في كتابها ((محاسن الإسلام)) : ((أما الخلفاء الذين خلفوا محمداً صلى الله عليه وسلم في حكم الدولة الإسلامية الذين كانوا تراجم ضميره، فقد صاروا على سننه التي سنها لهم، وحملوا راية الإسلام إلى قلب القارة الآسيوية من جهة، وإلى أمواج المحيط الأطلسي من جهة أخرى)) (¬4) . ويقول الدكتور م. أهنو قنصل اليابان في مصر، معجباً بالقرآن وما فيه من الهدى والخير: ¬

(¬1) سورة المطففين: 26. (¬2) المصدر السابق ص 132 نقلاً عن كتاب ((الأبطال)) . (¬3) المصدر السابق ص 143. (¬4) المصدر السابق ص 154.

((إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إذا تمسكوا بما جاء في القرآن الكريم من تعاليم فإن هذا يكون سبباً في تقدمهم في نواحي الحياة الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية؛ لأن القرآن قد جمع المدنيات قديمها، وحديثها، وهو كتاب جامع شامل)) (¬1) . وقال المسيو جوته: ((كلما قلَّبنا النظر في القرآن الكريم تملكنا الروعة والوجل، لكننا سرعان ما نشعر نحوه بجاذبية تنتهي بنا حتماً إلى الإكبار، فهو بين الكتب المقدسة نموذج عال رفيع، ولسوف يحيا تأثيره في النفوس في جميع الأجيال والعصور)) (¬2) . ويقول الأستاذ شيرل عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا في مؤتمر الحقوق عام 1937م: ((إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد صلى الله عليه وسلم إليها، إذ إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة)) (¬3) . وقال الأستاذ خليل إسكندر قبرصي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بعده: ((هذا الذي امتدت أيدي خلفائه إلى أقصى حدود أوروبا، فأناروا بحسن عدلهم وأمانتهم، وجميل تقواهم ظلماتها، ومزقوا بنور الفرقان دياجر جهالتها)) (¬4) . ¬

(¬1) المصدر السابق ص 170. (¬2) المصدر السابق ص 171. (¬3) المصدر السابق ص 173. (¬4) المصدر السابق ص 180.

7- قولهم بالبداء على الله

وهناك نصوص كثيرة جداً من هؤلاء الذين يحبون صفة الإنصاف فاقرأها وقارن بين مواقف هؤلاء ومواقف الشيعة لترى الغبن الفاحش للمسلمين بانتساب هؤلاء إليهم، مع بقائهم على تلك الأقوال والمعتقدات التي قدمنا ذكرها عن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته وأهل بيته وعامة المسلمين وكتابهم المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي الكتاب والسنة والإجماع وأقوال أهل البيت وسائر علماء الإسلام ما يغني عن الاستشهاد بكلام غير المسلمين لولا أني أردت إظهار خزي الرافضة. 7- قولهم بالبداء على الله: البداء: معناه الظهور بعد الخفاء، كما في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (¬1) أي ظهر. ومعناه أيضاً: حدوث رأي جديد لم يكن من قبل، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (¬2) . وله معان أخرى كلها لا تخرج عن مفهوم تجدد العلم بتجدد الأحداث. وهذه المعاني تستلزم سبق الجهل وحدوث العلم تبعاً لحدوث المستجدات لقصور العقول عن إدراك المغيبات. وإذا أطلقت هذه المعاني على الإنسان فلا محذور فيها لتحققها فيه، وأما إذا أطلقت على الله عز وجل فلا شك أنها كفر تخرج صاحبها من الملة، ذلك أن الله تعالى عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما ظهر وما ¬

(¬1) سورة الزمر: 47. (¬2) سورة يوسف: 35.

سيظهر على حد سواء، ومحال عليه عز وجل حدوث الجهل بالشيء فتبدو له البداءات فيه. وهذه العقيدة معلومة من الدين بالضرورة أنها باطلة لدى كافة المسلمين، ولا يتصور اتصاف الله بها إلا من لا معرفة له بربه، واستحوذ عليه الجهل والغباء. فما هو موقف الشيعة من هذه القضية؟. الواقع أن كل كتب الشيعة تؤكد وجود اعتقاد هذه الفكرة عن الله، بل ووصل بهم الغلو إلى حد أنهم يعتبرونها من لوازم الإيمان، كما سيأتي ذكر النصوص عنهم، إلا أن الأشعري يذكر عنهم أنهم اختلفوا في القول بها إلى ثلاث مقالات: * فرقة منها يقولون: إن الله تبدو

له البداوات، وإنه يريد أن يفعل الشيء في وقت من الأوقات، ثم لا يحدثه بسبب ما يحدث له من البداء، وفسروا النسخ الحاصل في بعض الأحكام على أنه نتيجة لما بدا لله فيها ... تعالى الله عن قولهم. * وفرقة أخرى فرّقوا بين أن يكون الأمر قد اطلع عليه العباد أم لا، فما اطلعوا عليه لا يجوز فيه البداء، وما لم يطلعوا عليه -بل لا يزال في علم الله- فجائز عليه البداء فيه. * وذهب قسم منهم إلى أنه لا يجوز على الله البداء بأي حال. هذا ما قرره الأشعري (¬1) ، ولكن كما قدمنا فإنه بالرجوع إلى مصادر الشيعة الإمامية الرافضة تجد أنهم متمسكون بهذا المبدأ ويقرون أن الله تبدو عليه البداوات، ويذكرون فيه فضائل من يعتقد على الله البداء أكاذيب كثيرة منكرة دون ذكر خلاف بينهم، وقد يصدق كلام الأشعري على بعض المعتدلين ممن مال إلى التشيع، ولم يغلوا فيه غلو الإمامية. أدلتهم على القول بالبداء: تمسك الرافضة بعقيدة البداء تمسكاً شديداً، ولهذا فإن أدلته في كتبهم لا تكاد تحصر. ومن ذلك ما ذكره الكليني في الكافي، حيث عقد باباً كاملاً في البداء سماه ((باب البداء)) ، وأتى فيه بروايات كثيرة توضح بجلاء مقدار تعلقهم بعقيدة البداء، منها: * عن زرارة بن أعين عن أحدهما عليهما السلام قال: ((ما عبد الله بشيء مثل البداء)) . والحقيقة ما عبد الله بشيء مثل التوحيد له عز وجل والانقياد التام، وأما البداء فهو عقيدة يهودية، من قال بها فقد وصف ربه بالنقص والجهل والتخبط في الاعتقاد. * وفي رواية ابن عمير عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام: ((ما عُظِّم الله بمثل البداء)) (¬2) . * وعن أبي عبد الله أنه قال: ((لو علم الناس ما في القول بالبداء من ¬

(¬1) المقالات جـ1 ص 113. (¬2) الكافي ج 1 ص 111.

الأجر ما فتروا عن الكلام فيه)) (¬1) . وعن مرزام بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ((ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة)) (¬2) . وهذه لا يظهر أنها خمس؛ فالسجود والعبودية والطاعة كلمات تغني كل واحد منها عن الأخرى. وعن الريّان بن الصلت قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: ((ما بعث الله نبياً إلا بتحريم الخمر، وأن يقر لله بالبداء)) (¬3) . وهذا غير متيقن فإن شرائع الأنبياء تختلف في الفروع، ولم تتفق دعوة الأنبياء على التأكيد إلا في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته. ومن تمجيدهم لمن يقول بالبداء ما رواه الكليني عن جعفر أنه قال: ((يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة واحدة، عليه سيما الأنبياء، وهيبة الملوك)) (¬4) . وعن أبي عبد الله قال: ((إن عبد المطلب أول من قال بالبداء، ويبعث يوم القيامة أمة واحدة، عليه بهاء الملوك وسيما الأنبياء)) (¬5) . والمعروف -حسبما يذكر علماء الفرق- أن أول من قال بالبداء في الإسلام وأظهره هو المختار بن أبي عبيد، وأن عبد المطلب لم يدخل الإسلام. ¬

(¬1) الكافي ج1 ص 115. (¬2) الكافي ج1 ص 115. (¬3) الكافي ج1 ص 115. (¬4) المصدر السابق ص 371، أبواب التاريخ؛ مولد النبي صلى الله عليه وسلم. (¬5) المصدر السابق ص 371، أبواب التاريخ؛ مولد النبي صلى الله عليه وسلم.

ويبدو القول بالبداء واضحاً فيما نقل الكليني عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ((يا ثابت، إن الله وقَّت هذا الأمر -أي خروج المهدي- في السبعين، فلما قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة، فحثّناكم فأذعتم الحديث، فكشفتم قناع الستر ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتا عندنا، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1) قال أبو حمزة: فحدثت بذلك أبا عبد الله عليه السلام فقال: قد كان ذلك (¬2) . ومفهوم هذا النص أن الله تعالى حينما وقّت خروج المهدي في أربعين ما كان يعلم عن مصير الحسين، فلما قتل الحسين غضب الله تعالى على الناس فأخر خروج المهدي جزاءً لقتله وانتقاماً من الناس. ومعلوم أن نسبة الجهل إلى الله تعالى كفر وردة كما تقدم، فإن الله تعالى قد كتب على الحسين كل ما هو لاقيه قبل أن يخلق السموات والأرض، واشتداد غضب الله تعالى حين قتل الحسين وبتلك الصورة المفاجئة يدل على أنه لم لكن يعلم ذلك، وإلا لاشتد الغضب قبل قتله، ولأخّر ظهور المهدي قبل توقيته في السبعين. وبعد أن ذكر الطوسيّ جملة من أخبار البداء قال: ((فالوجه في هذه الأخبار أن نقول إن صحت: إنه لا يمتنع أن يكون الله ¬

(¬1) سورة الرعد: 39. (¬2) الكافي ج1 ص 300.

تعالى قد وقّت هذا الأمر في الأوقات التي ذكرت، فلما تجدّد ما تجدّد تغيرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر، وكذلك فيما بعد ويكون الوقت الأول، وكل وقت لا يجوز أن يؤخر مشروطاً بألا يتجدد ما تقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لا يغيره شيء فيكون محتوماً)) (¬1) . وهذا هو إثبات الجهل بعينه لتوقف الأمور على ظهور المستجدات والمصلحة فيها. أول من قال بالبداء على الله تعالى: يبدو أن أول ادعى البداء على الله تعالى هم اليهود، قالوا: إن الله تعالى خلق الخلق، ولم يكن يعلم هل يكون فيهم خير أو شر، وهل تكون أفعالهم حسنة أم قبيحة، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح السادس من التوراة ما نصه: ((ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه جداً فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته لأني حزنت أني عملتهم)) (¬2) . وهذا النص وأمثاله يفيد صراحة أن الله قد بدت له أمور لم يكن يعلمها، فحزن حزناً شديداً حين رأى معاصي البشر. فالبداء عقيدة يهودية مدوّنة في كتبهم المحرفة، ونفس هذه الأفكار مدونة ¬

(¬1) كتاب الغيبة ص 263، وانظر فرق الشيعة للنوبختي ص 85 في نقله كلام سليمان بن جرير الشيعي في ذمه القول بالبداء وأنه حيلة من حيل الروافض (¬2) الكتاب المقدس، الإصحاح السادس، سفر التكوين.

عند الشيعة، فالكليني -كما رأينا فيما سبق- يروي عن الأئمة فضائل كثيرة لاعتقاد هذا الكفر، حتى وإن ذكر بعض الروايات التي تفيد عدم حصول جهل الله بالأمور قبل ظهورها لكنها لم تكن صريحة مثل النصوص الأخرى التي سبق ذكرها عنهم. ويذكر الكثير من العلماء أن أشد من تزعم القول بالبداء في الإسلام هو المختار بن أبي عيبد الثقفي تغطية لكذبه، قال البغدادي مبيناً سبب ادعاء المختار القول بالبداء على الله تعالى: ((وأما سبب قوله بجواز البداء على الله عز وجل فهو أن إبراهيم بن الأشتر لما بلغه أن المختار قد تكهّن وادعى نزول الوحي عليه قعد عن نصرته واستولى لنفسه على بلاد الجزيرة، وعلم مصعب بن الزبير أن إبراهيم بن الأشتر لا ينصر المختار فطمع عند ذلك في قهر المختار، ولحق به عبيد الله بن الحر الجعفي ومحمد بن الأشعث الكندي وأكثر سادات الكوفة غيظاً منهم على المختار لاستيلائه على أموالهم وعبيدهم، وأطمعوا مصعباً في أخذ الكوفة قهراً. فخرج مصعب من البصرة في سبعة آلاف رجل من عنده سوى من انضم إليه من سادات الكوفة، وجعل على مقدمته المهلّب بن أبي صفرة مع أتباعه من الأزد، وجعل أعنة الخيل إلى عبيد الله بن معمّر التيمي، وجعل الأحنف ابن قيس على خيل تميم ... فلما انتهى خبرهم إلى المختار أخرج صاحبه أحمد بن شميط إلى قتل مصعب في ثلاثة آلاف رجل من نخبة عسكره، وأخبرهم بأن الظفر يكون لهم، وزعم أن الوحي قد نزل عليه بذلك، فالتقى الجيشان بالمدائن، وانهزم أصحاب المختار وقتل أميرهم ابن شميط وأكثر قوّاد المختار، ورجع فلولهم إلى المختار وقالوا له: ألم تعدنا بالنصر على عدونا وقد انهزمنا؟

فقال: إن الله تعالى كان قد وعدني بذلك، لكنه بدا له، واستدل على ذلك بقوله عزّ وجلّ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1) . فهذا كان سبب قول الكيسانية بالبداء)) (¬2) . ويقول الشهرستاني في تقريره لهذه القضية: ((وإنما ضار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلاً على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم. وكان لا يفرق بين النسخ والبداء. قال: إذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار)) (¬3) . ومعلوم عند كافة أهل العلم أن النسخ ليس معناه البداء على الله تعالى، وإنما النسخ رحمة من الله تعالى وتدرّج في الأحكام. ولكن الشيعة أيضاً هم على هذا الرأي، وهو عدم التفريق بين النسخ والبداء، وفي هذا يقول الطوسي. ((وعلى هذا يتأول أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمنة للبداء ويبيّن أن معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ، أو تغير شروطها إن كان طريقها الخبر عن الكائنات (¬4) . وعلى كل حال فإنه ما من مسلم سليم الفطرة، لم تدنس فطرته بشبهات المبطلين ¬

(¬1) الرعد:39 (¬2) الفرق بين الفرق ص 50 - 52. (¬3) الملل والنحل ج1 ص 149. (¬4) كتاب الغيبة ص 264.

وأقوايل الضالين إلا وهو يعتقد أن الله تعالى لا يلحقه نقص في علمه المحيط بكل شيء، وأن ادّعاء البداء على الله معناه نسبة الجهل إليه جل وعلا، وهذا كفر صريح. ولقد أصبح الشيعة باعتقادهم هذا -كما يقول العلماء- ((عاراً على بني آدم وضحكة يسخر منهم كل عاقل بسبب ما اعتقدوه من مثل هذه الضلالات)) (¬1) . وبالرجوع إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية وإلى أقوال أهل العلم، وإلى فطرة كل شخص نجد أن كل ذلك يضحد ما ذهب إليه علماء الشيعة ويبطل القول بالبداء، وأن الذين يطلقون ذلك على الله ما عرفوه وما قدروه حق قدره ... ففي القرآن الكريم آيات تكذب كل زعم يقول بالبداء على الله عز وجل، ومن ذلك: 1- قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2) 2- قوله تعالى: {يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} (¬3) . 3- قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (¬4) . وفي السنة أحاديث كثيرة تدل على ما دلت عليه تلك الآيات، ومعلوم أن هذه الفكرة لم ترد على أذهان السلف الأوائل؛ بل إنهم كانوا يعتبرونها من ¬

(¬1) انظر: كتاب ((صبّ العذاب على من سّب الأصحاب)) ضمن رسالة علمية تحقيق ابن أبي شعيب، وانظر مختصر منهاج السنة 1/ 173. (¬2) الأنعام: 59 (¬3) طه: 52 (¬4) الحشر: 22

وساوس الشيطان ويستعيذون بالله منها، فإن الله قد أحاط بكل شيء علماً، والله لم يثبتها لنفسه والأنبياء لم يقرّوا لله بها -كما زعم الشيعة- وإنما أقر بها اليهود، وروجها عبد الله بن سبأ في الإسلام. وجدّدها المختار، وتلقفها عنهم الحاقدون على الإسلام الذين يطمعون في التلاعب بمفاهيم المسلمين وتشويه معتقداتهم، وليكون ذلك أيضاً غطاءً لما يريدونه من مخططات لهدم الإسلام. ومما لا يتطرق إليه الشك أن الشيعة -وهم يستحلون الكذب على الله وعلى الناس- أنهم هم الذين اخترعوا تلك النصوص ونسبوها إلى بعض العلماء الأجلاء من آل البيت لتكتسب بذلك وجهاً عند عوام المسلمين فيتقبلوها، ليتم لأولئك ما أرادوه من نيات سيئة بيّتوها للإسلام والمسلمين. * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثامن الشيعة في العصر الحاضر وهل تغير خلفهم عن سلفهم؟

الفصل الثامن الشيعة في العصر الحاضر وهل تغير خلفهم عن سلفهم؟ لقد تعمد علماء الشيعة مغالطات الناس قديماً وحديثاً في إبداء نظرتهم إلى المخالفين لهم من سائر الناس ومن أهل السنة -بخصوصهم- متخذين من التقية منفذاً لكل ما يريدونه من قول أو فعل، كما أنها تظهر بين آونة وأخرى كتابات لهم تبدي في الظاهر تقاربهم من أهل السنة، فانخدع الكثير بتلك الدعايات ولكن تبين أن الشيعة سلفاً وخلفاً لم يتغير موقفهم قيد أنملة. وتبين لأهل السنة ولكل مخلص أنه لم تُجدِ جميع المحاولات التي قاموا بها في دعوة الشيعة إلى التقارب، ذلك أن الشيعة قد قام دينهم من أول يوم على أساس التقية والكذب، كما تُصّرح بذلك كتبهم الموثوقة لديهم مثل الكافي الذي هو بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة. فهو مملوء بما لا يمكن أن يحصل بين الشيعة والسنة اتفاق ما داموا يعتبرونه مصدراً لهم، ويؤمنون بصحة ما فيه من الكفر والشرك ورفع الأئمة إلى مرتبة الألوهية في أبواب كثيرة منه يصرح فيها بأنه لا حق إلا ما أخذ عن الأئمة الذين يعلمون الغيب ويحق لهم التشريع كما يريدون. وهذا الغلو بعيد جداً عن تعاليم الإسلام إضافة إلى ما جاء فيه من البشارة لليهود بعودة الحكم والتمكين لهم في الأرض حينما يظهر أمر الأئمة، كما في باب ((أن الأئمة إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يُسألون

البينة)) . قال: ويروى عن عمار الساباطي قوله لأبي عبد الله جعفر بم تحكمون إذا حكمتم؟ قال: بحكم الله وحكم داود. كذلك موقف الغلاة منهم من القرآن الكريم واعتقادهم أن فيه نقصاً وتحريفاً، وكذلك موقفهم من الصحابة وما حكموا به عليهم من الكفر والردة وسبابهم الشنيع لهم، كل ذلك وغيره من عقائدهم الأخرى يجعل مانعاً قوياً بينهم وبين أهل السنة، وأقرب مثال على ذلك دار التقريب التي فتحت مؤخراً بين السنة والشيعة في القاهرة منذ زمن، واستمرت المحاولات على قدم وساق من جانب واحد وهو جانب أهل السنة. وحينما تبين لأهل السنة أن هذه المحاولات لم تُجْدِ شيئاً أصيبوا بخيبة أمل، وزاد الأمر وضوحاً لدى أهل السنة أن الشيعة لم يرضوا أن تفتح دور مماثلة للتقارب في النجف وقم وغيرهما من مراكز الشيعة لأنهم إنما يريدون من التقريب أن يتم بجذب أهل السنة إليهم وإلى غلوهم في التشيع فقط كما سبق ذكره. ولقد حذر كبار علماء الإسلام منذ القدم من هؤلاء الشيعة، فقال الشافعي: ((ما رأيت في أهل الأهواء قوماً أشهد بالزور من الرافضة)) (¬1) . وقال شريك بن عبد الله القاضي: ((أحمل عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً)) (¬2) . وبمثل هذا الكلام قال الإمام مالك وابن المبارك وأبو زرعة وغيرهم ¬

(¬1) اختصار علوم الحديث لابن كثير ص 109 نقلاً عن الشيعة في الميزان ص 116. (¬2) منهاج السنة ج1 ص 13 نقلاً عن الشيعة في الميزان ص 116.

والرازي والطحاوي والإمام أبو حنيفة وابن تيمية وابن القيم وغيرهم. كما ردّ عليهم علماء معاصرون، وبينوا كفر الشيعة وعنادهم وكرههم لمن عداهم من المسلمين. كما حذر هؤلاء من الانخداع بهم، فارجع أيها المسلم إلى ما قاله عنهم هؤلاء الأفاضل، وانظر ما قاله الألوسي ومحب الدين الخطيب وبهجت البيطار ومحمد رشيد رضا والهلالي ومصطفى السباعي والمودودي وابن باز والشيخ الأمين، غيرهم من العلماء الذين عرفوا حقيقة الشيعة ويئسوا من التقارب معهم. وقد وجدت الآن كتب تبين حقيقة الشيعة في هذا العصر الذي يقودهم فيه الخميني، وتبين أهداف الخميني ونواياه بالمسلمين من أهل السنة، ولعله يريد أن يعيد ما فعله ابن العلقمي سنة (656) ببغداد بالخلافة الإسلامية من تشجيعه للتتار على التنكيل بالمسلمين وغير ذلك من الأحداث التي تشهد بمواقف الشيعة وخيانتهم. ومما هو جدير بالتنبيه إليه أنه حينما اشتد الخلاف بين السنة والشيعة وأقلق ذلك الملك نادر شاه سنة (1156هـ) أمر بعقد مؤتمر في النجف يوم 26/10/1156هـ حضره علماء السنة والشيعة من العراق وإيران والتركستان والأفغان لبحث هذه الأمور التي فرقت بين المسلمين حيث كفّر بعضهم بعضاً ... الأفغان والتركستان يكفرون الإيرانيين لأنهم يسبون الشيخين، ويكفرون الصحابة ويقولون بحل المتعة، ويفضلون علياً على أبي بكر. وبعد أن تم الاجتماع وحضرت جموع كثيرة من كلا الجانبين وبحثوا في تلك القضايا التي سجلها أهل السنة على الشيعة اتفق رأيهم على ما تنص عليه الوثيقة التالية:

((إن الله اقتضت حكمته إرسال الرسل، فلم يزل يرسل رسولا بعد رسول حتى جاءت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما توفي وكان خاتم الأنبياء والمرسلين -اتفقت الأصحاب رضي الله عنهم على أفضلهم وأخيرهم وأعلمهم أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة رضي الله عنه، فأجمعوا واتفقوا على بيعته كلهم حتى الإمام علي بن أبي طالب بطوعه واختياره من غير جبر أو إكراه فتمت له البيعة والخلافة. وإجماع الصحابة رضي الله عنهم حجة قطعية، وقد مدحهم الله في كتابه المجيد فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (¬1) وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬2) . وكانوا إذ ذاك سبعمائة صحابي، وكلهم حضروا بيعة الصديق، ثم عهد أبو بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب فبايعه الصحابة كلهم حتى الإمام علي ابن أبي طالب، ثم اتفق رأيهم على عثمان بن عفان، ثم استشهد عثمان في الدار ولم يعهد فبقيت الخلافة شاغرة، فاجتمع الصحابة في ذلك العصر على علي بن أبي طالب. وكان هؤلاء الأربعة في مكان واحد، وفي عصر واحد، ولم يقع بينهم تشاجر ولا تخاصم ولا نزاع، بل كان كل منهم يحب الآخر ويمدحه ويثني عليه، حتى إن علياً رضي الله عنه سئل عن الشيخين فقال: هما إمامان عدلان قاسطان، كانا على حق وماتا على حق، فاعلموا أيها الإيرانيون أن فضلهم وخلفتهم على هذا الترتيب، فمن سبّهم وانتقصهم فماله وولده وعياله ودمه حلال للشاة، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ¬

(¬1) التوبة: 100 (¬2) الفتح: 18

وقد سجلت وقائع هذا المؤتمر ومناقشاته والملابسات التي صحبته في رسالة صغيرة بعنوان ((مؤتمر النجف)) (¬1) وقد ضمت تلك الرسالة تفصيلات أخرى فيما دار من حوار بين الإيرانيين وعلماء الأفغان لا نرى ضرورة لتسجيلها هنا، بل اقتصرنا على ذكر الخلاصة التي انتهى إليها المؤتمر، والتي تعتبر بمثابة توصية عامة يلتزم بها الجميع من أهل السنة والشيعة، وفيها -كما ترى- النص على ترك كل ما يثير الخلاف والفرقة بين المسلمين. ولو التزم الشيعة بعد ذلك بهذه الوثيقة لاجتمع أمر المسلمين على كلمة سواء، ولكن الشيعة لم يلتزموا بهذا الاتفاق بل كانوا يراوغون ويخادعون. وشيعة اليوم لا يختلفون عن شيعة الأمس في المراوغة والكيد، وفي الغلو أيضاً، فهذا الخميني زعيم ثورتهم في إيران يصرح بتعصبه الشديد وخروجه عن الحق في الأئمة، ورفعهم فوق مكانتهم البشرية فهو يقول: ((إنهم عليهم السلام يختلفون عن سائر الناس اختلافاً في قدم الخلق وفي الوجود، ولهم مع الرب تعالى مرتبة لا يدانيها ملك مقرب ولا نبي مرسل)) (¬2) . ولهم نشاط في استجلاب الناس إليهم حتى انخدع كثير من أهل السنة بهم وصاروا شيعة، ووصل عددهم كما زعم الخميني (200) مائتي مليون شيعي (¬3) . وإرضاؤهم لعلماء السنة بالكلمات الجميلة إنما هو من باب التقية حتى ¬

(¬1) مؤتمر النجف مع الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب ص 91 - 92. (¬2) ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية للخميني ص 61. (¬3) انظر كتاب ولاية الفقيه ص 137.

يتمكنوا من إتمام مخططاتهم في إقامة دولة شيعية عالمية. وفي هذا يقول الخميني: ((لا تبعدوا الناس عنكم الواحد تلو الآخر، لا تكيلوا التهم لهم بالوهابية تارة وبالكفر أخرى، فمن يبقى حولكم إذا عمدتم إلى ممارسة هذا الأسلوب)) (¬1) . وهو بهذه النصيحة إنما يريد أن يحثهم على معرفة طريق الخداع والنفاق، وإلا فإن قلبه -كما تشهد بذلك كتبه- يغلي حقداً على أهل الحق ابتداءاً بأبي بكر وانتهاءً بالموجودين في عصره. ولهذا فقد أمر الخميني الحجاج الإيرانيين بأن يصلوا مع أهل السنة تقية منهم وخداعاً للناس، كما كان يفعل قادة الشيعة حينما كانوا يصلون خلف أهل السنة أحياناً ثم يعيدون صلاتهم بعد ذلك، كما صرح بهذا أحد علماء الشيعة المعاصرين حين قال الدكتور موسى الموسوي: ((وعندما أكتب هذه السطور هناك آلاف مؤلفة من الشيعة الإمامية يعملون بالتقية في أعمالهم الشرعية، فهم يحملون معهم التربة الحسينية التي يسجدون عليها في مساجدهم، ولكنهم يخفونها في مساجد الفرق الإسلامية الأخرى، وكثير منهم يقيمون الصلوات في مساجد السنة مقتدياً بإمام المسجد وإذا عادوا إلى بيوتهم أعادوا الصلاة عملاً بالتقية معتمدين على روايات نسبت إلى أئمة الشيعة في التقية)) (¬2) . ولقد بلغ الحقد الشيعي على المسلمين - وخصوصاً أهل السنة - في عصرنا الحاضر إلى حد الاستهتار بدماء المسلمين وأعراضهم، وتهديد أمنهم في ¬

(¬1) سراب في إيران ص 39 نقلاً عن الخميني في أقواله وأفعاله لأحمد مغنية ص 167. (¬2) الشيعة والتصحيح ص 58.

بيوتهم ولعل ما فعلوه في مكة المكرمة في حج عام 1407هـ أقوى شاهد على مدى حقدهم، ونظرتهم إلى المخالفين لهم، حينما تظاهروا في الحج ما يقارب مائة وخمسين ألفاً، وهجموا يريدون الكعبة، وتجمعوا في مظاهرات غوغائية، وكانوا يهدفون إلى تحقيق مخطط رهيب رافعين شعاراتهم وصور زعيمهم الخميني، وتقدموا رجالاً ونساءً يريدون الحرم، لولا أن الله تعالى وبفضله ثم يقظة الحكومة السعودية لنجح مخطط أولئك. وحيل بينهم وبين دخول الحرم، واشتبكوا مع المسلمين من المواطنين والجنود وبقية الحجاج من المسلمين في قتال ضار، أريقت فيه دماء المسلمين الأبرياء، وراح زعماؤهم يلقون التهديدات بشتى الأساليب للكرة مرة أخرى، وسيردّ الله كيدهم إلى نحورهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} (¬1) . وقد حدث بالفعل أيضاً أن أوعزوا إلى بعض عملائهم في حج عام 1409هـ بزرع متفجرات حول الحرم المكي الشريف في يوم 7 ذي الحجة، وقام هؤلاء بهذه الجريمة النكراء وراح ضحيتها حجاج أبرياء جاؤوا لأداء فريضة الحج، ثم اندس أولئك العملاء في الناس، وظنوا أنهم نفذوا جريمتهم، وشفوا حقد صدورهم. ولكن الله أطلع الحكومة السعودية بتوفيقه فنالوا جزاءهم في الدنيا بتنفيذ حكم الله في المحاربين، وقتلوا وسجن بعضهم..مع أن الحج نفسه لم يكن هدف الحجاج الإيرانيين، بل الهدف زيارة مرقد الرسول صلى الله عليه وسلم ومراقد الأولياء كما صرحوا بهذا في منشور المظاهرة التي نظموها عام 1406هـ جاء فيه: ¬

(¬1) المائدة: 64

((فإننا نحن حجاج بيت الله القادمون من كل فج عميق لزيارة مرقد خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الصالحين والصلاة في مسجد الرسول، خرجنا اليوم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة ... إلخ في25/11/1406هـ. ولا ينبغي كذلك أن ننسى ما يفعلونه اليوم والحرب تدور رحاها في لبنان ليلاً ونهاراً كيف تعامل أحزابهم الكثيرة المسلمين من أهل السنة بخصوصهم بكل قسوة وعنف وكيف تفننوا في التنكيل لهم كما تفعل اليهود أو أشد -كما يروي البعض- مع تظاهرهم بالإسلام وهم والنصيريون يد واحدة ذئاب شرسة على الإسلام والمسلمين. وهم على وتيرة واحدة سلفهم وخلفهم من أشد أعداء أهل السنة ومن أكثرهم تآمراً عليهم، ولقد كان المسلمون يُذبحون في بغداد ويحرقون بالألوف أمام ابن العلقمي والنصير الطوسي وهما يدلان التتار على عورات المسلمين، وعلى كتبهم وعلى أماكن اختبائهم، وكانا يظهران الفرح والشماتة بالمسلمين، ثم تلت ذلك أحداث لا حصر لها كان هؤلاء الشيعة أنكى الناس والملل كلها بالمسلمين. ولا غرابة في هذا منهم ماداموا قد أبغضوا خيرة أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولعنوهم في كل صباح ومساء ورووا في مثالبهم ما لا يفعله الوثنيون، ويتنزه عنه الإباحيون، ويكفي أنهم حكموا عليهم بأنهم ارتدوا عن دين الإسلام، وأخفوا كثيراً من القرآن، وقذفوا أم المؤمنين. وفي عصرنا الحاضر من الأمثلة ما لا يكاد يحصر، ويكفي أنهم يسمون أهل السنة والجماعة ((النواصب)) ثم يكيلون لهم اللعنات وأشد الافتراءات، بل ويفضلون الكلاب عليهم ويعتبرونهم من المغضوب عليهم عند الله، ولم

يعترفوا لهم بأقل الصفات البشرية. يقول الخميني في حكمه على أهل السنة الذين يسميهم نواصب: ((وأما النواصب والخوارج -لعنهم الله تعالى- فهما نجسان من غير توقف)) (¬1) . ويقول في مساواة المسلمين بغير المسلمين في التذكية بالكلب المعلَّم. ((الثاني: أن يكون المرسلِ مسلماً أو بحكمه، كالصبي الملحق به بشرط كونه مميزاً، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه، أو من كان بحكمه كالنواصب لعنهم الله لم يحل أكل ما قتله)) (¬2) بل ويرى عدم جواز الصلاة على ميت أهل السنة الذين يسميهم زورا بالنواصب فقال: ((يجب الصلاة على كل مسلم وإن كان مخالفاً للحق على الأصح، ولا يجوز على الكافر بأقسامه حتى المرتد، ومن حكم بكفره ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوراج)) (¬3) . ثم أدركه عرق السوء الذي جعل أسلافه يعتقدون بأن في القرآن تحريفاً وزيادة ونقصاً فهو يقرر ما يلي: ((مسألة: سورة الفيل والإيلاف سورة واحدة، وكذلك الضحى وألم نشرح فلا تجزئ واحدة منها، بل لابد من الجمع مرتباً مع البسملة الواقعة في البين)) (¬4) أي أنه لم يكن على اقتناع من وضع القرآن وترتيبه. * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) تحرير الوسيلة ج1 ص 118 القول في النجاسات المسألة العاشرة. (¬2) المصدر السابق ج2 ص 136. (¬3) المصدر السابق ج1 ص 79. (¬4) المصدر السابق ج2 ص 165.

الفصل التاسع الحكم على الشيعة

الفصل التاسع الحكم على الشيعة يسأل كثير من الدارسين عن حكم الشيعة ... هل هم كفار خارجون عن الملة، أم هم في عداد الفرق الإسلامية؟ وبغض النظر عن اختلاف وجهات نظر العلماء في الحكم عليهم، وبغض النظر أيضاً عما يورده كل فريق من أدلة على ما يذهب إليه فإن الواقع يدل على أن الحكم على الشيعة أو غيرهم من الفرق بحكم واحد يحتاج إلى تفصيل فأما بالنسبة للشيعة بخصوصهم الذي اتضح لي: 1- أن الشيعة ليسوا جميعاً على مبدأ واحد في غير دعوى التشيع، فمنهم الغلاة الخارجون عن الملة بدون شك، ومنهم من يصدق عليهم أنهم مبتدعون متفاوتون في ابتداعهم، فبعضهم أقرب من البعض الآخر. 2- أن التثبت في تكفير المعين أمر لا بد منه، إذ ليس كل من انتسب إلى طائفة خارجة عن مذهب السلف في بعض القضايا يحق تكفيره. 3- ليس معنى التثبت في تكفير المعين أننا لا نطلق على الطائفة الخارجة عن الحق ألفاظ التبديع والتضليل والخروج عن الجماعة، لأن ذلك الحكم خاص بتعيين الأفراد لا الجماعة عموماً، خصوصاً من وجدنا نصاً فيهم. وعلى هذا فالحكم العام على الشيعة أنهم ضلال فساق خارجون عن الحق، وهالكون مع الفرق التي أخبرت عنها الأحاديث - حكم لا غبار عليه.

4- اتضح أن الشيعة عندهم مبادئ ثابتة في كتبهم المعتمدة، قررها رجالاتهم المعتبرون قدوة في مذاهبهم، من قال - ولو ببعض من تلك المبادئ - فلا شك في خروجه عن الملة الإسلامية، ومنها: أ- قولهم بتحريف القرآن وأنه وقع فيه الزيادة والنقص حين جمعه أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم، كما صرح بذلك الطبرسي في كتاب ((فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)) ، وغيره من كتب الشيعة، وانتظارهم أيضاً مصحف فاطمة كما يزعمون. ب- غلوهم في أئمتهم وتفضيلهم على سائر الأنبياء كما ملئت بذلك كتبهم القديمة، والحديثة، الكافي وما كتبه الخميني في العصر الحديث. ج - غلوهم في بُغض الصحابة ممن شهد الله لهم بالفوز والنجاة، كأبي بكر وعمر وعثمان وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحفصة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وردهم شهادة أم المؤمنين رضي الله عنها، وبقاؤهم على عداوتها وإفكهم عليها، واعتبارها عدوة وليست بأم، وهذا حق، فإنها ليست لمثل هؤلاء بأم، فهي أم المؤمنين فقط. د- قولهم بالبداء على الله تعالى، وقد تنزه الله عن ذلك. ومواقف أخرى يصل خلافهم فيها إلى سلب العقيدة الإسلامية من جذورها في كل قلب تشبع بها. وأما من لم يقل بتلك المبادئ، وكان له اعتقادات أخرى لا تخرجه عن الدين، فإنه تقام عليه الحجة ثم يحكم عليه بعد ذلك حسب قبوله الحق أو ردّه له. * * * * * * * * * * * * * * * **

من مراجع فرق الشيعة

من مراجع فرقة الشيعة 1. كتاب الكافي: للكليني. 2. فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب: للطبرسي. 3. تحرير الوسيلة: للخميني. 4. كتاب الغيبة: للطوسي. 5. ولاية الفقيه: للخميني. 6. الشعائر الحسينية: للشيرازي. 7. فرق الشيعة: للنوبختي. 8. مختصر التحفة الاثني عشرية ... للآلوسي. 9. الفقه الجعفري وأصوله: للسالوس. 10. الرد على الرافضة: للمقدسي. 11. المراجعات: للعاملي مع الرد عليها للزعبي. 12. وجاء دور المجوس: للغريب. 13. أمل والمخيمات الفلسطينية: للغريب. 14. الخميني بين التطرف والاعتدال: للغريب. 15. أبرهة الجديد: لقنديل. 16. سراب في إيران: للأفغاني.

17. الثورة البائسة: للموسوي. 18. الشيعة في الميزان: للنجرامي. 19. الشيعة وتحريف القرآن: لمحمد مال الله. 20. الشيعة والتصحيح: للموسوي. 21. عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام: لسليمان حمد العودة. 22. عبد الله بن سبأ حقيقة لا خيال: لسعدي الهاشمي. 23. السبئيون منهجاً وغاية: د. حمدي عبد العال. 24. إحسان إلهي ظهير في كتبه: 1. الشيعة والسنة. 2. الشيعة وأهل البيت. 3. الشيعة والقرآن. 4. الشيعة والتشيع. والحمد لله رب العالمين. * * * * * * * ** * * * **

الباب الخامس الباطنية

الباب الخامس الباطنية الفصل الأول تمهيد في بيان خطر هذه الطائفة مذهب الباطنية من أخبث وأردأ المذاهب، وأهله من عتاة الشر وأفسد المخلوقات، وهم أعدى أعداء المسلمين قديماً وحديثاً، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى بعض عقائدهم نحو المسلمين، فذكر أن لهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة، فإذا كانت لهم مكنة يسفكون دماء المسلمين، وإن عجزوا لجئوا إلى الخطط والمؤامرات السرية ضدهم، وحينما استولوا على البحرين وصارت لهم فيه دولة عاثوا فساداً. وكذلك حينما تمكنوا من الوصول إلى مكة والناس في الحج قتلوا الحجيج، بل حصدوهم كما تحصد الحشائش، وألقوا بجثثهم في بئر زمزم، وبعضهم دفنوهم في صحن المسجد، وبعضهم تركوهم جثثاً منثورة، ثم اقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم، وقتلوا من علماء المسلمين ومشائخهم وأمرائهم وجندهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى. وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فقد كانوا في أيام الحروب الصليبية أعظم أعوان النصارى، فلم يستول الصليبيون على السواحل الشامية إلا من جهتهم، وما دخل التتار بلاد المسلمين إلا بمعونتهم، فلقد كان النصير الطوسي

أبرز عيونهم، ولقد كان الخليفة مغتراً به. وما أن دخل التتار بغداد حتى حرضهم النصير الطوسي على قتل الخليفة وعشرات الألوف من المسلمين، وهدم عليهم دورهم، وقتل النساء والأطفال، وسبى من أراد سبيه من نسائهم وفضحهن، وأغرق كثيراً من كتب المسلمين في نهر دجلة حتى تغير ماء النهر. وأعظم أعيادهم هو اليوم الذي يصيب المسلمين فيه بلاء وكرب، كيوم استيلاء الصليبيين على سواحل الشام، وكيوم استيلاء التتار على بغداد. كما كانت أعظم مصائبهم يوم أن نصر الله المسلمين على التتار والصليبيين والعبيديين. وقد أوجز البغدادي عداوة الفرق الباطنية للإسلام والمسلمين في كلامه الآتي فقال: ((اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل وأعظم من الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان، لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال من وقت ظهوره، لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها عن أربعين يوماً وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر)) (¬1) . والسبب أن من ذكرهم البغدادي خطرهم ظاهر وعداوتهم معروفة والناس يحذرونهم بطبيعة الحال، ولكن الضرر الشديد يأتي ممن يتظاهر ¬

(¬1) الفرق بين الفرق ص 382.

بالإسلام فيغتر به المسلمون، فيطعنهم من خلفهم كما هو حال الباطنية في مختلف عصورهم، وقلما تجد كاتباً من علماء المسلمين من المؤرخين وعلماء الفرق إلا وهو يذكر من أفعال هؤلاء بالمسلمين ما تقشعر له الجلود. وقد وصف ابن كثير رحمه الله عداوتهم ووقيعتهم بالمسلمين حينما قادهم أبو طاهر الجنابي ووصلوا إلى مكة، والناس في الحج آمنون مطمئنون ... قال عن ذلك: ((فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام، في الشهر الحرام، في يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام وهو يقول: ((أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا)) . فكان الناس يفروّن منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون وهم في الطواف ... )) ) إلى أن قال: ((فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم وفي المسجد الحرام. وهدم قبّة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها وشققها بين أصحابه ... )) (¬1) الخ ما ذكره عن جرم هؤلاء، وقد حدد بعض العلماء عدد من قتل بثلاثة عشرة ألف نسمة (¬2) . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أشد المحذرين من الباطنية ¬

(¬1) البداية والنهاية ج11 ص 160. (¬2) كشف أسرار الباطنية ص 39.

لمعرفته الواسعة بمذاهبهم، وقد أجاب من سأله عنهم بجواب طويل جاء فيه: ((هؤلاء القوم المسمَّونْ بالنصيرية (¬1) هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسلوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا بنهي ولا بثواب ولا بعقاب ولا بجنة ولا بنار ... )) . إلى أن قال: ((فإن كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم ... )) إلى أن قال: ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار. ومن أعظم أعيادهم إذا استولى -والعياذ بالله- النصارى على ثغور الإسلام. ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعونتهم ومؤازرتهم، فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو النصير الطوسي، كان وزيراً لهم بالموث، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء)) (¬2) . وفي كتب الباطنية من المدح والتمجيد لهذا المجرم ما لا يستحقه. يقول ¬

(¬1) ستأتي دراسة النصرية. (¬2) مجموع الفتاوى ج35 ص 149 - 152.

مصطفى غالب عنه: ((حتى أخضع هولاكو خان قلعتي ((آلموت)) ، ((ميمون دز)) فعثر على هذا الفيلسوف الكبير في مرصد القلعة، فاقتاده الجند إلى هولاكو خان، ولما مثل بين يديه أكرمه وطلب منه أن يلتحق بخدمته كوزير له، فرفض في بادئ الأمر إلا إذا أمن على أرواح وممتلكات الإسماعيلية، فوعده خيراً شريطة أن يرافقه في حملته على بغداد، وهكذا انتقل هذا الفيلسوف العظيم إلى خدمة هولاكو خان بعد أن أخذ منه العهد على المحافظة على الإسماعيلية)) . ثم قال عن إشارته على هولاكو بقتل خليفة المسلمين: ((وبعد أن تم لهولاكو احتلال بغداد أشار عليه بأن يقتل آخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله)) . ثم قال عن سرقته كتب المسلمين، ونهب ما شاء منها: ((واغتنم فرصة وجوده في بغداد، فجمع كل ما تمكن من جمعه من الكتب النادرة، وقيل: إن مكتبته أصبحت بعد فتح بغداد- انظر كيف يسمي تلك الفاجعة فتحاً -تضم أكثر من أربعمائة ألف مجلد)) (¬1) . ولقد ظل هؤلاء على عداوتهم للمسلمين، ورغم تشتت النصيرية قديماً لكنهم ظلوا يعملون في الخفاء بنشاط، إلى أن استطاعوا الوصول إلى الحكم في سوريا في هذا العصر على حين غفلة من المسلمين، فما كان لهم همّ مثل همِّهم القضاء على المسلمين أهل السنة في سوريا وفي غيرها، وأفعالهم اليوم تعيد إلى الأذهان فعل أسلافهم قديماً. ¬

(¬1) انظر أعلام الإسماعيلية ص 587 - 588.

ولهم في الحروب التي جرت بين العرب واليهود في سنة 1967م تعاون ظاهر وخفي، إذ مكنوا- كما قال المطلعون على أخبارهم اليهود من احتلال أجزاء كبيرة من سوريا -هضبة الجولان والقنيطرة- ومن الأردن ومن لبنان لقاء اتفاقيات سرية ومصالح مشتركة (¬1) . ومن المؤسف أن تجد الكثير من أهل الكتب من أهل السنة قد انخدع بنفاق هؤلاء الباطنية، فصادقوهم وأمدوهم بالأموال متناسين ما تنطوي عليه نيات هؤلاء، ظانين أن تغير الأسماء قد أخرجهم عن ديانتهم وحقدهم على المسلمين. * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) اقرأ كتاب سقوط هضبة الجولان.

الفصل الثاني متى ظهر مذهب الباطنية

الفصل الثاني متى ظهر مذهب الباطنية اختلفت كلمة العلماء حول تحديد ظهور هذا المبدأ الهدام- على نحو ما قدمنا في بيان بدء- ظهور الفرق- وقد ذهب بعض العلماء إلى التحديد بالزمن، فذكر أن الباطنية ظهر مذهبهم في سنة 205هـ وقال آخرون: في سنة 250هـ، وبعض العلماء يقول: مائتين وكسر. وذكر أصحاب التواريخ أن دعوة الباطنية ظهرت في زمن المأمون وانتشرت في عهد المعتصم، ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين بحرّان، ويذكر البغدادي أنهم دهرية زنادقة. ويقول الديلمي في بيانه لنشأتهم: ((اعلم أن ابتداء وضع مذهب الباطنية - سلط الله عليهم طوفان نوح- وريح عاد وحجارة لوط، وصاعقة ثمود -كان في سنة خمسين ومائتين من الهجرة)) (¬1) . وقال عندما شرع في تفصيل مذهبهم: ((اعلم أن مذهب الفرقة الغويّة الضالة الشقية المسماة بالباطنية -قطع الله دابرها، وبتَّ أواخرها، وألحق أولها بآخرها -على ما نقله العلماء -حدث بعد ¬

(¬1) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 3.

مائتي سنة وكسر من الهجرة)) (¬1) . ويقول البغدادي في بدء ظهور الباطنية: ((ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذين هم بحرّان ... )) إلى أن يقول: ((قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم)) (¬2) . بينما يذهب الشيخ محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي إلى أن نشأة الباطنية كان في سنة مائتين وست وسبعين، حينما قام زعيمهم ميمون القداح بإنشاء هذا المذهب الخبيث وهو وزملاؤه الذين كانوا على شاكلته (¬3) . والذي يظهر لي أن سبب اختلاف العلماء في تحديد نشأة الباطنية يعود إلى عوامل عدة من أهمها: 1. غموض أمر الباطنية في أدوار كثيرة مرّ بها تاريخهم، كل واحد من العلماء أرّخ لهم حسب ما وصل إليه من أخبارهم. 2. أن مذهب الباطنية نفسه يقبل تلك الاختلافات ... فمن قال: إنهم ظهروا في الإسلام، فلما يبدونه من تظاهرهم به وتشيعهم أيضاً لآل البيت. ومن قال: إن أفكارهم تعود إلى ما قبل الإسلام من أفكار الصابئة أو الدهرية، فلما وجده من آرائهم الكثيرة التي بدا عليها طابع الدهرية أو الفلاسفة القدماء أو البرهمية أو اليهودية أو النصرانية أو البوذية، لأن مذهب الباطنية خليط من شتى الديانات. ¬

(¬1) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص.18. (¬2) الفرق بين الفرق ص 294. (¬3) انظر كشف أسرار الباطنية ص 32.

والحقيقة التي يجب أن ندركها أن مهما كانت الأسباب فإن الدعوة الباطنية يحوطها كثير من الغموض خصوصاً في بدء أمرها، أي في الدور الذي يسمونه ((دور الستر)) ؛ إذ لا يتمكن أحد من معرفتهم والكتابة عنهم الكتابة الدقيقة، ومهما كان فإن عقائد الباطنية على العموم قد استمدت من عقائد قديمة. ولكن بدأ التخطيط لإقامة هذا المذهب في الإسلام كما يترجح من أقوال العلماء ما بين سنة 200و300هـ أي بعد انتشار الإسلام وعز أهله به، وانطفاء نار المجوسية، كسر صليب النصارى، وكسر طاغوت الوثنية، ودحر اليهودية، وضرب الذلة والمسكنة عليهم. فأكل الحسد قلوبهم، وبدأوا يخططون في الخفاء لطريق ينفّسون بها عن أحقادهم للنيل من الإسلام وأهله، فاهتدوا إلى هذه الطرق التي سيأتي الحديث عنها، ليستيقن طالب العلم أن ما نعايشه في عصرنا هذا من مؤامرات ظاهرة وخفية على الإسلام وأهله إنما هو امتداد لتلك الحركات الأصول في ذلك الزمن، وإنما تخمد حيناً وتنشط أحياناً أخرى، والهدف واحد على امتداد الزمن. * * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثالث الغرض من إقامة هذا المذهب وكيف تأسس

الفصل الثالث الغرض من إقامة هذا المذهب وكيف تأسس قام هذا المذهب الهدام من أول الأمر على النيل من الإسلام وأهله، إما بإخراج المسلم عن دينه بالكلية، أو بإدخال الشكوك في قلبه. ولقد استفاض العلماء في بيان ذلك كله، واتضح أن قيام هذا المذهب كان لأسباب كثيرة ومقاصد خبيثة من أهمها: إبطال الإسلام والقضاء عليه وعلى أهله، أو زعزعته من نفوس المسلمين أو تشكيكهم فيه، وإحلال المجوسية والإلحاد محله. من أجل ذلك، ومن أجل إقامة حكم عام في الأرض تسيطر عليه الآراء الباطنية، وينفذ فيه حكمها..قام هذا المذهب. واتخذ أهله عدّة أقنعة تستّروا بها لتحقيق ما يهدفون إليه منها: 1- اعتمادهم على تأويل النصوص تأويلات تنافي ما يقرره الإسلام ويأمر به. 2- إظهار التشيع لعلمهم بأن مذهب التشيع يحتمل كلامهم، إذ لم يجدوا مدخلاً إلى الإسلام إلا من جهة إظهار التشيع والانتساب إلى المذهب الشيعي. وقد تم تأسيس هذا المذهب -فيما يذكر الغزالي (¬1) - كما يلي: ((تم في اجتماع لقوم من أولاد المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية ¬

(¬1) انظر فضائح الباطنية ص 18- 20.

الملحدين، وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، -زاد الديلمي: وبقايا الخرمية واليهود-..جمعهم ناد واشتوروا (¬1) في حيلة يدفعون بها الإسلام. وقالوا: إن محمداً غلب علينا وأبطل ديننا، واتفق له من الأعوان ما لم نقدر على مقابلتهم، ولا مطمع لنا في نزع ما في أيدي المسلمين من المملكة بالسيف والحرب، لقوة شوكتهم وكثرة جنودهم، وكذلك لا مطمع لنا فيهم من قبيل المناظرة لما فيهم من العلماء والفضلاء والمتكلمين والمحققين فلم يبق إلا اللجوء إلى الحيل والدسائس. ثم اتفقوا على وضع حيل وخطط مدروسة يسيرون عليها لتحقيق أهدافهم من خلال الأمور التالية: 1- التظاهر بالإسلام وحب آل البيت والانتصاف لهم. 2- دعوى أن النصوص لها ظاهر وباطن، والظاهر قشور والباطن لبّ، والعاقل يأخذ اللبّ ويترك القشور. وهذا الزعم الكاذب يريدون من ورائه سلب المعاني عن الألفاظ، والإتيان بمعان باطنية تتفق مع ما يهدفون إليه من الكيد للإسلام. 3- اختاروا أن يدخلوا على المسلمين عن طريق التشيع، وعلى مذهب الرافضة، وإن كان هؤلاء الباطنيون يعتبرون الروافض أيضاً على ضلال، إلا أنهم رأوهم- على حد ما ذكر الغزالي- أرّك الناس عقولاً، وأسخفهم رأياً، وألينهم عريكة لقبول المحالات، وأطوعهم للتصديق بالأكاذيب المزخرفات (¬2) ، ¬

(¬1) انظر بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 19. (¬2) فضائح الباطنية ص 19.

وأكثر الناس قبولاً لما يلقى عليهم من الروايات الواهية الكاذبة، فتستروا بالانتساب إليهم ظاهراً للوصول إلى أصناف الناس، فكان ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض)) كما ذكر الغزالي (¬1) . أو كما قال بعض العلماء: إن الإمامية دهليز الباطنية ... وهذا هو التفسير الواضح لما تلحظ من التقارب الشديد بين الباطنية والرافضة. 4- اتفقوا أن يبثوا دعاتهم وأن يلزموهم بخطة ماكرة، وهي أنه يجب على كل داعية أن يوافق هوى المدعو مهما كان مذهبه ودينه مستعملاً معه الحيل التسع المعروفة عنهم والتي سنذكرها فيما بعد. وكان من أبرز دعاتهم ميمون بن ديصان القدّاح، وهو رئيسهم (¬2) ، وابنه عبيد الله، وحمدان قرمط (¬3) ، وزكرويه بن مهرويه -عبدان-، وأبو سعيد الجنابي، وولده أبو طاهر (¬4) ... وغيرهم ممن يطول حصرهم هنا. وقد تحمل دعاة الباطنية كثيراً من المشقة والآلام والأسفار الكثيرة في نشر ¬

(¬1) المصدر السابق ص 37. (¬2) ويذكر أنه تظاهر بالإسلام على يدي جعفر الصادق وترك المجوسية فغيروا اسمه إلى القداح فيما بعد، لأنه يقدح العلم عن خاطره على حد زعمهم وهو فارسي من الأهواز. بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 20، وانظر ترجمته في أعلام الاسماعيلية ص 559. (¬3) هو حمدان بن الأشعث الأهوازي الملقب بقرمط، أصله من خوزستان، تزعم طائفة نسبت إليه، ولقب بقرمط لقصر كان فيه، فرجلاه قصيرتان بشكل ملفت للنظر الأمر الذي جعله ناقماً على المجتمع. القرامطة ص5، وقد سماه ابن كثير قرط بن الأشعث البقار، انظر البداية والنهاية ج11 ص62، وسماه النوبختي قرمطويه، انظر البداية والنهاية ج11 ص62، وسماه النوبختي قرمطويه، انظر فرق الشيعة صـ93 وسماه ابن الجوزي كرميته نسبه إلى رجل يسمى بهذا الاسم تلبيس إبليس ص 110. (¬4) انظر: فضائح الباطنية، وانظر: بيان بطلان مذهب الباطنية في عدة مواضع.

باطلهم من بلد إلى بلد، مما يتوجب على أهل الحق- وهم يعرفون بأنهم سيحصلون من دعوتهم إلى الله على خيري الدنيا والآخرة - ألا يكون هؤلاء الطغاة أكثر حماساً وصبراً منهم في نشر باطلهم. * * * * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الرابع أسماء الباطنية وسبب تسميتهم بتلك الأسماء، وبيان أماكن وجود القرامطة

الفصل الرابع أسماء الباطنية وسبب تسميتهم بتلك الأسماء أطلقت على هذه الطائفة أسماء كثيرة للتمويه على الناس، بعضها يقبلونه وبعضها لا يقبلونه، ومن أشهرها: 1- الباطنية: وقد أطلق عليهم هذا الاسم لزعمهم أن النصوص من الكتاب والسنة لها ظاهر وباطن، وأن الظاهر بمنزلة القشور والباطن بمنزلة اللب (¬1) . 2- الإسماعيلية: نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق لزعمهم الانتساب إليه (¬2) لأن والده جعفر الصادق نص إلى إمامته من بعده، وأوصى له بها رغم أن علماء النسب مجمعون على أن إسماعيل مات في حياة والده سنة (145هـ) ، لكن الإسماعيليون يزعمون أن إسماعيل لم يمت في حياة والده وفي العام المذكور. بل إن أباه قد جعله وصيه، ولخوفه عليه من الخليفة العباسي احتال لإخفائه عنه فكتب محظراً بوفاته وأشهد عليه عامل المنصور العباسي بالمدينة المنورة، وفي نفس الوقت توجّه إسماعيل سراً إلى (السلمية) وهي من أعمال ¬

(¬1) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص21 وانظر فضائح الباطنية ص 11. (¬2) انظر الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام ص 23.

حماة، وإلى الجنوب الشرقي منها، بينهما 35كم، وهي مركز الإسماعيلية حيث كان يقيم فيها آنذاك رهط من بني هاشم، وانتسب إليهم فعرفوه وأقام بينهم. يقول مصطفى غالب عن سلمية هذه: ((ويكفي سلميّة فخراً أنها أنجبت جماعة إخوان الصفا، ومنها انطلقت جحافل الإمام عبيد الله المهدي لتأسيس الدولة الفاطمية في المغرب)) . ثم يزعم الإسماعيليون أن الخليفة العباسي علم بمكان إسماعيل في السلمية، وحينئذ خرج إسماعيل متخفياً إلى دمشق، وعلم به كذلك الخليفة، وكان العامل على دمشق إسماعيلياً فأخبر إسماعيل بما كتب به الخليفة من إلقاء القبض على إسماعيل وإرساله إلى الخليفة. فقرر إسماعيل التوجه إلى العراق ووصل البصرة سنة 151هـ، ثم ظل ينتقل بين أتباعه سراً وتحت أزياء مختلفة وأسماء عديدة إلى أن توفي سنة 158هـ بعد أن رزق -حسب زعمهم- من الأولاد محمد وعلي وفاطمة، وبعد أن أوصى بالإمامة من بعده إلى محمد (¬1) . وقد حصل شقاق وتفرق بين الإمامية والإسماعيلية في سوق الإمامة، فبينما هي عند الشيعة الاثني عشرية في جعفر الصادق ثم في موسى الكاظم، إذا هي عند الإسماعيلية في جعفر الصادق ثم في ابنه إسماعيل ثم في محمد بن إسماعيل..إلى آخر أئمتهم المستورين. وقد تفرقت الإسماعيلية إلى ثلاث فرق معاصرة هي: ¬

(¬1) انظر هذه التفاصيل في كتابه ((أعلام الإسماعيلية)) لمؤلفه الباطني مصطفى غالب ص 161-165.

أ- الدروز. ب- الإسماعيلية النزارية-البهرة-. ج- الإسماعيلية الأغا خانية. وأخبار الإسماعيلية طويلة، وقد كتب فيها الشيخ إحسان إلهي كتاباً مستقلاً (¬1) . 3- السبعية: قيل في سبب إطلاق هذه التسمية عليهم ما يلي: أ- لدعواهم أن أدوار الإمامة سبعة سبعة، كلما انتهى حكم سبعة من الأئمة قامت القيامة وابتدأ الدور من جديد إلى ما لا نهاية. ثم لشغفهم بالعدد سبعة حيث فسروا كثيراً من الأمور على وفق هذا العدد، فقالوا: إن السموات سبع، والأرضين سبع، والكواكب السيارة سبعة، والأيام سبعة، وأعضاء الإنسان سبعة، والنقب في رأس الإنسان سبعة ... إلى آخر أدلتهم على مزية العدد سبعة. وقد رد بعض العلماء على الإسماعيلية بتفضيل بعض الأعداد على السبعة، إما الأربعة، أو الخمسة، أو العشرة، وكل ذلك مما لا طائل تحته ولا حاجة تدعو إليه، والذين يتشاءمون بالأعداد أو يتفاءلون بها جهال. ب- وقيل: إنه أطلق عليهم بسبب اعتقادهم أن العالم السفلي تديره الكواكب السبعة وهي: زحل، المشتري، عطارد، المريخ، الزهرة، الشمس، ¬

(¬1) هو كتابه ((الإسماعيلية تاريخ وعقائد)) .

القمر. وهي عقيدة مأخوذة من ملاحدة المنجمين (¬1) . ((وملتفت إلى مذاهب الثنوية في أن النور يدبر أجزاءه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة)) (¬2) . 4- التعليمية: وقد أطلق عليهم بسبب أن مذهبهم قائم على الحجر على العقل، وإبطال النظر والاستدلال، والدعوة إلى الإمام المعصوم المستور، وأن العلم لا يجوز أخذه إلا منه. واستدلوا لهذا بأن الحق إما أن يعرف بالرأي أو بالتعليم، وباطل أن يعرف بالرأي لتعارض الآراء واختلاف العقلاء، فلم يبق إلا أن يعرف بالتعليم، والعلم لا يجوز أخذه عن أحد غير الإمام المعصوم لضمان صحته والوثوق به (¬3) . وهذا الدليل من أردأ الأدلة، بل هو يحكي رداءة مذهبهم وأفكارهم الشريرة. ويرد عليهم بأن الإمام الذي يدعون إليه وإلى أخذ العلم عنه لا وجود له إلا في أذهانهم وفي خططهم لاحتواء كل الأديان والسيطرة على الناس، فإن دعواهم أنه مستور لا يظهر هو أقوى الأدلة على كذبهم. 5- الإباحيّة: وهذه التسمية التي أطلقت عليهم في الواقع مأخوذة من اعتقاداتهم ¬

(¬1) انظرالأفحام ص23. (¬2) فضائح الباطنية ص 16. (¬3) انظر المصدر السابق ص 17.

وأفعالهم، وهم لذلك أهل إباحة لا يحرمون محرّما ولا يلتزمون بشرع، بل الحلال ما حل في أيديهم، والحرام ما منعوا منه. ويستدلون على هذا المسلك بقول الله عز وجل: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} (¬1) ومن أدلتهم على ما يذهبون إليه أيضاً من استحلال المحرمات حسب بواطن النصوص التي اطلعوا عليها بفهمهم السقيم قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬2) ، وقوله عز وجل: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (¬3) ، أي أن فيه حكماً ظاهراً وحكماً باطناً. فقالوا: إن الظواهر من النصوص قد تدل على التحريم، بينما بواطنها تدل على الإباحة، وهذه حيلة من حيلهم لاستدراج الناس إلى مذاهبهم الرديئة وحججهم الباطلة على أن الأحكام لها ظاهر ولها باطن، فهم يريدون من التأكيد على هذا المفهوم هدم ظواهر النصوص بعد ذلك بتلاعبهم بمعانيها وفق أهوائهم وتحريفاتهم. 6- القرامطة (¬4) : أما سبب تسميتهم بهذا الاسم فلانتسابهم إلى رجل يقال له حمدان قرمط، وهو رجل من أهل الكوفة، وقد كان راعياً مائلاً إلى الزهد والديانة (¬5) -فيما يذكر عنه- في بداية حياته، وقيل: إنه كان يتظاهر بذلك وأنه على ¬

(¬1) سورة البقرة: 29 (¬2) سورة لأعراف: 33 (¬3) سورة الأنعام: 120 (¬4) أصل القرامطة قصر الخطو في المشي، أو دقة الحروف وتقارب الأسطر في الكتابة. (¬5) الأفحام ص 22

المجوسية (¬1) فصادفه أحد دعاة الباطنية -ويسمى حسين الأهوازي- وهو متوجه إلى قريته، وبين يدي حمدان بقر يسوقها، فدارت بينهما المحادثة التالية: قال حمدان لذلك الداعي وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله: أراك سافرت من موضع بعيد فأين مقصدك؟ (انظر إلى تفاني أهل الباطل في تبليغ الناس باطلهم) . فذكر له الداعي موضعاً هو قرية حمدان. فقال له حمدان: اركب بقرة من هذا البقر لتستريح من تعب المشي- فلما رآه مائلاً إلى الزهد والديانة أتاه من حيث رآه مائلاً إليه، وهذه إحدى خطط الباطنية - فقال له: إني لم أومر بذلك. فقال حمدان: وكأنك لا تعمل إلا بأمر؟ قال: نعم. قال حمدان: وبأمر من تعمل؟ فقال الداعي: بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة. فقال: ذلك هو رب العالمين. فقال الداعي: صدقت، ولكن الله يهب ملكه لمن يشاء. قال حمدان: وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها؟ قال: أمرت أن أدعو أهلها وأخرجهم من الجهل إلى العلم، ومن الضلال ¬

(¬1) القرامطة ص6.

إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب. فقال حمدان: أنقذني أنقذك الله فما أشد احتياجي إلى مثل ما ذكرته. فتحرج الداعي أن يخبره بشيء حتى يأخذ عليه العهد أن لا يفشي سرّ الإمام المعصوم المستور، ولا يفشي له خبر- وهذه إحدى حيل الباطنية -فعاهده حمدان على ذلك، فشرع الداعي في استدراجه إلى الباطنية حتى صار فيما بعد ركناً من أركانها، وصار له أتباع وفرقة تنسب إليه تسمى (القرامطة) أو (القرمطية) كان لهم في تاريخ الأمة الإسلامية حوادث هائلة، وأخبار بتنكيلهم بالمسلمين مؤسفة (¬1) . قال ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة 278هـ: ((وفيما تحركت القرامطة، وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون بنبوة زرادشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات، ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة، ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لأنهم أقل الناس عقولاً، ويقال لهم الإسماعيلية لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج ابن جعفر الصادق (¬2) . وفي سنة 286 تحرك القرامطة برئاسة أبي سعيد الحسن بن بهرام الحنابي واستولوا على هجر وما حولها من البلاد وأكثروا فيها الفساد. وقد كان أبو سعيد هذا سمساراً في الطعام يبيعه للناس في القطيف، فجاء بعض الدعاة الباطنيون إلى شيعة القطيف فاستجابوا له وتأمر عليهم أبو سعيد الجنابي، وأصله من بلدة جنابه قريبة من القطيف، وعاثوا في الأرض فساداً ¬

(¬1) فضائح الباطنية ص 12- 13. (¬2) البداية والنهاية ج1 ص 61.

وأخافوا أهل العراق والشام إلى أن هلك أبو سعيد هذا في عام301هـ فتولى بعده ولده أبو طاهر الجنابي وكثر دعاة القرامطة وصارت لهم دولة (¬1) . وفي سنة 317هـ اشتدت شوكتهم جداً وتمكنوا من الوصول إلى الكعبة، والناس يوم التروية، فما شعروا إلا والقرامطة برئاسة أبي طاهر الجنابي قد انتهبوا أموالهم وقتلوا كل من وجدوا من الحجيج في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة. وجلس أميرهم أبو طاهر -بل أبو النجس- على باب الكعبة والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في المسجد الحرام، في الشهر الحرام، في يوم التروية، وكان يقول هذا الملعون: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا -تعالى الله عما يقول علواً كبيراً-، ولم يدع أحداً طائفاً أو متعلقاً بأستار الكعبة إلا قتله. ثم أمر بإلقاء القتلى في بئر زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء قرمطي فضرب الحجر بمثقل في يده وهو يقول: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل، ثم قلعه وأخذوه معهم، فمكث عندهم اثنين وعشرين سنة (¬2) ، وهو ابتلاء من الله للمسلمين في ذلك الوقت. وفي نفس هذه السنة نبغت لهم نابغة في بلاد المغرب عرفت باسم الفاطميين على يد زعيمهم أبي محمد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان يهودياً صباغاً بسلمية فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد المغرب، وادعى أنه شريف فاطمي فصدقته طائفة كثيرة من البربر حتى صارت له دولة ¬

(¬1) البداية والنهاية ص81 (¬2) المصدر السابق ص 160-161.

فملك مدينة سجلماسة (¬1) ، ثم ابتنى مدينة سماها المهدية، وانتزع الملك من يد أبي نصر زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب على أفريقية، وقد اختلف في نسبه: 1) فمرة قيل: هو عبيد الله بين الحسن بن محمد، وينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب. 2) ومرة قيل: إنه من نسل إسماعيل بن جعفر الصادق. قال ابن خلكان: ((والمحققون ينكرون دعواه في النسب وينصون على أن هؤلاء المتسمين بالفاطميين أدعياء، وأنهم من أصل يهودي من سلمية بالشام، وأن والده لقب بالقداح لأنه كان كحالاً يقدح العيون، وقد هلك عبيد الله سنة 322هـ. وتمكن حفيده المعز من الاستيلاء على مصر واستمر ملك العبيديين بها نحو قرنين من الزمان، إلى أن قضى عليهم بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي في سنة 564هـ وأزال منها كل آثار العبيديين وقطع شرورهم عن الناس، وأراح الله منهم العباد. أماكن وجود القرامطة: مما يجدر ذكره أن القرامطة توزعوا إلى أقسام، وأخذوا أماكن كثيرة تجمعوا فيها؛ ويمكن أن نوجز أماكن تجمعاتهم فيما يلي: 1- في اليمن: وقد تزعم القرامطة في أول الأمر رجلان، وهما: المنصور بن الحسن بن ¬

(¬1) المصدر السابق ص 161.

زاذان، وعلي بن الفضل الجدني، أرسلهما ميمون ين ديصان القداح، وقد تلقب المنصور بمنصور اليمن، واجتمع حوله عدد من القبائل، وأظهر الدعوة باسم الإمام الإسماعيلي المنتظر، وقد تمكن عام 266هـ أن يؤسس أول دولة إسماعيلية، وقام بنشاط كبير، ثم أرسل الدعاة إلى عدة جهات بعيدة عن مركز الخلافة العباسية، مثل الداعية عبيد الله المهدي الذي ذهب إلى المغرب، وادعى كذباً أنه شريف فاطمي من آل البيت، وكون هناك -كما سبق- دولة. وكان علي بن الفضل الجدني أيضاً من أصدقاء المنصور إلا أنه اختلف معه فيما بعد، وقامت بينهما حروب حين تمكن علي بن الفضل من جمع عدة قبائل حوله، ثم ادعى النبوة وأباح المحرمات، وكان المؤذن يؤذن في مجلسه: ((وأشهد أن علي بن الفضل رسول الله)) ، وامتد له العتو والفجور فكان يكتب إلى عماله: ((من باسط الأرض وداحيها، ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان ... )) ) . إلى أن مات مسموماً بواسطة طبيب أقسم ليقتلنه غيرة لله، فتم له ذلك في سنة 303هـ (¬1) . 2- العراق: والمعروف أن جنوب العراق القريب من فارس أرض الشيعة ومهدها الأول، ومركز الجهل والخرافات أيضاً، كان القاعدة والمركز الأساسي لانتشار القرامطة، وقد نشط الدعاة من الإسماعيلية هنا أمثال مهرويه وهو مجوسي من أصل فارسي، وحسين الأهوازي وهو فارسي وانتسب إلى الأهواز لإخفاء شخصيته، لأن الأهواز كانت عربية وتسمى ((الأحواز)) ، وعبيد الله بن ميمون ¬

(¬1) انظر كشف أسرار الباطنية ص 40- 63، وانظر الباطنيون والحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي ص 20- 24، وانظر القرامطة لمحمود شاكر ص 52- 54.

القداح رأس الدعوة الإسماعيلية الذي فرق أولاده في أماكن كثيرة من تلك الجهات. ونشط دعاة آخرون متسترون بالدين وبالانتساب إلى آل البيت وقلوبهم المجوسية تغلي على الإسلام والمسلمين، وبسطوا نفوذهم في أماكن كثيرة من الأهواز وخراسان والشام إلى أن قتل آخر زعمائهم وهو زكرويه عام 301هـ، وتشتت أتباعه في تفاصيل كثيرة يذكرها علماء الفرق (¬1) . ولقد كان أساس نشأة القرامطة في العراق بتأثير من حمدان قرمط الذي تأثر بدعوة حسين الأهوازي حين خرج من سلمية في الشام قاصداً العراق فصادف حمدان وجرى بينهما ما قدمنا الإشارة إليه من تلك المحادثة التي أعقبها دخول حمدان في دعوة الباطنية، ثم كان له بعد ذلك شأن كبير في إشاعة الفساد وتخويف الآمنين. ((وقد قدر عدد الضحايا الذين سقطوا في حروب القرامطة من أهل الشام ومن البوادي ومن الحجيج ومن أهل المدن، ومن جند مصر، ومن جند العراق بما يزيد على 600.000 بين رجل وامرأة وطفل)) (¬2) . 3- البحرين: أول ما عرف شأن القرامطة في البحرين كان على يد شخص نزل البحرين وأعطى نفسه اسم يحيى بن المهدي (¬3) ، وبعضهم يقول: الحسن بن بهرام ¬

(¬1) القرامطة ص 55. (¬2) الباطنيون والحركات الهدامة ص 12-15. (¬3) القرامطة ص 66.

الفارسي (¬1) . وقد استمال إليه الناس بالتدريج فأظهر بالتدرج أولاً أنه شيعي، وحينما رأى إقبال الناس ادعى أنه المهدي المنتظر. وكانت الدولة العباسية قد بدأت في مراحل الضعف واشتغلت بمشاكلها الداخلية الكثيرة، وقد تبع هذا الداعية رجال كان لهم شهرة وقيادة مثل الحسن ابن بهرام الذي عرف باسم أبي سعيد الجنابي، الذي عاث في الأرض فساداً، وأذاق الناس القتل والجوع إلى أن قتل عام 301هـ، وتولى بعده أبو طاهر، وفعل أفعالاً تقشعر منها الجلود من القتل والنهب، فقد دخل البصرة عام 311هـ في 2700من رجاله فقتل خلقاً عظيماً وحمل الأموال والأمتعة والنساء والصبيان ورجع بها. وفي عام 312هـ قطع على الحجاج الطريق، فأخذ منهم جميع ما يملكون، وترك من لم يقتله منهم بلا ماء ولا زاد، فمات أكثرهم في تلك القفار. وفي عام 313هـ دخل الكوفة وعاث فيها فساداً مدة ستة أيام نقل خلالها ما أراد من الأمتعة، وفعل ما فعله في العام السابق، وأغار على مدينة الأنبار وعين التمر. وفي عام 317هـ فعل فعلته الكبرى فهجم على الحجاج في يوم التروية كما تقدم، فنهب الأموال، وقتل الحجاج في المسجد الحرام، وفي البيت نفسه، ورمى القتلى في بئر زمزم حتى امتلأت بالجثث، وخلع باب الكعبة ووقف يلعب بسيفه على بابها، وخلع الحجر الأسود ورجع به إلى بلده وبقي ¬

(¬1) الباطنيون والحركات الهدامة ص16.

معهم اثنتين وعشرين سنة، إلى أن رده هؤلاء القرامطة بتأثير من الفاطميين في المغرب، وهم الذين أمروهم برد الحجر الأسود إلى مكانه بعد أن ساءت سمعتهم كثيراً في العالم الإسلامي، ولحق الفاطميين بالمغرب شيء من سوء تصرفاتهم، فسعوا في إرجاع الحجر الأسود إلى البيت تغطية لشنائعهم. ووصل نفوذ هؤلاء القرامطة إلى نجد والحجاز والشام، وأرادوا القاهرة إلا أنهم صدّوا من قبل جوهر الصقلي. ثم تناوب عدة زعماء إلى أن أراد الله إهلاكهم فقام أحد زعماء قبيلة بني عبد القيس المشهورة، وهو عبيد الله بن علي العيوني فاستعان بالخلفية العباسي القائم بأمر الله، كما استعان بالسلطان السلجوقي ((ملكشاه)) ، وجاءت القوات العباسية وساعدت عبيد الله بن علي العيوني، وقضت على القرامطة نهائياً في عام 467هـ وأراح الله منهم العباد، وطهر منهم البلاد (¬1) . ويذكر العلماء أحداثاً كثرة لتحركات قرامطة البحرين، وما فعلوه من قتلهم المسلمين وتخريب بلدانهم لا نرى ضرورة للتطويل بذكرها، إذ إن خلاصتها أن هؤلاء الذين يتظاهرون بالتشيع والإسلام فعلوا ما لم يفعله سائر الكفار غير التتار. 7- الملاحدة: لأنهم ينفون وجود الله عز وجل ويقولون بتأثير الكواكب (¬2) . هكذا يذكر الديلمي، وهو الواقع، ولا يرد على هذا ما يوجد عندهم من ¬

(¬1) انظر الباطنيون والحركات الهدامة في تاريخ الإسلامي ص 16-19. والقرامطة ص 66- 70. (¬2) بيان مذهب الباطنية وبطلائه ص 24.

ذكر الله تعالى وذكر صفاته عز وجل فقد وصفوا الله تعالى بصفات سلبية مؤداها إنكار وجوده تعالى. 8- المزدكية: نسبة إلى رجل يقال له مزدك، قيل: إنه رئيس الخرمية، وقيل غير ذلك (¬1) ، ولعله غير مزدك صاحب الشيوعية الأولى، ثم أطلق على الباطنية لمشابهتهم مذهب مزدك. 9- البابكية: لانتسابهم إلى بابك الخرمي، خرج في أيام المعتصم بناحية أذربيجان، فجهز لهم الجيوش حتى قتلهم. وقد كان من إباحية هؤلاء البابكية أن لهم ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون السرج ثم يتناهبون النساء، فيبيت كل واحد مع امرأة، ويزعمون أن من احتوى على امرأة استحلها بالاصطياد كائنة من كانت، وأن هذا الصيد من أطيب المباحات بزعمهم، وتسمى هذه الليلة ((ليلة الإفاضة)) ، وهو عمل لا تقبل به حتى البهائم، وقبلته عقولهم التي هي أحط من عقول البهائم. إضافة إلى أنهم يدعون نبوة رجل كان من ملوكهم قبل الإسلام يقال له ((شروين)) ، يزعمون أنه أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأنبياء (¬2) . 10- الخرمية أو الخرمدينية: وكلمة ((خرم)) أعجمية، ومعناها: الشيء المستلذ المستطاب الذي ترتاح له ¬

(¬1) بيان مذهب الباطنية وبطلائه ص 24. (¬2) فضائح الباطنية ص 15.

النفس، وهو من باب الدعاية لمذهبهم الذي هو رفع التكاليف وتسليط الناس على ارتكاب الشهوات، وهو لقب كان يطلق على المزدكية قبل الإسلام وهم أصحاب الشيوعية الأولى، الإباحية الذين ظهروا في عهد قياذ، وقضى عليهم ولده أنوشروان (¬1) . وهم الذين قال فيهم أبو الحسين الملطي عند ذكره لأصناف الفرق: ((وإنما سموا مزدكية لأنه ظهر في زمن الأكاسرة رجل يقال له مزدك، فقال هذه المقالة (¬2) . 11- المحمرة: قيل: لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة في أيام بابك، ولبسوها شعاراً لهم. وقيل: لأنهم يطلقون على مخالفيهم اسم الحمير (¬3) . وقيل لأن أخلاقهم وطبائعهم صارت شبيهة بطبائع الحمير (¬4) . ولا مانع أن توجد هذه الأسباب كلها فيهم، وإن كان أكثر العلماء يرجح القول الأول. وقد أضاف أحد علمائهم وهو ((مصطفى غالب)) اسماً جديداً للباطنية هو ((الهادية)) وهو اسم يشعر بالهداية التي يطلبها كل أحد، ولكن ما أكثر الخداع في التسميات، فهم أليق أن يسموا بالهاوية لأنه لا هدى لديهم إلا تأليه غير الله ¬

(¬1) انظر الأفحام ص 22. (¬2) التنبيه والرد ص 92. (¬3) انظر الأفحام ص 23، فضائح الباطنية ص 17. (¬4) الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 80.

عز وجل، والسير خلف ميمون القداح اليهودي وأتباعه الذين دافع عنهم مصطفى غالب في كتابه ((أعلام الإسماعيلية)) دفاعاً طويلاً. وبقراءة عابرة لهذا الكتاب يجد المنصف صريح الكفر والغلو ظاهراً عليه. يقول ناصر خسرو، من أعلام الإسماعيلية عن المسلمين: ((فأعط التأويل للحكماء، وأعط التنزيل للغوغاء، فاطلب المعنى الحقيقي لظاهر التنزيل، وكن كالرجال الأصفياء ولا تكن كالحمير فتقنع بالنهيق والقول الهراء)) (¬1) . ويقول مصطفى غالب في ترجمته لمحمد الباقر: ((وقيل: إن الإمام الباقر كان يعرف الغيب)) (¬2) . وقد تحاشى كلمة ((يعلم)) خداعاً منه ومن العجيب أن يذكر هذا المؤلف بعض عظماء الإسلام على أنهم من أعلام ورجال الإسماعيلية مثل علي بن أبي طالب (¬3) ، ومحمد الباقر (¬4) ، والحسين بن علي بن أبي طالب (¬5) ، وغيرهم إلى جانب ميمون القداح، وحمدان قرمط، والحاكم بأمر الله، وغيرهم من طغاة الإسماعيلية. ويقول أيضاً في غلوهم في الأئمة: ((والإسماعيلية يعتبرون -من حيث الظاهر- أن الأئمة من البشر، وأنهم خلقوا من الطين، ويتعرضون للأمراض والآفات والموت مثل غيرهم من بني ¬

(¬1) أعلام الإسماعيلية ص569. (¬2) المصدر السابق ص 480. (¬3) المصدر السابق ص 359. (¬4) المصدر السابق ص 480. (¬5) المصدر السابق ص 266.

آدم، ولكن في التأويلات الباطنية يسبغون عليه وجه الله ويد الله وجنب الله، وأنه هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة، وهو الصراط المستقيم والذكر الحكيم إلى غير ذلك من الصفات)) (¬1) . وحينما يسمي الباطنيون الله بالعقل الأول أو السابق نجدهم يقولون: ((يجب أن يكون في العالم الأرضي عالم جسماني ظاهر يماثل العالم الروحاني الباطن، فالإمام هو مثل السابق، وحجته مثل التالي، وكل خصائص العقل الأول السابق جعلت للإمام)) (¬2) . أي أن الإمام عندهم مثل الله تماماً، وهل بعد هذا الكفر كفر، وأقوال أخرى كثيرة كلها تدل على مدى كفر هذه الطائفة، ينقلها أحد علمائهم المعاصرين، وهو يفتخر بأعلامه الإسماعيليين وتمسكهم بالدين الإسلامي وتبحرهم في العلوم. * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) أعلام الإسماعيلية ص 30. (¬2) المصدر السابق ص 33.

الفصل الخامس الطرق والحيل التي يستعملها الباطنيون لإغواء الناس

الفصل الخامس الطرق والحيل التي يستعملها الباطنيون لإغواء الناس من المبادئ الأساسية عند الباطنية تقديس النفاق والكذب والخداع، ومن الوصايا الهامة التي يجب أن يسير بموجبها كل داعية باطنية هي أن يجاري من يخاطبه، ويوافقه في مذهبه تماماً، بل ويحسِّن له الغلو فيه، ويريه أنه أحرص منه على التزامه به. فإذا كان المدعو شيعياً فإنه يجب أن يكون مذهب الداعية شيعياً أيضاً، وإذا كان المدعو فاجراً مستهتراً أو ناسكاً متعبداً أو يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً فإن مذهب الداعي كذلك. فإذا كان المدعو فاجراً حسَّن له الداعي انتهاب اللذات، وأن الحياة منتهية والدنيا فانية. وإذا كان المدعو ناسكاً حسن له التعبد والزهد وعدم الالتفات إلى الدنيا. وإذا كان المدعو يهودياً حسَّن له الداعي مذهبه، وأظهر له تعظيم السبت، وشتم النصارى والمسلمين جميعاً. وإذا كان مجوسياً يظهرون عنده تعظيم النار والضوء والشمس وغير ذلك من مذهب المجوس. ومن وجدوه نصرانياً يظهرون عنده الطعن في اليهود والمسلمين جميعاً، وأن القول بالأب والابن وروح القدس حق، ويعظمون الصليب عندهم.

ومن وجدوه فيلسوفاً فهو منهم وقد وصل الحبيب إلى المحبوب لاتفاق هؤلاء مع الفلاسفة في دعوى أن النصوص لها ظاهر وباطن، وإنكار الشرائع، وقالوا بسائر أقوال الفلاسفة مع قدم العالم، وإبطال المعاد والمعجزات وغيرها من أقوال الفلاسفة. ومن وجدوه ثنوياً فقد ظفروا ببغيتهم فيدخلون عليه بإبطال التوحيد والقول بالسابق والتالي. وهكذا فإن مذهبهم هو مذهب المدعوين، مهما كان هذا المذهب، يتلونون تلون الماء بالإناء الذي فيه والنتيجة من كل ذلك هو استجلاب المدعو ثم إخراجه من دينه إلى دين الباطنية. ولهم حيل وطرق للوصول إلى قلوب الناس والتدرج بهم في الكفر شيئاً فشيئاً. وقد ذكرها الغزالي قائلا: ((ففي الاطلاع على هذه الحيل فوائد جمة لجماهير الأئمة)) (¬1) . وسبب استتارهم وراء هذه الحيل هو الخوف من إظهار كفرهم بطريقة مكشوفة، وترتيب حيلهم هذه كما يلي: الزرق والتفرس، ثم التأنيس، ثم التشكيك، ثم التعليق، ثم الربط، ثم التدليس، ثم التأسيس، ثم الخلع، ثم المسخ أو السلخ. وفيما يلي تعريف موجز بهذه الحيل: الحيلة الأولى: وهي حيلة الزرق والتفرس، ومعناها: أن يكون الداعي ذكياً فطناً صاحب فراسة، يميز بين من يطمع في استدراجه لقبول دعوته، ومن لا يطمع في ذلك ¬

(¬1) فضائح الباطنية ص 21.

وله معرفة بتأويل النصوص وإخراجها عن معانيها الظاهرة إلى المعاني الباطنة، وأن لا يبدأ بالمخالفة للمدعو بل يوافقه ثم يستدرجه بعد ذلك على حسب الخطط الباطنية إذا تفرس فيه القبول. الحيلة الثانية: وهي التأنيس: والمراد بها الوصول إلى قلب المدعو واستمالته بلطف الحديث وذكر بعض الآيات والأحاديث والأشعار، وبحث جوانب من الأمور اليومية، وإلقاء خطب ومواعظ، ويظهر له كل أمر يزيد في الأنس بينهما ويقرِّب بين الأفهام. الحيلة الثالثة: هي التشكيك: وهي أن يسأل الداعي المدعو عن مسائل في أمور الدين، وهي مسائل يعجز المدعو عن الإجابة عنها لجهله، وذلك أن الدعاة الباطنيين يركزون دعوتهم في العوام. وأيضاً لأن بعض تلك المسائل تعبدية قد لا تعرف الحكمة فيها، كأن يسأله عن متشابه القرآن، ومسائل يعجز المدعو عن الإجابة عنها لجهله، وذلك أن الدعاة الباطنيين يركزون دعوتهم في العوام. وأيضاً لأن بعض تلك المسائل تعبدية قد لا تعرف الحكمة فيها، كأن يسأله عن متشابه القرآن، ومسائل فقهية: لم أمر بالغسل من المني، ومن الغائط والبول بالوضوء وهما أغلظ نجاسة؟ ولم أمرت الحائض بقضاء الصوم دون الصلاة وهما واجبان على السواء، ولم كانت أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة؟ وعن رمي الجمار، والإحرام، والطواف، وعن الحروف التي في أوائل

السور {آلمر} ، و {كهيعص} وغير ذلك، ويعظمون أمرها ويدّعون أن لكل ذلك جواباً لا يعرفه كل أحد، بل علم ذلك إليهم وإلى إمامهم المستور بزعمهم. الحيلة الرابعة: وهي التعليق: فتتم بعد طرح تلك المسائل، فإذا طلب المدعو الاستفسار عنها، وتعلق قلبه بها وبمعرفتها قالوا له: إننا لا نخبرك بشيء حتى تعطينا العهد والميثاق، فإذا رضي بذلك نقلوه إلى الحيلة الخامسة، وهي الربط. الحيلة الخامسة: وهي الربط: وهي إحكام قبضتهم عليه بما يؤخذ عليه من العهود والمواثيق الغليظة في عدم إفشائه سراً من أسرارهم، وأنه إذا فعل ذلك فقد استوجب لعنة الله وغضبه، وأنه مخلد في النار أبد الآباد ... إلى آخر تلك الإيمان الطويلة التي لا يؤمنون بها هم. فإذا كان المدعو ذكياً موفقاً عرف أن هذه الأيمان كلها لا تطلب منه إلا لأن ما سيخبرونه به غير مرضي وليس فيه حق، لأن الحق لا يتكتم عليه أهله، ويتذكر قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} (¬1) ، وآيات كثيرة يحذر الله فيها من كتمان العلم، وأن كتمانهم لعلمهم دليل على أنه مليء بالعورات والفضائح. الحيلة السادسة: وهي التأسيس: وهي إظهارهم تعظيم الشرع والرغبة في طلب العلم ¬

(¬1) آل عمران: 187

والمحافظة على أوامر الدين، وأن تلك العهود التي أعطاهم المدعو يجب احترامها، وهم في الواقع إنما يظهرون له هذه الأمور من أجل اصطياده، وإلا فهم لا يؤمنون بعهد ولا بميثاق. ومنها اشتراطهم أخذ العلم عن الإمام المعصوم المستور الذي يزعمون أنه هو الطريق إلى علم النبي الناطق والوصي، وهو الأساس إلى علم الناطق، وزعمهم أنه مستور، لأنهم يعلمون أن لا وجود له، فلئلا يطالبهم المدعو بلقائه زعموا أنه مستور، وإنما هو دجل وتمويه وخداع للمدعو. وقد ذكر الغزالي سبعة أمثلة لهذا المسلك وأطال في شرحها. الحيلة السابعة: التأسيس: وهي أنهم يضعون مقدمة لا تنكر في الظاهر، ولا تبطل الباطن، يستدرج فيها المدعو بحيث لا يدري، ويوهمونه أن الله تعالى جعل لكل شيء ظاهراً وباطناً، ويستدلون عليه بقوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (¬1) ، ونصوص أخرى. ثم يقال له: الظاهر قشور والباطن هو اللب، والظاهر رمز والباطن المعنى المقصود، ثم يؤسسون في نفسه الشغف لمعرفة البواطن والإعراض عن ظواهر النصوص..لأنه وصل بزعمهم إلى مرتبة وهي طلب العلم الباطني. الحيلة الثامنة: وهي الخلع من الدين: فهي أن يقول الداعي للمدعو: إن فائدة الظاهر أن يفهم ما أودع فيه من علم الباطن لا العمل به، فمتى وقف المدعو على الباطن ¬

(¬1) سورة الأنعام: 120

سقط عنه حكم الظاهر، وهو المراد -بزعمهم الكاذب- لقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬1) ، أي يضع عنهم هذه التكاليف الشاقة من صلاة وصيام وغيرها من شرائع الإسلام بعد أن يعرفوا بواطن النصوص التي تدعو إلى القيام بتلك التكاليف وهذا مثل خرافة غلاة الصوفية حين يصلون إلى اليقين بزعمهم. الحيلة التاسعة: الانسلاخ من الدين أو حيلة السلخ: فهي أنهم إذا أنسوا من المدعو الإجابة وصار منهم، أعلموه أنه قد أطلق من وثاقه وحل له كل ما حرم على غيره من الناس الذين لم يدخلوا مذهبهم: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) ... وزالت عنه جميع التكاليف، ولا يحرم عليه شيء (¬3) . ولهم حيل في إسقاط التكاليف عن المدعو، حيث يوهمونه أن التكاليف تسقط عنه تلقائياً إذا تدرج في المعرفة ووصل إلى معرفة أن التكاليف إنما كانت موضوعة في الظاهر للناس الجهال حتى يطلبوا العلم ويخرجوا عن مشقة التكاليف. لأن الإمام المعصوم المستور ونوّابه يعلمون معنى القيام بتلك التكاليف ومعناها الحقيقي، فتسقط عنهم فريضة الصلاة إذا دفع للإمام مبلغ 12ديناراً، ويقرأ له الإمام قول الله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ ¬

(¬1) سورة الأعراف: 157 (¬2) سورة المائدة: 5 (¬3) انظر لتفصيل تلك الحيل: فضائح الباطنية ص 21- 22، وبيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 25-30.

عَلَيْهِمْ} (¬1) ، ويفهمه أن الصلاة معناها الحقيقي -بزعمهم- معرفة أسرار الباطن، أو معرفة خمسة أسماء وهي: علي والحسين والحسن ومحسن وفاطمة. ثم يسقطون عنه فريضة الصوم بعد أن يدفع المبلغ المذكور للإمام، ثم يفهمونه أن الصوم إنما المقصود منه كتمان أسرار الباطنية، أو معرفة ثلاثين رجلاً أو ثلاثين امرأة يعدّونهم في كتبهم، وليس معنى الصوم الامتناع عن الأكل والشرب، ويقرأ عليه قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} (¬2) . فلو كان معنى الصوم ترك الطعام لقال: فلن أطعم؛ فدل على أن الصيام هو الصمت والسكوت عن إبداء أسرار الأئمة بزعمهم. ثم يسقطون عنه الحج بتفهيمه أن المقصود بالحج إنما هو زيارة مشائخهم لا الذهاب إلى مكة. ثم يسقطون عنه حرمة الخمر والميسر بتفهيمه أن المقصود بهما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما ولعن الباطنية، فأما الخمر المصنوع من العنب وسائر ما يصنع منه فليس بحرام، لأن كل ما تنبت الأرض حلال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬3) ، {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} (¬4) . ثم يسقطون عنه وجوب الاغتسال من الجنابة بدعوى أن الطهارة هي ¬

(¬1) سورة الأعراف: 157 (¬2) سورة مريم: 26 (¬3) سورة الأعراف: 32 (¬4) المائدة: 93

طهارة القلب، وأن المؤمن طاهر بذاته والكافر نجس بذاته والكافر نجس بذاته ولا يطهره الماء ولا غيره، بل إن الجنابة المقصود بها موالاة أضداد الأنبياء والأئمة، وأما المنيّ فهو طاهر إذ هو أصل الإنسان، ولو كان الاغتسال منه لنجاسته لكان الاغتسال من البول والغائط أولى بزعمهم. وعلى هذا فإن معنى الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} (¬1) أي إن كنتم لا تعرفون معنى الباطن فتعلموا واعرفوا العلم الباطني. ثم يسقطون عنه حرمة الزنا، ويسمونه المشهد الأعظم ونهاية الفوز، وإن إحلال الزنا هو دخول الجنة، ويتلو عليه قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬2) . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (¬3) . ويفسر له الزينة هنا بأنها ما خفي من أسرار النساء التي لا يطلع عليها إلا المخصوص بذلك. ويسلك به مسالك ملتوية، وفي نهايتها يبدأ بتطبيق ما تعلمه المدعو من جواز الفحش والفجور، وأن ذلك حلال، فيبدأ يطبق ذلك على زوجته فيبيحها للمدعو، ثم يحضر المشهد الأعظم وهو اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد وإطفاء السرج بعد أن تدار الكؤوس، وتحمى الرؤوس، ثم يتناهبون النساء ويسمون ذلك صيداً كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم (¬4) . وهكذا ينقضون الإسلام درجة درجة إلى أن يوهموا المدعو أنه أصبح فوق ¬

(¬1) المائدة: 6 (¬2) السجدة: 17 (¬3) سورة الأعراف: 32 (¬4) ذكرها الديلمي في بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 11-15.

مستوى التكاليف لتعمقه في العلم ومعرفته لبواطن تلك الظواهر فيصل إلى تحقيق قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬1) ، وهو في الحقيقة يصل إلى حمأة الفساد والإفلاس من الدين ومشابهة البهائم والخروج عن الإنسانية المكرّمة، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً، مات قلبه وضميره فهو أضل من البهائم، لأنها لا تعرف تلك المسالك الشيطانية التي وصل إليها هؤلاء المفسدون. وينبغي أن تعلم أن ما قدمناه من ذكر تلك الحيل لا تتم على عجل، بل إنهم يدرسون الشخص دراسة لا نظير لها إذا وقع عليه اختيارهم، ولا ينبغي أن تفهم أن تلك التعليمات تلقى عليه بهذه البساطة التي عرضناها؛ بل إنه يمر بتعقيدات وتعليمات وصقل، قد يأخذ فيها مدداً طويلة أو قصيرة حسب ميوله وذكائه وتقبله، ولهذا يحكمون عليه قبضتهم. وهذا ما يفسره وقوف التابعين لهم في صفهم ودفاعهم عن هذه العقيدة، لا يهمهم حتى تقديم دمائهم في سبيل نشرها وعلوّ شأنها، وذلك لتشبعهم بتلك التعاليم الملتوية ومسخ فكر الداخل وتفريغه من كل علاقة إلا بهذا المذهب. ولمزيد من التفاصيل عن حيلهم وخططهم في استجلاب الناس إلى دعوتهم وترتيبهم العميق الذي لا يدركه المدعو إلا بعد الإطاحة به- ننقل هنا ما باح به أحد علمائهم المعاصرين؛ حيث قال ما نصه: ((ولقد وُفّقت الحركة الإسماعيلية بين جهاز الدعاية الذي نظمته خير تنظيم، وبين نظام الفلك ودورته، فجعلوا العالم الذي كان معروفاً في ¬

(¬1) الحجر:99

عصرنا، مثل السنة الزمنية، والسنة مقسمة إلى اثني عشر شهراً، وإذاً فيجب أن يقسم العالم إلى اثني عشر قسماً، وسموا كل قسم جزيرة، وجعلوا على كل جزيرة من هذه الجزر داعياً هو المسئول الأول عن الدعاية فيها، وأطلقوا عليه لقب ((داعي دعاة الجزيرة)) أو ((حجة الجزيرة)) .. إلى أن يقول: ((والشهر ثلاثون يوماً، ولذلك كان لكل داعي جزيرة ثلاثون داعياً نقيباً لمساعدته في نشر الدعوة، وهم قوته التي يستعين بها في مجابهة الخصوم، وهم عيونه التي يعرف بها أسرار الخاصة والعامة. واليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، اثنتي عشرة ساعة بالليل، واثنتي عشرة ساعة بالنهار، فجعل الإسماعيلية لكل داع نقيب أربعة وعشرين داعياً منهم اثنا عشر داعياً ظاهرين كظهور الشمس بالنهار، واثنا عشر داعياً محجوباً مستتراً استتار الشمس بالليل. وبعملية حسابية نجد أن عدد الدعاة الذين بثهم الإسماعيلية في العالم كان حوالي (8640) داعياً في وقت واحد، وذلك بخلاف عدد آخر من الدعاة لا يشملهم هذا، وهم الدعاة الذين يكونون دائماً في مركز الدعوة الرئيسي مع الإمام. علماً بأن لكل فئة من هؤلاء الدعاة عمل خاص لا يتعداه، حفظاً لنظام الدعوة وسريتها، فدعاة النهار الاثنا عشر في كل جزيرة كانوا يعرفون بالمكاسرين أو المكالبين، وهم أصغر طبقة في درجات الدعاة. وعلى عاتق المكالب تقع مهمة مجادلة العلماء والفقهاء أمام جماهير الناس وكأنهم تلاميذ يريدون الإفادة من أساتذتهم دون أن يخالج الشك العلماء والفقهاء أو الجماهير المجتمعة للأخذ عن هؤلاء العلماء أو الفقهاء بأن

من يجادله أو يناقشه مناقشة علمية عنيفة أنه من الدعاة -انظر إلى هذا الدهاء والمكر. وفي أغلب الأحيان يظهر عجز العالم عن الجواب الصحيح، أو تبدو منه أخطاء فيسخر منه الداعي المكاسر ويتركه، وهنا تظهر عبقرية الداعي المكاسر، فيسرع إليه الناس يلتمسون منه الجواب الشافي عن الأسئلة التي طرحها، والموضوعات الني ناقش فيها العلماء. ومن الظاهر أن الداعي المكاسر كان يختار اختياراً خاصاً، ولا يسمح له بالمكاسرة إلا بعد امتحان عسير وتجارب كثيرة، ونجد في بعض الكتب الإسماعيلية الشروط الواجب توفرها عند اختيار الداعي المكاسر، والخصال التي يجب أن يتحلى بها، من ذلك أن يكون من نفس البيئة التي سيكاسر فيها؛ ولد ونشأ بها حتى يكون معروفاً عند الجمهور، ويجب أن يكون حسيباً ونسيباً بين قومه..إلى أن يقول: ((فإذا وثق داعي الجزيرة في شخص تتوفر فيه هذه الشروط شرع في تعليمه العلوم الإسلامية حتى يتبحر فيها! فإذا تم له ذلك أخذ يلقنه مسائل الخلاف بين المذاهب وآراء أهل الملل. والنحل كلها من فرق إسلامية وغير إسلامية، ويظهر له موطن الضعف في كل مذهب، وفي كل رأي. ثم يعلمه كيف يجادل في اختلاف هذه الآراء، وكيف يناقش أصحابها فإذا تم له ذلك يبدأ الداعي في تدريبه على تفهم نفسية كل جماعة من الجماعات، وكيف يخاطب كل طائفة من الطوائف حتى يستميل الناس إليه. فإذا أتقن كل هذه الأمور وتدرب عليها ونجح فيها النجاح الملحوظ سمح له الداعي أن يكاسر ويجادل الفرق الأخرى دون أن يشعر أحد بأنه إسماعيلي

المذهب، بل يجب أن يكتم ذلك كتماناً شديداً، ولذلك يجب أن يكون المكاسر ذكياً ذا فراسة حتى لا يخطئ في معرفة نفسية المجتمع أو تقدير الناس الذين يخاطبهم. فإذا فرض ووجد المكاسر أمامه خصماً عنيداً أكثر منه علماً وتبحراً في مختلف الفنون وجب على المكاسر في هذه الحالة -أن يلج في المسائل الفلسفية العميقة التي لا حد لها، والتي لا يفهمها العامة، ويدخل معه في مناقشات باطنية هي من أخص خواص الفلسفة الإسماعيلية التي لا يعرفها غير الدعاة، وبذلك ينجو المكاسر من الظهور بمظهر الضعف أمام العامة، بل ربما عظم شأنه في أعينهم؛ لأنه يتحدث عن أشياء لا يفهمونها ولا يعرفون كنهها. هكذا كان الداعي المكاسر أو الداعي المكالب الذي كانت مرتبته أقل مراتب النظام الإسماعيلي للدعاية، فإذا كان هذا هو شأن أصغر الدعاة استطعنا أن ندرك ما كان عليه أمر كبار الدعاة على اختلاف درجاتهم وتباين مراتبهم. وفي حالة توصل الداعي المكاسر إلى إقناع أحد المستجيبين ممن يرغبون الوصول إلى معرفة الحقيقة يأخذه إلى أحد الدعاة الذين هم أعلى منه مرتبة، فيلاطفه ويفاتحه في لين ورفق دون أن يظهر له صفته المذهبية أو شيئاً من عقائده؛ بل يكتفي بإطلاعه على بعض المسائل المذهبية، ويلمح له ببعض التأويلات الباطنية التي لا ضير في كشفها. فإذا أصر المستجيب على الاستزادة من المعرفة أحاله إلى الداعي المأذون، وهو من دعاة الليل الذي يبدأ بأخذ العهود والمواثيق، فإذا وثق بإخلاص المستجيب بدأ يكاشفه ببعض الأسرار الخفية التي لا ينفر منها، ويتدرج به حتى

يطمئن الداعي المأذون إلى إخلاصه، ويطمئن المستجيب إلى الداعي ويثق به. عندئذ ينقله إلى الداعي الذي أرقى منه مرتبة، وهكذا يتدرج المستجيب بين الدعاة حتى يسمح له أخيراً بحضور مجالس داعي دعاة الجزيرة الذي له وحده الحق في أن يعلم الناس التأويلات الباطنية للدين والقرآن والحديث، كما يعلّم الدعاة فلسفة الدعوة المذهبية أي علم الحقيقة. صحيح كان داعي الدعاة يلقي المجالس والأحاديث على العامة الذين أخذت عليهم العهود والمواثيق دون أن يصلوا بعد إلى درجة عالية في علوم الدعوة، ولكن هذا المحاضرات كانت بعيدة عن الأسرار الإسماعيلية العليا)) (¬1) . ثم ذكر بعد ذلك مراتب كبار الدعاة الذين كانوا يلازمون مركز الإمامة، وهي 16 مرتبة. فانظر أخي الكريم إلى هذه الخطط الشيطانية، وانظر كيف يدخلون إلى قلوب الناس ويسرون فيهم سريان النوم. ولك أن تعجب من حال المدعو وهم يقذفونه من شيخ إلى شيخ كأنه كرة في أيديهم دون أن يعلم الحال الذي سيوردونه عليه. كما يحق لك أن تعجب من كثرتهم وتماسكهم؛ حيث ينتشرون في البلد الذي ينكب بهم مثل انتشار الجراثيم في الجسم السليم ثم يحكمون الطوق عليه ليقع فريسة هامدة أمامهم. وكيف يدرسون نفسيات الناس وميولهم، ويعرفون كل شيء عنهم قبل الإقدام عليهم. ¬

(¬1) أعلام الإسماعيلية ص 18- 24 تحت عنوان ((أسرار نظام الدعوة)) .

فأين دعاة الحق من مثل هذه التنظيمات؟! إن كثيراً منهم قد يجهل حتى أدنى الآداب التي يقابل بها الناس. ولو عرضت الدعوة الصحيحة إلى الإسلام، ولو بقليل من هذه الخطط لكان للعالم الإسلامي شأن غير شأنه الموجود اليوم، فإن جودة عرض البضاعة تغري بشرائها. ومن هنا نجد هذا الباطني يتمدح بهذا الجانب فيقول: ((وبفضل هذا التنظيم الدقيق انتشرت الدعوة الإسماعيلية بشكل لم تعهده أي دعوة إسلامية وغير إسلامية من قبل في جميع الأقاليم، وبين كل طبقات المجتمع على السواء)) (¬1) . الذي يهمنا من كلامه هذا هو الإشارة إلى دقتهم في التخطيط وحبك المؤامرات بغض النظر عن مبالغته في انتشار دعوتهم الخبيثة؛ فلقد انتشرت الدعوات الإسلامية الصحيحة انتشاراً لم تصل إلى القرب منها أية دعوة في العالم بأسره، ولم يثبت أصحاب أية دعوة في التمسك بمبادئهم ثبوت أصحاب العقيدة الصحيحة على مرِّ التاريخ. * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) المصدر السابق ص 25.

الفصل السادس عقائد الباطنية

الفصل السادس عقائد الباطنية يجد المتتبع لأخبار الباطنية ومذاهبهم تناقضاً ظاهراً، والسر في هذا التناقض يعود إلى أن أهل المذهب هم الذين أرادوا ذلك لكي تتضارب أخبارهم عند الناس، وبالتالي يستطيعون تكذيب ما يريدون مما ينقل عنهم بحجة أن الناس يكذبون عليهم. ثم هم أيضاً لا يقوم مذهبهم إلى على هذا التلون الكثير، ومن هنا قال الغزالي: ((والذي قدمناه في جملة مذهبهم يقتضي لا محالة أن يكون النقل عنهم مختلفاً مضطرباً، فإنهم لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد، بل غرضهم الاستتباع والاحتيال، فلذلك تختلف كلماتهم، ويتفاوت نقل المذهب عنهم)) (¬1) . ومهما كان الحال فإن عقائد الباطنية هي مجموعة أفكار ملفقة من مذاهب شتى، وكلها خبط واضطراب، ومن عجيب أمرهم أنهم يستدلون على كفرهم ومحاربة الإسلام ببعض الآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث مختلقة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث صحيحة يحرفون معانيها، ويؤولونها على وفق اعتقاداتهم الإلحادية، وكل عقائدهم ترجع إلى: 1- إنكار وجود الله تعالى. ¬

(¬1) فضائح الباطنية ص 38.

أولا: عقيدتهم في الألوهية

2- جحد أسمائه وصفاته. 3- تحريف شرائع النبيين والمرسلين (¬1) . وفي كل ذلك يتسترون: 1- إما بالتشيع لآل البيت. 2- وإما بزعم التجديد والتقدم. وغير ذلك مما يختلقون من الشعارات والأكاذيب المخترعة. أولاً: عقيدتهم في الألوهية: فقد اختلفت مذاهبهم فيه على درجات من الكفر والإلحاد كما اتضح من خلاصة معتقداتهم (¬2) . فذهب قسم منهم إلى القول بوجود إلهين، لا أول لوجودهما من حيث الزمن، إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة السابق، واسم المعلول التالي، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه، وقد يسمون الأول عقلاً، والثاني نفساً تخرصاً وكذباً. بل قالوا: إن السابق والتالي هما المراد باللوح والقلم، واستدلوا من القرآن الكريم بما جاء فيه من صيغة الجمع مثل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} (¬3) ، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ} (¬4) . ¬

(¬1) انظر الفرق والأديان والمذاهب المعاصرة ص 210. (¬2) انظر فضائح الباطنية ص 39- 40. (¬3) سورة الحجر: 9 (¬4) سورة الزخرف: 32

قالوا: ولولا أن معه إلهاً آخر له العلو أيضاً لما ورد قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬1) ، قالوا وهما أيضاً: الرحمن الرحيم (¬2) . ولا شك أن هذا يدل على مدى جهلهم بلغة العرب لأنهم من فارس، وبعضهم لم يتقن العربية، وإلا لعلموا أن هذا الخطاب ((إنا)) أو ((نحن)) إنما هو من باب التعظيم، والله عز وجل له العظمة المطلقة. وقد ذكر مصطفى غالب -باطني من أهل سلمية- خلاصة معتقدهم في الخالق عز وجل فقال: ((ولما كان الله فوق العالم وهو غير محدود، فلا يمكن أن يخلق العالم مباشرة وإلا اضطر إلى الاتصال به مع أنه بعيد عنه، لا ينزل إلى مستواه، ولما كان واحداً فلا يمكن أن يصدر عنه العالم المتعدد، ولا يستطيع أن يخلق الله العالم، لأن الخلق عمل وإنشاء شيء لم يكن، وذلك يستدعي التغير في ذات الله والإله لا يتغير)) (¬3) . ومعنى هذا الكفر أن الله علة العالم وسبب وجوده فقط، وأن الله فوق العالم، ولا يستطيع أن يتصل به ويخلقه بنفسه مباشرة لأنه واحد، ويستنكف أن يباشر خلق الأشياء بنفسه لترفعه وعلوه وهذا من أعظم الجهل والغفلة. وذهب قسم آخر منهم إلى الاعتقاد أن علياًً رضي الله عنه هو الذي خلق السموات والأرض خالق محيي مميت مدبر للعالم، وأنه ظهر في صورة الناسوت -الناس- ليؤنس خلقه وعبيده ليعرفوه ويعبدوه، وقد أنشد بعضهم ¬

(¬1) سورة الأعلى:1 (¬2) فضائح الباطنية ص 40. (¬3) الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 96.

في سنة سبعمائة قوله: أشهد أن لا إله إلا *** حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا *** محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا *** سلمان ذو القوة المتين (¬1) وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى لا يصح وصفه بأنه موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا موصوف ولا غير موصوف، ولا قادر ولا غير قادر ... وهذا ما يقصده مصطفى غالب حين قال: ((وتحدّث الفلاسفة الإسماعيليون عن وجود الله تعالى، فأثبتوا ضرورة وجوده عن طريق ليسيّته، وضرورة استناد الموجودات واحتياجها إلى موجد، ونفوا عن الله الأيسية كما نفوا عنه الليسية، وقالوا: إن الله لا يمكن أن يكون ليساً ولا أيساً، أي إنه لا يصح أن يكون الله غير موجود ولا أن يكون موجوداً من نوع الموجودات التي وجدت عنه، ويطلق عليه اسم المبدع الأول، والعقل الأول، والمحرك الأول ... ويأتي بعده في ترتيب العقول، العقل الثاني الذي وجد عن طريق الانبعاث ... )) إلى آخر تقسيمه الطويل الممل. إلى آخر خرافاتهم وإلحادهم وغرضهم نفي وجود الله تعالى بوجه يدق على عوام الناس، يكون ظاهره التنزيه، والغرض الحقيقي نفي وجود الله عز وجل، إذ لا يمكن أن تصدق تلك الأوصاف إلا على معدوم، ومثل هذه المزاعم معلوم بطلانها من دين الإسلام بالضرورة، فلا خالق إلا الله عز وجل ¬

(¬1) مجموع الفتاوى ج35 ص 147.

ثانيا: اعتقادهم في النبوات

كما هو معلوم عند أصحاب كل الأديان، وعليّ وغيره في هذا الكون مخلوق لله، أوجده بعد أن لم يكن، لا يملك أحد لنفسه ضراً ولا نفعاً. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1) . ثانياً: اعتقادهم في النبوات: يجحد الباطنيون النبوات، وينكرون المعجزات، ويزعمون أنها من قبيل السحر والطلاسم، ويفسرون النبوة بأنها عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالي قوّة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات، كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية في المنام حين تشاهد في مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحاً بعينه أو مدرجاً تحت مثال يناسبه مناسبة ما، فيفتقر فيه إلى التعبير، لأن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة (¬2) . ويزعمون أن هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل في أول حلولها، كما لا تستكمل النطفة في الرحم إلا بعد تسعة أشهر، فكذلك هذه القوة كمالها أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الأساس الصامت (¬3) . ومن هذا التصور الرديء اعتقدوا أن جبريل عبارة عن العقل الفائض على النبي لا أنه شخص يتنقل من علو إلى سفل. وعلى هذا فهم يعتقدون أن القرآن الكريم تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل الذي هو جبريل، وسمي كلام الله مجازاً. ¬

(¬1) سورة الزمر:67 (¬2) فضائح الباطنية ص 41. (¬3) فضائح الباطنية ص 41.

ومن اعتقاداتهم التي بينها الغزالي أنهم قالوا: كل نبي لشريعته مدة، فإذا انصرمت مدته بعث الله نبياً آخر ينسخ شريعته. وحددوا لشريعة كل نبي سبعة أئمة (¬1) ، أولهم النبي الناطق، ثم الأساس الصامت، ثم السوس, ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله، ومعنى الصامت أن يكون قائماً على ما أسسه غيره. قالوا: ولكل نبي سوس، والسوس هو الباب إلى علم النبي في حياته والوصي بعد وفاته، والإمام لمن هو في زمانه، ومن هنا زعموا أن آدم سوسه شيئاً، وهو الثاني، ويسمى من بعده متماً ولاحقاً وإماماً، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وسوسه علي بن أبي طالب، وقد استتم دوره بجعفر بن محمد. فإن الثاني من الأئمة الحسن بن عليّ، والثالث الحسين بن علي، والرابع علي بن الحسين، والخامس محمد بن علي، والسادس جعفر بن محمد، وقد استتموا سبعة معه، وصارت شريعته ناسخة، وهكذا يدور الأمر أبد الدهر (¬2) . وفي مثل هذه الضلالات يقول علماؤهم: ((ويعتبر الإمام محمد بن إسماعيل أول الأئمة المستورين والناطق السابع، لأن إمامته كانت بداية دور جديد في تاريخ الدعوة الإسماعيلية، قام بنسخ الشريعة التي سبقته، فجمع بين النطق والإمامة، ورفع التكاليف الظاهرية ¬

(¬1) حددها الغزالي بسبعة أعمار أي سبعة قرون، ولعل التحديد بسبعة أئمة أوضح، إذا إنهم بنوا نسخ الشرائع وقيام القيامة بعد الإمام السابع دائماً. (¬2) فضائح الباطنية ص 42- 44، وقد قال - بعد أن ذكر أشياء كثيرة تركتها اختصاراً واكتفاء بما ذكرته - قال: ((هذا ما نقل عنهم مع خرافات كثيرة أهملنا ذكرها ضنة بالبياض أن يسود بها)) .

للشريعة، فنادى بالتأويل واهتم بالباطن)) (¬1) . إلى أن يقول حاكياً عن أحد دعاتهم في ضمن فضائل محمد بن إسماعيل: ((وعطلت بقيامه ظاهر شريعة محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬2) . ووصف مصطفى غالب محمد بن إسماعيل بأنه القيامة الكبرى (¬3) ، لاكتمال الدور به، والابتداء من جديد. ويقول النوبختي وهو من أعرف الناس بهم: ((وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي أمر فيه بنصب علي بن أبي طالب عليه السلام للناس بغدير خم، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب، واعتلوا في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه، فعليّ مولاه)) ، وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة، وتسليم منه في ذلك لعلي بن أبي طالب بأمر الله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان مأموناً لعلي محجوجاً به ... )) إلى أن يقول: ((وزعموا أن محمد بن إسماعيل حيّ لم يمت، وأنه في بلاد الروم، وأنه القائم المهدي، معنى القائم عندهم أنه يبعث برسالة وشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ... )) إلى أن يقول: ((واعتلوا في نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وتبديلها بأخبار رووها عن أبي عبد الله جعفر بن محمد أنه قال: ((لو قام قائمنا علمتم القرآن جديداً)) . وأنه قال: ((إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) ¬

(¬1) أعلام الإسماعيلية ص 450. (¬2) المصدر السابق ص 453. (¬3) المصدر السابق ص 452.

ونحو ذلك من أخبار القائم)) (¬1) . وسبب نقل هذا الكلام إنما هو لإيضاح إصرار الباطنية على نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما يظهره مصطفى غالب وغيره من عتاة الباطنية من التلاعب بمعاني الكلام إنما هو خداع للناس وستر لهذه العقيدة الخبيثة التي ترد ما أخبر الله به من إتمام الدين إلى أن تقوم القيامة وينتهي هذا الكون ومن فيه ولا يبقى إلا وجه الله عز وجل. ولا يخفى على القارئ اللبيب ما في آخر كلام النوبختي من عبارات تتفق مع هوى الشيعة الغلاة منهم حول القرآن الكريم. وأما استدلالهم بأن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، بمعنى يظهر شخص ينسخه، فلا شك أنه كلام يدل على قصر عقولهم، فإن الإسلام والحال ما ذكروا لا يبقى غريباً فقط بل إنه لا يبقى له أي وجود ... فكيف يسمونه غريباً وقد انمحى ونسخ، وحاشا أن يتم ذلك. وكلامهم إنما هو تأويل للحديث، وكذب على الله ورسوله أن يكون المراد من معنى الحديث ما ذكروا، بل إنه يدل على قلة المتمسكين به والعاملين بأحكامه وتعاليمه كما كان في بدء أمره كذلك. وأما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يبشر في هذا الحديث بنسخ شريعته، فإنه لا حقيقة لهذا المقصود إلا في أفهام سخفاء العقول. وأوَّلوا معجزات الأنبياء تأويلات باطنية، فثعبان موسى أي غلبته عليهم، وإظلال الغمام أي الإمام الذي نصبه موسى لإرشادهم، ومعنى عدم الأب لعيسى ¬

(¬1) فرق الشيعة ص 64 - 95.

ثالثا: اعتقادهم في الآخرة

أنه لم يأخذ العلم عن إمام مستور معصوم، وإنما استفاد العلم من الله بغير واسطة والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان، والصيام الإمساك عن كشف السر. في تخرصات وتلفيقات يطول ذكرها، ولا خير من وراء بحثها وإنما هي الإشارة إلى التحذير من مسالك هؤلاء، ومن أفكارهم وعباراتهم الخادعة، فلا ينبغي أن يهدر الوقت في التعمق في دراسة هذه الأفكار والردود عليها. وقد أورد الغزالي في الباب الخامس من كتابه ((فضائح الباطنية)) أمثلة كثيرة لتلك التأويلات في فصلين: * الفصل الأول: في تأويلاتهم للظواهر. * الفصل الثاني: في استدلالهم بالأعداد والحروف وبيّن زيف أقوالهم في عدة صفحات (¬1) وكذا الديلمي في كتابه " بيان مذهب الباطنية وبطلانه " ويحيى بن حمزة العلوي في كتابه ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)) . كل هؤلاء وغيرهم من علماء الفرق قد ذكروا أمثلة ومناقشات لدحض أقوال الباطنية، تحتاج إلى دراسة خاصة ووقت متسع لها. ثالثاً: اعتقادهم في الآخرة: اتفق كلمة الباطنية على إنكار الآخرة التي جاء الإسلام بتفاصيل بيانها، وأوَّلوا القيامة في القرآن والسنة، وقالوا بأنها رموز تشير إلى خروج الإمام، ¬

(¬1) انظر من ص 55- 72، وانظر ما كتبه الديلمي عنهم في كتابه ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) ص 35- 36، وما كتبه يحيى بن حمزة العلوي في كتابه ((الإفحام)) .

وقيام قائم الزمان -إمام العصر-، السابع الناسخ للشرع المغير للأمر كما يصفونه، وقالوا أيضاً: إن معنى القيامة انقضاء الدور. وأنكروا بعث الأجسام والجنة والنار، وقالوا: ((إن معنى المعاد هو عود كل شيء إلى أصله، وأن الإنسان مركب من عالم روحاني وعالم جسماني، فالجسماني منه جسده، وهو مركب من الأخلاط الأربعة وهي: الصفراء، والسوداء، والبلغم، والدم فيتحلل الجسد ويعود كل خلط إلى طيبعته ... فالصفراء تصير ناراً، والسوداء تصير تراباً، والدم يصير هواءً، والبلغم يصير ماءً) . وهذا هو المعاد الجسدي عندهم، فلا تعود الحياة إلى الأجساد بعد الموت. أما الروحاني، وهو النفس المدركة العاقلة من الإنسان فإنها إن صفيت بالمواظبة على العبادات، وزكيت بمجانبة الهوى والشهوات، وغذيت بغذاء العلوم والمعارف المتلقاة عن الأئمة الهداة اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحاني الذي كان منه انفصالها، فتسعد بذلك وهذا هو جنتها (¬1) . بهذه الخرافات فسروا المعاد الأخروي، ولا شك أنها مأخوذة عن مذاهب الهندوس والبوذيين؛ ولذلك أجمع هؤلاء الباطنيون على القول بالتناسخ الموجود عند البراهمة والبوذيين، وصبغوه في الظاهر بالإسلام فصار الكلام مسلماً والفكر هندوسياً وبوذياً ووثنياً. وقد أكثر الشيخ إحسان إلهي -رحمه الله- من النقول عن كتب الباطنية، وتأويلاتهم لأخبار القيامة بما لا يتسع لاستقصائه المجال هنا (¬2) . ¬

(¬1) انظر فضائح الباطنية ص 45. وانظر بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 37. (¬2) في كتابه ((الإسماعيلية تاريخ وعقائد)) .

رابعا: اعتقادهم في التكاليف الشرعية

رابعاً: اعتقادهم في التكاليف الشرعية: يتميز مذهب الباطنية بأنه من أشد المذاهب استحلالاً للمحرمات، وأوغل في الإباحية البهيمية، وأكثر تفلتاً عن القيام بالتكاليف الشرعية وتبرماً منها، مع أنهم لا يتظاهرون أمام العامة بترك التكاليف إلا فيما بينهم. وأما ظاهر مذهبهم فهو لزوم القيام بالتكاليف، بل وأحياناً بعضهم يبالغ في إيجاب أشياء لم تجب ليظهروا بمظهر الزهاد والعباد، وليستفيدوا من جهة أخرى، إرهاق الناس بكثرة التكاليف لتضيق صدورهم بها. وفي مقابل ذلك يركز هؤلاء الفجار على مسامع الناس أن الخروج من تبعة هذه التكاليف أمر ميسر لكل أحد أراده. وحينما يشتاق الشخص إلى معرفة هذا الأمر لا يجودون به عليه إلا بعد مراحل واختبارات عديدة ليشعر المدعو فعلاً أنه قد وصل إلى السر بعد تعب واجتهاد. ومعرفة هذا السر يكون بطلب التابع لهم رتبة الكمال في العلوم التي تؤخذ -بشرط- من نواب الإمام المعصوم المستور. وعلى الشخص أن يجتهد ويسعى في العبادة في أثناء تلقيه لذلك إلى أن يصل إلى رتبة الكمال- وهي في الحقيقة رتبة منتهى الجهل والغفلة-، محباً للشهوات والفواحش على حد ما أخبر به النوبختي، حيث قال وهو يعدد عقائد الباطنية: ((وإن الله تعارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم صلى الله عليه وسلم، ومعناها عندهم الإباحية للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا، وهو قول الله عز وجل: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (¬1)) (¬2) . ¬

(¬1) سورة البقرة: 35 (¬2) فرق الشيعة ص 95.

هذا بالإضافة إلى أنهم يعمقون في ذهن الشخص أن القيام بهذه التكاليف والمنع والإباحية إنما تستهدف من ورائها فائدة واحدة وهي استنهاض همة القلب ليصل إلى معرفة بواطن هذه الأمور، فإذا لم يكن كذلك فإن عليه أن يبقى في عداد الجهال الذين هم مثل الحمير التي لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة (¬1) . في زخرف من القول أخذوه من شتى المذاهب، حيث أخذوا من كل مذهب شرّ ما فيه. ولقد كان للرافضة عليهم فضل كبير، فقد أخذوا عنهم فكرة الإمام المعصوم المستور، وأنه لا حق إلا ما خرج عن الأئمة، وكذا تحريف الآيات على حسب هواهم، ودعوى وجود الإمام الصامت والناطق، ونسخ الشريعة الإسلامية بمجيء مهدي الشيعة ومجيء الإمام السابع من الأئمة المستورين عند الباطنية، وأشياء كثيرة لا تخفى على القارئ الكريم، وقد ذكر أكثرها في دراستنا للشيعة سابقاً. فهذا الكليني يفسر قول الله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (¬2) ، عن موسى بن جعفر أنه قال: ((البئر المعطلة الإمام الصامت، والقصر المشيد الإمام الناطق)) (¬3) . والوالدين اللذين ذكرهما الله في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬4) ، فسرها الكليني فيما يزعم عن عليّ رضي الله عنه قال: ((الوالدان اللذان ¬

(¬1) انظر فضائح الباطنية ص 47، وانظر فرق الشيعة للنوابختي ص 96 (¬2) سورة الحج: 45 (¬3) الكافي ج1 ص 353. (¬4) سورة لقمان: 14

أوجب الله لهما الشكر هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم وأمر الناس بطاعتهما)) (¬1) . وعن الظاهر والباطن في النصوص يقول الكليني: ((إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق)) (¬2) . وللطوسي في كتابه ((الغيبة)) مثل هذا التأسيس الباطني (¬3) ، بل وبالغ الطوسي، وافترى -كما يبدو- على جعفر بن محمد أنه قال: ((حقيق على الله أن يدخل الضلال الجنة، فقال زرارة: كيف ذلك جُعلت فداك؟ قال: يموت الناطق، ولا ينطق الصامت، فيموت المرء بينهما فيدخله الله الجنة)) (¬4) . وإذا كان على حسب هذه الرواية كل من مات بين موت الناطق وسكوت الصامت (أي بين موت الرسول صلى الله عليه وسلم وسكوت علي) فكان ينبغي على الشيعة أن يقولوا بدخول الصحابة جميعهم الجنة وهم لا يقولون بذلك، وهذا جزء من تناقضهم، وهو من الأدلة على رغبتهم في تأسيس المذاهب الهدامة التي تخرج المسلم عن دينه. ولقد انتفع الباطنيون كثيراً بمثل هذه الاعتقادات التي كوَّنوا منها ومن غيرها مذهبهم الرديء الذي خرج بسببه الآلاف المؤلفة من الناس عن دينهم. * * * * * * * * * * * * * ** ** ¬

(¬1) الكافي ج1 ص 354. (¬2) الكافي ج1 ص 305. (¬3) انظر كتاب الغيبة ص96 (¬4) كتاب الغيبة ص277.

الباب السادس النصيرية

الباب السادس النصيرية الفصل الأول تمهيد في بيان خطر النصيرية النصيرية هي إحدى الفرق الباطنية الغلاة، ظهرت في القرن الثالث للهجرة انشقت عن فرقة الإمامية الاثني عشرية. والنصيريون كغيرهم من أعداء العقيدة الإسلامية الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، إذ لم تمر بهم فرصة دون أن يهتبلوها في إيقاع أكبر الأذى بالمسلمين، والنصيريون حينما يوقعون الأذى بالمسلمين دون هوادة أو رحمة، يعتقدون في نفس الوقت أنهم يثابون على ذلك، فكلما أوغل الشخص منهم في إلحاق الأذى بالمسلمين كلما زاد ثوابه حسب اعتقادهم، وهذا ظاهر في غلظتهم ومعاملتهم للمسلمين. وأقرب مثال على مواقف النصيريين في العصر الحاضر ما يجري في أماكن المسلمين في سوريا ولبنان من تقتيلهم الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ثم وقوفهم كذلك في صف المارونيين والخمينيين. ولقد هيأ هؤلاء للتتار قديماً وللصليبيين الفرص لذبح المسلمين وإنزال أفدح المصائب بهم، مما لم يسمع بمثله باعتراف كتَّاب النصيرية أنفسهم. وما من فتنة تثور ضد المسلمين من أهل السنة إلا وهؤلاء النصيريون في خندق

واحد مع عدو المسلمين ضد المسلمين، وكم ذهبت من أنفس واستبيحت من أعراض بسبب دسائس النصيرية وتآمرهم في وقائع تقشعر منها الجلود، وبينهم وبين اليهود والنصارى مودة وبينهم تشابه في كثير من المعتقدات تجد مصداق هذا وقائع حرب الأيام الستة كما يسمونها فما حصل منهم فيها إنما هو دليل من الأدلة الكثيرة على مواقف النصيرية تجاه أهل السنة وعدائهم لهم ولأسلافهم الأخيار مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من فضلاء الناس بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يزال القارئ الكريم يذكر ما قدمنا نقله عن علماء السنة وشهاداتهم بما فعله النصيريون والباطنيون عموماً بالمسلمين على مختلف العصور حين تمكنوا من إلحاق الأذى بأهل السنة، وكيف كانوا يتحولون إلى وحوش ضارية لا تدخل الرحمة إلى قلوبهم لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً. لقد انطوى هؤلاء على كفر وإلحاد وخرافات تجعل الإنسان ييأس تمام اليأس أن يعود هؤلاء إلى رشدهم، وإذا شئت الاطلاع على مصداق هذا فاقرأ كتابهم ((الهفت الشريف)) بتحقيق علمائهم في هذا العصر، الذي يزعمون أنهم تحرروا من كل الخرافات وأنهم أصحاب إنصاف وتحقيق، ونورد لك أخي القارئ دليلاً واحداً مما جاء في هذا الكتاب المفضل لديهم حيث قال: ((إن الحسين لما خرج إلى العراق وكان الله محتجباً به، وصار لا ينزل منزلاً صلوات الله عليه إلا ويأتيه جبريل فيحدثه، حتى إذا كان اليوم الذي اجتمعت فيه العساكر عليه، واصطفت الخيول لديه وقام الحرب (¬1) ، حينئذ دعا مولانا الحسين جبريل وقال له: يا أخي -انظر الله يقول لجبريل يا أخي! - من أنا؟ قال: أنت الله الذي لا إله هو الحي القيوم والمميت والمحيي، أنت الذي ¬

(¬1) هكذا في الأصل.

تأمر السماء فتطيعك والأرض فتنتهي لأمرك والجبال فتجيبك والبحار فتسارع إلى طاعتك، وأنت الذي لا يصل إليك كيد كائد ولا ضرر ضار)) إلى أن قال عن جبريل وهو يخاطب عمر بن سعد القائد الأموي الموجه لحرب الحسين قائلاً له: ((ويحك تقتل رب العالمين وإله الأولين والآخرين وخالق السموات والأرض وما بينهما، فلما سمع عمر بن سعد ذلك أخذه الخوف)) (¬1) إلى آخر ترهاتهم التي تدل على عمق جهلهم وبدائيتهم. ويسب صاحب الهفت عمر رضي الله عنه وينسبه إلى أنه كان في زمن الحسين في صورة كبش عن طريق التناسخ فدى الله به الحسين من الذبح، وذُبح هو أي عمر الذي سماه ((دلامة)) أو أدلم، فقال عن الصادق عن المفضل أنه قال له: يا مفضل إن الكبش الذي فدي به الحسين كان الأدلم أدلم قريش وهو يومئذ شيخ في تركيب كبش)) . ثم زعم أن قرني هذا الكبش معلقان في الكعبة. ((أما رأيت يا مفضل قرنيه في البيت الحرام معلقين؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: فذاك القرنان لذلك الكبش الذي فدي به الحسين. ثم ضحك الصادق حتى بدت نواجذه، قلت: يا مولاي ما الذي أضحكك؟ قال: يا مفضل إن الناس إذا اجتمعوا بالموسم بمكة المكرمة رغبوا أن ينظروا إلى قرني الكبش تعجباً لأنه من الجنة، ونحن نقوم بالنظر إليهما تعجباً أنهما قرنا دلامة، فالناس يتعجبون من شيء ونحن نتعجب من شيء خلافه)) (¬2) . وما أدري ما الذي يقصد هذا المجوسي بقرني الكبش المعلقين بالكعبة فما ¬

(¬1) الهفت الشريف، اقرأ من ص 96 إلى ص 102 لترى العجائب. (¬2) الهفت الشريف ص 94.

رأينا أي قرن ولا حكى أحد من الناس أنه رأي هذين القرنين. وفي هذا العصر خرجت مرة كتائب الباطنية النصيرية في حماة ((وهي تملأ أجواء الفضاء بذلك الهتاف الذي لن تنساه حماة)) ((هات سلاح وخذ سلاح دين محمد ولى وراح)) (¬1) . وهذه جريدة الثورة أحفاد الوثنية النصيرية تكتب ((الله والأنبياء والكتب المقدسة كلها محنطات ينبغي تحويلها إلى متاحف التاريخ)) (¬2) وذاك النشيد وهذا التصريح وقع حينما اقتحم اليهود الصهاينة المسجد الأقصى وهم يرددون ((محمد مات خلف بنات فليسقط الإسلام)) (¬3) . * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 110. (¬2) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 110. (¬3) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 110.

الفصل الثاني (زعيمهم) وسبب انفصاله عن الشيعة وموقفهم منه

الفصل الثاني (زعيمهم) وسبب انفصاله عن الشيعة وموقفهم منه تنتسب هذه الطائفة إلى زعيمهم محمد بن نصير النميري، وكنيته أبو شعيب، وكان من الشيعة الاثني عشرية، وأصله من فارس، ثم انفصل عنهم إثر نزاع بينه وبينهم على ثبوت صفة الباب له، حيث ادعى أنه الباب إلى المهدي المنتظر فلم تقرّ له الإمامية بذلك فانفصل عنهم وكوّن له طائفة وقد ظل زعيماً لطائفته إلى أن هلك سنة 260هـ، وبعضهم يذكر أنه في سنة 270هـ وقد كان فيما يقول علماء الفرق -مولى للحسن العسكري- الإمام الحادي عشر للشيعة الاثني عشرية- ولقد كان للحسن العسكري موقف شديد منه ومن آرائه الكفرية. لقد صار ابن نصير داخلاً في قسم كل نصيري، وهو قسم مملوء بالشرك والإلحاد، وهو يشير بكلمات موجزة إلى ديانتهم وما فيها من الاعتقادات، لا يعرفها إلا من توسع في دراسة هذه الطائفة ووقف على مخازيهم بمداخلته لهم، وهذا القسم هو كما يأتي: ((أني وحق العلي الأعلى وما أعتقده في المظهر الأسنى، وحق النور وما نشأ منه، والسحاب وساكنه، وإلا برئت من مولاي عليّ العلي العظيم وولائي له ومظاهر الحق. وكشفت حجاب سلمان بغير إذن وبرئت من دعوة الحجة ابن نصير، وخضت مع الخائضين في لعن ابن ملجم، وكفرت بالخطاب - أي بالديانة والدعوة- وأذعت السر المصون وأنكرت دعوى أهل الحق، وإلا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتى اجتثت أصولها وأمنع سبيلها، وكنت مع

قابيل على هابيل، ومع النمرود على إبراهيم. وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه إلى أن ألقى العلي العظيم وهو عليّ ساخط وأبرأ من قول قنبر وأقول إنه بالنار ما تطهر)) (¬1) . وستتضح معاني هذا القسم من خلال دراستنا لهذه الطائفة، وحين بنى ابن نصير ديانته على الالتصاق بالحسن العسكري، وإنه الباب إلى ابنه المزعوم محمد بن الحسن العسكري، كان الحسن العسكري شديد التحذير منه شديد السخط عليه حيث كتب إلى أحد أتباعه قائلاً له ومحذراً من أفكار ابن نصير وفجوره: ((إني أبرأ إلى الله من ابن نصير النميري، وابن بابا القمي فأبرأ منهما، وإني محذرك وجميع موالي ومخبرك أني ألعنهما عليهما لعنة الله فتانين مؤذيين، آذاهما الله وأرسلهما في اللعنة وأركسهما في الفتنة)) (¬2) . والسبب في لعنه إنما كان في دعوى ابن نصير النبوة ودعوى الألوهية لأهل البيت وغير ذلك من المبادئ والاعتقادات الوثنية المجوسية، وقد نقل عبد الحسين عن القمي وصفه لابن نصير بأنه كان فاحشاً وشاذا جنسياً بالتعبير الحديث، حيث أجاز اللواط وسائر المحرمات مدعياً أن ذلك من التواضع والتذلل في المفعول به ... إلى آخر ما وصف به من صفات شنيعة (¬3) لا نحب ذكرها هنا. ولكن في الهفت الشريف نفي هذا تماماً، وأنه لا يقع من مؤمن منهم، بل يقع على من أبغض علياً فقط كما يرويه المفضل (¬4) الجعفي، وقد أجمعت كتب ¬

(¬1) العلويون أو النصيرية ص3. ولعله لإحراقه الذين ألهوا علياً. (¬2) المصدر السابق ص4. (¬3) العلويون أو النصيرية ص21. نقلاً عن مقالات القمي ص 100. (¬4) الهفت الشريف ص 140.

الشيعة على ذكر دعوى ابن نصير أنه الباب ثم النبوة ثم القول بألوهية علي، وإباحية المحارم، والقول بالتناسخ كما استوعب عبد الحسين الشيعي أخباره في كتابه ((العلويون أو النصيرية)) نقلاً عن أهم مصادرهم مثل سعد القمي (¬1) ، والنوبختي (¬2) ، وأبو عمر الكشي (¬3) ، وأبو جعفر الطوسي (¬4) ، والحلي (¬5) والطبرسي (¬6) ، والدكتور مصطفى الشيبي (¬7) . وبعد ذلك حاول جاهداً البراءة من النصيرية، ومن ابن نصير وجميع أفكاره ومعتقداته، حتى وإن كان له صلة الصحبة بالحسن العسكري ثابتة في كتب الشيعة، إلى أن مات الحسن العسكري ثم قيام ابن نصير بدعوى الباب إليه منكراً وكلاء الإمام محمد بن الحسن العسكري (¬8) . وهذا أهم الأسباب في نقمة الرافضة على ابن نصير واتهامهم له بشتى الاتهامات. ويؤكد أحد علماء الشيعة الاثني عشرية وهو محمد رضا شمس الدين الذي زار النصيرية سنة 1376هـ للتعرف على أحوالهم موفداً من أحد المراجع الدينية في النجف عبد الهادي الشيرازي؛ أن النصيرية لا يزالون إلى اليوم ¬

(¬1) المقالات والفرق. (¬2) فرق الشيعة. (¬3) رجال الكشي. (¬4) رجال الطوسي وكتاب الغيبة. (¬5) الرجال. (¬6) الاحتجاج. (¬7) الصلة بين التصوف والتشيع. (¬8) يدعي الاثنا عشرية أن محمد بن الحسن العسكري بعد أن اختفى في السرداب كان له أربعة وكلاء بينه وبين الناس، وهم عثمان بن سيد العمري، محمد بن عثمان الخلاني، الحسين بن روح النوبختي وعلي بن محمد السمري.

يتمسكون بأفكار زعيمهم محمد بن نصير، وذكر أنه حينما زارهم رحبوا به أجمل ترحيب، ولكنه لاحظ عدم اكتراثه بفرائض الدين من صلاة وحج وعدم وجود مساجد في منطقتهم، كما لاحظ أن فكرة تناسخ الأرواح لا تزال منتشرة بينهم وهم يسمونها تقمص الأرواح)) (¬1) . ولاشك في صحة شهادة محمد رضا فإنه أعلم بهم ((وشهد شاهد من أهلها)) فأي إسلام لهم بعد تركهم الصلاة والحج ومحاربة بناء المساجد، ثم القول بالتناسخ الذي هو قول المجوس عباد الأوثان. ومع هذا فإن أهل السنة في غفلة تامة عنهم. ومن الجدير بالذكر أن الاثني عشرية قد توجهت نحو جميع فرق الباطنية النصيرية وغيرهم من سائر الغلاة- وجهة جديدة وهي احتواء جميع تلك الفرق وصهرها في بوتقة المذهب الاثني عشري؛ فقد نادوا بأن النصيرية العلوية هم شيعة أهل البيت وهو ما أكده الشيرازي منهم (¬2) ووقوف العلويون إلى جانب الرافضة في عصرنا الحاضر أقوى شاهد. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) ذكر هذا في كتابه العلويون في سوريا ص 54 نقلاً عن كتاب العلويون أو النصيرية ص 46. (¬2) انظر: العلويون شيعة أهل البيت، للشيرازي.

الفصل الثالث أسماء هذه الطائفة والسبب في إطلاقها عليهم

الفصل الثالث أسماء هذه الطائفة والسبب في إطلاقها عليهم أطلقت على هذه الطائفة أسماء بعضها يقبلونه وبعضها لا يقبلونه، ومنها: النصيرية: وهو الاسم الذي غلب على غيره من أسمائهم واشتهروا به، ومع هذا فإن النصيريين لا يحبون أن يسموا به ويتضايقون منه، ومن أسباب كراهيتهم له حسب تعليلاتهم: 1- أنه أطلق عليهم بسبب العصبية المذهبية، وبدافع من العداوة والمذهبية، حيث أطلقت هذه التسمية عليهم ذريعة لاضطهادهم كما يزعمون. 2- زعموا أن الأتراك حينما كانوا مسيطرين على بلادهم أطلقوا عليهم اسم النصيرية نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم واحتقاراً لهم، حتى جاءت فرنسا واستعمرت بلادهم فأطلقوا عليهم التسمية التي يحبونها والتي سنذكرها فيما بعد، ولهذا نجد أن النصيرية تدين لفرنسا بالولاء والتقدير، حيث أصدر الفرنسيون قراراً يقضي بتسمية جبل النصيريين بأراضي العلويين المستقلة تعميقاً لانفصالهم.

ويوجد تعليل آخر لسبب تسميتهم بالنصيريين: وهو لمستشرق يسمى -ريسو- فقد جعل تسميتهم النصيريين بهذا الاسم لوجود صلة بينه وبين تسمية نصارى أو نصراني ولعل الذي حمله على هذا القول هو ما رآه من المشابهة بين النصيريين والنصارى في كثير من التقاليد والطقوس الدينية، ومشاركة النصيريين للنصارى في كثير من أعيادهم، وتقديس كل منهم للخمر والوقوف إلى جانب بعضهم البعض في الأوقات الحرجة. وما هو حاصل الآن في لبنان أقوى شاهد على هذا إلا أن هذا القول -وإن صدق في وجود التشابه- إلا أن الأقرب إلى الصواب أن هذه التسمية إنما أخذت من اسم مؤسس طائفتهم أبي شعيب محمد بن نصير البصري النميري (¬1) ، ولقد ذكر عبد الحسين تعليلاً آخر إضافة إلى ما تقدم وهو أن تسميتهم بالنصيرية قد علق بها تاريخياً ذم وتشنيع وتكفير ولهذا فهم يريدون أن يسدل عليها الستار (¬2) . وما ذكره ريسو في سبب تسميتهم بالنصيرية يؤيده ما ذكره أيضاً عنهم الدكتور حسن إبراهيم حسن بقوله: ((وثمة تفسير آخر لا يزال مألوفاً عند السنيين الذين يجاورونهم، وهو أن لاسمهم صلة بلفظ نصراني أو نصارى، ومما يزكي هذا التفسير أن النصيرية لا يزالون يمارسون بعض طقوس النصارى، كالاحتفال ببعض الأعياد النصرانية مثل عيد الميلاد وعيد الفصح، ويعتبرونها من الأعياد الكبرى، كما أن بعضهم يحمل أسماء نصرانية مثل متى ويوحنا وهيلانة. ¬

(¬1) طائفة النصيرية ص 23- 24. (¬2) العلويون ص8.

وبالإضافة إلى المبادئ التي اقتبسها النصيرية من النصرانية فإن ديانتهم تحتفظ بقسط وافر من الأسرار، وما تزال تحتفظ بمعالم واضحة تنبئ عن معتقداتهم التي هي مزيج من عناصر غير متجانسة تماماً تقوم على أساس نظام ديني يتصل بعبادة النجوم والكواكب. وقد اقتبست هذه التعاليم في القرون الأولى للعصر المسيحي بعض المبادئ الروحية عند المسيحيين، ويقوم نظام النصيرية على التجسد، ويدور حول هذه الأسماء الثلاثة التي تكون التثليث الشبيه بتثليث النصارى، ويتمتع هؤلاء بالوحدانية والخلود. وهذه الأسماء الثلاثة التي يرمزون إليها في قائمة مذهبهم هو التي تكون تثليثاً شبيهاً بالتثليث الكائن في النصرانية، ويرمز إلى هذا التثليث عند النصيرية بحروف (ع. م. س) ويقولون: إن الله حلَّ في ثلاثة هم علي ويرمزون إليه بالمعنى، ومحمد ويرمزون إليه بالاسم، وسلمان الفارسي ويرمزون إليه بالباب)) (¬1) . ومن الجدير بالذكر أن النصيريين وهم يكرهون إطلاق هذه التسمية عليهم إلا أنك تجد أن بعض علمائهم المتأخرين حينما رأى أن الناس لم يتركوا إطلاق هذه التسمية عليهم أحب فيما يبدو أن يجعل أصلاً مقبولاً لإطلاق تسمية النصيريين عليهم. ومن ذلك ما ذكره النصيري محمد أمين غالب الطويل في تعليله لسبب إطلاق كلمة النصيرية عليهم؛ فهو يرى أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه حينما كان يقاتل في الشام طلب المدد فأتاه من العراق خالد بن الوليد، ومن ¬

(¬1) تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي 4/265، 267، انظر: العلويون ص 54، 55.

مصر عمرو بن العاص، وأتاه من المدينة جماعة من العلويين وهم ممن حضروا بيعة غدير خم، وهم من الأنصار وعددهم يزيد عن 450 مجاهداً. ولما وصلت هذه النجدة والتحقت بالجيش نجح نجاحاً جزئياً فسميت هذه القوة نصيرة ثم سلمت لهم- بحكم قواعد الجهاد في تمليك الأراضي التي يفتحها الجيش إلى ذلك الجيش نفسه- فسلمت لهم الأراضي التي امتلكوها وهو جبل النصيرة، -وهو عبارة عن جهات جبل الحلو وبعض قضاء العمرانية المعروفة الآن، ثم أصبح هذا الاسم علماً خاصاً لكل جبل العلويين من جبال لبنان إلى الأنطاكية (¬1) . وهذا التعليل غير سديد لأمور، من أهمها أن إطلاق هذه التسمية لم تعرف في عصر عمر رضي الله عنه، ثم ما كان المسلمون لينظروا إلى هذه الطائفة التي جاءت من المدينة وينسبوا النصر إليهم، ثم كيف تناسوا جهود بقية الجيش، ثم وكيف تطيب نفوس الصحابة بترك الجهاد وتسلق جبال النصيرية يمتلكونها. أضف إلى هذا أنه ما كان في عهد الخلفاء الراشدين من يسمون بالعلويين كحزب، وإنما نشأ الخوارج والشيعة في عهد علي رضي الله عنه وبدأ التحزب في أواخر عهد علي رضي الله عنه ونشأت النصيرية في القرن الثالث. وما زعمه بأنهم كلهم حضروا غدير خم يقال له: إن الصحابة ما كانوا ينظرون إلى من حضر غدير خم إلا كما ينظرون إلى سائر المسلمين فلم تعرف لهم مزية في زمن الخلفاء جميعهم ابتداءً بأبي بكر وانتهاءً بعلي رضي الله عنهم. ويقال لهم أيضاً إنكم تكذبون بهذا القول بقية أسلافكم الشيعة الذين يحكمون على كل من حضر غدير خم بالردة إلا عدداً قليلاً استثنوهم حيث نشأ كفر أولئك من تركهم بيعة علي بالخلافة بعد ترشيح النبي صلى الله عليه وسلم له حسب معتقدهم. ¬

(¬1) طائفة النصيرية ص 35.

2- ومن أسمائهم المحبوبة عندهم ((العلويون)) : وهم يحبون هذا الاسم ويتمنون أن يطلقه الناس عليهم وينسوا ما عداه من أسمائهم، وقد ذكر بعض العلماء أن هذه التسمية أخذت من عبادة هؤلاء لعلي رضي الله عنه وتأليههم له، وعلي بريء من إلحادهم مثل براءة جعفر بن محمد من مذهب الجعفرية. ويقول عبد الحسين عن ارتياحهم لهذه التسمية، ((وقد ارتاحوا لها لأنها في الأقل تخلصهم مما علق تاريخياً باسم النصيرية من ذم وتشنيع وتكفير، كما أنها تفتح لهم آفاق أرحب للتقارب مع الشيعة)) إلى أن يقول: ((ولاشك في أن الانتساب إلى الإمام على أي نحو كان أفضل من الانتساب إلى ابن نصير)) (¬1) . 3- وقد أطلق عليهم الأتراك اسم ((سورة ك)) : وبمرور الزمن صار الناس يلفظونها ((سوراك)) ، ومعناها عند الأتراك: المنفيون أو المساقون، ويوجد إلى هذه الأيام -كما يذكر الحلبي- بعض النصيريين في حلب وفي أقضية صهيون والعمرانية وصافيتا بهذا الاسم (¬2) . وقد سألت كثيراً من الأتراك عن هذا المفهوم ((لسوراك)) فلم يعرفوه، ولعلها لغة قديمة للأتراك ثم تركت. 4- ويطلق عليهم اسم (النميرية) . نسبة إلى محمد بن نصير النميري، ولهم أسماء أخرى محلية مثل ((التختجية)) ((الحطابون)) في غربي الأناضول والعلي إلهية في فارس وتركستان وكردستان)) (¬3) . * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) العلويون ص 32. (¬2) تاريخ العلويين ص 342 طائفة النصيرية ص 35. (¬3) العلويون ص 31.

الفصل الرابع نشأة النصيرية

الفصل الرابع نشأة النصيرية تركت وفاة الحسن العسكري -الإمام الحادي عشر للاثني عشرية- دون عقب كما قدمنا أثراً ظاهراً وخلافاً حاداً بين الشيعة، فقد اختلفوا إلى 14 فرقة تقريباً بين مؤيد للقول بوجود ابن للحسن العسكري يسمى محمداً وناف لوجوده أصلاً. ولما كان الزمان لا يخلو من وجود إمام معصوم يتولى تصريف شئون الناس، وإلا لتعطلت الحياة بزعمهم، وكان هذا الإمام غير ظاهر، فأوجدوا في أذهانهم فكرة ((الباب)) إليه، والباب شخص مخلص لآل البيت، يكون حلقة الاتصال بين الناس وبين الإمام المستور. ويستدلون على هذه البابية الخرافية بما يزعمون من روايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم فعليه بالباب)) ، ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) ، ومن هنا وضعوا قائمة بالأبواب أولهم علي بن أبي طالب، وهو باب للرسول صلى الله عليه وسلم، وسلمان الفارسي، وهو باب لعلي، وهكذا إلى الإمام الحادي عشر -الحسن العسكري. ثم اختلفت كلمتهم، فادعى النصيريون أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري لم يكن له باب، بل استمر الباب للإمام الحادي عشر- الحسن العسكري- أبو شعيب محمد بن نصير، ومن هنا وقع الخلاف بين

النصيرية والإمامية الاثني عشرية، مما أدى إلى انفصاله وفرقته عن الاثني عشرية كما تقدم بيان ذلك. ولقد أصبح مذهبه فيما بعد من أعمق المذاهب في الوثنية والغلو في البشر. قال عنه عبد الحسين العسكري: ((وقال ابن نصير بربوبية أبي الحسن العسكري، وزعم أنه نبي ورسول بعثه أبو الحسن)) (¬1) . وبعد وفاة ابن نصير تناوب على زعامة النصيرية عدة أشخاص أثروا المذهب النصيري بأفكارهم وتنوع المعتقدات وتعدد الطرق والآراء، كان من أبرزهم أبو محمد الجنبلاني، وتلميذه الحسين بن حمدان الخصيبي، ومحمد ابن علي الجلي، وعلي الجسري، والميمون -ابن سرور بن قاسم الطبراني، وحسن المكزون السنجاري، وهو آخر مظهر لقوة النصيرية، قال الدكتور سليمان الحلبي عن الحال النصيرية بعد وفاته: ((وبعد وفاة الحسن المكزون تفرق النصيريون إلى عدة مراكز دينية غير مرتبطة ببعضها البعض، يتبوأ كل منها لمرجع ديني يطلقون عليه لقب الشيخ، واستقل كل شيخ برئاسة مركز صغير إلى استطاعوا بالأمس القريب وفي غفلة المسلمين ((غفاة البشر)) في سوريا وغيرها- من السيطرة على نظام الحكم في سوريا، فعادت لهم سطوتهم وقوتهم مرة أخرى يتحكمون بها في رقاب المسلمين)) (¬2) . ولكنهم في هذا الظهور الجديد اتخذوا لهم أسماء براقة خادعة مثل حزب البعث الاشتراكي، ودعوى التقدمية والتحرر، وما إلى ذلك، وهم إنما غيروا الاسم لإبعاد الأنظار عن حقيقتهم قدر الإمكان ولجلب الساقطين إلى صفوفهم. * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) العلويون ص 15، وانظر: فرق الشيعة للنوبختي ص 78. (¬2) طائفة النصيرية ص42.

الفصل الخامس تكتم النصيرية على عقائدهم

الفصل الخامس تكتم النصيرية على عقائدهم يعتبر النصيريون ديانتهم ومذهبهم سراً من الأسرار العميقة التي لا يجوز إفشاؤها لسواهم، وقرروا أن الذي يفشي شيئاً منها يكون جزاؤه القتل في أسوأ صورة له، لأنه أفشى سر العلي الأعلى، ومن أمثلة ذلك أن سليمان الأضني وهو من أبناء مشايخ النصيرية من ولاية أضنة تنصر بتأثير بعض المنصرين الأمريكيين وجاء إلى اللاذقية، وكتب كتباً سماه ((الباكورة السليمانية)) وكشف فيها الكثير من أسرار العقيدة النصيرية، وطبع المنصرون الأمريكيون الكتاب في بيروت سنة 1863. وبعد أن قام باللاذقية مدة أخذ أقاربه يراسلونه ويحببون إليه العودة إليهم، مستعملين في ذلك كل وسائل التودد والمجاملة حتى آمن جانبهم وعاد إلى وطنه الأصلي، فكان جزاؤه أن أحرقوه حياً، ثم حاول النصيريون بكل جهد وعزم على احتواء الكتاب حتى اختفى تدريجياً، ولا توجد منه الآن نسخة واحدة (¬1) . وهكذا فإنهم يترصدون لكل من يذكر عنهم شيئاً أو يشير إلى عقائدهم الخبيثة التي تنضح شركاً ووثنية ولا يملكون من وسائل الدفاع والرد غير التصفية الجسدية، لعلمهم بأن مذهبهم عورات لا تحتمل النقاش وعرض ¬

(¬1) دائرة معارف القرن العشرين 10 / 249، 250، نقلاً عن ((العلويون)) ص 63.

الأدلة، فهي أقنعة واهية سرعان ما يظهر ما وراءها وينكشف، ومن هنا فإنهم ليسوا على استعداد لأي بحث ومناظرة. وقد كتب محمد فريد وجدي خلاصة عن ما جاء في كتاب الباكورة السليمانية هي: 1- أن النصيرية علويون يعتقدون بألوهية الإمام علي، والشمالية منهم يقولون: إنه حالٌّ في القمر. والكلازية يذهبون إلى أنه حال في الشمس، ولهذا فهم يقدسون الشمس والقمر وسائر النجوم. 2- ويعتقدون بتناسخ الأرواح، فالأرواح الصالحة عندهم تحل في النجوم، ولهذا يسمون علياً أمير النحل أي أمير النجوم، والأرواح الشريرة تحل في أجسام الحيوانات التي هي في نظرهم نجسة كالخنازير والقرود وبنات آوى. 3- أن كلمة السر عندهم ثلاثة أحرف وهي: ع. م. س، أي علي، محمد، سلمان. 4- أن للنصيرية كتاباً مقدساً يعتمدونه ويرجعون إليه وهو غير القرآن، ولا يحتل القرآن عندهم إلا مكاناً ثانوياً. 5- العقائد النصيرية غير متجانسة وثنية قديمة وإسلامية متطرفة (¬1) . وحين تزعم النصيري ((علي عيد)) التنظيم النصيري في طرابلس فأشار إلى هذا صحاب مجلة الحوادث اللبنانية فقتل بمؤامرة هؤلاء (¬2) ، وأمثلة أخرى كثيرة تدل على أن هؤلاء ليسوا على يقين من صلاحية ديانتهم وصفائها، وأنهم ¬

(¬1) دائرة معارف القرن العشرين 10 / 249، 250، نقلاً عن ((العلويون)) ص 63. (¬2) المصدر السابق 10/ 250 نقلاً عن طائفة النصيرية ص 43.

يعلمون أنها قامت على شفا جرف هار مملوءة بالخداع والتضليل، وتبييت النية السيئة لغيرهم من البشر. فإن من كانت نيته طيبة ومبادئه سليمة لا يتخوف من أحد أن يطلع عليها، بل يفرح بكثرة المطلعين، كما هو الحال عند أهل السنة والجماعة الذين يتمنون لو أن أهل الأرض كلهم يدرسون مبادئهم ويطلعون عليها، بل إنهم بالعكس يشعرون دائماً بالمرارة من محاربة علماء السوء والزعماء الضلال لأفكارهم التي هي تبع لأوامر الله ونواهيه في كتابه الكريم. وسبب تلك العداوة من قبل أولئك الضلال المنتفعين أنهم يعلمون تماماً أن العقيدة الصحيحة حينما تصل إلى قلوب أتباعهم تحول فوراً بينهم وبين الخضوع والسجود لأولئك الطغاة. ومنا هنا كانت السرية هي أهم ما يطلب به الداخل في ملّتهم. وقد جاء في الهفت الشريف من الحث على لزوم الكتمان ما رواه المفضل الجعفي عن رجل انتهى من تكرار التناسخ أنه قال له: ((وأوصيك يا أخي ونفسي بكتمان سر الله تعالى وباطني مكنونة إلا من إخوانك الموحدين المقربين بمعرفة العلي الأعلى، ثم غاب عني فقال الصادق: لقد أتاني في هذا الأسبوع ثلاث مرات فسلم علي وأنا فيكم ولا تعرفونهم)) (¬1) . وقال الصادق للمفضل كما يرويه صاحب الهفت: ((يا مفضل لقد أعطيت فضلاً كثيراً وتعلمت علماً باطناً فعليك بكتمان سر الله ولا تطلع عليه إلا ولياً مخلصاً، فإن فشيته إلى أعدائنا فقد أعنت على قتل نفسك)) (¬2) . ¬

(¬1) الهفت الشريف ص 54. (¬2) ص 102.

ويسمى صاحب ((الهفت)) المسلمين كلهم بأنهم أنجاس ورعاع إلا من دخل في ضلالته وذلك في قوله: ((وأن هذا العلم يا مفضل سر الله ومكنون خزائنه الذي لم يطلع عليه أحد من عباده إلا الأولياء المختصون، وواجب سبحانه وتعالى أن لا يتطلع (هكذا) على هذا العلم الرعاع الأنجاس ثم قرأ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) ص 134، والآية من سورة الجن 26، 27.

الفصل السادس طريقتهم في تعليم مذهبهم

الفصل السادس طريقتهم في تعليم مذهبهم تعليم المرأة: المرأة النصيرية -إلا من خرجت عن تعاليمهم -تعتبر من أجهل نساء العالم؛ إذ إن التعاليم النصيرية تقضي بعدم جواز اطلاع المرأة على أي سر من أسرار المذهب؛ لأنها في نظرهم ضعيفة العقل والإرادة، ولأنها أكثر شراً من الرجل وأكثر احتيالاً ومكراً، وهن سبب كل شر- كما صرح بذلك الهفت الشريف المقدس عندهم-، والجهل بمذاهبهم هو العلم وإنما أقصد أنها أكثر النساء أمية. فالمرأة النصيرية إذاً لا دين لها (¬1) وفي كتابهم المذكور وصايا عديدة حول الاحتراس من المرأة، وذكر المساوئ الكثيرة التي تصدر عنها وأن الرجل قد يجازى أيضاً بالتناسخ بأن يتحول إلى صورة امرأة عقاباً له إذا كان في حياته السابقة غير مؤمن -أي غير نصيري-، أو كانت عليه ذنوب كثيرة في حق إخوانه النصيريين، أو لم يحترم المشائخ ويقدم لهم الهدايا وأنواع المأكولات)) (¬2) . ¬

(¬1) انظر: دائرة معارف القرن العشرين مادة نصر، وانظر: العلويون ص 57، وطائفة النصيرية ص 43. (¬2) انظر: الجليل التالي ص 9.

وقد ذكر المفضل الجعفي عن الصادق - وهو من جملة أكاذيبهم عليه - أنه قال في وجوب الحفاظ على سرية المذهب: ((كذلك الكافرون ينحطون من درجة الرجال حتى يصيرون عامة نساء كافرات)) قال المفضل: يا مولاي روي عن أبيك أنه قال: النساء أشر من الرجال، وأكثر احتيالاً ومكراً، قال الصادق: يا مفضل إن أصل كل شر النساء، وحين أخرج أبونا آدم من الجنة (¬1) كان بسبب حواء حين أغواه ضده على أكل الحبة. وكذلك قتل قابيل أخاه هابيل بسبب النساء، ألم تسمع كلام الله في كتابه الكريم عن امرأة نوح ولوط وكيف خانتاهما (¬2) ، وكذلك قتل يحيى بن زكريا بسبب امرأة باغية، وقد قال النبي وأبلغ في القول وأزجر في المعنى حين نظر في النار فرأى أكثر أهلها نساء. ثم قال الصادق: كيف لا يكون ذلك وهم (¬3) عايلة وأقوى كيداً من الرجال، وقال تعالى وقال منه السلام (¬4) والشياطين مَنْ إلا امرأة، وأن الإنسان إذا ارتقى في كفره وعتوه وتمرد وتناهى في ذلك صار إبليساً وردّ في صورة امرأة، قلت: سبحان الله يا مولاي! ما علمت ذلك ولا ظننت أنه يبكيني (¬5) . قال الصادق: ألم تقرأ في القرآن قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (¬6) وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (¬7) إذ هم صور النساء، قلت صدق مولاي)) (¬8) . ¬

(¬1) يعتقد هؤلاء أن آدم قبله سبعة أوادم، كل آدم مثل أمة، وانتهى حتى جاء أبونا آدم الجديد وهو الثامن كما يذكر الهفت الشريف، انظر الباب 60، 61 ص 150 - 153. (¬2) يعتقد هؤلاء أن آدم قبله سبعة أوادم، كل آدم مثل أمة، وانتهى حتى جاء أبونا آدم الجديد وهو الثامن كما يذكر الهفت الشريف، انظر الباب 60، 61 ص 150 - 153. (¬3) أي في الدين؛ إذ كانتا كافرتين ولم تكن خيانة في العرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما بغت امرأة نبي قط) أيسر التفاسير، 5/ 389، 391. (¬4) هكذا بالأصل. (¬5) هكذا بالأصل. (¬6) سورة النساء: 76. (¬7) سورة يوسف: 28. (¬8) الهفت الشريف ص 144.

ومن هذه النظرة المتشائمة للنساء فإنه لا أمل في صلاحها ويجب إبعادها عن كل أمر مهم ومنه سر الديانة. أما في الإسلام فلا أحد يجهل مكانة المرأة العالية؛ حيث جعلها راعية ومسئولة، وأن الله لا يضيع عمل عامل سواء كان ذكراً أو أنثى، وأن المرأة مكلفة بنفس التكاليف التي أمر بها الرجل، إلا ما استثنى لضرورة المرأة، وجعل لها حق التملك وطلب منها إخراج زكاة مالها ورغبها في الصدقة وفعل الخير، بل وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات (¬1) وأوصى الله بطاعتها: وقرنها بطاعته. إلى غير ذلك مما هو معروف في الإسلام مما ينبغي أن يطأطئ له دعاة تحرير المرأة رؤوسهم حياءً وإكباراً له، وإجلالاً لمبادئه التي يجهلونها تمام الجهل، ثم يتهجمون عليه بأنه ظلم المرأة حقوقها، وما لهؤلاء السفهاء للخوض في ما لم يحيطوا بعلمه فليقرءوه أولاً وليقرءوا كلام العقلاء من منصفي سائر الملل ليروا أنفسهم المتطاولة وصغرها أمامه. تعليم الرجل سر الديانة: وبعد أن أوجزنا موقف النصيرية من تدين المرأة، نوجز فيما يلي كذلك موقفهم من تدين الرجل أو تعليمه للدين النصيري حين يظهرونه عليه بعد ذلك التكتم الشديد. ولما كانت العقيدة النصيرية من أردأ المذاهب وأشدها توغلاً في الباطل، لم يأنسوا من إظهار مذهبهم صراحة حتى من بعضهم لبعض إلا بعد تعقيدات واختبارات شديدة يذلل من خلالها ويتجرع أشد أنواع الإذلال والإهانة. إذ يتم دخوله في المذهب بطريقة فاحشة يتم من خلالها القضاء على كل عرق ينبض بالرجولة والشهامة فيه، وتداس كرامته وينتهك عرضه. ¬

(¬1) حديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في مستدركه وصححه. إلا أن السخاوي قد ذكر فيه اضطراباً في سنده، انظر المقاصد الحسنة ص 176.

فحينما يحضر التلميذ يختار الشيخ الذي سيلازمه من بين مجموعة المشائخ الموجودين ويسمونه الوالد الروحي أو الوالد الديني، ثم يغرسون في نفس التلميذ تقديس شيخه والتواضع له تواضعاً مطلقاً أشبه ما يكون بالقاعدة الصوفية، ((كالميت بين يدي الغاسل)) . ومن الطرق التي يتوسلون بها إلى إذلال الشخص، أنه حينما يدخل يقف في ناحية وهو ساكت لا يتكلم بشيء وأحذية المشايخ مرفوعة فوق رأسه، ثم يتكلم شيخه لبقية المشايخ ويتوسل إليهم أن يقبلوا هذا الشخص الماثل أمامهم ويدخلوه في زمرتهم، فإذا قبله المشائخ أنزلت الأحذية من فوق رأسه، ثم يأخذ في تقبيل أيدي وأرجل الحاضرين من المشايخ. ثم يقف في مكانه ويوضع على رأسه خرقة بيضاء، ثم يأخذ الشيخ في قراءة العقد الذي سيتم بين التلميذ وبين المشايخ، وهو أشبه ما يكون بعقد الزواج، ويعتبرون هذا بمثابة الخطبة، ويعتبرون الكلام الذي يسمعه بمثابة النكاح، وما يتحمله من العلم عنهم بمثابة الحمل، فإذا علم وأراد التعليم فإن ذلك يكون بمثابة الوضع. وبعد أن تتم هذه المرحلة يقال للتلميذ: يجب عليك أن تكرر في اليوم خمسمائة مرة بحق ع. م. س لمدة يحددونها، ثم بعد ذلك يأتي إليهم ليتم تعليمه المذهب بعد اختبارات قاسية يرضى فيها بكل شيء حتى ولو بإهدار رجولته (¬1) . وفيما يلي نشير إلى أهم الشروط في تعليم المذهب النصيري: 1- يشترطون في من يلقى إليه تعليم المذهب أن يجتاز سن التاسعة عشرة (¬2) . 2- أن يمر بالمراحل الآتية على التدريج: ¬

(¬1) انظر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 374، 375. (¬2) العلويون أو النصيرية ص 57 نقلاً عن دائرة معارف القرن العشرين مادة ((نصر)) .

المرحلة الأولى: وتسمى مرحلة الجهل. وفيها يهيئون من يقع عليه الاختيار من أبناء الطائفة لقبول وحمل أسرار المذهب. مرحلة التعليق: وفي هذه المرحلة يلقنونه شيئاً من تعاليم المذهب، ويبقى مدة سنة إلى سنتين تحت إشراف شيخ من شيوخ الطائفة ليطلعه على شيء من أسرار المذهب بالتدريج، فإذا توسموا فيه القبول والنجابة نقلوه إلى المرحلة الثالثة الآتية وإلا طردوه. مرحلة السماع: وهي الدرجة العليا، ويطلعونه فيها على أكثر أصول المذهب النصيري، ثم يعقد الرؤساء الروحيون للطائفة مجمعاً خاصاً لتلقينه بقية أسرار المذهب، ثم ينقلونه إلى درجة أعلى يطلقون عليه درجة الشيخ أو صاحب العهد. ويتم ذلك بحضور الكفلاء، والشهود يشهدون باستعداد الرجل لقبول السر ومحافظته عليه، ثم يحلف اليمين المقررة عندهم أن يحافظ على السر ولو أريق دمه. وبعد حصوله على هذه الدرجة يصبح شيخاً من شيوخ الطائفة (¬1) . ومما يجدر التنبيه إليه أن التلميذ دائماً وهو بين أيدي المشايخ لا يلقى إليه شيء من تعاليم المذهب الملتوية إلا في غياب عقله وتفكيره عنه؛ ليقبل تلك العقائد التي تشمئز منها النفس ويمجها العقل وتأنف منها الفطرة السليمة، فعبد النور تسمية الخمر عندهم في يد الساقي وهالة من الموقف، وتهديدات من هنا ومن هناك، وكل هذه الأهوال يعيشها الشخص حتى تستكمل ¬

(¬1) طائفة النصيرية ص 45، 46. وانظر: العلويون ص 57 نقلاً عن دائرة معارف القرن العشرين مادة ((نصر)) .

إجراءات تفهيمه المذهب في جو غير طبيعي. وقد وصف أحد الداخلين في العقيدة النصيرية الموقف والحال المتبع عند دخول الشخص الذي يرتضونه لتحمل سر الديانة واسمه مخلوف، فقال مخبراً عن ذلك كما يصوغه محمد حسين: ((وفي اليوم المحدد اجتمع من المشائخ وأهل القرية والقرى المجاورة جمهور كثير، واستدعوني إليهم وناولني قدح خمر (¬1) ، ثم وقف أحد المشائخ وهو برتبة النقيب في الديانة النصيرية ووقف بجانبي وقال لي: قل: بسرّ إحسانك يا عمي وسيدي وتاج رأسي أنا لك تلميذ وحذاؤك على رأسي، ولم أجد بداً من شرب الخمر لأول مرة في حياتي، فلما شربت الكأس التفت إلى الإمام قائلاً: هل ترضى أن ترفع أحذية هؤلاء الحاضرين على رأسك إكراماً لسيدك؟ فقلت: كلا، بل حذاء سيدي فقط، فضحك الحاضرون لعدم قبولي القانون، ثم أمروا الخادم فأتى بحذاء السيد المذكور فكشفوا رأسي ووضعوه عليه، وجعلوا على الحذاء خرقة بيضاء. ثم أخذ النقيب يصلي على رأسي وأوصوني بالكتمان وانصرفوا إلى أن يقول: ثم بعد أربعين يوماً اجتمع جمهور آخر واستدعوني إليهم ووقف الشيخ الكبير بجانبي وبيده كأس خمر فسقاني الكأس وأمرني بأن أقول سر ع. م. س، ثم بعد ذلك قال لي الإمام: إنه فرض عليك أن تتلو هذه اللفظة وهي سر ع. م. س كل يوم خمسمائة مرة، ثم أوصوني بالكتمان وانصرفوا. ثم بعد سبعة أشهر- والمدة للعامة تسعة أشهر0 اجتمع جمهور (¬2) آخر أيضاً ¬

(¬1) من ضروريات تعليم الدين النصيري أن يكون الداخل تحت تأثير الخمر في حالة تعلمه للدين؛ فأعجب من هذا الدين الذي بيدأ بالخمر وإهانة كرامة الإنسان. (¬2) من الضروري أن هذا الجمهور كلهم ممن مرت عليهم هذه الطقوس السخيفة، ولا أظن أن تكون الدعوة عامة لشدة تكتمهم على ديانتهم.

واستدعوني حسب عادتهم وأوقفوني بعيداً عنهم -ثم قام هؤلاء بمهازل أمامه وطقوس، ثم قام وكيل من بين الجماعة وقال للإمام: نعم نعم نعم يا سيدي الإمام. فقال له الإمام: ما مرادك وماذا تريد؟ فأجابه أنه تراءى لي شخص بالطريق- إلى أن قال: هذا الشخص اسمه مخلوف، وقد أتى ليتأدب أمامكم. فقال: من دله علينا؟ فأجاب: المعنى المعنى والاسم العظيم والباب الكريم وهي لفظة ع. م. س، فقال الإمام: ائت به لنراه، فأخذ المرشد بيدي وذهب بي إلى الإمام، فلما دنوت منه مدَّ لي رجليه فقبلتهما، ويديه أيضاً، وقال لي: ما حاجتك وماذا تريد أيها الغلام؟ ثم نهض النقيب ووقف بجانبي وعلمني أن أقول: ((بسر الذي فيه أنتم يا معاشر المؤمنين)) . ثم نظر إليّ بعبوسة وقال: ما الذي حملك أن تطلب منا السر المكلل باللؤلؤ والدر ولم يحمله إلا كل ملاك مقرب أو نبي مرسل؟ اعلم يا ولدي أن الملائكة كثيرون ولا يحمل هذا السر إلا المقربون، والأنبياء كثيرون وليس منهم من يحمل هذا السر إلا الممتحنون، أتقبل قطع الرأس واليدين والرجلين ولا تبيح بهذا السر العظيم؟ فقلت له: نعم. فقال لي: أريد منك مائة كفيل، فقال الحاضرون: القانون يا سيدنا الإمام -فقال: إكراماً لكم ليكن اثنا عشر كفيلاً. ثم قام المرشد الثاني وقبل أيدي الاثني عشر كفيلاً وأنا أيضاً قبلت أيديهم. ثم نهض الكفلاء وقالوا: نعم نعم نعم يا سيدي الإمام. فقال الإمام: ما حاجتكم أيها الشرفاء؟ قالوا: أتينا لنكفل مخلوفاً. فقال: إذا باح بهذا السر أتأتوني به نقطعه تقطيعاً ونشرب دمه؟ فقالوا: نعم. فأجاب وقال: لست أكتفي بكفالتكم فقط؛ بل أريد اثنين معتبرين يكفلانكم. فجرى واحد من الكفلاء وأنا وراءه، وقبَّل أيدي الكفيلين المطلوبين،

وقبلتهما أنا أيضاً، ثم نهضا قائمين وأيديهما موضوعة على صدريهما، فالتفت إليهما الإمام وقال: الله ممسيكما بالخير أيها الكفيلان المعتبران الطاهران أهل البرش والكرش، فماذا تريدان؟ فأجابا أننا قد أتينا لنكفل الاثني عشر كفيلاً وهذا الشخص أيضاً، فقال: إذا هرب قبل أن يكمل حفظ الصلوات أو باح بهذا السر هل تأتياني به لتعدم حياته، فقالا: نعم، قال الإمام: إن الكفلاء يفنون وكفلاء الكفلاء يفنون، وأنا أريد منه شيئاً لا يفنى. فقالا له: افعل ما شئت فالتفت إليّ وقال: ادن يا مخلوف فدنوت منه، وحينئذ استحلفني بجميع الأجرام السماوية بأني لا أبوح بهذا السر، ثم ناولني كتاب المجموع في يدي اليمنى وعلمني النقيب الواقف بجانبي أن أقول: تفضل حلفني، يا سيدي الإمام على هذا السر العظيم، وأنت بريء من خطيئتي. فأخذ كتاب المجموع مني وهو مكتوب بالخط اليدوي ... إلى أن يقول: ثم قال الإمام: اعلم يا ولدي أن الأرض لا تقبلك فيها مدفوناً إن أبحت بهذا السر، ولا تعود تدخل القمصان البشرية، بل حين وفاتك تدخل قمصان المسوخية، وليس لك منها نجاة أبداً. ثم أجلسوني بينهم وكشفوا رأسي ووضعوا عليه غطاءً. ثم إن الكفلاء وضعوا أيديهم على رأسي وأخذوا يصلون فقرءوا أولاً سورة الفتح والسجود والعين ثم شربوا الخمر وقرءوا سورة السلام، ورفعوا أيديهم عن رأسي (¬1) . وأخذني عم الدخول وسلمني إلى مرشدي الأول، ثم أخذ بيده كأس الخمر وسقاني وعلمني أن أقول: ((بسم الله - يسمي الله على شرب الخمر!! - وبالله وسر السيد أبي عبد الله العارف بمعرفة الله سر تذكار والصالح سره أسعده الله)) . ¬

(¬1) انظر: الجيل التالي ص 39 - 47.

ثم انصرفت الجماعة وأخذني الشيخ صالح الجبلي شيخ الخياطين إلى بيته وابتدأ يعلمني أولاً التبري - وهو الشتائم- وحينئذ أطلعني على صلاة النصيرية وفيها عبادة علي بن أبي طالب، وهي ست عشرة سورة)) (¬1) . وقد دعاني ترابط الكلام سرد ما جري لمخلوف مع محاولتي الاختصار وترك ذكر بعض الأمور، خصوصاً وأن المخبر كشاهد عيان كما يقال في المثل. ومن الواضح جداً أن القائمين على تعاليم المذهب مجموعة أو شركة من اللصوص سراق عقول البشر، همهم الزعامة وجمع الأموال بأي وجه كان، ووجدوا في أشباه البشر من يصدقهم في ترهاتهم وأباطيلهم التي تبدأ بترداد ع. م. س وتنتهي بعبادة غير الله عز وجل، إنها مهازل يندى لها الجبين قام بها عتاة المجوسية عباد الأوثان، واقتطعوا أمماً بتلك المسالك الشيطانية وأخرجوهم عن دينهم. * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) هي مجموعة من الأدعية والكلام الركيك أكثره في مناجاة أمير النحل - يقصدون علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وبرأه الله منهم - مملوءة بالشرك وإظهار ربوبية علي، وأنه الله رب العالمين خالق السموات والأرضين، لا نريد التطويل بذكرها هنا. اقرأها في كتاب الجيل التالي.

الفصل السابع أهم عقائد النصيرية

الفصل السابع أهم عقائد النصيرية للنصيرية عقائد كثيرة بعضها ظاهر وبعضها -وهو الأكثر- لا يزال في طي الكتمان، وقد اتضح أن أهم عقائدهم وأبرزها: 1- تأليه علي رضي الله عنه. ولا تستبعد وقوع هذا فإن هؤلاء من أساسهم كانوا عباد أوثان وعباد بقر وفروج، وبعد أن دخلوا في الإسلام أو على الأصح تظاهروا به كان من أبرز عقائدهم: تأليه الإمام علي رضي الله عنه، زاعمين أنه إمام في الظاهر وإله في الباطن لم يلد ولم يولد، ولم يمت ولم يقتل، ولا يأكل ولا يشرب. وبحسب اعتقادهم أن الله تجلى في علي فقد اتخذ علي محمداً وبالغوا في كفرهم فقالوا: إن علياً خلق محمداً، ومحمد خلق سلمان الفارسي، وسلمان خلق الأيتام الخمسة الذين بيدهم مقاليد السموات والأرض وهم: 1. المقداد: رب الناس وخالقهم الموكل بالرعود والصواعق، والزلازل. 2. أبو الدر: (أبو ذر الغفاري) الموكل بدوران الكواكب، والنجوم. 3. عبد الله بن رواحة الأنصاري: الموكل بالرياح وقبض أرواح البشر. 4. عثمان بن مظعون: الموكل بالمعدة وحرارة الجسد وأمراض الإنسان. 5. قنبر بن كادان: الموكل بنفخ الأرواح في الأجسام (¬1) . ¬

(¬1) انظر: طائفة النصيرية ص 47، وانظر: الجيل التالي ص 113.

والمجوسية ظاهرة في هذه الأفكار لم يتغير فيها إلا الأسماء فقط. وهذه الأقوال يكفي واحد منها لدحض ما يزعمونه من إسلام، فهي نهاية الكفر والخروج عن منهج الله عز وجل. ويحتج النصيريون لهذه العقيدة بقولهم: إن الله معبود مقدس يحل في الأجسام متى يشاء، وله التصرف، وإليه ترجع الأمور. وعلي رضي الله عنه- وحاشاه عن كفرهم - حين زعموا أنه إمام في الظاهر وإله في الباطن قسموا طبيعته إلى قسمين: الظاهر وهو القسم البشري منه قسم الناسوت الذي يأكل ويشرب ويلد ويولد ويتقرب إلى عباده ليعرفوه عن كثب. وأما الباطن منه فهو قسم اللاهوت: الذي لا يأكل ولا يشرب. ومن حماقتهم أنهم يستدلون على ألوهية علي بما حصل له من كرامات كقلع باب خيبر، وشجاعته الحربية، وزعموا أن كان يكلم الجن، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسند إليه قتال الكفار الظاهرين، وعلي أسند إليه قتال المنافقين، لأنه يعرف البواطن. وقد اختلفوا في مكان حلوله بعد أن ترك ثوبه الآدمي أي صورته البشرية. * فمنهم من يتجه إلى القمر في عبادته لاعتقاد أنه حل فيه، بل القمر نفسه هو علي، وهؤلاء يسمون الشمالية. * ومنهم من يتجه إلى الشمس في عبادته لاعتقادهم أنه حل فيها، بل الشمس نفسها هي علي، وهؤلاء يسمون الكلازية (¬1) ، ومن هنا قال مدير مدرسة نصيري حينما سمع بوصول رواد الفضاء من الأمريكان وغيرهم إلى سطح القمر -بزعمهم- ((إن كان ما ذكروه حقاً أن القمر مكون من جمادات فعلى الدين السلام، وغضب لربه وقال في ذمه لهذه الكشوفات عن القمر: ((الآن ينتهي مفعول الدين إذا أثبتت هذه الكشوف كونه مجموعة من التلفيقات)) (¬2) . ¬

(¬1) العلويون ص 57. (¬2) اقرأ مقال الأستاذ أبو الهيثم ((معركة في القمر)) في كتابه الإسلام في مواجهة الباطنية ص 39 - 43.

بينما المسلم الحق لا يتأثر في دينه ولو دخل الناس النجوم الواحد تلو الآخر؛ بل يقول: هذا من تمكين الله لهم لا بقدرتهم، ولا يغضب؛ لأنه يعلم أن ربه هو خالق الكون وما فيه، وأنه هو الذي يمكن عباده من كل ما يشاءه تعالى. ويؤكد صاحب الهفت الشريف أنه ((ما من مؤمن يموت إلا وتحمل روحه إلى الإمام علي فينظر فيها، فإذا كان مؤمناً ممتحناً صافياً صعدت الملائكة بروحه إلى السماء فتغمسها في عين على باب الجنة اسمها عين الحياة)) الخ (¬1) . ويقول عن الأئمة: ((نحن الأئمة أولياء الله لا يفتر علينا من علمه شيء لا في الأرض ولا في السماء، نحن يد الله وجنبه، ونحن وجه الله وعينه، وأينما نظر المؤمن يرانا. إن شئنا شاء الله -ولا تلقه إلا إلى أهله- والحمد لله الذي اصطفانا من طينة نور قدرته، ووهبنا سر علم مشيئته ... إلخ)) (¬2) . ويتجلى تأليههم للإمام علي رضي الله عنه في تلك الأدعية الركيكة الخالية عن العقل وعن أدنى المعرفة، والتي تسمى ((سوراً)) عندهم. جاء في السورة الثالثة: ((اللهم إني أسألك يا مولاي يا أمير النحل، يا علياً يا عظيم يا أزل يا فرد يا قديم، يا علي يا كبير يا أكبر من كل كبير، يا خالق الشمس والقمر المنير، يا علي يا قدوة الدين يا عالم يا خبير، يا راحم الشيخ الكبير يا منشئ الطفل الصغير، يا جابر العظم الكسير يا محل كل يسير من غير عسير الذي يعرف المعرفة وينكرها عليه وعلى أبو دهية (¬3) ما يستحق من الله، ¬

(¬1) الهفت الشريف ص 82. (¬2) ص 197. (¬3) في كتاب الإسلام في مواجهة الباطنية ص 250 اسمه ((أبو دهية إسماعيل بن خلاد)) كانت له آراء خالف فيها النصيرية. انظر الصفحة المذكورة.

وعلى أبو سعيد السلام ورحمة الله)) (¬1) . وفي سورة السجود: ((يا علي سجد لك وجهي الفاني البالي إلى نور وجهك العزيز الحي الدائم ... يا علي لك الإلهية يا علي لك الملكوتية ... إياك مولاي علي نعبد)) (¬2) إلخ ذلك الهراء الطويل. وفي سورة الإشارة: ((لله ارتفاع القصد والعزة والإشارة لك يا مولاي يا أمير المؤمنين يا علي يا أنزع يا بطين (¬3) يا محيي العظام الدوارس وهي رميم اللهم إني أسألك يا مولاي يا أمير المؤمنين أن تجعلنا في عبادتك كاسبين غانمين مؤيدين منصورين، ولا تجلعنا في عبادتك لا خاسرين ولا نادمين)) (¬4) وما أحراهم بنهاية الخسارة والندامة، ولو كانت لهم عقول لما جمعوا لعلي رضي الله عنه بين الألوهية والإمارة. وجاء في السور الكبيرة: ((أول معرفتي بالله أشهد شهادة تقية نقية مشعشعة نورانية بيضية علوية حجابية محمدية، أشهد شهادة الحق في منهج الصدق، أشهد شهادة بأن لا إله إلا مولاي ومولاك أمير النحل علي، ولا حجاب إلا السيد محمد ولا باب إلا السيد سلمان ... وأشهد أن الله علي ربي يحييني ويميتني، وهو الحي الذي لا يموت (¬5) بيده الخير وهو على كل شيء قدير وإليه المصير)) (¬6) . ¬

(¬1) الجيل التالي ص 79. (¬2) المصدر السابق ص 87 - 88. (¬3) أي كبير البطن. (¬4) المصدر السابق ص 93. (¬5) لأنهم لا يقولون بموته ويفسرون موته بخلعه للتقمص البشري الذي خلصه منه عبد الرحمن بن ملجم وهذا هو السر في تقديسهم له وترضيهم عنه. (¬6) الجيل التالي ص99.

ويظهر الأثر اليهودي واضحاً في السورة السادسة عشرة المسماة سورة النقباء، وفيها: ((سر اثني عشر نقيباً، سر ثمانية وعشرين نجيباً، سر أربعين قطباً أولهم عبد الله بن سبأ، وآخرهم محمد بن سنان الزاهري ... سر عبد الله بن سبأ نقيب النقباء، سر محمد بن سنان الزاهري نجيب النجباء، سرهم أسعدهم الله أجمعين في أربع أقاليم الدنيا والدين بحق الحمد لله رب العالمين)) (¬1) . إلى آخر هذه الخزعبلات والسور التي تحوي مثل ذلك الكفر والإجرام والتعابير الركيكة التي لا تمت إلى العقل والمعرفة بأدنى صلة، لقد فاق هؤلاء بلادة الحمير وكل المخلوقات، وكانوا أضل من الأنعام. وهناك نصوص أخرى تركتها خشية الإطالة، تنضح مجوسية وإلحاداً، مما يدل دلالة قاطعة على أن الذين وضعوا الديانة النصيرية كانوا متشبعين بالمجوسية، ولهم اطلاع على كل الديانات من يهودية ونصرانية وهندوسية وغير ذلك. وقد أضافوا إلى ألوهية علي وحلول الإله فيه أن الإله حل أيضاً في سائر الأئمة من بعد علي، ومن ذلك ما قالوه في مقتل الحسين مما نقلناه سابقاً عن الهفت الشريف وزعمهم فيه أن الحسين هو الله رب العالمين، بل إنهم يعتقدون جازمين أن الأئمة أفضل من كل الأنبياء، لأن الأئمة بزعمهم يكلمون الله بدون واسطة والأنبياء بواسطة. وقد اقتبسوا هذه الأفكار الخاطئة عن الشيعة الاثني عشرية، وهؤلاء أخذوها عن ابن سبأ اليهودي، ومن العجب أنهم مرة يجعلون الإمام علياً إلهاً، ومرة أخرى يجعلونه نبياً، ومرة أخرى يستدلون على فضائله بكلام الله في القرآن يحرفونه بأقوال مكذوبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا خرج الكثير من ¬

(¬1) الجيل التالي ص109.

شبابهم بسبب هذا الخلط والاضطراب الفكري إلى الإلحاد الماركسي (¬1) . وبعد أن استوثق هؤلاء الفجار من قبول الطغام الذين هم على شاكلتهم بكل ما جاءوهم به من الكفر والإلحاد دون اعتراض طمع هؤلاء في دعوى الألوهية بعد أن استهانوا بأمرها لكثرة المتألهين في مبادئهم، بحجة أن الله -تعالى عن جهلهم- يحل في من يشاء من عباده. وقد ادعى رجل منهم الألوهية في هذا الزمن (¬2) حين كانت فرنسا مستعمرة للشام وتخطط لإحياء الجهل وطمس الدين بأي وسيلة كانت؛ لتبقى أطول مدة تحكم فيها بلاد المسلمين فوقع اختيارهم على دمية نصيري من سوريا يسمى سلمان المرشد، فأوصل نفسه إلى رتبة الألوهية- لأن الله تقمص به- وآمن به واتبعه كثير من النصيريين. وقد مثل المهزلة تمثيلاً جيداً فكان كما يذكر في تاريخه يلبس ثياباً فيها أزرار كهربائية، ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار، فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار فيخر له أنصاره ساجدين حين يرون طلعته الشقية. ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذه الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين ويخاطب سلمان المرشد بقوله: يا إلهي، وبعد أن ادعى الألوهية كان عليه أن يرسل الرسل، وهذا ما حصل بالفعل فقد اتخذ ¬

(¬1) انظر لما سبق ذكره عن علي رضي الله عنه وموقف النصيرية منه: كتاب طائفة النصيرية ص 46 - 50، نقلنا عنه بتصرف، وانظر: فرق الشيعة للنوبختي ص 116، والعلويون ص 15، 44، 52، ولقد توسع الدكتور محمد أحمد الخطيب في هذه المسألة وبين تفضيلاتها في الفصل الثاني من كتابه الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 341 - 354. (¬2) وتسمى جماعته المرشدية، وقد ظهرت قبل أربعين سنة حين تزعمها سلمان المرشد، انظر الإسلام في مواجهة الباطنية ص 101.

سلمان المرشد رسولاً اسمه سلمان الميده، وكان يشتغل جمَّالاً عند أحد المزارعين في حمص، في حين كان سلمان المرشد مدعي الألوهية راعي أبقار، وهكذا يكون الإله راعياً والرسول جمَّالاً كما يذكر الحلبي. قال أبو الهيثم: ((لقد جاء يوم على المرشدية كانت فيه سيفَ الفرنسيين المصلت على رقبة كل وطني في هذه المحافظة -يقصد اللاذقية-، وكان ذلك عام 1938م، إذا أقام ربها سلمان نفسه دولة ضمن دولة يفرض الإتاوات ويجبي الضرائب وينصت المحاكم وينفذ أحكام الإعدام ويقطع طرق المواصلات إلخ (¬1) . وحين رحل الفرنسيون عن سوريا في مواكب العار- كما سماها أبو الهيثم- وذلك سنة 1938م- ترك له هؤلاء من أسلحتهم ما أغراه بالعصيان، فجردت الحكومة السورية آنذاك قوة بقيادة محمد علي عزمة فتكت ببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين ثم أعدم شنقاً في دمشق عام 1946م. وقد سئل مرة قبل هلاكه فقيل له: أنت إله وأغاخان إله فكيف تتسع الأرض لإلهين؟ فأجاب بقوله: ((إن الخالق يبث روحه فيمن يشاء، وقد يبثها في مائة من مخلوقاته فيصيبون أرباباً مثلي)) (¬2) . وقال عنه أبو الهيثم: ((العجيب في أمر سلمان أنه لم يكن ليصرح بمزاعمه الإلهية خارج حدود نفوذه قط، وقد مثل منطقته في البرلمان السوري كأي نائب -من غير الناطقين، فلم يسمع منه أي تصريح أو تلميح لما يقول فيه أتباعه، وأذكر أنني اجتمعت به وسألته عن هذه الدعوى التي تشيع عنه ¬

(¬1) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 103. (¬2) الأعلام للزكلي 3 / 170.

فأنكرها أشد الإنكار، وشهد على نفسه بالإسلام. وقد قال لي يومئذ: إن كل مهمته في جماعته هي أن يحاول تنظيم أمورهم على أساس الإسلام، وعدّد بعض أعماله الإصلاحية هناك مما لا غبار عليه..غير أن الواقع أن الرجل كان أذكى من أن يصرح بغير هذا أمام أي عاقل خارج جماعته)) (¬1) . وبعد هلاك هذا المتأله ألّه أتباعه ابنه مجيب الأكبر بن سلمان المرشد، وقد قتل هذا أيضاً، ولكن استمر أتباعه على تأليهه، ومن حماقاتهم وخبثهم على المسلمين وزعمائهم أنهم يقولون عند ذبح أحدهم ذبيحته: باسم مجيب الأكبر من يدي لرقبة أبي بكر وعمر (¬2) ، ومن هنا فإنه لا يجوز لأي مسلم إذا مر بديارهم أن يأكل من ذبائحهم. ومن العلماء من يذكر أنهم الآن يريدون تأليه أحد أخوة مجيب الذين لا يزال لهم نفوذ عند جهلاء النصيرية (¬3) ؛ بل ويصرحون بتمسكهم بالمرشدية، يقول أبو الهيثم: فالمرشدي لا يكتم عقيدته في تأليه سلمان وأبناءه الذين أعدهم ذلك الأب (البار) لمنصب الألوهية منذ أن اختار لهم بعض أسماء الله الحسنى (فاتح، سميع، مجيب) (¬4) . وقد أصبح من المألوف أن تسمع هذا المرشدي يدافع عن عقيدته باسم حرية الفكر، ولهم صلاة يسمونها الصلاة المرشدية وينسبونها إلى مجيب الأكبر، يقولون فيها: تسبيح إلى مولانا مجيب بن سلمان المرشد الرب العظيم. ¬

(¬1) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 103، 104. (¬2) انظر: طائفة النصيرية ص 54. (¬3) إسلام بلا مذاهب ص 309، نقلاً عن طائفة النصيرية. (¬4) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 102.

2- القول بالتناسخ

مولانا لك العزة والمجد والتهليل والتكبير، سبحانك ربنا إنك كريم رحيم، يا مولانا يا مجيب المرشد، سبحانك أنت الرب العظيم، إلى آخر الدعاء الذي اشتمل على صدق اللجوء إلى هذا الرب المخترع، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وينص النصيريون في دعائهم ويلحون على أن الله تعالى يرزقهم بجنود غرباء عنهم وعن وطنهم، يأتون إليهم من جهة الغرب لينقذوهم من حكامهم المسلمين. وقد وصف الأستاذ الشكعة هذه الإشارات في دعائهم إلى أنها دعوة لفرنسا المستعمرة لتثبت أقدامهم في بلادهم (¬1) . يقول أبو الهيثم: ((ثبت بصورة قاطعة أن المرشدية على صلة وثيقة بالإرسالية البروتستانية الأمريكية في اللاذقية، وهل صلة مريبة لا شك أن وراءها أصابع السياسة الأمريكية وبكلمة أوضح أصابع الصهيونية العالمية)) (¬2) . 2- القول بالتناسخ: هذه أهم قضية في عقائد النصيرية، ويعود سبب تعلقهم بالتناسخ إلى أنهم لا يؤمنون بيوم القيامة ولا بالحساب ولا الجزاء في الآخرة، وقد بين النوبختي فكرة التناسخ عند القائلين بها فقال: ((هم أهل القول بالدور في هذه الدار وإبطال القيامة والبعث والحساب، وزعموا أن لا دار إلا الدنيا، وأن القيامة إنما هي خروج الروح من بدن ودخوله في بدن آخر غيره إن خيراً فخير وإن شراً فشراً. وأنهم مسرورون في هذه الأبدان أو معذبون فيها، والأبدان هي الجنان ¬

(¬1) إسلام بلا مذاهب ص 309، نقلاً عن كتاب محمد المجذوب: إخواننا في جبال اللاذقية. (¬2) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 103.

هي النار، وأنهم منقولون في الجسام الحسنة الإنسية المنعمة في حياتهم ومعذبون في الأجسام الرديئة المشوهة من كلاب وخنازير وحيات وعقارب وخنافس وجعلان محولون من بدن إلى بدن معذبون فيها، هكذا أبد الأبد فهي جنتهم ونارهم لا قيامة ولا بعث، ولا جنة ولا نار غير هذا، على قدر أعمالهم وذنوبهم وإنكارهم لأئمتهم ومعصيتهم لهم)) إلخ (¬1) . والتناسخ حسب معتقد النصيرية في أربع صور حسب قرب الشخص أو بعده عن الإيمان وطاعة الأئمة أو عصيانهم، وهي كما يلي: نسخ، مسخ، فسخ، رسخ. 1. أما النسخ: فهو انتقال الروح من جسم آدمي إلى جسم آدمي آخر. 2. وأما المسخ: فهو انتقال الروح من جسم آدمي إلى جسم حيوان. 3. وأما الفسخ: فهو خروج الروح من جسم آدمي إلى جسد حشرة من حشرات الأرض وهوامها. 4. وأما الرسخ: فهو انتقال الروح من جسم آدمي إلى الشجر والنبات والجماد (¬2) . ومن الجدير بالذكر أن بعض الروايات تذكر أن المسخ والفسخ والرسخ لا تصيب النصيري بل هي خاصة بمن عداهم من الناس، الذين يطلقون عليهم الكفرة والذين يمرون في تكرار مولدهم بألوان العقاب والجزاء في هذه الدنيا. وفي الهفت الشريف نصوص لا يتسع المقام لذكرها كلها هنا في بيان كيفيات التناسخ، وكيفيات العذاب الذي يحل بالكفار عند انتقال أرواحهم من جسم إلى جسم. ¬

(¬1) فرق الشيعة ص 57، 58. (¬2) تحقيق ما للهند من مقولة الباروني ص 38 - 44، نقلاً عن طائفة النصيرية ص 88.

يقول في الهفت الشريف: ((وأنه ليلقاك الرجل في بدنه وأنت تظن أنه آدمي، وإنما هو قرد أو خنزير أو كلب أودب (¬1) ، أي في صورته المسوخية المستقبلة. قال المفضل: ((سألت مولانا الصادق هل يذل الأعداء من دون الأولياء والأولياء من دون الأعداء في اصطناع الخير والشر فيما كان من أحدهما إلى الآخر، فقال: أما علمت أن المؤمن يكون في الناسوتية والكافر في المسوخية وفي تراكيب شتى حتى يصنع كل واحد منهما إلى الآخر من الخير والشر، مثلما كان يصنع إليه إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر)) (¬2) . وقال عن سبب إيذاء الكلب للإنسان: ((وإن الرجل حينما يمر بالكلب لا يعرفه ولا يكون قد رآه قبل ذلك اليوم، أو ربما يكون الرجل متزوجاً امرأة هذا الكلب، لأنه كان مركباً في الإنسانية وكان مجراه في بادي الأمر مجرى الإنسان؛ فأهلكه الله بعذاب ذبح أو قتل بما وصل إليه من شقاوته في حالة الدنيا، والرجل يكون قد تزوج امرأته وسكن داره ولبس ثيابه يعرفه الكلب في مسوخيته، فإذا نظر إليه نبح ووثب عليه أو عضه في وجهه)) (¬3) . وقال عن انقضاء كل آدم وذريته في مراحل وجودهم: ((إنه حينما ينتهي عمْر أي آدم وذريته يصبحون طوائف طائفة هم أهل المسخ وهم أهل العقاب، وطائفة هم أهل النسخ، وهؤلاء أهل الثواب)) (¬4) . ثم يصير المسخ والنسخ في الجمع الأكبر والدور الآخر ((أي آخر دور كل ¬

(¬1) المصدر السابق ص 80. (¬2) المصدر السابق ص 36. (¬3) 120 / 121. (¬4) ص 151.

3- تقديس الخمر

آدم وذريته ومنه أبونا آدم الثامن وذريته، كما يعتقدون في سخافاتهم)) ، وعن محمد بن سنان قال: ((ما من طائر يطير إلا له أم وأب وعم وخال، ثم التفت أبو الحسن إلى نجار ينجر بداره فقال: هذا النجار كان في الدور الأول ديكاً وهو اليوم نجاراً)) (¬1) . وهناك عشرات النصوص لا تخرج عن هذا الفكر الآسن والسخافات والحماقة التي أنتجتها عقول المجوس وعباد الأوثان. 3- ومن أهم عقائدهم أيضاً: تقديس الخمر؛ حيث زعموا أن الله تعالى يتجلى فيها وأنها تسمى عبد النور تشريفاً لها، وجعلوا من أكبر الإجرام قلع شجرة العنب. * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) ص 181.

الفصل الثامن عبادات النصيرية

الفصل الثامن عبادات النصيرية يختلف النصيريون عن المسلمين في العبادات، بل وفي كل شيء، وهذا طبيعي؛ إذ إن تعاليم الإسلام لا يمكن أن تتفق مع التعاليم الوثنية مهما أظهروها بالمظهر الإسلامي، مثل استعمالهم الأسماء الإسلامية، كما قد يتسمون بالأسماء المسيحية أيضاً؛ لكنهم لا يسمحون لأحد منهم أن يتسمى بأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر. ولأن مذهبهم خليط من شتى الأفكار والديانات كما تقدم، فإن ما ورد في عقيدتهم وكتبهم من كلمات الصلاة والحج والزكاة والصيام لا يريدون بها المقصود منها في الشريعة الإسلامية، بل أولوها إلى معان أخرى باطنية. ويذكر بعض العلماء أن النصيريين يفرقون في التزام التكاليف بين المشايخ وبين الجهال فيرون أن جبرية التكاليف تسري على المشايخ وتسقط عن الجهال. ولعل في هذا الكلام نظراً فإن الشيوخ أو أصحاب العهد وهم يعرفون الباطن يكونون في حرية تسقط معها التكاليف كما هو المعروف عن المذهب الباطني عموماً، فهم يزعمون أن الشخص إذا عرف بواطن النصوص سقطت عنه ما تدل عليه ظواهرها من التكاليف، والحلال والحرام. نعم قد يكلف الشخص الداخل في المذهب بالقيام بالتكاليف لحثه على طلب العلم الذي يسقط عنه في النهاية جميع ما حظر على غيره ممن لم يصل إلى درجته على حد ما صرح به الهفت الشريف، حيث ذكر وهو يعدد

الدرجات أن الاصطفاء درجة فوق درجة النبيين، وفوق هذه أيضاً درجة أعلى منها وهي درجة الحجاب، ثم قال المفضل الجعفي: ((قلت يا مولاي هل علينا نحن معرفة هذه الدرجات)) قال الصادق: نعم، من عرف هذا الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر، ومادام لا يعرف هذه الدرجات ولا يبلغها بمعرفته، فإذا بلغها وعرفها منزلة منزلة، ودرجة درجة فهو حينئذ حر قد سقطت عنه العبودية، وخرج من حد المملوكية إلى حد الحرية باشتهائه ومعرفته. قلت: يا مولاي فهل ذلك في كتاب الله؟ قال: نعم، أما سمعت قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (¬1) فإذا عرف الرجل ربه فقد انتهى للمطلوب، ولا شيء أبلغ إلى الله من الوحدانية والمعرفة، وإنما وضعت الأصفاد والأغلال على المقصرين، وأما من قد بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها لك فقد أعتقه من الرق، ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر. ثم تلا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2) وقرأ مولاي: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} (¬3) ، قلت: ما تعني هذه يا مولاي؟ قال: يعني رفعة في المعرفة وارتفاعاً في الدرجات (¬4) . وذكر الدكتور مصطفى الشكعة (¬5) أن النصيريين يصلون في خمس ¬

(¬1) سورة النجم: 42. (¬2) سورة المائدة: 93. (¬3) سورة النور: 29. (¬4) الهفت الشريف ص 42 وانظر ص 125. (¬5) إسلام بلا مذاهب ص 309، نقلاً عن طائفة النصيرية.

أوقات، إلا أنها تختلف في الأداء وفي عدد الركعات عن بقية المذاهب الإسلامية، وصلاتهم لا سجود فيها، وفيها بعض الركوع أحياناً. ولا يصلون الجمعة ولا يعترفون بها كفرض، ولا يتطهرون قبل آداء صلواتهم، ولا يصلون في المساجد، بل يحاربون بناء المساجد ولا يرضون بإقامتها، بل يجتمعون في بيوت معلومة وأوقات معينة، ويسمون هذا الاجتماع عيداً يقوم الشيوخ بتلاوة بعض القصص والأخبار والمعجزات الخرافية لأئمتهم، ويختلط الحابل بالنابل في هذه الاجتماعات رجالاً ونساءً. ثم يقومون بأداء بعض الطقوس والصلوات المشابهة لقداسات وطقوس المسيحيين، ومن قداساتهم الكثيرة قداس الطيب لكل أخ وحبيب، وقداس البخور في روح ما يدور في محل الفرح والسرور، وقداس الأذان وبالله المستعان، وكل قداس له ذكر خاص به وأدعية يتوسلون فيها بالإله علي والخمسة الأيتام وكبار مشائخهم -الذين جعلوهم أرباباً من دون الله؛ كالخصيبي وغيره- أن تحل في ديارهم البركة وأن ينصروا على أعدائهم. ومن أمثلة هذه القداسات: قداس الأذان وهو: ((الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً، الحمد لله كثيراً وجهت وجهي إلى محمد المحمود طالباً سره المقصود، المتقرب بتجلي الصفات وعيني الذات، وفاطر الفطر ذو الجلال، والحسن ذو الكمال، اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم الخليل، هو الذي سماكم مسلمين حنيفاً مسلماً ولا أنا من المشركين (هكذا) . ديني سلسل طاعة إلى القديم الأزل، أقر كما أقر السيد سلمان حين أذن المؤذن في أذنه وهو يقول: شهدت أن لا إله إلا هو العلي المعبود، ولا حجاب إلا السيد محمد المحمود، ولا باب إلا السيد سلمان الفارسي، ولا ملائكة إلا الملائكة الخمسة الأيتام الكرام.

ولا رب إلا ربي شيخنا وهو شيخنا وسيدنا الحسين حمدان الخصيبي، سفينة النجاة وعين الحياة، حي على الصلاة حي على الفلاح تفلحوا يا مؤمنون، حي على خير العمل بعينه الأجل الله أكبر والله أكبر، قد قامت الصلاة على أربابها وثبتت الحجة على أصحابها. الله مولاي يا علي أسألك أن تقيمها وتديمها ما دامت السموات والأرض، وتجعل السيد محمد خاتمها، والسيد سلمان زكاتها، والمقداد يمينها، وأبا ذر شمالها، نحمد الله بحمد الحامدين، ونشكر الله بشكر الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أسألك اللهم مولاي بحق هذا قداس الأذان، وبحق متَّى وسمعان (¬1) ، والتواريخ والأعوام، بحق يوسف بن من كان، بحق الأحد عشر كوكباً (¬2) الذين رآهم يوسف بالمنام تحل في دياركم البركة بالتمام، يا مولاي يا علي يا عظيم)) (¬3) . وهناك قداسات كثيرة كل قداس فيه مثل هذا الكلام السخيف. ويقول في الهفت الشريف في بيان معنى الصلاة والزكاة: إن جعفر الصادق قال للمفضل: ((أتدري ما معنى قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ} (¬4) ؟ قلت: يعني أهله المؤمنين من شيعته الذين يخفون إيمانهم وهي الدرجة العالية والمعرفة والإقرار بالتوحيد وأنه العلي الأعلى، فأما معنى قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} فالصلاة أمير المؤمنين، والزكاة معرفته، وأما إقامة الصلاة فهي معرفتنا وإقامتنا)) (¬5) . ¬

(¬1) هذا تأكيد لتأثرهم بالنصرانية. (¬2) هذه إشارة إلى معتقداتهم الوثنية في النجوم. (¬3) العلويون ص 109. (¬4) سورة مريم: 55. (¬5) الهفت الشريف ص 40.

والصيام عند النصيرية ليس هو عن الأكل والشرب وجميع المفطرات في نهار رمضان؛ بل هو الامتناع عن معاشرة النساء طوال شهر رمضان. والحج إلى بيت الله الحرام يعتبرونه كفراً وعبادة للأصنام (¬1) . وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي أنه توجد خلاصة وافية لتعاليم النصيرية وعقائدها في كتيب صغير بعنوان ((كتاب تعليم ديانة النصيرية)) ، وهو مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس برقم 6182، وهو على طريقة السؤال والجواب، ويتألف من (101) سؤال وجواب، نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي: س: من الذي خلقنا؟ ج: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. س: من أين نعلم أن علياً إله؟ ج: مما قاله هو عن نفسه في خطبة البيان وهو واقف على المنبر إذ قال: ((أنا سر الأسرار أنا شجرة الأنوار ... أنا الأول والآخر، أنا الباطن والظاهر)) ..إلى آخر كذبهم عليه. س: ما أسماء مولانا أمير المؤمنين في مختلف اللغات؟ ج: سماه العرب باسم علي، وهو سمى نفسه أرسطوطاليس، وفي الإنجيل اسمه إيليا ((إلياس)) ، ومعناه علي، والهنود يسمونه ابن كنكرة ... إلى آخر ما ذكره. س: لماذا نسمي مولانا باسم أمير النحل؟ ج: لأن المؤمنين الصادقين هم مثل النحل الذين يشتارون من أحسن ¬

(¬1) طائفة النصيرية ص 66.

الأزهار، ولهذا سمي أمير النحل. س: ما أسماء النجباء في العالم الصغير الأرض؟ ج: يورد 25 اسماً أولها أبو أيوب، وآخرها عبد الله بن سبأ. س: ما القرآن؟ ج: هو المبشر بظهور مولانا في صورة بشرية. س: ما علامة إخواننا المؤمنين الصادقين؟ ج: ع. م. س. س: ما دعاء النيروز؟ ج: تقديس الخمر في الكأس. س: ما اسم الخمر المقدس الذي يشربه المؤمنون؟ ج: عبد النور. س: لماذا؟ ج: لأن الله ظهر فيها. س: لماذا يولي المؤمن وجهه في الصلاة قبل الشمس؟ ج: اعلم أن الشمس نور الأنوار. إلى آخر 101 سؤال وجواب، ذكرها كلها عبد الحسين العسكري في كتابه ((العلويون)) (¬1) تشتمل في مجملها على تأليه أمير المؤمنين علي بن أبي ¬

(¬1) العلويون ص 82 - 96، نقلاً عن مذاهب الإسلاميين 2/ 474 - 487. د/ بدوي.

طالب، واعتقاد التناسخ والحلول، وتعظيم الخمر التي سموها عبد النور؛ لأن الله حل فيها، وتعظيم الأعياد النصرانية والمجوسية، وتقديس النجوم والاعتماد عليها، وعبادة الشمس، وفيها كذلك الحث على التزام السرية والكتمان لتعاليمهم الوثنية المجوسية. * * * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل التاسع أعياد النصيرية

الفصل التاسع أعياد النصيرية للنصيرية أعياد كثيرة في أوقات كثيرة مثل عيد الغدير، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد عاشوراء، وعيد الغدير الثاني يوم المباهلة، وعيد النوروز، وعيد المهرجان، وعيد الصليب، وعيد الغطاس، وعيد السعف، وعيد العنصرة، وعيد القديسة بربارة، وعيد الميلاد إلى آخر، أعيادهم الكثيرة التي وافقوا فيها المسلمين والنصارى والوثنيين (¬1) . وعن احتفالاتهم بعيد النوروز يقول عبد الحسين العسكري: ((احتفال النصيرية بعيد النوروز -وهو العيد الديني والقومي للفرس- يدل على الأثر الفارسي في النصيرية، ويشير إلى تمجيدهم للفرس بدعوى حلول الإله وشخصوه في ملوكهم، حتى إنهم جعلوا منهم ثالوثاً نظير ثالوثهم، وهم يدعون الإسلام. حيث زعموا أن ثلاثة منهم توارثوا الحكمة وتجلى الإله فيهم وهم شروين وكروين، وكسرى، ويقابلهم في الإسلام النصيري المعنى والاسم والباب؛ علي محمد سلمان (ع. م. س) (¬2) . * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) ذكرها د / الحلبي بتوسع في كتابه طائفة النصيرية ص 71. (¬2) العلويون ص 104، 105.

الفصل العاشر موقف النصيرية من الصحابة

الفصل العاشر موقف النصيرية من الصحابة النصيرية شأنهم شأن غيرهم من أعداء الإسلام في عدائهم للإسلام وزعمائه، فلقد بالغ هؤلاء في بغض الصحابة رضوان الله عليهم، بل واعتقدوا أن من الصحابة من لم يكن مؤمناً حقيقة، بل كان يتظاهر بالإسلام ويبطن النفاق خشية من سطوة علي، ومن هؤلاء بافترائهم أبو سفيان وابنه معاوية رضي الله عنهما. وقد خصوا الصحابي الجليل وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يليه عمر الفاروق رضي الله عنهما بالبغض الشديد، فلم يجيزوا حتى مجرد التسمية بأبي بكر وعمر، بل بلغ بهم السفه والحقد عليهما أن عمدوا إلى الحيوانات البريئة وتفننوا في تعذيبها؛ لأن روح أبا بكر وعمر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم حلت فيهم عن طريق التناسخ. ومن هنا فهم يأخذون بغلاً أو حماراً ليذيقوه سوء العذاب، لأنه تقمص روح أبي بكر أو عمر، كما أنهم يأخذون غنمة ويعذبونها كذلك تنكيلاً بأم المؤمنين عائشة وتنفيساً عن أحقادهم المجوسية، إلا أن المشكل هو كيف يقع اختيارهم على إحدى هذه البهائم بعينها للتنكيل بها. ولهم عليهم غضب الله أفعال وأقوال في ذم الصحابة وخصوصاً ما قالوه عن عمر رضي الله عنه الذي يرمزون إلى اسمه بـ ((أدلم)) يتنزه من له أدنى

مسكة من عقل أو حياء من ذكرها. والسبب في بغضهم هؤلاء الأخيار من الصحابة واضح، وهو أن هؤلاء هم الذين أطفئوا نار المجوسية ونشروا راية الإسلام خفاقة بين جحافل المجوسية والوثنية، فكيف يرضى عنهم هؤلاء وهم قد وتروهم في ديانتهم وفي حكمهم واستعلائهم؟!. * * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الحادي عشر فرق النصيرية

الفصل الحادي عشر فرق النصيرية تفرق النصيريون إلى فرق وطوائف كثيرة، ومن أهم تلك الطوائف: 1. الجرانة: نسبة إلى قريتهم جرانة، ثم سميت بعد ظهور محمد يونس كلازو من زعمائهم ((الكلازية)) ، ويقال لهم القمرية لأنهم يعتقدون أن علياً حل في القمر (¬1) ، ويرون أن الإنسان إذا شرب الخمر الصافية يقترب من القمر. 2. الغيبية: أي الذين رضوا بما قدر لهم في الغيب فتركوا التوسل -كما يذكر الحلبي- أو هم الذين قالوا: إن الله تجلى في علي ثم غاب عن البشر واختفى، والزمان الحالي هو زمان الغيبة، ويقررون أن الغائب هو الله الذي هو علي -كما يذكر صابر طعيمة- ثم سميت بعد ظهور زعيم منهم سمي علي حيدر ((الحيدرية)) . 3. الماخوسية: نسبة إلى زعيمهم علي الماخوس المنشق عن الكلازية. 4. النياصفة: نسبة إلى زعيمهم ناصر الحاصوري من بلدة نيصاف بلبنان (¬2) . * * * * * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) هذا ما يذكره د. الحلبي في كتابه: طائفة النصيرية ص 83، والذي يذكره أكثر العلماء أن الكلازية يعبدون الشمس على اعتقاد أن علياً حل فيها، والنصيرية عموماً يقدسون الشمس والقمر، وتتداخل عبادتهم لهما حسب ميول رؤسائهم. (¬2) طائفة النصيرية انظر ص 83، ودراسات في الفرق، صابر طعيمة ص 54، 55، مذاهب الإسلاميين 4 / 295.

الفصل الثاني عشر أماكن النصيرية

الفصل الثاني عشر أماكن النصيرية يذكر عبد الحسين العسكري أماكنهم بقوله: ((وأكثرهم يعيش اليوم في الجنوب والشمال من القطر العربي السوري، ولهم وجود في جنوب تركيا وأطراف لبنان الشمالي وفارس وتركستان الروسية وكردستان)) (¬1) . *** ¬

(¬1) العلويون، والنصيرية ص 7.

الفصل الثالث عشر محاولات لم تثمر

الفصل الثالث عشر محاولات لم تثمر حاول كثير من الزعماء المسلمين إرجاع النصيرية إلى الإسلام، وقاموا بمجهودات كثيرة بالترهيب تارة وبالترغيب تارة متوالية، وكما هو شأن هذه الطائفة إذا أحسوا بقوة تضغط عليهم وخافوا سطوتها أظهروا الموافقة والتمسك بشرائع الإسلام الظاهرة. فإذا ضعفت هذه القوة ظهر النصيريون على حقيقتهم وأعلنوا الحرب على تلك الشعائر الإسلامية التي ألزموا بها كبناء المساجد والصلاة جماعة فيها والتمسك بصوم شهر رمضان، وغير ذلك من الإصلاحات والتي كان ينجح فيها النصيريون بخداع الناس بأنهم متمسكون بسائر شعائر الإسلام، وأنه لا فرق بينهم وبين بقية المسلمين، ومن هؤلاء الزعماء الذين حاولوا إصلاح النصيرية: 1. صلاح الدين الأيوبي فبعد دحره للصليبيين بنى المساجد، وأمر جميع النصيريين بالصلاة فيها وبالصوم، وغيرهما من بقية شعائر الإسلام، فأطاعوه إلى أن توفي فتركوا ذلك، وجعلوا المساجد زرائب للحيوانات. 2. الظاهر بيبرس: بعد أن دحر التتار ألزمهم ببناء المساجد بقراهم وإقامة الصلاة فيها فبنوها بعيدة عن القرى وهجروها، وربما كان يمر الغريب في المسجد فيؤذن فيه فيقولون له: لا تنهق يأتيك علفك بعد قليل، كما حكى ذلك الرحالة ابن بطوطة.

3. السلطان العثماني ((سليم)) : بنى المساجد وقام بكثير من الإصلاحات، ولكنهم رجعوا بعده إلى ما كانوا عليه. 4. إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والى مصر: كذلك قام بإصلاحات كثيرة من أجل تركهم عقائدهم الفاسدة إلا أنهم حينما أنسوا من أنفسهم قوة رجعوا عن ذلك كله. 5. السلطان العثماني عبد الحميد: كرر المحاولات بإرساله رجلاً من خاصته اسمه ضياء باشا، وجعله متصرفاً على لواء اللاذقية، فأنشأ لهم المساجد والمدارس، فأخذوا يتعلمون ويصلون ويصومون، وأقنع الدولة بأنهم مسلمون إذ لم يعصوا له أمراً، ولكنه بعد أن ترك هذا المتصرف منصبه خربت المدارس وحرقت الجوامع ودنست (¬1) . ولقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله صولات وجولات مع هؤلاء فقد غزا رحمه الله النصيرية في جبل كسروان بمن معه من المسلمين وفتح بلادهم، وكاتب السلطان فيهم بحسم مادة شيوخهم الذين يضلونهم، والأمر بإقامة شعائر الإسلام ونشر السنة ببلادهم (¬2) . وهكذا انتهت تلك المحاولات بلا جدوى، وربما يعود السر في محاربتهم لبناء المساجد إلى عقيدة عندهم؛ إذ يزعمون أن من عرف ربه وعرف معنى ¬

(¬1) انظر: مهذب رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ص 65، تحقيق أحمد العوامري ومحمد أحمد جاد المولى طبعة القاهرة، وخطط الشام محمد كرد علي 1/ 260 - 263، 3 / 105 نقلاً عن الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 332، 333. وانظر: طائفة النصيرية ص 65. (¬2) انظر: الكواكب الدرية لمرعي الكرمي ص 97، 126، وانظر: العقود الدرية لابن عبد الهادي ص 197.

التكاليف صار حراً غير مكلف، وبقاء المساجد في نظرهم دليل على الجهل والتقصير وعدم معرفة الرب ومعرفة أوامره ظاهراً وباطناً، (وليس فيه أجهل منهم بربهم) . وهذا هو المفهوم عند غلاة الباطنية تجاه إسقاط دلالات النصوص، وعند غلاة الصوفية الذين يزعمون أنه يصل أحدهم إلى درجة اليقين ثم ينفلت عن جميع التكاليف. * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

الباب السابع الدروز

الباب السابع الدروز الفصل الأول تمهيد: في بيان خطر هذه الفرقة هذه الطائفة هي إحدى فرق الباطنية الإسماعيلية العبيدية (¬1) الغلاة الذين ألهوا الحاكم بأمر الله، وجحدوا كل ما أخبر الله به؛ من يوم القيامة والثواب والعقاب، وقالوا بالتناسخ الذي يسمونه التقمص مخالفة للنصيرية، ظهرت في بداية القرن الخامس الهجري في مصر (¬2) ، ولقد حذر علماء المسلمين من هذه الطائفة أشد تحذير. يقول عنهم العلامة السفاريني وعن كتبهم ووجوب إتلافها هي وجميع كتب أهل الكفر: ((وكتب أهل الكفر لا سيما كتب الدروز عليهم لعنة الله، فقد نظرت في بعضها فرأيت العجب العجاب، فلا يهود ولا نصارى ولا مجوس مثلهم؛ بل هم أشد من علمنا كفراً لإسقاطهم الأحكام وإنكارهم القيامة وزعمهم أن الحاكم العبيدي الخبيث رب الأنام)) (¬3) . وهم يتكتمون على عقائدهم أشد التكتم، ولهذا خفي أمرهم على كثير من علماء الفرق والتاريخ، وهم لا يسمحون لأحد أن يدخل في مذهبهم ولا ¬

(¬1) نسبة إلي عبيد الله بن ميمون القداح الذي أسس الدولة العبيدية في المغرب سنة 296 هـ، ثم امتد نفوذهم إلى مصر وصارت القاهرة عاصمة لهم. (¬2) أضواء على العقيدة الذرزية. ص 5. (¬3) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب 1 / 252.

يعترفون بخروج أحد منه، ولهم في هذا فلسفة يبررون بها موقفهم قائمة على مفهوم التناسخ الذي يسمونه التقمص، ومن الجدير بالذكر أن بينهم وبين النصيرية اتفاقاً في كثير من الآراء الاعتقادية، واختلافاً أيضاً في بعضها، وبينهم عداوة شديدة بسبب تأليه النصيرية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وعدم تأليههم للحاكم بأمره، وكراهية النصيرية لهم لتأليههم الحاكم دون علي رضي الله عنه. {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} . والدروز في إسرائيل من أخلص الناس لليهود، وتعاملهم إسرائيل أيضاً بالمثل لمعرفتهم بعمالتهم التامة لهم (¬1) . ولإسرائيل مشاريع كثيرة في قراهم وفي مدنهم- حسبما سمعته من إذاعة إسرائيل باللغة العربية في هذه السنة 1407هـ -وقد سلمتهم السلاح وألَّفت منهم دوريات على حدودها مع لبنان لثقتهم بهم. غير أن محمد علي الزعبي بالغ كثيراً في الثناء على الدروز وعلى تمسكهم بالإسلام وتعاليمه كلها تمسكاً صحيحاً، وذكر أن الدروز يتمنون أن لو أتيحت لهم الفرصة للانقضاض على إسرائيل وسحقها وإعادة الوجه الإسلامي لفلسطين (¬2) ... إلى آخر مدحه لهم. ومن هنا قال أحمد الفوزان في رده عليه: ((وكأني به لم يسمع أبداً عن الدروز العاملين في الجيش الصهيوني وعن بلائهم الذي كان على العرب شر بلاء وكانوا للعرب شر أعداء)) (¬3) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: عقيدة الدروز ص 251. (¬2) انظر كتاب عقيدة الدروز ص 134. (¬3) انظر: كتاب أضواء على العقيدة الدروزية ص 79.

الفصل الثاني التعريف بالدروز

الفصل الثاني التعريف بالدروز قبل ذكر هذه الطائفة وبيان عقائدهم نذكر تعريفاً موجزاً بهم فيما يلي: 1- التعريف بهم في اللغة: تطلق كلمة الدروز على معان عديدة في اللغة، منها: أنها تطلق على الأولاد غير الشرعيين الذين لا يعرف لهم آباء، وتطلق كذلك على السفلة والسقاط من الناس فيقال لهم أولاد درزة. قال الأزهري نقلاً عن ابن الأعرابي: ((والعرب تقول للدّعي: هو ابن درزة وابن ترني، وذلك إذا كان ابن أمة تساعي فجاءت به من المساعاة ولا يعرف له أب)) . قال: ((ويقال: هؤلاء أولاد درزة، وأولاد فرتني للسفلة والسقاط 0قاله المبرد)) (¬1) . وتطلق هذه اللفظة أيضاً على القمل والصئبان، فيقال: بنات الدروز؛ كما يذكر الفيروز آبادي (¬2) . وتدل هذه المعاني على الرداءة والانحطاط، ومن هنا نجد أن الدروز لا يحبون أن تطلق عليهم هذه التسمية لأسباب سنذكرها، وربما يكون منها سوء ¬

(¬1) انظر: تهذيب اللغة 13 / 181. (¬2) القاموس المحيط 2/ 182، وانظر كتب اللغة مادة ((درز)) .

2- في اصطلاح علماء الفرق

مفهوم هذه التسمية عند الناس، مضافاً إليها وجود الأسباب الأخرى. 2- التعريف بهم في اصطلاح علماء الفرق: يطلق علماء الفرق تسمية الدروز على طائفة ذات أفكار وآراء اعتقادية، هم من غلاة الباطنية يعتقدون ألوهية الحاكم بأمره، انشقوا عن الإسماعيلية في الظاهر وإن كانوا متفقين معهم في جوهر عقائدهم، ونسبوا إلى أحد دعاة الضلال المجوس نشتكين الدرزي، وإن كانوا لا يحبون هذه النسبة كما سيأتي بيانه (¬1) . بيان أصل الدروز: اختلف الناس في أصل الدروز على أقوال كثيرة نوجزها فيما يلي: 1. أنهم سلالة قبائل عربية، وهو ما يزعمونه لأنفسهم، وقد أكده الأستاذ محمد حمزة، وأنهم من لخم وتنوخ، وأثنى عليهم ثناءً كثيراً (¬2) . 2. أنهم من سلالة السامريين القدماء. 3. أنهم من بقايا الحيثيين القدماء. 4. أنهم مزيج من عناصر مختلفة من عرب وفرس وهنود. 5. أنهم سلالة الجنود الفرنسيين الصليبيين. 6. أنهم من أصل إنجليزي. وتبدو تلك الأقوال كلها -غير القول الأول- بعيدة، وتهدف كذلك إلى ¬

(¬1) انظر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 199. (¬2) التآليف بين الفرق الإسلامية ص 118.

أغراض سياسية فيما يرى محمد كامل حسين (¬1) . والواقع أن هذا الاختلاف فيهم يضفي عليهم ظلالاً من الشكوك والارتياب في أصلهم. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 6، 14، ومحمد كامل حسين يتملق الإسماعيلية فيما يكتبه عنهم.

الفصل الثالث زعيمهم

الفصل الثالث زعيمهم تنسب هذه الطائفة إلى أحد دعاة الباطنية الذين قالوا بألوهية الحاكم العبيدي، ويسمى هذا الداعي محمد بن إسماعيل، ويقال له: درزي، من أصل فارسي ويعرف بـ ((نشتكين)) (¬1) ، قدم إلى مصر ودخل في خدمة الحاكم ثم كان أول من أعلن ألوهية ذلك الحاكم المفتون، ولم يكن نشتكين في هذا الميدان وحده، بل كان معه ضال آخر فارسي أيضاً يسمى ((حمزة بن علي الزوزني)) من أهالي زوزن بإيران، وكان له الأثر البارز في تاريخ الدروز فيما بعد، بل هو زعيم المذهب الدرزي ومؤسسه (¬2) . وقد بدأ درزي في إعلان مذهبه الهدام بتأليف كتاب أعلن فيه ألوهية الحاكم، ثم جاء به إلى أشهر مكان في القاهرة؛ الجامع الأزهر وبدأ يقرأه على الناس فأحدث ضجة يبن الناس. وثارت غيرتهم الإسلامية وأرادوا قتله فهرب- أو هربه الحاكم- من مصر إلى جبال لبنان، حيث أخذ ينشر مذهبه إلى أن هلك سنة 410هـ مقتولاً (¬3) . وقد أصبح درزي هو الزعيم الذي يعترف به الدروز ويقدسونه في ذلك الوقت وخصوصاً أهل بلاد تيم الذي انتشر مذهب درزي بينهم، ولكن في ¬

(¬1) ويذكر بعضهم أن اسمه منصور نشكين الدرزي. (¬2) طائفة الدروز ص 106. (¬3) انظر: طائفة الدروز ص 77.

الوقت الحاضر، نجد الدروز يلعنون درزي مع أن نسبتهم إليه، ويقدمون حمزة ويقدسونه، وسبب خلافهم على درزي وسبهم له هو موقف حمزة منه، فقد أراد درزي أن يستقل بالإمامة. ثم كذلك تسرعه في إظهار العقيدة الدرزية التي تنادي بألوهية الحاكم قبل أن يرضى حمزة عن ذلك التوقيت لإعلانها، فقد أظهر درزي ألوهية الحاكم سنة 407هـ، بينما أحب حمزة إظهارها سنة 408هـ، وهي السنة التي كان يعتبرها الدروز أولى سني تقويمهم (¬1) . إلا أن الأستاذ محمد حمزة يذكر أن الدروز يجلون درزي إلى اليوم (¬2) . وينبغي ملاحظة أن الدعوة إلى تأليه الحاكم بدأت في حدود سنة 400هـ سرية، فلما أنس أشرار الدعوة من قوتهم أظهروها، وكان أول من أظهرها محمد بن إسماعيل الدرزي ((نشتكين)) ليحظى بسبق التقدم بها إلى الحاكم وتجاهل زميليه في الخيانة وهما حمزة بن علي الزوزني والحسن بن حيدرة الفرغاني كبار شياطين الدعوة الإسماعيلية، الذين استولوا على عقل الحاكم وحولوه إلى عقائدهم المجوسية الوثنية التي تجعل من الحكام آلهة. وقد صار حمزة فيما بعد صاحب الميدان وله الكلمة النافذة والطاعة ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 74 - 75. (¬2) التآلف بين الفرق الإسلامية ص 117، ولعل محمد حمزة وهم في التفريق بين شخصين كان لهما نفس اللقب أحدهما يلعنه الدروز ويتبرءون منه، والثاني يحترمونه؛ الأول يقال له دَرَزي ((بفتح الدال والراء)) وهو محمد بن إسماعيل نشتكين الذي أعلن إلوهية الحاكم وغضب عليه حمزة. والثاني يقال له دُرْزي ((بضم الدال وسكون الراء)) وهو منصور أنوشتكين الدرزي، وقد كان هذا الرجل أحد قواد الحاكم بأمر الله، وهو الذي يجله الدروز ويحترمونه وانتسابهم إنما هو إليه، وهو خلاف ما يذكره كثير من كتاب الفرق. انظر: إسلام بلا مذاهب ص 25 (أضواء على العقيدة الدرزية ص 6) .

التامة، حيث صارت الدولة رهن إشارته بعد أن طابت أفكاره في نظر الحاكم الذي وقف من ورائه بكل ثقله لتتم دعوى الإلوهية والتقمص الإلهي في شخصه. ولم ينس حمزة أن يخص نفسه بعدة ألقاب وصفات لم يسبغها حتى الأنبياء على أنفسهم، فهو ((الآية الكبرى، وآية التوحيد، وآية الكشف، والعقل الكلي، والإرادة، وعلة العلل، وذو (¬1) معه)) (¬2) . كما أنه ((هادي المستجيبين، وإمام الزمان، وقائم الزمان، والمنتقم من المشركين لسيف مولانا)) (¬3) ، ثم ادعى أنه هو نفسه سلمان الفارسي في عصر الحاكم عن طريق التناسخ (¬4) ، وأنه هو الذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم حينما كان في دور سلمان. إلى آخر ما جاد به من أوصاف عالية لشخصه الذي سيلاقي من الله ما يستحقه من الجزاء العادل في يوم القيامة، اليوم الذي لا يؤمن به حمزة ومن هم على شاكلته ممن طبع على قلوبهم. وقد جاء في كتاب لحمزة بعث به إلى قاضي القضاة في زمنه، ويسمى أحمد بن محمد بن العوام جاء في أول الكتاب: ((توكلت على أمير المؤمنين جل ذكره، وبه أستعين في جميع الأمور، معل علة العلل صفات بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد أمير المؤمنين ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين المنتقم من المشركين بسيف أمير المؤمنين وشدة سلطانه ولا معبود ¬

(¬1) أي دائماً مع المعبود. (¬2) طائفة الدروز ص 112. (¬3) المصدر السابق ص 77. (¬4) الحركات الباطنية ص 217.

سواه إلى أحمد بن محمد بن العوام الملقب قاضي القضاة)) (¬1) إلخ الكتاب الذي ملأه بالسب والشتم والاستهزاء بهذا القاضي؛ بسبب امتناعه عن الدخول تحت عبادة الحاكم. ثم بين حمزة نتيجة امتناع هذا القاضي بقوله: ((وقد أرسلت إلى القاضي عشرين رجلاً ومعهم رسالة رفعت نسختها إلى الحضرة اللاهوتية (¬2) فأبى القاضي واستكبر وكان من الكافرين، واجتمعت على غلماني ورسلي الموحدين لمولانا جل ذكره زهاء مائتين من العسكرية والرعية، وما منهم رجل إلا ومعه شيء من السلاح، فلم يقتل من أصحابي إلا ثلاثة نفر وسبعة، رجلاً من الموحدين في وسط مائتين من الكافرين (¬3) فلم يكن لهم إليهم سبيل حتى رجعوا إلى عندي (¬4) سالمين)) (¬5) . ويبدو من رسالته هذه ضحالة فكره وجهله المشين بالدين الإسلامي وباللغة العربية، وقد كانت آخر حياته أن اختفى بعد موت الحاكم وظل مختفياً إلى أن مات سنة 430هـ. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: طائفة الدروز ص 78. (¬2) يعني الحاكم. (¬3) الذين لم يؤمنوا بالحاكم رباً لهم. (¬4) ضعيف في اللغة العربية وفي العلم. (¬5) انظر: طائفة الدروز ص79.

الفصل الرابع أسماء الدروز

الفصل الرابع أسماء الدروز 1- الدروز: هذا هو الاسم المشهور عنهم والمتداول على ألسنة الناس، وهو نسبة إلى نشتكين الدرزي، وقد رأينا أنه مع شهرة هذا الاسم عنهم إلا أنهم لا يحبون أن يطلق عليهم؛ لأنه ينسبهم إلى درزي المذكور وهم قد انحرفوا عن موالاته بعد أن اختلف هو وحمزة بن علي، وصاروا بعد ذلك يلعنونه ويحكمون عليه بالضلال والكفر بمبادئهم لما سبق ذكره. 2- الموحدين: هذا هو الاسم الذي يحبونه ويطلقونه على أنفسهم في كتبهم التي يقدسونها (¬1) . ويجب ملاحظة أن هذه التسمية لا تعني توحيد الله عز وجل الذي يعبده المؤمنون، ولكن معناها الإخلاص في توحيد الحاكم بأمره حيث يذكر حمزة ابن علي الزوزني ذلك بقوله: ((التوحيد لمولانا عوض الشهادتين)) (¬2) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: طائفة الدروز ص 6. (¬2) الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 278.

الفصل الخامس كيف انتشرت العقيدة الدرزية

الفصل الخامس كيف انتشرت العقيدة الدرزية حينما فرَّ درزي من مصر توجه إلى بلاد تيم في لبنان، وكانت تقيم فيه قبائل عربية في الجاهلية ثم اعتنقوا الإسلام. وفي أيام الدولة العبيدية انتشر بينهم المذهب الإسماعيلي بتأثير هذا الداعي وفراغهم عن معرفة الدين الإسلامي. وهذه العقيدة على تفاهتها وجدت من يستمع لها ويدين بها إلى وقتنا الحاضر مع شدة حرصهم على كتمانها، الأمر الذي جعل المعلومات حولهم ناقصة جداً ومتضاربة في كثير منها حول ديانة هؤلاء الدروز، وهي في مجملها تتألف من أفكار شتى ونظريات مختلفة فلسفية وهندية ويونانية وفارسية وفرعونية، ثم أحاطوها بالسرية الكاملة لا يبيحون لأحد أن يطَّلع عليها غيرهم، كما لا يبيحون لأحد منهم أن يفشي سراً من أسرارها. وقد جاء في كلام لحمزة بن علي قوله في الترهيب من إفشاء أسرارهم: ((إن أكبر الآثام وأعظمها إظهار سر الديانة وإظهار كتب الحكمة -يعني كتبهم- والذي يظهر شيئاً من ذلك يقتل حالاً تجاه الموحدين ولا أحد يرحمه)) . ويقول: ((عليكم أيها الإخوان الموحدون في دفن هذه الأسرار، ولا يقرأها إلا الإمام على الموحدين في مكان خفي، ولا يجوز أن تظهر كتب الحكمة الذي كلها رسم ناسوت مولانا سبحانه، وإن وجد شيء من هذه

الأسرار في يد كافر فيقطع إرباً إرباً)) (¬1) . على أنه لا مانع مع الحفاظ على هذا التكتم أن يتظاهر الدرزي -كما أوصاه علماؤه- بإنكار هذه المبادئ أمام الآخرين إذا لم تكن له قوة أمامهم مستعملا في ذلك ما بوسعه من النفاق والكذب والخداع، وأن يظهر لكل أهل مذهب الرضى عن مذهبهم والسلوك في سبيلهم على طريقة الباطنية. وقد ذهب الغلو بمحمد كامل حسين أن يقول: ((وللدروز قضاة منهم يحكمون دائماً حسب الشريعة والتقاليد الإسلامية، إلا أنهم في بعض المسائل الخاصة يحكمون حسب التقاليد الدرزية)) (¬2) . ثم مثَّل بعدة أمثلة هي ضد الإسلام، ومما ينبغي التنبيه له أن الدروز لا يزالون على اعتقاد تأليه الحاكم إلى وقتنا الحاضر يقرونه في مجالسهم الخاصة وخلواتهم، ولكنهم قد يتظاهرون أمام الناس بعدم تأليه الحاكم وهم يعلمون أنهم لو تركوا هذه الفكرة لأصبحوا بلا دين. وقد كشف هذا الستار أحد علماء الدروز وهو عبد الله النجار الذي قتلوه بعد ذلك في أحداث لبنان فهو يقول: ((وإني لأذكر عتاب كبير الأشياخ الثقات؛ لأني ذكرت في أحد الكتب المطبوعة أن أم الحاكم كانت صقلية؛ إذ قال لي: إن الحاكم لا أم له مردداً ما جاء في الرسالة 26: حاشا مولانا جل ذكره من الابن والعم والخال ((لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)) )) (¬3) . فهذه شهادة شاهد من أهلها، والباطل لا بد وأن يكشفه الله مهما حاول ¬

(¬1) عقيدة الدروز ص 175. (¬2) طائفة الدروز ص 29. (¬3) مذهب الدروز والتوحيد ص 105، 106، عن الحركات الباطنية ص 237.

أهله التستر عليه. وقد كان لهذه الفكرة الإجرامية نتائجها على الحاكم فيما بعد؛ فإنه أنكر ولم يوص بالخلافة لولده ((الظاهر بالله)) وإنما أوصى بها إلى شخص آخر للإيحاء بأن الأمر لا يزال بيده حتى وإن غاب عنهم يعطيه من يشاء ويمنعه عن من يشاء. ومن هنا فقد انتقم الظاهر من هؤلاء بعد توليه الخلافة أشد انتقام. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل السادس معاملة الدروز لمن يكشف شيئا من عقائدهم

الفصل السادس معاملة الدروز لمن يكشف شيئاً من عقائدهم ومن هذا الموقف فإن من أفشى شيئاً من عقائد الدروز فإنهم لا يقابلونه بالمناقشة والحجة كما يفعل سائر الناس الذين يثقون بمبادئهم، وإنما يقوم هؤلاء الدروز وهم يعرفون تفاهة مذهبهم بسبّ الشخص وإلصاق التهم به وإثارة الضجة حوله إذا لم يستطيعوا قتله. ويذكر الدكتور الخطيب أن الشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض كتب في مجلتي المنهل وراية الإسلام اللتين كانتا تصدران في جدة والرياض عنهم بعض الحقائق، ورد على من يسميهم مسلمين فقامت قيامة الدروز على الفياض وسبوه بأقذع السباب، وأصدر شيخ العقل في لبنان فتوى ضده ونشروا ذلك في عدة صحف. وقد قام أحد علماء الدروز ويسمى عبد الله النجار بإصدار كتابه مذهب الدروز والتوحيد، وبيَّن حقيقة هذا المذهب، فقامت ضجة حوله وحول كتابه، وحاكمه مشائخ الدروز لفضحه أسرار المذهب، وجمعوا نسخ الكتاب من الأسواق وأحرقوها وقد استغلوا أحداث لبنان واغتالوا النجار (¬1) . ¬

(¬1) عقيدة الدروز 179.

ولا شك أن قيامهم بمثل هذا الإجرام يعتبر دليلاً واضحاً على معرفتهم برداءة مذهبهم وبطلانه؛ إذ الحق لا يخاف صاحبه من إظهاره؛ بل يحب ويتودد إلى الناس لنشره وانتفاع الناس به. ويقول محمد أحمد الخطيب عن موقف الدروز منه حين طبع كتابه ((عقيدة الدروز)) وما لاقاه من مضايقات وتهديدات بسبب ما دونه من حقائق لا يستطيعون دفعها بأي حال لاستناده فيما كتبه عنهم إلى مصادرهم، يقول: ((وللحقيقة أذكر أن هذه الأمور مجتمعة قد حدثت معي شخصياً حينما تم طبع ونشر كتاب عقيدة الدروز عرض ونقض، وهي رسالة ماجستير نوقشت في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1400هـ؛ حيث ظهر، وبشكل واضح طريقة التعامل القذر الذي يتم مع كل من يحاول أن يبحث عن حقيقتهم. فقد توالت عليّ المكالمات الهاتفية التي تهدد بالقتل، وجاء على أثرها الكثير من الرسائل والتي تتوعدني بالويل والثبور إن لم أعتذر عن كتابي وما ورد فيه، ولم يكتفوا بذلك بل عملوا على جمع ما يستطيعون من نسخ الكتاب المذكور وإحراقه (¬1) ، وكذلك عملوا على مطالبة المسئولين في كثير من البلاد العربية بمنع الكتاب، فكان أن منع في عدد من البلاد العربية)) (¬2) . ومما لا يخفى أن هذه الدول التي منعت انتشار الكتاب والانتفاع بما فيه إنما تمثل الانهزام التام والتودد إلى هؤلاء الأشرار هذا إن أحسنا بهم الظن، وإلا ¬

(¬1) يقول الخطيب: ((وهذا ما تم أيضاً مع كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي مذاهب الإسلاميين)) . (¬2) عقيدة الدروز 299.

فإن هؤلاء مما يترجح لدى كل فاهم لأوضاع الدول العربية أنهم ممن يبيتون النية السيئة لشعوبهم ولدينهم، وأنهم أقرب إلى أعداء الإسلام وأشد على المسلمين من كثير ممن يتظاهر بعدم الإسلام. والله المستعان. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل السابع أماكن الدروز

الفصل السابع أماكن الدروز استوطن الدروز أماكن كثيرة متفرقة، وأهم أماكن تجمعاتهم- كما يذكر عنهم العلماء الذين اطلعوا على تلك الأماكن- هي: 1. في سوريا: ويسكنون في محافظة السويداء، جبل حوران أو جبل الدروز أو جبل العرب كما يقال له، ويعيش منهم في هذه المنطقة أكثر من ثلاث وسبعين قرية. 2. في لبنان: ويسكنون في عدة مناطق منه؛ في الغرب الأسفل، وفي الغرب الأعلى، وفي الشحار والمناصف، وفي الجرد، وفي العرقوب والباروك والجرد الشمالي، وفي الشوف. 3. في فلسطين: عند جبل الكرمل وصفد. 4. في بلاد المغرب بالقرب من مدينة تلمسان قبيلة تعرف ببني عبس تدين بالعقيدة الدرزية دون أن يعرف جيرانهم حقيقة مذهبهم. قال محمد كامل حسين بعد أن ذكر تلك الأماكن: ((ومن يدري لعل الباحثين يكتشفون طوائف أخرى تعتنق مذهب الدروز في الأقاليم العربية)) (¬1) . هكذا قال، ونسأل الله ألا يوجد ذلك، وقد ذكر الأستاذ محمد حمزة كثيراً من أماكنهم وأثنى على شجاعتهم وبسالتهم ومقاومتهم -حسبما يذكر- لإسرائيل ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 5، 6.

في الوقت الحاضر في هضبة الجولان وغيرها (¬1) ؛ رغم أن المعروف عنهم لدى كافة الناس هو تفانيهم في خدمة إسرائيل!!. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) التآلف بين الفرق الإسلامية ص 118.

الفصل الثامن طريقة الدروز في تعليم ديانتهم

الفصل الثامن طريقة الدروز في تعليم ديانتهم علماء الدروز من أشد الناس تستراً على مبادئهم حتى من الموالين لهم، فلا يطلعون أحداً على أسرار المذهب إلا بعد أن يجتاز امتحانات كثيرة من قبل هؤلاء المشائخ الذين هم بمنزلة السلطة العليا. وقد وصف محمد كامل حسين ذلك بقوله: ((وهم من الناحية الدينية ينقسمون إلى عقال أو أجاويد أي الذين لهم الحق في معرفة شيء من العقيدة السرية، وبين جهال أي الذين ليس لهم الحق في معرفة أسرار الدين. والعقال ينقسمون بدورهم إلى درجات ثلاث؛ ففي مساء كل يوم جمعة يجتمع العقال في أماكن العبادة التي تعرف بالخلوات (جمع خلوة) بسماع ما يتلى عليهم من الكتاب المقدس، وبعد تلاوة المقدمات يخرج من الخلوة الطبقة الدنيا من العقال، ثم بعد تلاوة بعض الرسائل البسيطة التي ليس بها تأويلات تخرج الطبقة الثانية بحيث لا يبقى إلا رجال الدرجة الأولى الذين لهم وحدهم الحق في سماع الأسرار العليا للعقيدة. أما الجهال فلا يسمح لهم بحضور هذه الخلوات أو بسماع شيء من الكتب المقدسة إلا في يوم عيدهم، وهو يوافق عيد الأضحى عند المسلمين، على أن طبقة الجهال يسمح لهم بأن ينتقلوا إلى طبقة العقال بعد امتحان عسير شاق يقوم على ترويض النفس وإخضاع شهواتها مدة طويلة؛ إذ لا يقبل في طبقة العقال من يدمن التدخين مثلاً، وقد يستمر الامتحان أكثر من سنة

بأكملها حتى يثق الشيوخ بأحقية الطالب أن ينتقل من طبقة الجهال إلى طبقة العقال)) . وقال عن صفات العقال: ((والعقال في المجتمع الدرزي يعرفون بعمائمهم ولبس القباء الأزرق الغامق ويطلقون لحاهم، على أن الذين يسند إليهم وظائف حكومية يباح لهم ترك هذه الملابس وارتداء الزي الذي يتطلبه منصبه الرسمي)) . وقال عن مكانة المرأة في المذهب الدرزي: ((والنساء في المجتمع الدرزي ينقسمن أيضاً إلى عاقلات وجاهلات مثل الرجال تماماً، لا فرق بين المرأة والرجل، والنساء العاقلات يلبسن النقاب وثوباً اسمه صاية)) . وعن التنظيم الاجتماعي السائد في المجتمع الدرزي يقول: ((وللدروز رؤساء دينيون في كل مكان، على رأسهم شيخ يلقب بشيخ العقل ويتولى منصبه بالانتخاب أو بالاتفاق بين الزعماء وكبار رجال الطائفة، ولشيخ العصر أعوان في كل قرية أو بلد هم شيوخ عقل محليون. وشيوخ العقل في لبنان ينقسمون إلى حزبين سياسيين هما الشيوخ الجانبلاطية (¬1) والشيوخ اليزبكية (¬2) ، بينما ينقسم الدروز عامة في لبنان مدنياً إلى أمراء ومشائخ وعامة، فالأمراء هم آل أرسلان (¬3) والمشائخ هم الجانبلاطية واليزبكية)) (¬4) . ¬

(¬1) الجانبلاطية نسبة إلى جانبلاط بن سعيد بن مصطفى بن حسين جانبلاط. (¬2) اليزبكية عائلة من مشائخ الدروز في لبنان ينسبون إلى قبيلة من قبائل أزد عمان القيسية. (¬3) آل أرسلان هم المناذرة ملوك الحيرة الذين كان لهم في زمن الدولة العباسية قوة ونفوذ في لبنان وكذلك في زمن الدولة الفاطمية. (¬4) انظر: طائفة الدروز ص 28، 29 فصل ((طبقات المجتمع عند الدروز)) .

ويذكر محمد حمزة أن أغلب الأحكام الفقهية التي ليس للدروز فيها تشريع خاص يتبعون فيها مذهب أبي حنيفة النعمان، وأن ذلك كان بتأثير العثمانيين الذين فرضوا المذهب الحنفي في سوريا ولبنان (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) التآلف بين الفرق الإسلامية ص124.

الفصل التاسع من هو الحاكم بأمر الله الذي ألهه الدروز؟

الفصل التاسع من هو الحاكم بأمر الله الذي ألهه الدروز؟ هذا الشخص هو أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي لقب بالحاكم بأمر الله، ولد سنة 375هـ وتولى الملك بعد موت أبيه في رمضان سنة 386هـ، وكان سادس الملوك العبيديين تولى الملك وعمره إحدى عشرة سنة. ادعى الألوهية على يد حمزة بن علي، وغيره من ملاحدة الإسماعيلية سنة 408هـ، إلى أن قتل سنة 411هـ، ويذكر المؤرخون لهذا الحاكم أنه كان أسطورة في سفك الدماء وإرهاب الناس وكانت له مواقف متناقضة عجيبة وله غرائب كثيرة. ومن غرائبه أنه كان دائماً يفتك بوزرائه ويقتلهم شر قتلة، يعين أحدهم في منصبه ثم يقتله ويعين آخر، فلا تمضي فترة بسيطة إلا وهو يتشحط في دمه، وقد قتل من العلماء والكتاب ووجوه الناس ما لا يحصى. لقد كان الحاكم نفسه مثال الشذوذ، فقد كانت له تصرفات غريبة غير مفهومة فقد لبس الصوف سبع سنين وامتنع من دخول الحمام وأقام سنين يجلس في ضوء الشمع ليلاً ونهاراً. ثم عنَّ له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة. ومن تناقضاته أنه مرة يأمر بسب الصحابة وبكتابة ذلك في المساجد، ثم يعود فيأمر به أن يمحى. وقد بنى المساجد الكثيرة ثم منع من صلاة التراويح عشر سنين ثم أباحها وأراق خمسة آلاف جرة من العسل في البحر خوفاً أن

تعمل نبيذاً، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهاراً. ثم أمر بقتل الكلاب كلها ثم عاد فمنع من ذلك، وهكذا كانت حياته مليئة بالمتناقضات والشذوذ وقد أثبت حمزة كثيراً من تناقضات الحاكم وتصرفاته المجانبة للعقل ثم أجاب عن كل ذلك تأويلات باطنية (¬1) . ويقول السيوطي: ((إن الحاكم أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره واحتراماً لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين. وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجداً حتى إنه يسجد بسجودهم في الأسواق وغيرها، وكان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً كثير التلون في أقواله وأفعاله)) (¬2) . وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له وكان لا يركب إلا حماراً -فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبداً له يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى (¬3) وهو منكر لم يسبقه إليه أحد، وأما القتلى فقد قدر بعض العلماء ضحايا الحاكم بثمانية عشر ألف شخص من مختلف الطبقات. ومما يروى في إرهابه للناس: أنه أمر في سنة 395هـ بعمل شونة كبيرة مما ¬

(¬1) انظر: طائفة الدروز ص 42 - 47، وفيها وصف كامل لكل حياة الحاكم وتصرفاته اليومية وأعماله وكل ما يقوم به. وانظر لمزيد التفاصيل: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 4 / 176، 177. (¬2) حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1 / 601. (¬3) البداية والنهاية 12 / 9، وانظر: طائفة الدروز ص 38 وقف على تشكيك د/ محمد كامل حسين في صحة ذلك.

يلي الجبل وملئت بالسنط والبوص والحلفاء؛ فارتاع الناس وظن كل من له صلة بخدمة الحاكم من رجال القصر أو الدواوين أنها أعدت لإعدامه بها وسرت في ذلك إشاعات مخيفة. فاجتمع سائر الكتاب وأصحاب الدواوين والمتصوفون من المسلمين والنصارى في أحد ميادين القاهرة ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يضجون ويتضرعون ويسألون العفو عنهم ثم دخلوا القصر ورفعوا إلى الحاكم بواسطة قائد القواد -الحسين بن جوهر- ورقة يلتمسون فيها العفو. فأجابهم الحاكم على لسان الحسين إلى ما طلبوا وأمروا بالانصراف والبكور لتلقي سجل العفو. ثم اشتد الذعر بالغلمان والخاصة على اختلاف طوائفهم فضجوا واستغاثوا وطلبوا العفو والأمان فأجيبوا إلى ما طلبوا وتبعهم في الاستغاثة التجار وأرباب المهن والحرف. وتوالى صدور الأمانات لمختلف الطبقات (¬1) . وهذه حالة واحدة من أحوال الحاكم العديدة. وواضح من تلك السجلات العجيبة مدى بطشه بالناس واستهانته بسفك الدماء حتى صار الناس يطلبون العفو من غير جرم فعلوه. وكل ذلك كان تمهيداً لدعوى الألوهية. وصورة كتاب الأمان هي: ((هذا كتاب عبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، إنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحق المبين، وأمان جدنا محمد خاتم النبيين وأبينا علي خير الوصيين، وآبائنا الذرية النبوية المهديين صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين، وأمان أمير المؤمنين ¬

(¬1) انظر: الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية لمحمد عبد الله عنان ص 59، عقيدة الدروز ص 48.

على النفس والحال والدم والمال، لا خوف عليكم ولا تمد يَدٌ بسوء إليكم إلا في حد يقام بواجبه وحق يؤخذ بمستوجبه فيوثق بذلك وليعول إن شاء الله)) (¬1) . ولقد حيرت العلماء مواقف الحاكم واختلفت كلمتهم حول الحكم عليه ((فقد رفعه قوم إلى درجة الألوهية وهم الدروز، واعتقد فيه قوم أنه إمام المسلمين وخليفة رب العالمين وهم الإسماعيلية الفاطميون، وذهب أكثر المؤرخين إلى أنه كان شاذ الطباع مريضاً بالعقل يأتي بأعمال تضحك الثكلى تدل على الجنون، وهؤلاء هم مؤرخو العرب والمؤرخون المسيحيون)) (¬2) . ولكن بالنظر إلى أن مدة الحاكم كانت من سنة 386 إلى سنة 411هـ يظهر أن الاعتذار عنه بأنه كان مجنوناً؛ كلام لا يلتفت إليه؛ لأنه من المحال أن يبقى في الحكم شخص مجنون مدة تصل إلى خمس وعشرين سنة. بل كان سلوك الحاكم على تلك الصور إنما نشأ عن تأثير فكرة الألوهية، وأن كل ما صدر عنه من أعمال وأقوال إنما كان بدافع واحد وهو تأليهه، خصوصاً أنه تولى الحكم وهو صغير السن، وقد أحيط بهالة من التعظيم مما أسبغته العقيدة الإسماعيلية على أئمتها، فكان يطمح إلى أكثر من الملك. إضافة إلى ما زينه له بعض زعماء المجوسية من الجرأة على تلك الدعوى بعد أن قربهم إليه وصاروا خاصته حتى أنسوه الدين والعقل، وبعد أن رأى كذلك دعوى ألوهية بعض أهل البيت عند السبئية وألوهية جعفر عند الخطابية ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 39 نقلاً عن المقريزي. (¬2) طائفة الدروز ص 31.

هلاك الحاكم

وغيرهم ممن ادعى الألوهية (¬1) أو ادعيت له. ومن الجدير بالذكر أنه يوجد من بين الكتاب المعاصرين من يحاول الدفاع عن الحاكم وعن تصرفاته متهماً المؤرخين بالتحامل على تاريخ الحاكم، وأنه ما كان إلا مفكراً مخلصاً لوطنه وحاكماً بارعاً (¬2) ... إلخ. وهذا الدفاع عن الحاكم يعتبر شذوذاً وزوراً ويكفي لرد سخافته ما أجمع عليه العلماء من تاريخ ذلك الحاكم الضال. هلاك الحاكم: لقد شغف الحاكم بالطواف بالليل؛ خصوصاً في جنبات جبل المقطم بالقاهرة ينظر في النجوم ويخلو بنفسه. وفي ليلة الاثنين 27 شوال سنة 411هـ خرج كعادته للطواف في هذا الجبل وليس معه إلا رجل وصبي، ولكنه لم يرجع إلى بيته، ومن هنا وقع الخلاف بين الناس في شأنه. فقيل: إن أخته ست الملك قد دبرت اغتياله لأمرين: - إنها خافت على نفسها من بطشه؛ إذ اتهمها بسوء سلوكها مع الرحال فآثرت أن تقضي عليه قبل أن يقضي عليها ودفنته في مجلس دارها. - والأمر الثاني: هو إنكارها لما أقدم عليه الحاكم، وخوفها أن تزول ¬

(¬1) انظر: طائفة الدروز ص 49. (¬2) هذا ما يذكره الدكتور أحمد شلبي في كتابه التاريخ الإسلامي والحاضرة الإسلامية ص 116 - 112، نقلاً عن الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 212.

الخلافة بسبب دعواه الألوهية (¬1) . وبعض العلماء ينكر أن تكون أخته قتلته. وقد ذهب الدكتور محمد كامل حسين إلى القول: إن الحاكم قتل نتيجة مؤامرة يهودية لاضطهاد الحاكم لهم، ويرى أن هذا هو القول الصواب وما عداه لا صحة له (¬2) . بينما يذهب الدكتور محمد أحمد الخطيب إلى أن الحاكم قتل بسبب مؤامرة باطنية بسبب ما أفشاه من مذهبهم السري (¬3) ، وقد رد على المقريزي الذي ذكر هو الآخر أن الحاكم قتله شخص ثم اعترف بذلك (¬4) ، فهو يرى ((أن قتل الحاكم كان مؤامرة معدة بإحكام من قبل سلطات الدولة الرسمية وبمباركة دعاة الإسماعيليين)) . ومهما قيل فقد كان لاختفاء الحاكم على هذا الوجه فرصة لإذكاء دعوى الدروز أن الحاكم اختفى وسيعود قريباً مرة أخرى ويملك الأرض وينشر العدل إلى آخر خرافاتهم فيه، وإذا كان ما ذكره الخطيب صواباً فلا أستبعد أن يكون هناك تواطؤ أيضاً على إخفاء موته وجثته عن الناس ليتم تنفيذ بقية المخطط الذي يريدونه. ومن الجدير بالذكر أن القول بانتظار الحاكم ليظهر مرة أخرى كان هو نفس معتقد الشيعة الاثني عشرية في المهدي المنتظر، ولقد جرى على الدروز ما جرى الشيعة من ظهور بعض الأشخاص المغامرين يدعون أنهم: - المهدي عند الشيعة أو الحاكم عند الدروز. ¬

(¬1) انظر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 213. (¬2) طائفة الدروز 48. (¬3) الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 212، 213. (¬4) انظر: ص 214.

- فقد ظهر رجل اسمه ((سكين)) كان رئيس الدعوة الدرزية في سوريا ادعى أنه الإله الحاكم بأمر الله قد رجع من غيبته في سنة 418هـ خصوصاً وأنه كان يشبه ملامح الحاكم، وقد وصل مصر ودعا الناس إلى هذه الفكرة بل ووصل إلى قصر الحكم ووقف على بابه ينادي أصحابه بأنه الحاكم فارتاع حرس القصر برهة ثم عادوا إلى رشدهم، وهجموا على سكين وأصحابه وقتلوهم، وأخذ سكين وصلب. ثم ظهر رجل آخر في صعيد مصر قبطي اسمه ((شروط)) ادعى أنه الإله الحاكم بأمر الله، وأعيا الدولة في القبض عليه وسمى نفسه أبا العرب. ثم ظهر شخص آخر يعرف بابن الكردي وادعى نفس الدعوة السابقة؛ إذ أنها صارت دعوى سهلة لا تتطلب أكثر من الجرأة والإقدام والاستهانة بعقول الناس واستحلال الكذب بكل أشكاله. قال محمد كامل حسين: ((وهكذا كانت عقيدة غيبة الحاكم وقرب عودته مثاراً لظهور عدة أشخاص يدعون بأنهم الحاكم بأمر الله، مما يذكرنا بعقيدة المهدي المنتظر فكم من رجال ادعوا بأنهم المهدي هذا)) (¬1) . والواقع أن هذه المهازل هي الترجمة الصحيحة لتطبيق المذهب وإبراز مبادئه واضحة للعيان: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (54) . (54) الأنعام129 * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) طائفة الدروز 81، 82.

الفصل العاشر أهم عقائد الدروز

الفصل العاشر أهم عقائد الدروز للدروز عقائد كثيرة وخرافات عديدة ملفقة من عدة ديانات وأساطير، وقد ذكر الدكتور محمد أحمد الخطيب أنه عثر على مخطوطة للدروز بعنوان ((رسالة في معرفة سر ديانة الدروز)) . ويرى من وجهة نظره أنها كتبت في فترة ليست بالطويلة مستنداً إلى ما يبدو عليها من اللهجة اللبنانية، وهي 43 سؤال وجواب نأخذ على سبيل المثال منها الأسئلة الآتية: س: أدرزي أنت؟ ج: نعم بنعمة مولانا الحاكم سبحانه. س: لماذا إنكار كتب سوى القرآن؟ ج: اعلم أنه من حيث لزمنا الاستتار بدين الإسلام (¬1) وجب علينا الإقرار بكتاب محمد. س: ما هو دين التوحيد الذي عليه الدروز والعقال مستدلون؟ ج: هو الكفر بكل الملل والطوائف. س: فإذا عرف أحد دين مولانا وصدق به وانقاد إلى دين التوحيد وعمل بحسبه فهل له خلاص؟ ¬

(¬1) هكذا وبكل صراحة.

1- ألوهية الحاكم

ج: كلا، لأنه غلق الباب وثم الكلام، وإذا مات يرجع إلى ملته ودينه القديم. وهذا هو السر في أن الدروز لا يريدون أحداً يدخل في دينهم ولا يعترفون بأحد يخرج منه. س: كيف نعرف أخانا الموحد إذا رأيناه في الطريق ومرَّ بنا يقول: إنه فينا؟ ج: بعد اجتماعنا فيه والسلام نقول له: في بلدكم فلاحون يزرعون الإهليلج؟ فإن قال: نعم، مزروع في قلوب المؤمنين فتسأله عن معرفة الحدود، فإن أجاب وإلا فهو الغريب. س: ما هي الحدود؟ ج: هم أنبياء الحاكم الخمسة: حمزة، وإسماعيل، ومحمد الكلمة، وأبو الخير، وبهاء الدين س: وكيف ترجع النفوس إلى أجسادها؟ ج: كلما مات إنسان ولد آخر والدنيا هكذا. إلى آخر الأسئلة التي تبين معتقداتهم، والتي تمثل الأمور الآتية الهامة: 1- ألوهية الحاكم: حيث أسبغ الدروز -كما قرره زعيمهم حمزة بن علي ومن اشترك معه في تثبيت هذه الجريمة -على شخصية الحاكم أوصافاً لا تكون إلا لله عز وجل، مدَّعين أن الحاكم له حقيقة لاهوتية وظهر بناسوته ليقيم الحجة على عباده، وأن أفعاله المتناقضة له فيها حكمة.

مع أن الدروز كغيرهم من فرق الضلال، أحياناً يتظاهرون أمام خصومهم بالموافقة لهم ويتواصون بكتمان تأليه الحاكم عندما لا يقدرون على إظهار ذلك -كما تقدم- وللداخل في هذا المذهب عهد لابد أن يقوله ويردده. وفيه التصريح ببيع الشخص الداخل نفسه للحاكم، وأن يخلص في عبادته وأن يتبرأ من جميع الأديان غير هذا الدين -الدرزي- وأول العهد يقول: ((آمنت بالله ربي الحاكم العلي الأعلى رب المشرقين ورب المغربين (¬1) إلخ)) . ولهم تأويلات للقرآن تدل على مدى حقدهم على الإسلام ونبيه، وتدل كذلك على ضحالة وتفاهة عقولهم وأفهامهم مما لا نرى التطويل بذكره. ورسائل حمزة كثيرة يثبت فيها ألوهية الحاكم أخذ جميع صفات الله عز وجل وأحكامه وما يليق به وما لا يليق به وجعلها للحاكم، وادعى أن الشرك معناه عدم توحيد الحاكم. جاء في ((رسالة السيرة المستقيمة)) وهي من الكتب المقدسة عند الدروز قوله: ((والآن فقد دارت الأدوار وبطل ما كان في جميع الأمصار، ولم يبق من نار الشريعة الشركية غير لهيبها والشرار، وسوف يخمد حرها ويضمحل العوار، فقد بدأت ظهور نقطة البيكار؛ (أي ظهور حمزة بن علي) بتوحيد مولانا البار الملك الجبار العزيز الغفار المعز القهار، الحاكم الأحد الفرد الصمد المنزه عن الصاحبة والولد، فلمولانا الحمد والشكر على ظهور نور الأنوار وخروج ما كان مدفوناً تحت الجدار؛ فقد أنعم علينا وعليكم بمباشرته في البشرية، وظهوره لكم في الصورة المرئية كيما تدركون بعض ناسوته ¬

(¬1) انظر لذلك: العهد بطوله ص 228 - 230 من كتاب الحركات الباطنية في العالم الإسلامي.

الإنسية)) (¬1) . وقد علل حمزة لسبب تسمية الحاكم بالإمام أو الخليفة بقوله: ((ولو كان في العالمين شيء أفضل من الإمامة لكان المولى جل ذكره في ظاهر الأمر تسمى به. فلما لم يظهر في الناسوت إلا باسم الإمامة علمنا أنه أجل أسماء المولى جلت قدرته)) (¬2) . ومن عقائد الدروز أن الحاكم يتشكل في كل عصر ودور بصور أناس من أجل مصلحة الناس ومراعاة لحالهم، وليس المشاهير في تلك العصور أناس غير الحاكم؛ بل هم الحاكم تصور بصور واتخذ له تلك الأسماء الإنسية ليتعرف خلقه إليه تفضلاً ورحمة منه على عباده (¬3) . ولقد ذكر الدكتور محمد كامل حسين كثيراً من أقوالهم في إثباتهم ألوهية الحاكم من كتبهم -مطبوعة ومخطوطة- رغم تحرزهم على إخفائها عن أعين الناس، ومن تلك النصوص: 1- جاء في رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد: ((ومولانا سبحانه معل علة العلل جل ذكره وعز اسمه ولا معبود سواه، ليس له شبه في الجسمانيين، ولا ضد في الجرمانيين، ولا كفء في الروحانيين، ولا نظير في النفسانيين، ولا مقام له في النورانيين)) (¬4) . ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 105. (¬2) رسالة الصبحة لحمزة، عن عقيدة الدروز ص 133. (¬3) رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن لحمزة بن علي، عقيدة الدروز ص 133. (¬4) طائفة الدروز ص 102.

2- وفي رسالة سبب الأسباب لحمزة الزوزني: ((فقولي: توكلت على مولانا جل ذكره أردت به لاهوت مولانا الذي لا يدرك بوهم ولا يدخل في الخواطر والفهم، ما من العالمين أحد إلا هو معهم وهم لا يبصرون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو جل ذكره أعظم من أن يوصف أو يدرك، ومن اتكل عليه فهو يكفيه جميع مهماته)) (¬1) . ونصوص أخرى كثيرة كلها تدور حول وصف الحاكم بكل صفات الله تعالى لأنهم يعتبرونه ((رب العالمين)) تصور في صورة الحاكم في دوره الجديد تأنيساً لخلقه؛ حيث ظهر في الصورة البشرية ليجدد الناس العهد به ولولا ذلك لكان الناس يعبدون العدم كما يرى هؤلاء الكفرة. وفي رسالة الغيبة: ((أظهر لنا ناسوت صورته تأنيساً للصور فحار فيها الفكر حين فكر، وعجزت العقول عن إدراك أفعالها واعترفت بالعجز والتقصير في معلومها فبتقدير أحكامه منّ على خلقه بوجود صورته من جنس صورهم)) (¬2) . ولا يقصر الدروز الألوهية على الحاكم فقط؛ بل أطلقوها على كثير من آبائه ومن كبار رؤسائهم على مقتضى اعتقادهم أن الله يظهر للناس بين فترة وأخرى في صور بشرية، ولا ضرورة لذكر أولئك الأشخاص الذين يعتبرونهم ظهوراً إلهياً في أوقات وجودهم، وليس أمامنا تجاه هذه الآراء الإلحادية والتي تفتقر أيضاً إلى العقل إلا أن نقول: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (¬3) . ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 102. (¬2) المصدر السابق ص 103. (¬3) آل عمران8

2- القول بالتناسخ

2- القول بالتناسخ: يعتقد الدروز بالتناسخ أو التقمص كما يسمونه، ومعناه عندهم: انتقال النفس من جسم بشري إلى جسم بشري آخر. والجسم قميص للروح التي لا تموت أبداً بل تتقمص أجساماً أخرى في كل نقلة، فنفس الموحد تنتقل إلى موحد ونفس المشرك إلى مشرك، ومن هنا زعموا أن عدد سكان العالم غير قابل للزيادة ولا النقصان منذ بدء الخليقة، ويبقى على هذه الحال إلى الأبد فهم لا يزيدون ولا ينقصون وكل من مات انتقلت روحه إلى جسد جديد دائماً (¬1) . ومفهوم التناسخ عند الدروز يختلف عن مفهومه عند الآخرين من القائلين بالتناسخ كالنصيرية مثلاً. فالدروز يقصرون التناسخ بين الأجسام البشرية فقط، بينما هو عند النصيرية لا ينحصر فقط بين البشر، بل وقد يكون أحياناً بينهم وبين البهائم، حيث تنتقل الأرواح فتحل في أي جسم، جسم بهيمة أو غيرها. والدروز يكرهون لفظ التناسخ ويستبدلونه بلفظ التقمص. ويعود السبب في قصر الدروز التناسخ في الأجسام البشرية لما يأتي: 1- قالوا: إن انتقال النفس إلى جسم حيوان غير بشري ظلم لها لعدم تعلق الثواب والعقاب على غير النفس العاقلة. 2- أن وقوع العقاب على النفس لا يصح إلا بعد مرورها في أجسام بشرية على مدى دهر طويل، بحيث يمنحها الدهر الطويل فرصة الاكتساب والتطور والامتحان والتبدل، لكي تحاسب حساباً عادلاً على مجموع ما اكتسبت. ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 107.

3- إنكار القيامة

وحقيقة العذاب عند الدروز معناه أن الإنسان يعذب بنقله من درجة عالية إلى درجة دونها، ثم يستمر في هذا الهبوط إلى أقل الدرجات ويعذب في كل دور بأنواع العذاب التي هي عذاب الضمير وعذاب الندم على ما فات، لأنها لم تنتفع من أدوارها الماضية. ومن خرافاتهم أنهم يشبهون الروح بسائل يحتاج إلى إناء يضبطه، فإذا كسر فلابد من تلقي السائل في إناء غيره لئلا يضيع، وعلى هذا فإن روح أحدهم إذا فارقت الجسم انتقلت فوراً إلى جسم آخر تحفظ فيه. وفي نقلتها الجديدة ترجع على نفس المذهب الذي كانت عليه أياً كان المذهب. ومن هنا تعرف السر في عدم قبول الدروز لغيرهم أن يدخلوا في مذهبهم، وعدم اعترافهم بأحد منهم يخرج عنه حتى ولو تركه وهو حي طائعاً مختاراً؛ لأن روحه في نقلتها أو تقمصها الجديد ستعود على نفس المذهب الدرزي فلا فائدة إذاً من دخول الآخرين في مذهبهم؛ لأن أرواحهم سترجع إلى مذاهبهم القديمة ثانية إذا ماتوا. ومما لا يجهله أي مسلم أن عقيدة التناسخ عقيدة بدائية وثنية تتعارض مع كل الأديان التي أنزلها الله تعالى؛ إذ كلها تقرر أن الإنسان إذا مات انتقلت روحه إلى خالقها سواء كانت منعمة أو معذبة، ولها اتصال بالجسد في صورة لا يعلمها إلا الله، إلى أن يأتي يوم القيامة وتعود الأرواح إلى أجسادها للحساب، ثم للمصير النهائي إما الجنة أو النار. 3- إنكار القيامة: لا يؤمن الدروز بيوم القيامة فلا حساب ولا جزاء ولا ثواب ولا عقاب في الحياة الآخرة، وإنما يتم ذلك كله في الدنيا عن طريق التقمص وما تلاقيه الروح في تقمصها من النعيم أو العقاب، إلا أنهم ينتظرون يوماً يجيء الحاكم

في صورة ناسوتية مرة أخرى، ويدين له كل أهل الأديان بالتوحيد والطاعة كما يزعمون، يخرج من بلاد مصر -كما يرى حمزة- أو من بلاد الصين من سد الصين العظيم، وحوله قوم يأجوج ومأجوج القوم الكرام أو المؤمنين بالحاكم كما يسمونهم. ويتضح حقد هؤلاء على الإسلام والمسلمين في زعمهم أن الحاكم إذا جاء يأتي إلى الكعبة ويهدمها ويفتك بالمسلمين والنصارى في جميع الأرض حيث يحاسبهم حمزة حساباً شديداً (¬1) . وأما متى يكون هذا اليوم فيذكر محمد كامل حسين أنه لم تحدد كتب الدروز ذلك، ولكنها تذكر أنه سيكون في شهر جمادى أو رجب ويسبق مجيئه علامات منها: 1- عندما يرى الملوك يملكون حسب مآربهم وأهوائهم الشخصية ولا يعدلون بين الرعية. 2- عندما يتسلط اليهود والنصارى على البلاد. 3- وعندما يستسلم الناس إلى الآثام والفساد ويأخذون بالآراء الفاسدة. 4- وعندما يتملك شخص من ذرية الإمامة ويعمل ضد شعبه وأمته ويضع نفسه تحت سلطان المخادعين. 5- ثم ظهور ملك آخر في مصر يحارب المصريين ويحاربونه. 6- ويأتي المسيخ الدجال في صورة رومي يجتمع الروم حوله ويخرب حلب. ¬

(¬1) الحركات الباطنية ص 236 نقلاً عن مخطوطة وجدها في جبل لبنان لمؤلف مجهول.

4- عداوتهم للأنبياء

7- ثم يظهر المسيح بن يوسف في أرض مصر (¬1) . ويملك اليهود بيت المقدس ثم ينتقمون من سكان القدس وعكا، ثم يقوم المسيح بن يوسف، ثم يطرد اليهود من بيت المقدس، إلى غير ذلك من العلامات المزعومة (¬2) ، ولهذا فهم يفرحون باستيلاء اليهود على بيت المقدس وبتسلط النصارى على المسلمين بل وظهور الفواحش كلها ليظهر ربهم الحاكم ويكون المجازي للعباد في هذا اليوم هو حمزة يأخذ مال المخالفين ويعطيه لأتباعه الموحدين (¬3) . ومن الطرائف المضحكة أن أحد مشائخ الدروز ويسمى داود أبو شقراء أعلن أن يوم القيامة سيكون في 16 آب عام 1952م؛ معتمداً في ذلك على حساب الحروف والجمل، وبالفعل فقد اقتنع بذلك بعض شيوخ لبنان وحوران وشاع الخبر؛ وجاء الوقت وظهر افتراء الكذابين ولم يحصل ما توقعوه (¬4) . وحساب الجمل والحروف والمنامات وما يقع فيها من إخبار بيوم القيامة، وما يزعمه بعض الناس من مشاهدة الدابة ومخاطبتها له (¬5) ، وغير ذلك من أخبار القيامة -كلها تلفيقات وهي مطايا الكذابين. 4- عداوتهم للأنبياء: يحقد الدروز على الأنبياء حقداً شديداً وينكرون فضائلهم، بل ونسبوهم ¬

(¬1) زعمهم في المسيح بأنه ابن يوسف النجار تبعاً لما وجدوه في تناقضات الديانة النصرانية المحرفة في نسب عيسى عليه السلام. (¬2) طائفة الدروز ص 121، 122. (¬3) الرسالة الموسومة بالأعذار والإنذار - عقيدة الدروز ص 167. (¬4) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ص 90، انظر: عقيدة الدروز ص 169. (¬5) يؤمن المسلمون بظهور الدابة التي أخبر الله عنها، والتي هي من علامات القيامة إذا قرب وقتها.

5- إنكارهم التكاليف

إلى الجهل، لأنهم يدعون الناس بزعمهم إلى توحيد المعدوم -تعالى الله عن قولهم- وما عرفوا المولى الموجود -أي الحاكم بأمر الله-. وقد أوجب داعيتهم الأول حمزة محاربة دعوة الأنبياء، وأوجب البراءة من جميع أديانهم، ويحقدون على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً لأنه أوجب الجهاد، بينما إلههم الحاكم قد أبطله، وسبوا الصحابة وخصوصاً من أطفأ نار المجوسية منهم كأبي بكر، وعمر، وغيرهما من خيار الصحابة. والدروز لا يؤمنون بالكيفية التي أخبر الله بها عن بدء الخلق، فأنكروا أن يكون آدم هو أبو البشر وحواء أمهم مدعين أن آدم وحواء من نسل بشر أيضاً لا أن آدم مخلوق من تراب؛ إذ التراب لا يخلق منه إلا العقارب والحيات والخنافس ولم يستندوا في هذا الافتراء والهوس إلا إلى عقولهم وأفهامهم السقيمة (¬1) . 5- إنكارهم التكاليف: لا يؤمن الدروز بوجوب القيام بتلك التكاليف التي جاء بها الشرع في القرآن الكريم وفي السنة النبوية. وقد جعلوا للمكلف طريقة يستطيع أن يتخلص بها من كل تكليف أو عمل، وهي ما بيّنها عنهم الدكتور محمد كامل حسين بقوله: ((واتخذوا لهم فرائض أطلقوا عليها الفرائض التوحيدية وهي معرفة الباري (¬2) وتنزيهه عن جميع الصفات والأسماء ... ثم معرفة الإمام قائم ¬

(¬1) الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 302، عقيدتهم في الأنبياء. (¬2) أي الحاكم.

الزمان وهو حمزة بن علي بن أحمد وتمييزه عن سائر الحدود (¬1) ووجوب طاعته طاعة تامة، ثم معرفة الحدود بأسمائهم وألقابهم ومراتبهم ووجوب طاعتهم. فإذا اعترف الإنسان بهذه الفرائض التوحيدية الثلاثة أصبح موحداً، وليس عليه أن يقوم بتكاليف أي فريضة من الفرائض)) (¬2) . إلى أن يقول بعد ذكره شريعتهم التي نقضوا بها التكاليف (¬3) : ((ومعنى هذا أن شريعة الدروز تتلخص في إسقاط الفرائض الدينية التكليفية وعدم إقامة الفرائض الدينية الإسلامية)) (¬4) . ويذكر أحمد الفوزان السبب في هذا المسلك للدروز فقال: ((ويعتقدون أيضاً أنهم موجودون منذ الأزل، واعتنقوا كثيراً من الديانات على مر الدهور كان آخرها الإسلام، ثم تحولوا عنه إلى دين مستقل هو الدين الدرزي الذي يجدده الأقطاب من زمن إلى زمن)) (¬5) . ومن هنا فإن الدروز أخذوا في الدعوة إلى إسقاط التكاليف بتأويلاتهم الباطنية التي يستندون فيها إلى القرآن الكريم أكثر من كل الفرق، وهم لا يؤمنون به، فالصلاة والصوم والحج والجهاد لها معان عندهم غير المعاني التي فهمها المسلمون وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير التي فهمها الإسماعيليون أيضاً، لأن حمزة الزوزني أراد أن يأتي بشريعة جديدة تبطل كل ما قبلها من الشرائع، سواء كانت عقيدة الباطنية أو غيرها من العقائد والتي في أولها الإسلام، ¬

(¬1) كبار دعاتهم. (¬2) طائفة الدروز ص 118. (¬3) اقرأ ص 117، 118. (¬4) الصفحات السابقة. (¬5) أضواء على العقيدة الدرزية ص 51.

ولهذا فقد أوَّل النصوص على هواه مجانباً المفاهيم الإسلامية والباطنية أيضاً في كتابه النقض الخفي (¬1) . فالصلاة: معناها صلة قلوب الدروز بعبادة الحاكم على يد خمسة حدود هم أنبياء الحاكم الخمسة: حمزة وإسماعيل ومحمد الكلمة وأبو الخير وبهاء الدين علي بن أحمد السموقي، وهؤلاء هم أشهر دعاة الدروز، ومعرفة هؤلاء وحبهم هي الصلاة عند الدروز. أما الصلاة المعروفة عند المسلمين فقد أبطلها حمزة، ومن هنا فإنهم لا يؤدونها بل وتظاهروا في هذا الزمن -كما يذكر عنهم العارفون بهم- بحرب إقامة المساجد ومنعوها ومنعوا المسلمين الموجودين بينهم من بنائها، وأقاموا عوضاً عنها الخلوات التي يجتمعون فيها لإقامة طقوسهم. وهذا المفهوم للصلاة عند الدروز يخالف أيضاً مفهومها عند الباطنية الذين يزعمون أن معناها الدعاء إلى الإمام ومعرفة الأئمة (¬2) . والزكاة معناها عبادة الحاكم وتزكية قلوبهم وتطهيرها وترك ما كانوا عليه قبل معرفة الحاكم في ظهوره الجديد. يقول عنهم محمد كامل حسين: ((الزكاة الحقيقية هي توحيد المولى وترك ما كان عليه الناس قديماً)) (¬3) ؛ أي من الأديان بما فيها الإسلام. بينما الزكاة عند الباطنية معناها أخذ العلم عن الأئمة (¬4) . ¬

(¬1) انظر لهذه المعاني: النقض الخفي - نقلاً عن الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص 280. (¬2) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 8. (¬3) طائفة الدروز ص 118. (¬4) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 8.

والصوم معناه صيانة قلوبهم - التي هي من أردأ القلوب - بتوحيد مولاهم الحاكم، وقد ذكر محمد حسين أن الدروز يصومون في أيام خاصة وهي التسعة الأيام الأولى من شهر ذي الحجة (¬1) . بينما الصوم عند الباطنية معناه كتمان أسرار الأئمة (¬2) . والحج معناه توحيد الحاكم لا المجيء إلى مكة والطواف والسعي والرمي والوقوف بعرفة إلى آخر مشاعر الحج. بينما هو عند الباطنية طلب العلم والمجيء إلى مشائخهم (¬3) ، ولهم كلام في غاية الفحش والاستهزاء بهذه المشاعر التي فرض الله تعظيمها. والجهاد: معناه السعي والاجتهاد في توحيد الحاكم ومعرفته وعدم الإشراك به لا الجهاد الذي فرضه الله؛ لأن الحاكم أبطله في الشرع الجديد. بينما الجهاد عند النصيرية الباطنية كما يذكر سليمان الأضني نوعان: أولهما: الشتائم على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة، وعلى جميع الطوائف المعتقدين بأن علي بن أبي طالب أو الأنبياء أكلوا وشربوا وتزوجوا وولدوا من نساء؛ لأن النصيرية يعتقدون بأنهم نزلوا من السماء بدون أجسام، وأن الأجسام التي كانوا فيها إنما هي أشباه وليست هي بالحقيقة أجسام. والنوع الثاني من الجهاد: إخفاء مذهبهم من غيرهم، ولا يظهرونه ولو ¬

(¬1) طائفة الدروز ص 120. (¬2) فضائح الباطنية ص 56. (¬3) بيان مذهب الباطنية ص 8.

أصبحوا في أعظم الخطر وهو خطر الموت (¬1) . وهكذا فإنهم أرادوا بهذه الأفكار محاربة الإسلام والقضاء عليه بأي وسيلة يستطيعون من خلالها تحقيق أهدافهم الخبيثة وعودة الناس إلى المجوسية وهم ألد أعداء الإسلام والمسلمين قديماً وحديثاً. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) الباكورة السليمانية ص 164 نقلاً عن الحركات الباطنية ص 392.

الفصل الحادي عشر الدروز في العصر الحاضر كمال جنبلاط ودوره في تثبيت عقيدة الدروز

الفصل الحادي عشر الدروز في العصر الحاضر كمال جنبلاط ودوره في تثبيت عقيدة الدروز هذا الشخص من كبار الدروز، ومن أشد المتعصبين لمذهبه الدرزي، وقد أقدم على جريمة كبيرة في هذا العصر؛ حيث بدأ هو وشخص آخر اسمه عاطف العجمي بتأليف كلام يحاكيان به القرآن الكريم، زاعمين أنه كلام مقدس تحت اسم المصحف المنفرد بذاته، أو مصحف الدروز مملوء من شتى الأفكار ومن شتى السور من القرآن الكريم. ومن حِكَمِ الهند -التي يميل إليها كمال جنبلاط كثيراً، بل هي قبلة حجهم إلى وقتنا الحاضر- ومن كلام زعمائهم، فأصبح خليطاً فاسداً يدور كله حول تأليه الحاكم، والثبات على العقيدة الدرزية، ومع أنه هذا المصحف -كما يسمونه - قد نسب إلى حمزة بن علي إلا أن الدكتور الخطيب يرى أنه من صنع كمال جنبلاط بدليل ما جاء فيه من ألفاظ وأسلوب عصري. وقد أنكر جنبلاط في مصحفه هذا القرآن الكريم، واعتبره فرية، وشنع على الذين يلتزمون به. وقد نقل الدكتور الخطيب عن هذا المصحف -الذي لا يوجد إلا عند الدروز وقد تيسر له الاطلاع عليه -فنقل عنه هذه النصوص: ((لقد ضل الذين جحدوا الحكمة (¬1) واتبعوا فرية صحف اكتتبوها فهي قبلة ¬

(¬1) يقصد أهل مجالس الحكمة التي أنشأها الحاكم لتثبيت ألوهيته.

آبائهم يتلونها بكرة وعشياً (¬1) ، وقالوا: هذا من عند الله المعبود (¬2) . وقال الذين كفروا منكم: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وعليه وجدنا آباءنا، قل لو كنتم على الهدى لآمنتم به، ولكنكم لا تعلمون غير ما تهواه أنفسكم وأنتم تجهلون، نحن أعلم بما في أيديكم ونحن المنزلون، لقد ضل هؤلاء الذين يريدون أن يحكموا بالقرآن ويتخذوه سبيلاً ثم به يكفرون بعد أن تبين الحق، قل: أليس الحق أحق أن يتبع (¬3)) . ويقسم هذا المصحف إلى أربعة وأربعين عرفاً ويقع في 269مائتين وتسع وستين صفحة، ويقول كاتبه في مقدمته: ((جرى تقسيم هذا المصحف المكرم وفق المواضيع لتسهيل الاطلاع عليه، ووضع لكل فصل تسمية تنطبق مع ما ورد فيه من معان، ولقد اخترنا اسم العرف تناسباً مع ما يطلق على أبناء التوحيد: كنيتم بالأعراف ووصفتم بالأشراف)) (¬4) . جاء في عرف الأمر والتقديم من هذا المصحف قوله: ((أنتم وما تعبدون مكبكبون على وجوهكم يوم ينادي منادي مولاكم الحاكم من مكان بعيد: هذا يومكم الذي فيه توعدون تتلوها أيام العذاب أنكم لخالدون ولات محيص..إلى أن يقول: وإلا فقولوا لي أيها الضالون المعاندون فهل جاء لكم رب غيره مع جنوده، أروني إن كنتم صادقين)) (¬5) . وفي هذا المصحف ألفاظ كتبت بالعربية وهي غير معروفة يرونها من الأسرار التي لا يبوحون بها لأحد، ومن أمثلتها ((يود يلووهكا طران كنان ¬

(¬1) على رغم أنفه. (¬2) إذا ذكر المعبود عند الدروز فإنهم يريدون به الحاكم. (¬3) المصحف المنفرد بذاته، عرف عاقبة المكذبين ص 241، 242، وعرف المحرمات ص 154، 155، الحركات البانية ص 281. (¬4) مصحف الدروز ص 1، عقيدة الدروز ص 97. (¬5) مصحف الدروز عرف الأمر والتقديم ص 10 - 11، عقيدة الدروز ص 97.

وهقويكان سهى وهطمكل واطغظلوا أو هكز كان بطكه وعد ودلولذ وسلر)) (¬1) . وقد ذكر الدكتور الخطيب (¬2) أمثلة كثيرة من ما جاء في هذا المصحف الذي يدور حول تثبيت ألوهية الحاكم والابتعاد عن كل الشرائع وعلى رأسها الإسلام الذي يتظاهرون به أمام الناس وهم ألد أعدائه. وقد ظن هذا الملحد أنه بمحاكاته للقرآن الكريم في أسلوبه جاء بشيء ينفع إلهه الحاكم الذي تكلم هو على لسانه بهذا الغثاء الذي يتمنى أن يهدم به الإسلام الذي أكل الحقد عليه قلوبهم وملأوا بالتشنيع عليه كتبهم ومقالاتهم، ولكنهم كانوا كما قال أحد الشعراء: كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) عرف شمس المغيب ص 230. (¬2) انظر: عقيدة الدروز ص 95، 99، وانظر: الحركات الباطنية ص 281 - 282.

الفصل الثاني عشر الفرق بين النصيرية والدروز

الفصل الثاني عشر الفرق بين النصيرية والدروز يتفق النصيريون والدروز في أمور ويختلفون في أمور أخرى، وبين الطائفتين عداوة شديدة لتباين أفكارهم حول دعوى الألوهية لزعمائهم الذين ينتسبون إليهم، وقد اتضح من خلال دراستنا للطائفتين فيما سبق الأمور الآتية: 1- أن عقيدة الطائفتين باطنية - من الغلاة. 2- أنهم لا يطلعون أحداً على أسرار مذهبهم وكتبهم السرية. 3- لا يعترف الدروز لأحد بالدخول في مذهبهم أو الخروج عنه. 4- لا يأخذون بظواهر الألفاظ وإنما يؤولونها. 5- كلهم يقولون بالتناسخ ويختلفون في التسمية، فالنصيريون يسمونه ((تناسخ)) ، والدروز يسمونه ((تقمص)) ، والنصيرية يعممونه في كل شيء بينما الدروز يحصرونه بين البشر فقط. 6- عند النصيرية التناسخ يشمل المسخ (¬1) والنسخ (¬2) والفسخ (¬3) والرسخ (¬4) . ¬

(¬1) هو انتقام الروح من جسم آدمي إلى جسد حيوان. (¬2) هو انتقام الروح من جسم آدمي إلى جسد آخر. (¬3) هو خروج الروح من جسم آدمي إلى جسد حشرة من حشرات الأرض وهوامها. (¬4) هو انتقام الروح من جسم آدمي إلى الشجرة والنبات والجماد. انظر: طائفة النصيرية.

7- الجسد البشري في عقيدة الدروز ثوب أو قميص للروح تتقمص به الروح عند الولادة وتنتقل منه بالموت فوراً إلى جسد مولود إنساني آخر. 8- الجنة عند الدروز معرفة الدعوة الهادية- أي الدعوة الدرزية- والجحيم هو الكفر بها. والنصيريون يقولون بأن الجنة معرفة ألوهية علي بن أبي طالب، والجحيم هو الكفر بها أو الجهل بها. 9- يتفقون جميعاً في اعتبار الحج ظاهرة وثنية وأنه كفر وعبادة أصنام. 10- كل هذه الطوائف تتفق في التشديد على التقية والسرية التامة. 11- الشرك عند الدروز عدم الاعتراف بإفراد ألوهية الحاكم. وعند النصيرية عدم الاعتراف بإفراد ألوهية علي رضي الله عنه. 12- يزعم الدروز أن الناس خلقوا دفعة واحدة، فهم لا يزيدون ولا ينقصون، كلما مات إنسان تحولت روحه إلى جسم جديد وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن النصيرية انشقت عن الشيعة الاثني عشرية، والدروز انشقوا عن الإسماعيلية. والنصيرية أقدم من الدروز في الظهور، وكل طائفة حاولت الابتعاد عن أصلها رغم وضوح تأثرهم في كثير من أفكارهم بأصولهم الشيعية أو الإسماعيلية إلى غير ذلك من وجوه الاتفاق والافتراق بينهم، وكل أفكار الجميع تنضح مجوسية ووثنية تستر أصحابها بالتشيع لأهل البيت وبالإسلام؛ لتحقيق ما يهدفون إليه من إعادة كلمة المجوسية وإظهار قوتها من جديد، وهم ألد أعداء أهل البيت وألد أعداء الإسلام والمسلمين. والله متم نوره ولو كره الكافرون. * * * * * * * * * * * * * * * * **

مراجع فرقة الباطنية

مراجع فرقة الباطنية أ-مراجع الباطنية عموماً: 1- فضائح الباطنية: للغزالي. 2- الحركات الباطنية في العالم الإسلامي: للدكتور الخطيب. 3- أسرار الباطنية والفرق الخفية: محمد عثمان الخشت. 4- الباطنيون والحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي: للجبهان. 5- كشف أسرار الباطنية: لأبي الفضائل الحمادي. 6- أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية: لبرنارد لويس. 7- الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام: يحي بن حمزة العلوي. 8- الإسلام في مواجهة الباطنية: أبو الهيثم. 9- أعلام الإسماعيلية: مصطفى غالب. 10- الإسماعيلية تاريخ وعقائد: إحسان إلهي. 11- بيان مذهب الباطنية وبطلانه: الديلمي. 12- القرامطة: محمود شاكر. 13- الإمامة في الاسلام: عارف تامر.

ب- مراجع فرقة النصيرية

ب- مراجع فرقة النصيرية: 1- طائفة النصيرية تاريخها وعقائدها: د. سليمان الحلبي. 2- الهفت الشريف تحقيق د. مصطفى غالب. 3- سقوط الجولان: خليل مصطفى. 4- الجيل التالي: محمد حسين. 5- العلويون أو النصيريون: عبد الحسين مهدي العسكري. جـ- مراجع فرقة الدروز: 1- المراجع السابقة. 2- الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة: شيبة الحمد. 3- عقيدة الدروز: محمد أحمد الخطيب. 4- التآلف بين الفرق الإسلامية: محمد حمزة. 5- أضواء على العقيدة الدرزية: أحمد الفوزان. 6- الدروز: محمد الزعبي. 7- طائفة الدروز: محمد كامل حسين. ولا يكاد كتاب فيه بحث عن الفرق يخلو من ذكر هذه الفرق الباطنية. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الباب الثامن دراسة عن البهائية

الباب الثامن دراسة عن البهائية الفصل الأول نبذة عن أساس ظهور البهائية وبيان صلتها بالبابية البهائية إحدى الفرق الباطنية الخبيثة التي حاولت هدم الإسلام وإخراج أهله منه بأساليب وطرق شتى قديماً وحديثاً. وقبل البدء بالكلام عن البهائية لابد من التطرق أولاً وبإيجاز إلى التعريف بالبابية وبيان الصلة ما بين البابية والبهائية التي هي موضوع هذه الدراسة: والواقع أن البابية والبهائية والشيخية والرشتية حلقات متصلة بعضها بالبعض الآخر وتعتبر الشيخية والرشتية هي النواة الأولى للبابية، كما تعتبر البابية هي الدرجة الأولى للبهائية. ونبدأ الآن بذكر الشيخية: زعيمهم -تعاليمه- نهايته- زعامة الرشتي. أما الشيخية: فهي الطائفة المنسوبة إلى زعيمها الضال أحد شيعة العراق (¬1) ، ويسمى الشيخ أحمد الإحسائي، وهو أحمد بن زين الدين بن إبراهيم الإحسائي الذي ولد بالمطير من قرى الإحساء في شهر رجب سنة ¬

(¬1) البهائية لمحب الدين الخطيب ص5.

1166هـ، وتوفي سنة 1241، ودفن بالبقيع (¬1) . وبعضهم يقول: إنه ولد سنة 1157 (¬2) ، ويعتبر من كبار علماء الإمامية وهو باطني من الغلاة، وله أفكار خارجة عن الإسلام يظهر فيها الاعتقاد بالحلول -كما تقدم- وذلك في مثل قوله: إن الله تجلى في علي وأولاده الأحد عشر، ومثل قوله الآخر: إن علياً وأولاده مظاهر الله، وأنهم أصحاب الصفات الإلهية والنعوت الربانية -تعالى الله عن قوله. كما يظهر فيها غلو الفلاسفة في قوله: إن الأئمة هم العلة المؤثرة في وجود المخلوقات، ولولاهم ما خلق الله شيئاً. كما يظهر فيها الإلحاد في قوله: إن اللوح المحفوظ هو قلب الإمام المحيط بكل السموات وكل الأرضين، وكان ينكر المعاد والبعث. كما يظهر فيها كذلك القول بالتناسخ حينما كان يزعم للناس أن المهدي يحل في أي رجل كان فيكون له صفة الباب، وأن روح المهدي حلت فيه هو فصار هو الباب إلى المهدي. إلى آخر ما قاله من خرافات وإلحاد، وهذه الأفكار دليل على تضلعه من مشارب الباطنية الغلاة والفلاسفة الغواة. إلا أن محمد حسين آل كاشف الغطاء يقول في ترجمته: ((كان العارف الشهير الشيخ أحمد الإحسائي في أوائل القرن الثالث عشر وحضر على السيد بحر العلوم وكاشف الغطاء، وله منهما إجازة تدل على مقامه عندهم وعند سائر علماء ذلك العصر، والحق أنه رجل من أكابر علماء الإمامية وعرفائهم. وكان على غاية الورع والزهد والاجتهاد في العبادة كما ¬

(¬1) حقيقة البابية والبهائية ص 30. (¬2) البهائية لعبد الرحمن الوكيل ص73.

سمعناه ممن نثق به ممن عاصره ورآه، نعم له كلمات في مؤلفاته مجملة متشابهة)) (¬1) . وقد حاول محمد حسين هنا أن يثني على الإحسائي ويمجده، ولكن وقفت أفكار الإحسائي دون استرسال محمد حسين، ومن هنا أخذ يعتذر له بأن في مؤلفاته ألفاظاً مجملة متشابهة، وفاته أن هذا العذر غير مجدٍ للإحسائي؛ فإن الذي حمل الإحسائي على ذلك الإلغاز والإجمال، إنما هو معتقده المغالي، وإذا كان آل كاشف الغطاء يدافع عنه فإن كثيراً من علماء الشيعة غير راضين عنه. فقد ذكر الدكتور محسن عبد الحميد أن جماعة من علماء الإمامية ذهبوا إلى أن الإحسائي كان فاسد العقيدة منحرفاً، أوجد طريقة في مذهب الشيعة الاثني عشر، والتي سميت فيما بعد بالشيخية، وقد ردوا عليه بكتب معروفة متداولة. ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة كتب لمشاهير الشيعة: وهي كتاب ظهور الحقيقة على فرقة الشيخية لمحمد مهدي الكاظمي، وكتاب هدية النملة للميرزا محمد رضا الهمدان، وكتاب رسالة الشيخية والبابية لمحمد مهدي الخالصي. وبعد دراسة قام بها الدكتور محسن عبد الحميد لأفكار الشيخية من كتبهم ظهر له أن الإحسائي يلجأ أحياناً إلى التفاسير الباطنية لتأييد وجهة نظره، وأنه غالى في الأئمة الاثني عشر الذين يزعمهم الشيعة، وغالى في الرسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن العلة في وجود جميع المخلوقات هم أولئك، حيث خلقها الله من ¬

(¬1) فهرست تصانيف العلامة الشيخ أحمد الإحسائي ص5 نقلاً عن حقيقة البابية والبهائية ص 30.

أجل الأئمة. كما زعم أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور الله، وهذا النور عقل واحد يظهر في محمد ثم يظهر في علي ثم في الحسن ثم في الحسين، وأن الزمان لا يخلو من ناطق، وأن كلامه في المعاد غامض مع إيمانه بالرجعة وما يتبعها من الحوادث (¬1) . ولكن الشيخ عبد الرحمن الوكيل يبين أن هذه الرجعة التي يؤمن بها الإحسائي ليست هي الرجعة المفهومة عند الاثني عشرية، فإنه حكم بموت الإمام الثاني عشر، وبأن روحه طارت إلى الملأ الأعلى ولكنها ستعود لتحل مرة أخرى بجميع خصائصها في إنسان جديد، تولد ولادة حقيقية من أب وأم جديدين غير والدي الإمام الثاني عشر الغائب المزعوم، ولهذا ثار عليه شيعة إيران (¬2) . وتتضح شخصية الإحسائي وأوهامه من خلال دراسة الرشتية والبابية؛ لأن هؤلاء صاروا على طريقته مع زيادة الغلو الذي استحسنوه لتقوية المذهب وتكامله، ولتتم كذلك المؤامرة الرهيبة التي خطط لها هؤلاء ومن وراءهم بهدف القضاء على الإسلام والأمة الإسلامية وتمزيق وحدتها وتشتيت كلمة أبناء الإسلام وضرب بعضهم ببعض، حتى تم لهم فعلاً الكثير من ما يريدونه ويعملون من أجله. خصوصاً والمسلمون وزعماؤهم في جرى حثيث وراء التيارات المنحرفة إلا القليل منهم، فلم يتمكنوا من التقاط أنفاسهم ولم يتح أعداء الإسلام لهم الفرصة للنظر في الواقع الذي يعيشونه، فضلاً عن التفكير في رد المخططات الرهيبة التي تحاك ضدهم، وهم في قلق وصراع مرير وخصام عنيف بينهم، وصار القائل: وأحياناً على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا ¬

(¬1) انظر: حقيقة البابية ص 30 - 34. (¬2) البهائية ص 74.

صار هذا القائل ومن معه خيراً منهم؛ لأن الذين أخبر عنهم لم يجدوا عدواً يحاربونه فاشتغلوا بحرب بعضهم بعضاً، وهؤلاء تركوا العدو يتأهب ويعد العدة واشتغلوا عنه بالقتال والعداوة فيما بينهم. وما أن انتهت أيام الإحسائي الذي ألهب مشاعر أتباعه من الشيعة بقرب مجيء المهدي وجعله في أذهانهم قاب قوسين أو أدنى، ما إن انتهت أيامه حتى تولى بعده أعظم تلاميذه وهو الرشتي الذي أسس بعد ذلك جماعة ينتسبون إلى اسمه وهم الرشتية، واسمه كاظم الرشتي ولد سنة 1205هـ في بلدة ((رشت في إيران)) (¬1) . وقد سار على نفس طريقة أستاذه الإحسائي وزاد عليه أقوالاً كفرية أخرى، كانت هي النواة الأولى لظهور البابية بفعل تأثير الرشتي في تلميذه علي محمد الشيرازي، الذي تزعم الدعوة البابية الهدامة التي ظهرت في إيران البلد المضياف لكثير من الدعوات المناوئة للإسلام (¬2) وقد قال بالتناسخ حيث ادعى أنه حل فيه روح الباب كما حل في الإحسائي، ولكنه عاف فكرة الأبواب هذه وقفز إلى التبشير بظهور المهدي نفسه، وقد روج الرشتي أفكار شيخه الإحسائي وأدخل الكثيرين في مذهبه ومذهب الإحسائي، وصارت الشيخية فرقة مستقلة (¬3) في كثير من الأفكار، ويحترم البابيون والبهائيون الإحسائي والرشتي احتراماً عظيماً ويسمونهما -كما يقول محسن- بالنورين (¬4) . ¬

(¬1) حقيقة البهائية ص35. (¬2) البابية عرض ونقد ص 45. (¬3) الشيعة والتشيع 313. (¬4) حقيقة البابية والبهائية ص35.

1- زعيم البابية

البابية 1- زعيم البابية: زعيم البابية الأول هو علي بن محمد رضا الشيرازي ولد في سنة 1235هـ في بلدة شيراز جنوبي إيران، مات أبوه وهو طفل فكفله خاله ويلقب بالميرزا، وقد نسب بعضهم أسرته إلى آل البيت وهذا غير صحيح، والذين أطلقوا عليه هذه النسبة إنما أطلقوها لشيء يريدونه في أنفسهم، لكي يطبقوا الروايات التي تذكر أن المهدي يكون من آل البيت. أي ومحمد علي الشيرازي من أهل البيت وهو المهدي المنتظر حسب خرافاتهم، ولم يلتفتوا إلى أن اسم المهدي محمد بن عبد الله كما ثبت بالسنة المطهرة، ووالده الشيرازي يسمى محمد رضا، وأمه فاطمة بيكم، وقد توفي والده وهو صغير فقام بكفالته خاله ويسمى الميرزا علي. وحين بلغ السادسة من عمره عهد به خاله إلى رجل يسمى الشيخ عابد- وهو أحد تلامذة الرشتي- لتعليمه في مدرسته التي سماها ((قهوة الأنبياء والأولياء)) ، وبعد أن حصل على قسط قليل من التعلم عزف عن مواصلة التعليم، فأشركه خاله في التجارة ببيع الأقمشة، وتفنن فيها مع خاله الآخر الميرزا محمد. وكان قد بلغ السابعة عشر من عمره فاتصل به أحد دعاة الرشتية ويسمى جواد الكربلائي الطباطبائي، وبدأ يلقي في مسامعه أفكار الشيخية عن المهدي المنتظر ويوهمه بأنه ربما يكون هو نفسه-أي علي محمد الشيرازي- المهدي المنتظر لظهور علامات تدل على ذلك- حسب زعمه- فوقع الشيرازي في فخه

وترك التجارة ومال إلى قراءة كتب الصوفية التي زادته هوساً، ومارس شتى الرياضات، حتى إنه كان- كما قيل عنه- يقف في حر الظهيرة المحرقة تحت أشعة الشمس على سطح البيت مكشوف الرأس عاري البدن مستقبلاً قرص الشمس، حتى كان يعتريه الذهول والوجوم، وتأثر عقله، وكان الكربلائي ملازماً له يحرضه على هذا المسلك. فأشفق عليه خاله وأرسله إلى النجف وكربلاء للاستشفاء بزيارة المشاهد التي يقدسونها هناك، إلا أنه في كربلاء بدأ يتردد على مجالس كاظم الرشتي ويدرس أفكاره وآراء الشيخية، وكان الرشتي أيضاً قد وقع اختياره على الميرزا ليجعل منه المهدي المنتظر، فكان يبشر أتباعه ومريديه وتلاميذه باقتراب الأوان لظهور المهدي ودنو قيام القائم المنتظر، ويشير إلى الميرزا علي محمد ويبالغ في إكرامه، وكثيراً ما يردد شعراً: يا صغير السن يا رطب البدن ... يا قريب العهد من شرب اللبن وبعد أن أحكمت الخطة بينه وبين مشائخ الرشتية وسفير روسيا في ذلك الوقت والمترجم بها دالجوركي أعلن في سنة 1260هـ أنه هو الباب الأصل إلى الإمام الغائب المنتظر عند الشيعة، وأن صديقه الملا حسين البشروئي هو باب الباب، وهو أول من آمن به. وكان عمر الباب الشيرازي آنذاك خمساً وعشرين سنة، واعتبر ذلك اليوم عيد المبعث لظهور الباب ودعوته جهراً، وآمن بدعوته كثير من زعماء الشيخية وأهمهم ثمانية عشر شخصاً جمعهم في حروف ((حي)) ؛ لأن الحاء والياء يعادلها ثمانية عشر بحساب الحروف الأبجدية. ثم وزع هؤلاء في أقاليم مختلفة من إيران وتركستان والعراق، وكان لهؤلاء نشاط في الدعوة إلى البابية؛ خصوصاً زرين تاج بنت الملا صالح

2- صلتهم بالمستعمرين في ذلك الوقت

القزويني، والملا حسين البشروئي، والملا محمد علي الزنجاني، والملا حسين اليزدي، والملا البارفروشي (¬1) . 2- صلتهم بالمستعمرين في ذلك الوقت: لقد واتت الفرصة الذهبية جميع الحاقدين على الإسلام حينما اصطنعوا فكرة الباب لعلي محمد، وقفوا بكل عزم في نشر دعوته الهدامة، فقد سارع زعماء الإنجليز والروس إلى حماية هذه الطائفة بل وإلى مدها بالأسلحة الخفيفة والثقيلة والهجوم على حكومتهم في أماكن كثيرة لإرهاب الناس وتوجيههم إلى قبول هذه الدعوة، وفتحت الحكومة الروسية أبواب بلادها للبابية ليعيشوا فيها بكل حرية وراحة ويدبروا المؤامرات من مكان مصون. وكان للمترجم الروسي ((كنيازد الجوركي)) بالسفارة الروسية نشاط قوي في دفع الميرزا على محمد إلى زعامة البابية وادعاء المهدية، ثم دفع البها أيضاً إلى زعامة البهائية ومناصرته أمام الشاة، كما صرح بذلك في مذكرته (¬2) ، وقد قوي أمر الشيرازي وانتشرت دعوته وخافت الحكومة والعلماء من انتشارها حتى ألقي القبض على الشيرازي وحوكم وقتل. 3- نهاية الشيرازي: لقد كان للحاكم حسين خان -حاكم شيراز- مواقف حازمة ضد الباب الشيرازي ورفقته؛ حيث استدرج الشيرازي وألان له القول، واعتذر عما صدر منه من إهانة له ولأتباعه سابقاً، وأوهمه أنه قد تابعه أيضاً على فكرة البابية وسائر الدعاوى التي جاء بها الباب. ¬

(¬1) انظر: البابية المقال الأول ص45، وانظر: البهائية تاريخها وعقائدها ص 75، وانظر. حقيقة البابية والبهائية د. محسن عبد الحميد - الميرزا الفصل الأول المرزا علي محمد الباب ص 39. (¬2) البهائية رأس الأفعي، لمجموعة من الكتاب ص 10 - 11.

ثم استدعى الحاكم العلماء ليقيم عليهم الحجة في صدق الباب كما أوهمه، وكان قد عهد إليهم بأن يصبروا في مخاتلة الرجل وأخذ الاعتراف منه بخط يده في سائر عقائده الباطلة، وأوهمه بأن كل من سيجرأ على إظهار الكفر به فسيكون القتل مصيره؛ فاطمأن الباب وحضر مجلس العلماء ثابت الجنان طافي الجرأة ثم بادأ الجميع بقوله: ((إن نبيكم لم يخلف لكم بعده غير القرآن فهاكم كتابي البيان فاتلوه واقرءوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن)) . وكظم العلماء ثورتهم، ثم طلب الحاكم إلى الباب أن يسجل ما يدعوه إليه كتابة ففعل ذلك، ثم نظر العلماء في ما كتبه الشيرازي فإذا به ينضح كفراً وخروجاً عن الإسلام، فما كان من الحاكم إلا أن صب جام غضبه على الشيرازي قائلا له: ((فلأعذبنك لعلك ترجع عن غيك)) ثم ضربه ضرباً شديداً وأمر أن يطاف به في الأسواق على دابة شوهاء، وأن يعلن التوبة من كفره على منبر المسجد الكبير. ثم ارتقى المنبر وأعلن رجوعه من كل ما ادعاه وأنه على دين الاثني عشرية؛ لأنه الحق اليقين (¬1) ، ثم ألقي به في غيابة السجن (¬2) ، ولكن أتباعه ظلوا ينشرون فكرة المهدية والبابية وسائر الأفكار الشريرة، وعوام الناس يتناقلونها بكل لهفة لموافقتها هوى في نفوسهم. ولما تجاوز الأمر الحدَّ وأدرك عامة الشعب الإيراني واستيقظت الحكومة في إيران على مدافع هؤلاء وبنادقهم يقتلون المسلمين ويستبيحون منهم كل ما يشاءون في معارك دامية واغتيالات متنوعة، ويدعون إلى ظهور المهدي وإلى كتابه المقدس -اجتمع عدد كبير من العلماء والفقهاء وكفروا الباب وأعلنوا مروقه عن الإسلام ووجوب قتله بالأدلة الدامغة. ¬

(¬1) لأن خصومه اثنا عشرية، وإلا فأين الحق واليقين في المذهب الاثني عشري؟ (¬2) بتصرف عن البهائية لعبد الرحمن الوكيل، انظر ص 85-87.

4- مؤتمر بدشت وما تم فيه من خطط

إلا أن حاكم ولاية أصبهان الذي تظاهر بالإسلام ويسمى منوجهر خان الأرمني وهو صليبي العقيدة والهوى -استطاع- إخفاءه في قصره معززاً مكرماً ليطعن به الإسلام والمسلمين من الخلف. وكان الشيرازي يصدر توجيهاته إلى أتباعه من هذا المخبأ إلى أن توفي هذا الحاكم وخلفه جورجين خان، فكتب هذا إلى الحكومة في طهران يخبرهم عن وجود الشيرازي فألقي عليه القبض وأمر الميرزا أقاس رئيس الوزراء أن يعتقل الشيرازي في قلعة ماه كو، ومكث معتقلاً حوالي ثلاث سنوات. 4- مؤتمر بدشت (¬1) وما تم فيه من خطط: وحينما أحسَّ البابيون من أنفسهم القوة وكان زعيمهم الباب معتقلاً قرروا عقد مؤتمر لهم ليبحثوا فيه: 1. أمر الباب وكيفية خلاصه من السجن حتى ولو بالقوة. 2. نسخ شريعة الإسلام وإظهار شرائعهم، وهذا أهم ما عقد له المؤتمر. وقد تم بالفعل عقد هذا المؤتمر في صحراء ((بدشت)) حضر فيه جميع زعماء البابية، وكان من بينهم غانية البابيين الخليعة أم سلمى زرين تاج التي كانت تلقب بقرة العين وبالطاهرة، وهي ذات جمال فائق وأنوثة ثائرة تستميل بجمالها أغمار الناس، وكانت هي القوة الحقيقة في الظاهر في هذا المؤتمر، ولها أخبار طويلة لا يتسع المقام لذكرها هنا. ¬

(¬1) بدشت صحراء في إيران.

وفي هذا المؤتمر الخليط من الرجال والنساء لا تسأل عما جرى فيه من الإباحية والخمر والفرح والمرح والأفعال القبيحة والتي أقلها إباحة الزنى وجميع ما يشتهيه الشخص، ثم أضافوا إلى هذا أيضاً إقرار نسخ الشريعة الإسلامية بمجيء الباب الشيرازي باعتبار أنه المهدي الذي ينسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. ودعوى البابية هذه إنما هي ستار لاستجلاب الناس إلى البابية، ولأنهم يعتقدون أن الشيرازي ليس باباً فقط أو مهدياً، بل هو رسول مثل سائر الرسل وله شريعة خاصة به، وأقر في المؤتمر أحكام الخطط لتنفيذ مآربهم بالنسبة لنسخ الشريعة الإسلامية بتحريض شديد من تلك الغانية الملقبة بقرة العين (¬1) . وانفتحت على حكومة طهران مصائب كثيرة من البابيين وحروب مشتعلة، فرأت الحكومة وعلى رأسها ناصر الدين شاه القاجاري قتل الشيرازي رأس الفتنة فجيء به وأظهر تراجعه، ولكن لم يكن لينفعه الاستمرار على خداعه ومراوغته فتقرر قتله وقتل كبار أتباعه المسجونين معه في صبيحة يوم الاثنين 27 من شعبان سنة 1265هـ -1849م. ولما علم الشيرازي بهذا الحكم ضده انهارت قواه وأسقط في يده وصار يبكي وينوح وغمره الذهول العميق والشرود حتى فهم أصحابه في السجن أن هناك أمراً قد قرر، ولكنهم ما أرادوا أن يسألوه فاستفاق بعد منتصف الليل وبدأ يردد أبياتاً شعرية منها (¬2) : تروم الخلد في دار المنايا *** فكم قد رام مثلك ما تروم تنام ولم تنم عنك المنايا *** تنبه للمنية يا نؤوم لهوت عن الفناء وأنت تفنى *** فما شيء من الدنيا يدوم ¬

(¬1) البهائية لمحب الدين الخطيب ص 5. (¬2) حقيقة البابية والبهائية ص 30.

ويروى عنه أنه طلب من يقتله في السجن في تلك الليلة حتى لا يرى المهانة والذل ثم القتل في صبيحة هذه الليلة، وقال لأصحابه: لو فعل أحد من الأحباء هذا لكان ما فعله عين الصواب (¬1) . ولما استعد لذلك الملا محمد علي الزوزني ارتعد الشيرازي وتراجع حينما رأى سيفه مسلولاً وبدأ هو وأصحابه في النحيب والبكاء، وفي الصباح اقتيد هو والزوزني وكان يوماً مشهوداً فقد احتشد الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً من كل مكان ليروا تنفيذ حكم الإعدام. ثم جيء بمجموعة من الجنود وصوبوا بنادقهم إليه فوقع أشلاء ممزقة فيه أكثر من بضعة وعشرين رصاصة لم تخطئ منها واحدة. ولقد كان لهذه الحادثة ألم شديد في نفس قنصل الروس الذي حاول بكل جهده أن ينقذه ليتم به تنفيذ مآرب الحاقدين على الإسلام، ولقد سر المسلمون بقتله ونهاية فتنته، ثم امتد القتل بعد ذلك إلى جميع زعماء البابية مثل قرة العين والكاشاني وغيرهم (¬2) . وكان قد استمر في ضلالته متدرجاً من كونه الباب للمهدي إلى أنه هو المهدي إلى النبوة وأخيراً إلى الألوهية، وكان أتباعه ينادونه بالرب وبالإله (¬3) ، وقد أذله الله في أماكن كثيرة أمام الناس بعد مناظراته ويضرب ضرباً مهيناً ثم ¬

(¬1) البهائية لعبد الرحمن الوكيل، ص73. (¬2) انظر: البهائية للوكيل ص107 نهاية الباب، وانظر: البابية عرض ونقد ص 92 قتل الشيرازي، وانظر: دراسات عن البهائية والبابية ص 19 الحكم على الباب بالإعدام. (¬3) وانظر: البابية عرض ونقد ص 182، فقد نقل نصوصاً كثيرة في هذا تحت عنوان دعواه الألوهية والربوبية.

يبدي التوبة (¬1) ، إلا أن المتآمرين على إثارة التفرقة بين المسلمين والراغبين في الإباحية ونسخ الشريعة الإسلامية كانوا يدفعونه دفعاً ويهيئون له الجو الملائم لمثل هذه الدعاوى الكاذبة. وقد أسفرت الديانة البابية عن إنكار القيامة وما جاء في وصفها في القرآن الكريم وزعم أنها قيام الروح الإلهية في مظهر بشري جديد، وأن البعث هو الإيمان بألوهية هذا المظهر، وعن لقاء الله يوم القيامة بأنه لقاء الباب لأنه هو الله، وعن الجنة بأنها الفرح الذي يجده الشخص عندما يؤمن بالباب وعن النار بأنها الحرمان من معرفة الله في تجلياته في مظاهره البشرية، وزعم أنه البرزخ المذكور في القرآن، لأنه كان بين موسى وعيسى. كما أنه خرج عن تعاليم الإمامية الاثني عشرة -حول مفهوم الرجعة؛ حيث بينها بأنها رجوع الصفات الإلهية وتجليها مع آثارها في مظهر جديد للحقيقة الإلهية، ثم ألغى الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة الجماعة إلا في الجنازة، وقرر أن الطهر من الجنابة غير واجب، وأن القبلة هي البيت الذي ولد فيه بشيرازا، ومكان سجنه والبيوت التي عاش فيها هو وأتباعه، وهي نفس الأماكن التي فرض على أتباعه الحج إليها. وأما الصوم فهو تسعة عشر يوماً، يصوم الشخص فيه من شروق الشمس إلى غروبها، والزكاة خمس العقار تؤخذ في آخر العام من رأس المال ويدفع للمجلس البابي المكون من تسعة عشر عضواً. وأما الزواج فهو إجباري بعد بلوغ الحادية عشر، ويكفي رضا الطرفين ويجوز وقوع الطلاق تسع عشرة مرة، وعدة المطلق تسعة عشر يوماً، وعدة المطلقة خمسة وتسعون يوماً، وإذا تزوجت الأرملة فيجب دفع الدية كاملة ¬

(¬1) وانظر: البابية عرض ونقد ص 170-180.

5- الكتاب المقدس للبابية

على من يتزوج بها، وليس في دين البابية نجاسة لشيء لأن اعتناق البابية يطهر من كل شيء، ويجب دفن الميت في قبر من البلور والمرمر المصقول، ووضع خاتم في يمناه منقوش فقرة من كتاب البيان. والميراث يكون لسبعة أشخاص من القرابة هم الولد والزوج والزوجة والأب والأم والأخ والأخت، والمعلم. والعيد الرئيس عند البابية هو عيد النيروز ومدته تسعة عشر يوماً، كما أنه يجب على البابي أن يستقبل الشمس بالسلام في صباح كل يوم جمعة. وقد حرم الباب على أتباعه قراءة القرآن ووجوب إحراقه وسائر الكتب المخالفة، ومن هنا قاموا بإحراقها كما اعتبروا كل من لم يدخل في دينهم كافراً حلال الدم (¬1) . 5- الكتاب المقدس للبابية: كتب علي محمد الشيرازي كتابه الذي سماه البيان وهو كتاب ((البيان العربي)) الذي زعم فيه أنه منزل من عند الله وأنه ناسخ للقرآن وأنه أفضل الكتب المنزلة على الإطلاق، بل وتحدى الجن والإنس أن يأتوا بمثله على حد زعم الشيرازي (¬2) . ¬

(¬1) توجد تعاليم البهائية مبنية في كثير من الكتب، انظر: البهائية للوكيل ص117 - 121، ومنها ذكرت تلك المسائل المختصرة، وانظر: البابية عرض ونقد المقال الثالث ص 187 شريعة الباب وتعليماتها. (¬2) قال الدكتور محسن عبد الحميد في كتابه حقيقة البهائية والبابية ص 40: إذا أردت تفصيل حياة الميرزا فراجع مطالع الأنوار، ومفتاح باب الأبواب، والبابيون والبهائيون، والكتاب الأول مؤلفه يسمى محمد زرندي، والثاني مؤلفه ميرزا محمد مهدي خان، والثالث مؤلفه عبد الرزاق الحسني، واسم الكتاب كاملاً البابيون والبهائيون ماضيهم وحاضرهم.

قال الشيرازي في بيانه المزعوم في اللوح الأول من آيات الوحي ((شئون الحمراء)) : 1- إنا قد جعلناك جليلاً للجاللين وإنا قد جعلناك به عظيماً عظيماناً للعاظمين، وإنا قد جعلناك نوراً نوراناً للنورين، قد جعلناك رحماناً رحيماً للراحمين، وإنا قد جعلناك تميماً للتامين. إلى أن يقول: قل: إنا قد جعلناك مليكاناً مليكاً للمالكين، قل: إنا قد جعلناك علياناً علياً للعالين، قل: إنا قد جعلناك بشراناً بشيراً للباشرين (¬1) . 2- ومن قوله: ((تبارك الله من شمخ مشمخ شميخ، تبارك الله من بذخ مبذخ بذيخ، تبارك الله من بدء مبتدأ بديء، تبارك الله من فخر مفتخر فخير، تبارك الله من قهر مقهر قهير، تبارك الله من غلب مغتلب غليب. إلى أن يقول: وتبارك الله من وجود موجود جويد)) (¬2) . وقال متحدياً الإنس والجن على أن يأتوا بحرف من مثل ما في بيانه المنزل من الله بزعمه: ((يوم نكشف الساق عن ساقهم ينظرون إلى الرحمن، وذكره في الأرض المحشر قريباً فيقولون: يا ليتنا اتخذنا مع الباب سبيلاً إمامكم هذا كتابي قد كان من عند الله في أم الكتاب بالحق على الحق مشهود، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب بالحق على أن يستطيعوا. ولو كان أهل الأرض ومثلهم معهم على الحق ظهيراً، فوربك الحق لن يقدروا بمثل بعض من حروفه ولا على تأويلاته من بعض السر قطميراً (¬3)) ) ، ¬

(¬1) انظر: مفتاح باب الأبواب ص 282، نقلاً عن حقيقة البابية والبهائية ص 99. (¬2) نفس المصدر السابق. (¬3) انظر: تاريخ البابية للدكتور ميرزا محمد مهدي خان ص 309، نقلاً عن البهائية للوكيل ص 80، وانظر: كتاب البيان للشيرازي منقولاً بكامله في كتاب خفايا البهائية.

6- هزيمة البابية

إلى آخر هذا الهذيان التافه الذي فضله على كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وليس هذا فقط؛ بل تحدى الجن والإنس ومثلهم معهم أن يأتوا ببعض الحروف التي وردت فيه. وحينما يقارن الإنسان بين كلام الله عز وجل وكلام مثل هؤلاء السخفاء الدجاجلة يتبين له نور الحق، وبضدها تتميز الأشياء. وبعد أن انتهى أمر الباب الشيرازي قام صراع حاد جداً على تولي الزعامة البابية وما بعدها بين حسين علي المازندراني وزعماء البابية، متمثلة في أخيه صبح الأزل، وقد أخذ حسين علي المازندراني منها نصيب الأسد، وهزمت البابية على يديه شر هزيمة في أحداث طويلة قد لا يكون من الضروري سردها هنا كاملة؛ بل نشير إلى أهم ما وقع فيها فيما يأتي. 6- هزيمة البابية: لقد خاض البهائيون بزعامة حسين المازندراني مواجهات عنيفة وجدال كبير وسفك دماء وتآمر، وأحياناً خداع ومراوغة البابية. وكان من حظ البهائية العميلة أن وقفت معها اليهودية العالمية بالتأييد وتهيئة الظروف لانتشارها وإماتة البابية الأزلية أتباع يحيى صبح الأزل الذي أخذ الزعامة بعد الباب الشيرازي بوصية من الشيرازي له، فاختطفها منه أخوه حسين المازندراني، ولقد هاجم المازندراني أخاه صبح الأزل وأتباعه بكلام طويل زاعماً أنه من وحي الله وكلامه، وأنه هو المظهر الإلهي وصاحب نسخ الديانات كلها. وزعم أن البيان الذي ألّفه الشيرازي وأكمله صبح الأزل إنما كان من وحيه

هو. ((فاعتبروا يا أولي الألباب)) . وفسر هو وأتباعه وصية الشيرازي بالبابية إلى يحيى صبح الأزل بأنها خطة لتحويل أنظار الناس عن المازندراني لخوفهم عليه في ذلك الوقت، ونشطوا في بث الدعايات السيئة ضد البابية الأزلية. وقد ظل صبح الأزل يواصل بث الدعاية ضد البهائية بكل وسيلة وهو في منفاه في جزيرة فاما جوستا بقبرص، وألف المؤلفات الكثيرة في بيان كذب المازندراني ونشر الدعايات ضده، إلا أن الأمور كانت تسير في غير صالحه إلى أن هلك في سنة 1912م عن اثنين وثمانين سنة. بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه الميرزا محمد هادي، مع أنه ما كان له ما يوصي به (¬1) ، وقد تفرق بقية أتباعه بعد ذلك وانتهت البابية التي لاحقتها مطاردة البهائية في كل مكان وصلت إليه البهائية. ولم يفد البابية شيئاً ذلك الوحي الذي لفقه زعيمهم الشيرازي حين قال في كتابه البيان: ((لا إله إلا أنت لك الأمر والحكم، وأن البيان هدية مني إليك)) ، حيث فسر البابيون هذا الكلام على أنه موجه إلى يحيى صبح الأزل، بينما العجل حسين كما سماه أخوه صبح الأزل جاء في حقه قول يحيى: ((خذوا ما أظهرنا بقوة وأعرضوا عن الإثم لعلكم ترحمون إن الذين يتخذون العجل من بعد نور الله أولئك هم المشركون)) على أن الإثم والعجل المقصود ¬

(¬1) انظر: قراءة في وثائق البهائية ص 69- 77. وانظر: البابية عرض ونقد ص 266 - 268.

بهما حسين المازندراني (¬1) . لقد أفنى حسين المازندراني أتباع يحيى صبح الأزل بحد السلاح، ولم يأخذه فيهم أي إحساس بالرحمة أو اللين؛ لأنه في عجل شديد للوصول إلى ما يهدف إليه من آماله العريضة، ولما كان الغرض يتعلق بدراسة البهائية وآرائها وبيان ما وصلت إليه من نفوذ وانعكاسات في العالم الإسلامي -فإننا نكتفي بذكر الإشارات السابقة في بيان نشأة البهائية التي قامت على أنقاض البابية التي قامت هي الأخرى على أكتاف الرشتية بتأسيس من الشيخية الضالة. فمن هي البهائية وكيف قامت؟ * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: تاريخ البابية ص 367 - ص 434 للدكتور ميرزا محمد خان، نقلاً عن البهائية للوكيل ص 132.

الفصل الثاني خطر البهائية

الفصل الثاني خطر البهائية قبل الدخول في تفاصيل أمور البهائية ينبغي أن أذكر بما أجمع عليه العلماء العارفون حقيقة هذه الطائفة من شدة خطرها على المسلمين وما تبيته لهم من نية السوء. ذلك أن البهائية هي إحدى الحركات الهدامة التي احتضنتها الصهيونية العالمية لهدم الأديان، وخصوصاً الدين الإسلامي، وقد عرفنا فيما سبق أنها وريثة البابية بعد هلاك الشيرازي، بعد أن احتدمت بين البابية والبهائية تلك الخلافات على السلطة والزعامة الدينية، حيث خرجت البهائية منها هي المنتصرة في النهاية. وقد تسربت البهائية إلى أذهان كثير من الناس في أثواب براقة وأساليب مختلفة، ولقد كان لهم دور بارز في مصر ونشاط أقلق الرأي العام في سنة 1972م، وكتب عنها حينذاك رجال الفكر في الصحف والمجلات. وتمت محاكمة البهائيين واتضح أنهم فئة خارجة على جميع الأديان السماوية، وتحت زعامة نبيهم المزعوم أو ربهم بهاء الله الذي حول الحج إلى المزارات البهائية في إسرائيل، واخترع له شريعة من أفكاره، وحوّل الكعبة إلى المكان الذي هو فيه، ولهم نشاط ظاهر في محاربة جميع الأديان وأهمها الإسلام، كما أن لهم نشاطاً خفياً ومنشورات تدعو إلى نبذ الإسلام في

البلدان التي يخافون فيها من بطش المسلمين بهم. ولهم شهور تخالف الشهور الإسلامية وعادات تخالف العقائد الإسلامية ومحافل وخلايا مندسة ومبثوثة بين صفوف المسلمين. ولقد حوربت البهائية واعتبرت عدوة الأديان جميعاً وحظر نشاطها في كل من مصر وتركيا وإيران بعد اطلاع علماء هذه البلدان على نوايا هذه الطائفة المجرمة عميلة الصهيونية العالمية، منذ أن تزعمها المازندراني الذي زعم لنفسه ألقاباً وصفات لا تليق إلا بالله عز وجل، تبعاً لشيخه الشيرازي الذي زعم قبل أن يقتل شر قتلة بأنه المظهر الإلهي، حيث حلت فيه الحقيقة الإلهية أتم حلول، وأنه أيضاً حقيقة كل نبي وقديس ورسول بل هو الله نفسه (¬1) . ثم جاء البهاء وأغرق في الزيارة على تلك الأوصاف كلها وزعم تلك المزاعم كلها، وزاد عليها ما جاد به خياله الواسع في التعالي، حيث زعم أن الباب نفسه إنما جاء هو وسائر الرسل للتبشير بمجيء البهاء، فهو الممثل الوحيد لبهاء الله عز وجل الذي هو متمثل به -تعالى عن إلحادهم (¬2) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: البهائية ص 119، نقلاً عن الكواكب الدرية ج1، بهاء الله والعصر الجديد ص 28 للدكتور جون اسلمنت (¬2) انظر: دراسات عن البهائية والبابية ص 21.

الفصل الثالث زعيم البهائية

الفصل الثالث زعيم البهائية 1- مؤسس هذه الطائفة يسمى حسين علي، وأبوه يسمى عباس بزرك النوري المازندراني. 2- ولد حسين علي النوري المازندراني في قرية من قرى المازندران في إيران تسمى نور، وقيل: ولد في طهران في سنة 1233هـ. وحين ظهرت البابية لم يكن هذا الرجل معتبراً من حروف ((حي)) التي نظمها الباب الشيرازي، ولا كان له ذكر مشهور في أول قيام البابية، وقد اعتنق البابية سنة 1260هـ وهو في السابعة والعشرين من عمره. وقد وجد في نفسه على الباب الشيرازي، إذ لم يجعله من حروف حي أي صفوة زعماء البابية، بل جعل أخاه يحيى صبح الأزل منهم، ولكن المازندراني استطاع كظم غيظه وأسرَّ ذلك في نفسه على الباب، إلا أنه ظل يتحين الفرص للظهور، ووجد فرصته حينما عقد البابيون مؤتمرهم في صحراء بدشت. حيث هيأ للمؤتمرين كل وسائل المتعة والترف، واستحوذ على قرة العين غانية البابيين، واستحوذت هي الأخرى عليه، وكانا أساس المؤتمرين وأهم البارزين فيه، إلا أن المازندراني كان يخفي نفسه في أول المؤتمر ليتحاشى الخصومة مع المؤتمرين، ولكنه ظهر في آخر المؤتمر ليقطف ثمرته حين كانت قرة العين- كما سماها الشيرازي- تصر على نسخ الشريعة الإسلامية بالشريعة

ثقافته

البابية. وحينما تأزمت الأمور بينهما وبين بقية المؤتمرين تدخل المازندراني لصالح قرة العين، وأخذ يقرأ سورة الواقعة ويفسرها بتفسيرات باطنية ويزعم لهم أن القرآن نفسه فيه إشارة قوية لنسخ شريعة الإسلام بشريعة الباب، فاجتمعت الكلمة على طاعة قرة العين التي جعلت نفسها بعد ذلك طائعة للمازندراني تمام الطاعة ولقبته على أحد الأقوال -بهاء الله- أو لقب نفسه هو بهذا اللقب، بعد أن تعاظم في نفسه (¬1) ، أو لقبه اليهود لتحقيق ما في كتبهم من ذكر بهاء الله ورب الجنود الذي يقيم دولتهم (¬2) ، عندما يأتي للإيحاء بأن مجيء المازندراني يعتبر من جملة الإرهاصات لمجيء رب الجنود إله إسرائيل بزعمهم. ثقافته: تلقى المازندراني العلوم الشيعية والصوفية وهو صغير، وتزعم كتب البهائية أنه كان يتكلم في أي موضوع، ويحل أي معضلة تعرض له ويتباحث في المجامع مع العلماء، ويفسر المسائل العويصة الدينية، وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره (¬3) . وكان شغوفاً بما يتعلق بالمهدي وأخبار المهدي وقراءة كتب الصوفية والفلاسفة والباطنية، إلا أنه حينما عظم في نفسه وجاء بتخريفاته الإلحادية زعم أنه أمي لا يعرف شيئاً، ولكن الله ألهمه العلوم والمعرفة جميعاً (¬4) ، وكتب ما كتب من أقوال تعد من أشنع الكذب- وكان محباً مائلاً لأقوال الصوفية وشطحاتهم- إلى أفكار البراهمة والبوذيين والباطنية والمانوية، وغير ذلك من ¬

(¬1) انظر: حقيقة البابية والبهائية ص 105 الفصل الأول. (¬2) انظر: البهائية تاريخها وعقيدتها ص 324. (¬3) البهائية نقد وتحليل ص 8، نقلاً عن بهاء الله والعصر الجديد ص 32. (¬4) انظر: المصدر السابق وما نقله من كتب البهائية ص 7-9.

عمالته هو وأسرته لأعداء الإسلام والمسلمين

المذاهب التي كان يغترف منها مدعياً أن كلامه وحي وظهور لكلام الله تعالى، ولقد ذكر العلماء أقوالاً شنيعة في تناقض المازندراني حين ادعى أنه أمي مع ما لفقه في كتبه من أقوال الناس (¬1) . عمالته هو وأسرته لأعداء الإسلام والمسلمين: كانت أسرته عميلة وفية للروس، فقد كان أخوه الأكبر كاتباً في السفارة الروسية، وكان زوج أخته الميرزا مجيد سكرتيراً للوزير الروسي بطهران. ولذلك كان الجاسوس الروسي كنييازد الجوركي من بناة البابية الأوائل، وليس الروس وحدهم في هذا الميدان؛ بل إن اليهود أيضاً دخلوا في خدمة هذه النحلة أفواجاً مع شدة تعصب اليهود لدينهم ولجنسهم واحتقارهم الآخرين. وهدفهم واضح من هذه المسارعة وهو دعم هذه النحلة ظاهراً ليوجهوها لخدمتهم، كما تم ذلك بالفعل وبالتعاون أيضاً مع سائر أجهزة التبشير العالمي. وإلا فمتى كان اليهود يحبون خدمة الإسلام والمسلمين على حد من يزعم أن البهائيين مسلمون. لقد أدرك اليهود وهم يسعون حثيثاً لامتلاك دولة باسمهم أن أي دعوة تقبل فكرة محو الجهاد في سبيل الله تعالى وتستهجنه أدركوا أن هذه الدعوة هي إحدى الروافد التي تمدهم بالقوة. فكيف إذا كانت تلك الدعوة إنما تقوم من الأساس على أكتاف اليهود وعلى تجمعهم في فلسطين، فإن المازندراني نفسه قال في الوحي الذي زعمه: ((قل تالله الحق إن الطور يطوف حول مطلع الظهور، والروح ينادي من في ¬

(¬1) انظر: كلامه في المصادر التي جمعها إحسان إلهي رحمه الله في كتابه البهائية ص 10 - 13.

الملكوت هلموا وتعالوا يا أبناء الغرور. هذا يوم فيه سر كرم الله شوقاً للقائه وصاح الصهيون قد أتى الوعد وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله المتعالي)) ، وهذا النداء إنما هو موجه إلى اليهود ليعودوا من كل مكان إلى امتلاك فلسطين وغيرها، وإقامة دولتهم، وجاء ابنه أو عبده -كما سمى نفسه- عباس عبد البهاء فأجلى الحقيقة بما لا وضوح بعده فقال: ((وفي زمان ذلك الغصن الممتاز، وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وتكون أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة)) . إن هذا الكلام ليس إخباراً بالمغيبات ولكنه إخبار عن مؤامرات محكمة لعودة اليهود وتجمعهم في الأرض المقدسة، عاش عبد البهاء ووالده من قبله أول خيوط تنفيذها ولا يزالون إلى اليوم يعملون على إخراجها ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً. وتاريخنا في هذا العصر إنما هو شاهد على نجاح تلك المخططات بكل وضوح، وشاهد على جرم البهائية ومسايرتها لليهودية، وشاهد على حقدهم على الإسلام وأهله. لقد امتزجت أفكار البهائية بأفكار اليهود وأصبح لليهود فضل كبير على عميلهم البهاء، فقد آزروه، وآووه، وهيئوا السبل لنشر أفكاره. وكان على البهاء أن يرد جميلهم هذا بأن يضم فكره إلى أفكارهم، ويوجه لهم عقول الناس لتقبلهم وترضى باستعمارهم، ونجد ذلك متمثلاً في الأمور الآتية: 1- ادعى اليهود أن الموجود بأيديهم في الكتاب المقدس حسب زعمهم من البشارات بنبي يبعث بعد موسى وعيسى ليس هو محمداً عليه السلام؛ بل إن

تلك البشارات إنما تشير إلى نبي يبعث في القرن التاسع عشر، القرن الذي ظهر فيه البهاء، وأن تلك البشارات انطبقت تماماً على البهاء في زمنه، وأن نصب خيام البهاء على جبل الكرمل قد أشارت إليه التوراة والإنجيل. وأن اليهود في زمن النبي عليه السلام إنما أقروا له (¬1) بالنبوة واعترفوا بإثبات البشارات به تملقاً واتقاء له كما يفترون، وهذا هو السبب في زعمهم الذي قوى في الرسول عليه السلام الاعتقاد بأن أهل الكتاب أخفوا البشارات التي جاءت فيه. أي حينما لم يصارحوه بأن هذه البشارات إنما تنطبق فقط على رجل سيأتي فيما بعد ذلك وليس هو محمداً صلى الله عليه وسلم. ومن هنا قام الميرزا حسين المازندراني مدافعاً عن اليهود والنصارى ومبطلاً ما وضحه القرآن من تغيير أهل الكتاب للنصوص المثبتة لنبوة محمد عليه السلام وإخفائهم لها. فزعم أن هذا الفهم لتحريف أهل الكتاب إنما هو فهم الهمج والرعاع-يقصد علماء المسلمين- وأن التصحيح كما يزعم هو أن التحريف الذي وقع فيه اليهود إنما هو تفسيرهم للفظ الدال على نبوة محمد عليه السلام إلى تفسير آخر لا يدل عليه، وإلا فهم حسب رأيه لم يغيروا ولم يبدلوا. ثم شبه حال اليهود في امتناعهم عن التسليم بصفات الرسول محمد عليه السلام بحال المسلمين الذين لم يؤمنوا بدعوة البهاء، وفسروا النصوص لغير صالحه وصالح دعوته الممقوتة. وهذه الفرية الكاذبة يعرف بطلانها كل من شرح الله صدره وآمن بما جاء في القرآن الكريم وتفهم معاني نصوصه، فيعرف أن ما ذكره عن تحريف أهل ¬

(¬1) أي الذين آمنوا واعترفوا بنبوته وبثبوته البشارات والوصف الذي له عليه السلام في كتبهم

الكتاب وتغييرهم له بحسب أهوائهم هو تفسير منه حسب هواه وفجوره. 2- هيأ اليهود لعميلهم في عكا قصر البهجة الذي صار بعد ذلك مهوى أفئدة البهائيين وقبلتهم وكعبتهم الجديدة حسب أمر الله وإرادته كما يزعم البهاء. 3- اشتمل كتابه الأقدس على بشارات للصهاينة واستيطانهم في فلسطين وصاغ ذلك بعبارات توحي بأنه من علم الغيب وليس من معرفته بسر المؤامرات. 4- دعا في كتابه المذكور إلى تحريم الجهاد وذلك بتحريم حمل آلات الحرب مطلقاً، وأن الشخص خير له أن يكون مقتولاً لا قاتلاً، فلا جهاد في عهده لليهود ولا لغيرهم. ولتمييع شعلة الجهاد في نفوس الرجال أباح لهم لبس الحرير في نص واحد دل على تحريم الجهاد وإباحة لبس الحرير، وهذا النص ظاهر الدلالة على الدعوة إلى الميوعة والخمول فإذا كان الرجل يلبس الحرير ويظهر النعومة ولا يحدث نفسه بالجهاد بل بالهرب منه فأي رجولة تبقى له بعد هذا وبعد لبسه الحرير (¬1) ، فحال مثل هذا أخطر من اليهود. ولم تقتصر عمالة المازندراني لليهود فقط، فقد ظل على اتصال وثيق بالدول الأجنبية المعادية للإسلام، وعلى رأس هؤلاء الإنجليز كبار المجرمين العالميين الذين نكبوا المسلمين بما لم يصل إليه أحد غيرهم، لقد عرف الإنجليز -كما عرف اليهود- أن قيام حركة المازندراني وانتصارها إضافة جديدة إلى رصيدهم من الأسلحة الفتاكة بالعالم الإسلامي. ¬

(¬1) انظر: كتاب قراءة في وثائق البهائية ص 89 عنوان حلف الشيطان.

وقم أتم عبد البهاء ما كان أسسه الطاغوت الكبير من خدمة الإنجليز، فلقد منح الإنجليز عبد البهاء وسام الإمبراطورية البريطانية في احتفال أقامه الحاكم البريطاني ((أللنبي)) في بيته وألقى كلمة شَكَرَ فيها عبد البهاء وأنعم عليه بلقب ((سير)) ، فكان يدعو لهم بالنصر والتأييد ظاهراً وباطناً. ومن هنا فلا عجب حين تعلم أن الإنجليز قد خططوا ونفذوا بكل ما في وسعهم لقيام الحركة البهائية، بالأموال وبالتأييد المعنوي، وبتسهيل تنقل البهائيين، وتحذير كل من يفكر في صد طغيانهم، على غرار ما فعلوه مع عميلهم في الهند غلام أحمد، لأن الهدف واحد والغاية واحدة لكلا العميلين. وفي دراسة القاديانية نصوص كثيرة عن هذا العميل القادياني وتبجحه بخدمة الإنكليز، وإخلاصه لهم ظاهراً وباطناً، وأن عقيدته ستتسع باتساع ملك بريطانيا، وقد أكد هذا المفهوم هو وخلفاؤه كلهم، ولا يزالون عليه إلى يومنا الحاضر. ولم يكتف المازندراني بالعمالة للإنجليز واليهود؛ بل كان على اتصال وثيق بالروس، وكانوا يقدمون له المساعدة والرعاية بسخاء، ولا أدل على ذلك من وقفة السفارة الروسية حين تحمست لحمايته عندما عزمت الحكومة الإيرانية على تقديمه للمحاكمة، حينما قامت محاولة من جانب البابيين لقتل الشاه انتقاماً لقتل زعيمهم علي محمد الشيرازي. فاتهم النوري بالتآمر على ذلك فآوته السفارة وحذرت ملك إيران ناصر الدين شاه من المساس به؛ بل وقدمت السفارة الحجج على براءة عميلهم من تلك المؤامرة الفاشلة التي دبرها زعماء البابية لاغتيال الملك. ويتضح من اعتناء الروس به أنهم اختاروه لعمالتهم بعد قتل الشيرازي

واشتروا ضميره، وقرروا أن يجعلوه رئيساً للبابيين بدل أخيه صبح الأزل الذي كان يقل عنه مكراً ودهاءً، ولأجل ذلك كان تنحية صبح الأزل عن المسرح وإقامة حسين المازندراني مقامه لما رأوا فيه من الدهاء والذكاء والمكر ومسايرة الأمور والمماشاة مع الأحوال والظروف. وحينما كان المازندراني في إيران كان وجوده هناك يشكل حركة خطيرة، ولهذا أحست الحكومة أن خطره يتزايد فطلبت من الحكومة العثمانية نقله إلى داخل الإمبراطورية التركية فنقل إليها، وبدأ يجهر بدعوته البهائية فعارضه أخوه صبح الأزل بعد أن أحس أنه يحتطب لنفسه ويريد إقصاء صبح الأزل، ومن هنا بدأ الشقاق بين الأخوين، وبدأ الميرزا حسين علي يدبر المؤامرات ضد المخالفين له، وبعد ظهور الخلاف بين الأخوين وأتباع كل منهما رأت الحكومة أن تبعد كل واحد عن الآخر فنفت البهاء إلى فلسطين ويحيى صبح الأزل إلى قبرص. فلقي حسين علي في فلسطين التأييد الكامل من اليهود الذين كانوا يحاولون في تلك الأثناء إقامة دولتهم وإسقاط الحكم العثماني. وقد تدرج المازندراني في دعواه، فبدأ يبشر بأنه هو خليفة الباب الشيرازي وحده ثم ادعى أنه هو الباب، ثم انتقل إلى دعوى أن الباب لم يأت إلا ليبشر به كما كان يوحنا مبشراً بالمسيح، ثم ادعى أنه هو نفسه المسيح الذي بشر عنه وأنه هو النبي والرسول إلى الناس. ولما وجد أذاناً صاغية لتلك الافتراءات لم يكتف بما ادعاه سابقاً؛ بل تاقت نفسه إلى دعوى الألوهية، وأن الله ظهر في صورته -تعالى الله عما يقول الظالمون. وكان إذا مشى في الطريق أسدل على وجهه برقعاً لئلا يشاهد بهاء الله

المتجلي في وجهه، وقد نشرت صورته في بعض الكتب مبرقعاً وكتابه الأقدس مملوء بالدعوة إلى ألوهيته وتصرفه في هذا الكون كما يريد، وزعم أن الرسل من أولهم إلى آخرهم لم يبعثوا إلا مقدمة بين يدي ظهوره المتمثل في ظهور الله تعالى قريباً من خلقه (¬1) . هذه بعض الأخبار التي ذكرها العلماء في كتبهم عن عمالة هذا الشخص والأدوار المرتبة التي عاشها هو وخلفاؤه في أحضان أعداء الإسلام، وفي وقت توالت فيه الضربات من كل جانب على الدولة التي كانت تمثل العالم الإسلامي، والتي كانت هي الأخرى تدنوا إلى نهايتها رويداً رويداً. في الوقت الذي نشط فيه حثالات الناس وكبراء اللصوص وأصحاب المطامع والأخيلة المريض وساسة الشر والحقد لاقتسام تركة الرجل المريضة في هذا الجو الخانق والظلام الحالك، استطاع هؤلاء أن يصطادوا في الماء العكر؛ أي في غفلة من الحراسة الإسلامية وانشغال الدولة الإسلامية بمشاكلها التي افتعلها أعداء الإسلام ليشغلوهم بها في عقر دارهم. ولقد ظهر لي من خلال دراستي عن البهائية وأقوالهم ومواقفهم، والتفاف اليهود حول البهاء المازندراني ومساعدته ونشر أفكاره وقيام بعض كبراء اليهود بتأليف الكتب في تثبيت عقائد البهائية والدعاية لها-ظهر لي من هذا وغيره رأي لم أجد من أستند إليه في ذكره، ولكن لا يمنع أن أذكره ليكون محل لفت نظر؛ وهو أن أصل البهاء لا يستبعد أن يكون يهودياً من يهود إيران استناداً إلى ما سبق، وإلى مسارعة اليهود للدخول في نحلته وسماحهم له أن ¬

(¬1) انظر: البهائية نقد وتحليل ص 19- 26، 309- 352، وانظر: حقيقة البابية والبهائية ص 171 - 185، وانظر: البهائية وتاريخها وعقيدتها ص 323- 334، ولقد توسع غفر الله له في إبراز الصلة الخبيثة بين اليهود وبين هذه الطائفة بالأدلة الدامغة، وأبطل فيها مكر البهائية وتظاهرهم بالإسلام، وانظر: خفايا الطائفة البهائية ص 110، 117، 119.

وفاة المازندراني

يتلاعب بنصوص كتبهم المقدسة، ويفسرها بأنها بشارة به ثم يؤيده علماؤهم على هذا الفهم، مع شدة تعصب اليهود ضد الجوييم أو الأمميين كما يسمونهم، ولهذا ساعده اليهود بكل قوة، ونشروا أفكارهم بكل وسيلة. وفاة المازندراني: وبعد أن بلغ الخامسة والسبعين من العمر أصابته الحمى، وقيل: إنه جن في آخر حياته، وكان ابنه عباس عبد البهاء يعمل كحاجب له فاستأثر بالأمر وأغدق على الجماعة الأموال فأحبوه. وحين اشتدت الحمى بمدعي الألوهية جاءه القدر المحتوم فمات في سنة 1309هـ. ودفن قرب منزله في عكا وقيل في حيفا، وكان قد زعم أن غروب شمسه أي موته لم يكن إلا لحكمة، وأنه مع أتباعه يراهم ويؤيدهم وينصرهم بالملائكة المقربين، وقد أوصى بالخلافة من بعده لابنه الأكبر عباس، وبعده للأصغر منه الميرزا محمد علي، وكتب بذلك كتاباً وختمه بختمه، إلا أن الأمور لم تسر على هذا الوجه. فقد استولى عباس على الأمر كله ولم ينفذ وصية والده، ونشبت بين الأخوين خلافات هائلة أعادت إلى الأذهان تلك المؤامرات التي قام بها والدهما مع أخيه صبح الأزل، وما حصل بينهم من المهاترات والنزاعات الشديدة، فكان هذا خير خلف لتنفيذ خيانة سلفه بتمامها، وهذا لا غرابة فيه، ذلك لأن أساس هذه الملة إنما قام على الخيانة والغدر والكذب من أول يوم. وعن موت هذا الإله المزعوم يقول الدكتور جون أسلمنت: قضى بهاء الله أواخر أيامه على الدنيا بكل هدوء وسكون، وصعد -ولم يقل ومات- بعد إصابته بالحمى في 28 مايو سنة 1892م، في سن الخامسة والسبعين.

وقال الجلبائيجاني: ((وصعد الرب إلى مقر عزه الأقدس الأعلى، وغابت حقيقته المقدسة في هويته الخفية القصوى، وكانت هذه الحادثة في ثاني شهر ذي القعدة سنة 1309هـ، وسادس عشر من شهر مايو سنة 1892م)) (¬1) . قال عبد الرحمن الوكيل في بيان معنى كلام الجلبائيجاني: ((يشير إلى أن روح الله التي زعم أنها كانت حالة في البهاء عادت إلى حالة التجرد من الجسمية)) (¬2) . وقال عن هلاكه بجرثومة الحمى: ((ولم يستطع رب البهائية الأكبر -وحوله كل تلك القوى- أن يصمد في حومة ذلك الصراع الرهيب الذي دار بينه وبين خلق دقيق ضعيف، كانت تزعم البهائية أنه من صنع ربها الملعون فانهار فاغر الفم من الرعب ... )) إلى أن يقول عن دفن جثته الخبيثة: ((ثم زجوا بها في ظلمات القبر لخلق آخر يفترسها السوس الشره والدود المنهوم، حتى هذه العظة التي ترغم العقل والحس على السجود لم تجد طريقاً إلى قلوب البهائية لأنها غلف، فظلوا ينتظرون ربهم على باب قبره، وظلوا ينتظرون أن يطعمهم والدود يطعمه)) (¬3) . ومما أحب التنبيه عليه أن الدكتور أحمد محمد عوف قد أخطأ في بيان هلاك المازندراني حين علل ذلك بأنه مات مقتولاً على يد أتباع أخيه صبح ¬

(¬1) الحجج البهية ص 13، نقلاً عن المصدر السابق. (¬2) البهائية تاريخها وعقيدتها ص 144. (¬3) المصدر السابق ص 144 - 145.

الأزل، وذلك في قوله: ((وهناك قتل أتباع صبح الأزل البهاء حيث دفن في عكا عام 1892م، وبعد وفاة المازندراني خلفه ابنه عباس أفندي، وكان المازندراني قد أوصى كما تقدم أن يتولى الأمر بعده ابنه عباس، ثم من بعده محمد علي ولكن عباساً استأثر بالأمر فحصل بينهما شقاق وخلاف شديد وانقسم البهائيون حينئذ إلى فرقتين: 1- الفرقة الأولى، وهي الموالية لعباس أفندي، وتسمى العباسية. 2- والفرقة الثانية، وهي الموالية لمحمد علي بن حسين المازندراني، وتمسى الموحدون، وصار بعد ذلك مجموع فرق البهائية بعد حدوث الانشقاقات بينهم أثر شدة المنازعات خمس فرق هي: 1. البابية الخلص. 2. الأزلية أتباع صبح الأزل. 3. البهائية. 4. العباسية. 5. الموحدون. وقد آلت زعامة البهائية بعد عباس أفندي عبد البهاء إلى ابن ابنته، وهو شوقي أفندي؛ لأن عبد البهاء مات ولم يخلف غير أربع بنات فخلفه شوقي بوصية منه ولقبه آلة الله وولي أمر الله، ثم أوصى عبد البهاء بإمامة البهائية إلى

أولاد شوقي الذكور دون الإناث، لكن شوقي مات بسكتة قلبية في لندن ولم يخلف لا ذكوراً ولا إناثاً. وقد اشتهر من البهائيين رجال أمثال الملا محمد ابن الملا محمد رضا الجليائيجان الملقب بأبي الفضائل الذي لقبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل بأبي الرذائل. ومنهم إبراهيم جورج خير الله الذي أسس مركز البهائية في شيكاغو، ومنهم جمشيد ماني صاحب طائفة السماوية، ومنهم أحمد سهراب وغيرهم من كبار البهائية، كما اشتهرت بعض النساء ومنهن امرأة إنجليزية تسمى ((لورا كليفورد بارني)) وأخرى أمريكية تسمى ((مارثاروث)) ، وكان لهما جهد كبير في نشر البهائية. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الرابع دعايات للبهائيين

الفصل الرابع دعايات للبهائيين البهائية -كما هو واضح من تعليمهم ومعتقداتهم- مذهب خارج عن الإسلام، لا يتفق مع الإسلام في شيء، بل ولا مع تعاليم الديانات السماوية كلها، بعد أن وصل أتباعه بالمشئوم حسين المازندراني إلى درجة الألوهية حيث دعاهم فاستجابوا له. ويعود تأسيس هذا المذهب إلى الجهود التي بذلها أعداء الإسلام في سبيل نجاحه، حين احتضنته اليهودية العالمية لتجعل منه معولاً هداماً، وشوكة مشغلة للمسلمين والعرب بخصوصهم؛ لئلا يلتفتوا إلى أطماعهم في استعمار فلسطين وما يتبعها حسب الخارطة المرسومة عندهم لابتلاع أراضي المسلمين وإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. ومن هنا فإن تعاليم البهائية كلها قائمة على نسخ الشريعة الإسلامية حسب ما قرره أقطاب البابية في مؤتمر بدشت مستبدلين عن الشريعة الإسلامية أفكارهم الحاقدة، ومستبدلين عن نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم الملحد المازندراني، ومستبدلين بالقرآن الكريم كتاب ((الأقدس)) ، الذي زعم المازندراني وأتباعه أنه أفضل من القرآن الكريم، بل ومن كل الكتب السماوية. وتعاليمهم كثيرة بسبب إصرارهم على نسخ جميع الأديان وبقاء البهائية فقط، ولهذا طرقوا كل باب وظنوا أنهم قدموا للبشرية ما يصلحهم في دينهم

ودنياهم، فكانوا كما قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬1) . وهذه الآيات العظيمة تنطبق تماماً على البهائية؛ فهم مفسدون ويزعمون أنهم مصلحون، وهم سفهاء ويظنون أنهم أوتوا علماً لم يؤته أحد قبلهم، وهم كذلك من أمهر الناس في النفاق والتملق والمراوغة، يعطون كل شخص يجدونه ما يحبه من الأقوال والأفعال، وقد أخبر الله عز وجل أن من كانت هذه صفته فإن الله يمد له في طغيانه إلى أن يصبح أضل من الأنعام ثم يجد بعد ذلك جزاء كل ما قدم. وفيما يلي نذكر أهم دعاياتهم التي ينادون بتحقيقها ليضمنوا للبشر السعادة فيما يزعمون، وهي: 1- وحدة جميع الأديان والالتقاء على دين واحد، لتزول الخلافات بين الناس، ومن المعروف بداهة أن ذلك الدين سيكون الدين البهائي بطبيعة الحال. 2- وحدة الأوطان: بحيث تنمحي المفاهيم الوطنية ولا يبقى في الأذهان إلا الوطن الذي سيختاره المازندراني لهم. 3- وحدة اللغة: بحيث لا يتكلم الناس كلهم بأي لغة لا محلية ولا عالمية إلا اللغة التي سينتخبها لهم المازندراني. ¬

(¬1) سورة البقرة: 13- 15.

1- وحدة الأديان

4- السلام العام والتعايش الهادئ بين كل الشعوب: كما تتعايش الخرفان، وذلك إذا طبقوا السياسة البهائية. 5- المساواة بين الرجل والمرأة: بحيث يصبح المجتمع كله في رتبة واحدة لا قوامة لأحد على آخر، فلا فرق بين الرجل والمرأة الكل عبيد البهاء. وهذه اللغة البارعة منه تدل على مدى إجادته للتملق والنفاق الذي لم يحققه هو نفسه في حياته ولا خلفاؤه من بعده كما سيأتي في مناقشة هذا الطلب المستحيل. وحينما قرر البهائيون هذه الأمور فرحوا فرحاً شديداً وظنوا لجهلهم أنهم اكتشفوا للعالم باباً إلى السعادة ما كانوا يعرفون الاتجاه إليه، وظنوا أن هذه الخيالات التي لا يمكن على الإطلاق أن تتم ظنوها شيئاً فإذا بها سراب بقيعة، أول ما فيها تريد أن تحقق شيئاً يريد الله خلافه، لأنه جعل الخلق على حال لا تتحقق فيها تلك الأحلام البهائية كلها. وهم يعرفون هذا تماماً ولهذا فقد كذَّبت أفعالهم أقوالهم وتناقضوا في هذا تناقضاً فاحشاً وظهرت الحقيقة التي يهدفون من وراء مناداتهم بتلك الأسس، فإذا بها فخ بهائي لاصطياد العوام من الناس، وللتنفيس عن حقدهم الشديد على العالم والرغبة في السيطرة عليه بتلك الوسائل كلها، بما فيها تملق ونفاق المرأة وخداعها بوعود البهائية البراقة. 1- وحدة الأديان: أما الهدف الأول، وهو زعمهم أن الأديان واحدة، وأن الناس يجب أن ينبذوا كل الأديان ثم يجتمعون على دين واحد. لعل مما يوضح ماهية هذا الدين هو ذلك الإصرار من البهاء وأتباعه على

أن جميع الأنبياء إنما جاءوا للتبشير بظهور هذا البهاء والاحتفاء به وبسخافاته، وأن الله تعالى قد تجلى في طلعته، وأنه هو مظهر الله الأكبر والساعة العظمى والقيامة والبعث، وأن الالتزام به وبدعوته هي الجنة، وأن النار هي ترك اتباعه. لقد كان المازندراني من أشد الناس تشبعاً بمبادئ الصوفية الإلحادية، فهو من كبار القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد التام. ومن هنا فإنه لم ير أي مانع من دعوى الألوهية. ومن المعلوم أنه ما دام البهاء هو مظهر الله في زمنه -حسب سخافاته- فإنه لا دين ولا معرفة، ولا حق ولا باطل، ولا حلال ولا حرام إلا ما جاء عن طريقه، والنتيجة من كل ذلك أن الناس يجب أن يجتمعوا على الدين البهائي فقط، ولهذا فهو يلح في تقرير وحدة الوجود بينه وبين الله، وأن الأديان كلها دين واحد، وأن الذي يمثل الله في تجليه في عصر البهائية إنما هو البهاء نفسه، وما دام الله هو البهاء فيجب أن يبقى الدين هو ما يريده البهاء. وأقوال البهاء في تقرير ألوهيته كثيرة جداً ملأ بها كتابه ((الأقدس)) نكتفي بذكر الأمثلة الآتية: ((قل: لا يرى في هيكلي إلا هيكل الله، ولا في جمالي إلا جماله، ولا في كينونتي إلا كينونته، ولا في ذاتي إلا ذاته، قل: لم يكن في نفسي إلا الحق ولا يرى في ذاتي إلا الله)) (¬1) ويقول أيضاً: ((يا قوم طهروا قلوبكم ثم أبصاركم لعلكم تعرفون بارئكم في هذا ¬

(¬1) كتاب الأقدس ضمن خفايا الطائفة البهائية ص 126.

القميص المقدس واللميع)) (¬1) . ويقول مخاطباً البابيين وغاضباً عليهم حين لم ينضموا تحت لوائه: ((يا أهل النفاق قد ظهر من لا يعزب عن علمه شيء)) (¬2) . وقال في استفتاحه لكلماته التي سماها فردوسية: ((كلمة الله في الورق الأول)) . وأما أقوال ابنه عبد البهاء عباس، وأما أقوال كبار أصحاب البهاء فحدث عن كثرتها ولا حرج، كلها تؤكد ألوهية المازندراني وأن له طبيعتين ناسوتية ولاهوتية، ولا انفصال لإحداهما عن الأخرى، وأنه المثل الحقيقي لبهاء الله تعالى فحينما وجد البهاء وجد بهاء الله متمثلاً فيه أتم تمثيل، وهذا ما جعله يضع برقعاً على وجهه لئلا يرى كل أحد بهاء الله. وقد عزمتُ على كتابة تلك النصوص عن البهائية في تقريرهم ألوهية زعيمهم، إلا أنني فترت عن إثباتها هنا، أولاً لاشمئزاز نفسي عنها، وثانياً لأنها كلها تهدف إلى إثبات ألوهية ذلك المعتوه، وإذا كان كتابه ((الأقدس)) غير موجود هنا حالياً، فقد كاد أن يكون بكل يسر وسهولة من خلال ما كتبه العلماء عن البهائية وعقائدهم وكتبهم. بل توجد كتب صورت ذلك الكتاب كما هو؛ مثل كتاب البهائية الفكر والعقيدة تأليف صالح كامل، ومثل كتاب خفايا الطائفة البهائية للدكتور أحمد محمد عوف، حيث نقل الأقدس كله، وكذا ما نقله الشيخ إحسان إلهي رحمه الله، في كتابه البهائية نقد وتحليل، وما كتبه الشيخ عبد الرحمن ¬

(¬1) مبين للمازندراني ص30، نقلاً عن البهائية نقد وتحليل ص71. (¬2) إشراقات للمازندراني ص 144، نقلاً عن البهائية تاريخها وعقيدتها ص 235، 236.

الوكيل رحمه الله، وغير ذلك من الكتب المتوفرة في المكتبات، ولهذا فإني لا أظن أن هناك حاجة إلى إثبات تلك النصوص الإلحادية التي تدمغ البهائيين في اعتقادهم أن زعيمهم المازندراني هو الله، كيف وهم أنفسهم يصرحون بربوبيته بدون أن يجدوا حرجاً في ذلك؟! أما زعمهم أنهم السابقون إلى تقرير وحدة الأديان والاجتماع على الدين الحق والأخوة الصادقة واحترام كل شخص للآخر في إطار الإيمان بالله تعالى وبرسله، فلا يجهل أحد من المسلمين أن هذه الفكرة ليست من بنات أفكار المازندراني ولا من وحيه، وإنما هذا مبدأ إسلامي قرره الله في القرآن الكريم والنبي العظيم، وليس للبهاء فيها إلا تلك العبارات التي أراد أن يحاكي بها ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن الله تعالى قد أمر نبيه أن يخاطب أهل الكتاب بالرجوع إلى الحق والتعمق في استخراجه فقال لنبيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1) . وهذا الطلب قد جعله الله تعالى في إطار الاقتناع واللين فقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (¬2) . بل وأكد عز وجل على البر والعدل تجاه المخالفين للدين الصحيح، ما داموا لم يواجهوا المسلمين بأذى فقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬3) . فهل جاء المازندراني بمثل هذا العدل والتسامح مع المخالفين إلى حين ¬

(¬1) سورة آل عمران: 64. (¬2) سورة البقرة: 256. (¬3) سورة الممتحنة: 8.

إقناعهم بالحق أم أَمَرَ فوراً أن يُقتل المخالف لمبادئه، وأن تحرق الكتب الأخرى غير كتبه، وألا ينظر الناس إلا في جماله وبهائه وكتبه، وألا يفكروا إلا فيه وفي رضاه لا غير؟ نعم، لم يأت في الحث على وحدة الأديان إلا بمثل تلك السخافات التي أراق من أجلها كثيراً من الدماء هدراً، وذم لأجلها كل الأنبياء والرسل وكل المصلحين لقصورهم في زعمه عن بيان حقيقته ودعوته المشؤومة، حيث كان أهم ما أرسلوا به إنما هو التبشير بظهور البهاء. وبالرجوع إلى مناداة البهائية بوحدة الأديان نجد أن الإسلام قد حث وأبلغ في وجوب التمسك بالدين الحنيف المنزل من رب العالمين، بحيث لو طبقه البشر لسعدوا في الدنيا والآخرة. فإن كل ما فيه خير ويدعو إلى خير، وليس فيه تناقض ولا عصبية بغيضة، ولا أفكار رديئة مثل ما هو الحال في البهائية التي تدعو الناس كلهم إلى ترك دينهم والتمسك بعقيدة البهاء، التي هي مملوءة بالأفكار القاصرة والآراء المتناقضة والعصبيات الشنيعة، لأنها ملفقة من شتى الأفكار من مسيحية، ويهودية ومجوسية وإسلامية وصوفية إلحادية. فكيف يتفق الناس على ديانة هذا أقل شأنها؟ بل كيف يتفقون على دين لم يوحد بين أصحاب المذهب نفسه! فإن العداوة الملتهبة بين البابيين والبهائيين، بل وبين الأخوين المازندراني وصبح الأزل لا ينساها أحد، وهنا يصح قول الناس: فاقد الشيء لا يعطيه. وقد ظن حسين علي المازندراني حين أمر أتباعه أن يتفننوا في النفاق ومجاملات الآخرين فيصلوا مع المسلمين، ويدخلوا الكنيسة مع النصارى، ويدخلوا في محافل اليهود، وأن يتوددوا إلى الهندوس في معابدهم -ظن أن هذا

النفاق البغيض هو البداية إلى تحقيق وحدة الأديان فكانت النتيجة عكس ما أراد. فإن الناس حين كانوا يشاهدون عبد البهاء في كل مكان مع المسلمين ومع النصارى ومع اليهود ومع الهندوس ومع كل صاحب ملة عرفوا تماماً أن المقصود من وراء ذلك إنما هو الزعامة العالمية وهدم كل الأديان، وأن تلك التحولات إنما هي النفاق بعينه، بل والتخبط والاضطراب الفكري. لأن الجمع بين المتناقضات ليس من فعل الإنسان السوي الذي يحترم مبدأه ونفسه فضلاً عن من يريد قلب الأمور وإصلاح المجتمع وتوحيد أفراده على حسب ما ترى من ضرورة ذلك إذا كان فعلاً مقتنعاً بمبدئه وصلاحيته للأمة. لقد اهتم البهائيون والبابيون أيضاً بمحاربة الإسلام والمسلمين اهتماماً شديداً، وسبوا تعاليم الإسلام بأشد السباب، ومن ذلك ما جاء في الإيقان للمازندراني تسمية المسلمين بالهمج الرعاع حيث قال: ((انقضى ألف سنة ومائتان وثمان من السنين من ظهور نقطة الفرقان -أي الرسول صلى الله عليه وسلم -، وجميع هؤلاء الهمج الرعاع يتلون الفرقان في كل صباح، وما فازوا للآن بحرف من المقصود)) (¬1) . ويقول أيضاً في كتاب له يسمى مجموعة الألواح محذراً البهائيين عن الاجتماع بالمسلمين: ((إياك أن تجتمع مع أعداء الله في مقعد، ولا تسمع منه شيئاً ولو يتلى عليك من آيات الله العزيز الكريم؛ لأن الشيطان قد ضل أكثر العباد بما وافقهم في ذكر بارئهم بأحلى ما عندهم، كما تجدون ذلك في ملأ المسلمين بحيث يذكرون الله بقلوبهم وألسنتهم ولا يعملون كل ما أمروا به، وبذلك ضلوا ¬

(¬1) الإيقان ص 112، نقلاً عن البهائية نقد وتحليل ص 96، ويجب التنبيه على أن الإيقان فيه نزاغ لمن هو؟ هل هو للمازندراني حسين كما يدعي؟ أم هو لأخيه صبح الأزل كما يدعي أيضاً؛ لأن كل واحد يدعيه لنفسه.

وأضلوا الناس إن أنتم من العالمين)) (¬1) . كما أن دعوتهم إلى توحيد الأديان ثم قصر ذلك على ديانتهم فقط يعتبر من أقوى الأدلة على كذبهم في مناداتهم باتحاد الأديان والتسامح معها، فالمازندراني يقول في كتابه ((الأقدس)) الذي يعده ناسخاً للقرآن الكريم: ((والذي يتكلم بغير ما نزل في الوحي -أي وحيه في كتابه المذكور- أنه ليس مني، إياكم أن تتبعوا كل مدع أثيم)) (¬2) ، ويقول أيضاً: ((طوبى لم يشهد به الله وويل لكل منكر كفار والذي أعرض عن هذا الأمر إنه من أصحاب السعير)) (¬3) ، ووصل الحال بالمازندراني أن أصدر أمراً إلى جميع من يسمع ويرى ألا يرى ولا يسمع إلا المازندراني ويترك جميع ما في هذا الكون إذا أراد النجاة-على حد زعمه- فهو يقول: ((يا صاحب العينين أغمض عينيك عن العالم وأهل العالم كله وافتح عينيك علي وعلى جمالي المقدس)) (¬4) ، ولأجل تنفيذ هذا التعصب ضد المخالفين للبهائية كان البهائيون يمحون كتب مخالفيهم، خصوصاً كتب المسلمين التي كانوا يتلفونها بكل حقد وغيظ ليتحقق لهم ما يؤملون من إخراج المسلمين عن دينهم. والله متم نوره ولو كره الكافرون. ولم ينخدع المسلمون -ولله الحمد- بهذه الدعوى التي يروجها البهائيون فإن الدين الإسلامي الحنيف قد حث على الاجتماع على العقيدة الصحيحة الربانية بطريقة تكفل الخير للجميع، وتهديهم إلى سواء السبيل بأتم بيان وأحسن عدالة وأكملها إلى نهاية الكون. ¬

(¬1) مجموع الأرواح ص 360، 361، البهائية ص 97. (¬2) الأقدس نقلاً عن البهائية نقد وتحليل ص 99. (¬3) المصدر السابق. (¬4) كلمات مكنونة للمازنداني ص4، 5 البهائية ص 100.

2- وحدة الأوطان

2- وحدة الأوطان: أما دعوتهم هذه إلى وحدة الاوطان فمعناها أن العالم يجب أن ينتمي كله إلى وطن واحد، وأن ينتمي إلى جزء من الأرض متعصب رديء صاحب خرافة ووهم، لأن الشريعة البهائية قد طلبت أن تكون الأرض وطناً واحداً لجميع العالم، ويجب أن تنمحي الحدود بين البلدان ودون النظر إلى أي اعتبار، وأن يتعايش الناس فيها دون النظر إلى أي اعتبار سياسي أو اجتماعي. فيجب على كل شخص أن يحب الأرض كلها ولا يفضل وطناً على آخر؛ فالعالم وطن واحد لكي يلتقي الناس على الحب والولاء المشترك، ولكن لمن سيكون هذا الولاء المشترك؟ إنه بدون أي تفكير سيكون للبهاء وأتباعه، ومن هنا أخذوا يقررون القول بوحدة الأوطان ويذمون كل من يحاول أن يذكر مفهوماً غير هذا. 1. قال أسلمنت: ((ومن التعصيبات الرديئة التي تلحق بالتعصب الجنسي، التعصب السياسي أو الوطني، فقد حان الوقت لأن تندمج الوطنية الضعيفة ضمن الوطنية العمومية الكبرى التي يكون فيها الوطن عبارة عن العالم بأجمعه، فيقول بهاء الله: قد قيل في السابق: ((حب الوطن من الإيمان)) (¬1) ، وأما في هذا اليوم فلسان العظمة ينطق ويقول: ((ليس الفخر لمن يحب الوطن؛ بل لمن يحب العالم)) (¬2) ، ويقول عباس أفندي: ((ومنذ الابتداء لم تكن ¬

(¬1) ها الحديث موضوع انظر: أسنى المطالب ص126، وانظر تعليق رقم 551 ذكر المراجع التي حكمت عليه أيضاً بالوضع. (¬2) بهاء الله والعصر الجديد ص 161، نقلاً عن البهائية نقد وتحليل ص 114.

هناك حدود بين البلدان المختلفة فلا يوجد جزء مملوك لقوم دون غيرهم)) (¬1) . والواقع أن هذه الدعوى يدل ظاهرها على أنها من الأمور التي يتمناها كل إنسان في هذه الأرض المملوءة بالشرور والظلم، والدعوة إلى تحقيقها من الأمور التي تلفت النظر بشدة، إذ إن لها لمعاناً وبريقاً يخطف الأبصار. والمشكلة لا تكمن في مجرد الدعوى إلى استنباط هذه الفكرة، فهي سهلة جداً ولا يجهلها أحد مهما كان مستواه الثقافي، بعكس ما يظن البهائيون أنهم هم الذين اخترعوا الدعوة إليها، نعم، إن المشكلة لا تكمن في مجرد استنباطها، وإنما تكمن المعضلة في كيفية تحقيقها والأسلوب الذي يبذل ليقنع الناس بها، فهل وفق البهائيون إلى ذلك؟ إن الجواب غير خاف على أحد، فهو يحتل أكبر صيغ النفي: لم يقدم البهائيون من الحلول إلا الدعوة إلى احترام أرض الطاء وإلقاء السلاح، لئلا يخيفوا به الطامعين في الاستيلاء على ديار المسلمين في أرض الخاء التي يناديها المازندراني في كتابه الأقدس ((يا أرض الخاء)) (¬2) ، أي أرض الخراب يقصد فلسطين التي عاش فيها عيشة الملوك. لم يقدم المازندراني ولا أتباعه ما ينفع الناس بترك الانتساب إلى أوطانهم والإلتفاف حول الوطن الذي يختاره لهم المازندراني؛ لأن صاحب هذه الدعوة هو نفسه في أوائل من ينادي بالوطنية، وذلك في إظهاره التلهف على أرض الطاء طهران إيران، ونظرته المتعالية المترفعة على الأرض التي آوته إليها يد الغدر والعدوان، الأرض التي عاش فيها عيشة الملوك، ومع ذلك فهو ¬

(¬1) محادثات لعبد البهاء، انظر: البهائية ص114. (¬2) الأقدس ص 163، ضمن خفايا البهائية.

يسميها أرض الخاء، وكان ينبغي أن يكون هو القدوة فلا يناقض نفسه بنفسه. ومن هنا فإن المازندراني وأتباعه قد كفوا الناس مهمة الرد عليهم حيث كذبوا أنفسهم بأنفسهم؛ لأن تناقض المازندراني صاحب الفكرة قبل غيره من أتباعه أكبر دليل على كذبهم في إخلاصهم لسعادة البشر، فبينما هو ينهى عن الانتساب إلى وطن بعينه إذا به يبكي ويندب حظه على فراق وطنه-أرض الطاء كما يسميها، ويتأسف لغربته في البلدان بعيداً عن إيران حيث تغرب في العراق وتركيا وفلسطين. ويظهر هذا في كتابه إلى أحد أصدقائه قائلاً له: ((يا أحمد لا تنس فضلي في غيبتي، ثم اذكر أيامي في أيامك ثم كربتي وغربتي في هذا السجن البعيد)) (¬1) ، ويقصد بهذا السجن وطنه الجديد فلسطين-ثم ينادى أرض الطاء-طهران إيران فيقول: ((يا أرض الطاء لا تحزني من شيء قد جعلك مطلع فرح العالمين، افرحي بما جعلك الله أفق النور ولد فيك مطلع الظهور (¬2) - أي نفسه)) . وهذا الكلام والأسى والحزن على وطنه طهران وذمه لفلسطين وتسميته لها أرض الخاء تناقض ظاهر؛ إذ كيف يزعم أنه لا يجوز تفضيل وطن على وطن ثم بعد ذلك يمدح وطناً ويذم آخر بدون مبرر إلا مجرد الهوى، ونسي فلسطين وأدرنة التي آوته زمناً دبر فيها مع اليهود الخطط التي ينبغي عليه أن يسلكها لجعل فلسطين يهودية ولانتشار دعوته المشئومة التي أراد منها أن ¬

(¬1) لوح أحمد ص155، نقلاً عن البهئية 117. (¬2) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص162.

تكون ديانة عالمية تنسخ جميع الأديان حسب زعمه. ثم ذهب يتخبط في جهله فجاء في كتاب الأقدس بكلام يتنزه عنه العامي أن ينسب إليه لكثرة ما فيه من التناقض، ومن الآراء الخيالية والتعاليم الباهتة ويلحق بمحو فكرة الأوطان المختلفة أن يمحي أمراً هاماً جداً من أذهان الناس تبعاً لمحو فكرة الأوطان، ألا وهو محو فكرة الجهاد وحمل السلاح، فقد قاد المازندراني وأتباعه حملة شرسة مضنية في إبطال قتال الكفار أياً كانوا، أو حتى مجرد النية في ذلك. والنتيجة من وراء هذا الطلب وتقريره لا تحتاج إلى تفكير واجتهاد لاستخلاصها، فالقصد منها هو رد الجميل للروس والإنجليز واليهود الذين كانوا وراء نبوّته ثم ألوهيته وزعامته لكي يبسطوا نفوذهم دون المقاومة أو احتجاج من الناس -وخصوصاً المسلمين- لأن الشريعة الجديدة كما يزعم تأمر بهذه الطاعة، وتنهى عن رفع السلاح في وجود أي جنس من الناس مهما كان دينهم. وهذا هو السر في وقوف أولئك الطامعين في استعمار البلدان الإسلامية والعربية جنباً إلى جنب، في بناء البهائية وتأييدها والذب عنها. يقول المازندراني في محو الجهاد: ((حُرم عليكم حمل آلات الحرب إلا حين الضرورة، وأحل لكم لباس الحرير)) . وقال أيضاً: ((البشارة الأولى التي منحت من أم الكتاب في هذا الظهور الأعظم محو حكم الجهاد من الكتاب)) .

3- وحدة اللغة

وقد أكد أسلمنت هذا الجانب فقال: ((إن البهائيين تركوا بالكلية استعمال الأسلحة النارية حتى في أمور الدفاع المحضة، وذلك بناء على أمر صريح من بهاء الله)) (¬1) . إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تبجح فيها البهائيون لمحو أصل الجهاد ومشروعيته للدفاع عن الدين والوطن والعرض؛ لأن هذه كلها لا ينبغي أن تقف عائقاً في سبيل تقدم جحافل الكفر والإلحاد إلى ديار المسلمين كما يريد البهائي. ومن العجب ولسرٍ غير خاف جمع المازندراني بين النهي عن حمل السلاح والجهاد وبين تحليل لبس الحرير للرجال. 3- وحدة اللغة: وأما بالنسبة لوحدة اللغة؛ أي اختيار لغة واحدة للعالم كله تكون مشتركة فيما بينهم للتفاهم فهي الفكرة التي يتظاهرون بالحرص عليها جداً، ويزعمون أنها لا تتحقق إلا بمباركة المازندراني لها. وهي محاولة مكشوفة لإبعاد المسلمين عن لغة كتاب ربهم بطريقة ماكرة. وهي إحدى أكاذيب البهائية التي يطالبون فيها العالم بترك تعدد اللغات واختيار لغة واحدة منها، فما هي اللغة التي يجب أن يختارها الناس على حد رغبتهم هل هي لغة القرآن الكريم التي شرفها الله بإنزال كلامه بها؟ أم هي لغة أخرى يستحسنها البهائيون عوضاً عن اللغات كلها وخطاً يستحسنونه على الخطوط كلها، ثم يترك كل ما خالفه بعد ذلك؟ يجيب عن هذا حسين علي المازندراني في كتابه الأقدس في قوله: ((يا أهل المجالس في البلاد اختاروا لغة من اللغات ليتكلم بها من على الأرض، ¬

(¬1) انظر: قراءة في وثائق البهائية ص95.

وكذلك من الخطوط أن الله يبين لكم ما ينفعكم ويغنيكم عن دونكم أنه لهو الفضال العليم الخبير)) (¬1) ، وهو يقصد بمن دون الهائية العرب وغيرهم حسب ما عرف عن أهل فارس وتعاليهم على البشر في الزمن القديم. ويقول ابنه عباس أفندي: إن تنوع اللغات من أهم أسباب الاختلاف بين الأمم في أوروبا (¬2) . وبعد هذه الدعوة العامة لتغيير اللغات والخطوط أيضاً وبالخصوص العربية - يفصح المازندراني بعد ذلك عن اللغة التي يقترحها؛ فإذا بها لغته لا سواها اللغة الفارسية التي قال فيها: ((يا قلمي الأعلى بدّل اللغة الفصحى باللغة النوراء (¬3) ؛ أي اللغة الفارسية التي قال عنها أبو الريحان البيروني: لا تصلح إلا للأخبار الكسروية والأسمار الليلية)) (¬4) . على أن الفكرة من أساسها يصح وصفها بأنها مجرد خيال ساذج، ويصح كذلك وصفها بأنها فكرة تنبئ عن خبث ونية شريرة، وهي فكرة كذلك مخالفة للفطرة والواقع، ولم يسبق المازندراني أحد من الناس لا الأنبياء ولا غيرهم في مطالبة البشر بالرجوع إلى لغة واحدة هي الفارسية ولا غير الفارسية. فإن الله أرسل أنبياءه كل نبي بلغة قومه، يدعونهم إلى توحيد الله والخروج عن ما يغضبه عز وجل، والرغبة في هدايتهم إلى الخير والصلاح ¬

(¬1) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص185. (¬2) خطابات عبد البهاء عباس عن بهاء الله والعصر الجديد ص164 نقلاً عن البهائية نقد وتحليل ص 120. (¬3) مجموع ألواح المازندراني ص 113، البهائية نقد وتحليل ص 123. (¬4) انظر: البهائية لمحب الدين الخطيب ص29، وقد عزاه إلى مقاله القرآن معجزة بين معجزتين بمجلة الفتح العدد 811 ص 8.

لتجتمع قلوبهم وتتوحد أفكارهم حول هذا المبدأ، لا مبدأ توحيد اللغات والخطوط، ولو أن العالم كله يتكلم لغة واحدة، لربما فاتتهم مصالح كثيرة. وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الناس على هذا الوصف من تعدد اللغات، والله يعلم أنه لو اتحدت القلوب على العقيدة الصحيحة لزالت بينهم فوراق اللغة، ولما كان لاختلافهم فيها أي وزن، وتاريخ الصحابة مليء بالأمثلة على ذلك؛ فقد جمع الله بين سلمان الفارسي اللغة، وبلال الحبشي اللغة، وصهيب الرومي اللغة، وجعلهم في درجة واحدة مع فضلاء قريش كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. فلم يشعروا بأي فارق فيما بينهم، لأن دينهم واحد، وعقيدتهم واحدة، وهدفهم واحد فلم يبق لفارق اللغة أو الجنس أي مكان، وحينما تختلف العقيدة فإن الاتحاد في اللغة والجنس لا يغني ولا يؤلف القلوب. بل كم قد قامت الحروب وسفكت الدماء بين أهل اللغة الواحدة، وأقرب دليل على ذلك هو تلك الحروب التي خاضها العرب في الجاهلية فيما بينهم مع توحد لغتهم، ثم حروب البهائيين مع قومهم الذين يتكلمون بلغتهم من أهل إيران، والحروب الأهلية في كل بلد تقوم فيه. ولبنان في وقتنا الحاضر أقوى دليل على ذلك حيث يقتل بعضهم بعضاً بأشد أنواع الوحشية، فإن اللغة بحد ذاتها لا تعلم الأخلاق والرحمة والموالاة وجمع الكلمة، ومن هنا فإن اختلاف اللغة ليس بالأمر الهام، واختلاف الألسنة ليس إلا دليلاً على قدرة الباري عز وجل قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (¬1) . ¬

(¬1) سورة الروم: 22.

ثم إن الداعي إلى وحدة اللغة المازندراني لم يوحد اللغة حتى في وحيه وألواحه التي نسجها خياله، فكتبه -ما يذكر المطلعون عليها (¬1) -مليئة من المزيج الفارسي والعربي، فمرة يدعي نزول الرحي باللغة الفارسية، ومرة أخرى باللغة العربية وأحياناً يأتي مختلطاً بالعربية والفارسية، وكلامه على هذا الاتجاه مرة يتكلم بالفارسية وأحياناً باللغة العربية. ومعنى هذا أن دعواه توحيد اللغة كذب، وتناقضه أكبر دليل على هذا. ويظهر أنه أيقن بعدم نجاح دعوته هذه، وعلم أنه بحاجة إلى تبليغ دعوته البهائية فأذن في تعلم اللغات ليسهل تبليغ البهائية غيرهم فقال: ((قد أذن الله لمن أراد أن يتعلم الألسنة المختلفة ليبلغ أمر الله -أي العقيدة البهائية- شرق الأرض وغربها، ويذكره بين الدول والملل على شأن تنجذب الأفئدة ويحيى به كل عظم رميم (¬2) ، ومع هذا لا تزال الرغبة في طمس اللغات الأخرى قائمة، وشدة رغبته في طمس اللغة العربية بذاتها يعود إلى عدة عوامل؛ إذ فيها قطع كل صلة للمسلم بدينه، كما أن في إقصائها امتداداً للدين البهائي. فإذا جهل المسلم لغة دينه جهل بعد ذلك كل أمور دينه، ومن هنا اهتموا بالقضاء عليها بكل ما في عقولهم الحاقدة من حيل، ولم يفلحوا في إنجاح مخططهم ولله الحمد، رغم ما بذلوه من محاولات ولا يزالون، ولم يكونوا وحدهم في ميدان حرب اللغة؛ فلقد تظافرت جهودهم وجهود كل أعداء الإسلام على حربها وإبعادها من قلوب المسلمين. ومن هنا نجد أن الدعايات ضدها وتشويه سمعتها ووصفها بأنها لغة ¬

(¬1) وفي المقدمة الشيخ إحسان إلهي رحمه الله، انظر كتابه: البهائية ص123. (¬2) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 168.

4- السلام العالمي

المستعمرين العرب؛ وأنها لا تفي بحاجة العصر وما إلى ذلك من الدعايات-نجد كل ذلك ظاهراً في كل بلد يوجد به مسلمون من غير العرب، ومن الغرائب أن فرنسا وهي مستعمرة لكثير من البلدان الأفريقية سواء كان الاستعمار ظاهراً أو خفياً تنشر بين المسلمين هناك أن اللغة العربية هي لغة المستعمرين العرب. ولكن تجد أن المسلمين هناك يضحكون من هذه الدعاية وهم يشعرون أن اللغة العربية أقرب إلى قلوبهم من لغاتهم المحلية، ويحبونها ويحترمونها أشد الاحترام، ويشعرون بكامل السخط والسخرية من انتشار اللغات الأخرى؛ كما يذكر كثير من المسلمين هناك بمجرد أن تبدأ الحديث عن هذا. 4- السلام العالمي: يظن البهائيون أنهم هم الذين تزعموا الدعوة إلى السلام العالمي وترك الحروب والتعايش الهادئ بين الأمم حين منعوا حمل السلاح وأوجبوا تقديم السمع والطاعة للحكام أيا كان مذهبهم، وليس فقط تحريم الحروب بل كما يزعمون كل مقدماته من النزاع والجدال والخصام، وكل ما يمت إلى الحروب في النهاية؛ بل ولا يجوز حمل السلاح حتى ولو للدفاع عن النفس. تلك هي مزاعمهم حول دعوى إحلال السلام في العالم كله، فهل كان ذلك حقيقة؟ وهل قدموا الحلول الناجحة لمشكلات العالم التي تجرهم إلى الحروب شاءوا أم أبوا، وإلى أي مدى وصلت إليه دعوتهم من النجاح في العالم. هذا على فرض التسليم بأنهم هم الذين دعوا إلى السلام العالمي وحدهم، مع أن أحداً لا يجرؤ مهما كانت صلافته على مثل دعواهم بأنه

مخترع الدعوة إلى السلام العالمي؛ لأن الدعوة إلى السلام دعوة ربانية قررها الإسلام وضاعف الحلول الناجحة لها بطرق ترضي كل شخص، وتنهي كل خلاف ولو رجعوا إليه لوجدوا مصداق هذا واضحاً ولا عبرة بمن فسدت فطرته واتبع هواه. وقبل الإجابة عن ذلك نورد هنا بعض كلام البهاء وأتباعه حول مناداتهم بالسلام العالمي. يقول حسين المازندراني: ((قد نهيناكم عن النزاع والجدال نهياً عظيماً في كتاب هذا أمر الله في هذا الظهور الأعظم (¬1) . وقال: ((لأن تُقتَلوا خير من أن تَقْتُلوا)) (¬2) . وقال: ((لا يجوز رفع السلاح ولو للدفاع عن النفس)) (¬3) . ومن هنا قال أحد زعمائهم في مصر: إن الدولة لو أجبرته على حمل السلاح في مواجهة إسرائيل فإنه سيطلقه في الهواء؛ لأن ذلك هو شعار البهائيين (¬4) . لقد ربط البهائية تحقيق ذلك السلام العالمي البهائي بطريقة ماكرة، مفادها أن تلك الدعوى لا يمكن أن تتحقق إلا بعد الارتواء من غسلين البهائية وآرائها المتناقضة، وحينئذ تمشي البشرية آمنة مطمئنة لا يخاف أحدهم إلا الله والذئب على غنمه. إنها دعوى عريضة فوق مستوى عقول البهائية، وتصدر البهائي وأتباعه ¬

(¬1) بهاء الله والعصر الجديد ص 123، نقلاً عن البهائية لإحسان ص 125. (¬2) المصدر السابق ص 169. (¬3) المصدر السابق ص 169. (¬4) قراءة في وثائق البهائية ص93.

لهذا الزعم يعتبر من مهازل البهائية البائسة ويعتبر من عجائب الزمن، فمن يقبل من الناس أن يركن إلى البهائي ومزاعمه هو وأتباعه دون أن يرى الحلول الإيجابية لتلك المشكلات التي يعج بها العالم كله؛ لأن الحل عند البهائية هو أن تدخل رأسك في الشبكة لترى الحل حينئذ في عالم الخيالات الوهمية. نسي أو جهل البهائيون أن حل مشكلات الحياة العالمية لا يمكن أن يأتي عن طريق الخرافات والمؤامرات الظاهرة والخفية وإنما يأتي عن طريق الاقتناع التام من داخل النفس: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1) ، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2) ، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬3) ، وكذا قول نبي الإسلام: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى)) (¬4) . ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬5) .، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬6) . ومئات النصوص في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيها الحلول المباشرة التي يلمسها الإنسان ويرى تأثيرها بمجرد أن يمتثل الأمر، ولو طبق الناس الإسلام لرأوا كيف يصبح السلام واقعاً حقيقياً لا خداع ¬

(¬1) سورة المائدة: 2. (¬2) سورة الحجرات: 13. (¬3) سورة الأنبياء: 92. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 411. (¬5) أخرجه البخاري في الإيمان 1/57، ومسلم كذلك في الإيمان 1/67، 68، وغيرهما من أصحاب السنن. (¬6) أخرجه البخاري 1/54، ومسلم 1/214، وأصحاب السنن.

فيه ولا تجبر ولا مكائد ولا دسائس، ولرأوا أن جميع مشكلات العالم تذوب من تلقاء نفسها كما يذوب الملح في الماء. لأن الحلول الإسلامية تناجي كل قلب على حدة وتقول له: ابدأ بنفسك ليقتدي بك الآخرون، فتصبح الدعوة جماعية في آن واحد دون أن يتدخل أي شخص في تفكير الآخر. أما الدعوة البهائية للسلام العالمي فإنها تصبح هكذا: الرب هو المازندراني، والأرض التي يحكمها كل شخص هي له لا حق فيها للآخرين، فللإنجليز ما يملكون، وللروس ما يأخذون، ولأمريكا ما تريد، وعلى الجميع السمع والطاعة لمن قوي على شريعة الجاهلية الأولى، من عزّ بزّ ومن غلب استلب، ومن لم يحترف لم يعتلف، فهل هذه الفكرة الهزيلة تقدم الحلول لمشكلات الناس؟ إن من المعروف بداهة وواقعاً أن كل تجمّع على غير هدى الخالق العظيم رب العالمين لا يمكن أن يقدم الحلول المرضية لمشكلات الناس مهما كان نبوغ المجتمعين، ومهما كان إخلاصهم، ولا نذهب بعيداً فهذا مجلس الأمن أو مقام الأمم المتحدة أشبه ما يكون بجسم لا روح فيه؛ بل هو مقر الخدع والمؤامرات لأصحاب النفوذ والقوة، لا يهمه إلا إرضاء الدول الدائمة العضوية كما يسمونها، أصحاب السيف الفولاذي الذي يسمونه ((الفيتو) . لقد صار هذا الفيتو سيفاً على رقاب الناس لا يجوز الخروج عن طاعته، ظلمه عدل وقتله رحمة وكلمته هي الفصل، فكيف بعد لك وأنى لهم أن يقدموا الحلول العادلة وهم لا يملكونها ((وفاقد الشيء لا يعطيه)) .

لقد نبهنا الإسلام إلى أن الله هو رب الكون وما فيه وهو المدبر له، والخير إليه والشر بتقديره عندما تتوفر أسبابه. وكل ما يقع في هذا الكون إنما هو بمشيئته وقدرته، وقد أرشدنا الله عز وجل إلى الطرق الناجحة التي تقطع دابر الشرور والظلم فإذا لم يرد الناس تطبيقها وفضلوا تطبيق أهوائهم أوكلهم الله إلى أنفسهم- كما هو واقع البشر اليوم- ثم لا يبالي بهم في أي وادي هلكوا. وحينئذ يتولاهم كبار المجرمين ويحلون أنفسهم محل النبوة والألوهية فيشرعون للناس بجهلهم شرائع تجرهم إلى الدمار، يقدمون السم في أطباق الذهب المزخرف، ثم تسير الحياة بالناس من ضنك إلى ضنك أشد منه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (¬1) . إن الله عز وجل قد أخبرنا أنه منذ أن أوجد البشر أوجد فيهم قوتين متضادتين: قوة الخير وقوة الشر، وجعل الصراع بينهما متواصلاً، ثم سن الله لأهل الخير أن يقاتلوا أهل الشر والإلحاد وجعل ذلك القتال جهاداً يتقرب به إليه عز وجل، يثاب صاحبه ويعاقب تاركه. وأباح الله قتال من يعتدي على الحرمات والمقدسات وذم الجبناء والذين لا غيرة فيهم على حرمهم ومقدساتهم، وقد قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وغزا غزواته الكثيرة الشهيرة فكان بطل الأبطال وقائد الشجعان، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً. والواقع أن هدف المازندراني حينما حرم الجهاد إنما هو خدمة أعداء الإسلام من الروس والإنجليز لا إحلال السلام كما يزعم؛ بل لإرضاء أولئك ¬

(¬1) سورة طه: 124.

5- المساواة بين الرجال والنساء

المنعمين عليه، ولقد ناقض نفسه بنفسه حينما شن الغارات على الإيرانيين أولاً ومع البابيين زملاءه ثانياً، ومع الأزليين أتباع أخيه ثالثاً، ومع المسلمين خاصة ومع كل من لا يؤمن بخرافاته عامة، فكيف يدعو إلى شيء هو نفسه لا يؤمن به: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1) . 5- المساواة بين الرجال والنساء: قد كان البهائيون من أكثر الناس ميلاً إلى استخدام النساء في الدعاية لمذهبهم؛ لأنهن أكثر انخداعاً وأكثر انجذاباً إلى الهوى والخروج على كل عرف إذا تمكنّ من ذلك. وقد تزعمت هذه الغاية غانية البابيين قرة العين؛ تلك التي لم يكبح جماحها دين ولاخلق ولا شرف ولا احتشام، ثم اتخذت منها البهائية الخلق المثالي للنساء البهائيات. لقد أجاد البهائيون، وعلى رأسهم البهاء وعبده ومن صار على شاكلتهم بعدهم أجادوا نفاق المرأة واستجلابها إلى الخروج على كل شيء، وأظهروا لها من التحمس إلى صفها ما لا تصل به الوالدة لابنتها أحياناً؛ لكن هذا التحمس إنما ينحصر في الكلام والوعود المعسولة والدعاية الخلابة. وعند الفعل والتطبيق لما قالوه تجد أن أحكامهم على المرأة مما يستدعي الشفقة عليها بسبب ظلم البهائيين وشريعتهم الجائرة على المرأة، وقد اتضح تماماً أنهم لا يريدون وراء الدعاية بمساواة المرأة للرجل إلا مخالفة الشريعة الإسلامية، وجلب عاطفة النساء للمذهب البهائي، وجعلها مطية لا وعي لها. ¬

(¬1) سورة الصف: 3.

وللمرأة أن تسأل: هل صدق البهائيون في دعوتهم تلك، وهل أنصفوا المرأة من الرجل، وهل عاش المجتمع الذي خلطوا فيه الحابل بالنابل وتساوى فيه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، هل عاش ذلك المجتمع في الجنة البهائية، أم كانت أقوالهم في واد وأفعالهم في آخر؟ هذا ما سيتضح عند الاطلاع على أحكام البهائية من خلال تشريعاتهم التي أعدوها لمحاربة المرأة ولمحاربة الدين الإسلامي، وللخروج على طاعة الله تعالى وجعل كل شيء يسير حسب رغباتهم ووفق شهواتهم، ولو علم هؤلاء الملاحدة مكانة المرأة في الإسلام لأطرقوا حياءً، ولصغرت نفوسهم في نظرهم أن يتكلموا بأدنى كلمة انتقاد لحال المرأة في الإسلام وظله الظليل. لقد رَخُصت المرأة في الشريعة البهائية إلى حد أنها أصبحت متعة لكل طامع، فهي معلَّمة على ألا ترد يد لامس بل هي التي عليها أن تطلب المتعة بأكثر من شخص تأسياً بما قررته زرين تاج من الفجور في مؤتمر بدشت؛ حيث نسخت الشريعة الإسلامية واستبدلتها بشريعة الباب التي لا حد لإباحيتها واستهتارها بالقيم والأخلاق. يقول أسلمنت: ((إن إحدى الأنظمة الاجتماعية التي جعل بهاء الله لها أهمية عظيمة هي مساواة النساء بالرجال)) ، ولو عكس العبارة لكان أصوب، وأما عبد البهاء فقد بلغ في نفاقه النساء مبلغاً بعيداً، وقد قال عنه الشيخ عبد الرحمن الوكيل: ((وكان من خلق عبد البهاء أنه يتجمع بكل مشاعره وعواطفه لكل فتاة

ويتربص بها بكل مكره وغزله ليثير وهج أنوثتها الراغبة)) (¬1) ، إلى أن قال عنه: ((وتمرق أمام عينيه أنثى جميلة تتموج شعورها وهي تلهب ظهر جوادها السابح بالسوط، فيتأوه الشيخ المتصابي ويقول لمن معه: في هذا العصر ينبغي أن تأخذ المرأة حظاً من العلم مساوياً للرجل وتتمتع بنفس الامتيازات)) (¬2) . قال عبد الرحمن الوكيل في تعليقه على هذا الموقف الشائن لمدعي النبوة عبد البهاء، قال: ((إن جلال النبوة لا تستهويه أبداً امرأة تتحدى قداسة الفضيلة بفتنتها العارية، ولا تستخفه عن وقاره شعور مواجة قد تلهب بالحب عواطف الشعراء، ولكنها تثير غضب الأنبياء. إن عبد البهاء عاش يسجد لفتنة المرأة، ولهذا قال: ((إن تربية البنت الآن أهم من تربية الولد)) قالها زلفى إلى النسوة المارقات وخدعة يستزل بها من يستهويها لمع هذا السراب، وإلا فهل يستهوي خيال إنسان تصور عالم قد تربت نساؤه أكثر من رجاله)) (¬3) . ولقد ذكر العلماء في سيرة عبد البهاء الذي يزعم أنه أكبر الأنبياء (¬4) ما تقشعر الجلود من مخازيه العنصرية والجنسية والتلون في النفاق وعدم تورعه من أن يساير كل دين، سواء كان دين الإسلام أو المسيحية أو البرهمية أو البوذية، فلقد جامل كل هذه الطوائف بأن يؤدي لكل أصحاب ملة عبادة على طريقتهم، وهذا هو النفاق بعينه حتى وإن سماه تطوراً ومسايرة لروح العصر؛ فإن التسمية لا تغير الحقائق. ¬

(¬1) البهائية تاريخها وعقيدتها ص 165. (¬2) خطابات عبد البهاء ص 84. (¬3) البهائية تاريخها وعقيدتها ص 170، 171. (¬4) المصدر السابق ص 174.

إن الدعوة إلى مساواة النساء بالرجال هي دعوة حمقاء مخالفة للفطرة وللشرائع السماوية كلها، وقد تناقض البهائيون فيها كثيراً؛ حيث خالف فعلهم قولهم، فحينما ادعوا ذلك تجدهم قد فرقوا بين الرجل والمرأة في كثير من الأحكام، وإنما نادوا بهذا الشعار مخالفة لدين الإسلام الذي جاءت أحكامه بالنسبة للمرأة في تمام العدل والإنصاف وحفظ الأعراض وصيانة الأنساب. فحرم على المرأة نبذ الحياء والتبرج والاختلاط، ومنعها من أن تلي الخلافة العامة، وأوجب عليها حقوق كثيرة، ونهاها عن أفعال قبيحة كثيرة، كما أوجب لها حقوقاً كثيرة تكون بها محترمة غير مبتذلة، كما يريد دعاة تحرير المرأة ومساواتها بالرجل. وحين انخدعت المرأة بهذه الدعايات الفاجرة وخرجت إلى الشارع كاشفة نابذة لبيت زوجها، وتاركة لأولادها فكانت كمن يفقأ عينه بيده، وكانت هي الخاسرة لعفتها ودينها وحيائها وزوجها وأولادها، والذين نادوا إلى الخروج إنما أرادوا منها الإباحية والانحلال اقتداءً بتلك البابية ((قرة العين)) التي أفتت بجواز نكاح المرأة بسبعة من الرجال فيما يذكر عنها (¬1) . ولو رجع القارئ إلى أقوال المازندراني وابنه عباس أفندي لرأي التمييز المجحف بين معاملة الرجال والنساء في تصرفات البهائية، إذ كل الأعمال لم يكلف بها إلا الرجل فقط ولم يعهد إلى امرأة بأمر ذي بال ثم هضمها حقها في الإرث في كتابه ((الأقدس)) حيث يقول: ((وجعلنا الدار المسكونة والألبسة المخصوصة للذرية من الذكران دون الإناث والورَّاث أنه لهو المعطي الفياض)) (¬2) . ¬

(¬1) انظر: البهائية نقد وتحليل ص 139، وهو ينقله عن مفتاح باب الأبواب ص 176. (¬2) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 146.

إن المعطي الفياض حرم الإناث من الدار والألبسة مع مساواتهن بالذكران، فأين ذهبت المساواة التي ينادون بها بين الرجال والنساء، بل أين مجرد ظهور العدل في هذه الاحكام الخرقاء بعد أن اتضح تناقضهم فيها، والباطل لا بد وأن يتناقض أهله فيه. ثم أيضاً أليس هذه التفرقة هي نفسها التي كانت في الجاهلية من تحريم بعض الأشياء على النساء وإباحتها للرجال، مثل ما أخبر الله في القرآن من تحريم بعض اللحوم على الإناث وإباحتها للذكور فقط؛ تخرصاً بغير هدى ولا دليل (¬1) ، والواقع أن البهائية لم يتناقضوا في هذا الموضع فقط، بل في أحكام كثيرة تتعلق بالنساء ظهرت في أقوال المازندراني نفسه حين قال: ((قد حكم الله لمن استطاع عنكم حج البيت (¬2) ، دون النساء عفى الله عنهن رحمة من عنده أنه لهو المعطي الوهاب)) (¬3) ، مع أن المرأة بإمكانها أن تؤدي الحج كما يؤديه الرجل تماماً عند وجود الاستطاعة، وهذا في حكم الشريعة الإسلامية. أما حج البهائية فهو مجرد نزهة وزيارة للبيت الذي كان يسكنه الشيرازي أو البهاء، فهو مجرد زيارة في اللهو المرح والله يعلم السبب الذي جعل البهاء يسقطه عن المرأة، ومهما كان فهذا التفريق في الحكم في أداء فريضة الحج البهائي له مغزاه ودلالته في النظرة إلى المرأة ومساواتها بالرجل. ومن أكبر ما تناقض فيه البهائي وأتباعه من بعده أنه لا يوجد نص واحد ¬

(¬1) انظر: البهائية لإحسان إلهي ظهير ص 143 (بتصرف) . (¬2) لا يقصد بالحج هنا الذهاب إلى بيت الله الحرام بمكة؛ وإنما يريد الحج إلى معابدهم. (¬3) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 146.

6- عقائد أخرى للبهائيين

في جواز تولي المرأة المناصب العليا في الدولة، وإنما ينصون عليها في الأولاد الذكور واحداً بعد واحد، وكان ينبغي حسب كلامهم أن يجوزوا تولي المرأة لأي منصب كان. ومن الأمور التي فرقوا فيها بين المرأة والرجل قول المازندراني: ((قد عفى الله عن النساء -حينما يجدن الدم-الصوم والصلاة ولهن أن يتوضأن ويسبحن خمساً وتسعين مرة من زوال إلى زوال: سبحان الله ذي الطلعة والجمال؛ هذا ما قدر في الكتاب إن أنتم من العالمين)) (¬1) . وعلى كل حال فإنه لا يمكن أن يأتي شخص بما يخالف الشرع القويم والفطرة السليمة والعقل المستنير إلا ويظهر عليه التناقض والارتباك مهما أوتي من الحذق والذكاء، وأكبر دليل على ذلك هذه السخافات البهائية؛ إذ كيف يعفو الله عن النساء في حال الحيض الصوم والصلاة؟ إنه لا فرق بين المرأة والرجل. ثم كيف أسقط عنها الصلاة والصوم وكلفها بالوضوء والتسبيح خمساً وتسعين مرة مع أن الوضوء والتسبيح لا يغنيان عن أداء الصلاة والصوم؟ لقد نقض مذهبه بنفسه. 6- عقائد أخرى للبهائيين: سبق ذكر أهم الأسس التي يتمدح بها البهائيون، ورأينا مدى صدقهم في المناداة بها ومدى بعدها عن الإسلام. وإتماماً لذلك ولئلا يفوت القارئ الوقوف على الآراء العقدية لهذه الطائفة الشريرة التي أضلت بها أمة وأقامت بها كياناً -أرغب في التنبيه إلى أن ¬

(¬1) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 142.

آراء البهائية ليست كلها ظاهرة، فهناك آراء كثيرة لهم يخفونها لئلا يواجهوا نقمة العالم عليهم، فهي لا تزال سراً متداولاً بينهم وبين زعماء الصهيونية الماكرة على حد ما أورده الدكتور محمد حسن الأعظمي في قوله: ((إن عقيدتهم المعلنة في كتب مطبوعة ليست هي العقيدة التي يتبعونها، إن أسرار عقيدتهم في كتب سرية لا يتداولونها حتى لا يثيروا نقمة كل الأديان عليهم)) (¬1) . وهذه العقائد أوجز ذكرها فيما يلي، ولا أرى أنها تستحق التوقف عندها ومناقشتها والرد عليها؛ فهي تنضح كفراً وإلحاداً صادرة عن أناس لا يؤمنون بالله رباً ولا بمحمد نبياً، وليس عندهم أدنى وازع من حياء، ومن ليس له حياء فإنه يعمل كيفما يشاء كما أخبر الصادق المصدوق عن هذا الصنف من الناس حين قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (¬2) ، وبعض تلك الآراء يعود إلى هدم العقائد وأسس الديانات، وبعضها يعود إلى تخبطات في مسائل فقيهة الصواب فيها بعيد عن متناول عقولهم. وكل ما أذكره هنا فإنه إما أن يكون مأخوذاً من كتاب الأقدس للمازندراني- دون ذكر النص لئلا يطول الكلام- أو من كتب كبار البهائيين، ويوجد كتاب الأقدس مصوراً في الكتب التي أشرنا إليها من قبل لمن أراد الاطلاع عليه (¬3) . ¬

(¬1) حقيقة البهائية والقاديانية ص 76. ومحمد حسن الأعظمي باطني إسماعيلي. (¬2) جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء وأبو داود وابن ماجه وأحمد. (¬3) أي كتاب خفايا البهائية، وكتاب البهائية الفكر والعقيدة، والكتب الأخرى التي ذكرت.

أ- ما يتعلق بالعقائد والديانات

أ- ما يتعلق بالعقائد والديانات: 1- من أهم أسس عقائدهم أن حسين علي المازندراني هو ربهم وإلههم حياً وميتاً, قال المازندراني في وحيه: ((من عرفني فقد عرف المقصود، ومن توجه إلي فقد توجه إلى المعبود؛ لذلك فُصل في الكتاب وقُضي الأمر من الله رب العالمين)) (¬1) ، وقال أيضاً: ((لا يرى في هيكلي إلا هيكل الله ولا في جمالي إلا جماله ولا في كينونتي إلا كينونته، ولا في ذاتي إلا ذاته ولا يرى في ذاتي إلا الله)) (¬2) . ثم وصفوا الله عز وجل بصفات مفادها أنه لا وجود لله تعالى إلا في أشخاص أولئك الملاحدة من زعماء البهائيين، ومن هنا فقد كان المازندراني إذا خرج على الناس أسدل برقعاً على وجهه لئلا يشاهد بهاء الله في وجهه الكالح. 2- هم من كبار القائلين بالحلول والاتحاد، وذلك أن المازندراني نفسه كان من المتعمقين في مسائل التصوف ووحدة الوجود والحلول والاتحاد. 3- لا يؤمنون بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية في حق عيسى عليه السلام، ولأنهم يقررون تبعاً لأقوال أعداء الإسلام أن المسيح قتل وصلب. 4- أن الشريعة البابية البهائية ناسخة للشريعة الإسلامية جملة وتفصيلاً. 5- لا يؤمنون بما جاء في الإسلام من أخبار اليوم الآخر، ولا بما جاء في كل الأديان من أخبارها، فالقيامة تعني مجيء البهاء في مظهر الله تعالى، وقيامه بأمر الناس وانتهاء الدور المحمدي صلى الله عليه وسلم على طريقة غلاة الباطنية ¬

(¬1) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 173. (¬2) سورة الهيكل للمازندراني نقلاً عن البهائيين نقد وتحليل ص 149.

الملاحدة. ويعتقدون أن ما ذكر من البعث والحساب والجزاء وسائر أخبار القيامة فإنها تدل على ما يقع في هذه الحياة الدنيا عند مجيء البهاء، لا أنها أمور تقع في دار أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته حسب ما فصلته الأديان السماوية فيما أخبر الله عز وجل به في كتابه الكريم وسنة نبيه العظيم صلوات الله وسلامه عليه. 6- يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس هو خاتم الأنبياء، وأن الوحي الإلهي إلى البشر لا انقطاع له، لهذا فهم يزعمون أن البيان العربي للشيرازي، والأقدس للمازندراني، والإيقان المختلف عليه بين حسين المازندراني وصبح الأزل- يزعمون أن هذه الكتب كانت بوحي الله عز وجل، وأنها أفصح الكتب المنزلة كلها، وأنها أفضل من القرآن الكريم، وتحدوا البشر والجن ومثلهم معهم أن يأتوا بحرف واحد مما فيها. 7- تسلطوا على القرآن الكريم فأولوه بتأويلات باطنية إلحادية. 8- لا يؤمنون بمعجزات الأنبياء ولا يقرون منها إلا ما يستطيعون تأويله على حسب هواهم. 9- لا يؤمنون بالملائكة ولا بالجن. 10- لا يؤمنون بوجود الجنة والنار. 11- يباح للبهائي أن يستعمل التقية بأوسع معانيها في سبيل خداع الآخرين. 12- يقدسون العدد 19 (¬1) . ¬

(¬1) وسيأتي توضيح لذلك بعد قليل.

ب- ما يتعلق بالأحكام الفقهية

ب- ما يتعلق بالأحكام الفقهية: الصلاة عند البهائية: 1- عددها ثلاث مرات في اليوم، وهي تسع ركعات في البكور والزوال والآصال كل، صلاة ثلاث ركعات. 2- يؤدونها على انفراد؛ لأنه لا يصح الاجتماع إلا في الصلاة على الميت فقط، وأما للصلاة فهي حرام، وليس للطريقة التي تؤدى بها الصلاة أي بيان. وقد قال المازندراني في الأقدس: ((قد فصلنا الصلاة في ورقة أخرى طوبى لمن عمل بما أمر به من لدن مالك الرقاب)) (¬1) ، ولكن هذه الورقة التي أشار إليها الوحي البهائي لا وجود لها عند البهائية؛ لأنها سرقت كما يذكر عبد البهاء (¬2) ، فبقي أمر الصلاة عنده مجهولاً إلى أن يجدوا تلك الورقة ولن يجدوها. 3- القبلة هي المكان الذي يستقر فيه البهاء، وقد استقرت في عكا، وقد وصف من لم يتوجه إليه بأنه من الغافلين، وأتباعه يتوجهون إلى عكا ويزورون قبره ويطوفون به ويسجدون له ثم ينصرفون-صرف الله قلوبهم- وهي عودة إلى الوثنية والمجوسية بأكمل صورها القبيحة. الزكاة عند البهائية: الزكاة شأنها غامض جداً في شرع البهائية لجهل المازندراني بها، فليس لها أي تفصيل يبين الواجب وكيفية إخراجها ولمن تخرج ومتى ذلك..إلى آخر التفاصيل التي جاء بها الشرع الشريف الإسلامي. ¬

(¬1) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 141. (¬2) انظر: البهائية نقد وتحليل ص 162.

الصوم عند البهائية: 1-19 يوماً فقط في مارس، يصومون من الصباح إلى الغروب، ولا قضاء على من لم يؤد الصوم، وقد عفى عن المسافر والمريض والحامل والمرضع والهرم والكسول أيضاً، وكذا الحائض، وكذا من كانت له أعمال شديدة، وكذا يوم عيد المولود، وهو اليوم الذي ولد فيه الشيرازي والمازندراني، وكذا يوم المبعث لا صوم فيه وهو اليوم الذي أعلن فيه الشيرازي دعوته وأظهر نبوته. الحج عندهم: يتوجهون فيه إلى عكا مدفن البهاء، وإلى شيراز؛ الدار التي ولد فيها الشيرازي، وإلى الدار التي أقام بها البهاء في العراق في بغداد، ولم يبيّن البهاء متى يتم الحج إلى تلك الأماكن ولا الأعمال التي تجب في هذا الحج، وحديث كعبتهم في بغداد حديث طويل، خلاصته أن هذه الدار الآن لا وجود لها، وقد انتزع أصحابها ملكيتهم لها رغم الجهود المضنية التي بذلها البهائيون لتبقى كعبته لهم. الزواج عندهم: 1- لا يكون الزواج إلا بواحدة، وإذا كان لابد من ذلك فلا يجوز أن يتعدى أكثر من اثنتين، وفي بعض الروايات لا يجوز الزواج إلا بواحدة فقط. وحد الزناة بغير التراض تسعة مثاقيل من الذهب تسلم لبيت العدل البهائي، والمهر عندهم في المدن تسعة عشر مثقالاً من الذهب الإبريز، وفي

القرى مثل ذلك من الفضة، ومن أراد الزيادة فلا يجوز له أن يتجاوز خمسة وتسعين مثقالاً (¬1) . وهذه المهور من باب العراقيل عن الزواج الشرعي ليلجئوا الراغبين فيه إلى العهر والفجور، أما الإسلام فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((التمس ولو خاتم من حديد)) (¬2) ؛ لأن العفاف والطهر أغلى من كل شيء فلا يتطلب صحة الزواج مثاقيل الذهب أو الفضة في الإسلام. 2- يحللون المتعة وشيوعية النساء. 3- لا يباح زواج الأرامل إلا بعد دفع دية، ولا يتزوج الأرمل إلا بعد تسعين يوماً، والأرملة إلا بعد خمسة وتسعين يوماً، ولم يبينوا الغرض من فرض هذه المدة. 4- لا يجوز الزواج بزوجة الأب، وحكم الغلمان مسكوت عنه، قال المازندراني في كتابه الأقدس الذي نسخ به القرآن الكريم؛ لأنه كلام الله كما يفتري-قال: ((قد حرمت عليكم أزواج آبائكم، إنا نستحي أن نذكر حكم الغلمان)) (¬3) . وما دام الوحي يستحي أن يذكر حكم الغلمان فمن الذي يبين حكم جريمة اللواط بعده! غريب جداً أن يستحي الرب من بيان الأحكام التي هي ¬

(¬1) انظر: البهائية نقد وتحليل ص 162. (¬2) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في النكاح عن سهل بن سعد رضي الله عنه 2/ 1425، وكذلك أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه. (¬3) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 166.

من ضروريات الحياة للبشر-قبح الله المازندراني وما جاء به وكل من دخل في غيه إلى يوم الدين. الطلاق عندهم: مكروه. في المواريث: 1- زعموا أن الرجال والنساء على السواء. لكن تناقضوا بعد ذلك فإذا بهم يحرمون النساء من أشياء كثيرة في الإرث، كما قرر المازندراني أن الدار المسكونة والألبسة المخصوصة تكون من نصيب الأولاد الذكور دون الإناث؛ مخالفين زعمهم المساواة بين الرجال والنساء. 2- للشخص أن يوصي بكل ماله لأي شخص يريد سواء كان وارثاً أو غير وارث. 3- قرروا أن غير البهائي لا يرث البهائي؛ مخالفين زعمهم القول بوحدة الأديان واحترامها جميعاً. أحكام أخرى عندهم: 1- الغسل من الجنابة ليس واجباً، ولا يوجد في شريعتهم اسم النجاسة لأي شيء؛ لأن من دخل في ديانتهم طهر له كل شيء من النجاسات والخبائث التي أجمعت عليها كل الأديان وسائر العقلاء غير الأوربيين. ويكون الاغتسال عند البهائية في كل أسبوع مرة، وغسل الأرض في الصيف مرة في اليوم، وفي الشتاء مرة كل ثلاثة أيام.

2- لا يجوزون للمرأة الحجاب تأسياً بزرين تاج التي خرجت عن كل الأعراف في ذلك الزمن بعد أن خرجت على الشريعة الإسلامية ونسختها. 3- سن الرشد: 15 عاماً للذكر والأنثى على السواء. 4- ألغى البهائيون جميع العقوبات الواردة في الشرع الإسلامي إلا الدية. 5- الجهاد محرم في الشريعة البهائية، وتحريمه من أهم المبادئ التي جاء لأجلها المازندراني. والسر غير خاف على أحد؛ فإن كل الدعوات الضالة من قاديانية وبهائية وسائر الدعوات اتحدت كلمتهم كلهم على محو فكرة الجهاد، لأن مصدر تلك الحركات كلها واحد، وتصب في مكان واحد، والممول واحد، وهم أعداء الإسلام الذين يهمهم جداً نسيان المسلمين لكلمة الجهاد في سبيل الله لرفع راية الإسلام. ومن المؤسف أنه تحقق للكفار ما أرادوا خصوصاً في عصرنا الحاضر. حيث يستحي أو يخاف زعماء المسلمين أن يدعوا الناس إلى الجهاد في سبيل الله صراحة، حتى ولو لتحرير بلدانهم ونسائهم وذرياتهم الذين يسومهم اليهود أشد الذل والإهانة في فلسطين وفي غيرها من ديار المسلمين. 6- يجوز للرجال والنساء أن يلبسوا ما شاءوا دون أي اعتبار للملبوس، سواء كان حريراً أو صوفاً أو أي نوع. وللرجل أن يلبس الحرير الخالص وأن يظهر كامل النعومة، إذ لم يحرّم عليه في شرع البهائية إلا حمل السلاح أو الخوض في المسائل السياسية التي هي من خصوصيات الحكام فقط!

7- لا يجوز للشخص أن يحلق شعر رأسه لأن الله قد خلقه زينة له. قال المازندراني في الأقدس: ((لا تحلقوا رؤوسكم؛ قد زينها الله بالشعر في ذلك لآيات لمن ينظر إلى مقتضيات الطبيعة من لدن مالك البرية أنه لهو العزيز الحكيم، ولا ينبغي أن يتجاوز حد الآذان؛ هذا ما حكم به مولى العالمين)) (¬1) . مالك البرية والعزيز الحكيم، ومولى العالمين كل هذه الصفات الهائلة الرهيبة جاءت من أجل حلق شعر الرأس في وحي المازندراني السخيف. 8- لا يجوز للشخص أن يخطب على المنبر؛ بل يقعد على الكرسي الموضوع على السرير ويخطب، وكذلك لا يجوز للشخص أن يذكر الله إلا في المكان المعد للعبادة، فلا يجوز له أن يلوك فمه بذكر الله في غير مكان العبادة. 9- يقدسون العدد 19، ويبنون بموجبه كثيراً من الأحكام والمعاملات فيما بينهم وبين الناس، فترى مثلاً أن: - عدد الشهور 19 شهراً، والصوم 19يوماً. - وعدد أيام الشهر 19 يوماً، وكتابهم البيان 19 باباً. - وزكاة أموالهم 19 في المائة. - وعدد شهور السنة 19 شهراً، وفصول البيان 19. - وعدد الطلاق 19 مرة، ... إلى آخر وَلَعِهم بهذا الرقم. ¬

(¬1) الأقدس ضمن خفايا البهائية ص 150.

والواقع أن كثيراً من المسلمين يجهلون حقائق البهائية وتعاليمها؛ لأن البهائية- وإن كانت نحلة ظاهرة لكنها كما تقدم- تخفي حقائق كثيرة لا تعرف إلا بالتعمق في دراستها. فلا غرابة بعد هذا أن ترى كثيراً من المسلمين يرددون شعارات وأفكاراً بهائية دون أن يعرفوا من أين جاءتهم؛ بل اجتهدوا في تردادها ونشرها بشتى الوسائل. وكمثال على ذلك: هذا التقديس للرقم 19 الذي يعتبره البهائيون رقماً مقدساً؛ بل هو من الأدلة القوية حسب زعمهم على نبوة زعمائهم كالشيرازي والبهائي. ومن المؤسف حقاً أن ترى كثيراً من المسلمين انخدعوا بزخرف أقوال البهائية فتعلقوا بهذا الرقم، ثم نظروا إلى بقية الأعداد بعين المتعمق المتفحص علّهم يصلون إلى اكتشاف آخر مثل اكتشاف البهائية للعدد 19. ولقد ألقى أحد دعاة البهائية محاضرات في الكويت (¬1) عن العدد تسعة عشر وعناية القرآن الكريم به؛ بل وقيام أجزاء القرآن وجمله من هذا العدد أو من مضاعفاته، وذهب يدلل على أن القرآن من الله وأنه معجزة بدليل عنايته وقيامه على هذا العدد 19، وهو العدد الذي اهتدى إليه الميرزا الشيرازي ثم البهاء ومن جاء بعدهما، وأن فيه دلالة قوية على نبوة وألوهية البهاء في القرن التاسع عشر حسب زعم البهائية. فحينما ألقى داعية البهائية في الكويت الدكتور محمد رشاد خليفة محاضرته عن العدد تسعة عشر بثت إذاعة الكويت تلك المحاضرة، ونُشرت في أماكن كثيرة في بلدان المسلمين كالقاهرة وغيرها في شكل كتيبات توزع، وأشرطة تباع وتهدى. ¬

(¬1) انظر: قراءة في وثائق البهائية ص 191، وانظر: البهائية رأس الأفعى - توسع في أخبارها الرجل البهائي الضال المضل، انظر: 13 - 46.

ثم قام كثير من الكتاب بتأييد تلك الفكرة وترويجها. ولعل بعض هؤلاء الذين فرحوا باكتشاف العدد 19، وادَعوا أنه دليل على معجزة القرآن ما علموا بأنهم يخدمون بهذا العمل شياطين البهائية. ولم يقف هوس البهائية في العدد 19 عند حد، فقد جرؤوا على الكذب على الله في القرآن الكريم؛ إذ فسروا فواتح السور المشتملة على الحروف المقطعة بحسب ما يمليه مخططهم؛ للدعاية لهذا الرقم الذي أحبوه كثيراً، وذهبوا يدللون على صدق البهائية، وزعموا أن آيات القرآن الكريم وكذلك التوراة دللت على ذلك. ولقد كان للكمبيوتر مقام رفيع عندهم واهتمام بالغ، فهو الذي أعانهم-كما يدعون- على تخريفاتهم في دلالات الأعداد، ويستدلون بنتائج ما يخبرهم به على أنها حقائق لا تقبل الجدل مع أنها مملوءة بالتناقض والاضطراب والمغالطات المستورة حيناً والمكشوفة أحياناً. وعلى كل حال فإن قضية هذا العدد والخوض فيه من المسائل الطويلة والغير نافعة، وما أشرنا إليه هنا يغني في التنبيه على عمق خرافات البهائية وخداعهم للناس والخطر الذي يمكن أن يجره هؤلاء على العالم لو تحققت أهدافهم لا سمح الله (¬1) . ونكتفي بما تيسر ذكره من مبادئ البهائية وتعليماتهم، وفي الوقت ¬

(¬1) من الكتب التي تحدثت عن فضائل العدد 19: 1- الأقدس، 2- البيان، 3- ما كتبه د/ محمد رشاد خلفية في محاضرته بالكويت تحت عنوان تسعة عشر؛ دلالات جديدة في إعجاز القرآن، 4- ما كتبه مصطفى محمود من أسرار القرآن فهم عصري للقرآن، 5- ما كتبه العلماء رداً على البهائية مثل كتاب الشيخ إحسان إلهي، ومثل كتاب قراءة في وثائق البهائية، وكتاب البهائية رأس الأفعى.

الحاضر يمكن إغفال النظر عن مناقشتها والرد عليها كلها؛ لأن التعليق عليها لا يتطلب أكثر من أنها تعاليم وعقائد غير إسلامية وليس لهم عليها من دليل إلا مجرد التخرص وما تهواه أنفسهم زاعمين بعد ذلك أنها منزلة من عند الله عز وجل، ناسخة لجميع الشرائع. يقولون هذا في الوقت الذي يتظاهرون فيه بأنهم على الإسلام، للتزلف إلى المسلمين ومخادعتهم عن دينهم. فإن العلماء يذكرون أن عبد البهاء الذي ورث النبوة بعد أبيه صلى الجمعة مع المسلمين قبل وفاته بيومين، مع أن الصلاة جماعة محرمة في شريعتهم إلا على الميت. وهو يهدف بصلاته مع المسلمين ومع النصارى ومع اليهود ومع البراهمة التدليل على أن البهائية ذات ديانة شاملة تتسع لكل المذاهب والديانات والمختلفة، وسموا هذا التخبط والاضطراب والتناقض ديناً مقدساً شاملاً (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) من أراد التوسع والاطلاع على نصوص ما قدمنا إيجازه عنهم فلينظر في المراجع والمصادر التي سنذكرها في آخر دراسة هذه الطائفة إن شاء الله تعالى.

الفصل الخامس أمثلة من تأويلات البهائية للقرآن الكريم

الفصل الخامس أمثلة من تأويلات البهائية للقرآن الكريم لقد لعب التأويل دوراً خطيراً في مفاهيم الناس، وقد سبقت الإشارة إلى بعض أضراره العديدة على الإسلام والمسلمين، والغرض هنا هو ذكر بعض الأمثلة التي تبين كيف جرأت البهائية على التلاعب بالنصوص وأولتها على طريقتها الباطنية الملحدة، ومن ذلك: - ما ورد من ذكر القيامة في القرآن قالوا: إن المقصود بها قيامة البهاء بدعوته وانتهاء الرسالة المحمدية. - النفخ في الصور دعوة الناس إلى اتباع البهاء. - البرزخ هي المدة بين الرسولين أي محمد صلى الله عليه وسلم والباب الشيرازي. - وفي قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي ذهب ضوؤها: أي انتهت الشريعة المحمدية وجاءت الشريعة البهائية. - وفي قوله تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي تركت الإبل واستبدل عنها بالقاطرات والسيارات والطائرات. - {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي جمعت في حدائق الحيوانات في المدن

الكبيرة. - {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي اشتعلت فيها نيران البواخر التجارية. - وقوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي اجتمعت اليهود والنصارى والمجوس على دين واحد فامتزجوا في دين الميرزا المازندراني. - {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} أي أسقطت الأجنة من بطون الأمهات فيسأل عن ذاك من قبل القوانين؛ لأنها تمنع الإجهاض. - {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} أي انتشرت الجرائد والمجلات وكثرت. - {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ} أي انقشعت، أي أن الشريعة الإسلامية لم يعد يستظل بها أحد. - {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي وصل بعضها ببعض عن طريق القنوات. - {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} الأولى لمن عارض الميرزا حسين، والثانية لأتباعه المؤمنين به. - {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي استخرجت الأشياء والتحف ذات القيمة.

- {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} الجبال هنا هم الملوك والوزراء أي دونوا لهم دساتير يسيرون بموجبها، وهي الدساتير الحديثة. - وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} إلى آخر الآية الكريمة أي مجيء البهاء المازندراني. - وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قالوا-الحياة الدنيا هي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والآخرة هي الإيمان بميرزا حسين علي البهاء. - وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ {29} فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} قالوا: الفريق المهتدي هم الذين آمنوا بالبهاء، والآخرون هم الذين أبوا الإيمان به. - وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ {55} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي علم دين بهاء الله والإيمان به، لقد لبثتم في كتاب الله -الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم - أي لبثتم في إقامة كتاب الله وهو القرآن الكريم والعمل بشريعته المطهرة إلى يوم البعث؛ أي إلى قيام بهاء الله وظهوره، فهو المراد بالبعث، أي خروج الناس من دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى دين البهاء.

- وقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} أي سماء الأديان انشقت. {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} هم رجال الدين لم يبق لهم أثر على الناس. - وقوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي فتحت قبور الآشوريين والفراعنة والكلدانيين لأجل الدراسة. - وقوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قالوا: القصد منها: الأديان السبعة البرهمية البوذية، والكونفوشستية، الزرادشتية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام، أنها مطويات جميعاً بيمين الميرزا حسين المازندراني. إلى غير ذلك من التأويلات الباطنية الشنيعة لآيات القرآن الكريم والكذب على الله تعالى دون مبالاة أو خوف لا من الله، ولا من انتقاد عقلاء بني آدم على هذا الصنيع الفاحش من هؤلاء السفهاء (¬1) . وهناك تحريفات أخرى كثيرة كلها تهدف إلى شيء واحد هو محاولة حرب الإسلام وانتزاعه من قلوب أتباعه بطريقة ماكرة. وهذه التحريفات لا يحتاج المسلم إلى الاطلاع على الرد عليها؛ فهي أقل من أن تعلق بذهن ¬

(¬1) انظر لهذه التحريفات وغيرها: حقيقة البابية ص126-128، قراءة في وثائق البهائية ص277، عوان ((القيامة البهائية)) إلى ص 302، وكذا عنوان ((قيام الساعة البهائية وانتهاء أجل الأمة المحمدية ص 303 -322.

أحد، إلا أن المهم في هذه التأويلات هو معرفة الدافع لهؤلاء إلى اقتحام هذه التأويلات السخيفة. يجيب الدكتور محسن عبد الحميد عن ذلك بقوله: ((والجواب أنهم يحاولون ذلك لكي يتوصلوا عن طريق تلك الأباطيل إلى أن القرآن قد بشر بمجيء البهاء، فموجب هذه التأويلات وغيرها أن نبياً سيظهر ولكن متى؟ الجواب: فند ظهور القاطرات وإنشاء حدائق الحيوانات وصنع البواخر والسفن وامتزاج النصارى واليهود والمجوس وشق القنوات وفتح قبور الآشوريين والفراعنة والكلدانيين وإجهاض الأطفال)) (¬1) ! * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: حقيقة البابية والبهائية ص 126 - 128.

الفصل السادس موقف البهائية من السنة النبوية

الفصل السادس موقف البهائية من السنة النبوية وكما أولوا آيات القران الكريم أولوا كذلك الأحاديث النبوية على طريقتهم الباطنية الملحدة التي زعموا أن الأحاديث كلها شأن القرآن تدل على نهاية الشريعة المحمدية وظهور القيامة بمجيء البهاء، على قلة ما التفتوا إلى السنة؛ لأن البهاء في أنفسهم أعلى من الرسول صلى الله عليه وسلم-وأخزى الله البهائية (¬1) . ولأن السنة والحديث- كما صرح البهائي الحاقد الدكتور محمد رشاد خليفة- إنما هي بدع شيطانية والوقوف على ظاهرها دون تأويلها بظهور البهاء يعتبر كفراً بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، ويعتبر خروجاً بالأمة إلى الشرك والضلال-كما زعم هذا الكذاب- وهذه التصريحات أصدرها في سنة 1982م وهو إمام مسجد توسان بولاية أريزونا الأمريكية باسم رشاد خليفة بحذف اسم محمد لأشياء في نفسه. وقد أضاف إلى افتراءاته وإلحاده فزعم أن القرآن حذر المسلمين عن أخذ الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجب أن يأخذوه عن القرآن فقط. وهذا القول ¬

(¬1) لا يؤمن البهائية بالسنة النبوية، ولا يأخذون من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما يوافق هواهم مما يتعلق بالفضائل التي يعتبرونها من الأدلة الثابتة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أحاديث موضوعة لا تثبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن البهائيين يتفننون في نشرها، انظر: البهائية للخطيب ص 41- 43.

يكفي في رده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (¬1) . ثم زعم أن المسلمين رجعوا إلى الوثنية حينما عظموا الرسول صلى الله عليه وسلم ومجدوه وقد أمر الله أن يمجدوه ويعظموه هو وحده. ومما يجدر التنبيه إليه أن البهائيين المتأخرين قد اتخذوا مسلكاً أخبث وأمكر من مسلك أسلافهم، وذلك بظهورهم أمام المسلمين بتعظيم الإسلام ونبي الإسلام، وأن الإسلام حق والرسول محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأنه لا تنافي بين الإيمان بنبي الإسلام وبين الإيمان بنبي البهائية؛ لأن الإسلام نفسه قد بشر بنبي البهائية كثيراً في القرآن وفي السنة. فالذي لا يؤمن بالبهائية بعد أن قامت القيامة وانتهى الدور المحمدي بظهور البهاء لا يكون مؤمناً لا بالإسلام ولا بالبهائية ولا بالله أيضاً؛ فإن الأساس للإيمان هو الإيمان بالبهاء المازندراني الملحد. وينتهي الإيمان عند البهائية أن يتخذه الشخص إلهاً من دون الله، وصدق الله العظيم: {وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه البخاري في الأدب - رقم (6120) .

الْوَهَّابُ} (¬1) * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) من كتب البهائية في هذا الموضوع: 1- الحجج البهية، لفضل الله الجرفادقاني، 2- كتاب التبيان والبرهان لأحمد حمدي، وفي كتاب قراءة في وثائق البهائية للدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ - مناقشات وردود جيدة على مزاعم البهائية، اقرأ العناوين الآتية: ص324 ((القرآن والحديث في وثائق البهائية)) . ص335 ((القرآن والحديث في العلمانية العصرية)) . ص341 ذكرت دراسة عن أحد كتب البهائية وأباطيل محمد رشاد خليفة. انظر: القرآن والحديث والإسلام في كتاب ((البهائية الجديدة)) ((الطلع الخبيث للشجرة الملعونة)) .

الفصل السابع السبب في انتشار تعاليم البهائية

الفصل السابع السبب في انتشار تعاليم البهائية الواقع أنه ليس في تعاليم البهائية وديانتها ما يغري باعتناقها، فهي أفكار ملفقة من شتى المذاهب والديانات، مملوءة بالخرافات التي يأباها العقل السليم والفطرة المستقيمة، كما أنها مملوءة كذلك بالمتناقضات شأن كل باطل. ومع ذلك فقد انتشرت انتشاراً رهيباً في الكثير من البلدان، إلا أن بعض أهل تلك البلدان قد استفاقوا حين أمعنوا النظر في تعاليم البهائية وما تهدف إليه من الشر بالعالم كله- وفي أولهم العالم الإسلامي- هالهم ما رأوه من تلك التعاليم الجهنمية- وهالهم كذلك ما رأوه من الحقد الشديد للإسلام ونبيه العظيم. فشنوا الغارات الملتهبة على البهائيين وعلى تعاليمهم وعلى محافلهم المنتشرة وحاكموهم محاكمات ظهرت في كثير من تلك المحاكمات حقيقة البهائية الملحدة الإباحية، فأفتى القضاة والعلماء والمثقفون وكل من في قلبه أدنى ذرة من إيمان بخطر البهائية ووجوب محاربتها، والتقرب إلى الله بسحق كل بهائي؛ احتساباً للأجر والثواب، ولا تزال الحرب سجالاً بين أهل الخير وأهل الشر. إلا أن البهائيين -وهم لا دين لهم- يحاربون غيرهم بمختلف فنون الحرب الظاهرة والخفية، ومن مؤامرات ودعايات وإغراءات ونفاق ودعارة؛ لأن كل هذا جائز في شريعة البهائية.

إضافة إلى ما تيسر لهم من أسباب أخرى كثيرة ساعدت في انتشار هذه النِّحْلة، يمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي: 1. جهل كثير من المسلمين بحقيقة المذهب البهائي، خصوصاً وأن الدعوة البهائية أكثر ما توجه إلى العوام والسطحيين من الناس. 2. تظاهر هؤلاء -تقية ونفاقاً- بالإسلام وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. 3. التفاف أعداء الدين الإسلامي نحو البهاء وتعاليمه والذود عنه ونشر أباطيله وزخرف الدعايات له، والمساعدات السخيفة له ولأتباعه بكل شكل من أشكال المساعدات مادية ومعنوية. 4. انشغال كثير من المسلمين عند قيام البهائية بمشكلات داخلية وخارجية بعضها مشكلات حقيقية، وأكثرها إنما هي مفتعلة نم أعدائهم لإلهائهم عن ما يراد بهم ليتم المخطط بهدوء. 5. كثرة تحريفات النصوص-على وفق ما يريدون- سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة؛ حيث أولوها على الطريقة الباطنية الماكرة؛ بحيث إذا وقف عليها من ليس عنده اطلاع كاف على أباطيل الباطنية والبهائية لابد وأن يقع في شبكاتهم (¬1) ، ويصدق ولو بعض تلك الترهات. 6. تفنن هؤلاء في التلون، واستعمال التقية، واستحلال الكذب ¬

(¬1) وأقرب الأمثلة على هذا تلاعبهم بمعنى الآية الكريمة؛ {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ؛ حيث صارواهم والقاديانيون في طريق واحد حول تأويل هذه الآية بأن الخاتم بمعنى ((أفضل)) ، أو أنه كالمهر، أو أنه خاتم الأنبياء أصحاب الشرائع المستقلة، غير ذلك من أكاذيبهم على الله وعلى رسوله، وعلى اللغة أيضاً؛ لأن اللغة لا تساعدهم أبداً على تلك المعاني الباطلة التي اخترعوها.

والنفاق، بحيث كانوا يتوددون إلى كل شخص بما يستطيعون به الوصول إلى قلبه لاستدراجه بعد ذلك إلى حيث يشاءون، دون أن يجدوا في تلك المسالك الملتوية أي حرج. 7. مهارة هؤلاء في تنظيم الدعوة إلى مذهبهم وتنظيم المحافل التي هي نقاط الانتشار في كل بلد توجد به هذه المحافل، وتوددهم إلى الحكام والمفكرين، وخداعهم لهم بما يظهرونه لهم من الخير وإرادة الإصلاح، والتزلف إلى رضاهم بكل وسيلة. 8. كما يعود انتشار مذهب البهائية إلى أن أكثر الناس يحبون الانفلات عن الالتزامات الشرعية والميل إلى الشهوات ونبذ القيود، وقد عرف زعماء البهائية هذا الجانب واستغلوه أقوى استغلال، ومن هنا دخل كثير من الناس في المذهب البهائي ليس اقتناعاً تاماً به، وإنما ليضفي على ميوله وشهواته صفة شرعية ولو على طريقة الشرع البهائي. 9. كما يعود أيضاً إلى أن أكثر الدعوات الباطنية إنما تنتشر بين الأوساط الفقيرة؛ حيث يقوم أصحاب تلك الدعوات بمساعدة الفقراء من بناء مدارس ومستشفيات ودور اجتماعية وقروض وإيصال بعضهم إلى الوظائف الحكومية، وتسهيل معاملاتهم وغير ذلك من المساعدات التي يكون لها أثر إيجابي في نفس المدعو ولابد إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة الخفية التي يجيد هؤلاء عرضها بأساليبهم وطرقهم الملتوية. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الثامن كتاب البهائية الذي يقدسونه

الفصل الثامن كتاب البهائية الذي يقدسونه ادعى حسين علي المازندراني الألوهية. ومن هنا كان حتماً عليه أن ينزل الكتب المقدسة ويبيّن لعباده ما يريد حسب أوهامه. فكان أن جاء بكتابه ((الأقدس)) وجاء فيه بما يستحي طالب العلم المبتدئ في الطلب من نسبته إلى نفسه، فكان بحق أحط كتاب، وصيغ بأردأ العبارات، وحشي بألفاظ وعبارات تنضح جهلاً، تنفر من معانيه النفوس، وتأنف من سماعه الأسماع، ألفّه ولفّقه المازندراني، وزعم أنه أفصح وأشرف كتاب منزل على الإطلاق، وفضله على كتب الله المنزلة على رسله الأخيار، ثم نسخ به جميع الكتب السابقة وفي أولها القرآن الكريم. ولا تسأل عما فيه من الألفاظ الشنيعة والمعاني الركيكة والأخطاء اللغوية والتراكيب الغامضة، قراءته مملة ثقيلة على النفس، وقد قرأته عدة مرات؛ لأنه كتيب، وكلما قرأته ازددت غيظاً وغماً من تبجح مؤلفه واستكباره الذي فاق استكبار فرعون وهامان وقارون، فإنه كله مدح لنفسه ولبهائه ولجودة قريحته وعمق تفكيره، وإحاطته علماً بما كان وما يكون، وسماعه ضجيج أصوات الذرية في أصلاب آبائهم. ومخاطبة الملوك والرؤساء وندائهم إلى الأخذ بديانته، ومخاطبة بعض الأراضي أيضاً مثل قوله: يا أهل البهاء، يا معشر العلماء، يا ملاّء الإنشاء،

يا عبادي، يا معشر الملوك، قل لي يا ملك البرلين أسمع النداء من هذا الهيكل المبين. يا معشر الأمراء اسمعوا، يا شواطيء نهر الرين، يا معشر الروم، يا أرض الطاء، يا أرض الخاء، يا بحر الأعظم، قل يا قوم، يا ملك النمسا، يا ملوك أمريكا، هذه هي النداءات التي يكررها في كتابه. وقبل إيراد بعض الأمثلة من ذلك الكتاب أودّ التنبيه إلى أنك حينما تقرأ فيه تحتار حيرة شديدة في معرفة مصدره، فهو مرة يأتي بآياته كما يسميها على أنها من الله تعالى لشخصه مباشرة، ومرة يأتي بها على أنه هو الله الذي تكلم به كما اقتضت إرادته، ومرة يأتي بها على أنها من إنشائه هو، ومرة يُظهر فيها العلو والاستكبار إلى أبعد الحدود، ومرة يُظهر نوعاً من التواضع. وهكذا يخرج منه قارئه وهو أشد جهلاً به، حتى في الآيات التي يزعم فيها بيان بعض الأحكام ففيها من التعقيد وركاكة الأسلوب ما لا يكاد يفهم إلا بكلفة. ولكي يطلع القارئ الكريم على بعض تلك الآيات التي لفقها المازندراني نورد الأمثلة الآتية من كتابه الأنجس وليس الأقدس، وهو موجود ضمن كتاب خفايا الطائفة البهائية بنصه كاملاً كما تقدمت الإشارة إليه. 1. فمن ذلك زعمه أنه قد أحاط بعلم ما في اللوح وقرأه والناس غافلون، وأنه دخل مكتب الله-هكذا بهذا الأسلوب- والناس راقدون. النص: ((يا ملاّء البيان إنا دخلنا مكتب الله إذ أنتم راقدون، ولا حظنا

اللوح إذ أنتم نائمون، تالله الحق قد قرأناه قبل نزوله وأنتم غافلون)) (¬1) 2. رده على المخالفين له الذين يدعون أنهم علماء أكثر منه مع أنه أحاط بالعلم ولم يترك لهم منه إلا مثل ما تترك العظام للكلاب. النص: ((ومنها- أي من الناس- من يدعي الباطن وباطن الباطن، قل: أيها الكذاب تالله ما عندك أنه من القشور تركناها لكم كما تترك العظام للكلاب)) (¬2) 3. وقال في بيانه لمنزلة كتابه الأقدس: ((لا تحسبن أنا أنزلنا لكم الأحكام، بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار، يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي تفكروا يا أولي الأفكار)) (¬3) . ويندب حظ من أعرض عن ذكره بقوله: ((من الناس من غرته العلوم وبها منع عن اسمي القيوم، وإذا سمع صوت النعال من خلفه يرى نفسه أكبر من نمرود قل: أين هو يا أيها المردود تالله إنه لفي أسفل الجحيم)) (¬4) . ويقول في تفضيل كلامه: ((من يقرأ من آياتي لخير له من أن يقرأ كتب الأولين والآخرين، هذا بيان الرحمن- يعني نفسه- إن أنتم من السامعين، قل: هذا حق العلم لو أنتم من العارفين)) (¬5) . ¬

(¬1) الأقدس ص 182. (¬2) الأقدس ص 147. (¬3) ص141. (¬4) ص 149. (¬5) ص 173.

إلى أن قال: ((لو يقرأ أحداً به من الآيات بالروح والريحان خير له من أن يتلو بالكسالة صحف الله المهيمن القيوم)) (¬1) . ((قل: تالله لا تغنيكم اليوم كتب العالم ولا ما فيه من الصحف إلا بهذا الكتاب الذي ينطق في قطب الإبداع أنه لا إله إلا أنا العليم الحكيم)) (¬2) إلى آخر إفكه وإلحاده وجهله بجميع الأديان. على أن البهاء- وقد تنبأ وتأله- صار يخبر بأشياء كثيرة من المغيبات التي زعم أنها ستقع كما أخبر، فإذا بها تأتي عكس ما أراد وأخبر، وقد أخزاه الله في ما تنبأ به كما أخزى غيره من كبار الأبالسة، ونشير هنا بإيجاز إلى بعض نبوءات المازندراني (¬3) ، ومنها: 1. ما تنبأ به المازندراني من أن البهائية سيكون لها مستقبل مشرق في العراق، وسيفتخرون بها بعد قليل من الزمن، فهل صدق في ذلك الزعم الذي ينسب الإخبار به إلى الله؟ مضى على قوله سنوات عديدة ولم يفتخر أهل العراق بها، بل وبعكس ذلك لا يوجد اليوم فيها من يستطيع المجاهرة بالبهائية رغم ادعاء المازندراني الألوهية وأن ما أخبر به سيكون كما وقع. 2. تنبأ المازندراني بأن طهران ستكون بهائية كلها ويحكمها بهائيون، ¬

(¬1) ص 176، وهكذا في الأصل ((أحداً)) . (¬2) ص 181. (¬3) لإحسان إلهي رحمه الله في كتابه البهائية نقد وتحليل مقال بعنوان ((البهائية وتنبؤاتها)) يبدأ من ص249 إلى ص 308، توسع في ذكر تنبؤات المازندراني وبين أكاذيبه كلها، ومنه ما أشرت إليه في الفقرات التي ذكرتها، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتاب البهائية نقد وتحليل - الصفحات المشار إليها.

ويمتد حكمهم من طهران إلى ما ورائها، ويعظم شأن البهائيون بها جداً. وكذب هنا كما كذب في غير ذلك؛ فلم يسمح للبهائيين رفع رؤوسهم أو إظهار دعوتهم؛ بل بقوا فيها في غاية الذل والاحتقار ولم يقم لهم حكم فيها أو كلمة. 3. تنبأ المازندراني بأن دينه سيغلب الأديان كلها ويعتنقه أكثر العالم وسيهيمن هو على جميع الأرض، فماذا كانت النتيجة؟ لقد فضح الله الكاذب؛ فقد مضت سنوات عديدة وتلك الأماني الفارغة لم يتحقق منها شيء رغم ما قام به أعداء الإسلام من اليهود، والصهيونية العالمية، والصليبيون، والاستعمار الروسي والأمريكي بمساعدته والوقوف إلى جانبه. ولكن قدرة الله أقوى من ذلك، ففشل هؤلاء فشلاً ذريعاً في تحقيق مطامع هذا المتأله الكاذب، وكانت أحلامه خيالية، وكلامه هذيان فارغ {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} . 4. وأغرب شيء وأشنعه في تنبؤات البهائية ما صرح بن ابن المازندراني المسمى عبد البهاء عباس أفندي بوحي من أبيه حينما سئل عن آخر السنوات التي تعم فيها البهائية العالم وتنتشر في أرجائه وأنحائه؛ أجاب بأنه-وحسب البشارات القديمة التي ذكرها له إلهه المازندراني -أنه سيتم ذلك وبالتحديد أيضاً في 1957م. فماذا كانت النتيجة؟ لقد أظهر الله كذبهم حتى لا يبقى لأحد حجة، فلم تدخل الدول في البهائية، ولم يظهر نور الله البهاء في جميع أقطار الأرض كما زعموا.

فطردت البهائية من إيران، وطردت من العراق، وطردت من تركيا، وطردت من مصر وليبيا وسوريا، وقضي عليها في باكستان وأفغانستان، ولم يأبه لها العالم الغربي كما يريدون، وكذلك طردت من أفريقيا، ولم يقر لها قرار إلا في البيئات المنحلة أو الحاقدة على الإسلام. وظلت طريدة لخبثها وخبث مبادئها وولائها للاستعمار في كل مكان، إلى أن آواها الإنكليز إلى فلسطين وتلقفتها اليهودية، فأين نبوءة حسين علي البهاء المازندراني وابنه عباس أفندي من أن البهائية ستكتسح جميع الأديان وستعم البلدان في الموعد الذي حدده البهائيون؟! (¬1) * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: البهائية نقد وتحليل ص 254.

الفصل التاسع أماكن البهائية

الفصل التاسع أماكن البهائية تنتشر الأفكار وتتغلغل بين الناس دون أن يفطن لها المجتمع، لا تحدها الحدود الدولية السياسية، ولا تمسك بزمامها سلطة، تسري في الأمة سريان النعاس في جسم الإنسان حتى إذا قوي أمرها وانتشر خبرها وصار لها رجال يدافعون عنها- ظهرت متنكرة للوسط الذي تعيش فيه طالبة التغيير الجذري لكل ما حولها. ومن هنا تبدأ ثمارها؛ خيرة كانت تلك الأفكار أم شريرة. ومن المعلوم أن للسلطة والسياسة والمجتمع بأكمله دوراً في ظهور الفرق وعدم ظهورها حسب الظروف التي تحيط بها، فمثلاً هذه الطائفة التي نحن بصدد دراستها من الأسس الهامة في عقائدهم القول بالتقية، وحينما يخافون أن يظهروا أنفسهم على حقيقتهم يدخلون مع الناس على الوفاق والود ويبطنون ما انطوت عليه نفوسهم الشريرة من التربص بالبشرية والتمسك بعقائدهم ومحاربة الأديان المنافية لها، ويكونون كالنار تحت الرماد، ويعملون في الخفاء لنشر أفكارهم إلى أن تواتيهم الفرصة فيظهرون. وقد انتشرت البهائية في أماكن كثيرة بعضها معلوم وبعضها في الخفاء، إلا أن وجودهم الأكبر ومركزهم الرئيسي بين حلفائهم في أرض فلسطين التي اغتصبها اليهود، وبارك هذا الاغتصاب ونشر الدعاية له البهائيون في كل مكان.

ويوجد لهم خلايا كثيرة في إيران وأمريكا والعراق ومصر وإمارات الخليج والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ومحافلهم كثيرة وأكبرها في شيكاغو وإسرائيل وكندا وبنما ولندن وألمانيا وسويسرا والهند وباكستان وشمال أفريقيا وأوغندا واستراليا. وقد قدر بعض زعماء البهائية عدد البهائيين بما يزيد على ستين مليون نسمة في العالم، ولكن لا ينبغي تصديقهم فيه فهو رقم دعائي أكثر منه حقيقي. ومما لا ينكر أنه قد وقف أعداء الإسلام إلى جانب البهائية مدافعين عنها ومشجعين لها في الاستمرار، وكل من حاول الأخذ على أيدي البهائيين في أي مكان من العالم تقوم ضده دعاية رهيبة بأنه غير متحضر وإرهابي، ولا يسمح بحرية الفكر، ولا يراعي حقوق الإنسان، إلى غير ذلك من الدعايات الطويلة العريضة التي يجيدونها. ثم يلجئون إلى مجلس الأمن للعويل على حقوق الإنسان التي ترعاها الأمم المتحدة في نيويورك، ليجد كل من يريد إيقافهم عند حدهم أنه أصبح في عداد الأشرار دون أن يعرف الذنب الذي اقترفه، وهذا بفعل دسائس زعماء البهائية في كل مكان يوجدون فيه وتكاتفهم على باطلهم ووقوف بعضهم إلى جانب البعض الآخر لشعورهم بالقلة والذلة -أدام الله ذلهم- إلى يوم يؤوبون فيه إلى الدين الحق والصراط المستقيم. * * * * * * * * * * * * * * * * **

من مراجع البهائية

من مراجع البهائية 1. البهائية تاريخها وعقيدتها وصلتها بالباطنية والصهيونية. تأليف عبد الرحمن الوكيل. 2. حقيقة البابية والبهائية. تأليف الدكتور/ محسن عبد الحميد. 3. البهائية. السيد محب الدين الخطيب. 4. البهائية نقد وتحليل. إحسان إلهي ظهير. 5. حقيقة البهائية والقاديانية. الدكتور/ محمد حسن الأعظمي. 6. البهائية الفكر والعقيدة. صالح عبد الله كامل. 7. الحكم على البهائية. علي رشدي. 8. قراءة في وثائق البهائية. الدكتورة/ عائشة عبد الرحمن ((بنت الشاطئ)) . 9. خفايا الطائفة البهائية. الدكتور/ أحمد محمد عوف. 10. البهائية رأس الأفعى. أول محاكمة شرعية للبهائيين لمجموعة من الكتاب. 11. الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة. ((الندوة العالمية للشباب الإسلامي)) . 12. دراسات عن البهائية والبابية. تأليف: محب الدين الخطيب، علي علي منصور، محمد كرد علي، محمد فاضل.

وبعد هذه الدراسة عن فرق البهائية عثرت على نسخة مصورة عن هذه الفرقة تسمى موقع البهائيين في الحركات الهدامة، المفسدون في الأرض كتبها ((محمد علي كيوة)) - معاصر- فيها تفاصيل دقيقة وموسعة عن البهائية، ويظهر فيها أن له اطلاعاً واسعاً على خفايا هذه الطائفة ومعرفة خاصة بهم فلترجع إليها إن شئت. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الباب التاسع القاديانية

الباب التاسع القاديانية تمهيد: التحذير من ظهور دجالين يدعون النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . سورة الأحزاب: 40. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} سورة المائدة: 3. وجاء في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: 1. ((وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)) . قال أبو الدرداء: ((صدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)) (¬1) . 2. ويقول عليه الصلاة والسلام في بيان أنه لا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا وحذرها منه: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا دلَّ أمته على ما يعلمه خيراً لهم، ويحذرهم ما يعلمه شراً لهم)) (¬2) . فقد جمعت هذه النصوص بيان ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيان إكمال ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه 1 / 4. (¬2) أخرجه أحمد 2/161، 191 من المسند.

الدين من عند الله عز وجل، وبيان إكماله من قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبيان كمال النصح والشفقة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث بيَّن كل ما يحتاج إليه المسلم في أمور دينه ودنياه، ولم يبق لأي متحذلق مجال في الزيادة في الدين أو النقص منه لأن ما أكمله الله لا يحتاج إلى إكمال. وفي إثبات ختم النبوة وردت نصوص كثيرة نكتفي ببعضها هنا، ومن أراد التوسع فعليه بكتب الحديث والتوحيد وما كتبه العلماء عن هذه القضية بخصوصها، ومن تلك النصوص: 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي)) (¬1) . 2. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي حينما خرج إلى تبوك: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي)) (¬2) إذا لا نبي بعده عليه الصلاة والسلام، ولكن هناك جريئون لا يبالون بالكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يدعون النبوة بكل صلافة. وفي هؤلاء يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: 1. عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بين يدي الساعة كذابين)) (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري 6/ 495، ومسلم 4/ 509. (¬2) صحيح البخاري 8/ 112، ومسلم 5/ 268. (¬3) مسلم 5/ 768.

2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الفتن التي تكون قبل الساعة: ((وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)) (¬1) . وتوجد أحاديث كثيرة رواها أصحاب المسانيد والسنن، كلها تكذيب لمن ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، مهما زخرف صاحبها القول وتفنن في الخداع والاحتيال. ولقد أجمعت الأمة الإسلامية وصار معلوماً من الدين بالضرورة أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده؛ لوصول البشرية إلى نهاية الكمال الذي لا يحتاجون بعده إلى نبي ولا إلى رسالة جديدة، فقد أكمل الله الدين وصار صالحاً للبشرية إلى نهاية هذا الكون، وهذه نعمة من الله تعالى على البشر عامة؛ لتجتمع همتهم على هذا الدين القيم، وتطمئن نفوسهم إلى أنه لا تبديل ولا تغيير لأحكامه، وأن عليهم فقط تنفيذ ما جاء من أحكامه وشرائعه للوصول إلى السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة. واتفق المسلمون على أن كل من يدعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكون ملحداً كذَّاباً أو مجنوناً مهوساً، ومن المعلوم أن أعداء الإسلام والمستعمرين أصحاب المطامع الواسعة في بلاد المسلمين لم يرضهم هذا المنهج الإلهي، وكذلك لم يرض هذا المنهج أصحاب النفوس المريضة المتعطشة إلى السلطة والعلو في الأرض بغير الحق. فقام كذَّابون يدعون النبوة معرضين عن ما ذكر الله في كتابه وما ذكره ¬

(¬1) البخاري 13 / 88.

رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من انقطاع النبوة، وتظاهروا بالإسلام لتحقيق مطامعهم، ولم يكونوا وحدهم في هذا الميدان، بل وجدوا من يشجعهم ويمدهم بالمال وهم المستعمرون الذين رأوا أن هؤلاء هم أفتك الأسلحة لتفريق كلمة المسلمين وإرجاعهم إلى الذل والوثنية، فربُّوهم على أيديهم وأمدُّوهم بكل ما يحقق أحلامهم. وقد ذهب هؤلاء المغرمون بدعوى النبوة إلى تأويل النصوص الواردة في ختم النبوة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم تأويلاً شنيعاً باطنياً، سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . سورة الأحزاب: 40. أو كانت من السنة النبوية، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وحتى يبعث دجالون كذَّابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)) (¬1) . أو قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) (¬2) . متلاعبين بمعانيها على حسب ما يخدم عقائدهم الإلحادية، غير عابئين بما اتفق عليه المسلمون من معانيها أو بما تدل عليه اللغة العربية التي أنزل الله بها القرآن الكريم وشرَّفها به، وجعلها أفضل اللغات وجعلها مفخرة كل مسلم في كل مكان من الأرض، وصار هؤلاء يتخبطون في كل أمر يريدونه، لا يرجعون فيه إلى أهله، ولا أدل على هذا من إجماع المسلمين كلهم وإجماع كل اللهجات العربية على أن الختم معناه آخر الشيء ونهايته، بينما معناه عند هؤلاء يختلف عن ذلك تماماً. ¬

(¬1) أخرجه البخاري 13 / 88. (¬2) البخاري 7/ 71، والترمذي 5/ 641، وابن ماجه 1/43، وأحمد 3/ 32.

فهو عندهم إما أن يكون بمعنى الأفضل أو الزينة أو غير ذلك مما سنذكره إن شاء الله عنهم، ومما لا يجهله طلاب العلم أن هذه المعاني التي جاءوا بها هي واهية كبيت العنكبوت، وتدل كذلك على فراغهم من العلم ورغبتهم في الخروج على منهج الله تعالى بتلك التأويلات الفاسدة، التي لا تدل عليها اللغة ولا أقوال أهل العلم. والواقع أن هؤلاء الفَجَرَة أمثال أحمد القادياني أو حسين علي المازندراني زعيم البهائية أو غيرهم- قد أحدثوا فوضى في مفهوم النبوة بحماقتهم؛ ففقدت كلمة النبوة جلالتها وحُرمَتُهَا وقداستها في نفوس بعض الناس؛ إذ هَانَ على أصحاب المطامع والنفوس المريضة بصفة عامة بعد هؤلاء أن يتنبئوا، خصوصاً وقد أنسوا من أعداء الإسلام تعاطفاً معهم وحماية لهم. إضافة إلى ما أحدثته هذه النبوءات الكثيرة المزعومة من بلبلة أفكار المسلمين واضطرابهم وتمزيق وحدتهم وإفلاسهم الروحي العميق، لقد أضافت الحركة القاديانية إلى الاضطراب والجهل بالدين وتشتيت كلمة المسلمين وتضارب أفكارهم في الهند وفي غير الهند- أضافت هذه الحركة حينما جاءت في ذلك الليل البهيم تمزيقاً جديداً لوحدة المسلمين وتباعداً بينهم، وأخذ بعضهم يكفر البعض الآخر وضعفت كلمتهم. وأسهمت بريطانيا -العدو الأكبر للمسلمين- في محاولة الإجهاز على البقية من تعلق المسلمين بدينهم ووحدتهم في الهند، وفي كل مكان وصلت إليه أقدامهم النجسة في تلك الحقبة التي ظهر فيها الغلام بدعوته الخرافية المشئومة، وكذلك المرزا حسين علي المازندراني في إيران وفي فلسطين، وقبله علي محمد الشيرازي. وللباطل صولة ثم يضمحل. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الأول كيف نشأت القاديانية

الفصل الأول كيف نشأت القاديانية القاديانية وهي إحدى الفرق الباطنية الخبيثة (¬1) ، ظهرت في آخر القرن التاسع عشر المسيحي في الهند، وتسمى في الهند وباكستان بالقاديانية، وسموا أنفسهم في أفريقيا وغيرها من البلاد التي غزوها بالأحمدية؛ تمويهاً على المسلمين أنهم ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ((والقاديانية ثورة على النبوة المحمدية وعلى صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وثورة على الإسلام ومؤامرة دينية وسياسية كما يذكر الندوي)) (¬2) . احتضنها الإنجليز حينما كانوا حكاماً مستعمرين للهند، وتبنوها، وبذلوا لنصرتها ما في وسعهم من الإمكانيات المادية والمعنوية؛ وذلك لما رأوه فيها من تحقيق مآربهم والتمكين لهم في الهند وفي غير الهند، واحتضنتها كذلك اليهودية العالمية، ولهم مراكز في أنحاء العالم وفي إسرائيل لنشر الإسلام-كما يزعم القاديانيون. وقد نبغت هذه الفتنة في عصر كثر الاضطراب فيه وخَيَّم الجهل وانتشرت الأفكار والمبادئ الهدامة على أوسع نطاق، وتغلغلت بين صفوف المسلمين على حين غفلة منهم، حتى أصبحت طائفة كبيرة خصوصاً حينما تولى وزارة الدولة الباكستانية المسلمة وزير قادياني هو ظفر الله خان؛ فقد تولى وزارة الخارجية وعمل كل ما في وسعه لتمكين القاديانية والقاديانيين من الانتشار والظهور. ¬

(¬1) وذلك لأخذهم بالمبادئ الباطنية في تأويل النصوص تأويلاً باطنياً، ودعوى أن للنصوص ظاهراً وباطناً، وتدينهم بكثير من المبادئ الباطنية. (¬2) القادياني والقاديانية ص 5.

وصارت قاديان ثم الربوة عاصمة للقاديانية ومركز دعوة ودعاية لها، وبدأت القاديانية توجه دعوتها إلى البلاد العربية والإسلامية، وبدأت تظهر في العراق وسوريا وتنتشر في أندونيسيا (¬1) وبعض البلدان في أفريقيا (¬2) ، وتتمنى بإلحاح لو وُجِدَ من يصغي لها في الجزيرة العربية -حرسها الله من الفتن والارتداد الذي يراد لها- ففيها مهبط الوحي وإليها تهوي أفئدة المؤمنين بالله من كل قطر من أقطار الأرض. وكم بُذلت من المحاولات الكثيرة لطوائف الفرق الضالة للتغلغل إلى قلوب المسلمين في مكة والمدينة، فرد الله كيدهم إلى نحورهم، وباءت محاولاتهم بالفشل الذريع بفضل الله وتوفيقه لعلماء المسلمين لفضح تلك الطوائف وما تبيته من السوء للمسلمين ولدينهم، والله متم نوره ولو كره الكافرون. وقد قيض الله للتصدي للقاديانيين علماء أجلاء بينوا للمسلمين خطر هؤلاء القاديانيين وارتدادهم عن الإسلام، ومن هؤلاء العلماء المجاهدون كثير من علماء الهند وباكستان، وغيرهم من علماء البلدان الإسلامية، وبُذِلَت محاولات عديدة لجعل القاديانية أقلية غير مسلمة في باكستان. وتمَّ ذلك والحمد لله إلا أن نشاط القاديانيين هؤلاء ربما ازداد اشتعالاً وتوسعاً بين جهلة المسلمين وشبابهم، الذين لم يكن عندهم مانع من الثقافة الإسلامية عن تقبل الديانة القاديانية، التي بذلت المال ونشرت الدعاة لتحقيق ما تهدف إليه من إخراج المسلمين عن دينهم للإيمان بنبوة القادياني والحج إلى ¬

(¬1) انظر: البحث الذي قدمه الشيخ مشفق أمر الله بن شمس الدين بعنوان: ((القاديانية في أندونيسيا)) . (¬2) انظر: البحث الذي قدمه الشيخ سحنون تاج الدين بعنوان: ((القاديانية في غانا)) .

قاديان والرضى بحكم الإنجليز، واستعمارهم لبلدان المسلمين في كل مكان وصلت إليه أيدي الإنجليز الملطخة بالدماء، وقلوبهم المنطوية على غاية المكر والخديعة والإضرار بالمسلمين بكل ما يمكن فعله من قتل وسجن وتشريد، كما فعلوا في الهند بعد أن أخفقت ثورة الهند الكبرى عام 1857م، وراح ضحيتها كثير من أهل الهند، وخصوصاً من المسلمين بكل قسوة ووحشية (¬1) ، وبمباركة القاديانيين الذين كانوا من أخلص الجواسيس لهم. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: القادياني والقاديانية، الندوي ص5- 10، وكذا القاديانية للمودودي في مقاله: مواقف المسلمين وعلمائهم وقادتهم نحو القاديانية ص 51.

الفصل الثاني زعيم القاديانية

الفصل الثاني زعيم القاديانية 1- اسمه وأسرته: ترجم المرزا لنفسه ولأسرته في آخر كتابه ((ضميمة الوحي)) وجاء بخلط عجيب في ذلك. أما اسمه فهو: غلام أحمد القادياني، واسم والده غلام مرتضى، واسم أمه جراج بي بي (¬1) وفي نسبة أسرته يتضارب قوله؛ فهو يزعم أنه ينتمي إلى أسرة أصلها من المغول من فرع برلاس، ومرة قال: إن أسرته فارسية (¬2) ، ومرة زعم أن أسرته صينية الأصل، ومرة أنه من بني فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرى قال بأنها جاءت من سمرقند، وزعم مرة أنه يرجع إلى بني إسحاق (¬3) . وبعد كل هذا الخلط والاضطراب زعم أن الله أوحى إليه أن نسبه يرجع إلى فارس فقال: ((والظاهر أن أسرتي من المغول، ولكن الآن ظهر علي من كلام الله تعالى أن أسرتي حقيقة أسرة فارسية، وأنا أؤمن بهذا؛ لأنه لا يعرف أحد حقائق الأسر مثل ما يعرفها الله تعالى)) (¬4) . ¬

(¬1) القاديانية دراسة وتحليل ص205 نقلاً عن يعقوب القادياني، حياة النبي: 1/ 141 - 142. (¬2) القادياني والقاديانية ص20. (¬3) ذكر تلك الأخبار إحسان إلهي في كتاب القاديانية ص125 -126 نقلاً عن كتب الغلام كتاب البرية ص134 حاشية أربعين ص17، ضميمة حقيقة الوحي ص77، تحفة كولرة ص29. (¬4) حاشية أربعين ص27 رقم (2) ، القاديانية ص125.

وفي تقرير هذا الخلط قال في ضميمة الوحي: ((وسمعت من أبي أن آبائي كانوا من الجرثومة المغلية، ولكن الله أوحى إلي أنهم كانوا من بني فارس لا من الأقوام التركية، ومع ذلك أخبرني ربي بأن بعض أمهاتي كن من بني الفاطمة-ومن أهل بيت النبوة، والله جمع فيهم نسل إسحاق وإسماعيل من كمال الحكمة والمصلحة)) (¬1) . وكل من سأله عن هذه التقلبات في نسبه يقول: هكذا أخبرني الله تعالى، أو هكذا أُلهِمَ من الله أو كُلمَ على التعبير الذي يحبه (¬2) . أي أخبره الله بكل هذه التناقضات التي لا مبرر لها إلا الجهل والنفاق-والله يتنزه عن هذا التناقض- ومهما قال عن أسرته، فإنها أسرة عميلة اشتهرت بعاملتها وتفانيها في خدمة الإنجليز المستعمرين لهم. وكان الغلام كثيراً ما يتباهى بأنه هو وأجداده كانوا من المخلصين لخدمة الإنجليز، كما سيأتي ذكر النصوص التي تبجح بها القادياني وأتباعه. أما ولادته: فقد ولد غلام أحمد في عام 1256هـ على أحد الأقوال في قرية قاديان إحدى قرى البنجاب بالهند. يقول المودودي: ((ولد الميرزا غلام أحمد- كما أشرنا في البداية- حوالي سنة 1839م، أو سنة 1840م حسبما كتبه الميرزا في تأليفه كتاب البرية، إلا أن أحد مؤرخيه كتب أنه ولد سنة 1835م (¬3) ، وقد وصف القادياني قريته التي ولد فيها بقوله: ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص85 مترجم. (¬2) القاديانية والقاديانية ص20. (¬3) القاديانية ص15 نقلا عن المجدد الأعظم ص 16، 17.

2- ثقافته

((كانت قريتي أبعد من قصد السيارة، وأحقر من عيون النظارة، درست طلولها، وكره حلولها، وقلت بركاتها، وكثرت مضراتها ومعراتها، والذين يسكنون فيها كانوا كبهائم، وبذلتهم الظاهرة يدعون اللائم، لا يعلمون ما الإسلام وما القرآن وما الأحكام، فهذا من عجائب قضاء الله وغرائب القدرة أنه بعثني من مثل هذه الخربة)) (¬1) . وأغلب الظن أنه كان صادقاً في وصفه لقريته بأنها خربة، ولأهلها بأنهم مثل البهائم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً؛ إذ لولا أنهم كذلك لما جرؤ على دعوى النبوة بينهم. 2- أما هو وثقافته: فقد قرأ مبادئ العلوم وقرأ في المنطق والعلوم الدينية والأدبية في داره على بعض الأساتذة، مثل فضل إلهي، وفضل أحمد، وكل على شاه، كما قرأ الطب القديم على والده الذي كان طبيباً ماهراً (¬2) وعرافاً حاذقاً (¬3) ، وقد كان يكثر القراءة والطلب وأجهد نفسه في ذلك (¬4) ، إلا أن جميع معلوماته عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشوشة ومملوءة بالأخطاء والخلط الشنيع، كما ذكر عنه الأستاذ إحسان إلهي وذكر الأمثلة على ذلك (¬5) . وقد بدأ حياته العملية بأن توظف في محكمة حاكم المديرية في مدينة ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص28. (¬2) القاديانية والقاديانية ص22. (¬3) القاديانية ص127. (¬4) كتاب البرية ص149، 150. (¬5) القاديانية ص128.

سيالكوث إحدى المدن في باكستان، بمرتب يساوي خمس عشرة روبية في ذلك الوقت، وبقي على ذلك أربع سنوات من عام 1864 إلى عام 1868م، وقد استغل في هذه الفترة وقته فأقبل على تعلم الإنجليزية، كما التحق بدراسة الحقوق وأخفق في الامتحان، ثم استقال من وظيفته هذه عام 1868م وشارك والده في المحاكمات والقضايا التي كان مشغولاً بها (¬1) . وهكذا بدأ حياته في تقشف وحاجة شديدة عبر عنها في كتابه: ضميمة الوحي بعدة أساليب نأخذ منها على سبيل المثال في الاستفتاء الأول الذي بدأ بقوله: ((يا علماء الإسلام وفقهاء ملة خير الأنام؛ أفتوني في رجل ادعى أنه من الله الكريم- يقصد نفسه- إلى أن قال: ((وكان في أول زمنه مستوراً في زاوية الخمول، لا يعرف ولا يذكر، ولا يرجى منه ولا يحذر، وينكر عليه ولا يوقر، ولا يعد في أشياء يحدث بها بين العوام والكبراء، بل يظن أنه ليس بشيء ويعرض عن ذكره في مجالس العقلاء)) (¬2) . وقال أيضاً: ((وما كنت من المعروفين فأوحى إلي ربِّي، وقال: اخترتك)) (¬3) . إلى أن يقول: ((وكنت أعيش كرجل اتخذه الناس مهجوراً)) . ونصوص أخرى كثيرة ذكرها حول إثبات هذه الحقيقة. إلا أنه حينما تبوأ الزعامة الدينية أقبلت عليه الدنيا والهدايا الكثيرة التي تمدح بها في كتابه ضميمة الوحي في سبعة مواضع، بتعبيرات مختلفة زاعماً ¬

(¬1) القادياني والقاديانية ص22، 23 نقلاً عن كتاب سيرة المهدي، وكتاب البرية وكلاهما للغلام. (¬2) ضميمة الوحي ص3. (¬3) المصدر السابق ص28، وانظر ص30.

أنها فضل من الله، ودليل أيضاً على نبوته، منها: ((ثم بعد ذلك أيَّد الله هذا العبد كما كان وعده بأنواع الآلاء وألوان النعماء، فرجع إليه فوج من الطلباء بأموال وتحايف وما يسرُّ من الأشياء، حتى ضاق عليها المكان)) (¬1) . وقال أيضاً: ((وانهالت علي الهدايا كأنها بحر تهيَّج في كل آن أمواجاً، هذه آيات الله)) (¬2) . وقال: ((يأتوني من كل فج عميق بالهدايا وبكل ما يليق، هذا وحي من السماء من حضرة الكبرياء، ما كان حديثاً يفترى)) (¬3) . ومن هنا وحين أقبلت عليه الدنيا بالزعامة الدينية رتع فيها كيفما حلى له على حساب المغفلين من أتباعه، وصار ينفق في المسكن والمأكل والمشرب بما في ذلك شرب أقوى المسكرات من الخمر والمعجونات المقوية الثمينة، وصارت حياته أشبه ما تكون بحياة الزعماء السياسيين حتى شكى كثير من أتباعه هذه الحياة المملوءة بالإسراف بالنسبة للغلام ولزوجاته، من لبسهن الحرير والحلي والحلل الفاخرة، بينما أتباعه يعيشون في فقر مدقع. وكان الغلام يغضب كثيراً حينما يُسأل عن كيفية إنفاق تلك الأموال التي تأتي بكثرة، لكنها لا ترى بعد ذلك ولا يلمس لها أثر (¬4) . ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص6. (¬2) المصدر السابق ص28، (¬3) المصدر السابق ص29، وانظر ص30. (¬4) انظر: القادياني ص24، 25، وانظر: القاديانية لإحسان إلهي ص144 - 146.

ومما يذكر في ترجمته أن الله قد عاجله بكثير من الأمراض، فقد أصيب بعدة أمراض حتى كان يغمى عليه كثيراً من شدة مرض السكر به، إضافة إلى الصداع الشديد الملازم له، إضافة إلى مرض المراق، وأمراض أخرى ذكرها المودودي والندوي وغيرهما في ترجمتهم له، مستندين إلى كتب الغلام وغيره من كبار أصحابه (¬1) . وأما حياة خلفاء الغلام من بعده فقد أضافوا إلى الحَشَفِ سوءَ كيلة؛ لقد استهتروا بكل القيم ورتعوا في كل مراتع اللهو والفجور، ويكفي الشخص أن يقرأ كلمة الأستاذ عبد الرحمن مصري مدير كلية تعليم الإسلام في قديان، وكان من كبار علماء الجماعة القاديانية كما يذكر الأستاذ الندوي. فقد أسلم هذا الرجل على يد بعض القاديانيين ونشأ في حضانتهم وتعلم في مصر، وحاز ثقة الجماعة حتى كان يستخلفه الميرزا بشير الدين في إمامة الصلوات، ثم اطلع على أسرار هؤلاء الماسونيين القاديانيين وثار عليهم، وألف جماعة من الثوار كان يرأسهم هو. فقد سجل قاضي محكمة الاستئناف في لاهور- كما يذكر عبد الرحمن المصري في يوم 23 سبتمبر من عام 1938م- ما يأتي: إن الخليفة الحالي الميرزا بشير الدين محمود من كبار الفساق، إنه يتصيد الفتيات في ستر من الزعامة الدينية، وله وكلاء وسماسرة من الرجال والنساء يحضرون له الفتيات الغافلات والشباب الغر، وقد أسس لهذا الغرض نادياً سرياً من الرجال والنساء يفسق فيه (¬2) . ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك في القادياني والقاديانية ص24 نقلاً عن سيرة المهدي 1/ 17، وانظر القاديانية ص16 - 20 نقلاً عن سيرة المهديوكتاب البرية للغلام. (¬2) انظر: القادياني والقاديانية ص90، وانظر: القاديانية لإحسان إلهي ص56، مظلومو القاديان.

3- صفاته وأخلاقه

ولا شك أن هذا الميرزا سار على سيرة والده الميرزا غلام أحمد في استهتارهما بالدين وعدم وجود المراقبة الذاتية؛ فأصبح انتهاب الملذات من الأمور المألوفة، وهذا النادي يشهد صراحة بتأثير العقائد القاديانية في أصحابها، ودليل على أن هذه الفرقة إنما قامت من الأساس على خداع الناس والوصول إلى مآربهم وشهواتهم التي لا حد لها. 3- صفاته وأخلاقه: مما يذكر عن القادياني أنه كان قليل الفطنة مستغرقاً تبدو عليه البساطة والغرارة، فقد قيل عنه: إنه كان لا يحسن ملأ الساعة، وكان إذا أراد أن يعرف الوقت وضع أنملته على ميناء الساعة وعد الأرقام عداً، وكان لا يميز الأيمن من حذائه عن الأيسر منها، حتى اضطر إلى وضع علامة عليها، وكان يضع أحجار الاستنجاء التي يحتاج إليها كثيراً وأقراص القند التي كان مغرماً بها في مخبأ واحد (¬1) ... هكذا يذكر عنه. وفي رأيي أنه كان يتظاهر بهذه الغفلة والسذاجة لأشياء في نفسه تمهيداً للإيحاء إلى الناس بأنه في تلك القوة من الاحتجاج والمناظرة والخطابة وكثرة تأليف لكتب التي بثَّها في العالم- إنما كانت بقوة ربانية وإلهام منه؛ أي ولولا ذلك لما استطاع أن يحفظ اسمه أو يكتب كلمة. وهذا من دهائه ومكره، فإن الذي كتب عن مدح الإنجليز ما يملأ 50 خزانة كيف لا يعرف أرقام الساعة وحذاءه الأيمن عن الأيسر وأحجار الاستنجاء وأقراص القند؛ بل وبين السكر والملح كما يذكر عنه، هذا بعيد ¬

(¬1) انظر: القادياني والقاديانية ص23، نقلاً عن ترجمة الميرز المعراج الدين عمر القادياني، ملحقة بكتاب براهين أحمدية1/ 67.

جداً خصوصاً وأن هذه الأوصاف إنما ينقلها علماء المسلمين من كتب القاديانية وعن القادياني، ومن مصادره أنه كان كثير الأمراض (¬1) . وقد ذكر هو عن نفسه وذكر عنه العلماء من المسلمين ومن كتَّاب القاديانيين من الأمراض ما لو جمعت على حجر لفلقته، فقد ذكر المودودي جملة من أمراض الغلام من مصادر القاديانيين أن الغلام كان فيه من الأمراض: -الهستيريا-القطرب-الماليخوليا-السل-أمراض الصدر-دوار الرأس-سلس البول-الأرق-التشنج القلبي-الذيابيطس-أي السكر-يبول في الليلة الواحدة أكثر من مائة مرة-الضعف العصبي-سوء الذاكرة ... إلخ ذلك. وفيما أتصور أن هذه المبالغات في ذكر أمراض الغلام المتنبي -من قبل القاديانيين- إنما يراد من ورائها مكسب هام لإثبات النبوة؛ لأن أقل هذه الأمراض تمنع الشخص أن يملأ الخزائن بمؤلفاته، ولا تسمح له بالتفكير السليم فتكون النتيجة أن كل ما قاله الغلام وكتبه إنما كان إلهاماً جاهزاً من الله لا دور للغلام فيه إلا مجرد التبليغ، خصوصاً إذا عرفنا أن الغلام وأسرته كانوا يحبون أن تشيع هذه الأمراض عنه، وقد ذكر الشيخ إحسان إلهي -رحمه الله- أمراضاً أخرى كثيرة للغلام من مصادر القاديانيين (¬2) ، فأي جسم يحتمل ذلك!؟ وقد وصف الغلام بالبذاءة وسوء الأخلاق وطول اللسان هجاءاً مقذعاً للمخالفين والعلماء المعاصرين وعباد الله الصالحين، وكان مصداق صفة المنافقين التي جاءت في الأحاديث الصحاح: ((وإذا خاصم فجر)) ، وكان يكثر من ¬

(¬1) انظر: كتاب القاديانية والمصادر التي أخذ عنها ص16 - 19. (¬2) القاديانية لإحسان إلهي، انظر ص130 - 134.

سَبِّ مخالفيه مثل هذه الألفاظ: فلان الغوي الجاهل الخليع الكلب الأحمق الضال الكذاب اللعين ابن الزنا والبغي الشيطان الغوي، وأمثال هذه الكلمات والسباب البذيء الذي لا يصدر إلا عن السفهاء والسوقة (¬1) . ومن ذلك أنه تنبأ بموت رجل في زمن محدد، ولكن هذا الرجل لم يمت حسب تنبؤه في هذه المدة، فقال له بعض العلماء: أنت تظن أنك نبي ولا تتكلم إلا بوحي الله، فكيف يمكن أن يتخلف وعد الله؟، فبدل أن يجيبهم بدليل يرد به دعواهم ويثبت دعواه، بدلاً عن ذلك بدأ يَسُبُّهُم هم وجميع علماء المسلمين فقال: ((لا يوجد في الدنيا شيء أنجس من الخنزير، ولكن العلماء الذين يخالفونني هم أنجس من الخنزير، أيها العلماء يا آكلي الجيفة وأيتها الأرواح النجسة)) (¬2) . وقد وصف جميع من يخالفونه بقوله: ((بعضهم كالكلاب، وبعضهم كالذئاب وبعضهم كالخنازير)) (¬3) ، ويخاطب الشيخ ثناء الله الأمر تسري قائلاً: ((يا كلب يا آكل الجيفة)) (¬4) ويقول عن العالم الكبير مهر علي الكولري الجشتي: فقلت لك الويلات يا أرض جولر ... لعنت بملعون فأنت تدمر (¬5) وقال في سبه لجميع مخالفيه: إن العدا صاروا خنازير الفلا ... نسائهم من دونهن الأكلب (¬6) ¬

(¬1) انظر: القادياني والقاديانية ص104 -107. (¬2) انظر: القاديانية لإحسان إلهي ص 140، نقلاً عن أنجام آثم للغلام ص21. (¬3) خطبة إلهامية للغلام ص150، عن القاديانية لإحسان. (¬4) حاشية أنجام آثم ص25. عن القاديانية. (¬5) إعجاز أحمدي ص75. عن القاديانية. (¬6) نجم الهدي ص215، انظر: القادياني والقاديانية ص106.

وإذا كان هذا السباب لعلماء عصره لأغراض شخصية إن صرفنا النظر عن الأساس الديني فيها-وهو الأصل- فلماذا لم يقتصر في سبه على المخالفين له حين تطاول فسب أنبياء الله الأطهار دون أن يكون له أي مبرر-إلا تغطية ضعف جانبه وبطلان أفكاره وسقوطها-. ومن ذلك السباب سبه لنبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ فقد قال عنه: ((إن عيسى ما استطاع أن يقول لنفسه إنه صالح؛ لأن الناس كانوا يعرفون أن عيسى رجل خمار، وسيء السيرة)) (¬1) . وقد كذب وافترى وحاشا أن يوصف نبي الله عيسى بهذا الوصف أو الأوصاف الأخرى التي قالها عنه، مما يلزم تنزيه القارئ عن ذكرها هنا (¬2) ، وربما تصور الغلام أن نقضه لبناء الآخرين يشيِّد بنيانه، وأن ترفُّعه على الأنبياء يجعل منه نبياً أعلى منهم. كما أنه له أشعار ركيكة ومعاني تافهة مملوءة بالسباب والشتائم على كل من يخالفه، ينطبق عليه المثل القائل: ((رمتني بدائها وانسلت)) . وحين تمادى في شتم الناس وإيذائهم بلسانه وبكتاباته عنهم أوصلوا أمره إلى القضاء، فأخُِذَ عليه تعهد في المحكمة الجنائية أن لا يستعمل مرة أخرى تلك الألفاظ القبيحة والسب والشتم والقذف ضد مخالفيه، وقال الغلام نفسه: ((أنا عاهدت أمام نائب الحاكم بأني لا أستعمل بعد ذلك ألفاظاً سيئة)) (¬3) . ¬

(¬1) ست بجن للغلام ص172، القاديانية لإحسان إلهي ص143. (¬2) ذكر الأستاذ إحسان إلهي والعلامة المودودي والندي كثيراً منها. (¬3) مقدمة كتاب رب البرية ص13 للغلام، القاديانية ص144.

ولكنه لم يَفِ؛ فهذا هو يقول في ضميمة الوحي في معرض تعداده للنعم الوافرة عليه- يقول: ((ويطرد -أي الله- أعداءه المؤذين كالكلاب ويؤتيه ما لم يؤت أحداً من المعاصرين)) (¬1) . وتجد تفاصيل كثيرة فيما كتبه عنه العلامة الندوي والمودودي وإحسان إلهي رحمهم الله؛ حيث يظهر القادياني فيما ينقله عنه هؤلاء الأعلام أنه كان سباباً فاحشاً لا يدانيه أحد في هذه الصفة. كما عرف عنه التناقض في القضية الواحدة؛ حيث يذكر شيئاً ثم يذكر آخر يدل على كذبه، وحبل الكذب قصير كما قيل، ومن الكذب الذي اشتهر به الكذب على الله؛ حيث يأتي بكلام من تلفيقه ثم يزعم أن الله قاله له، ثم يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث من تلقاء نفسه. كما عرف عنه الاحتيال لأخذ أموال الناس وعدم الوفاء بالتزاماته لهم، وتعليل ذلك بما لا مقنع فيه لأحد، كما في قصة الخمسين المجلد التي تزعم أنه سيؤلفها وأخذ ثمنها مقدماً، ثم كتب خمسة كتب فقط وامتنع من الباقي، ومن إرجاع الأموال أيضاً بحجة أنه لا فرق بين الخمسة والخمسين غير الصفر، ويظهر التناقض واضحاً في أفكاره حين تقارن بين قوليه الآتيين: ((أنا أعتقد كل ما يعتقده أهل السنة، كما أنا أعتقد أن محمداً خاتم النبيين ومن يدعي النبوة بعده هو كافر كاذب؛ لأني أومن أن الرسالة بدأت من آدم وانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬2) وقوله: ((والله الذي في قبضته روحي هو الذي أرسلني، وسماني نبياً، وأظهر لصدق دعواي آيات بينات بلغ عددها ثلاثمائة ألف بينة)) (¬3) . ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص31. مترجم. (¬2) تبليغ رسالة 2/2. (¬3) تتمة حقيقة الوحي ص68، عن القاديانية لإحسان إلهي ص138، 139.

4- عمالته وأسرته للإنجليز

4- عمالة القادياني وأسرته للإنجليز: لقد جرَّت بريطانيا على المسلمين مصائب وفتناً عظيمة، لا يزال المسلمون يجترون آثارها إلى اليوم في الهند وفي بلاد العرب، وكثير من بلدان المسلمين؛ حيث فرقت كلمتهم وأوهنت قواهم وأوجدت عملاء لها في كل بلد إسلامي من أبناء ذلك البلد ومن جلدتهم، ويتكلمون بألسنتهم، ولكنهم أصبحوا بعد ذلك أشد عليهم من الأعداء الظاهرين، ونشرت الفساد والخلاعة، إلى جانب نشر النصرانية بين المسلمين، وقتلت في سبيل ذلك الأبرياء والصفوة الممتازة من العلماء ليفسحوا المجال للمبشرين، وليثبتوا كذلك استعمارهم إلى الأبد. ومع كل هذا وغيره نرى الإنجليز وهم مسيطرون على الهند يبحثون فيها عن عميل لهم، فكان المطلوب، ووجدوا القادياني خير من يمتثل لتحقيق مآربهم، ويقدم طاعتهم على طاعة ربه ودينه الذي كان ينتمي إليه ويخون أمته الإسلامية التي كان ينتسب إليها، ولولا نكايته بعد ذلك بالإسلام والمسلمين وإدخال أفكار هدامة حارب بها العقيدة الإسلامية الصحيحة وأخرج بها كثيراً من المسلمين عن دينهم- لولا ذلك لما كان لنا بعمالته لبريطانيا أو غيرها أي غرض لإبراز دوره مع الإنجليز وخدمته لهم، لأنه كغيره ممن باعوا أنفسهم لأعدائهم، على أن عمالة هذا الشخص لبريطانيا فاقت التصور، فإنك لو رجعت إلى أي كتاب من كتب الغلام أو تصريحاته فسترى مدى تعلقه بهم وتفانيه في خدمتهم وتملقه لهم وطلب رضاهم، وتفضيلهم على غيرهم ودعوة الناس إلى الانضواء تحت لوائهم والسير خلفهم في كل شئونهم ومحاكاتهم بكل دقة.

وسترى كذلك في الجانب الآخر مدى تعلق الحكومة الإنجليزية به وبأتباعه، وكيف هيأت لهم المناصب وأغدقت عليهم الأموال ويسرت لهم في داخل الهند وخارجها إلى اليوم كل أسباب التفوق والراحة، ودافعت عنهم في كل موقف يتعرضون فيه للضغط، والنتيجة من كل تلك المواقف للجانبين غير خافية، فالمصلحة بينهم مشتركة والهدف واحد. ومن الأمثلة- وهي كثيرة - على خدمة هذا المتنبئ لبريطانيا قوله في منع الجهاد: ((لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر-الإنجليز-من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة!! وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك والمسيح السفاح، والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد وتفسد قلوب الحمقى)) (¬1) وقال أيضاً في رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة: ((لقد ظللت منذ حداثة سني-وقد ناهزت اليوم الستين- أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية والنصح لها والعطف عليها وألغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم، والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة، وأرى أن كتاباتي قد أثرت في قلوب المسلمين، وأحدثت تحولاً في مئات الآلاف منهم)) (¬2) . ¬

(¬1) شهادة القرآن ص3، القادياني والقاديانية ص94، 95. (¬2) تبليغ رسالة 7/10، القادياني والقاديانية ص95.

ولاشك أن هذا الكلام من الخزي المفضوح لنبوته حتى لكأنه بُعث لتأييد بريطانيا والدفاع عن مصالحها وإضفاء الشرعية على استعمارها لبلاد المسلمين. ويقول كذلك في تملقه للإنجليز وتذكيرهم بجهوده وجهود أتباعه لهم: ((والمأمول من الحكومة أن تعامل هذه الأسرة التي هي من غرس الإنجليز أنفسهم ومن صنائعهم بكل حزم واحتياط وتحقيق ورعاية، وتوصي رجال حكومتها أن تعاملني وجماعتي بعطف خاص ورعاية فائقة)) (¬1) . وهنالك نصوص كثيرة بعضها بالأردية وبعضها بالفارسية وأخرى بالعربية يتناقلها العلماء عنه؛ للتأكيد على عمالته لأعداء الإسلام، وعلى رأسهم عدوهم اللدود بريطانيا وجد فيهم القادياني ضالته المنشودة ووجدوا هم أيضاً ضالتهم وما تحمله في شخص القادياني ففاضت قريحة القادياني، فأشاد بفضلهم ومنتهم المزعومة على العالم الإسلامي قاطبة والهند خاصة. وبقدر ما ارتبط هو وزمرته بأعداء الإسلام بقدر ما ازداد بعده عن الإسلام والمسلمين ونفرت عنه القلوب واستحوذت عليه الشياطين، وكان موقفه هو وأتباعه في غاية المقت بالنسبة لأهل السنة وعامة المسلمين فإنه ناصبهم العداء، ورأى أن الثورات التي يقومون بها على المستعمرين- أنها من فعل العقول الجامدة والحماقة، وكان يثبطهم بكل ما لديه من قوة وحيلة لمنعهم من جهاد هؤلاء الغزاة للبلاد وللدين، ويصيح فيهم أن الجاهد حرام. وقد انتهى وقته قبل مجيء القادياني، وأما بعده فالجهاد منكر يجب-على حد زعمه- تركه والتسليم للحكومة التي أمر الله بطاعتها؛ أي حكومة بريطانيا ¬

(¬1) تبليغ رسالة 7/ 19- 25، المصدر السابق ص98، 99.

الكافرة. وقد تمثل في وضوح تام ولاء القاديانية للإنجليز أنهم دائماً يظهرون سرورهم وابتهاجهم بسقوط أي دولة إسلامية في يد الاستعمار، ويحتفلون بذلك ويعتبرونه من أسعد أعيادهم، لأنهم يعتبرون المكان الذي تصل إليه بريطانيا هو المكان الذي تصل إليه القاديانية. وعلى هذا فإن عز القاديانية وانتشارها مرهون بعز الإنجليز وانتشارهم، فكيف لا يفرح القاديانيون بانتصار بريطانيا وانكسار المسلمين بعد ذلك؟ ولقد صرح بهذا كبار القاديانية ابتداء بالغلام وخلفائه، مثلهم في هذا مثل سائر الباطنية حين يفرحون بمصائب المسلمين ويحزنون من أفراحهم. وهنا أدلة كثيرة من أقاويل القاديانيين في هذا المسلك، منها ما قاله ابن الغلام -محمود أحمد- حين استولت بريطانيا على العراق؛ حيث ألقى خطاباً قال فيه: ((إن علماء المسلمين يتهموننا بتعاوننا مع الإنكليز ويطعنوننا على ابتهاجنا على فتوحاته، فنحن نسأل: لماذا لا نفرح ولماذا لا نُسرُّ؟ وقد قال إمامنا بأني أن المهدي وحكومة بريطانيا سيفي، فنحن نبتهج بهذا الفتح ونريد أن نرى لمعان هذا السيف وبرقه في العراق وفي الشام وفي كل مكان)) (¬1) . ولعله قال هذا الكلام- أنه مهدي- قبل أن يُرقَّي نفسه إلى ((نبي)) . وقال أيضاً عندما احتلت بريطانيا القدس-وهي المدينة التي لا يعترف بها بعد أن حولها إلى قاديان-: ((نحن نشكر الله ألف وألف مرة على فتوحات بريطانيا، وأن سبب الابتهاج والسرور لأن إمامنا (الغلام القادياني) كان يدعو لفتوحاتها وكان يوصي جماعته بالدعاء لها، وأيضاً فتحت لنا أبواب الدعوة إلى القاديانية التي كانت مسدودة قبل الآن، وهذا كله لامتداد دولة بريطانيا ¬

(¬1) جريدة الفضل 7 ديسمبر سنة 1918 م، عن ما هي القاديانية.

إلى بلدان أخرى)) (¬1) . كما ينقل إحسان إلهي -رحمه الله- عن جريدة الفضل القاديانية الرسمية مقالاً جاء فيه: ((أن حكومة بريطانيا هي ترس لنا نتقدم إلى الأمام تحت وقاية هذا الترس، الذي لو أبعد لمزقنا من الرماية فاتحدنا وصار رقيتها (¬2) وعلوها رقيتنا وعلونا، ودمارها دمارنا)) (¬3) . وقال الغلام نفسه عن ربوة وظل بريطانيا عليهم: ((قد قال الله عز وجل في القرآن: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} سورة المؤمنون:50 ولما جعلني الله عز وجل مثيل عيسى جعل لي السلطنة البريطانية ربوة أمن وراحة ومستقراً حسناً؛ فالحمد لله مأوى المظلومين، ولله الحكم والمصالح، ما كان لأحد أن يؤذي من عَصَمَهُ الله، والله خير العاصمين)) (¬4) . وقال كذلك: ((ولولا سيف الحكومة لأرى منكم ما رأى عيسى من الكفرة، ولذلك نشكر هذه الحكومة لا بسبيل المداهنة بل على طريق شكر المنة، ووالله إنا رأينا تحت ظلها أمناً لا يرجى من حكومة الإسلام في هذه الأيام، ولذلك لا يجوز عندنا أن يرفع عليهم السيف بالجهاد، وحرام على جميع المسلمين أن يحاربوهم ويقوموا للبغاوات والفساد، ذلك بأنهم أحسنوا ¬

(¬1) جريدة الفضل 23 نوفمبر سنة 1918 م. (¬2) هكذا في الأصل. (¬3) جريدة الفضل 19 أكتوبر سنة 1915 م، انظر لتلك النصوص: القاديانية لإحسان إلهي ص21 - 33. (¬4) ضميمة الوحي ص50 هامش (1) .

إلينا بأنواع الامتنان)) (¬1) ..إلخ الثناء عليهم. والذي أحوجنا إلى ذكر هذه النصوص من أقوالهم إنما هو بيان خطر هذه الطائفة، وانخداع بعض المسلمين بما يبدي هؤلاء من الدعوة إلى الإسلام، وأنه لا فرق بين القاديانيين وسائر المسلمين، ليعرف المسلم في أي مكان وطأته أقدام القاديانيين أنهم أداة تخذيل وإضرار بالإسلام والمسلمين، وأنهم جواسيس الإنجليز ومعاول هدم للإسلام باسم الإسلام. وبعدما قدمنا من النصوص حول عمالة القادياني وأسرته للإنجليز أليس من المغالطة المكشوفة أن يتصدى بشير محمود للقول بأن القادياني والقاديانيين لا يلغون فكرة الجهاد، ثم يرد على هذا القول بشدة ويهاجم كل من يقول به أو ينسبه إلى القاديانيين؟ نعم إنها مغالطة حين قرر بشير ذلك ثم زعم أن الجهاد الذي ينادون بإلغائه ليس هو جهاد الكفار، وإنما المقصود به ذلك الجهاد الذي يوحي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جباراً يقتل الناس، لأن الإسلام كما هو تعبيره يلعن اعتناق الدين خوفاً وطمعاً، بل إن الإسلام هو أول دين يقر بحرية العقيدة. وبعد هذه الأقوال ينتهي إلى النتيجة الآتية في فهم الجهاد: الحروب الدينية لا تجوز إلا ضد من يتدخل في الدين ويمنع المسلمين من قولهم: ((ربنا الله)) وأن مثل هذه الحروب (¬2) لا تهدف إلى هدم المعابد والكنائس، ولا إلى إكراه غير المسلمين على ترك دينهم، أو إلى قتلهم؛ بل إنما ترمي إلى الدفاع عن سائر الملل والأديان والحفاظ على معابدها. إلى أن يقول: ((وقصارى القول أن الجهاد الذي أجازه الإسلام هو محاربة من يُرغم ¬

(¬1) المصدر السابق ص63. (¬2) أي التي وقعت في الإسلام.

المسلمين على الارتداد عن الإسلام، أو يستعمل القوة لصد الناس عنه، أو يقتل الناس لمجرد اعتناقهم للإسلام، فمحاربة أحد لغير هذه الجرائم لا تجوز مطلقاً)) (¬1) . ثم زعم أن الجهاد الذي قام به المسلمون إنما هو تقليد للنصارى. وهذا الكلام مملوء بالدس والمغالطة، فيقال له: إذا انتظر المسلمون الكفار إلى الوقت الذي يمنعونهم فيه من قول: ((ربنا الله)) فمن أين يقومون للجهاد بعد ذلك، مع أن معظم الكفار لا يمنعون أحداً من قولها ما دام قد ترك الجهاد وصار عبداً لهم. وزعمه أن المسلمين إنما يقومون بالجهاد تقليداً للكفار النصارى، إنما هو تعبير مفضوح لجهله بفريضة الجهاد في كتاب الله عز وجل وقيام أهل التوحيد بامتثالها. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) دعوة الأمير - معتقد الجماعة الإسلامية الأحمدية ص40 - 44. (مترجم) .

الفصل الثالث ختم النبوة وموقف القادياني منه

الفصل الثالث ختم النبوة وموقف القادياني منه وقد حاول القادياني التلاعب بعقول المسلمين وإيهامهم أن نبوته لا تتعارض مع القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، مستعملاً في ذلك شتى أنواع التأويلات الباطنية للتمويه والتعميم على نبوته الجديدة، وقد رصد العلماء كل تلك المفاهيم والتأويلات الباطلة، وكانت هذه المواقف تمثل البدايات الأولى لظهور الغلام، ولكن بعد مدة من الزمن، وبعد أن اشتد طمعه في إثبات النبوة له تمرد وعتا وادعى هو وجماعته بكل وضوح أن النبوة لا تزال ولن تزال أبداً تحل بأشخاص وتنتهي عن أشخاص دون انقطاع، وأن النبوة لم تختم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وركبوا لذلك كل صعب وذلول، ولم يكترثوا بأن هذا كفر صريح بما جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وبدلاً من أن يرجعوا إلى الحق أخذوا يتفننون في بيان مفهوم ختم النبوة على معان مختلفة وتأويلات ملفقة، منها: 1. أن الله تعالى حين يكرم أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويوصله إلى درجة الوحي والإلهام والنبوة فإنه-ومع تسميته نبياً- لا يتعارض هذا المفهوم-مع مفهوم ختم النبوة- إذ إن الشخص لا يزال من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه، ولكن ينتقض هذا المفهوم إذا ادعاه شخص من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فحينئذ يتعارض قوله تماماً مع ختم النبوة (¬1) . ويقول بشير محمود: ((إننا نرفض النبوة ¬

(¬1) مفهوم نص أورده المودودي في كتابه ((القاديانية)) ص33، نقلاً عن كتاب ((العين المسيحية)) للميرزا غلام أحمد ص41.

المباشرة عن غير توسط الرسول صلى الله عليه وسلم رفضاً باتاً؛ ولذلك نرفض ظهور المسيح الناصري بعينه، لكننا لا ننكر النبوة التي تضاعف كرامة النبي صلى الله عليه وسلم وتزيدها سمواً وعلواً)) (¬1) . وقد أخذ بشير هذا المفهوم عن والده، حيث قال الغلام في ضميمة الوحي: ((وإن قال قائل: كيف يكون نبي من هذه الأمة وقد ختم الله على النبوة؟)) وهذا سؤال مهم جداً، ولكن كيف كان جواب الغلام عنه؟ لقد أجاب بما لا مقنع فيه لأحد، وحاد عن الحق وألحد فيه، فقال: ((فالجواب أنه عز وجل ما سمى هذا الرجل نبياً إلا لإثبات كمال نبوة سيدنا خير البرية، فإن ثبوت كمال النبي لا يتحقق إلا بثبوت كمال الأمة (¬2) ، ومن دون ذاك ادعاء محض لا دليل عليه عند أهل الفطنة، ولا معنى لختم النبوة على فرد من غير أن تختتم كمالات النبوة على ذلك الفرد، ومن الكمالات العظمى كمال النبي في الإفاضة وهو لا يثبت من غير نموذج يوجد في الأمة)) (¬3) . والمغالطة في هذا الكلام: - أن النبوة لا تأتي من فيض أحد؛ بل هي تَفَضُّلٌ من الله تعالى على من يشاء من خلقه. - لماذا لا يكون النموذج الذي يدعيه الغلام عاماً؛ بحيث يحق لكل شخص أن يتصف به، فكيف احتكره القادياني بدون أن يذكر أي مبرر له. 2. أن معنى القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم: ((أنه قد تمت عليه كمالات النبوة وأنه لا يأتي بعده رسول ذو شريعة جديدة، ولا نبي من غير أمته)) (¬4) ؛ ¬

(¬1) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية ص32. مترجم. (¬2) يريد بهذا المفهوم مشابهة قول الباطنية: أن الناطق لا يكمل إلا بوجود السوس والصامت. (¬3) ضميمة الوحي حاشية ص18. (¬4) عين المعرفة ص9 للغلام، ما هي القاديانية.

أي أن الانبياء الذين يأتون بعده صلى الله عليه وسلم كلهم يعتبرون من أمته، وهذا ليس فيه خروج- حسب مفهوم القادياني-عن القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما أكده بشير محمود في كتابه ((دعوة الأمير)) (¬1) . ولكن الغلام في آخر أمره اخترع له ولأتباعه شريعة جديدة. 3. أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو صاحب الفيوضات الكمالية التي لم يعطها أحد غيره؛ ولذلك سمي بخاتم النبيين ((أي أن إطاعته تمنح كمالات النبوة، وأن التفاته الروحي يصنع الأنبياء)) (¬2) . أي فإذا وجد أن أحداً يدعي النبوة ولم تكن نبوته مصدقة من خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون نبوة صحيحة، مثل الورقة التي تكون رسمية وليس عليها الختم الرسمي، وإذا كانت طاعته صلى الله عليه وسلم تمنح الكمالات والنبوة فإنه يحق لكل شخص متبع للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصف بصفة النبوة، بل كان الصحابة في أول هؤلاء. فهل يستطيع الغلام أن يثبت أن أحداً منهم ادعاها؟ 4. أن معنى الختم هنا هو تأخير النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر قرناً لتظهر عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك ما يقتضي إظهار عظمة الإسلام بظهور من تطلق عليه كلمة النبي، لتبقى سلسلة النبوة متصلة الحلقات، ومن هنا أجريت على لسانه صلى الله عليه وسلم كلمة النبي للمسيح الموعود في آخر الزمان (¬3) ، ¬

(¬1) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية ص31، 35. (¬2) حقيقة الوحي للغلام ص96، ما هي القاديانية؟ . (¬3) ارشاد الميرزا غلام أحمد المندرج في عدد جريدة الحكم الصادر في 17/4/1903م (القاديانية لإحسان) .

ويقول بشير محمود: ((إن الشريعة لا تُنسخ إلا بالنبوة التشريعية الجديدة المباشرة، لكن النبوة التي تستمد من اتباع النبي الأول وتهدف إلى نشر الشريعة السابقة هي مظهر رائع للنبوة السابقة..وهي في متناول هذه الأمة)) (¬1) . 5. أن الغلام هو ظل للرسول صلى الله عليه وسلم لبقاء النبوة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وانعكاس ظلية الكمالات المحمدية في الغلام، ومن هنا فلا تأثير في نبوة الغلام على القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم (¬2) ، وعلى الناس أن يتركوا عقولهم ويصدقوا هذا الهراء. ومن الأدلة التي ساقها بشير محمود على عدم انقطاع النبوة: قول الله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} سورة الفاتحة: 6- 7. إلى آخر الأدلة، ثم قال: ((يتبين لنا مما ذكرنا آنفاً من الآيات أن صراط الذين أنعمت عليهم هو الانضمام إلى طائفة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، إلى أن قال: ((فلو كان عز وجل حرم علينا نعمة النبوة، لما علمنا بأن نلح في طلبها، ولما بشرنا بأن اتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم يشرف الإنسان بالنبوة)) (¬3) . ومعنى هذا الكلام؛ أنه يصح لكل مسلم أن يطلب النبوة، بل كل مسلم نبي؛ لأن بشير يقول في معنى الآية: ((وهل من الممكن أنه عز وجل من ناحية يؤكدنا بطلب الصراط المستقيم صراط الأنبياء والصديقين والشهداء ¬

(¬1) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الإسلامية ص32. مترجم. (¬2) إزالة الخطأ للميرزا غلام أحمد - القاديانية ص33-35. (¬3) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الإسلامية ص 38.

والصالحين، ومن ناحية أخرى يقول لنا والعياذ بالله: إنني حرمت عليكم هذه النعمة إلى الأبد؟ كلا)) (¬1) إلخ كلامه. 6. أن القول بانقطاع النبوة وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم ينافي حاجة الناس إلى الرسل والأنبياء التي هي دائمة الوجود بين الناس، وشهادة الله بإكمال الدين الإسلامي يجب التغاضي عنها لتصدق مزاعم القادياني. 7. كما أن القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيه اتهام لله بأنه نفذت خزائنه، وأنه لم يعد قادراً على إرسال الرسل-كما يزعم بشير محمود-ولكي لا نصف الله بالعجز يجب أن نثبت أن والده نبي ورسول!! حقا لقد كفر القاديانيون-وبكل جرأة- بما جاء عن الله في كتابه الكريم، وفيما قررته السنة النبوية من ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهي نصوص صريحة واضحة، تسلطت عليها الباطنية، من قاديانية وصوفية وبهائية، وغيرهم من فرق الضلال؛ فأولوها على حسب أهوائهم، بتأويلات في غاية الجهل والتكلف الشنيع، والله متم نوره ولو كره الكافرون. فإن الله تعالى يقول: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} سورة الإحزاب: 40. فالآية صريحة وواضحة في معناها وفي دلالتها على انقطاع النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. فجاء الدجاجلة كالقادياني وغيره وتسلطوا على معناها فأولوها تأويلات أجمع المسلمون على أنها باطلة، مثل تأويلاتهم السابقة لمعنى خاتم النبيين من ¬

(¬1) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الإسلامية ص 25.

أنه أفضلهم لا غير، أو تأويلهم لها بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الخاتم الذي يختم به على المعاملات الرسمية-المهر-من كونه زينة لهم وغير ذلك من المعاني الباطلة، أو زعمهم-حين رأوا ضعف ذلك التأويل السابق-أن معنى الآية هو إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين أصحاب الشرائع المستقلة، لا الأنبياء الذي لم يأتوا بشرائع مستقلة عن التي قبلها؛ بل جاءوا متممين ومكملين للشرائع مثل حال القادياني بالنسبة للشريعة الإسلامية، التي هي في حاجة إلى من يكملها كالقادياني وغيره. وهي أفكار لا تجد لها رواجاً إلا بين الجهال ومن قل خوفهم من ربهم، فآثروا الدنيا على الآخرة، أو من كان له هدف يريد تحقيقه من وراء هذه الحركات الهدامة، وفي شرح الآية هذه يقول بشير الدين محمود بن الغلام أحمد: ((إن الخاتَم بفتح التاء معناه الآلة التي يختم بها وليس الانتهاء- الخاتم يتخذ للتصديق- ومعنى الآية إذاً أنه صلى الله عليه وسلم آلة الختم التي ختم بها جميع النبيين)) . إلى أن يقول: ((والخلاصة أن هذه الآية لا تحظر النبوة التي ذكرناها آنفاً، ولكنها تنفي النبوة التشريعية أو النبوة المباشرة)) (¬1) . وفي قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} سورة الأعراف: آية 35. استنتج من هذه الآية عدم انقطاع النبوة؛ قال: ويتبين من هذه الآية أن الأنبياء سيبعثون في هذه الأمة أيضاً؛ لأن الله تعالى يذكر هنا الأمة المسلمة بأن الأنبياء إن بعثوا إليكم فعليكم أن تؤمنوا بهم، إلى أن يقول أيضاً: إن سلمنا أن ((إما)) للشرط فإنها مع ¬

(¬1) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الإسلامية ص 34.

ذلك تدل على أن النبوة غير منقطعة (¬1) . وبعد هذا الكذب على الله في معنى الآية يضيف كذباً آخر على النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات عدم انقطاع النبوة بعده صلى الله عليه وسلم؛ حيث أثبت أن المسيح نبي، قال: ((وعلاوة على شواهد القرآن الحكيم يتبين من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً أن باب النبوة ليس بمسدود على الإطلاق، لأنه صلى الله عليه وسلم وصف المسيح الموعود بصفة النبي مراراً، ولو لم يمكن وجود النبوة مطلقاً لما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بصفة النبي)) (¬2) . وغريب جداً هذا الفهم القاصر لخليفة القادياني في زعامة القاديانيين؛ أن يستدل بإثبات النبوة لعيسى على استمرار تجدد الأنبياء، وأن يستدل من أمر الله لبني آدم- بعد إهباطه لأبيهم إلى الأرض- بالإيمان بالأنبياء الذين سَيُرْسِلُهُمْ، على استمرار النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هذا فَهْمٌ يدعو إلى العجب حقاً، وهذه حجة من لا حجة له، وكم تناقض القاديانيون هنا! فمرة يزعمون أن الغلام نبي مشرع، ومرة يزعمون أنه نبي تابع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا التفريق لا دليل عليه، فإن الله تعالى لم يخبرنا بأن فيه ((فرقاً)) بين النبي المشرع والآخر غير المشرع، بل أمر بالإيمان بجميع الأنبياء بدون تفريقهم بينهم، وحتى ما يقوله بعض العلماء من أن النبي هو الشخص الذي يسير على الشرع السابق للرسول قبله ويجدده، لا ينطبق على الغلام؛ لأنه جاء بتشريعات كثيرة تخالف الشريعة الإسلامية تمام المخالفة ومستقلة تمام الاستقلال (¬3) . وكل تلك التأويلات- التي لفقها القادياني وأتباعه بعدم انقطاع النبوة- لا ¬

(¬1) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الإسلامية ص 40. (¬2) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الإسلامية ص 40. (¬3) انظر: كتاب لماذا تركت القاديانية؟ محمد اختر ص20 ترجمة محمد كليم الدين.

يقبلها إلا غافل فارغ عن العلم، وجاهل باللغة العربية، وجاهل بالدين الإسلامي؛ ذلك أن الختم معناه آخر الشيء ونهايته، كما يذكر علماء اللغة (¬1) ؛ لا أن معناه أفضل الشيء وأجوده. وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة على المعنى الأول، وأنه لا نبي بعده محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه آخر الأنبياء، به أكمل الله الدين وأتم به النعمة على العباد، ومن لم يعتقد هذا فلا حظ له من الإسلام، وقد قدمنا ذكر بعض الأدلة على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهي واضحة صريحة، لولا بُعْدُ هؤلاء عن الدين واستحواذ الشياطين عليهم. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة غير خافية على طلاب العلم. ومن غريب أمر القادياني أن يترك الأدلة الصريحة من القرآن والسنة على أن خاتم الشيء هو آخره، وأن الرسول خاتم الأنبياء أي آخرهم، ثم يستدل بأقوال الشعراء-الذين يتبعهم الغاوون-على أن خاتم الشيء أفضله واستدل بقول الشاعر: فُجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي وخاتم الشعراء هنا يعني أفضلهم وزينتهم كما فسره القاديانيون، ولكن معناه في الحقيقة أن الشاعر-وهو حسن بن وهب-يظن أن أبا تمام الذي قيل في رثائه هذا البيت- أفضل الشعراء المتقدمين ذوي الحكمة والعقل، وأنه على حسب ما يعتقد فيه الشاعر أنه خاتم الشعراء، أي فلا يمكن أن يأتي بعده ¬

(¬1) انظر كتب اللغة، مادة ختم.

مثله (¬1) ، هكذا ظن والظن أكذب الحديث- وعلى أي تفسير فإن القرآن والسنة لا يعارضان بأقوال الشعراء. ولكن الغريق بكل حبل يمسك، فإن تأويلات الباطنية من القاديانية أو البهائية أو غيرهم بأن خاتم النبيين أي أفضلهم أو زينة لهم، كل تلك التأويلات لا يلتفت إليها أي مسلم شرح الله صدره للإسلام، ولا شك أن نسبة هؤلاء للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كالمهر في الورقة، هذه إهانة للرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحترمه لا يستجيز لنفسه أن يمثله بخاتم في أسفل الورقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجلُّ من أن يمثل بهذا. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: القاديانية ص277-278.

الفصل الرابع كيف وصل القادياني إلى دعوى النبوة

الفصل الرابع كيف وصل القادياني إلى دعوى النبوة لقد تدرج غلام أحمد لدعواه النبوة وسلك مسالك عديدة، وقطع مراحل متفاوتة بينها اختلاف واضطراب، كل مرحلة بنت وقتها. 1- اتجاهه إلى التأليف: لقد كان الميرزا في بدء حياته خامل الذكر، لا يُعبأ به ولا يُذكر بخير أو شر. ثم اتجه إلى التأليف والمناظرات التي كانت ملتهبة في القارة الهندية بين شتى الأفكار والفرق، وقد بدأ مناظراً جلداً عن الإسلام والمسلمين، مع ما كان يظهر منه بين الفينة والأخرى من غلو في نفسه وتمجيدها، وكان علماء المسلمين تجاهه بين الاستبشار والقلق من أن يجمح به فرسه إلى ما لا تحمد عقباه. ومن هنا بدأت الأنظار تلتفت نحوه وذاع صيته وأعجبته نفسه ومواهبه، فبدأ يحتطب في حبله وطلب من الناس أن يبايعوه، ولم يبخل على نفسه بلقب مجدد العصر ((المأمور من الله شبيه المسيح في دعوته إلى الله وأحواله الشخصية)) . وقد اقتضت سياسة بريطانيا أن يزيدوا من النار اشتعالاً؛ فشجعوا قيام المناظرات وافتعال الخصام والعنف بين الطوائف، ليشعر الجميع بالحاجة إلى دولة قوية تحميهم وتكون الملجأ لجميعهم وهي سياسة بارعة منهم. وحين شمر القادياني في بدء أمره للدعوة إلى الإسلام ودحض حجج

خصومه من الهندوس والنصارى، وحينما توجه إليه المسلمون أعلن أنه بدأ في تأليف كتاب كبير في إثبات فضل الإسلام وإعجاز القرآن وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والرد على الديانات السائدة في الهند كالمسيحية والآرية (¬1) والبرهمية والبرهموسماجية (¬2) ، وسمى هذا الكتاب ((براهين أحمدية)) وتكفل المؤلف القادياني في أن يجمع في هذا الكتاب ثلاثمائة دليل على صدق الإسلام في خمسين مجلداً، يدفع فيه كل الاعتراضات والإيرادات التي يعترض بها الكفار عامة على الإسلام، وطلب من المفكرين أن يراسلوه بأفكارهم ليستعين بها، وطلب كذلك التبرع السخي بالمال لطبع الكتاب؛ فانخدع بذلك كثير من العلماء وعامة المسلمين، وفرحوا بهذا الإنجاز المرتقب، وبدأ القادياني يكتب، فكيف تم ذلك؟ الواقع أن الكتاب كان بمثابة صدمة عنيفة للمسلمين وخيبة أمل مريرة، فقد أصدر الجزء الأول منه وسماه براهين أحمدية سنة 1880م، وملأه بمدح نفسه وكراماته وكشوفاته وإعلانات أخرى زكّى بها نفسه، ثم أصدر الجزء الثاني وكان لا يختلف عن الأول من حيث المضمون، ثم أصدر الجزء الثالث سنة 1882م، ثم أصدر الجزء الرابع سنة 1884م. وقد ضمن الجزء الثالث والرابع حث العلماء والجمعيات الإسلامية على إقناع ¬

(¬1) فرقة من النهادك اسهها ((ديانند سرسوتي)) في القرن التاسع عشر المسيحي، تمتاز بالحماسة الدينية والنشاط في الدعوة والمناظرة والرد على المسلمين، وتدعو إلى الأخذ بتعاليم ((ويدا)) ونصوصه، ورفض البدع والمحدثات الداخلة في الديانة البرهمية، وتقول بقدم العالم وقدم الروح والمادة، انظر: القادياني والقاديانية ص35. (¬2) ديانة هندية جديدة، ظهرت في القرن التاسع عشر، تحاول الجمع بين تعاليم الإسلام والبرهمية وتقر التوحيد وتنكر النبوة والإلهام، ومؤسسها ((راجه رام موهن راي)) انظر: القادياني والقاديانية ص36.

الحكومة الإنجليزية بأن المسلمين أمة هادئة سلمية مخلصة للإنجليز، وأن جهاد الإنجليز حرام، وأن حكومتهم نعمة جسيمة من الله ورحمة، وأنها هي الدولة الوحيدة التي تحقق أهداف المسلمين، وأعاد ذلك وكرره مرة بعد مرة ففطن العلماء له وعرفوا أنه لا يريد إلا الشهرة وكسب المال لا الدفاع عن الإسلام. وحينما وقف على كتابة خمسة أجزاء بدل الخمسين طالبه المشتركون في قيمة الخمسين جزءاً فذكر أنه كان عازماً على إصدار خمسين جزءاً من هذا الكتاب، ولكنه سيقتصر على خمسة أجزاء، ولما كان الفرق بين الخمسين والخمسة هو صفر واحد فقد أنجز وعده بإتمام خمسة أجزاء، وأنه لا حق لهم في المطالبة بعد ذلك حسب مزاعمه لهم. ولقد مج الناس سماع هذا الكتاب؛ لأنه أتخمه بالإلهامات والمنامات والخوارق والكشوف والتكليمات الإلهية والنبوات والتحديات، ومدح الإنجليز مما يطول نقله وتثقل قراءته، ثم أعلن بعد ذلك أنه هو نفسه المسيح الموعود؛ لأنه تواتر-حسب قوله- عليه الإلهام ((إنك أنت المسيح الموعود)) (¬1) . ثم جاءت سنة 1900م وبدأ الخواص من أتباعه يلقبونه بالنبي صراحة، وكان موقف الغلام إزاء هذه النقلة الخطيرة متسماً بالحذر والمراوغة، فكان يعجبه هذا اللقب ويبدي بين خاصته التأييد له، ويظهر لمن يخالفه كلمات يمتص بها غضبه بما كان يبديه من تأويل نبوته بما يشعر بالتواضع، مثل ((النبي الناقص)) أو ((النبي الجزئي)) أو ((النبي المحدث)) ، علها تخفف حرارة امت ¬

(¬1) انظر: القادياني والقاديانية ص35-42، ومن 50- 56، 65، 72، ومراجعه التي نقل عنها من كتب الغلام بالأردية، وانظر: القاديانية للحموي ص17.

2- إلهاماته

عاض المخالف له ولم تدم هذه الفترة طويلا، فبعد سنة 1901م أسفر عن وجهه الحقيقي بأنه نبي كامل، وأن كل ما قاله أو كتبه من أنه نبي غير كامل صار منسوخاً بثبوت نبوته. ثم أدركه بعد ذلك عرق السوء في سنة 1904م، فاحتقر النبوة ورآها غير كافية في شخصه فادعى أنه ((كرشن)) ، وهو معبود من معبودي الهنادك، ولعله طمع في ميل الهنادك (¬1) إليه، وهو في هذه الدعوى الخطيرة لم يأت بجديد؛ فهو خلف لأسلافه من الطغاة الذين ادعوا الألوهية على مر العصور. 2- إلهاماته: دعوى أي شخص أن الله ألهمه كذا وكذا، من الأمور اليسيرة التي هي بإمكان كل إنسان أن يدعيها، إلا أن الخطر يكمن في ظهور النتائج-على حد قول أحد الشعراء من تحلى بما ليس فيه ... فضحته نتائج الامتحان على أن ما يحصل للنفس من إلهام ليس له مورد واحد، بل عدة موارد، فقد يرد عليها الإلهام من الله تعالى، وهنا لابد من أهلية صاحبها وتقواه وصدق إخلاصه لربه وصفاء توحيده. وقد يرد عليها الإلهام من وساوس الشياطين إذا كان صاحبها لائقاً بذلك بعيداً عن الله. وإلهامات الغلام كلها من هذا النوع، وقد ظهر الكذب فيها والتكلف الممقوت رغم أنه يصوغها على غرار الآيات القرآنية، يريد أن يوحى به إلى ¬

(¬1) انظر: المراجع السابقة.

الناس على أنه إلهام من الله له ووحي مباشر إليه، يتبين ذلك من خلال صيغته وإنشائه. لقد كثرت إلهامات الغلام التي جعلها بمثابة وحي من الله تعالى، وهي أفكار زخرفها، وتقوَّلَ فيها على الله تعالى وتنطع، وخرج عن الإيمان بالإسلام وبختم النبوة المحمدية. ثم تحول القادياني من شخص مسلم غيور على الدين في أول أمره إلى عدو لدود للمسلمين والإسلام، حينما رأى إقبال الناس عليه ودفع الحكومة الإنجليزية له إلى الأمام في غيه، كما هو عادة الإنجليز وخداعهم للناس. ولهذا فقد وصل به التعلق بالإنجليز إلى حد أن الذي يأتيه بالوحي هو رجل في صورة شاب إنجليزي. بل والوحي نفسه اختلط عليه الأمر فيه فمرة يوحى إليه بالعربية، ومرة بالفارسية وأخرى بالأردية، بل وأحياناً بالإنجليزية إتماماً للنعمة. ويمكن أن أجعل عذر الندوي في عدم الإتيان بتلك الإلهامات التي نزلت على الغلام كلها- أجعله عذراً لي، وذلك في قوله عن الغلام: ((ثم ذكر الشيء الكثير من إلهاماته مما يطول نقله وتثقل قراءته على القارئ الأديب، إلا أننا نقتصر على مثالين من هذه الإلهامات الطريفة)) (¬1) . ثم ذكر مثالين منها يكفيان القارئ الحُكم على الغلام، ومدى ما وصل إليه من استهتار بكتاب الله وسنة نبيه، بل وبعقول الناس، بل وبعقله أيضاً هو؛ حيث جاء بكلام لا يفهمه حتى هو فضلاً عن غيره، فمما أورد الغلام في ¬

(¬1) القادياني والقاديانية ص45.

كتابه ((براهين أحمدية)) قوله: ((لقد أُلهِمْتُ آنفا وأنا أعلق هذه الحاشية، وذلك في شهر مارس عام 1882م ما نصه حرفياً: ((يا أحمد، بارك الله فيك، ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. الرحمن علم القرآن، لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم، ولتستبين سبيل المجرمين، قل إني أمرت وأنا أول المؤمنين، قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، كل بركة من محمد صلى الله عليه وسلم فتبارك من علم وتعلم ... )) إلى أن يقول: ((يقولون أنى لك هذا، أنَّى لك هذا، إن هذا إلى قول البشر، وأعانه عليه قوم آخرون (¬1) ... )) إلى أن يقول: ((إني رافعك إلي وألقيت عليك محبة مني، لا إليه إلا الله، فاكتب وليطبع (كذا) وليرسل في الأرض، خذوا التوحيد التوحيد يا أبناء الفارس (كذا) ... أصحاب الصفة، وما أدراك ما أصحاب الصفة ... ) إلى أن يقول: ((قيل ارجعوا إلى الله فلا ترجعون. وقيل استحوذوا فلا تستحوذون، ولا يخفى على الله خافية، ولا يصلح شيء قبل إصلاحه ومن رد من مطبعه، (كذا) فلا مرد له)) (¬2) . وأكتفي بذكر هذه النصوص عن الوحي الذي يزعمه، ولكن من الأنفع للقارئ أن يقف على جملة الإلهام أو الوحي الذي نزل على الغلام في آخر كتابه ضميمة الوحي؛ ليقف عليه القارئ وليرى مقدار ما وصل إليه هذا الشخص في إقدامه على التلاعب بكتاب الله عز وجل، وليرى الوقاحة التامة ¬

(¬1) لقد صدق في هذا؛ فإن هذا الخلط والتكسير للآيات الكريمة من وضعه، وأعانه عليه الحكيم نور الدين البهيروي. (¬2) هذا تخويف لأصحاب المطابع ألا يردوا أي كتاب يصل إليهم من الغلام دون طياعته، كما ذكر الندوي.

التي اتصف بها هذا الرجل وعدم خوفه عاقبة أكاذيبه. وليرى كذلك جملة من الكلام الركيك والهذيان الفاحش والفكر الناقص المضطرب الذي تحدى به البشر. وكتاب الغلام أو رسالته التي جعلها بعد ذلك ملحقة بكتابه ((براهين أحمدية)) وضميمة له، صاغها على طريقة القرآن الكريم في قصر الآيات وطريقة الوقوف على رأس كل آية. ثم خلط بين آيات متباعدة دون رابط مع تبديل كلمات القرآن بكلمات من عنده أحياناً، وتحريف لألفاظ القرآن أحياناً أخرى، مع الجسارة التامة على التلاعب بترتيب الآيات ونطقها وتبديل ما شاء وترك ما يشاء. وليقف كذلك على جهل الغلام بخالق السموات والأرض وبدائيته في ذلك؛ حيث لفق 97 صفحة ليضاهي بها القرآن الكريم (¬1) . وقد تحدى الغلامُ البشر أن يأتوا بصفحات من مثل كلامه الذي هو كالقرآن فقال يرد على الذين يقولون إن كلامه مسروق وليس بإلهام من الله: ((ووالله إنه ظل القرآن ليكون آية لقوم يتدبرون. أتقولون سارق فأتوا بصفحات مسروقة كمثلها في التزام الحق والحكمة إن كنتم تصدقون)) (¬2) . هذا وهو القائل: ((ألا لعنة الله على من افترى على الله أو كذّب الصادقين، وكل من كذّب ¬

(¬1) انظر لذلك: كتاب الغلام براهين أحمدية 3/239- 242، 4/509، ص554-556، نقلاً عن القادياني والقاديانية ص42-44. (¬2) ضميمة الوحي ص 10.

الصادق أو افترى جمعهم الله في نار أعدت لهم وليسوا منها بخارجين، قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين)) (¬1) . وبعد أن تحدى الغلام البشر أن يأتوا بصفحات من مثل الوحي الذي جاءه، عاد وتحدى البشر أن يأتوا بآية من تلك الآيات التي تلقاها عن الله تعالى قائلاً ومقسماً: ((ووالله لو اجتمع أولهم وآخرهم وخواصهم وعوامهم ورجالهم ونسائهم ما استطاعوا أن يأتوا بآية كما نعطى من ربنا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) (¬2) ، ومن أقوى ما أوحي إليه هذا الكلام: ((فروا من مائدة الله ورغفانها وانتشروا، وبقيت الخِوَانُ على مكانها، وآثروا عصيدة الدنيا وتحلبت لها أفواههم وتلمظت لها شفاههم ... )) (¬3) إلخ. فمن يستطيع أن يأتي بمثل هذا غيره؟!. وقد ذكر أن من الأدلة على نبوته أنه كان قد نقش في خاتمه: ((أليس الله بكاف عبده يا أهل الآراء)) (¬4) قبل أن يخبره الله بأنه نبي فاعجب لهذا الدليل أيها العاقل! وذكر أن الخاتم مضى عليه أكثر من ثلاثين سنة ولا يزال محفوظاً لديه، فضلاً من الله ورحمة، ومع هذا الفضل من الله عليه فقد سجل على نفسه أنه كان يكتم بعض الوحي؛ خوفاً من الحكومة، فقد نبأه الله أن رجلاً من أعدائه اسمه سعد الله سيموت، فأراد أن ينشر هذا الإلهام فثناه عنه وكيله فقال: ((فأردت أن أفصله في كلامي وأشيع ما صنع الله بذلك الفتان..فمنعني ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص 11. (¬2) ضميمة الوحي ص 24. (¬3) المصدر السابق ص41. (¬4) ضميمة الوحي ص 31.

من ذلك وكيل كان من جماعتي، وخوفني من إرادة إشاعتي وقال: لو أشعتها لا تأمن مقت الحكام ويجرك القانون إلى الآثام ... وليست الحكومة تارك المجرمين)) (¬1) . فكيف بكتم الوحي لئلا يكون مجرماً أمام الحكومة، وصدق الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} سورة النساء: 82. ومن إلهاماته الأخرى هذه العبارات: 1. إني ألهِمْتُ إن شاء الله (¬2) . 2. إني ألهِمْتٌ رجل معقول (¬3) . 3. إني ألهِمْتُ الأسف كل الأسف (¬4) . 4. إني إلهِمتُ جوهدري رستم (¬5) علي. 5. فراش العيش (¬6) . 6. أنت مني بمنزلة أولادي (¬7) . ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص 39. (¬2) البشرى للغلام 2/65، ماهي القاديانية؟ . (¬3) المصدر السابق ص84. (¬4) مجموعة إلهامات الغلام - البشرى 2/71، عن القاديانية. (¬5) البشرى ص94، ماهي القاديانية؟ . (¬6) البشرى ص88، ماهي القاديانية؟ . (¬7) ((أربعين)) حاشية ص23، القاديانية دراسة وتحليل.

3- دعواه أنه المسيح الموعود

بهذه الوثنية زعم أن الله خاطبه، تعالى الله عن افترائه. وهناك إلهامات كثيرة مملة، كما ذكر الندوي بعضها، وذكر المودودي بعضاً، وذكر إحسان إلهي بعضاً منها (¬1) أيضاً، ويكفي مجرد قراءتها دليلاً واضحاً على شخصية القادياني وشعوذته. 3- دعواه أنه المسيح الموعود: بعد أن أعاد القادياني وأبدى في دعوى الإلهام انتقل إلى الدعوى الثانية وهي أنه المسيح الموعود، قال في ضميمة الوحي: ((وأتى المسيح الموعود مهجراً بأمر الله العلام؛ ليظهر الله ضياءه التام على الأنام بعد الظلام)) (¬2) . إلا أن العلماء يذكرون أن الفضل في هذا التوجه يعود إلى صديقه الحكيم نور الدين، ويتضح ذلك في رسالة بعثها القادياني رداً على رسالة لصديقه الحكيم، الذي كتب إليه اقتراحه المشهور للغلام في أن يدعي أنه المسيح، فكتب له الغلام مبدياً تواضعه في أول الأمر وعدم طموحه إلى ذلك، جاء فيها قوله: ((لقد تساءل الأستاذ الكريم ما المانع من أن يدعي هذا العاجز (¬3) أنه مثيل للمسيح؟، وينحي في جانب مصداق الحديث الذي جاء فيه أن المسيح ينزل في دمشق، وأي ضرر في ذلك، فليعلم الأستاذ الكريم أن العاجز ليست له حاجة إلى أن يكون مثيلاً للمسيح، إن همه الوحيد أن يدخله الله في عباده المتواضعين المطيعين)) (¬4) . وما ألطفه من تواضع لو بقي عليه إن كان صادقاً في هذا الكلام، إلا أنه قد ¬

(¬1) انظر: القادياني والقاديانية ص42-44، وانظر: ماهي القاديانية، وانظر: القاديانية دراسة وتحليل ص153، 154. (¬2) ضميمة الوحي ص 12. (¬3) يعني الميرزا نفسه. (¬4) مكتوبات أحمدية 5/85، نقلاً عن القادياني القاديانية ص52.

يتبادر إلى الذهن أن ما أظهره هنا من التحرج والتواضع يحتمل أنه: 1. كان يخاف مغبة هذه الدعوى. 2. أو أنه قالها قبل أن تختمر الفكرة في ذهنه. 3. أو أنه كان ماكراً يريد أن يستثبت من رغبات الناس ويسبر غورهم وبالأخص صديقه المذكور. ومهما كان فقد وجهه الحكيم إلى دعوى أنه مثيل للمسيح، وبين له الخطة في ذلك بتأويل الأحاديث على وفق دعوى الغلام، وربما لم يكن الحكيم نور الدين وحده مصدر هذه الفكرة، بل الإنجليز أيضاً بطبيعة الحال كان لهم دور بارز في إضرامها ليوجهوها بعد ذلك الوجهة المطلوبة لهم، والتي أول أهدافهم منها محو فكرة الجهاد من أذهان المسلمين، وعلى أي حال كان، فقد قَبِلَ الميرزا مشورة صديقه في أن يصبح نبياً، وتأكد لديه أن الفرصة قد واتته، ومن هنا بدأ الميرزا غلام أحمد في تنفيذ تلك الفكرة وأخذ يدعو إلى ذلك بكل ما يستطيعه من إمكانيات. قال الندوي: ((وهنا تتميز الفكرة القاديانية عن الديانات السماوية والدعوات النبوية تميزاً واضحاً، فإن الأنبياء والرسل-صلوات الله وسلامه عليهم- ينزل عليهم الوحي من السماء ويمتلئون إيماناً وثقة برسالتهم، ولا تنبثق عقيدتهم أو دعوتهم من اقتراح أو توجيه)) (¬1) . كما حصل للغلام المذكور، وقد أخذ القادياني بعد ذلك يدلل على أنه هو المثيل للمسيح الموعود الذي بشرت به الأحاديث، وأنه ينبغي على كل مسلم أن يشكر الله على نزول المثيل الموعود ¬

(¬1) القادياني والقاديانية ص53.

وهو القادياني في عصره الجديد، أما المسيح ابن مريم حسب زعمه فإنه لا يعود إلى الأرض، ولكن الذي سيعود هو المثيل للمسيح والشبيه له لا المسيح نفسه؛ ولذلك فإن شبه المسيح تماماً هو القادياني وعلى الناس أن يصدقوا هذا التفسير منه ويتركوا ما جاء من النصوص في ثبوت عودة المسيح ابن مريم الذي أرسل في عصره إلى بني إسرائيل؛ لأن عودته إنما هي مثال للمسيح الهندي الغلام أحمد. ولقد ألف عدة كتب في إثبات هذا المفهوم الجديد، وله نصوص كثيرة فيه، يمكن أن نقتصر منها على هذا المثال من كلامه الذي جاء في كتابه ((توضيح مرام)) (¬1) ترجمة الأستاذ الندوي (¬2) ؛ حيث قال: ((إن المسلمين والنصارى يعتقدون باختلاف يسير أن المسيح ابن مريم قد رُفع إلى السماء بجسده العنصري، وأنه سينزل من السماء في عصر من العصور، وقد أثبت في كتابي- يعني فتح إسلام-أنها عقيدة خاطئة، وقد شرحت أنه ليس المراد من النزول هو نزول المسيح؛ بل هو إعلام على طريق الاستعارة بقدوم مثيل المسيح، وأن هذا العاجز هو مصداق هذا الخبر حسب الإعلام والإلهام، ومن هنا فإنه لا مناص من تقمص شخصية المسيح والعراك المرير لانتزاعها وتسليم المخالفين له بها)) . وقد أكثر من الكلام حول وفاة المسيح وتحقيق أنه كان له أب وأن المقصود بكونه لا أب له أي أنه جاءه العلم من غير تعلم (¬3) . ¬

(¬1) توضيح مرام ص2، ما هي القاديانية؟ (¬2) القادياني والقاديانية ص53. (¬3) انظر: ضميمة الوحي ص45- 55.

دور صديقه الحكيم نور الدين في دفعه إلى الأمام

دور صديقه الحكيم نور الدين في دفعه إلى الأمام: لقد كان لنور الدين اليد العليا على الغلام؛ حيث كان يمهد له الصعاب ويشاركه في إبراز القضايا الخطيرة وطريقة حلها وتوجيهها، ومن ذلك تفسير دمشق الواردة في صحيح مسلم أن المسيح ينزل في دمشق. فكيف ذلك ونزول القادياني كان في قاديان وبين البلدتين من البعد وعدم العلاقة بينهما ما لا يخفى على أحد. وهذه القضية أثارها نور الدين، وهي قضية خطيرة إن لم يوجد لها حل وتوجيه مقبول عند الناس، وبعد تفكير اهتدى الغلام إلى الحل الذي أطلعه الله عليه-حسب قوله- وهو أن دمشق التي ينزل فيها المسيح ليست هي دمشق المعروفة بالشام، ولكن المراد بدمشق أنها قرية يسكنها رجال طبيعتهم يزيدية-أي قاديان- فاتفقت في الوصف مع دمشق الشام من حيث إن طبيعة أهل هاتين المدينتين يزيدية. فقال: ((وإنه لما كانت قرية قاديان شبيهة بدمشق أنزلني فيها لأمر عظيم- أي قاديان- بطرف شرقي عند المنارة البيضاء من المسجد الذي من دخله كان آمناً)) (¬1) يعني المسجد الذي بناه بقاديان ليحج إليه اتباعه المرتدون عن الإسلام مضاهاة للمسجد الحرام، وجعل عنده منارة بيضاء ليضلل الناس في صدق الحديث عليه لنزوله أو ظهوره عند هذه المنارة التي بناها. تأويل الرداءين الأصفرين: كما أول نصوصاً كثيرة تأويلات باطنية ضالة؛ مثل تأويل ما جاء في أحاديث نزول المسيح أنه ينزل وعليه رداءان أصفران أولهما القادياني على ¬

(¬1) ماهي القاديانية؟ ص38- 40، القادياني والقاديانية ص58.

نفسه بأنهما المرضان اللذان كانا يلازمانه وهو الصداع الشديد والدوار الذي في مقدم رأسه، وكثرة البول الناتج عن السكر الذي أصابه (¬1) ، وأن الله ابتلاه بهذا لئلا يقع الخلل في نبوءة الرداءين الأصفرين زيادة في تثبيت الناس فيه، وسخر من الأحاديث التي تدل على نزول المسيح ابن مريم من السماء، وزعم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ألقى الله عليه علماً إجمالياً عن المسيح ليكمل تفصيله-على النحو المذكور- القادياني حين بعثته الجديدة من الهند، وقرر أن قبر المسيح ابن مريم موجود في كشمير وتعسف في ذلك، وجاء بالعجائب والغرائب من التأويلات التي لا تستند إلا على الهوى وعدم المبالاة، وهكذا أثبت لنفسه أنه هو المثيل للمسيح ابن مريم لوجود التشابه التام بينهما في المسكنة والتواضع والثقة في الله والتوكل عليه، وتجديد كل منهما للدين كما كان يذكر الغلام. إلا أنه يرد سؤال مهم؛ وهو أنه من الضروري أن يكون مثيل المسيح أيضاً نبيٌّ؛ لأن المسيح كان نبياً؟ وهذا سؤال يبدو أنه قد يُشّكِّلُ عقبة أمام القادياني، وهو نفسه صاحب هذا السؤال، ولكن أجاب عنه بقوله بعد إيراد السؤال: ((فالجواب الأول عن هذا، أن سيدنا ومولانا ما اشترط للمسيح القادم بالنبوة، وكتب بكل وضوح أنه سيكون رجلاً مسلماً متبعاً للشريعة الفرقانية شأن عامة المسلمين ولا يُظْهر شيئاً أكثر من هذا)) (¬2) . وعلى هذا فهو ليس المسيح وليس نبياً، قال: ((وإني ما ادعيت قط أني المسيح ابن مريم، والذي يتهمني بهذا فإنه المفتري الكذاب، بل الذي قد نشر من جانبي منذ سبعة أو ثمانية أعوام هو أني مثيل المسيح)) (¬3) . ¬

(¬1) براهين أحمدية ص201، وسيرة المهدي 2/238. عن القاديانية دراسة وتحليل. (¬2) توضيح مرام ص19، القادياني والقاديانية. (¬3) إزالة أوهام للميرزا ص190، القادياني والقاديانية.

لكنه لم يقف عند هذا الحد فيما بعد، وهذا الكلام إنما جاء في مرحلة من مراحل التخطيط للنبوة، ومن هنا فإنه قد ارتفع بعد أن أثبت مِثْلِيَّتَهُ للمسيح إلى أنه هو نفسه المسيح وأمه، فقال: ((وهذا هو عيسى المرتقب، وليس المراد بمريم وعيسى في العبارات الإلهامية إلا أنا)) . وقال: ((وهو قد سماني بمريم في الجزء الثالث من البراهين الأحمدية، ثم نشأتُ في الصفة المريمية إلى سنتين كما هو الظاهر من البراهين الأحمدية ومازالت أنمو وأتربى وراء الحجاب ثم ... نفخ فيّ روح عيسى كمريم وحملتُ بعيسى على وجه الاستعارة، ثم بعد عدة أشهر جعلت عيسى-بعد أنت كنت مريم- بإلهام جاءني في آخر الجزء الرابع من البراهين الأحمدية، فهكذا أصبحت ابن مريم)) (¬1) . وقد حاول الميرزا بشير محمود تأسيس هذه الفكرة؛ حيث زعم أن كلمة ((مريم)) تعني حالة ووضعاً خاصاً من أوضاع المؤمنين في مرحلة من مراحل حياتهم، ثم ينتقلون إلى ((العيسوية)) الهداية التامة (¬2) . وبهذا البهتان العظيم والخيال السقيم والعقوق أيضاً لأمه، لأنه صار ابناً لمريم وليس لأمه ((جراغ بي بي)) أراد أن يثبت نبوته، والذي يظهر لي أن هذه التلفيقات في أفكاره ترجع إلى أنه كان متأثراً بالقول بالتناسخ إلا أنه لم يجرؤ على التصريح به في تلك الفترة، فحاول تغطيته بمثل تلك العبارات المملوءة بالغموض عن عمد. وقد أطال كثير ممن كتب عن القادياني الرد على هذه الأفكار، والواقع أنه لا ينبغي مجرد الاهتمام بها ولا الردود عليها؛ فهي أحط من أن تثبت أمام ¬

(¬1) إزالة أوهام للميرزا ص659، ما هي القاديانية ص41. (¬2) معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية من كتاب دعوة الأمير للميرزا بشير محمود، انظر ص29- 30.

المناقشة والجدال، ومن الجدير بالتنبيه إليه أن بشير محمود أحمد في كتابه: ((دعوة الأمير)) قد ذكر كلاماً كثيراً حول إثبات وفاة المسيح عيسى ابن مريم، وزعم أن الذين يقولون بحياته إلى يومنا الحاضر لا يعرفون الله حق معرفته؛ حيث جعلوا المسيح مثيلاً له في عدم الفناء، وزعم أن اعتقاد حياة المسيح إلى اليوم فيه تأييد للنصارى في زعمهم ألوهية عيسى، أو أنه ابن الله! وهي مغالطة واضحة؛ فإن المسلمين حين يقولون: إن المسيح حي الآن في السماء، لا يقولون: إن حياته مثل حياة الله، بل يثبتون أنه سيرجع إلى الدنيا ثم يموت بعد ذلك كغيره من البشر. وقد اعتبر الميرزا بشير محمود القول بأنه عيسى رفع إلى السماء ومحمداً مدفون في الأرض من أشد الإهانات التي توجه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، ويقول: كيف أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله تركه للهموم والمصائب ولم يرفعه إلى السماء، وعيسى بمجرد أن تعرض لأدنى خطر رفعه الله إليه وجاء بشخص مثيل له ليصلب!؟ إلخ ما أورده من مغالطات شريرة، فإنه من المعلوم لدى أفهام العقلاء أن كون عيسى رفع ومحمد صلى الله عليه وسلم مدفوناً في الأرض، هذا ليس إهانة للرسول صلى الله عليه وسلم لا من قريب ولا من بعيد، فالأرض والسماء كلها لله، وقد اختار الله أن يكون الأمر على ما ذكر ولا يسأل الله عز وجل عما يفعل، ولا يعترض إلا جاهل، ونحن مع النصوص؛ ما أثبتته نثبته، وما نفته ننفيه، وقد نفت النصوص أن عيسى صلب بل إنه رفع، فيجب اعتقاد ذلك، والقول بأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم مدفون في الأرض إهانة (¬1) له، هذه الإهانة لا وجود لها إلا في أذهان المغالطين. كما أنه أورد شبهاً تدل على وفاة المسيح بزعمه، هي في واقعها تحريفات ¬

(¬1) معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية من 9- 29.

4- ادعاؤه النبوة

وتخريفات خاطئة، زخرف فيها القول، وزعم أنها حق تمويهاً على من لم يعرف مغالطاتهم. ومن الأمور التي قررها بشير محمود هو أن والده الميرزا هو المثل للمسيح المتوفى، وأن القول بنزول المسيح عيسى ابن مريم مرة ثانية إلى الدنيا يعتبر احتقاراً للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهضماً للقول بقدرة الله في إرسال الأنبياء والمصلحين؛ إذ كيف يضطر الله إلى إرسال ميت-حسب زعمه- من بني إسرائيل وأمة محمد صلى الله عليه وسلم موجودون، وهذا المفهوم مأخوذ عن ضميمة الوحي، حيث قال الغلام القادياني: ((ويدفنون خير الرسل في التراب ويُصْعِدون عيسى إلى السموات العلى فتلك إذا قسمة ضيزى يبصرون ثم لا يبصرون يرون الحق ثم يتعامون)) (¬1) . 4- ادعاؤه النبوة: وحينما وصل إلى الدرجة النهائية لتدرجه إلى مقام النبوة صرح بآخر تفاصيل الخطة، وأزاح الضباب الذي جعله سابقاً غطاء للوصول إلى هذه الدرجة التي أعلن فيها نبوته، وصال وجال وتحدى الناس وراهن على صدق نبوته وصدق نفسه أنه نبي، ومن هنا انطلق آخذاً في اعتباره أن يغطي الإسلام برداء نبوته الجديدة، وأن يتحول المسلمون على مر الزمن من الإسلام الذي ارتضاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه إلى يوم القيامة-أن يتحولوا إلى القاديانية فتصبح قاديان بدلاً من مكة والمدينة وبيت المقدس أيضاً، وتنتقل مهوى الأفئدة إلى قاديان، ويصبح زيارة مسجد القادياني والسلام على القادياني بدلاً عن ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص35.

زيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصبح تعاليم القادياني بديلة لتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية إلى آخر ما كان يهدف إليه، وفي ظني أن المنية عاجلته قبل أن يكمل المخطط تماماً، ولربما لو امتدت به الحياة بعد تلك الفترة التي قضاها لكان له شأن آخر. وعلى كل حال، فقد ادعى الغلام النبوة وبيَّن المهام التي أسندها الله إليه حسب زعمه، فقال: ((أنا على بصيرة من رب وهَّاب، بعثني الله على رأس المائة؛ لأجدد الدين وأنوِّر وجه الملة وأكسر الصليب وأطفئ نار النصرانية، وأقيم سنة خير البرية، ولأصلح ما فَسَدَ وأروِّج ما كسد، وأنا المسيح الموعود والمهدي المعهود، منَّ الله عليّ بالوحي والإلهام، وكلمني كما كلم رسله الكرام)) (¬1) ، إلا أنه تميز عن الرسل بخاصية لا توجد فيهم وهي: أن الرسل كانوا يفرحون بأخذ النبوة ويتقبلونها بلهفة، بينما هو تقبلها رغم كراهيته لها وإيثاره الخمول على الشهرة، وهذا في قوله: ((كنت أحب أن أعيش مكتوماً كأهل القبور، فأخرجني ربي على كراهيتي من الخروج، وأضاء اسمي في العالم مع هربي من الشهرة والعروج، ولبثت عمراً كالسر المستور أو القنفذ المذعور ... ثم أعطاني ربي ما يحفظ العدا)) (¬2) . وقوله: ((فأخرجني الله من حجرتي، وعرفني في الناس وأنا كاره من شهرتي، وجعلني خليفة آخر الزمان وإمام هذا الأوان)) (¬3) . ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص22. (¬2) أي ما يثير غضبهم وحقدهم. انظر لهذا النص: ضميمة الوحي ص34. (¬3) خاتمة رسالته ضميمة الوحي ص86.

لقد كان القادياني لبقاً في إبداء فكرته، يمشي خطوة خطوة وينتقل من مرحلة إلى مرحلة، فبدأ يتكلم عن الإلهام والعلم الباطني والعلم اليقيني كمنزلة طبيعية يصل إليها الإنسان بلزوم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاضمحلال فيه على طريقة الصوفية، ويتكلم عن صفات النبوة والنبي الذي يجمع هذه الخصائص وإمكان ذلك. ولعله كان يدرس الأحوال ويتأكد من جود المحيط المناسب لهذه الدعوى الكبيرة التي ستحدث الضجة العظيمة التي كان يترقبها في المجتمع الإسلامي حين إعلانها. وقد حدث الحادث المرتقب عام 1900م حينما ألقى إمام مسجده-ويسمى عبد الكريم- خطبة الجمعة معلناً فيها أن الغلام صار نبياً رسولاً؛ لا يؤمن بالله من لا يؤمن به. وحصلت المفاجأة واندهش المصلون لهذا الحدث الغريب، وحصل الجدال والنقاش بين هذا الخطيب وبين المسلمين الذين ما كانوا يعرفون عنه إلا أنه عالم ومجدد وداعية إلى الإسلام ومناظراً لخصومه. فعاد عبد الكريم وألقى خطبة أخرى في هذا المعنى في الجمعة الثانية، والتفت إلى الغلام أحمد وقال له: ((أنا أعتقد أنك نبي ورسول فإن كنت مخطئاً نبهني على ذلك، ولما قضيت الصلاة وهمّ الميرزا بالانصراف أمسك الخطيب عبد الكريم بذيله وطلب منه توضيح هذا الأمر، فأقبل إليه الميرزا قال: ((هذا الذي أدين به وأدعيه)) ، فارتفعت الأصوات بالنقاش فخرج الميرزا من بيته وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (¬1) . ¬

(¬1) محاضرة السيد سرور شاه القادياني - صحيفة الفضل القاديانية عدد (51) مجلد 410 يناير 1923م، القادياني والقاديانية ص66، 67، الآية من سورة الحجرات:2.

ومن هنا شمر عن ساعد الجد في دعوى النبوة بل وتحدى على ذلك، وأنه نبي مرسل من الله صاحب شريعة، وكفّر جميع من لا يؤمن به وأثبت لنفسه أنه رسول من الله (¬1) ، وأنه نبي سماه الله بذلك حسب قوله: ((سماني الله نبياً تحت فيض النبوة المحمدية، وأوحى إليّ ما أوحى)) (¬2) . قال أيضاً: ((وإني والله من الرحمن يكلمني ربي ويوحي إليّ بالفضل والإحسان)) . ((وخاطبني ربي إنك بأعيننا فأوفى وعده)) (¬3) . وبعد أن صرح بالنبوة أخذ يتدرج أيضاً في تلطفه مع المخالفين إلى أن جاء الحكم الأخير عليهم بالكفر والنار فبدأ بالقضية هكذا: كل من لا يؤمن بنبوة الغلام ويكفر به يستوجب العقاب إلى حد ما (¬4) ، ولا يكون الإنسان كافراً أو دجالاً لأجل إنكاره لدعواه، إلا أنه يكون ضالاً منحرفاً عن جادة الصواب، ويكون فاسقاً وجاهلاً جهلاً محضاً ... إلى آخر ما وصف به مخالفيه في هذه الفترة. ثم جاءت الفترة النهائية وفيها الشدة والغلظة على المخالفين، وإخراجهم من الملة إن لم يدخلوا في دينه بخلاف من مات قبل مجيئه، ومن هنا قال: ((إن الذين خلوا من قبلي لا إثم عليهم وهم مبرءون، والذين بلغتهم دعوتي ورأوا آياتي وعرفوني وعرفتهم بنفسي وتمت عليهم حجتي ثم كفروا بآيات الله ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص13. (¬2) المصدر السابق ص18. (¬3) ضميمة الوحي ص26. (¬4) رسالة الأربعين ص7 رقم (4) ، ما هي القاديانية؟ .

وآذوني أولئك قوم حق عليهم عقاب الله، خصوصاً بعد أن صار مهدياً متجسداً بمحمد صلى الله عليه وسلم كما زعم (¬1) . ولأن الله أنزل عليه بالإلهام ((كل رجل لا يتبعك ولا يدخل في بيعتك ويبقى مخالفاً لك هو عاص لله والرسول وهو من أصحاب النار)) (¬2) . وهناك نصوص كثيرة في دعوى تجسد محمد صلى الله عليه وسلم بالغلام في قاديان وظهوره مرة أخرى داعياً إلى الإسلام ونشره من جديد، منها: ((أن الله قد أنزل محمداً صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في قاديان لينجز وعده)) (¬3) ، ومنها: ((فالمسيح الموعود هو محمد رسول الله، وقد جاء إلى الدنيا مرة أخرى لنشر الإسلام)) (¬4) . ومنها: ((فإن المسيح الموعود ليس بشخص غير النبي الكريم، بل إنه هو نفسه)) (¬5) . وعلى أساس هذا المفهوم، فكل من أنكر أو كذب بنبوة الغلام فهو نفسه تكذيب وإنكار لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل جزاء يلحق بمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم هو نفسه الجزاء الذي يحل بمن يكذب بالقادياني. وانتقلت نفس الصفات التي اختارها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فصارت للقادياني: ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص26. وانظر أيضاً: إرشاد الميرزا جريدة الفضل 26/ 1 / 1961 م. (¬2) حجة الله: محاضرة للميرز ألقاها في لاهور، منقولة من كتاب النبوة في الإسلام لمحمد علي اللاهوري ص214. ما هي القاديانية؟ (¬3) كلمة الفصل لبشير أحمد القادياني ص105. ما هي القاديانية؟ (¬4) المصدر السابق ص158. (¬5) المصدر السابق ص147.

فهو مفضل، ومسجده مفضل وقبره مفضل، وقاديان نفسها مفضلة أيضاً، ويجب على المسلم ألا يرى فارقاً بين قبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقبر الغلام؛ لأن القبرين في منزلة واحدة، ولأن الغلام اسمه أيضاً محمد. ولهذا فكل آية فيها ذكر محمد فإنها تنطبق أيضاً على الغلام المسيح الموعود لاتحادهما في الاسم وشمول الرسالة والتجسد، ومن هنا فلا غرابة في عدم تغيير القادياني لفظة الشهادة في الإسلام، بل أبقاها على صيغتها الشرعية: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) ؛ لأن القاديانية يزعمون- كما زعم لهم الغلام لنفسه-أن من أسمائه ((محمداً)) ؛ فلهذا يكفي ذلك اللفظ عن الإتيان بصيغة جديدة. وفي هذا يقول بشير أحمد ابن الغلام القادياني: ((نحن لا نحتاج لديننا إلى كلمة جديدة للشهادة بنوبة غلام أحمد؛ لأنه ليس بين النبي وبين غلام أحمد أي فارق)) (¬1) . هذا تعليلهم، ولعل الصحيح أنهم لم يغيروا الشهادة خبثاً وتقية؛ ليكملوا تحت شعار الإسلام ما يهدم الإسلام، ويحقق أهدافهم، وتنتشر تعاليمهم بين العامة من المسلمين على طرف من الحذر وعمق في التمويه، والسير إلى النهاية ببطء ودقة. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر كلمة الفصل 14/ 158، القاديانية لإحسان إلهي ص86- 87.

الفصل الخامس نبوءات الغلام المتنبئ

الفصل الخامس نبوءات الغلام المتنبئ وبعد أن أثبت لنفسه النبوة كان حتماً عليه أن يخبر بالمغيبات على طريقة الرسل الذين يطلعهم الله على غيبه لمصلحة يعلمها عز وجل. فكان الغلام إذاً على نفس المسلك، ولكن كان بينه وبين المسلك النبوي كما بين السماء والأرض. ما أبعد الفرق بين القوم في شرف ... وبيننا يا حثالات الحثالات (¬1) لقد ظن الغلام أنه بمجرد الإخبار بالمغيبات تثبت نبوته، وتناسى مصداق ما يخبر به النبي ووقوعه على وفق ما أخبر، ولقد خانه الحظ السعيد في أغلب أخباره فكانت تأتي النتائج سلبية وبعكس ما يخبر به تماماً مرة بعد مرة، ولقد عانى هموماً شديدة من ذلك، إلا أنه كان يحاول إخفاء ذلك بشتى الأجوبة والحيل لتغطية الفشل الذريع الذي كان يمنى به، ولكنه كان من الثبات بمكان؛ فلا يفشل في خبر إلا وقد جاء بغيره على طريقة الكهان الذين يصدقون في كل مائة كذبة مرة واحدة، لتكون منطلقاً لنشرها بين الناس. وتنبؤاته كثيرة ومتنوعة، بعضها يعود إلى حياته الشخصية وبعضها إلى غيره من الناس، وبعضها إلى الأحوال الطبيعية والتغيرات المستمرة في ¬

(¬1) نصيحة الإخوان للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ص6.

الكون، وقد قال في بيانه لكثرتها وفي بيان أنها كلها إلهام: ((وأنها أنباء كثيرة منها ذكرنا ومنها لم نذكر، وكفى هذا القدر للأتقياء)) (¬1) . وفيما يلي نذكر بعض تلك الإلهامات التي جاء بها للتدليل على نبوته ومنها: 1. قصة غرامية حصلت له- لا يهمنا منها إلا جانب واحد، ومفاد هذه القصة أن الغلام أحب امرأة تسمى محمدي بيكم بنت الميرزا أحمد بك، وهو ابن خاله. خطبها الغلام بعد أن زعم أن الله أوحى إليها أنها ستكون زوجة له، وأن الله وعده بذلك، والله لا يخلف الوعد، وتحدى على ذلك كل من أراد أن يحول بينه وبين الزواج بها، وجاء بإلهامات وأخبار طويلة، وأن الذي يتزوجها غيره لا بد وأن يموت في خلال سنتين. وخاب أمله ورفض والدها أن يزوجها منه رغم ما بذل في تحقيق ذلك، ورغم هذه الصولات والجولات فقد وقع المحذور وتزوجت هذه المرأة من غيره، وأنجبت له أولاداً وعاش زوجها عيشة هنيئة سنين عديدة، ومات الغلام وهو يتحدى من يشككه في إخبار الله له، وصدق عليه قوله حين قال متحدياً: ((إن لم يتحقق هذا النبأ فأكون أخبث الخبثاء أيها الحمقى)) (¬2) ، يخاطب مخالفيه. بل وأكد أن هذا الخبر هو معيار لصدقه من كذبه (¬3) ، فقد مات ولم يتزوجها لا هو ولا أحد من أقربائه. 2. وتنبأ كذلك بأمور كثيرة خاب أمله فيها كلها، فقد جرؤ على ادعاء أمر خطير جداً يظهر فيه كذب الكاذب بعد فترة بسيطة مهما كان، وذلك هو ادعاؤه علم الغيب ومعرفة وفيات الناس الذين يغضب عليهم حيث قال: إن ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص5. (¬2) ضميمة إنجام آثم للغلام ص54. القاديانية لإحسان. (¬3) المصدر السابق ص223، انظر: القاديانية لإحسان إلهي 171 - 172.

فلاناً الذي عاداني سيموت بعد كذا من المدة؛ يحددها بالتاريخ، فينتظر القاديانيون بفارغ الصبر تحقيق تلك النبوءة فينعكس الحال تماماً. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا يهمنا استقصاؤها؛ ذلك أنها جزء متمم لدعوى النبوة وفرع عنها. وما دام الأصل قد قام على شفا جرف هار؛ فإن الفرع تبع له. وقد صارت أخبار نبوءاته وفشله فيها من الحكايات التي يتسلى بها الناس، ومن ذلك: 1. ما تنبأ به من موت رجل نصراني اسمه عبد الله آثم، ناظره فلم يفز الغلام عليه فغضب، وأراد أن يمحو العار عن قصوره أمام هذا النصراني فزعم أن عبد الله آثم سيموت إن لم يتب بعد خمسة عشر شهراً -حسب ما أوحى به الله إليه- وأكد ذلك بقوله: ((ما فتح علي الليلة هو هذا: بأني حينما تضرعت وابتهلت أمام الله عز وجل، ودعوت منه بأنه بفصل في هذا الأمر؛ فأعطاني آية بأن الكذاب يموت في خمسة عشر شهراً بشرط ألا يرجع إلى الحق، والصادق يكرم ويوقر، وإن لم يمت الكذاب في خمسة عشر شهراً، من 5مايو سنة 1893م، ولم يتحقق ما قلت، فأكون مستعداً لكل جزاء يسوِّد وجهي وأذلل ويجعل في جيدي حبل وأشنَق، وأنا أقسم بالله العظيم أنه يقع ما قلت ولا بد له أن يقع)) (¬1) . رحم الله من قال: إن البلاء موكل بالمنطق، لقد أوقع الغلام نفسه في مأزق حرج لم يخرج منه بعد ذلك لا هو ولا أتباعه، وقد وقع له في هذا الخبر الذي زعم أنه عن الله تعالى- أمور: 1- أنه وحي من الله. ¬

(¬1) الحرب المقدس ص188، القادياني والقاديانية.

2- حدده بالمدة الدقيقة. 3- وجدت فيه صفة الحلاف المهين. 4- سب نفسه بأقذع السب إن كذب، وقد كذب. 5- أنه يستحق أن يشنق إن كذب. فماذا كانت النتيجة؟ لقد كان القاديانيون ونبيهم يلهثون مما يجدون من خوف العار وظهور الكذاب، وصاروا ينظرون إلى المدة بغاية القلق والهم، كأنما ((يساقون إلى الموت وهم ينظرون)) ، كلما مر يوم اصفرت وجوههم، وملئوا المساجد بالصلوات والابتهالات أن يموت عبد الله آثم، إلى أن انتهت المدة والرجل في كمال صحته، فأسقط في أيديهم وخاب أملهم. فادعوا أن عبد الله آثم قد رجع عن النصرانية، ولهذا أمهله الله ولم يمته، فلما سمع بذلك كتب يكذبهم ويفتخر أنه مسيحي وعاش بعد ذلك مدة. 2. نبوءته عن نفسه بأنه لا يموت حتى يتجاوز سنة 1920م، ثم مات سنة 1908م (¬1) . 3. نبوءته عن رجل اسمه عبد الحكيم من المسلمين، ناظره فغضب الغلام وزعم أنه أوحي إليه أن عبد الحكيم سوف لا يعيش طويلا، بل يموت في حياة القادياني، فكانت النتيجة بالعكس؛ إذ مات الكذاب منهما في حياة الصادق كما هو تعبير القادياني، وعاش عبد الحكيم بعد موت الغلام زمناً (¬2) . 4. قصة مناظرته مع الشيخ ثناء الله الأمر تسري ودعاؤه أن يهلك الله ¬

(¬1) سيرة المهدي لبشير أحمد ص7، المصدر السابق. (¬2) القاديانية لإحسان إلهي ص 185.

الكاذب منهما في حياة الصادق بمرض خطير مثل الكوليرا أو غيرها؛ فاستجاب الله دعاءه وأمات الكاذب - الغلام- وبقي الشيخ ثناء الله بعده مدة طويلة (¬1) . 5. وكان يتنبأ بأن زوجته ستلد ولداً جميلاً ذكراً، وأن الله أخبره بذلك، فتلد زوجته أنثى، وحدث هذا أكثر من مرة، ومع ذلك لم ييأس الغلام أن يصدق في أي مرة. 6. ومن أكاذيب نبوءته أن الطاغوت لا يمكن أن يصل قاديان ما دام فيها رسوله-أي يقصد نفسه- حتى ولو استمر الطاعون سبعين سنة (¬2) ، فكذبه الله ودخل الطاعون قاديان وفتك بهم، بل ودخل بيت الغلام نفسه، وكانت وفاته به، مع أن الطاعون آنذاك لم يعم البلاد والقرى المجاورة لقاديان كلها، قال في ضميمة الوحي: ((وآية له أن الله بشره بأن الطاعون لا يدخل داره وأن الزلازل لا تهلكه، وأنصاره، ويدفع الله عن بيته شرهما)) (¬3) . وقال أيضاً: ((وجعل الله داره حرماً آمناً، من دخلها حفظ من الطاعون وما مسه شيء من الأذى)) (¬4) . 7. وتنبأ لأحد أتباعه-ويسمى منظور محمد- أن زوجته- وكانت حاملاً-ستلد ولداً مباركاً يسمى بشير الدولة من زوجته محمدي بيجوم، فكانت النتيجة أن زوجة منظور ولدت بنتاً، ثم لم تلد حتى ماتت (¬5) . 8. وأحياناً كان يتنبأ بوقوع زلازل هائلة يتأثر منها حتى الجن والطيور، وأنها ستقع في مدة أقصاها كذا وكذا، ولكن النتيجة تظهر لتكذيب الغلام ¬

(¬1) القاديانية ص 154، 159. (¬2) دافع البلاء للغلام ص 10- 11، ما هي القاديانية؟ . (¬3) ضميمة الوحي ص9. (¬4) المصدر السابق ص 19. (¬5) مجلة الفضل سنة 1906 م ص 122، ما هي القاديانية؟ .

ولا يقع إلا الخير، لا الزلازل التي تنبأ بها بإخبار الله له-كما يزعم-. 9. وتنبأ بأن الله أوحى إليه إلهاماً أنه سيتزوج بعد تاريخ سنة 1886م نساء (¬1) ذوات بركة وخير ينجبن له أولاداً صالحين، وكانت النتيجة أنه مات قبل تحقق هذا الوحي المزعوم. 10. وتنبأ لمولود له اسمه مبارك أحمد بأنه يكون له فضل على العالمين، ويكون له شهرة عالمية وأيادٍ على الخلق (¬2) ، وكانت النتيجة أن الولد مات بعد ثمان سنوات من عمره. ورغم وقوع القادياني في أكثر من موقع حرج يبطل ما يتنبأ به، فإنه لم يتعظ من كل حادثة يكذب فيها، بل يشفع الكذبة بأخرى، ولعله كان يأمل أن يصيب مرة ويخطئ مرة أخرى، ولعل هذه المواقف المخزية التي تعرض لها كثيراً ولم ينته عن غيه إنما تدل على عدم احترامه لنفسه، وتدل كذلك على أن أتباعه أيضاً لا عقول لهم، بل هم في عداد البهائم؛ حيث لم يرتابوا في تلك النبوءات الكثيرة التي كذَّب الله فيها الغلام، خصوصاً وأنها تتعلق بأمور لا تخفى نتائجها كموت فلان وولادة فلان ... إلخ. وقد بدأ القاديانيون يفسرون تلك النبوءات تفسيرات وتأويلات متكلفة؛ ليوهموا الناس بصدق غلامهم، كما أن الغلام نفسه وبعد أن ذاق الأمرين من تنبؤاته الكاذبة سلك مسلكاً آخر لتنبؤاته؛ وهو أنه إذا سمع بحادثة ما زعم على الفور أنه كان قد تنبأ بها، وأخبر بها قبل وقوعها وكل كاذب يجد من يصدقه، ولكل صوت صدى. وأحياناً كان يتنبأ بوقوع أمور طبيعية لا بد من وقوعها، كقوله مثلاً: ¬

(¬1) تبلغ رسالة 1/ 58، ما هي القاديانية؟ . (¬2) ترياق القلوب ص 43، المصدر السابق.

ألهِمْت أن فلاناً سيموت وألهِمْتُ أن حرباً ستقع بين الناس، وأن الزلازل ستحدث ونحو ذلك من الأمور التي تقع عادة، فإن جاءت كما أخبر فرح بها هو أتباعه وإن كان العكس نكسوا رءوسهم قليلاً، ثم يأخذون في جمع وتلفيق المبررات. وفي كتابه -ضميمة الوحي- تنبأ في أكثر من مكان بأن الناس سيأتون إليه في قاديان أفواجاً، فقال عن نفسه عن طريق الإلهام: ((ويعان من حضرة الكبرياء، وتأتيه من كل فج عميق أفواج بعد أفواج، كبحر مواج حتى يكاد أن يسأم من كثرتهم ويضيق صدره من رؤيتهم ويروعه ما يروع العايل المعيل عند كثرة العيال وحمل الأعباء وقلة المال)) (¬1) . فكانت النتيجة عكس ذلك: ((حوربت القاديانية من قبل المسلمين في الهند وباكستان حرباً شعواء، وخرجت مهزومة محكوم عليها بالارتداد والكفر بالله، ولم تنتشر إلا في بلدان نائية بين جهلة المسلمين وعوامهم. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص 3.

الفصل السادس غلوه وتفضيله نفسه على الأنبياء وغيرهم

الفصل السادس غلوه وتفضيله نفسه على الأنبياء وغيرهم لم يقتصر الميرزا على التنبؤ، بل حمله غروره على أن فضّل نفسه على أكثر الأنبياء والمرسلين، وأنه جُمع فيه ما تفرق في أنبياء كثيرين؛ فما من نبي إلا وقد أخذ منه قسطاً حسب قوله الآتي: ((لقد أراد الله أن يتمثل جميع الأنبياء والمرسلين في شخص رجل واحد، وإنني ذلك الرجل)) (¬1) . وقوله: ((وآتاني ما لم يؤت أحداً من العالمين)) (¬2) ، كما فضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال متطاولاً: له خسف القمر المنير وإن لي ... غسا القمران المشرقان أتنكر (¬3) وله نصوص كثيرة في تفضيله نفسه على سائر البشر، مع أنه كان في أول أمره يصف نفسه بالمسكين والضعيف، ثم جاء الميرزا بشير الدين محمود خليفته الثاني ليعلن غلوه فيه بقوله: ((إن غلام أحمد أفضل من بعض أولي العزم من الرسل)) (¬4) . ¬

(¬1) آئينة كمالات اسلام ص90، نقلاُ عن القاديانية دراسة وتحليل. (¬2) ملحق حقيقة الوحي ص 87، عن القادياني والقاديانية. (¬3) إعجاز أحمدي ص71، عن ما هي القاديانية، وفي ضميمة الوحي ص 7 ((مترجم)) قال في تعداده لآياته: منها: إن الشهب الثوابت انقضت له مرتان وشهد على صدقه القمران إذا انخسفا في رمضان، وهو كلام كاذب لم يذكره غيره. (¬4) حقيقة النبوة للميرزا بشير الدين محمود ص 257. عن القاديانية.

وقال عنه أيضاً: إنه كان أفضل من كثير من الأنبياء، ويجوز أن يكون فضل من جميع الأنبياء (¬1) ! وقال أيضاً مقارناً حال الناس في عهد والده وحالهم في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والفيوضات الربانية في حياة كل منهما: ولم يحرم -أي الرسول صلى الله عليه وسلم - الدنيا من الفيوض الروحانية بل زادها غزارة وتدفقاً، وإن كانت تجري من قبل كترعة صغيرة فالآن أصبحت كنهر زاخر؛ لأن العلم لم يبلغ عندئذ دوره الكامل، لكن الآن قد بلغ أوجه (¬2) . ثم ادعى الغلام أنه عين محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ((من فرق بيني وبين المصطفى فما عرفني وما رأى)) (¬3) . كما ادعى كذلك أنه مظهر ((لكرشن)) وأنه برز فيه وتجلى (¬4) . ثم ادعى أنه ابن الله -تعالى الله عن أقواله الكفرية علواً كبيراً- فقال: إن الله ألهمه: أنت مني بمنزلة أولادي (¬5) . وخاطبه الله مرة بقوله: ((اسمع يا ولدي (¬6) يا شمس يا قمر (¬7) أنت من مائنا وهم من فشل)) (¬8) . ومن هنا رأى بأن مدحه لنفسه من الأمور الجيدة، فقال يصف شخصه ويقارن بينه وبين الأماكن المقدسة: ¬

(¬1) صحيفة الفضل جـ14 عدد 291 سنة 1927 م إبريل. انظر: القادياني والقاديانية ص76، 78. (¬2) دعوة الأمير - معتقدات الجماعة الإسلامية الأحمدية ص31. ((مترجم)) . (¬3) جريدة الفضل 17 يونيو سنة 1915 م. (¬4) محاضرة الميرزا في سيالكوت في 2/ 11 / 1904 ص 34. (¬5) رسالة الأربعين ص 23 رقم 4. (¬6) البشرى 1/49. (¬7) حقيقة الوحي ص 73. (¬8) إنجاح آثم ص 55 للغلام أحمد، وكل تلك المصادر مأخوذة عن ((ما هي القاديانية؟)) ص 34، القاديانية لإحسان إلهي ص 100، ص 154.

((وإني والله في هذا الأمر كعبة المحتاج، كما أن في مكة كعبة الحجاج، وإني أنا الحجر الأسود الذي وضع له القبول في الأرض والناس بمسه يتبركون، لعن الله قوماً يقولون: إنه يريد الدنيا. وإنا من الدنيا مبعدون)) . قال في الهامش: ((هذه خلاصة ما أوحى الله إلي)) (¬1) . ثم زعم أن كل المصائب التي حلت بالقارة الهندية إنما كانت توطئة لبعثته حيث قال: ((فاعلموا رحمكم الله أن هذه المصائب من الأقدار التي ما رأيتم قبل هذا الزمان ولا آباؤكم في حين من الأحيان، إنما هي آيات الرجل الذي بعث فيكم من الله المنان)) (¬2) . وإذا كانت تلك الكوارث كلها بسببه فلا عيب بعد ذلك على من تشاءم به ورأى أنه مصدر الكوارث والعقاب الشديد على حد قول الله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} سورة الأنفال: 25. وهذه الإلهامات والكشوف والوحي الذي ادعاه في أقواله السابقة إنما تدل على جهله المطبق وجهل أتباعه، وعدم معرفة الغلام قدر الأنبياء العظيم الذي لا يصل إليه أحد غيرهم، وتدل كذلك على عدم معرفته بنفسه أيضاً؛ حيث ظن أنه بمجرد التفضيل الفارغ لشخصه ينقله إلى رتبتهم، فقوله: إن الله جمع فيه كل صفات الأنبياء، وأنه آتاه ما لم يؤت أحداً من العالمين-كذب ظاهر؛ فإن للأنبياء صفات لم يجرؤ القادياني على ادعائها؛ فلم يؤت ملك سليمان ولا صبر أيوب، ولا سفينة نوح، ولا بركات محمد صلى الله عليه وسلم وانتشار دينه ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص 45 ((مترجم)) . (¬2) المصدر السابق ص 65.

في أقطار الأرض بسرعة مذهلة دون اللجوء إلى أي دولة من الدول، ولا الحب الذي كان يكنه المسلمون له، بخلاف القادياني الذي مات وهو يحاول جاهداً أن يزوجوه ببنت ابن خاله فرفضوه رغم إذلال نفسه لهم، وتوسل بشتى الوسائل دون جدوى. فكيف بعد ذلك يتجاسر ويفضل نفسه على جميع البشر؛ بل وعلى أولي العزم من الرسل الذين اجتباهم الله، وجعل لهم الود والاحترام في نفس كل شخص عاقل!! بل وأغرب من هذا أن يقال: ومن أي طريق أقدم على دعوى أنه عين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كان لمحمد صلى الله عليه وسلم -حسب مزاعم القادياني وأتباعه- بعثتين: الأولى وكانت بمكة، والثانية وكانت بالقاديان بالهند، وأن محمداً في بعثته الثانية كان أكمل منه في بعثته الأولى. إذا كان يزعم أن ذلك تم عن طريق التناسخ، فإن التناسخ لم يقل به أحد من العقلاء غير عباد البقر والفروج من الهندوس والبوذيين، ثم كيف تناقض بعد ذلك في مسألة واحدة هامة وخطيرة جداً؛ فزعم أولا أنه مظهر لكرشن معبود الهنادك، ثم زعم ذلك أنه محمد صلى الله عليه وسلم. كيف ساغ له أن يجمع بين الشرق والغرب؛ الليل والنهار في مكان واحد، هذا هو عين التخبط والجهل الشنيع. ولقد زاد على جهله بحق الأنبياء الجهل بحق الله عز وجل؛ فها هو يثبت أن الله قال له: ((أنت مني بمنزلة أولادي)) . تعالى الله عن هذا المعتقد الجاهلي فإن الله تعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فهو منزه عن الصاحبة والولد: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} سورة مريم: 93- 95. بل هو قول عظيم جداً: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} سورة مريم: 90. ولقد أخبر الله أن كل من نسب إلى الرحمن ولداً فإنه كاذب، كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} سورة الصافات: 151، 152. ومن حكم الله عليه بأنه كاذب فقد استحق المقت وعدم الالتفات إلى قوله؛ فإن المؤمن لا يكون كذاباً، لا يستحله ولا يستمر عليه إلا من مقته الله. ولهذا فإن خطاب الله له بقوله: ((اسمع يا ولدي)) ونسبة هذا الفجور إلى وحي الله-جريمة كبرى وكلام لم يقله نبي من الأنبياء ولا ذُكِرَ في كتاب من الكتب المنزلة، ولم يقل به إلا الجهال الذين يقولون المنكر والزور. وقول القادياني: إن الله خاطبه بقوله: يا شمس يا قمر؛ فمعاذ الله أن يصدر هذا من الله عز وجل، وإنما هذا قول الفارغين العاطلين عن المعرفة، وليس هناك ما يدعو إلى هذا الغزل، فإنه لم يؤت جمال يوسف ولا بهاءه، ومع ذلك لم يوصف يوسف بمثل هذا الوصف فأين القادياني وأين الشمس والقمر؟!. ثم ذكر القادياني تعبيراً مجوسياً وثنياً جل الله عنه؛ حيث زعم أن الله ألهمه: أنت من مائنا وهم من فشل!! كبرت كلمة تخرج من فمه كذباً وزوراً

وتنزه الله عن كل نقص: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} سورة الأنعام: 18. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} سورة غافر: 19. {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} سورة مريم:93 وإذا كان القادياني قد غلا في نفسه وفضَّلها على جميع الأنبياء والمرسلين-فمن الطبيعي أن يفضلها على جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء بالصحابة الكرام فمن بعدهم. وهذا هو الذي وقع بالفعل. فقد فضل القادياني نفسه على جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما فيهم الصحابة كلهم لم يستثن أحداً منهم، فقد أداه الغرور إلى أن يقول: ((لا شك أنه ولد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم آلاف من الأولياء والأصفياء ولكن ما كان أحد مثلي (¬1) . وقد يبدو هذا التفضيل برغم بشاعته صغيراً بالنسبة لتفضيل نفسه على جميع الأنبياء حيث قال: ((جاء أنبياء كثيرون، ولكن لم يتقدم أحد عليّ في معرفة الله، وكل ما أعطي لجميع الأنبياء أعطيت أنا وحدي بأكمله)) (¬2) . وجاء في تمجيد أتباعه له على نفس المعنى: ((نحن نعتقد بأن الله أنزل لصداقة غلام أحمد آيات وبينات لو توزع على ألف نبي لثبتت بها نبوتهم. وكان يجمع في ذاته جميع الصفات القدسية التي ¬

(¬1) تذكرة الشهادتين للغلام ص 29. ترجمة الندوي، القادياني والقاديانية. (¬2) در ثمين للغلام ص 287، 288، وانظر: ضميمة الوحي ص 13.

وجدت في جميع الأنبياء (¬1) وقد فضل نفسه على أنبياء خصهم بأسمائهم وقبلهم فضل نفسه على آدم عليه السلام فقال: ((إن الله خلق آدم وجعله سيداً مطاعاً وأميراً حاكماً على كل ذي نسمة، كما يظهر من قوله: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} ، ثم أغواه الشيطان وأخرجه من الجنة ورجع الحكم إلى الشيطان، وصار آدم مصغراً ثم خلقني الله لكي أهزم الشيطان وهذا ما وعده في القرآن)) . وتوجد نصوص كثيرة من كلامه في تفضيل نفسه على نوح وعيسى ويوسف، وإذا كان هذا هو موقفه من الأنبياء فما الحال بغيرهم؛ خصوصاً أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم هدف حربه، وحرب كل الطوائف المعادية للإسلام، ولهذا نرى القادياني وقد فضل نفسه على كثير من مشاهير الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعليّ والحسن والحسين وأبي هريرة دون أن يجد رادعاً من حياء أو ضمير، وهو حينما يسب ويشتم هؤلاء الأخيار ويترفع عليهم نسي قوله: ((الذي يسب أو يشتم الأخيار المقدسين فليس إلا خبيث ملعون لئيم)) (¬2) . وقد تطاول أحد أقرباء الغلام وقال في جرأة شريرة: ((أين أبو بكر وعمر من غلام أحمد، إنهما لا يستحقان أن يحملا نعليه)) (¬3) . ونصوص أخرى كلها تدور على تفضيل القادياني على من لا يساوي شراك نعل أحدهم، نتركها لتفاهتها ولما فيها أيضاً من الظلم الصريح بسبب ¬

(¬1) جريدة الفضل 16 أكتوبر سنة 1917 م. تلك المصادر عن ((ما هي القاديانية)) . (¬2) البلاغة المبين ص 19. (¬3) المهدي ص 57 رقم 304 لمحمد حسين القادياني.

تنقص القاديانيين بالأنبياء وبأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ومن الغريب حقاً أن القاديانيين حينما يزعمون أو يزعم الغلام لنفسه أن له هذا الفضل الذي لا حد له يأبى الله إلا أن يظهره على حقيقته، فإذا به يوصف بأنه كان سكيراً عربيداً يحب الأفيون حباً شديداً حتى جعله في شريعته نصف الطب، يقول عنه ابنه محمود أحمد: ((إن الأفيون يستعمل في الأدوية كثيراً حتى كان أبي يقول: إن الأفيون نصف الطب)) ، ثم يقول محمود عن تحليله: ((ولذا استعماله للتداوي يجوز، ولا بأس به)) . ويذكر كذلك أن والده صنع من الأفيون دواءً إلهياً بإلهام منه عز وجل، فقال بعد كلامه السابق: ((وأنه (¬1) صنع دواء باسم ترياق إلهي بهدى الله وأعينه، وكان الجزء الأكبر في هذا الدواء الأفيون، وكان يعطي هذا الدواء لخليفته الأول نور الدين، كما كان يستعمله هو أيضاً حيناً بعد حين لمختلف الأمراض)) (¬2) . وكان الغلام يشتري خمراً خاصاً يأتي من بريطانيا يسمى وائن؛ هو أقوى المسكرات (¬3) . فكيف ساغ لهذا الحشَّاش-كما سماه إحسان إلهي رحمه الله- أن يفضل نفسه على آدم والأنبياء والمرسلين وجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم!؟ وقد تبع هذا التفضيل دعوى المعجزات التي فاقت معجزات الأنبياء؛ لأن ¬

(¬1) أي والده. (¬2) مقال محمود أحمد في جريدة الفضل 19 يوليو سنة 1929 م. (¬3) مكتوب الإمام باسم الغلام ص 5 للطبيب محمد حسين القادياني. والمصادر عن القادياني والقاديانية ترجمة الندوي.

الغلام تمدح بمعجزات كثيرة وزعم أنها فاقت معجزات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ حيث قارن الغلام بين معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغت ثلاثة آلاف معجزة، وبين معجزاته فبلغت أكثر من مليون معجزة (¬1) . وهي معجزات خرافية وفضائح شنيعة ظنها ماءً فإذا بها سراب. ومن تلك المعجزات الهامة أنه تزوج بزوجته الثانية وهي شابة وكان عمره هو الخمسين، وكان مصاباً بعدة أمراض فتاكة قال عنها: ((والمعجزة الثانية بأنه لما نزل الوحي المقدس في شأن الزواج كنت مصاباً بضعف القلب والدماغ والجسم ومرض البول ودوران الرأس والدق، وفي هذه الأمراض المضنية لما تزوجت تأسف بعض الناس؛ لأن حالتي وقوتي الرجولية كانت كالمعدوم وكنت كشيخ فان)) (¬2) . كما أنه أيضاً ما كانت به قوة رجولية للزواج ومع ذلك أنجب أولاداً فقال: ((حينما تزوجت لا زلت متيقنا بأني لست برجل مدة طويلة)) (¬3) ثم قال: ((ولكن مع هذه الأمراض والضعف أعطيت الصحة وأربعة بنون)) (¬4) . ومن هنا حُق للشيخ إحسان إلهي-رحمه الله- أن يعلق على هذه المعجزة العظيمة بقوله: ((وليت شعري ماذا يريد من معجزاته؟ إن كان المراد من المعجزات بأنه ولد له الأولاد مع أنه كان محروماً من القوة الرجولية، فهذه ¬

(¬1) تحفة كولرة ص40. (¬2) هامش نزول المسيح ص 209 للغلام. (¬3) مكتوبات أحمدية 5/ 145. (¬4) هامش نزول المسيح ص 209 للغلام.

معجزة زوجته لا معجزته هو)) (¬1) . إنه تمدح بهذه المعجزة في غفلة عن عقله فجاءت فضيحة مضحكة. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) القاديانية دراسة وتحليل ص 72، وعنها المصادر السابقة.

الفصل السابع أهم عقائد القاديانية

الفصل السابع أهم عقائد القاديانية لقد تخبط القادياني وأتباعه في متاهات عديدة وجاءوا بأفكار شاذة غريبة، وتناقضوا في أقوالهم وأفعالهم. ومن الأمور التي تظهر في معتقدات زعيمهم القادياني مبادئ كثيرة ننبه إلى أهمها بإيجاز فيما يلي: 1. التناسخ والحلول: اعتقاد التناسخ والحلول، وأن الأنبياء تتناسخ أرواحهم وتتقمص روح بعضِهِم وحقيقَتُه جَسَد وحقيقَةَ آخرين، وتظهر في مظهر الجسد الآخر تماماً، وقد قال بهذا ليصل إلى تثبيت بعثته ونبوته. وعلى هذا الاعتقاد الفاسد قرر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد ولد بعادته وفكرته ومشابهته القلبية بعد وفاته بنحو ألفي سنة وخمسين، في بيت عبد لله بن عبد المطلب وسمي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الولادة حصلت لعيسى عليه السلام حينما ظهر بمظهر القادياني أيضاً. وأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم بعث مرتين-كما صرح القاديانيون بذلك- بعثته الأولى وبعثته الأخرى حينما حلت روحانيته في القادياني نفسه. وفي هذا يقول القاديانية: ((إن مراتب الوجود دائرة، وقد ولد إبراهيم بعادته وفطرته ومشابهته القلبية بعد وفاته بنحو ألفي سنة وخمسين، في بيت

عبد الله بن عبد المطلب وسمي بمحمد صلى الله عليه وسلم)) (¬1) . وقال أيضاً: ((وتحل الحقيقة المحمدية وتتجلى في متبع كامل)) ... (¬2) . وقد مضى مئات الأفراد تحققت فيهم الحقيقة المحمدية وكانوا يسمون عند الله عن طريق الظل محمداً وأحمد)) (¬3) . وبقصد بطريق الظل أنهم أشباح للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة التأويلات الباطنية. ويجاب عن هذا بقول الله تعالى: {أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} سورة مريم:78. فمن الذي أخبره بأن هؤلاء الأظلة هم عند الله محمد وأحمد. ويقول عن حلول شخصية المسيح ابن مريم في شخصه، هو حين أرسله الله: ((إن الله أرسل رجلاً كان أنموذجاً لروحانية عيسى، وقد ظهر في مظهره وسمي المسيح الموعود؛ لأن الحقيقة العيسوية قد حلت فيه. ومعنى ذلك أن الحقيقة العيسوية قد اتحدت به)) (¬4) . وهذه العقيدة المجوسية-أي عقيدة التناسخ- إنما تأثر بها لأمور: منها: بعده عن الدين وعن الحقائق التي ذكرت فيه لمصير الروح بعد الموت. ومنها: مجاورته للهندوس وميله إليهم في هذا المبدأ خصوصاً وأنه يحقق لهم مكاسب، في أولها هذه العقيدة التي تسبغ عليه شخصية المسيح وشخصية محمد عليهما الصلاة والسلام. ¬

(¬1) ترياق القلوب ص 155. (¬2) يقصد بالمتبع الكامل نفسه. (¬3) آئينة كمالات إسلام ص346، المصادر عن ((ما هي القاديانية؟)) . (¬4) المصدر السابق ص 180.

2. التشبيه

فلا عجب بعد ذلك في تأكيده لعقيدة الحلول والتناسخ (¬1) بين البشر، بل الأدهى والأمرُّ من ذلك أنه ادعى حلول الله عز وجل فيه؛ حيث قال: ((إن الله أُنْزِل فيَّ وأنا واسطة بينه وبين المخلوقات كلها)) (¬2) . 2. التشبيه: كما أن للقادياني أقوالاً كفرية في وصف الله تعالى؛ فهو يزعم أن الله قال عن نفسه جل وعلا: بأنه يصلي ويصوم ويصحو وينام، وأنه يخطئ ويصيب. قال القادياني: ((قال لي الله: إني أصلي وأصوم وأصحو وأنام)) (¬3) . وقال أيضاً: ((قال الله: إني مع الرسول أجيب؛ أخطئ وأصيب، إني مع الرسول محيط)) (¬4) . ويبلغ منتهى التشبيه والتجسيم حين زعم أنه رأى في الكشف أنه قدم أوراقاً كثيرة إلى الله تعالى ليوقع عليها ويصدق على طلباته التي اقترحها؛ فوقع الله عليها بحبر أحمر، وكان عنده-كما يزعم- في وقت الكشف رجل من مريديه اسمه عبد الله، ثم نفض الرب القلم فسقطت منه قطرات الحبر على أثوابه وأثواب مريده، وحينما انتهى الكشف رأى-كما يكذب- بالفعل أن أثوابه وأثواب عبد الله لطخت بتلك الحمرة (¬5) . ¬

(¬1) انظر: القادياني والقاديانية ص 74، 75. (¬2) كتاب البرية ص 75 للغلام. (¬3) البشر للقادياني 2/ 97. (¬4) المصدر السابق ص 79. والمصادر عن القادياني والقاديانية (¬5) ترياق القلوب ص 33، حقيقة الوحي للقادياني ص 255، كلاهما للغلام.

وقد وصف الله تعالى بأنه مثل الأخطبوط على طريقته البدائية؛ حيث قال: نستطيع أن نفرض لتصوير وجود الله تعالى بأنه له أياد وأرجل كثيرة، وأعضاءه بكثرة لا تعد ولا تحصى، وفي ضخامة لا نهاية لطولها وعرضها، مثل الأخطبوط له عروق كثيرة امتدت إلى أنحاء العالم وأطرافه (¬1) . بل يصف القادياني إله العالمين بصفات في غاية القبح والشناعة، ننزه عن ذكرها أسماع وأبصار طلاب العلم؛ كلها تدور حول الجنس والولادة على طريقة الباطنية وغلاة التشبيه والتجسيم، بل وعلى طريقة النصارى الذين ادعوا أن لله ولداً (¬2) . وفي صراحة تامة يصرح الغلام بأن الله له فم-تعالى الله عن قوله- ينفخ به الصور تأييداً لدعوته المشئومة، حيث قال: ((ستؤسس جماعة وينفخ الله الصور بفمه لتأييدها، وينجذب إلى هذا الصوت كل سعيد ولا يبقى إلا الأشقياء الذين حقت عليهم الضلالة وخلقوا ليملئوا جهنم)) (¬3) . لقد وصل في تشبيه رب العالمين إلى مثل ما وصل عتاة التجسيم والتشبيه؛ مثله مثل هشام بن الحكم الرافضي وغيره، ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يظن أنه يحسن صنعاً. وأغلب الظن أن الغلام كان متأكداً من حركته، بأنه لم يحسن فيها صنعاً، ولكن غلبته شهوته وحبه الزعامة. ¬

(¬1) توضيح المرام للقادياني ص 75. (¬2) انظر: القاديانية لإحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى ص99، 100 وعنها أخذت تلك المصادر. (¬3) براهين أحمدية 5/ 82.

ولقد شبه الله بإنسان له قصر، فيه باب يمنع الداخلين إلا بإذنه. قال في ضميمة الوحي: ((ولا يوصل إلى قصر الله وبابه إلا هذا الدين الأجلى)) (¬1) . ومما لا ريب فيه أن من تصور أن الله تعالى يصلي ويصوم، أو يفعل غيرهما من العبادة أنه لا حظَّ له من العقل فضلاً عن الدين، فلمن يصلي ويصوم الرب عز وجل؟ ‍ومن الذي كلفه بهذه التكليفات؟ ‍تعالى الله عن هذا المعتقد الجاهلي البدائي. وأما كونه عز وجل يلحقه النوم والصحو، والخطأ والصواب، وغير ذلك من صفات النقص التي تحل بالبشر لنقصهم وافتقارهم إلى ذلك، فإن الله تعالى هو الخلاق العظيم، والقوي العزيز، يعلم ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. وورد في الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)) (184) . (184) أخرجه مسلم 1/ 162. وهو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يكون إلا ما أراد، تنزه سبحانه عن الخطأ لأنه محال عليه عز وجل لنفاذ علمه بكل شيء. ووصْفُه تعالى بالتوقيع والكتابة، أو أنه مثل الأخطبوط، أو أن له ولداً كل هذه الأوصاف إنما يطلقها على الله تعالى من خرج عن الحق واتبع هواه وأفسد عقله قرناء السوء من الجن والإنس، وصار أضل من الأنعام واتخذ دينه لهواً ولعباً وفضل العقائد الوثنية والخرافية على دين الإسلام، فانسلخ منه ¬

(¬1) ضميمة الوحي ص19.

وأضله الله على علم. نعوذ بالله من الزيغ والضلال. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الثامن علاقة القاديانية بالإسلام وبالمسلمين وبغير المسلمين، وموقف علماء الهند وباكستان من القاديانيين

الفصل الثامن علاقة القاديانية بالإسلام وبالمسلمين وبغير المسلمين، وموقف علماء الهند وباكستان من القاديانيين لقد ابتعد القادياني وعن الإسلام عن المسلمين، وزاحمت القاديانية الإسلام، وأرادت أن تحل محله في العقيدة والفكر والعاطفة، وقطعت أقوى صلة للقاديانية بالإسلام، وجعلت كل من يدخل هذه الديانة الجديدة أو الإسلام الجديد -كما يزعم القاديانيون- بعيداً عن الإسلام الذي ارتضاه رب العالمين لخلقه. ومن هنا نرى القاديانيين يقارنون بين أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبين أتباع الغلام، دون أن يجدوا في ذلك أي حرج، فقد جاء في صحيفة الفضل القاديانية: ((لم يكن فرق بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلاميذ الميرزا غلام أحمد؛ إلا أن أولئك رجال البعثة الأولى وهؤلاء رجال البعثة الثانية)) (¬1) . ثم جعلوا الحج الأكبر هو زيارة قاديان، وقبر القادياني، مضاهاة لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، ونصوا على أن الأماكن المقدسة في الإسلام ثلاثة: مكة والمدينة وقاديان، وأوَّلوا المراد بالمسجد الأقصى بأنه مسجد قاديان، فقد جاء في تلك الصحيفة أيضاً: ((إن الذي يزور قبر المسيح الموعود عند المنارة البيضاء، يساهم في البركات التي تخص قبة النبي الخضراء في المدينة، فما أشقى الرجل الذي يحرم نفسه هذا ¬

(¬1) جريدة الفضل عدد (92) 28 مايو سنة 1918 م.

التمتع في الحج الأكبر إلى قاديان)) (¬1) . وفيها أيضاً: ((أن الحج إلى مكة بغير الحج إلى قاديان حج جاف خشيب؛ لأن الحج إلى مكة اليوم لا يؤدي رسالته ولا يفي بغرضه)) (¬2) . واخترعوا لهم أشهراً غير الأشهر الإسلامية، وهي: الصلح، التبليغ، الأمان، الشهادة، الهجرة، الإحسان، الوفاء، الظهور، تبوك، الإخاء، النبوءة، الفتح (¬3) . وهو نفس المسلك الذي سار عليه البهاء المازندراني حين اخترع له أشهراً غير الأشهر الإسلامية، ليقطعوا صلتهم بالأشهر الإسلامية وبما جاء فيها من مناسبات مفضلة، ومن هنا يتضح أن علاقة القاديانيين بالمسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم علاقة مبتورة، فقد قطعوا كل صلة بهم وعاملوهم على الأسس الآتية: 1. أن المسلمين كفار ما لم يدخلوا في القاديانية؛ لأنهم يفرقون بين الرسل، والله تعالى يقول: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} سورة البقرة: 285، فالمؤمن بالإسلام ونبيه إذا لم يؤمن بالقاديانية ونبيها فإنه يكون كافراً. 2. وعلى هذا فإنه لو مات مسلم، فإنه لا يجوز للقادياني الصلاة عليه ولا دفنه في مقابرهم؛ لأنه كافر لعدم إيمانه بنبوة الغلام، فلا تجوز الصلاة عليه ولو كان طفلاً أيضاً، ويذكر أن ظفر الله خان وزير خارجية باكستان لم يُصَلِّ على ¬

(¬1) جريدة الفضل عدد (1848) ج 10 سنة 1922 م. (¬2) القادياني والقاديانية للندوي ص 119، نقلاً عن المجلد 21 عدد 33. وعنها أخذت تلك المصادر. (¬3) القادياني والقاديانية ص 121.

القائد الشهير محمد علي جناح حين مات، لأنه في نظر ظفر الله كافر لعدم إيمانه بنبوة الغلام. 3. لا يجوز نكاح المسلم بالقاديانية، ويجوز ذلك للقادياني كما هو الحال بالنسبة لأهل الكتاب؛ أي إنهم يعاملون المسلمين معاملة أهل الكتاب. 4. لا تصح الصلاة خلف غير القادياني مهما كانت منزلته، وإذا فعل ذلك تقية أو لمصلحة، فعليه أن يعيد تلك الصلاة حتماً، حتى وإن كان صلاها في أحد الحرمين الشريفين، وهذه التقية أو النفاق هو الأساس الذي قام عليه مذهب الشيعة والباطنية والقاديانية. 5. لا يجوز حضور اجتماعات المسلمين سواء كانت في أفراحهم أو في مصائبهم، بل ولا يجوز أن يذكر المخالف للقاديانية من المسلمين أو يترحم عليه أو يستغفر له. 6. بل وأبعد من هذا أنهم لا يجوزون الصلاة على من يصلي من القاديانيين خلف المسلمين أو يتعامل معهم أو يوادهم (¬1) . علاقتهم بغير المسلمين: وأما علاقتهم بغير المسلمين فنوجزها فيما يلي: 1. لقد قامت بين القاديانيين وبين كثير من الملل المخالفة للإسلام علاقات قوية، خصوصاً بينهم وبين الدول المعادية للمسلمين، مثل بريطانيا وإسرائيل اليهودية الحاقدة، فهي تتمتع معهم بصداقات حميمة واتصالات وثيقة، وقد أعطتهم إسرائيل أمكنة لفتح المراكز والمدارس، وأغدقت عليهم الأموال سراً ¬

(¬1) انظر مصادر هذا الكلام في: القاديانية درسة وتحليل ص34، فصل القاديانية والمسلمون.

وجهراً، وقد جاء في خطاب للقاديانيين باسم ((مراكزنا في الخارج)) هذا النص: ((ويمكن للقارئين أن يعرفوا مكانتنا في إسرائيل بأمر بسيط، بأن مبلغنا جوهدري محمد شريف حينما أراد الرجوع من إسرائيل إلى باكستان سنة 1956م، أرسل إليه رئيس دولة إسرائيل بأن يزوره قبل مغادرته البلاد، فاغتنم المبشر هذه الفرصة وقدم إليه القرآن المترجم إلى الألمانية الذي قبله الرئيس بكل سرور (¬1) !!! وقد نشر تفاصيل اللقاء في الصحف الإسرائيلية، كما أذيع أيضاً في الإذاعة، بل وقد سمحت لهم إسرائيل بإنشاء مدرسة بقرب جبل الكبابير. ومن المعروف بداهة أن إسرائيل ما كانت لتحتضن هذه الدعوة القاديانية ولا أن تقوم بتمويلها بل والدعاية لها لو أنها تعرف فيها مثقال ذرة من الإسلام، الذي تعتبره إسرائيل الخطر الحقيقي عليها، كما أن إسرائيل تمول جميع الحركات الهدامة من قاديانية وبهائية وغير ذلك لتحقيق أهدافها في السيطرة والعلو، فالمؤامرات واضحة لا تحتاج إلى سياسي بارع ولا ذكي في تحليل الأحداث. 2. رحب القوميون الهنود بالقاديانية وفرحوا بها وتحمسوا لها كثيراً، لأن هؤلاء الهنادك يحقدون على الإسلام حقداً لا يقل عن حقد اليهود والنصارى، وضايقهم جداً توجه المسلمين الهنود بقلوبهم إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب ربهم، بل وإلى الجزيرة العربية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولهذا فقد اعتبروا توجه الناس إلى قاديان انتصاراً للوطنية الهندية على الإسلام ¬

(¬1) كتابر ((مراكزنا في الخارج)) ص79، انظر: ((القاديانية)) لإحسان إلهي ص 48، وانظر: كتاب ((ما هي القاديانية؟)) ص66، حيث نقل الكلام السابق بتصرف وعزاه إلى كتاب القاديانية ((بعثاتنا الخارجية)) تأليف الميرزا مبارك أحمد القادياني.

الأجنبي عن بلادهم، وفرصة سانحة للتحول العظيم في تفكير المسلمين الهنود وغيرهم من الإسلام إلى القوميات والتعصب لها بدلاً عن الإسلام. وفي هذا يقول الكاتب الهندوكي د/شنكرداس مهرا: ((إن المسلمين الهنود يعتبرون أنفسهم أمة منفصلة متميزة ولا يزالون يتغنون ببلاد العرب ويحنون إليها، ولو استطاعوا لأطلقوا على الهند اسم العرب، وفي هذا الظلام الحالك وفي هذا اليأس الشامل يظهر شعاع من النور يبعث الأمل في صدور الوطنيين وهي حركة الأحمديين (القاديانيين) . وكلما أقبل المسلمون إلى الأحمدية نظروا إلى قاديان كمكة هذه البلاد والمركز الروحي العالمي وأصبحوا مخلصين للهند وقوميين بمعنى الكلمة. إن تقدم الحركة الأحمدية ضربة قاضية على الحضارة العربية والوحدة الإسلامية. وكل من اعتنق الأحمدية تغيرت وجهة نظره وضعفت صلته الروحية بمحمد صلى الله عليه وسلم بذلك، وتنتقل الخلافة من الجزيرة العربية وتركيا إلى قاديان في الهند، ولا يتبقى لمكة والمدينة إلا حرمة تقليدية. إن كل أحمدي سواء كان في البلاد العربية أو تركيا أو إيران أو في أي ناحية من نواحي العالم يستمد من قاديان القوة الروحية وتصبح قاديان أرض نجاة له، وفي ذلك سر فضل الهند، وهذا هو سر عدم ارتياح المسلمين إلى حركة الأحمدية وقلقهم منها؛ لأنهم يعتقدون أن حركة الأحمدية هي المنافسة للحضارة العربية والإسلام. ولذلك اعتزل الأحمديون عن حركة الخلافة لأنهم يحرصون على تأسيس الخلافة في قاديان مكان تركيا والجزيرة العربية، وإن كان هذا الواقع مقلقاً لمسلمين الذين لا يزالون يحلمون بالاتحاد الإسلامي وبالاتحاد

العربي، ولكنه مصدر سرور وارتياح للوطنيين الهنديين)) (¬1) . والكلام ظاهر المعنى ينفث خبثاً وحقداً على المسلمين وعلى الإسلام، ويريد قائله أن تشن الحرب التي لا هوادة فيها على كل مسلم غير القاديانيين، الذين يرى فيهم تحقيق أحلامه الكفرية ومحو الإسلام من أذهان المسلمين والاهتداء بعميل الإنجليز وبالوطنيين الهنود، كما يريد فوضويو المجوسية وداعتها الحاقدون. ومما يوضح موقف القاديانيين من الإسلام أيضاً ذلك الدفاع الذي بذله عدو الإسلام والمسلمين في الهند جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند حينذاك عن هذه الطائفة المسلمين-يقص القاديانيين-على حد زعمه، وغريب منه أن يتعاطف مع المسلمين، فقد قال متسائلاً ومستنكراً: لماذا يلح المسلمون على فصل القاديانية عن الإسلام، وهي طائفة من طوائف المسلمين الكثيرة؟ فأجابه الدكتور محمد إقبال -رحمه الله- فقال: ((القاديانية تريد أن تنحت من أمة النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم أمة جديدة تؤمن بالنبي الهندي ... وقال: إنها أشد خطراً على الحياة الاجتماعية الإسلامية في الهند عن عقائد ((أسفنورا)) الفيلسوف الثائر على نظام اليهود)) (¬2) . وحينما تظاهر القاديانيون في خبث ودهاء ومكر بالإسلام، إنما أرادوا أن يموهوا على المسلمين ويدخلوا على عوامهم من طرق لا يفطنون لها ليسلخوهم عن دينهم شيئاً فشيئاً إن استطاعوا، ولن يتم لهم ذلك إن شاء الله تعالى. ومن هنا نجد أن لعلماء الهند وباكستان من المسلمين مواقف ونضالاً مريراً ¬

(¬1) مقالة الدكتور شنكر داس مهرا في صحيفة بند في ماترم الصادرة في 22 أبريل سنة 1932م، وانظر: القادياني والقاديانية ص122. (¬2) انظر: ما هي القاديانية؟ ص57، وقد أثنى المودودي على الجهود التي بذلها محمد إقبال رحمه الله لدحض القاديانية، والمواقف المشرفة التي وقفها في وجه القاديانيين بإخلاص وصدق غيرة على دينه الإسلامي الحنيف.

للقاديانية؛ حيث جعلوها بالعراء وبينوا زيف تظاهر القاديانيين بالإسلام ومدى عداوتهم له. والجدير بالذكر أن محكمة باكستانية موقرة أصدرت حكماً شرعياً بشأن هذه الفئة الشريرة من القاديانيين وبكل حزم وشجاعة، وقد ظهر في الأسواق في شكل كتاب، وقد صدر الكتاب مترجماً من الأردية إلى العربية تعريب الأستاذ/محمد بشير، باسم ((المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: القاديانية فئة كافرة)) . جاء في أول الكتاب قوله: ((بإذن من المحكمة الشرعية الفيدرالية الباكستانية بإسلام آباد طبعنا النص الكامل لحكمها على الالتماس الشرعي رقم 17/ آيل لعام 1984م، والالتماس الشرعي رقم 2/آيل لعام 1984م والقاضي بوضع القاديانيين من كلتا الفرقتين: الفرقة اللاهورية والفرقة القاديانية)) (¬1) . وكانت هذه المحكمة مؤلفة من سيادة القاضي: فخر عالم رئيس القضاة، القاضي: شودري محمد صديق، القاضي الشيخ: ملك غلام علي، القاضي الشيخ: عبد القدوس القاسمي. وقد بحث هؤلاء القضاة مسألة القاديانية بكل جد وحزم، وقد استعانوا بمجموعة من العلماء في مناقشتهم لقضية القادياني وزعمه النبوة، ومواقف القاديانيين من المسلمين ومن الإسلام ونبيه وتعاليمه، على ضوء الالتماس الذي قدمه بعض المحامين والقاديانيين، ومنهم مجيب الرحمن، والنقيب ¬

(¬1) ص7.

المتقاعد عبد الواحد وغيرهما. وقد استوفت المحكمة دراسة المسألة كاملة، وظهرت النتيجة بتاريخ 1984م كما يلي: 1. أصدر رئيس المحكمة فخر عالم مرسوماً يسمى: ((مرسوم حظر ومعاقبة النشاطات المناهضة للإسلام للفرقة القاديانية والفرقة اللاهورية والأحمديين)) . 2. جعلت هذه البنود فعلاً إجرامياً من القادياني: أ- أن يسمي نفسه أو يتظاهر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بكونه مسلماَ أو أن يسمى مذهبه الإسلام. ب- أن ينشر ويروج مذهبه أو أن يدعو غيره إلى قبول مذهبه أو يثير بطريقة ما المشاعر الدينية للمسلمين. ج- أن يدعو الناس إلى الصلاة بقراءة الأذان، أو يسمي طريقة ندائه للصلاة أو شكله بكلمة الأذان. د- أن يدعو أو يسمي محل عبادته مسجداً. هـ- أن يذكر أي شخص غير أحد من خلفاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكلمة أمير المؤمنين أو خليفة المؤمنين أو خليفة المسلمين أو الصحابي أو رضي الله عنه، أو يذكر أحداً غير زوج من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة أم المؤمنين أو أن

يسمى غير أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة أهل البيت (¬1) . ومما لا ريب فيه أن هذا توفيق عظيم من الله لهذه المحكمة، أجزل الله لهم ولمن ساعدهم الأجر والثواب إلى يوم الدين؛ فإنهم أصابوا القاديانية في مقتلها دون أن يظلموهم بكلمة واحدة أو قانون غير ما يستحقونه. وفي أحكام العقوبات جاء في المرسوم: ((أي شخص يدنس اسماً مقدساً لأي من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (أمهات المؤمنين) أو أهل بيته أو خلفائه الراشدين أو صحابته، بأية كلمات منطوقة أو مكتوبة، أو بأي تعبير محسوس أو بأي تعريض أو تلميح أو إيماء ما، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة -سيعاقب بسجن لمدة يجوز أن تمتد إلا ثلاث سنوات عن كل تعبير، أو الغرامة أو العقوبتين كلتيهما (¬2) ومنه: أي شخص من الفرقة القاديانية أو الفرقة اللاهورية الذين يسمون أنفسهم أحمديين أو بأي اسم آخر، يذكر بكلمات منطوقة أو مكتوبة أو بأي تعبير محسوس طريقة النداء للصلوات التي تستعملها فرقته بكلمة الأذان، أو يقرأ الأذان كما يقرؤه المسلمون -سيعاقب بسجن لمدة يجوز أن تمتد إلى ثلاث سنوات عن كل تعبير، وسيكون معرضاً للغرامة أيضاً)) (¬3) . وقد بلغت دراسة المحكمة لهذه الطائفة (188) مائة وثمان وثمانين صفحة استوعبت أهم ما يتعلق بأفكار القادياني وفرقته الشريرة، وانتهت ¬

(¬1) المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: القاديانية فئة كافرة ص10. (مترجم) . (¬2) القاديانية فئة كافرة ص14. (¬3) المصدر السابق ص15.

بصرف النظر عن الالتماسات التي تقدم بها مجيب الرحمن وعبد الواحد وغيرهما من القاديانيين. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل التاسع أسباب انتشار القاديانية

الفصل التاسع أسباب انتشار القاديانية إن البشر ليسوا على درجة واحدة من الفهم والذكاء، ولا قوة الإيمان وضعفه، بل هم أصناف وأشكال: منهم الخامل، ومنهم المخادع، ومنهم من يحب المسكنة والذلة، ومنهم من يحب الرياسة والسلطة والشهرة، ولهذا فكل صائح يجد له صدى، وكل داع يجد له أتباعاً، مهما كانت دعوته خيرة أو شريرة؛ الخيرة يقبلها أهل الخير، والشريرة يتلقفها أهل الشر، والتافهة يتقبلها التافه من الناس وضعاف النفوس. والقادياني ودعوته الشريرة التافهة وجد لها من يتقبلها. والذي يهمنا هنا هو نظرة سريعة في الأسباب التي ساعدت على انتشار وباء القاديانية، ويمكن أن نوجز عناصر تلك الأسباب في الأمور التالية: 1. جهل كثير من الناس بحقيقة الدين الذي ارتضاه الله، فأكثرهم مسلم بالتبعية والتقليد يتأثرون بكل دعوة ويقلدون كل صائح. 2. وقوف الاستعمار إلى جانب هذه الدعوة الخبيثة وتأييده لها مادياً ومعنوياً لإدراكهم نتائجها في تحقيق أطماعهم في العالم الإسلامي. 3. استغلال القاديانيين لفقراء بعض المسلمين، بمساعدتهم المادية ببناء المدارس والمساجد والمستشفيات، وتوزيع الكتب وإيجاد بعض الوظائف وغير ذلك. 4. نشاط القاديانيين وذهابهم إلى الأماكن النائية من بلدان المسلمين التي

يكثر فيها الجهل والعامية. 5. تمويه القاديانيين على السذج من المسلمين، بأن القاديانية والإسلام شيء واحد، وأن القاديانية ما قامت إلا لخدمة الإسلام. 6. عدم قيام علماء الإسلام بالتوعية الكافية ضد القاديانية وغيرها من الطوائف الضالة التي بدأت تنتشر في هذا الزمن أكثر من أي وقت مضى، وبتخطيط أدق وأكمل عما مضى؛ إذ العالم اليوم من عزّ بزّ، ومن غلب استلب. هذه هي أهم الأسباب وربما توجد أسباب أخرى كثيرة ساعدت في نشر القاديانية في أماكن كثيرة من بلدان المسلمين. ويطول المقام لشرح تلك الأسباب التي استغلها القاديانيون وحولوا كثيراً من المسلمين إلى ديانتهم، وأدخلوا كذلك كثيراً من غير المسلمين في القاديانية على أساس أنها هي الدين الإسلامي الذي ارتضاه الله وأنزل به القرآن الكريم وأرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يعلم الشخص مدى البعد بينه وبين الإسلام إلا إذا وفقه الله فأبصر واقع القاديانية. على أنه وجد بعد ذلك نوع من اليقظة الإسلامية، ووجد علماء أوقفوا القاديانية عند حدها في بعض البلدان وكتبوا مقالات كثيرة، بل ووجد أيضاً من بعض من دخل القاديانية من المفكرين على أساس أنها هي الإسلام، ولكنه تبين له بعد ذلك أنها عدوة للإسلام فبدأ يهاجمها ويدعو إلى الإسلام الصحيح. ومع هذا كله فقد انتشرت القاديانية في هذه الأيام وبدأت تستعيد أنفاسها

في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي، مستغلين نفس الأسباب التي ذكرت آنفاً، والأمل في الله قوي أن يهيئ من عباده من يتصدى للقاديانية وغيرها من التيارات الهدامة المعاصرة، ويكشف زيفها ويبين خطرها على الإسلام والمسلمين وما ذلك على الله بعزيز. ولولا أن خطة قوية وتياراً هائلاً لصرف أنظار الناس عن واقع هذه الفرق الخبيثة لانكشفت ولبان لكل ذي لب الخطر الذي يترصد العقيدة الإسلامية من جراء انتشار هذه الفرق التي تتظاهر بالإسلام لبناء عقائدها المنحرفة وأمجادها الزائفة، ولا أدل على نجاح تلك الخطة من انصراف عامة المسلمين -بل وطلاب العلم- عن معرفة هذه الفرق، التي يموج بها العالم الإسلامي في شتى الدول الإسلامية دون استثناء، فانظر -أخي القارئ الكريم- إلى أي اجتماع بين المسلمين، كبيراً كان ذلك الاجتماع أو صغيراً، وسواء كان المجتمعون طلاب علم أو عامة- لا تسمع أي حديث عن هذه الفرق وبيان أخطارها على الدين والمجتمع، حتى ليخيل لغير المتتبع لهذه الحركات الهدامة أنه لا توجد بين المسلمين أي فرقة خارجة عن التدين الصحيح، ولهذا يرددون عبارة: المسلمون بخير دائماً. ولقد عزى الشيخ إحسان إلهي-رحمه الله- سبب انتشار القاديانية في بلدان المسلمين وخصوصاً أفريقيا وأوروبا إلى أهم الأسباب الآتية: 1. مساعدة الاستعمار بشتى أشكاله لهم؛ حيث يمدونهم بكل أنوع المساعدات. 2. قلة وجود العلماء المسلمين الحقيقيين وشغور مناصبهم في تلك

البلاد. 3. جهل أكثر المسلمين لحقيقة القاديانية الأصلية وأهدافهم. 4. غفلة العالم الإسلامي عن أفريقيا، في الوقت الذي تنشر فيها القاديانية أكثر من خمس (¬1) مجلات راقية، بينما لا توجد مجلة واحدة للمسلمين في أفريقيا كلها تجابههم. 5. وجود مئات المبلغين القاديانيين الذي يتجولون من أدنى أفريقيا إلى أقصاها عبر القارات الأخرى. 6. أقاموا فيها 47 سبعاً وأربعين مدرسة وبنوا 260 مائتين وستين مسجداً (¬2) ، هذا غير ما يتبع ذلك من المكتبات العامة والخاصة والمؤلفات والنشرات، وترجمة القرآن إلى لغات شتى. 7. كما فتحوا في الآونة الأخيرة مستشفيات ودوراً اجتماعية في مختلف أنحائها، وأصبح أتباعهم- حسب نشراتهم - أكثر من مليوني شخص في مدة لا تجاوز خمس عشرة سنة (¬3) . هذا كله يجري في الوقت الذي شحت فيه الدول الإسلامية بإرسال الدعاة إلى تلك الأماكن النائية من العالم الإسلامي ليواجهوا نشاط آلاف القاديانيين، وما ذلك عن فقر في الدول الإسلامية، ولكنه ضعف الحماس للدين الإسلامي، وانشغالهم بأنفسهم وبأمور أخرى افتعلها أعداء الإسلام ¬

(¬1) لقد زاد عدد المجلات إلى أكثر من هذا العدد كما ذكر النجرامي في كتابه ((أباطيل القاديانية في الميزا)) ص 105. (¬2) لقد زاد عدد المساجد إلى أكثر من هذا العدد كما ذكر النجرامي. (¬3) القاديانية دراسة وتحليل ص15، ولعل هذه الأرقام التي ذكرها كانت في ذلك الوقت، وربما زادت في عصرنا الحاضر زيادات لا يعلمها إلا الله، ومنها ظاهر ومنها خفي.

لإلهاء زعماء المسلمين بها، واشغالهم بعيدين عن واجبهم الذي يحتمه عليهم دينهم الإسلامي. ولو توجهت الدول الإسلامية إلى خدمة الدين الذي ارتضاه الله لهم، وبذلت بعض الأموال التي تذهب إلى هنا وهناك فيما لا يعود أكثره لخير الإسلام والمسلمين، لو توجه هؤلاء بنية صادقة وعزم قوي، لتغير الحال المهين الذي تعيشه الأمة الإسلامية في كل مكان، ولصار المسلمون هم سادة العالم ومشاعل أنواره ومحط آمال الفقراء والمستضعفين في العالم كله، ومنفذاً لكل من أحاطت به ظلمات الجهل والظلم المشين. إلا أن العالم الإسلامي مع الأسف الشديد صار حاله مع دينه، مثل حال العلم عند كثير من أتباعه حين وصفهم الجرجاني بقوله: ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما لقد كان للقاديانيين نشاط قوي في الصحافة والمجلات، لعلمهم بتأثير هذه الوسيلة في مفاهيم الأمة، ومن هنا فقد أصدر القاديانيون عدة مجلات بعدة لغات وفي عدة دول نذكر هنا الأرقام التي أفادها النجرامي، إضافة إلى ما سبق ذكره عن إحسان إلهي: فلهم في نيجيريا مجلة أسبوعية باللغة الإنجليزية. ولهم في غانا مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في سيراليون مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في كينيا مجلة تصدر كل ثلاثة أشهر باللغة الإنجليزية. ولهم في شرق أفريقيا مجلة شهرية باللغة السواحلية.

ولهم في موريشيوس مجلة شهرية باللغة الإنجليزية والفرنسية. ولهم سيلون مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في إندونيسيا مجلة شهرية باللغة الإندونيسية. ولهم في إسرائيل مجلة شهرية باللغة العبرية. ولهم في سويسرا مجلة شهرية باللغة الألمانية. ولهم في لندن مجلة شهرية باللغة الإنجليزية. ولهم في الدنمارك مجلة شهرية باللغة الدنماركية. هذا بالإضافة إلى الكتب الكثيرة والمبالغ الضخمة التي ترسلها دائماً إلى بلدان كثيرة، لنشر القاديانية بين شعوب تلك البلدان. كما أن لهم نشاطات أخرى؛ وهي بناء المدارس والمساجد، فقد بلغ عدد المدارس في أفريقيا حوالي 47 مدرسة كما تقدم. كما بلغ عدد المساجد التي بنوها في العالم حوالي 343 مسجداً، بَنَوْا في أمريكا وفي هولندا وسويسرا وبورما- كل بلد من هذه البلدان- مسجداً واحداً، وفي ألمانيا-ألمانيا الغربية-مسجدين، وفي سيلون مسجدين - وكذا الملايو -وفي الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة مساجد، وفي بورنيو ستة مساجد، وفي موريشيوس عشرين مسجداً، وفي شمال أفريقيا أربعين مسجداً، وكذا في نيجيريا وفي سيراليون ستين مسجداً، وكذا في أندونيسيا، وفي غانا 161 مائة وواحداً وستين مسجداً.

وهذه المساجد إنما أقيمت لتكون وكراً للقاديانية ومحلاً للتخطيط وحبك الدسائس على الأمة الإسلامية، وإقامة الزعامة القاديانية على حساب الإسلام، فهي أشبه ما تكون بمسجد الضرار الذي هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه حينما بني على نية سيئة. يقول النجرامي: (فليتنا نعمل بهذه المساجد كما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بمسجد الضرار، حتى لا تكون نقطة الانطلاق لهذه الحركة الضالة، تنطلق من خلالها للكيد للمسلمين وتفتيت وحدتهم وبذر الشقاق بين جموعهم)) (¬1) . ومما لا ريب فيه أن هذه الأعمال التي قام بها القاديانيون وهذا النشاط الذي أبداه هؤلاء في نشر باطلهم، يحتاج ضرورة إلى أعمال خيرة تقابله وتصده، وإلا لكان المجال مفتوحاً أمام هؤلاء الذين ازداد نشاطهم أكثر مما ذكر سابقاً، وزاد طمعهم في بلدان المسلمين، والاستحواذ على شباب المسلمين، خصوصاً والأوضاع الداخلية تساعدهم على ذلك كثيراً في ظل الحكام الذين هم رؤوس حراب فوق الشعوب الإسلامية. فإن كثيراً من حكام الدول الإسلامية لم يبق فيهم ما يتفاءل به الإسلام والمسلمون، لأنهم إن لم يبدءوه بالحرب كان أقل ما فيهم نحوه الاستهتار بمبادئه وإظهار الجفاء لتعاليمه والتقطيب في وجوه من يمثلونه؛ لأن هؤلاء لا يثمنون عند عتاة الكفر والإلحاد إلا بقدر ما يهدمون من تعاليم الإسلام. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: أباطيل القاديانية في الميزان ص 106 - 108.

الفصل العاشر وفاة القادياني

الفصل العاشر وفاة القادياني وقعت في عام 1907م بين القادياني وبين العلامة ثناء الله الأمر تسري مناظرات خرج الغلام منها مدحوراً مغضباً، ثم تحدى القادياني الشيخ ثناء الله بأن الله سيميت الكاذب منهما في حياة الآخر، ودعا الله تعالى أن يقبض المبطل في حياة صاحبه، ويسلط عليه داء مثل الهيضة والطاعون يكون فيه حتفه. وفي شهر مايو 1908م أجيبت دعوته فأصيب بالهيضة الوبائية الكوليرا في لاهور، فمات في بيت الخلاء وكان جالساً لقضاء حاجته: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} سورة إبراهيم: 15. ونقلت جثته إلى قاديان حيث دفن في المقبرة التي سماها بمقبرة الجنة بهشتي مقبرة (¬1) ، وعاش ثناء الله بعده أربعين سنة في نضال القاديانيين والرد عليهم، وانطبق على القادياني قوله: ((إن كنت كذاباً ومفترياً كما تزعم في كل مقالة لك فإنني سأهلك في حياتك؛ لأنني أعلم أن المفسد الكذاب لا يعيش طويلاً، في عاقبة الأمر يموت ذلاً وحسرة في حياة ألد أعدائه، حتى لا يتمكن من إفساد عباده)) (¬2) . ¬

(¬1) القادياني والقاديانية ص 26، 27. (¬2) المصدر السابق نقلاُ عن إعلان الغلام بتاريخ 5 إبريل سنة 1907 م.

وبعد هلاك الميرزا خلفه في زعامة القاديانية صديقه الحميم وشريكه في قيام نبوته الحكيم نور الدين البهيروي. والملاحظ أن القادياني أثبت أنه كان كذاباً في دعواه النبوة حتى في موته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) كما رواه الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) أخرجه الترمذي 3/ 338 كتاب الجنائز.

الفصل الحادي عشر بعض زعماء القاديانية

الفصل الحادي عشر بعض زعماء القاديانية برز كثير من زعماء القاديانية وكبرائهم متخذين من حيل القادياني وضلالاته منهجاً لهم. وطمع بعضهم في نفس المكانة التي احتلها زعيمهم-أي مرتبة النبوة- إلا أن بريطانيا لم تشأ أن تقويهم إلى حد نصرتهم على ادعاء النبوة، كما فعلت مع الغلام؛ لئلا يذهب تأثير القاديانية من نفوس أتباع القادياني بحيث تصبح النبوءة متعددة في عصر واحد، مما يستدعي فتور الناس عن التصديق، أو الشك في نبوة الغلام، فتخسر ما بنته في أعوام عديدة، وكانوا أذكى من أولئك الذين تشوقوا للنبوة. وفيما يلي نذكر بعض أولئك الزعماء بصورة موجزة؛ إتماماً للتعريف بالقاديانيين وهم بالإضافة إلى الغلام أحمد القادياني المؤسس الأول للقاديانية: 1- الحكيم نور الدين البهيروي: هذا الرجل هو الشخصية البارزة بعد الغلام وصار هو الخليفة للقاديانية بعد موت الغلام، ويعتقد بعض الباحثين أنه صاحب الفكرة والتصميم في الحركة القاديانية كلها، وكان محباً للعز والجاه يتمنى ذلك بأي ثمن كان، وقد وجد في الغلام ما يمكنه من تحقيق ما يهدف إليه من الشهرة، فالتحق به وصار

أكبر أعوانه والمخطط والمنفذ لأكثر آراء المتنبي، وكان المتنبي يبالغ في إكرامه إلى أبعد الحدود. ولد الحكيم نور الدين في عام 1258هـ في بهيرة من مديرية شاه بور في البنجاب غربي الباكستان وتسمى هذه المديرية الآن سركودها (¬1) ، وأبوه غلام رسول كان إماماً في مسجد بهيرة، وقد درس الحكيم نور الدين الفارسية وتعلم الخط ومبادئ العربية. وعين أستاذاً للفارسية في مدرسة حكومية في روالبندي في عام 1858م ثم عين مديراً لمدرسة ابتدائية لمدة أربع سنوات، ثم تركها وانقطع للدراسة وملازمة بعض الشيوخ في ((رامبور)) ، ثم سافر إلى لكهنو ودرس الطب عن الطبيب المشهور الحكيم على حسين مدة سنتين، ثم سافر إلى بهوبال، ثم إلى الحجاز، وفي كل ذلك يتلقى العلم عن علماء هذه البلدان. ثم عين طبيباً خاصاً في ولاية جمون-كشمير الجنوبية- واشتهر بها، وفي هذا الوقت تعرف على الميرزا غلام أحمد القادياني الذي كان مقيم في سيالكوت وتوثقت بينهما الصداقة وشرع يحرض القادياني على ادعاء النبوة ويؤلف الكتب لتصديقه وتكفير من لا يؤمن بنبوته، ولقب بالخليفة الأول وخليفة المسيح الموعد بمباركة الاستعمار البريطاني. وكان آخر حياته أن سقط عن فرسه وجرح واعتقل لسانه قبل وفاته بأيام، ومات في 13 من مارس عام 1914م واستخلف الميرزا بشير الدين محمود نجل الميرزا غلام أحمد. صفاته: وكان الحكيم المذكور- كما وصفه الندوي- قلق النفس، ثائر الفكر، عقلي ¬

(¬1) القادياني للندوي ص28.

محمود أحمد

النزعة، تأثر بالمدرسة التي تدين بضرورة اخضاع الدين والعقيدة والقرآن للعلوم الطبيعية التي دخلت عن طريق الإنجليز، وتأويل كل ما عارض المقررات الطبيعية في ذلك العصر وكان كثير الرغبة في المباحثات والمناظرات (¬1) . وقد ظل متحمساً للقاديانية زعيماً لها بعد وفاة الميرزا القادياني إلى أن توفي. محمود أحمد: ابن غلام أحمد أو الخليفة الثاني للقاديانية. تولي زعامة القاديانيين بعد وفاة نور الدين، وأعلن أنه خليفة ليس للقاديانيين فقط، وإنما هو خليفة لجميع أهل الأرض بما فيهم بريطانيا، التي تفانى في الجاسوسية لها؛ حيث أعلن قوله: ((أنا لست فقط خليفة القاديانية ولا خليفة الهند بل أنا خليفة المسيح الموعود، فإذاً أنا خليفة لأفغانستان والعالم العربي وإيران والصين واليابان وأوروبا وأمريكا وأفريقيا وسماترا وجاوا، وحتى أنا خليفة لبريطانيا أيضاً وسلطاني محيط جميع قارات العالم)) (¬2) . ثم ادعى أن لقمان هو والده، وأنه هو ولد لقمان الذي ذكره الله بقوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ} سورة لقمان: 13، ومما يذكر عن سيرته أنها كانت مملوءة فحشاً وشناعة وفجوراً مما جعل القاديانيين يتألمون منه ... ¬

(¬1) انظر ترجمة هذا الشخص فيما كتبه عنه الندوي في الفصل الثالث ص28 من كتابه القادياني والقاديانية. (¬2) جريدة الفضل 1 نوفمبر لسنة 1931 م، ترجمة إحسان إلهي ص253 القاديانية.

الخواجة كمال الدين

ومما كان يوصي به أتباعه أنه يقول لهم: ((إن آلام الحكومة الإنجليزية آلامنا)) ، وكان يشاركهم في أفراحهم ويرى خدمتهم شرفاً له على نفس المسلك الذي كان عليه والده من قبل-ومن يشابه أباه فما ظلم-، واستمر في غيه إلى أن عاقبه الله بعده أمراض ألزمته الفراش إلى أن هلك سنة 1965م. الخواجة كمال الدين: كان يدعي لنفسه أنه مثل غلام أحمد في الإصلاح والتجديد، وقد أخذ كثيراً من الأموال وذهب إلى انجلترا لتبليغ القاديانية، وسكن في ((ووكنج مشن)) ، ومال إلى انتهاب اللذات وبناء البيوت الفاخرة. وكان إذا سمع بشخص أسلم ادعى فوراً أنه أسلم على يديه على الطريقة القاديانية الخارجة عن هدي الإسلام. وكان بعض هؤلاء الذين يدخلون في الإسلام من الأوروبيين-ويدعي الخواجة أنهم أسلموا على طريقة القاديانية- حين يعلمون ادعاء الخواجة يكذبونه، ويبينون أنه لا علاقة لهم بمذهب القاديانية. وقد ذكر سائح هندي عن الخواجة كمال الدين وطريقته في طعامه، فقال: ((إن الأستاذ كمال الدين كان جالساً مع أحد أصدقائه في المطعم يأكلان الطعام، وبعد ذهابهما سألت صبي المطعم ماذا أكل هذان الشيخان، فقال بكل سذاجة: أطيب نوع من لحم الخنزير)) (¬1) . قال إحسان إلهي: ((فهذا الصحابي الجليل للمتنبي القادياني ومن زعماء القاديانية اللاهورية مات بعد أن ترك تركة ضخمة)) (¬2) ، وأيضاً كان يأكل أطيب ¬

(¬1) جريدة الفضل 21 أغسطس سنة 1924 م. (¬2) القاديانية ص 260.

نوع من لحم الخنزير، وأين الطيب؟ وأين لحم الخنزير؟ وقال فضل كريم خان في تكذيبه لإدعاء القاديانيين أن الناس أسلموا على أيديهم في ((ووكنج مشن)) -قال: ((لا يوجد في عظماء الإنجليز الذين أسلموا من يرجع الفضل في إسلامه إلى ووكنج مشن. وقد أعلن اللورد هدلي أنه درس الإسلام بنفسه واعتنق الإسلام، وقال: ولم أتعرف على الخواجة كمال الدين إلا قبل إسلامي بأسبوعين فقط. وقد أسلم المستر مار ماديوك بكتهال في مصر وبفضل الأتراك والمصريين وتأثيرهم. وقد اعتنق سرارجيبا لدهملتين بضرورة عائلية، وهكذا إذا فحصنا وجدنا أن ووكنج مشن ليس لها في إسلام هؤلاء فضل ولا نصيب)) (¬1) . ويقول في نفس هذه المقالة راداً على الذين يزعمون أن مسجد ووكنج مشن من بناء القاديانيين، ومبيناً صلة القاديانيين به بعد ذلك: ((لست أدري كيف شاع في الهند أن جامع ووكنج من بناء القاديانيين!، الواقع أن هذا الجامع إنما بني بالمال الذي تبرعت به إمارة بوفال الإسلامية، أما المسكن الذي بجوار الجامع فهو في تذكار وزير حيدر آباد المشهور سرسالا رجنك، وقد بني كل ذلك تحت إشراف العالم الألماني الدكتور لائتس، لقد أسكن المؤلف الإسلامي المشهور السيد أمير علي الخواجة كمال الدين في هذا الجامع. وإلى الأول يرجع الفضل في بقاء هذا الجامع مركزاً للمسلمين)) (¬2) . ¬

(¬1) مجلة حقيقة إسلام لاهور يناير سنة 1934 م، انظر: كتاب القادياني والقاديانية للندوي ص154، 155، فصل ((دعاية وتهريج)) . (¬2) مجلة حقيقة إسلام لاهور يناير سنة 1934 م، انظر: كتاب القادياني والقاديانية للندوي ص154، 155، فصل ((دعاية وتهريج)) .

شخصيات أخرى قاديانية

وهناك شخصيات أخرى قاديانية - مثل: محمد أحسن أمر وهو الذي كان مصدر عون لقادياني، حيث كان يرسل إليه مسودات كتبه، ليصلح ما يحتاج إلى إصلاحه فيها ثم يرسلها للغلام ليجعل اسمه على الكتاب. وقد كان في عيشة راضية طوال عهد الغلام، إلا أنه وفي خلافة ابن الغلام محمود وأحمد وقع بين شركة النبوة القاديانية من التشاجر والسباب والتفرقة ما كان طبيعياً- في مثل تلك العلاقات القائمة على الكذب والحيل-أن يقع. ومنهم: محمد صادق، وكان مفتياً للقاديانية، وعبد الكريم السيالكوتي إمام مسجد الغلام وخطيبه وصديق الغلام الخالص الذي مدحه بقوله: ((لم يولد في القاديانية رجل ثالث يضاهي حضرة الشيخ عبد الكريم)) ، وهو أول من خاطب الغلام برسول الله ونبي الله، فأذاقه الله في الدنيا عذاباً تقشعر منه الجلود. كتب ابن الغلام أحمد بشير أحمد عن مرض عبد الكريم فقال: ((فابتلي الشيخ عبد الكريم في مرض كاربينكل وما بقي في جسمه موضع إلا شق من العمليات الجراحية، وكان يصرخ في مرضه صرخات لا يحتمل الإنسان سماعها؛ ولأجل ذلك غير حضرة المسيح الموعود مسكنه؛ لأن الشيخ عبد الكريم كان يسكن في نفس البيت الذي كان يسكنه المسيح الموعود، وكان الشيخ عبد الكريم يبكي ويصرخ لكي يزوره حضرة المسيح ولكن حضرة المسيح لم يذهب لعيادته؛ لأنه كان يقول: ((أنا أريد أن أذهب إليه ولكني لا أطيق أن أراه في هذه الحالة)) . وبعض الأحيان كان الشيخ عبد الكريم يفقد شعوره لشدة مرضه، وكان يقول: هاتوا إلي المركب حتى أذهب إلى حضرة المسيح؛ لأني منذ أيام ما

رأيته، كأنه كان يظن أنه يسكن بعيداً عن حضرته في خارج القاديان، وهكذا استمر به المرض حتى هلك. ومنهم: يار محمد، وهو من المؤسسين الأوائل لنبوة الغلام، وبعد هلاك الغلام استسهل يار محمد أمر النبوة فادعى هو الآخر أنه نبي لحضرة الغلام، وكان من أساتذة ابن الغلام محمود أحمد الذي رد بعد ذلك على يار محمد وخطأه في دعواه النبوة، وأن ذلك إنما كان عن سبب اختلال وقع به. ومنهم نور أحمد القادياني الذي أعلن أنه رسول الله أيضاً فأعلن قوله: لا إله إلا الله نور أحمد رسول الله، أنا رسول الله أُرسلت رحمة للعالمين كما أنا مظهر لجميع الأنبياء، فردّ عليه ابن الغلام وخطأه وزعم بأن به مرض الجنون حسداً من ابن الغلام له. ومنهم عبد الله تيمابوري، ادعى النبوة حسب بشارات غلام أحمد فقال: أنا هو الذي بشر عنه حضرة الأقدس المسيح الموعود غلام أحمد بأنه يرسل نبي، فها أنا أرسلت ببركة غلام أحمد وفيضانه، وسوف يظهر على يدي صداقة حضرة الغلام على الدنيا. ولقد هان أمر النبوة في نظر صحابة الغلام، فادعى كل واحد أنه هو النبي المبعوث بعد الغلام، وكوّنوا جماعة قاديانية أخرى حصل بينهم نزاعات كثيرة إلا أنه كان يجمعهم تقريباً انتسابهم إلى الغلام، وأن الغلام القادياني نبي الله ورسوله كما أنهم أنبياء الله ورسله ولا نجاة لمن لم يؤمن بنبوة الغلام أحمد، كما لا نجاة لمن لم يؤمن بنبوتهم ورسالتهم هم أيضاً. والفرق بينهم وبين المتنبي الغلام القادياني-بزعمهم- أن الغلام اكتسب النبوة بلا واسطة، وهم اكتسبوها بواسطته، فهو كالأستاذ لهم وهؤلاء

كالتلاميذ له، وكانوا خلفاً جيداً للغلام وجيداً للاستعمار البريطاني، ولكن بريطانيا لم تقدم على دعمهم دعماً كاملاً، ولم تدع إلى نبوتهم كما دعت إلى نبوة الغلام؛ لئلا يستهين الناس بالقادياني؛ فتبطل دعواه النبوة وينفر الناس عنها كما تقدم. هؤلاء هم أشهر زعماء القاديانية، وهناك مئات من الزعماء الأشقياء لهذه الفرقة الضالة، وقد خذلهم الله في أماكن كثيرة وانبرى لهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يردون عليهم ويبينون خروجهم عن الإسلام ويحذرون منهم، مما جعل القاديانيين يتتبعون بدعوتهم الديار النائية للمسلمين ومن تكثر بينهم الأمية، وقد نجحوا في دعوتهم بينهم. والحرب بين قوى الخير وقوى الشر من الأمور التي لا تنتهي بين البشر، ولله الحكمة في ذلك والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار. {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} سورة آل عمران:8 * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الثاني عشر الفرع اللاهوري القادياني

الفصل الثاني عشر الفرع اللاهوري القادياني أمير هذا الفرع هو محمد علي من أوائل المنشئين صرح القاديانية، وممن كان له يد ومنّة عظيمة في توجيه الغلام المتنبي ومساعدته بالفكر والقلم أيضاً، وكان هو الآخر من أشد المخلصين للإنجليز والمحرضين على بذل الطاعة التامة لهم، وقد كانت لهم مواقف مع الغلام وأسرته؛ إذ كان أحياناً يتبرم من استبداد المتنبي بالأموال التي تصل إليه من أتباعه، فيصرح للمتنبي بهذا ويرد عليه المتنبي هذه التهمة. وبعد وفاة الغلام استفحل الخلاف بين أسرة المتنبي ومحمد علي، حول اقتسام الأموال التي جاءتهم حيث استغلها ورثة المتنبي مع علمهم ((بأن هذه النبوة شركة تجارية وهم كلهم شركاء فيها)) (¬1) ، ولعل هذه الخلافات الشخصية لم يكن لها تأثير على إتمام الخطة وإحلال القاديانية محل الإسلام، خصوصاً والقوة التي أنشأت الغلام وفكرته لا تزال هي القوة، والمتآمرون لا يزالون في إتمام حبكها وتنفيذها. أما بالنسبة لحقيقة معتقد هذا الرجل في غلام أحمد، وهل كان متلوناً أو كان له مبدأ أُمليَ عليه، أو كان مقتنعاً به دون تدخل أحد، فإن الذي اتضح لي من كلام العلماء الذين نقلوا عنه آراءه أنهم مختلفون على النحو الآتي: ¬

(¬1) القاديانية لإحسان إلهي ص 250.

1. منهم من يرى أن (محمد علي) اختير من قبل الساسة الإنجليز لإتمام مخطط القاديانية بطريقة يتحاشى بها المواجهة مع مختلف طوائف المسلمين في الهند والباكستان وغيرهما، ويتحاشى بها كذلك مصادمة علماء الإسلام الذين نشطوا في فضح القاديانية وإخراجها عن الدين الإسلامي، فاقتضى الحال أن يتظاهر محمد علي وفرعه بأنهم معتدلون لا يقولون بنبوة الغلام، وإنما يثبتون أنه محدد ومصلح؛ لاستدراج الناس إلى القاديانية ولامتصاص غضب المسلمين على القاديانية، فتظاهر بعد ذلك محمد علي وفرعه بهذه الفكرة بغرض اصطياد من يقع في أيديهم (¬1) . 2. ومنهم من يرى أن (محمد علي) وفرعه كانوا يعتقدون أن الميرزا غلام أحمد لم يدَّعِ النبوة، وكل ما جاء عنه في ذلك إنما هي تعبيرات ومجازات، وكابروا في ذلك اللغة وكابروا الواقع. وقد لقبهم القاديانيون بالمنافقين ((لأنهم يحاولون الجمع بين العقيدة القاديانية والانتساب إلى مؤسسها وزعيمها، وبين إرضاء الجماهير)) ومع هذا الموقف فإن محمد علي اللاهوري، دائماً يلقب الميرزا غلام أحمد بمجدد القرن الرابع عشر والمصلح الأكبر، وزيادة على ذلك يعتقد أنه المسيح الموعود)) . قال الندوي عنهم: ((وعلى ذلك تلتقي الطائفتان)) (¬2) . 3. وذهب الأستاذ مرزا محمد سليم أختر في كتابه: ((لماذا تركت القاديانية؟)) إلى رأي آخر حيث قال بعد أن ذكر ما وقع بين محمد علي ¬

(¬1) انظر: ما كتبه إحسان إلهي في كتابه القاديانية دراسة وتحليل ص242. (¬2) القادياني والقاديانية ص144.

وجماعة الربوة من خلاف على منصب الخلافة بعد نور الدين-قال: ((وأنكر نبوة الميرزا ليكسب العزة عند المسلمين)) ، ثم قال: ((ولم ينكر أحد هذه الحقيقة: أن (محمد علي) أقر بنبوة الميرزا، وإنكاره لنبوته يعتبر كالعقدة في الهواء)) (¬1) . والواقع أن القول بأن الفرع اللاهوري-وعلى رأسهم محمد- علي ما كانوا يؤمنون بنبوة الغلام عن اقتناع قول بعيد جداً؛ ذلك أن مواقفهم وتصريحاتهم كلها تشهد بإقرارهم بنبوة الغلام وليس فقط أنه مصلح ومجدد. كما أن تصريحات الغلام نفسه بنبوته لا تخفى على من هو أبعد من الفرع اللاهوري، فكيف يقال بأنها خفيت عليهم؟ ‍! كما أن معتقد الفرع اللاهوري ليس له أي أساسا آخر غير الأساس الذي بناه غلام أحمد وأسهم فيه محمد علي نفسه. والباطل لا بد وأن يتناقض أهله فيه، فقد صرح محمد علي نفسه بقوله عن الغلام: ((نحن نعتقد أن غلام أحمد مسيح موعود ومهدي معهود وهو رسول الله ونبيه، ونزله في مرتبة بينها لنفسه؛ أي إنه أفضل من جميع الرسل، كما نحن نؤمن بأن لا نجاة لمن لا يؤمن به)) (¬2) ونصوص أخرى كثيرة كلها تثبت أن هذا الفرع لا يختلف في النتيجة عن الحركة القاديانية الأم في قاديان، وأنه كان يراوغ في إظهار معتقده نفاقاً وإيغالاً في خداع العامة، حتى إنه كان يوصي أتباعه في جزيرة مارشيس ألا ينشروا هناك أن الغلام نبي، وأن من لم يؤمن به فهو كافر؛ لأن هذا المسلك ¬

(¬1) لماذا تركت القاديانية؟ ص 31 ترجمة محمد كليم الدين. (¬2) جريدة الفضل 3/ 411.

يضر بانتشار القاديانية (¬1) ، أي ولكن ينشروا أنه مجدد، لتقريب وجذب المسلمين إليهم. ومن أقوال هذا الفرع أيضاً: ((يا ليت أن القاديانية كانت تُظهر غلام أحمد بصورة غير النبي ... ولو فعلوا هذا لكانت القاديانية دخلت في أنحاء العالم كله)) (¬2) . وبهذا يتضح أن هذا الفرع أمكر وأكثر احتيالاً لنشر القاديانية، وهو الذي أتيح له التوغل في العصر الحاضر إلى أقصى البلدان الإسلامية في آسيا وفي أفريقيا. وقد قام محمد علي بنشاط كبير في عرض القاديانية. ولعل من أهم أعماله ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية (¬3) ؛ حيث ملأها بالأفكار القاديانية، مما جعل الكثير من الناس يقعون ضحية تلك الأفكار ظانين أنها ترجمة رجل مسلم، لقد اتجه هذا الرجل في تفسيره للقرآن وجهة خطيرة لم يتورع فيها عن الكذب والتعسف ومخالفة أهل العلم واللغة والإجماع، وإنما فسره بمعان باطنية، فيها التركيز على إنكار الإيمان بالغيب وبالقدرة الإلهية، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال: 1. قوله تعالى لموسى: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ ¬

(¬1) التبليغ 1/21. (¬2) بيغام صلح 17 إبريل لسنة 1934 م جريدة الفرع اللاهوري، والمصادر عن ((ما هي القاديانية؟)) . (¬3) يذكر محمد اختر الذي كان قاديانياً ثم انصل عنهم، أن تلك الترجمة ليست من صنع محمد علي كلها وإنما هي للحكيم نور الدين البيهروي ونسبها محمد علي لنفسه. انظر كتابه: لماذا تركت القاديانية؟ ص32 ترجمة محمد كليم الدين.

عَيْناً} سورة البقرة:60 أي أن الله أمر موسى بالمسير إلى جبل فيه اثنتا عشرة عيناً. 2. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} سورة البقرة:63؛ أي كنتم في منخفض من الأرض والجبل يطل عليكم. 3. {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} سورة البقرة:65؛ أي مسخت قلوبهم وأخلاقهم. 4. {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} سورة آل عمران:49. المراد بالطير هنا استعارة؛ أي رجال يستطيعون أن يرتفعوا من الأرض وما يتصل بها من أخلاق وأشياء، ويطيروا إلى الله ويحلقوا في عالم الروح. 5. المراد باليد البيضاء التي أُعطي موسى أي الحجة، والحبال والعصي في قوله تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} سورة: الشعراء: 44. أي وسائلهم وحيلهم التي عملوها في إحباط سعي موسى (¬1) . 6. وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} سورة سبأ:14. الآية: دابة الأرض: هو رجل اسمه رحبعام بن سليمان الذي تولى الملك بعده، وسمي دابة الأرض لقصر نظره؛ إذ كان لا يجاوز الأرض. ¬

(¬1) انظر: ص145 - 153.

والمنسأة التي هي العصا كناية عن ضعف الحكومة وانقراضها. والجن: شعوب أجنبية بقيت في حكم بني إسرائيل إلى ذلك العهد. وهدهد سليمان: هو إنسان كان يسمى الهدهد وكان رئيس البوليس السري في حكومة سليمان. وقد تلاعب بمعاني القرآن الكريم على هذا التفسير الباطني الهزلي المملوء بالأكاذيب والخرافات، وقد تلقفه المسلمون -خصوصاً من لم يعرف العربية- بكل سرور، لعدم علمهم بأن تفسير محمد علي للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية، إنما يراد به هدم معاني الشريعة الإسلامية والمفاهيم الصحيحة، وقد ذكر الأستاذ الندوي في كتابه القادياني والقاديانية كثيراً من مثل هذا التلاعب بالقرآن للتحذير وإبراء الذمة (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) انظر: ص145 - 153.

من أهم مراجع القاديانية

من أهم مراجع القاديانية 1. ما هي القاديانية/ أبو الأعلى المودودي. 2. القادياني والقاديانية/ أبو الحسن علي الندوي. 3. القاديانية دراسة وتحليل/ إحسان إلهي ظهير. 4. القاديانية/ عبد الله صالح الحموي. 5. معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية/ بشير محمود أحمد. 6. لماذا تركت القاديانية؟ / ميرزا محمد سليم أختر. 7. المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: ((القاديانية فئة كافرة)) تعريب الأستاذ محمد بشير. 8. القاديانية الخطر الذي يهدد الإسلام/ د. أحمد محمد عوف. 9. حب العرب إيمان/ للميرزا غلام أحمد-خطبة جمعة. 10. أباطيل القاديانية في الميزان/ د. محمد يوسف النجرامي. 11. دعوة الأمير (معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية) للميرزا بشير محمود أحمد. 12. ضميمة الوحي/ للقادياني. 13. توجد بحوث عن القاديانية منها:

14. القاديانية في إندونيسيا للشيخ شفيق أمر الله شمس الدين. 15. القاديانية في غانا للشيخ سحنون تاج الدين. كما أنني قدمت أثناء الكتابة عن القاديانية ما ترجمه المشائخ: أبو الأعلى المودودي، والشيخ الندوي، والشيخ إحسان إلهي، على ما ترجمه غيرهم؛ للثقة القوية بغزارة علم هؤلاء، وإحاطتهم بمفاهيم القاديانية كلها، وعظيم شرفهم في الخلق والدين، فالاعتماد على ترجمة هؤلاء أولى من غيرهم في نظري، خصوصاً لمن لم يعرف اللغة الأردية. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الباب العاشر الصوفية

الباب العاشر الصوفية

الفصل الأول تمهيد في بيان انحراف الصوفية بصفة عامة

الفصل الأول تمهيد في بيان انحراف الصوفية بصفة عامة الصوفية التي نبحثها هنا هي الصوفية التي خرجت عن الحق إلي الغلو متأثرة بشتى الأفكار المنحرفة التي هي في الواقع أفكار بدعية طرأت على المسلمين في غياب الوعي الإسلامي وبروز الجهل وعلماء السوء المغرمين بالخرافات وحب الزعامة وهي ذات مفاهيم خاطئة مضطربة تأثرت بمسالك منحرفة وبالغت فيها إلى حد الهوس والاضطراب الفكري الشنيع وكأن حافظ إبراهيم حينما ندب اللغة العربية بقوله: فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات كأنه عنى المذهب الصوفي في انحرافه وتنوع مصادره وتلفيق أفكاره من شتي المذاهب ولقد جرأ أصحاب هذه الطريقة الصوفية على القول على الله بغير علم كما كذبوا وأكثروا على رسوله صلى الله عليه وسلم لتقوية مبادئهم الكثيرة وتأييدها وبالغوا في الكذب وزخرف القول وتفننوا في الطرق والآراء حتى ليخيلوا للشخص أنهم على شيء وهم في فراغ وجهل شديد. وطرقوا مسائل ليست من الإسلام في شيء ولم يقل بها أحد من المسلمين وأظهروا بزخرفهم أنها من الإسلام بما قدموه من تقليب الأدلة وإثارة الشبهة والتفنن في الاستدلال والجواب، وقالوا بوحدة الوجود والحلول والاتحاد ووحدة الشهود، والكشف والقطب والغوث، وغير ذلك من الأمور

التي طرقها كبار دعاتهم، مثل: الحلاج وابن عربي وابن الفارض والبسطامي والجيلي، وغيرهم ممن لبس عليهم إبليس فقالوا بوجود الله تعالى في كل شيء، حتى صار في عرف غلاتهم أن من لا يعتقد اتصاف الخلق بأوصاف الخالق، لا يمكن أن يعد صوفياً وولياً من أولياء الله، كما ذكر الأستاذ إحسان إلهي ذلك عنهم (¬1) . وهكذا أصبح المذهب الصوفي بعد أن لبس إبليس على أتباعه خليطاً من شتى الأفكار والآراء المنحرفة، حيث يظهر فيه جلياً غلو الشيعة ومبادئ الباطنية وآراء المسيحية والهندوكية والبوذية، وغير ذلك من الديانات والفلسفيات القديمة كالأفلاطونية والأفلوطينية وسائر ما قال به علماء اليونان (¬2) . وقد قامت الدعوة للصوفية وإظهار شأنها من جديد في هذا العصر على نطاق واسع بسبب عوامل عدة: منها: جهل كثير من المسلمين بحقيقة دينهم ثم الجهل بحقيقة الصوفية كذلك. ومنها: مساعدة أعداء الإسلام على نشر الصوفية، لأنهم يعرفون المكاسب التي سيجنون ثمارها إذا علا سلطان الصوفية وفشا الجهل وانتشرت الخرافات الصوفية وخزعبلاتها وتأثروا بآرائها السلبية في مفهوم الجهاد في سبيل الله وفي مفهوم وحدة الأديان التابعة لمفهوم وحدة الوجود. وأعداء الإسلام هنا فريقان: فريق عداوته ظاهرة: وهم المستعمرون ومن يبيتون النية لهدم الإسلام ¬

(¬1) التصوف المنشأ والمصدر ص6. (¬2) انظر: التصوف وتأثره بالنصرانية والفلسفات القديمة.

وتشتيت كلمة المسلمين، وقد استفاد هؤلاء من أفكار الصوفية كثيراً حين نام المسلمون على دعوى الزهد والإقبال على الآخرة بغير بينة، والتمسح بصور الأولياء وطلب البركة والنصر منهم في حياتهم وبعد موتهم أيضاً، والعكوف على قبورهم. وفريق آخر متلبسون باسم الدين ويحكمون كثيراً من ديار المسلمين؛ وهؤلاء يساعدون الصوفية خوفاً من عودة الوعي الإسلامي السلفي الذي يصطدم مع ميول ورغبات هؤلاء وشهواتهم. لأجل هذا ولغيره كان تنبيه طلاب العلم إلي خطر هذا المذهب الرديء واجباً يحتمه النصح لكل مسلم يحب حماية نفسه ودينه، من الانزلاق في خضم الأفكار المبثوثة بين صفوف المسلمين، والتي كان من نتيجتها زيادة الكوارث والخبال الذي حل بديار المسلمين حين ابتعدوا عن المنهج الحق الذي شرعه الله لعباده. ولقد فرح أعداء الإسلام بانتشار الصوفية التي مهدت لهم السبيل بدعوى الزهد والتقشف والابتعاد عن المظاهر وعن منازعة الحكام والرضا بأفعالهم؛ فعاش المسلمون على هامش الحياة بعد أن خدرت الصوفية أعصابهم بترهاتها وخزعبلاتها التي تنافي العقل السليم والدين الإسلامي الحنيف في كثير من مبادئها وطقوسها المختلفة ونظرتها إلي الحياة. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثاني التعريف بالصوفية

الفصل الثاني التعريف بالصوفية لغة واصطلاحاً اختلفت كلمة العلماء حول التعريف الحقيقي للصوفية وللتصوف اختلافاً كثيراً قلما يوجد له مثيل، وقد ذكر بعض العلماء أن تلك التعريفات قد تصل إلي الألفين، يقول محمد طاهر الحامدي: "الأقوال المأثورة في التصوف قيل: إنها زهاء ألفين" (¬1) ، وقد نقل إحسان إلهي في كتابة "التصوف: المنشأ والمصدر" أقوالاً كثيرة عن أقطاب التصوف في تعريفهم ومفهومهم للتصوف (¬2) ، ولكن مهما قيل عن كثرتها واختلاف الناس فيها فإنها كلها لا طائل من ورائها عند التمعن في دراستها، مما يستدعي الحال غض النظر عن تلك التعريفات كلها، وإلقاء الضوء على الأقرب منها، وفيما يلي بيان ذلك. في اللغة: يطلق علماء اللغة كلمة (صوف) في معاجم اللغة تحت مادة (صوف) على عدة معان، منها إطلاق كلمة صوف على الصوف المعروف من شعر الحيوانات، ومنها صوفان وصوفانة وتطلق على بقلة زغباء قصيرة. وقد أطلقت كلمة "صوف" في بعض دلالتها بمعنى الميل، فيقال صاف السهم عن الهدف بمعنى مال عنه، وصاف عن الشر أي عدل عنه (¬3) . ¬

(¬1) انظر: التصوف المنشأ والمصدر ص37 (¬2) انظر: ص36 - 48 (الفصل الثالث) (¬3) انظر: معاجم اللغة في مادة "صوف".

في الاصطلاح

في الاصطلاح: يجب إدراك أن الصوفية مرت بمراحل وتطورات ومفاهيم مختلفة، ومن هنا وقع كثير من الجدل بين العلماء في التعريف بالصوفية، ومهما قيل عن كثرة التعريفات للتصوف، فإنه يصدق عليه عموماً أنه بدعة محدثة في الدين وطرائق ما أنزل الله بها من سلطان. ونذكر فيما يلي بعض التعريفات التي أطلقت على مفهوم التصوف سواء، كانت من الصوفية أو من مخالفيهم، ومن ذلك ما يلي: 1- التصوف هو تجريد العمل لله تعالى، والزهد في الدنيا وترك دواعي الشهرة، والميل إلى التواضع والخمول، وإماتة الشهوات في النفس. وهذا التعريف قد لا يصدق في الواقع إلا على التصوف في عهده الأول، الذي كان التصوف فيه عبارة عن الانقطاع لعبادة الله وحده، والزهد في الدنيا والتخفف من متاعها والإقبال على الآخرة، دون أن يلبسوا ذلك بشيء من الأفكار والسلوك المشين الذي وصلت إليه الصوفية بعد ذلك. 2- وذهب قسم كثير من العلماء إلى أن سبب التسمية للمتصوفة بهذا الاسم - أي "الصوفية" - إنما كان نسبة إلى لبسهم الصوف الذي عبر عن الزهد والتقشف وترك التنعم والملذات المباحة، وقد علق القشيري على هذا بقوله: "فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف". 3- وبعض العلماء يرى أن التصوف مأخوذ عن الصفاء؛ أي صفاء أسرارهم أو صفاء قلوبهم أو صفاء معاملتهم لله تعالى، وهو ما يحب الصوفيون التسمي به، بل إن كل انتساب فيما لاحظ (نيكلسون) إلى الصوف

يقابله اثنا عشر تعريفاً تعتمد على الصفاء، الذي حاول الصوفية أن ينتسبوا إليه (¬1) . إلا أن القشيري قد استبعد هذا المفهوم في اللغة بقوله: "ومن قال أنه مشتق من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة" (¬2) . 4- وبعضهم يرى أنه نسبة إلى الصفة التي كان يجلس فيها فقراء الصحابة رضوان الله عليهم في المسجد، ويرى القشيري أن النسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي (¬3) . 5- وبعضهم يرى أنه نسبة إلى الصف الأول، قال القشيري: "فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم، فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف" (¬4) . 6- وبعضهم يرى أنه نسبة إلى قبيلة بني صوفة وهى قبيلة بدوية كانت حول البيت في الجاهلية، وهى تنتسب إلى رجل يقال له صوفة كان قد انقطع للعبادة في المسجد الحرام. 7- وبعضهم يرى أنها نسبة إلى الصفوة من خلق الله تعالى. وهناك تعريفات كثيرة خاض فيها العلماء باجتهاداتهم بعضها من وضع أقطاب التصوف وبعضها من غيرهم لا يهمنا سردها هنا بالتفصيل والدراسة الشاملة لها كلها (¬5) ، إذ الغرض إنما هو التنبيه إلى ما وقع من اختلاف في ¬

(¬1) انظر: دراسات في الفرق ص98. (¬2) الرسالة القشيرية جـ2 ص550. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر نفسه. (¬5) انظر: الرسالة القشيرية ص 550 جـ1 وانظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص19 - 36، الصوفية المنشأ والمصدر ص20 - 39.

التعريف بهم، ولما كانت تلك التعريفات أموراً اجتهادية واستحسانات وتقريباً لهذا المذهب، فإنك تجد أنه يرد عليها اعتراضات كثيرة، وفى بعضها أخطاء واضحة. ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ردود على بعض تلك التعريفات، فقد ذكر أنه إذا كانت النسبة إلى أهل الصفة - وهو خطأ تاريخي كما سنبين - ذلك - فإنه يقال صُفِّي، وأما إذا كانت إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى فإنه يقال صَفِّي، وأما إذا كانت نسبة إلى الصفوة من خلق الله فإنه يقال صَفوِيٌّ، وأما إذا كانت النسبة إلى ذلك الرجل الجاهلي فإنه لا أحد من المتصوفة يرضى أن ينسب إلى قبيلة جاهلية قبل الإسلام، إضافة إلى أنه لم تعرف هذه التسمية بين الصحابة ولا كانت هذه القبيلة مشهورة أيضاً (¬1) . وقد زعم كاتب نصراني هو "جورجي زيدان" "أن كلمة تصوف في العربية تعادلها كلمة "سوفيا" اليونانية والتي معناها الحكمة" (¬2) ، أي أن التصوف نسبة إلى الحكمة اليونانية، وهو زعم أبطله كثير من العلماء؛ وربما لأن التصوف إنما ظهر بعد الإسلام ولا يمنع هذا أن تتأثر الصوفية بعد ذلك بشتى التأثيرات بل هو الواقع، ولكن ليس بالمفهوم اليوناني الكامل. هذا ونسبة التصوف إلى الصوف أقرب إلى الاشتقاق اللغوي كما أنه أقرب كذلك إلى ذوق الصوفية وحالهم في تمسكهم بلباس الصوف، وقد ذهب إلى تقرير هذا القول كثير من العلماء في نسبتهم لهذه الطائفة التي لم ¬

(¬1) الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ص 13 / 14. (¬2) انظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 23.

توجد في زمن النبى صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان؛ إذ لو وجدت في هذه الأزمنة وعرفها الناس وعرفوا مسالكها لاشتهرت تسميتها ولما حصل لبس أو خلاف في حقيقتها واتجاهاتها بين المتأخرين. وقد رجح شيخ الإسلام فيما يظهر من كلامه أن التصوف نسبة إلى الصوف حيث قال: "وقيل - وهو المعروف -: أنه نسبة إلى لبس الصوف". ثم علل ذلك بقوله: "فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية" (¬1) . وأيد للسهروردي صحة القول بنسبة الصوفية إلى الصوف، وذكر أدلة كثيرة على فضائل لبس الصوف، وبالغ في مدح الصوفية حين اختاروا هذا الاسم بما يطول نقله. ثم ذكر الأسماء الأخرى والتي منها نسبتهم إلى أهل الصفة من فقراء الصحابة المهاجرين ثم قال: "وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي ولكن صحيح من حيث المعنى؛ لأن الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك" (¬2) . وستأتي مناقشة هذا الإدعاء للسهرودى. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) الصوفية والفقراء ص15. (¬2) انظر: عوارف المعارف ص45 - 49.

الفصل الثالث هل توجد علاقة بين المتصوفة وأهل الصفة

الفصل الثالث هل توجد علاقة بين المتصوفة وأهل الصفة والواقع أن هذه القضية تعتبر من القضايا الساخنة خاض غمارها المتصوفة من جانب، وغير المتصوفة من الجانب الآخر حول الصلة بين الفريقين: الصوفية، وأهل الصفة. فهل توجد فعلاً علاقة بين الصوفية وأهلا الصفة؟ الجواب: إنه بالرغم مما بذله المتصوفة من جدل وبحوث لتقريب التصوف إلى أهل الصفة فإن ذلك لم يجدهم شيئاً. فهناك من المتصوفة كالمنوفي، والسهروردي، وغيرهما من كبار الصوفية من يزعم وجود تلك الصلة بين الفريقين، وأن أهل الصُفة هم سلف أهل التصوف، فالسهروردي يرى أن العلاقة بين المتصوفة وأهل الصفة تتمثل في حب الانفراد والعزلة عن الناس والشوق إلى الله تعالى، وأن هذه الفكرة هي الجامع بين الصوفية وأهل الصفة فيما يرى، وقد قال في إثبات ذلك: "الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك (¬1) ، لكونهم مجتمعين متآلفين متصاحبين لله وفي الله كأصحاب الصفة، وكانوا نحواً من أربعمائة رجل لم ¬

(¬1) أي أهل الصفة.

تكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديماً وحديثاً في الزوايا والربط.." (¬1) إلى آخر كلامه. وأما المنوفي فقد قال عنهم: "هم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض الفانية وشغل أفئدتهم بالحياة الباقية.." إلى أن يقول: "استوطنوا الصفة فصفوا أنفسهم من الأكدار ونقوها من الأغيار، واعتصموا من حظوظ النفوس بالإيثار". إلى أن قال: "وكان الظاهر من أحوالهم والمشهود من أخبارهم غلبة الفقر عليهم وإيثارهم القلة واختيارهم لها، فلم يجتمع لهم نوعان، ولا حضر لهم من الأطعمة لونان" (¬2) . والحقيقة أن السهروردي وغيره من المتصوفة لم يستطيعوا أن يأتوا برباط واحد، أو بوجه شبه يعتبر قاسماً مشتركاً صحيحاً مقبولاً بين حال أهل الصفة رضوان الله عليهم وبين المتصوفة، مع كثرة ما حاول هو وغيره وبشتى الأساليب أن يوجدوا تلك الصلة المزعومة، وأن يكون أولئك الصحابة الأفاضل هم الأساس لأقطاب التصوف والمثل الأول لهم. مع محاولة بعضهم كذلك ربط حركة التصوف وما تحمل من حب العزلة والانفراد والخلوة بما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، من تحبيب الخلوة إليه في غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد. وقد فاتهم أن هذا لا يصلح أن يكون دليلاً لهم على ذلك؛ فإن أقل ما ¬

(¬1) عوارف المعارض ص47. (¬2) جمهرة الأولياء 1 /131.

ينقصه هو أن تلك الخلوة إنما كانت بعناية من الله له؛ ليستعد لحمل أعباء الرسالة فيما بعد، وقبل أن يكلف أيضاً بدعوة الناس وإقامة شعائر الدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن اختاره الله لتبليغ الدعوة كان محط أنظار الناس في كل لحظة من لحظات عمره المبارك، وإلا فكيف انتشر الإسلام بعد ذلك ودخل الناس في دين الله أفواجاً لو بقى على تلك الخلوة وبمفهوم الصوفية أيضاً؟!. والحق أن المتصوفة ليس لهم مستند في تعلقهم بأساس تصوفهم سواء كان ذلك التعلق بالصحابة من أهل الصفة، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته في غار حراء، ومن زعم أن بدايات التصوف كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أهل الصفة فلا شك في خطئه. وإذا كان المتصوفة فيما يدعون يحبون الفقر والخرقة (¬1) ، والانزواء في الزوايا والأربطة، فإن الثابت المتواتر أن أهل الصفة في مجملهم كانوا كثيراً ما يشكون حالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمل أن يساعدهم على حياة طيبة في الدنيا تكون عوناً لهم إلى الآخرة، وقد أخبر الله عنهم أنهم يتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون. وقد تحقق لمعظمهم بعد ذلك مال وافر، عملاً منهم بقول الله تعالى {وَلاَ تَنسَ نَصِيِبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (¬2) ، واجتمعت لبعضهم ألوان الأطعمة المباحة ولم يزهدوا عن الدنيا نهائياً، لأنهم يعلمون أن ذلك لا ينافي الزهد، بينما معظم المتصوفة إنما يريد بإظهار ذلك الزهد وتلك الرهبانية الوصول إلى ما في ¬

(¬1) ذكر السهروردي للبس الخرقة حقوقاً لا يحتملها إلا من كان موفقاً غاية التوفيق، فيما يريد أن يوحى به السهروردي في عوارف المعارف ص52. (¬2) سورة القصص: 77

أيدي الناس واستعباد أذهانهم وأفكارهم، لا زهداً حقيقياً عن الدنيا في أكثر أحوالهم؛ حيث وجد لبعضهم بعد موتهم مدخرات كثيرة مما يتنافى ودعوى الزهد؛ لأن الزهد الحقيقي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، فلا رهبانية ولا تواكل ولا تحريم لما أحله الله من الطيبات، ولا استحلال ما لم يرد به الشرع، وهذا هو الزهد لا إظهار الفقر والعوز كما يراه غلاة المتصوفة. إن تلك الصلة بين الصوفية وأهل الصفة التي يزعمها السهروردي والمنوفي محض خيال؛ ذلك أن أهل الصفة ما كانوا يحبون الفقر ولا يحبون الانفراد والعزلة عن الناس، وكيف يحبون العزلة والانفراد وهم في أكثر أماكن تجمع الناس؟! وأيضاً أكان مكثهم في الصفة بمحض رغبتهم أم كانت حالة طارئة أملتها عليهم الظروف المعيشية؟. ذلك أنه لا يخفى على طلاب العلم - أن أهل الصفة كانوا من الفقراء الذين لا يجدون مأوى غير المسجد، في الوقت الذي كانوا يبحثون فيه بكل جد من أجل الوصول إلى حال اليسار والغنى، خصوصاً وهم يتلون قول الله تعالى {وَلاَ تَنسَ نَصِيِبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، كما يسمعون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير" (¬1) . وقوله أيضاً: "اليد العليا خير من اليد السفلى (¬2) ". فما كان أحدهم يحمل الزنبيل على ظهره ويطوف بالبيوت في طلب رزقه متكاسلاً عن العمل، متكلاً على ما في أيدي الناس أعطوه أم منعوه، كما هي ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه 5/520. (¬2) أخرجه البخاري 5/37، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد.

حال كثير من المتصوفة بعد أن فسدت فطرهم واختلت مفاهيمهم. حين صاروا كما مدحهم السهروردي بقوله: "واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة بأهل الصفة، تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب" (¬1) . وأما زعم المنوفي أن الله اختار أهل الصفة ليكونوا كذلك وهم أيضاً قد اختاروا الفقر والمسكنة - فهو زعم باطل يكذبه الله في القرآن الكريم وتكذبه السنة النبوية والتاريخ. لقد كان من أهل الصفة أميراً ومن أصبح غنياً ذا ثراء كبير وفير، ومن أصبح قائد جيوش جرارة، وهم مع ذلك في قمة الزهد والخشوع لربهم. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) عوارف المعارف ص49.

الفصل الرابع أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها

الفصل الرابع أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها من أشهر الأسماء لهذه الطائفة اسم "الصوفية"، ولهم أسماء أخرى غير مشهورة علي ألسنة الناس، ومن تلك الأسماء التي أطلقت عليهم أو أطلقوها هم علي أنفسهم: 1- الصوفية: وهو الاسم المشهور الذي يشمل كل فرقهم، وهم يرضون به ويتمدحون بالانتساب إليه، وقد سبق تعليل هذه التسمية. 2- أرباب الحقائق: لزعمهم أنهم وصلوا إلي حقائق الأمور وخفاياها بخلاف غيرهم من الناس الذين أطلقوا عليهم اسم "أهل الظاهر"و"أهل الرسوم" (¬1) . 3- الفقراء: وهو اسم زعم السهروردي أن الله هو الذي سماهم به حيث قال: "وأهل الشام لا يفرقون بين التصوف والفقر يقولون: قال الله تعالي: {لِلفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} (¬2) ، هذا وصف الصوفية، والله تعالي سماهم فقراء" (¬3) . 4- ويسمون شكفتية في خرسان نسبة إلي الغار، قال السهروردي ¬

(¬1) انظر الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 31. (¬2) سورة البقرة: 273 (¬3) انظر: عوارف المعارف ص 42.

عن الصوفية في خرسان: "كان منهم طائفة بخرسان يأوون إلي الكهوف والمغارات، ولا يسكنون القرى والمدن يسمونهم في خرسان شكفتية؛ لأن شكفت اسم الغار؛ ينسبونهم إلي المأوى والمستقر" (¬1) . 5- جوعية: قال السهروردي: "وأهل الشام يسمونهم جوعية" (¬2) . 6- الملامية أو الملامتية: وقد عنون المنوفي لها بقوله: "أهل الملامة والملامتية" (¬3) . والملامتية هي إحدي تطور المذهب الصوفي ووساوسه المتشعبة وأمانيه البراقة، وهذه الملامة التي يعتنقها بعض الصوفية ويتظاهر بها هي في أحد مفاهيمها بعينه , يدخل فيه الشخص من حيث يشعر أو لا يشعر , بل وسموه النفاق المحمود (¬4) ، حين يأتى الصوفي بما يلام عليه لأجل أغراض سامية فيما يزعمون، ولكن متى كان النفاق محموداً؟! والملامتي حسب المفهوم الصوفي عرفه السهروردي بقوله عن بعضهم: "الملامتي هو الذي لا يظهر خيراً ولا يضمر شراً"، ثم قال: "وشرح هذا هو: أن الملامتي تشربت عروقه طعم الإخلاص وحقق بالصدق , فلا يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله ولا يتم هذا الإخلاص إلا إذا أصبح يستوي عنده المدح والذم له من الناس، وألا يفكر في اقتضاء ثواب العمل في الآخرة" (¬5) . ويعللون لهذا بأنه مع الناس في الظاهر، وهو مع الله في الباطن مهما ¬

(¬1) عوارف المعارف ص48. (¬2) المصدر السابق. (¬3) جمهرة الأولياء 1/122. (¬4) انظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 334. (¬5) انظر: عوارف المعارف ص54.

كانت أفعاله في الظاهر. ومن هنا أبو سعيد الخراز: "رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين " ومن شرح السهروردي هذا الكلام بقوله: "ومعني قوله: إن إخلاص المريدين معلول برؤية الإخلاص والعارف منزه عن الرياء الذي يبطل العمل، ولكن لعله يظهر شيئاً من حاله وعمله بعلم كامل عنده فيه؛ لجذب مريد أو معاناة خلق من أخلاق النفس في إظهاره الحال والعمل، وللعارفين في ذلك علم دقيق لا يعرفه غيرهم، فيرى ذلك ناقص العلم صورة رياء، وليس برياء إنما هو صريح العلم لله وبالله من غير حضور نفس ووجود آفة فيه (¬1) . والصحيح أنه التلاعب بعقول الناس والترويج للباطل بأبطل منه وقلب للحقائق، إذ كان الأولى أن يغلظ ذنب العارف لا أن يكون الرياء منه أفضل من غيره، ومتى كانت دعوة المصلحين تقوم علي أساس مداهنة الناس ومراءاتهم؟ ‍! وأيضاً كيف صح له أن يصف محض الرياء بأنه ليس رياء وإنما هو صريح العلم لله وبالله من غير حضور نفس؟! فمن يقبل هذا الخداع ويتهم نظره وعقله، ويصدق بأن تلك الحال التي اعترت الصوفي إنما هي من أجل أن يجذب المريد أو يرد أن يذل نفسه، فمن أين يعلم الناس ذلك حتى يمكنهم أن يسموا الرياء عبادة لله؟؛ ولهذا فإن من الثابت عندهم أن كل ما يصدر عن الصوفي ينبغي أن يفسر بخير حتى وإن كان فعل الفواحش، فيجب الاعتقاد علي أنه لم يفعل ذلك إلا لحكمة جليلة، كما بين ذلك الشعراني في طبقاته وغيره من كبار الصوفية، في تراجمهم لسادتهم عتاة الصوفية. ¬

(¬1) عوارف المعارف ص54.

وفي هذا يقول الدباغ: "إن غير الولي إذا انكشفت عورته نفرت منه الملائكة الكرام- والمراد بالعورة العورة الحسية، والعورة المعنوية التي تكون بذكر المجون وألفاظ السفه- وأما الولي فإنها لا تنفر منه إذا وقع له ذلك؛ لأنه إنما يفعله لغرض صحيح فيترك ستر عورته لما هو أولي منه" (¬1) . ويؤكد الفوتي ظان الواجب في حق المشائخ والأولياء- وهو كثير جداً- منه: 1-عدم الاعتراض علي الشيخ في أي شيء يفعله ولو كان ظاهره حرام. 2-أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل (¬2) . وشروط أخري يندى لها الجبين ويموت القلب حسرة لأولئك الذين أذلتهم الصوفية وملكت عليهم كل عرق ينبض بالحياء والحياة، وذكر علماء التصوف أمثلةً وأخباراً كثيرة في وجوب التسليم والرضاء لكل ما يفعله الولي الصوفي مهما كان ذلك العمل، وهو ما قرره الفوتي وعلي حرازم والشعراني والمنوفي وأبو يزيد البسطامي والسهروردي وغيرهم من كبار الصوفية المجرمين في حق البشرية. ومهما كان، فإن الملامتية في حقيقتها إنما هي إحدى مصايد الصوفية مهما زخرفوا القول فيها. وقال ابن عربي عن هؤلاء الملامتية: "أنهم رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم؛ لئلا تمتد إليهم ¬

(¬1) الإبريز 2 / 43. (¬2) انظر: رماح حزب الرحيم 1/132.

عين فتشغلهم عن الله. لقد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين (¬1) . ويرى ابن عربي في فتوحاته المكية أن هذا الاسم أطلق عليهم؛ لأنهم أخفوا مكانتهم الشريفة في العامة، فكأن المكانة تلومهم حيث لم يظهروا عزتها وسلطانها (¬2) . وقد شبههم المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء بأهل الكهف في فتوتهم وحالهم، حين قال في التعريف بهم: "الملامة نعت لإبدال أهل الفتوة، واسم الملامية أو الملامتية أطلق علي قوم يلومون أنفسهم مع حسن أحوالهم ونموها"، وقد استفاض المنوفي في الأمثلة للملامتية وحشر كثيراً من الناس أمثلة للفتوة (¬3) . وقد قسم شيخ الإسلام الملامية إلي قسمين: ملامية يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود. وملامية يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصرون على الملام في ذلك والصبر عليه، وهؤلاء هم أهل الملام المذموم. قال: "وبهذا يحصل الفرق بين الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ¬

(¬1) هذا النص عن مقدمة رسالة الملامتية تحقيق د. أبو العلا العفيفي ص20، وأما في الفتوحات المكية فإن النص يبدأ من قوله: "لقد انفردوا مع الله.." الخ 3/39. (¬2) الفتوحات المكية 3/40. (¬3) جمهرة الأولياء 1/122 - 130.

ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك" (¬1) . وأشار العلامة ابن الجوزي - رحمه الله - إلى مسلك من مسالك هؤلاء الملامية، وهو: ارتكاب المعاصى بحجة عدم لفت الأنظار إلى صلاحهم - كما يتصورون - فقال "وفى الصوفية قوم يسمون الملامتية اقتحموا الذنوب وقالوا: مقصودنا أن نسقط عن أعين الناس فنسلم من الجاه"، ثم قال معلقاً على هذا الزعم الباطل: "وهؤلاء قد أسقطوا جاههم عند الله لمخالفة الشرع" (¬2) . * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام 1/16. (¬2) تلبيس إبليس ص363.

الفصل الخامس متى ظهر المذهب الصوفي

الفصل الخامس متى ظهر المذهب الصوفي لقد تضاربت أقوال العلماء وتعددت مفاهيمهم حول الوقت الذي ظهرت فيه الصوفية، وكل أدلي بدلوه حسبما ترجح لديه، والواقع أنه لا يعرف بالتحديد الدقيق متى بدأ التصوف في المسلمين ولا من هو أول متصوف، وقد تقدم ذكر السبب في عدم اتفاق العلماء على تاريخ ظهور أي فرقة من الفرق بالتحديد الدقيق السالم من الاختلاف. ونظراً لكثرة تلك التحديدات لظهور الصوفية، وما تتطلبه من دراسة قد تأخذ حجماً كبيراً فقد رأيت أن أذكر الأقوال في بدء نشأتهم سرداً مجرداً عن الدراسة التفصيلية، فقد لا يتعلق بها غرض كبير بقدر ما يتعلق الغرض بذكر آرائهم وإبطال الخاطيء منها، وبيان بُعد بعضها عن الدين الإسلامي الحنيف، والتحذير من الاغترار بها وعدم الركون إلى زخرف القول فيها، لأنها من وحي الشياطين إلي أوليائهم، وفيما يلي ذكر تلك التحديدات من أقوال العلماء: 1- أن هذه التسمية عرفت قبل الإسلام مراداً بها أصحاب الفضل والشرف. 2- أن المذهب الصوفي ظهر 150 هـ. 3- أن المذهب الصوفي ظهر 189 هـ.

4- أن المذهب الصوفي ظهر بعد المائتين من الهجرة. 5- أن المذهب الصوفي ظهر قبل المائتين من الهجرة. 6- أن المذهب الصوفي ظهر بعد القرون الثلاثة الأولي أي في القرن الرابع الهجري. 7- أنه اشتد بعد النصف الثاني من القرن الثامن والتاسع والعاشر حين ظهرت آلاف الطرق الصوفية. 8- أن التصوف كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الهجويري من علماء الصوفية، وهذا من أبطل الأقوال (¬1) . والذي يظهر لي من بين هذه الاختلافات أن التصوف ظهر بعد الإسلام في شكل زهد ورغبة في الدار الآخرة، وكبح جماح النفس في حب الدنيا مهما أمكن، ثم صارت الأمور على هذا المفهوم، ثم لحقه ما يلحق غيره من سائر المبادئ والأفكار من حب التطوير وإدخال شتى المفاهيم بقصد تهذيب الفكرة وتقديمها في شكل متكامل، بغض النظر عن مطابقتها للحق أو مجانبتها له. على أن أقطاب التصوف وهم يبنون هذا المسلك لم يوفقوا إلى الابتعاد عن شتى التيارات والأفكار المخالفة للإسلام والتأثر بها، وظهورها واضحة ¬

(¬1) انظر: كشف المحجوب للهجويري ص 772، التصوف الإسلامي وتاريخه تأليف نيكلسون ترجمة (أبو العلا العفيفي) ص3، دائرة المعارف الإسلامية 5/266، اللمع للطوسي ص42، الرسالة القشيرية1/3، عوارف المعارف للسهروردي ص63، الصوفية والفقراء ص5، وانظر: الفكر الإسلامي ص33-36 عبد الرحمن عبد الخالق، التصوف المنشأ والمصادر ص40-48 الفصل الرابع للشيخ إحسان إلهي، الصوفية معتقداً ومسلكاً ص53 بعنوان "حول التصوف في التاريخ الإسلامي" د. صابر طعيمة.

جلية في معتقداتهم وسائر سلوكهم، علي المستوى الفردي أو الجماعي، بعد أن تنوع الأساس الذي قام عليه المذهب في أوله. وعلي كل ما ورد من الأقوال، فإن العلماء متظافرون على أن التصوف ليس له وجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم علي الصحيح من أقوالهم؛ إذ من المحال أن يتشرف أحد من الصحابة بالانتساب إلي غير صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه التسمية حدثت بعد ذلك حين لبس إبليس على أولئك القوم وصاروا أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون. ومن هنا يذكر السهروردي ظهور الصوفية بقوله: "وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان في زمن التابعين ... وقيل: لم يعرف هذا الاسم إلي المائتين من الهجرة العربية؛ لأن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمون الرجل صحابياً لشرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . ويقول المنوفي: "ولم تطلق كلمة صوفية علي جماعة بعينها إلا في القرن الثاني للهجرة" (¬2) . ولكن يذكر شيخ الإسلام - رحمة الله - تحديد بدء التكلم به بقوله: "أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك" (¬3) . ¬

(¬1) عوارف المعارف ص 48. (¬2) جمهرة الأولياء 1/269. (¬3) مجموع الفتاوى 11/5.

وكذلك يذكر أيضاً أن التصوف أول ما أشتهر كان في البصرة، حتى قيل: فقه كوفي وعبادة بصرية، وأن الصوفية أول ما ظهرت من البصرة؛ لأن بعض هؤلاء كان إذا سمع القرآن يصعق وبعضهم يخر ميتاً كما حدث ذلك لغير الصوفية أيضاً، وقد حدث أن قاضي البصرة زرارة بن أوفى قرأ في صلاة الفجر: {فإذا نقر في الناقور} (¬1) ، فخر ميتاً. وقد أنكر الموجود من الصحابة في ذلك الوقت هذا السلوك ومقتوه أشد المقت، قال ابن تيمية: "ولم يكن في الصحابة من هذا حاله" (¬2) . وقد تقدم في حديث العرباض بن سارية وصف حال الصحابة حين سماعهم للقرآن الكريم ولخطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعرف الناس بالحق وأخشعهم لله، وأبعدهم عن مفتريات الصوفية وشركياتهم. ولقد بين علماء السلف كل ذلك أكمل بيان، ولا زال علماء الحق أيضاً يجاهدون التصوف بأفكارهم وأقلامهم وإبطال الفكر الصوفي الباطني المتمثل في تقديس القبور والمزارات والأولياء، ودعوى علم الغيب وختم الولاية ... إلي آخر أفكار الصوفية المنحرف منها. وكان لهؤلاء العلماء من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله - في القرن الثامن، وتلاميذه: ابن القيم، وابن كثير، والحافظ الذهبي، والحافظ المزي، وغيرهم من العلماء، وممن جاء بعدهم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر- كان لعلماء الحق - من هؤلاء رحمهم الله وغيرهم - الباع الطويل في كسر شوكة التصوف وبيان انحراف المتصوفة عن الحق، وتخديرهم لأفكار المسلمين، ¬

(¬1) سورة المدثر 8. (¬2) انظر: الصوفية والفقراء ص 15-16.

وإذلال مشائخ التصوف لهم إلي حد العبودية، كما سيتضح ذلك من خلال هذه الدراسة للصوفية. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل السادس حقيقة التصوف

الفصل السادس حقيقة التصوف لقد مضي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يعرف عنهم أي سلوك يتميزون به غير اتباع الكتاب والسنة والتشرف بنسبتهم إلي ذلك، غير ملتفتين إلي التنطع في سلوكهم أو مخترعين طرائق ورهبانية مبتدعة. إلي أن أحدث أناس في الدين بدعة التصوف منحرفين عن المنهج السليم، وراحوا يتخبطون في دوائر وهمية وفرق عديدة وأحزاب متناحرة كل حزب بما لديهم فرحون. وقد أخذ كل فريق من هؤلاء يعبر عن التصوف حسب ما يراه، ويطول سرد تلك المفاهيم والتعبيرات والأقوال التي صدرت عن أقطاب هؤلاء؛ كالجريري، والجنيد، وعمرو بن عثمان المكي، ومحمد بن علي القصاب، ومعروف الكرخي، والسهروردي، والشبلي، والشاذلي، والتجاني، والبسطامي، وابن عربي، وابن الفارض وغيرهم. ولهذا فإن العلماء لم يتفقوا علي بيان محدد لمفهوم التصوف عند الصوفيين؛ ذلك لإطلاق هؤلاء الصوفية عبارات شتى حسب ذوق كل فريق، وتخيلاته لمفهوم التصوف، إلا أن الحصيلة العامة لأقوالهم تلتقي حول أن التصوف هو: القرب من الله، وترك الاكتساب، والتمسك بالخلق الرفيع،

والجود، ورفع التكاليف عن بعض فضلائهم حين يتصلون بالله عز وجل علي حد زعمهم، ويصلون إلي درجة اليقين وظهور المكاشفات، ثم هم بعد ذلك درجات في تطبيق هذا المفهوم. ولقد ذكر القشيري في "رسالته" عدداً من الآراء الصوفية في مفهوم التصوف والصوفي، حيث قال: "وتكلم الناس في التصوف ما معناه، وفي الصوفي من هو؟ فكل عبر بما وقع له، واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز، وسنذكر هنا بعض مقالاتهم فيه علي حد التلويح". وإذا كان القشيري قد اعتذر عن إيراد كل ذلك لكثرته مكتفياً بذكر بعض مقالاتهم، فإنني أنا كذلك أعتذر عن إيراد كل ما ذكره القشيري لكثرته أيضاً، وأذكر من ذلك ما نقله عن الجنيد أنه قال: "إذا رأيت الصوفي يعني لظاهره فاعلم أن باطنه خراب". وقال القشيري: "سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ابن الجلاء: ما معني قولهم صوفي؟ فقال: ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف أن من كان فقيراً مجرداً من الأسباب وكان مع الله تعالي بلا مكان، ولا يمنعه الحق سبحانه عن علم كل مكان، يسمى صوفياً". ونقل عن أبي يعقوب المزابلي أنه قال: "التصوف حال تضمحل فيها معالم الإنسانية". وقال القشيري أيضاً: "سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: أحسن ما قيل في هذا الباب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم المزابل (¬1) ؛ ولهذا قال رحمة الله يوماً: "لو لم يكن للفقير ¬

(¬1) هكذا العبارة: أي لا قيمة لهم في نظر الناس.

إلا روح فعرضها علي كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها". وعن الأستاذ أبي سهل الصعلوكي أنه قال: " التصوف الإعراض عن الاعتراض". قال القشيري: "ويقال: الصوفي المصطلم عنه (¬1) ، بما لاح له من الحق" (¬2) . وهناك أقوال أخري ذكرها القشيري كلها تدور حول مدح التصوف وبيان تعلقات الصوفية ومفاهيمهم حول المولي جل وعلا، وحول هذا الكون وواجبات الصوفي واهتماماته الدنيوية والأخروية، صيغت بزخرف من القول وإيغال في الخيال في بعضها، وحكم جيدة في البعض الآخر. وأما السهروردي فقد أورد باباً خاصاً في كتابه عوارف المعارف قال فيه: "الباب الخامس في ماهية التصوف"، وقد أكد في هذا الباب علي أن أساس التصوف هو الفقر، حيث قال: "فالفقر كائن في ماهية التصوف وهو أساسه وبه قوامه"، ونقل أقوالاً كثيرة عن صفة هذا الفقر الصوفي، منها: ما قاله الشبلي حين سئل عن حقيقة الفقر فقال: "ألا يستغني بشيء دون الحق". ونقل عن مظفر القرميسني أنه قال: "الفقير الذي لا يكون له إلي الله حاجة" (¬3) ؟ ¬

(¬1) أي المستغرق عن نفسه. (¬2) الرسالة القشيرية ص 2/55-57. (¬3) أي لانشغاله بطاعة الله عن طلبه له حسب التفسير الصوفي.

وقال السهروردي: "وقيل: التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع" إلي آخر ما ذكر مما قدمناه ذكره عن القشيري، وقد أضاف أوصافاً أخري لا ضرورة لذكرها (¬1) . وأما حقيقة التصوف وأصله عند غير الصوفية فقد اختلفت وجهة نظر العلماء في الحكم عليه. وأهم ما قيل في ذلك: أن التصوف علي الإطلاق أساسه الإسلام وأن أصوله العقدية وسلوكهم فيه مستمدة من نصوص الكتاب والسنة، وما أدي إليه الاجتهاد في فهمها. وهذا القول قريب من وجهة نظر الصوفية ومفهومهم فيه رغم اعتراف بعضهم بتأثر التصوف ببعض التيارات الفكرية الخارجية عن الإسلام. أن التصوف علي الاطلاق ليس إسلامي النشأة، وإنما وفد علي البيئة الإسلامية مع ما وفد من عادات وتقاليد الأجناس الأخرى بعدما امتزجت واختلطت عقب الفتح الإسلامي (¬2) . وعلى هذا الرأي بعض الملاحظات، فقد ينطبق هذا الرأي علي ذلك النوع من التصوف، الذي قام على أساس من الغلو والانحراف الذي جاء به أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد، مع تظاهرهم بالانتساب إلى ¬

(¬1) انظر: عوارف المعارف ص 40-44. (¬2) انظر لمزيد التفصيل: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 47 - 48.

الإسلام وتقديسهم لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل سبب هذا القول إنما يعود إلي الواقع الذي اشتمل عليه مفهوم التصوف. وقد يبدوا للناظر أنه يوجد لكل من القولين السابقين ما يبررهما في العقائد الصوفية، وأهل هذا القول يرجعون نشأة التصوف إلي أنه فارسي أو هندي أو يوناني أو مسيحي أو أنه مزيج من هذا كله، وعلي رأس هذا الفريق كثير من المستشرقين ومن غيرهم أيضاً. ومما نكتفي بالإشارة إليه هنا بغض النظر عن ترجيح نشأة التصوف وحقيقته أن الطريقة الصوفية قد تأثرت كثيراً بالآراء والأفكار المخالفة للإسلام، حيث تظهر فيها تلك الأفكار واضحة جلية في جوانب كثيرة في الاعتقاد والسلوك، خصوصاً الأفكار الهندية والفارسية واليونانية والمسيحية، كما سيتضح ذلك من دراستنا لهذه الطائفة، بعد أن كان التصوف في بدء أمره عند بعض المسلمين عبارة عن الزهد عن الدنيا والرغبة في الآخرة، وقتل هوى النفس والاتجاه إلي الله، ولبس الصوف لتعويد النفس علي التحمل والمكابدة، إلي أن أخذ يتطور في الانحدار والبعد عن حقيقة الإسلام في كثير من الأمور التي طرقها التصوف؛ فأصبح مذموماً نفر عنه أهل الحق لخلط المتصوفة بين الزهد والتصوف المغالي. إذ الزهد المشروع لم يذمه أحد، وتوجه الذم إلي التصوف رغم تظاهر المتصوفة بالزهد، حتى صار أطيب الطعام عندهم ما كان عن ذل السؤال وحمل الزنبيل والتسول والانزواء في أماكن عبادتهم، وانتظار ما يجود به الناس عليهم، ويظنون أنهم يحققون بذلك التوكل الذي يريده الله، وهم في الحقيقة إنما يحققون التواكل والكسل البغيض عن طلب الرزق وإعزاز النفس، إضافة إلي الابتعاد عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وما يهدف إليه، من إيجاد اليقين بعزة النفس وكرماتها في الدنيا والآخرة.

ومهما قيل عن حقيقة التصوف فإننا سندرس أهم الآراء الصوفية بتفصيل يتضح به الحكم علي الصوفية بصورة جلية من واقع كلامهم وسلوكهم إن شاء الله تعالى. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل السابع أقسام المتصوفة وذكر طرقهم واختيار الطريقة التجانية نموذجا ودراستها شاملة من واقع كتبهم

الفصل السابع أقسام المتصوفة وذكر طرقهم واختيار الطريقة التجانية نموذجاً ودراستها شاملة من واقع كتبهم الصوفيون طوائف عديدة وأهواء متباينة، شأن كل أصحاب البدع حين يتركون المنهج الذي شرعه الله لعباده. ولقد اختلف العلماء في عدهم لأقسام وطرق التصوف اختلافاً واسعاً؛ إذ تجد بعضهم يعدهم قسمين، وبعضهم يعدهم ثلاثة أقسام، وبعضهم يوصلهم إلى ستة أقسام. وهذا الاختلاف سببه تنوع مصادر الصوفية وتنوع أفكارهم، فبعض الصوفية تابعون للمذهب الإشراقى، الذي يدعي أن المعرفة والعلم تقذف في النفس بسبب طول المجاهدة الروحية، إذ يحصل لها بذلك فيض وإشراق إلهي، ومذهبهم أشبه ما يكون بالمذهب البوذي في رياضة النفس وحملها على المكاره. هذا قسم من الصوفية. وقسم آخر بعض العلماء يعبر عنهم بصوفية الحقائق، وهم من صفوا من الكدر وامتلئوا من الفكر كما يدعون، على طريقة الفلسفة الهندية. وقسم آخر من الصوفية قائلون بالحلول؛ أي دعوى أن الله - تعالى عن قولهم - حل في مخلوقاته وأن أرواحهم لاهوتية وأجسامهم ناسوتية. ومن أكابر أهل هذا المذهب الرديء الحلاج، حين قال في تفسير هذا الحلول:

سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدأ في خلقه ظاهراً ... في صورة الآكل والشارب حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب وصوفية وحدة الوجود هم القائلون بأن الموجودات كلها تمثل الباري عز وجل، وفى أولهم ابن عربي وهو من المؤسسين لمذهب وحدة الوجود، يقول في تقرير ذلك في كتابه الفتوحات المكية: العبد رب والرب عبد ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب فأنّى يكلف وقد قسم شيخ الإسلام الصوفية إلى ثلاثة أقسام هم: 1- صوفية الحقائق ... 2- صوفية الأرزاق ... 3-صوفية الرسم وقال عن القسم الأول: "فأما صوفية الحقائق فهم الذين وصفناهم". ولعله يقصد بذلك ما قدم من ذكر خلاف الناس في الحكم على الصوفية والتصوف حيث قال: "ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة ... "، قال: وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ". ثم قال في بيان حكمه عليهم بعد ذكر هذا الخلاف: "وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله تعالى كما اجتهد غيرهم

من أهل طاعة الله.." إلى آخر ما ذكره عنهم. ولعل هذا الحكم منه إنما ينطبق على التصوف في بدء أمره حينما كان بمعنى الزهد والاجتهاد في العبادة. ثم قال عن القسم الثاني منهم: "وأما صوفية الأرزاق فهم الذين وقفت عليهم الوقوف كالخوانك، فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق فإن هذا عزيز، وأكبر أهل الحقائق لا يتصدون بلوازم الخوانك ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط" ثم ذكرها , وهي: وجود العدالة الشرعية فيهم , والتأدب بآداب الشرع , وألا يكون متمسكاً بفضول الدنيا. ثم قال عن القسم الثالث منهم: "وأما صوفية الرسم فهمهم المقتصرون على النسبة، فهمُّم في اللباس والآداب الوصفية ونحو ذلك" (¬1) ، أي أنهم يتشبهون بالصوفية في الظاهر ويعرفون أقوالهم، ولكنهم خارجون عن طريقهم همهم جمع الأموال والاحتيال على الجهال بأمرهم. وهذا التقسيم واضح جلي، إلا أنه ليس فيه توضيح وبيان لمدى ما وصلت إليه العقيدة الصوفية فيما بعد، ومدى تأثرها بالينابيع والمصادر الخارجة عن الإسلام. لقد أصبح من الصعب جداً تمييز طوائف التصوف أو الحكم عليهم بحكم واحد شامل لجميع فرقهم وعقائدهم المتشعبة؛ إذ لا يمكن معرفة كل قسم من ¬

(¬1) الصوفية والفقراء ص33.

أقسام التصوف قائما بنفسه متميزاً عن غيره إلا من خلال "الطرق" الكثيرة، والتي هي تعبير عن التزام مجموعة من الأتباع أو المريدين بشيخ يجعلونه قدوتهم، وينفذون ما يوجبه عليهم من أذكار وسلوك، وقد تتفق طريقته مع بعض الطرق وقد تختلف عنها، والطرق الصوفية لم تقف عند حد أو مفهوم، فهي دائماً في ازدياد وتجدد؛ إذ كل من ابتدع طريقاً، وجد له أتباعاً يتسمون باسمه أو باسم طريقته. وقد ذكر الشيخ أبو علي حسن بن علي العجمي الحنفي طرق الصوفية، فعد منها أربعين طريقاً في رسالة له، وقد لخصها الشيخ أبو سالم العياشي في رحلته، وقد أوصلها غيرهم إلى أكثر من ذلك. "والحق أن الطرق الصوفية كثيرة جداً بحيث يصعب حصرها؛ إذ كل من عنّ له أن يبتدع طريقا فعل، وسماها باسمه واسم قبيلته أو عشيرته، وهذا مشاهد بكثرة في أفريقيا؛ إذ بين فترة وأخرى تخرج طريقة جديدة تحمل اسماً جديداً ولها أوضاع معينة وأوراد مقررة" (¬1) . وذكر الدكتور صابر طعيمة ما مجموعة 66 طريقة وقال: "وأما الطرق الصوفية الحديثة فمن العسير تسجيل أسماء معظمها في كتاب، ويكفى أنه في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري قد بلغ عدد الطرق الصوفية في بلد واحد أكثر من مائة طريق" (¬2) . ¬

(¬1) انظر: التجانية ص28، وقد ذكر من طرق الصوفية أربعاً وثلاثين طريقة. (¬2) الصوفية معتقداً ومسلكاً ص41-43.

ثم أخذ بعد منها 52 طريقة نقلاً عن المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء، الذي ذكر فيه قسماً كبيراً من طرقهم تحت عنوان "هذا بيان بشيوخ الطرق الصوفية في عصرنا" (¬1) . وكل الطرق الصوفية ناتجة عن الهوى ونابعة منه ومبنية على الرغبة في الزعامة والعلو في الأرض واستعباد الناس، وصار زعماء الصوفية في مجموعهم يحرصون حرصاً شديداً على هذه الزعامة الروحية، ووصل بهم الحرص عليها أن جعلوها وراثية وكأنها جزء من المال الذي يخلفه الميت على حد ما أورده محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني، فإنه قال بعد سرده الطويل لطرق الصوفية وأسماء مشائخها قال بعدها: "وكل هذه الطرق تنسب كل واحدة لولي من الأولياء رضي الله عنهم، وقد يرثها حفيد أو سبط لولي من أولئك الأولياء فيكرمه الله سبحانه وتعالى بكرامة آبائه وأجداده الصالحين، فإن سار على دربهم أكرمه الله مثل ما أكرمهم، وإن فرط أو قصر أكرمه الله لأجلهم" (¬2) . وهذا جهل شنيع وكذب من أشد أنواع الكذب، فإن هذه المحاباه التي افترضوها على الله تعالى إنما هي من جنس الهوس والأماني الباطلة والقرآن مملوء بالرد على مثل هذه الافتراءات، والسنة كذلك ترد مثل هذه الأفكار الجاهلية، فالقرآن يصرح بأن {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِيِنٌ} (¬3) ، وأن كل نفس {لَهَا ما كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬4) . وأن صلاح الآباء - إن كانوا ¬

(¬1) أنظر: جمهرة الأولياء 1/275 - 277، صدر ذكر تلك الطرق بقوله: "وهذا بيان بشيوخ الطرق الصوفية في عصرنا". (¬2) جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف 2/277. (¬3) سورة الطور: 21. (¬4) سورة البقرة:286

صالحين بحق - لا يغني عن الأبناء إن لم يكونوا كذلك. وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم لقرابته أنه لا يملك لهم من الله شيئاً، وأن عليهم ألا يتكلوا على الأنساب، بل عليهم أن يحذروا الله عز وجل وأن يتقربوا إليه بالأعمال الصالحة؛ إذ لو كانت الأنساب تغني لما هلك والد إبراهيم وابن نوح على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وهذا رد صريح على ما يزعمه الصوفيون من التقرب إلى الله بولاية القطب الفلاني أو الغوث الفلاني، وأن الله يفيض حتى على العصاة منهم إكراماً لآبائهم، وإن الذي جرأهم على هذا هو قلة خوفهم من الله تعالى، واستحلالهم الكذب في سبيل مدح أوليائهم بالحق وبالباطل. وقد قال عبد الرحمن عبد الخالق في بيان تاريخ نشأة الطرق الصوفية ونظامها الوراثى: "وقد قيل: إن أول صوفى وضع نظام الصوفية هو الصوفي الإيراني محمد أحمد المهيمي المتوفي سنة 430هـ، والمعروف باسم أبى سعيد، فقد أقام في بلدته نظاماً للدراويش، وأقام بناءً للصوفية بجوار منزله، وسن نظام تسلسل الطرق عن طريق الوراثة، وبين كثيراً من أمور التربية الصوفية؛ بل هو من أوائل من كتب في طريقه التربية الصوفية، وهو أكبر من عبد الكريم القشيري صاحب الرسالة القشيرية" (¬1) . ومن طرق الصوفية الكثيرة: الطريقة التجانية: وسندرسها بالتفصيل كمثال للطرق الصوفية التي تعتم واجهة الإسلام ¬

(¬1) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ص349.

المشرقة لدى كثير من جهلاء المسلمين الذين جرفهم تيار التجانية وأذلتهم واستعبدتهم وأوصلتهم إلى مآس يندى لها الجبين. ولقد وقفت بنفسى على بعض ما يتعبد به التجانيون من طاعة مشائخهم، وإحياء خرافاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان وشدة تعصبهم لها، ونفورهم عن كل من يريد أن يسدي لهم النصيحة خروجاً عن كتمان الحق. وهذه الطريقة التي لها الأمر والنهى في أقطار كثيرة من بلاد أفريقيا بخصوصها، وهى نسبة إلى شخص يسمى أحمد بن محمد بن مختار التجاني. ولد سنة 1150هـ، بقر ية عين ماضى، وينسب إلى بلدة تسمى "بني تجين" من قرى البربر، ولم يترك فضلاً مزعوماً ادعاه شيخ صوفي لنفسه إلا وادعاه هو لنفسه وزاد عليه (¬1) ، ولقد ادعى أموراً كثيرة يطول الحديث لو بسطت، وإنما نشير إليها إجمالاً فيما يأتي: 1- ادعى أنه خاتم الأولياء جميعاً وهى دعوى كاذبة مبنية على فهم خاطئ وقياس باطل، فزعم أن الولاية لها ختم كختم النبوة ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، والتيجاني خاتم الأولياء فلا ولي بعده. 2- أنه الغوث الأكبر في حياته وبعد مماته وقد جعل نفسه بهذه الدعوى وثناً يعبد من دون الله. 3- أن أرواح الأولياء منذ آدم إلى وقت ظهوره، لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بواسطته هو، وهذا نهاية الحمق والقول على الله بغير علم، ¬

(¬1) انظر الفكر الصوفي ص 351.

والاستهانة بعقول الناس وخداعهم. 4- زعم متطاولاً أن قدمه على رقبة كل ولي لله تعالى منذ أن خلق آدم إلى النفخ في الصور، وربما يجازى بهذا الكبر أن يحشر في صورة الذرة كما هو جزاء المتكبرين. 5- أنه هو أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعهم، وصدق عليهم قول الله: {تِلْكَ أمَانِيِّهُمْ} (¬1) . 6- أن الله شفعة في جميع الناس الذين يعيشون في قرنه الذي عاش فيه. 7- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه ذكراً يسمى "صلاة الفاتح" يفضل كل ذكر قرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن الكريم، والذكر المزعوم هنا - صلاة الفاتح - ذكر مبتدع سيئ التركيب ركيك العبارة، وهو لا يعدو ثلاثة أسطر وهو: "اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله، حق قدره ومقداره العظيم". هذا هو الذكر الهائل عنده الذي ألهمه الله حسب زعمه، أو علّمَه، به النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً ثم فضله على كل ذكر. ولقد رأيت أتباعه وهم يجلسون في يوم الجمعة - من بعد صلاة العصر إلى المغرب - وهم يرددون هذا الكلام بصوت جماعي ومرتفع جداً يسمع من مكان بعيد، ثم ينصرفون وهم لا يشكون في أنهم من أعظم الخلق عبادةً وأجراً عند الله، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. فما الجديد في هذا الذكر؟، وما معنى تلك الكلمات الجوفاء وذلك ¬

(¬1) سورة البقرة:111.

التركيب المفكك؟. الواقع أنه ليس فيها ما يستحق ذلك الأجر العظيم الذي لا يعده الحاسبون، حسب ما قدروه لصلاة الفاتح، ومع ذلك فهو يزعم أنه تلقاه عن الله وعن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والقرآن الكريم مملوء بالأدعية الشرعية النافعة الفاضلة، وكتب الحديث مملوءة بالأذكار النبوية الصحيحة التي يؤجر صاحبها على قولها، وتجاب دعوته إذا اشتملت على أنواع التوحيد، بأحسن الألفاظ وأشمل المعاني ممن أوتى جوامع الكلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ثم لم يقف التجاني عند هذا الحد في غلوه في تقدير نفسه وفى تقدير ما جاء به من خرافات وأذكار في صلاة الفاتح المزعومة أنها من الله تعالى، وأن لها ذلك الفضل الذي لا يصفه الواصفون وفى غيرها من الأذكار الأخرى، بل زعم أيضاً أن أتباعه لا تكتب عليهم سيئات ما عملوا، بل يدخلون الجنة مهما عصوا وبغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا، بضمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم له كما زعم لنفسه. وهذا الهوس هو من جنس هوس اليهود، الذين زعموا أن الله لا يعذبهم إلا أياماً معدودة إن عذبهم؛ لأنهم شعب الله المختار، كما يعتقدون ويتشدقون بالتمدح بذلك في التلمود وقي غيره من كتبهم المقدسة عندهم. ثم يدعي التجانيون كرامات لم يقل بها حتى أفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن من رأى التجاني يومي الاثنين والجمعة، فإنه يكون من أهل الجنة إكراماً للتجاني، حتى وإن كان الرائي كافراً؛ لأنه لا يتمكن من رؤية التجاني في هذين اليومين إلا من سبقت له السعادة في علم الله تعالى، كما قرره علي حرازم والفوتى. وهذه الدعوى لهذا الضال من غرائب الأمور، ولو كانت له ولأتباعه أفهام

لعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر لم يقل ذلك وأنه كان يراه المؤمن والكافر في كل أيامه ويبقى المؤمن مؤمناً والكافر كافراً إلى أن يؤمن، ولم يقل صلى الله عليه وسلم بما قاله التجاني المذكور. ومن خرافات التجاني زعمه أنه يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل وقت يشاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يجالسهم ويحضر سمرهم ولهوهم، ويلقي عليهم أذكارهم وأدعيتهم الشركية والخرافية حسب ما يفترون. ولقد صرف التجانيون الناس عن الهدى والطريق الصحيح، وملئوا أذهانهم بشركيات وخرافات لا تمت إلى الدين الإسلامي بأي علاقة، وجنوا على عقائد المسلمين بما ألقوه في قلوبهم من الرجوع إلى الوثنية والخرافات الجاهلية والتعلق بغير الله تعالى، وصرف أنظارهم عن واقعهم المتردي من حيث لا يشعر هؤلاء الأتباع. ولقد انتشرت هذه الطريقة الضالة في شمال ووسط وغرب أفريقيا، وضمت تحت لوائها ملايين كثيرة من أبناء المسلمين، الذين أصبحوا لاهم لأحدهم إلا أن يأخذ بطريقة شيخه، ليضمن دخول الجنة بغض النظر عن العمل وصحبته. ثم جاء من بني على هذا الواقع الفاسد وزعم أنه صاحب الفيض التجاني الذي بشر به التجاني، وأن أتباعه هو الآخر يدخلون الجنة جميعاً بغير حساب ولا عقاب، ولو كانوا على أي ملة قبل ذلك، ومن هؤلاء الذين ادعوا هذا الفيض المزعوم الحاج إبراهيم السنغالي، والذى كان له شأن عظيم وحركة قوية، وبسط دعوته تلك في أصقاع واسعة من القارة الأفريقية. وإلى جانب الطريقة التجانية طرق كثيرة - كما ذكرنا من قبل - يحتاج بيانها إلى عدة صفحات، وهى في جملتها لا تخرج عن هوس وتخبطات التجانية. وقد استحسنت هنا ذكر بعض الأمثلة من كتب الصوفية التجانية، تمثل

أنواعاً من الآراء والمفاهيم التي يحرصون عليها، دون مبالاة بما فيها من الغلو والانحراف. وقد وقع اختياري على قراءة وتمحيص ما في جواهر المعاني تأليف علي حرازم، ورماح حزب الرحيم تأليف الفوتي، وكتيب الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية؛ حيث أضع العنوان المناسب ثم أنقل تحته ما يدل عليه من كلام علماء التجانية. وأوضح ما يميز الانحراف في كتب التجانية، هو الغلو الفاحش في أئمة الصوفية والتجاني وغيره، ومدحهم بما لا يليق إلا بالله العظيم، من علمهم المغيبات وأنواع العلوم والمعارف التي لا يدركها إلا الله عز وجل، وبالتالي ذكر مدائح لهم، وهي في الحقيقة ذم ما بعده ذم، تدل دلالة صريحة على بعد أولئك ومجونهم واستهتارهم بعقول الناس. قال علي حرازم في كتابه جواهر المعاني عن السيد أحمد بن محمد بالفتح جد أحمد التيجاني: " وقد حكي عنه رضي الله عنه أنه كان له بيت في داره لم يدخله أحد غيره، وكان إذا خرج من داره للمسجد يتبرقع ولا يرى أحد وجهه ولا يكشف عن وجهه ألا إذا دخل المسجد، ثم إذا رجع إلى داره عاد إلى ستر وجهه حتى يدخل لخلوته، وقد سألت الشيخ رضي الله عنه عن سبب ستر وجهه عن الناس فأجاب رضي الله عنه قال: لعله بلغ مرتبة في الولاية، فإن من بلغها يصير كل من رأى وجهه لا يقدر على مفارقته طرفة عين، وإن فارقة أو احتجب عنه مات لحينه" (¬1) . ¬

(¬1) 1/26.

نسب التجاني: ويقول عن نسب التجاني حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما يزعم دائماً: " ولم يكتف بما هو مذكور من الآباء والأجداد والرسوم وإخبار الأعيان والآحاد، حتى سأل سيد الوجود وعلم الشهود صلى الله عليه وسلم في كل نفس مشهود، عن نسبه، وهل هو من الأبناء والأولاد ومن الآل والأحفاد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: أنت ولدي حقاً أنت ولدي حقا أنت ولدي حقا، كررها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وقال له صلى الله عليه وسلم: نسبك إلى الحسن بن علي صحيح" (¬1) . التجاني يرى الأنبياء كلهم: أورد علي حرازم عدة روايات تثبت رؤية التجاني للرسول محمداً صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن أحكام كثيرة في الفقه وعن الجمع بين بعض الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبه عن كل سؤال بغاية التلطف، ثم التقى بموسى وسأله كذلك عن بعض الأسئلة وأجابه عنها ثم قال علي حرازم: " فانظر رحمك الله أحوال هذا الشيخ مع صفوة الله من خلقة" (¬2) . المشابهة بين التجاني حال سكره وبين النبي صلى الله عليه وسلم حال تلقيه الوحي: يقول علي حرازم: " لا يزال تظهر عليه الغيبة في حال ظهور صحوه فضلاً عن حال ظهور سكره.. وكذلك يظهر عليه رضي الله عنه من آثار جذبه وقوة حاله أمور أخرى، كعظم جثته، وامتلاء بدنه، وتهلل وجهه، وثقل الأمر عليه حتى لا يستطيع حركة" (¬3) . ونتذكر هنا ما كان يقع للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول ¬

(¬1) 1/26. (¬2) ص 47. (¬3) ص50.

الوحي وتلقي الأمر الإلهي. التجاني يعلم الغيب لكل أمر مهما كانت دقته ويعلم ما في قلوب أصحابه: يقول في هذا: "ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية ... من إظهار مضمرات وإخبار بمغيبات وعلم بعواقب الحاجات ... فيعرف أحوال قلوب الأصحاب ... ويعرف ما هم عليه ظاهراً وباطناً وما زاد وما نقص" (¬1) . الاسم الأعظم وموقف التجاني منه: قال علي حرازم: "قال سيدنا رضي الله عنه: أعطيت اسم الله العظيم الأعظم صيغاً عديدة، وعلمنى كيفية أستخرج بها ما أحببت من تراكيبه"، ثم أعطاه أيضاً الاسم الخاص بعلي رضي الله عنه فقال: "قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: وهذا الاسم الخاص بسيدنا علي، لا يعطى إلا لمن سبق عند الله في الأزل أنه يصير قطباً" وفى هذا الكلام الذي لا عقل له أمور: 1- ما هو الاسم الخاص بعلي غير علي بن أبى طالب؟ 2- كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي " سيدنا علي" كما هو ظاهر النص؟ وأما بالنسبة لثواب الاسم الذي أعطيه التجاني، فأقله ما يذكره علي حرازم بقوله: "قال الشيخ رضي الله عنه، حاكياً ما أخبره به سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) ص 54.

فإنه يحصل لتاليه في كل مرة سبعون ألف مقام في الجنة، في كل مقام سبعون ألفاً من كل شيء في الجنة ... وله في كل مقام سبعون حوراً، وسبعون نهراً من العسل، وكلما خرج من فمه هبطت عليه أربعة من الملائكة المقربين، فكتبوه من فيه ... وله في كل مرة ثواب جميع ما ذكر به الله على ألسنة جميع خلقه في سائر عالمه، وله في كل مرة ثواب ما سبح به ربنا على لسان كل مخلوق، من أول خلق العالم إلى آخره، وله ثواب صلاة الفاتح لما أغلق (¬1) بتمامها، ستة آلاف مرة لكل مرة منه، وله ثواب سورة الفاتحة، وله ثواب من قرأ القرآن كله، أعنى بكل مرة أجر ختمة. وله في كل مرة من تلاوته ثواب كل دعاء وقع في الوجود، وكل ما تلاه التالي تلته معه جميع ملائكة عوالم الله بأسرها، وكل ملك يتلوه بجميع ألسنته، فإن من الملائكة من له سبعون لساناً ومنهم من له ستون لساناً" (¬2) ، وخوفاً أن يمل القارىء فسأقف هنا، وإلا فإن النص قد استغرق ست صفحات في جواهر المعاني، كلها في مضاعفة الأجر لمن تلا دعاء التجاني، الذي علمه به الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى مقابلته له يقظة لا مناماً. أوراد التجاني: أورد علي حرازم في كتابه جواهر المعاني أوراداً عديدة- لا يتسع المقام لذكرها- عن شيخه التجاني، بأسلوب ركيك ومعان متنافرة هابطة مملة. رؤية التجاني: من رأى التجاني فهو في الجنة. قال علي حرازم: "قال رضي الله عنه: ¬

(¬1) وسيأتي أن صلاة الفاتح لها من الأجر ما لا يتصوره عقل. (¬2) ص 72.

أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً؛ قال لي: أنت من الآمنين، وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان، وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب" (¬1) . ثواب صلاة الفاتح: ليس من السهل كتابة كل ما ذكره التجاني لفضل صلاة الفاتح؛ وذلك لكثرة ما أورده التجانيون، غير أننا سنكتفى بمثال واحد من تلك الترهات المفتراه، قال التجاني عن نفسه: "ثم أمرني صلى الله عليه وسلم للرجوع إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر من كل دعاء كبيراً أو صغيراً، ومن القرآن ستة آلاف مرة.." إلى أن يقول: "قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: إن صلاة الفاتح لما أغلق بستمائة ألف صلاة، وكل صلاة من الستمائة ألف صلاة بأربعمائة عزوة، ثم قال بعده صلى الله عليه وسلم: إن من صلى بها أي بالفاتح لما أغلق.. إلخ مرة واحدة حصل له ثواب ما إذا صلى بكل صلاة وقعت في العالم، من كل جن وإنس وملك ستمائة ألف صلاة، من أول العالم إلى وقت تلفظ الذاكر بها، أي كأنه صلى بكل صلاة ستمائة ألف صلاة من جميع المصلين عموماً ملكاً وجناً وإنساً، وكل صلاة من ذلك بأربعمائة غزوة، وكل صلاة من ذلك بزوجة من الحور وعشر حسنات ومحو عشر سيئات ورفع عشر درجات، وأن الله يصلي عليه وملائكته بكل صلاة علي عشر مرات" (¬2) . ¬

(¬1) ص 109. (¬2) ص 114-115.

وقد أضاف محمد السيد التجاني إلى تلك الخيالات في فضل صلاة الفاتح خيالات أخرى قال فيها: "وصلاة الفاتح التي هي من الله كتبت بحروف مستقيمة بكل لسان تفهمه من لسان العربية، فوق رأسه، وهي تاجه وعزه وملكه، وبها فضل على سائر خلق الله، وبها تثبتت خلافته في الدنيا والآخرة، وبها ظهرت الحقيقة المحمدية كل الظهور، وبها ثبتت الحقيقة المحمدية في محراب القدس. وبها أعز الله دينه وبها ظهرت مقامات الدين كلها، وبها فضلت هذه الأمة وصارت وسطاً، وبها قوام الأرواح والأشباح، وبها ظهرت التكاليف، وبها برزت الجنة ونعيمها، وبها ساد سيدنا محمد غيره ممن دونه من الأنبياء والمرسلين، وبها تعرف جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام. وبها نظام الكائنات، وفيها روح الموجودات وحياتها، وبها شرفت الأنبياء والملائكة، وبها ظهرت محاسن الأخلاق المحمدية، وهي التي شرف الله بها النبي صلى الله عليه وسلم، وشرفها بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي مرتبته وحقيقته صلى الله عليه وسلم. وهي أول الصلوات التي ظهرت من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من قلوب العارفين، فإن الله جل جلاله هو الذي صلى عليه؛ أي تجلى فيه بكمال ذاته مراتبه وأسمائه وصفاته، وذلك التجلي هو عين تشريفه وإعزازه وتفضيله على سائر الخلائق؛ لأنه لم يتجل في أحد بكمال ذاته إلا فيه صلى الله عليه وسلم.." (¬1) إلى آخر هذه العجائب والغرائب التي لا مستند لها إلا الخيال والأماني الفارغة، وإلا فهل يوجد في الشريعة الإسلامية دليل واحد على تلك الخزعبلات والتهويلات؟! ¬

(¬1) الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص23.

خاصية صلاة الفاتح: قال الشعراني: "وخاصية صلاة الفاتح لما أغلق.. الخ، أمر إلهي لا مدخل للعقول فيه، ولو قدرت مائة ألف أمة، في كل أمة مائة ألف قبيلة، في كل قبيلة مائة ألف رجل، وعاش كل واحد منهم مائة ألف عام يذكر كل واحد منهم في كل يوم ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من غير صلاة الفاتح لما أغلق، وجميع ثواب هذه الأمم كلها في مدة هذه السنين كلها في هذه الأذكار كلها، ما لحقوا كلهم ثواب مرة واحدة من صلاة الفاتح لما أغلق، فلا تلتفت لتكذيب مكذب (¬1) ". الشيخ الواصل يرى الله علانية في كل وقت مع انتفاء الغير والغيرية بينهم: قال الشعراني: " اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب عنه بقوله: " أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقيناً، فإن الأمر أوله محاضرة: وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة: وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة: وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية، ثم معاينة: وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عيناً وأثراً، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق فلم يبق إلا الله لا شيء غيره. فلا ثم موصول ولا ثم واصل (¬2) ". وفعل الأولياء للفواحش علانية إنما هو تخيل من الناظر، أو من باب ستر حال الولي، بعد أن رأوا عامة الناس لا هم لهم إلا قضاء رغباتهم، فأحب ¬

(¬1) ص 117. (¬2) ص 135.

الأولياء الصوفية عند ذلك ألا يظهروا أنفسهم للعامة، فاحتجبوا عنهم بارتكاب تلك الفواحش في الظاهر. قال علي حرازم: "فلما عرف العارفون ما في العامة من هذا الأمر احتجبوا عن العامة وطردوهم بكل وجه وبكل حال ... فخلط العارفون عليهم بوجوه من التخليط استتاراً عن العامة بإظهار أمور من الزنا، والكذب الفاحش، والخمر، وقتل النفس، وغير ذلك من الدواهي التي تحكم على صاحبها أنه في سخط الله وغضبه، والأمور التي يقتحمها العارفون في هذا الميدان إنما يظهرون صوراً من الغيب لا وجود لها في الخارج إنما هي تصورات خيالية، يراها غيرهم حقيقة فيفعلون في تلك الصور أموراً منكرة في الشرع، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً فاستتروا بذلك من العامة حفظاً لمقامهم" (¬1) . وهكذا فعل الزنا وشرب الخمور وغيرها من الفواحش لا حقيقة لها، حتى وإن ثبت أن الصوفي يفعلها، فإنما ذلك خيال، وما أكثر ما يثبت عن هؤلاء من فعل الفواحش، حتى في البهائم، كما يثبت الشعراني ذلك في طبقاته عن علي وحيش، الذي يترضى عنه الشعراني كما هي عادته في الترضي عن أولئك الفجار؟! دعاء تجاني في طلب الاتصاف بالألوهية؟!: "ومن أدعيته رضي الله عنه، مما أملاه علينا ونصه رضي الله عنه: اللهم حققني بك تحقيقاً يسقط النسب، والرتب، والتعينات، والتعقلات، والاعتبارات، والتوهمات، والتخيلات؛ حيث لا أين، ولا كيف، ولا ¬

(¬1) ص 137.

رسم، ولا علم، ولا وصف، ولا مساكنة، ولا ملاحظة، مستغرقاً فيك بمحق الغير والغيرية، بتحقيقي بك من حيث أنت بما أنت وكيف أنت؛ حيث لا حس ولا اعتبار إلا أنت، بك لا عنك منك" (¬1) . مباسطة البسطامي مع ربه كما يرويها التجاني لتلميذه علي حرازم: أنه قال: "إن أبا يزيد باسطه الحق في بعض مباسطته قال له: يا عبد السوء! لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة، فقال له: وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد، فقال له: لا تفعل، فسكت" (¬2) . إهانة للقرآن الكريم: "فإذا عرفت هذه الحيثية، عرفت أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لمثل أهل هذا الوقت، أفضل لهم من تلاوة القرآن" (¬3) . السر في وجود هذا الكون ومصدره: "قال سيدنا رضي الله عنه: ما خلق الله لنفسه إلا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، والباقي من الوجود كله مخلوق لأجله صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه خلق سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما خلق شيئاً من العوالم" (¬4) . ¬

(¬1) ص 146. (¬2) ص 153. (¬3) ص 154. (¬4) ص 173.

تلاعب بمعاني النصوص: أورد علي حرازم، عن شيخه وسيده التجاني، نصوصاً كثيرة في تفسير القرآن الكريم وبعض الأحاديث، فسرها بمحض الهوى والجهل والتخبط والقول على الله بغير علم في جرأة عاتية. الحلول والاتحاد: قال التجاني: "فهو سبحانه وتعالى مع كل شيء بذاته، وأقرب إلى كل شيء بذاته، من وجه لا يدركه العقل" (¬1) . وقال: "اعلم أن أذواق العارفين في ذوات الوجود، أنهم يرون أعيان الموجودات كسراب بقيعةٍ ... الآية- فما في ذوات الوجود كله إلا الله سبحانه وتعالى، تجلى بصورها وأسمائها وما ثم إلا أسماؤه وصفاته، فظاهر الوجود صور الموجودات وصورها وأسماؤها ظاهرة بصورة الغير والغيرية ... " إلى أن يقول: "فإذا رأيت ما يظهر من صور الموجودات، على اختلاف أحواله وتباين أشكاله وتشتيت أموره من مذمومة ومحمودة، فما فيها إلا تجليات الحق سبحانه وتعالى" (¬2) . الولاية والألوهية وهل يوجد فرق بينهما أولا؟ عند التجاني: 1- معرفة الولي أصعب من معرفة الله. ¬

(¬1) ص 215. (¬2) 1/350.

2- لو كشف عن حقيقة الولي لعُبد. قاله المرسي. 3- وأمري بأمر الله إن قلت: كن، يكن. قاله الجيلاني. 4- يا ريح اسكني عليهم بإذنى (¬1) . قال علي حرازم: " فأجاب رضي الله عنه بقوله: "وحقيقة الولي أنه يسلب من جميع الصفات البشرية ويتحلى بالأخلاق الإلهية ظاهراً وباطناً ... " إلى أن يقول: " ومعنى قوله: لو كشف عن حقيقة الولي لعبد؛ لأن أوصافه من أوصاف إلهه ونعوته من نعوته؛ لأنه ينسلخ من جميع الأوصاف البشرية كما تنسلخ الشاة من جلدها، ويلبس خلعة الأخلاق الإلهية"". تملك أقطاب الصوفية للكون بتفويض من الله لهم: يقول حرازم عن شيخه: "قال رضي الله عنه: معنى ذلك أن الله ملكهم الخلافة العظمى واستخلفهم على مملكته تفويضاً عاماً أن يفعلوا في المملكة كل ما يريدون، وملكهم الله تعالى كلمة التكوين، متى قالوا للشيء: كن، كان من حينه"، فأي إلحاد بعد هذا من هؤلاء الذين يترضى عنهم علي حرازم. الصلاحيات للولي أعلى من الصلاحيات للنبي: قال: "وسألته رضي الله عنه عن قولهم: إن دائرة الولي أوسع من دائرة النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب رضي الله عنه بقوله: المراد بالولي أولياء هذه الأمة فقط ... إلى أن قال: ¬

(¬1) تلك النصوص في 2/67.

"الرسول ليس له عموم الأمر والنهي إلا ما سمعه من مرسله سبحانه وتعالى، لا يزيد وراء ذلك شيئاً، وإنما هو في ذلك مبلغ فقط؛ ليس بآمر ولا ناه، إلا أن يكون الرسول خليفة، فله المرتبة الأولى، فالخليفة الولي أوسع دائرة في الأمر والنهي والحكم من الرسول الذي ليس بخليفة" (¬1) . حقيقة القطبانية تمتد قدرتها بامتداد ما وصلت إليه الألوهية وتحجبها أيضا: قال علي حرازم: "وسألته رضي الله عنه عن حقيقة القطبانية، فأجاب رضي الله عنه بقوله: اعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة وتفصيلاً، حيثما كان الرب إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً ما كان من الحق إلا بحكم القطب" (¬2) . رغبة الصوفية في تجهيل الخلق بربهم ونسيانهم لذكره ليصفو لهم وحدهم: قال التجاني: "المحبة الصادقة هي التي تورث الغيرة لصالحبها، قيل للشبلي رضي الله عنه: متى تستريح؟ قال: إذا لم أر له ذاكراً غيرى، وقال: أبو يزيد رضي الله عنه لصاحبه حين قال له: وهل سألته المعرفة به؟ قال له: اسكت، غرت عليه ¬

(¬1) 2/79. (¬2) 2/81.

من أن يعرفه غيرى. التوحيد عند التجانية يقتضي شعور الشخص أنه هو الله لا فارق بين ذاته وذات المولى عز وجل وأن ينسى جسمية نفسه تماماً: قال حرازم: "سألت سيدنا رضي الله عنه عن هذا التوحيد، فأجاب رضي الله عنه عن التوحيد: هو توحيده لنفسه بنفسه عن نفسه، وهذا التوحيد لا سبيل إليه إلا بالفناء، قال الجريري رضي الله عنه: كل إشارة أشار بها الخلق إلى الحق فهي مردودة عليهم حتى يشيروا إلى الحق بالحق. أراد بهذا الذي ذكرناه هو عرو النسب حيث تنطمس النسب في الذات ... قال الشبلي حين دخل عليه رجل قال له: ما تريد؟، قال له: أسأل عن الشبلي، قال له: مات لا رحمه الله (¬1) . كلمات غامضة صوفية: التجلي الأول: هو الله عز وجل. التجلي الثاني: هو ظهور محمد صلى الله عليه وسلم قبل الخلق حسب زعمهم. التجلي الأخير: هو ظهور آدم، ويسمى أيضاً اللباس الأخير (¬2) . حمق وخرافة: يقرر التجاني أن الأنبياء لم يخرجوا من أمهاتهم من المحل المعتاد للولادة، ¬

(¬1) 2/97. (¬2) 2/100.

وإنما يخرجون من تحت سرة أمهاتهم تنزيهاً لهم، ثم أخذ يدلل على هذه الخرافة بما تمجه الأسماع (¬1) . نزول الوحي على القطب من الله لكن بواسطة الحقيقة المحمدية وإن رآه من الله فقد خدع ولبس عليه: قال: "وما ذكر من أن العقل يأخذ العلم عن الله بواسطة، فإنه نفي الواسطة المشهورة، لا يشهد واسطة بينه وبين الحق أصلاً، لكنها موجودة في نفسها غير مشهودة له، وهى الحقيقة المحمدية، فإنه لا مطمع لأحد في درك حقيقتها فضلاً عن مشاهدتها، فإنها أخفى من السر الخفي، فإنه يرى نفسه يأخذ العلم عن الله بلا واسطة، وما برز له ذلك العلم إلا من الحقيقة المحمدية من حيث لا يراها، وإن رآه من الله فإنه مغطى عليه بحجاب التلبيس، فهذا معنى أخذ العلم عن الله بلا واسطة" (¬2) . شكوى علماء الصوفية من علماء المسلمين في حجزهم عن الإتيان بما تأت به الأنبياء: قال علي حرازم: "قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: لولا علماء الظاهر- أو كما قال- لأتت الأولياء عن الله بما أتت به الانبياء" (¬3) . ¬

(¬1) 104/105. (¬2) 2/107. (¬3) ص 108.

معنى قول الشيخ الضال ابن عربي: من وحد فقد ألحد واعتبارهم التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلحاداً: قال علي حرازم عن شيخه التجاني: "وسألته رضي الله عنه عن معنى قول الشيخ الأكبر: من وحد فقد ألحد فأجاب رضي الله عنه بقوله: معنى الإلحاد هو الخروج عن الجادة المستقيمة، فإن العارف إذا وحد بتوحيد العامة فقد ألحد، والعامي إذا وحد بتوحيد العارف فقد ألحد يعني كفر". التجاني يعرف أنفاس الإنسان وخواطره بغض النظر عن طول عمره أو قصره: قال: "وسألته رضي الله عنه عن عدد أنفاس الإنسان، فأجاب رضي الله عنه بقوله: عدد أنفاس الإنسان أربعة وعشرون ألفاً، نصفها داخل ونصفها خارج، وأما الخواطر فعددها سبعون ألف خاطرة، تخطر كل يوم على القلب حتماً لا يتخلف منها واحد" (¬1) . القطب الصوفي لا يستطيع أن يسمع كلام الناس بعد أن يسمع كلام الله له إلا بعد فترة نقاهة وسماعه لكلام الله أعلى من سماع الأنبياء له: قال: "ثم قال سيدنا رضي الله عنه: من فتح عليه في هذا الأمر العظيم والنعيم الجسيم، لا يقدر أن يسمع كلام الخلق إلا إذا اعتزل ثلاثة أيام يذكر الله، فحينئذ يقدر على سماع كلامهم، وإن لم يفعل ما ذكر، فإنه مهما سمع كلامهم يتقيأ لقبحه بالنسبة للذة ما سمع من كلام الحق، وسماع كلام الله لمن سمعه لا بأذن فقط بل بجميع أجزاء ذاته كلها، حتى يصير كل ذرة من ذاته ¬

(¬1) ص110.

تلتذ مثل جميع ذاته بكمالها" (¬1) . الجنة في نظر الصوفية لا قيمة لها: قال: "ومن كلامه رضي الله عنه قال: كل العارفين في شغل عن الله تعالى؛ لأنهم بقي لهم ضرب من حظوظهم، إلا أهل التجلي الأكبر الذين لا حظ لهم في الجنة، فإنهم عنده سبحانه وتعالى مقيدون في حضرة قربه، وواصلهم بما لا تحيط العقول وصفه ... فإن، هؤلاء لا التفات لهم إلى الجنة ونعيمها ولا عبرة لهم بها أوجدت أم عدمت" (¬2) . والبديل لها عند الصوفية هو النظر إلى المشائخ والجلوس بين أيديهم بكل الخضوع والتذلل؛ ولهذا يقول محمد السيد التجاني في كتابه الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ناقلاً عن مشائخ الصوفية: "الجلوس بين يدي ولي قدر ما تحلب فيه شاة أفضل من عبادة ألف سنة" (¬3) . وعلى المسلمين ألا يجتهدوا في طلب ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر فقط، بينما الجلوس أمام شيخ صوفي كالدجاجة، داجن في زاويته المظلمة حساً ومعنى، خمس دقائق، خير من عبادة ألف سنة، فهل بعد هذا السفه للنفس والحمق المردي حمق أو سفه؟ كيفية خلق هذا الكون عند الصوفية: يقول: "ومن كلامه رضي الله عنه قال: أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة ¬

(¬1) 2/111. (¬2) ص 131. (¬3) الهادية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص20.

الغيب هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم نسل الله أرواح العالم من روحه صلى الله عليه وسلم، الاجسام النورانية كالملائكة ومن ضاهاهم". وأما الأجسام الكثيفة الظلمانية فإنما خلقت من النسبة الثانية من روحه صلى الله عليه وسلم، فإن لروحه صلى الله عليه وسلم نسبتين أفاضها على الوجود كله؛ فالنسبة الأولى نسبة النور المحض ومنه خلقت الأرواح كلها والأجسام النورانية التي لا ظلمة فيها، والنسبة الثانية من نسبة روحه صلى الله عليه وسلم نسبة الظلام ومن هذه النسبة خلق الأجسام الظلمانية كالشياطين وسائر الأجسام الكثيفة والجحيم ودركاتها، كما أن الجنة وجميع درجاتها خلقت من النسبة النورانية، فهذه نسبة العالم كله إلى روحه صلى الله عليه وسلم. أما الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم فهي أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب، وليس عند الله من خلق موجود قبلها (¬1) . فالملائكة والشياطين والجنة والنار - بل والكون كله - مخلوق من روح محمد صلى الله عليه وسلم، فأين العقول التي تصدق بمثل هذا الفحش والإهانة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، أن تكون الشياطين والجحيم وغيرهما - مما نص عليه التجاني - مخلوقة من روح محمد صلى الله عليه وسلم، كبرت كلمة تخرج من فمه. تطاول التجاني على الصحابة وكل من جاء بعدهم: قال التجاني في كتابه إلى أهل الأغواط: "وأقول لكم إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء، ولا يقاربه من صغر ولا من كبر، وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى ¬

(¬1) ص135.

النفخ في الصور، ليس فيهم من يصل مقامنا ولا يقاربه؛ لبعد مرامه عن جميع العقول وصعوبة مسلكه على أكابر الفحول" (¬1) . تصرف التجاني في الجنة: جاء كذلك في كتابه إلى أهل الأغواط بالمغرب يقول لهم: "ولم أقل لكم ذلك حتى سمعته من الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقاً، وليس من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا، إلا أنا وحدي" (¬2) . عدوان الصوفية بعضهم على بعض وطلب كل صاحب طريقة العلو على الآخرين: سأل رجل من أهل فاس بالمغرب التجاني عن الدائرة الشاذلية وأسمائها وخواصها وفضائلها، فأجابه التجاني بقوله: "اعلم أن التمسك بما في كتب أهل الخواص من دائرة الشاذلية رضى الله عنه: أسماء الله، والحروف، والجداول، كله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ما في جميعها إلا التعب والطمع الذي لا يوجد فيه قليل من الفائدة ولا جدوى من الفائدة" (¬3) . الصوفي له قوة الخلاق العظيم كما يرى التجاني: قال علي حرازم تحت عنوان "سر شريف": ¬

(¬1) ص166. (¬2) ص166. (¬3) ص168.

"قال سيدنا رضي الله عنه: إذا تجلى الله لسر عبد، ملكه جميع الأسرار، وألحقه بدرجة الأحرار، وكان له تصرف ذاتي؛ متى توجهت إرادته لأي خارق كان انخراق له في الحين، إلا أن بعضهم يضيف لها كلمة كن وبعضهم بمجرد الإرادة" (¬1) . ومعنى هذا التطاول الغريب أن الله تعالى "إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون"، أما هؤلاء فإذا أراد أحدهم شيئاً تكفيه مجرد الإرادة لإيجاده وإذا أضاف إليها "كن" فلا حرج عليه عند بعضهم، فكلمة "كن" عندهم إنما هي مجرد إضافة عارضة. مزايا التجاني لم يصلها أحد من البشر بل ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل: كل من أخذ وردنا وداوم عليه إلى الممات، أنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب هو ووالداه وأزواجه وذريته (¬2) . وكذلك من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الاثنين يدخل الجنة بغير، حساب ولا عقاب (¬3) . والسبب في تخصيص يوم الجمعة والاثنين بحصول هذا الفضل العظيم، لمن نظر إلى وجهه الذي عليه غبرة، هو اعتقاده أن الجمعة خلق آدم والاثنين خلق فيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن هنا حصل له هذا الفضل العظيم في هذين اليومين اللذين وقع فيهما الفرع أفضل من الأصل على ميزان التجاني المعكوس. ¬

(¬1) ص170. (¬2) ، (3) ص170. (¬3) ص180.

جفاء وعتو ونفور عن الله تعالى وحمق مركب: مدح التجاني أبا عُبيدة الخواص بقوله: "وله منذ أربعين سنة ما رفع رأسه إلى السماء حياءً من الله تعالى، وهذا هو حياء العارفين" (¬1) . أذكار وأدعية بعبارات متكلفة غامضة وأساليب ركيكة مرذولة: قال علي حرازم: "وأول ما نبدأ به ذكر الصلوات التي أملاها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيضه الشريف يقظة على شيخنا أبى العباس.. الأولى سماها شيخنا رضى الله عنه ياقوتة الحقائق في التعريف بحقيقة سيد الخلائق، ونصها: الله الله الله اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت العالي في عظمة انفراد حضرة أحديتك التي شئت فيه بوجود شؤونك ... اللهم برتبة هذه العظمة وإطلاقها في وجد وعدم، أن تصلي وتسلم على ترجمان لسان القدم اللوح المحفوظ والنور الساري المحدود.. لله لله لله آه أمين، هو هو هو آمين" (¬2) . ذلك هو الدعاء الأول وما يحمله من هذيان يبعث على الاشمئزاز والنفور. أما الدعاء الثاني فقد جاء فيه قوله، وبعباراته المتكلفة التي تخفى وراءها قبائح وجِهلاً شنيعاً - قال: ¬

(¬1) (¬2) ص216.

"وهي أيضاً من إملائه صلى الله عليه وسلم لشيخنا يقظة، وهي: اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني، ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني، البرق الأسطع بمزون الأرياح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني ... اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروس الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم ... إحاطة النور المطلسم" (¬1) . وما أدري من أين يأتي الخشوع في مثل هذا الدعاء الذي هو أقرب إلى الألغاز والهذيان. وجاء في نص الدعاء الثالث: "اللهم صل وسلم على عين ذاتك العلية ... عبدك القائم بك منك لك إليك، بأتم الصلوات الزكية، المصلي في محراب عين هاء الهوية، فصل اللهم عليه صلاة كاملة تامة بك ومنك وإليك وعليك ... وتب علينا بمحض فضلك الكريم في الصلاة عليه" (¬2) . وقد شرح علي حرازم تلك الأدعية فكان كمن أراد أن يكحلها فأعماها حيث جاء هو الآخر بكلمات أغمض من النص بغرض أن تلك الأدعية وشرحها تحمل علماً لا يعرفه إلا هؤلاء العباقرة. وقد شرح وصف التجاني للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه اللوح المحفوظ فقال: "قوله: اللوح المحفوظ" اعلم أن اللوح المحفوظ هنا هو نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ص216. (¬2) ص217.

وتشبيهه هنا صلى الله عليه وسلم باللوح المحفوظ يسمى عند المتكلمين تشبيه التسامح، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أكبر وأوسع من اللوح المحفوظ بأضعاف مضاعفة؛ لأن غاية علوم اللوح وما سطر فيه إنما هو منشأ العالم إلى النفخ في الصور فرداً فرداً بلا شذوذ. وأما ما وراء ذلك من أحوال يوم القيامة وأحوال الشؤون والأمور والاعتبارات واللوازم والمقتضيات كلها ليس في اللوح المحفوظ منه شيء إلا أمور قليلة، مثل فلان يعمل كذا وكذا من الأعمال وجزاؤه في جنة الخلد، أو جنة النعيم، أو جنة المأوى له فيها كذا وكذا، وفلان يعمل كذا وكذا من الشر، ومستقره في الدرك الثانية أو الثالثة، وهكذا هو قليل بالنسبة لأحوال الجنة والنار وأحوال يوم القيامة. وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه جمع في حقيقته المحمدية كل ما أحاط به علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد من علوم المخلوقات بأسرها ومعرفة مقتضياتها ولوازمها (¬1) . المراتب الصوفية يبينها خليفة التجاني علي حرازم بقوله: المرتبة الأولى: مرتبة الاستهتار بذكر الله تعالى حتى يقع صاحبها في الذهول عن الأكوان، والطمأنينة بذكر الله تعالى مستغرقاً جميع أوقات دهره، وهم الأولياء. المرتبة الثانية: لباس الحلة الملكية، وهي فوق هذه المرتبة؛ وهي أن يتصف صاحبها بأحوال الملائكة (¬2) . ¬

(¬1) ص239. (¬2) ومن أحيل علي مليء فليحتل وقد صدق من قال: "الجنون فنون"

المرتبة الثالثة: وهى فوق هذه، وهى لباس الحلة الإلهية؛ لا تذكر ولا يعلمها إلى من ذاقها، وصاحبها هو الذي يطلق عليه اسم الصديق فهي ضرب من النبوة، أو هي النبوة بعينها، وهم العارفون والصديقون (¬1) . وتفسيره بأنها النبوة خداع وجبن عن إظهار الحقيقة؛ إذ أن هذه المرتبة "لباس الحلة الإلهية التي لا يعرفها إلا من ذاقها" تفيد معنى الألوهية، إلا أنه لم يصرح بهذا لئلا يكشف الحقيقة فتظهر حقيقتهم الإجرامية. جوهرة الكمال: يسميها التجانيون صلاة جوهرة الكمال، وهى التي قدمنا منها، وأولها "اللهم صل وسلم علي عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة ... " الخ (¬2) . قال على حرازم في أول كلامه في شرحها: "الحمد لله الذي فتق من كنه الغيب رتق الكائنات، وجعل أصلها ونشأتها نور حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكان أصل الموجودات، فأوجد منها بقدرته القدسية وكلمته الأزلية فطرة آدم وجعل شكله صورة العالم وعلمه الأسماء كلها، وجعله من جميع البرية خلاصتها وصفوتها، وأخرج من عنصره الأرواح والذرية والأشباح (¬3) ، واختار منها صفوة الأنبياء والرسل والأولياء بالرسالة والولاية ... " (¬4) إلى آخر ما جاء به من عجائب الحمق. ¬

(¬1) ص249. (¬2) انظرها: 2/216. (¬3) انظر إلى تعمق هؤلاء في الباطنية (¬4) ص254.

خواص صلاة جوهرة الكمال: زعم التجانيون أن لهذه الصلاة أو الدعاء خواص لا يقدر لها قدر، ولا أظن أحداً لم تدنس الصوفية فطرته يصدقها، قال: "وذكر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم خواصاً منها: 1- أن المرة الواحدة تعادل تسبيح العالم ثلاث مرات. 2- أن من قرأها سبعاً فأكثر، يحضره روح النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة، ولا يموت حتى يكون من الأولياء، وقال الشيخ رضي الله عنه: من داوم عليها سبعاً عند النوم، على طهارة كاملة وفراش طاهر، يرى النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) . إلى أن قال: "فإنه لولا وجوده صلى الله عليه وسلم ما كان وجود لموجود أصلاً من غير الحق سبحانه وتعالى ... فإنه لولا هو صلى الله عليه وسلم ما خلق شيء من الأكوان، ولا رحم شيء منها لا بالوجود ولا بإفاضة الرحمة" (¬2) . ثم قال: " تنبيه شريف: اعلم أنه لما خلق الله الحقيقة المحمدية، أودع فيها سبحانه وتعالى جميع ما قسمه لخلقة، من فيوض العلوم والمعارف والأسرار، والتجليات والأنوار، والحقائق بجميع أحكامها ومقتضياتها ولوازمها، ثم هو صلى الله عليه وسلم الآن يترقى في ¬

(¬1) ص255. (¬2) ص256.

شهود الكلمات الإلهية، مما لا مطمع فيه لغيره، ولا تنقضي تلك الكمالات بطول أبد الآباد" (¬1) . وتظهر الطلاسم واضحة في هذا الدعاء التجاني العجيب الغريب المسمى بحزب البحر، قال محمد السيد التجاني: "مقصد حزب البحر التعوذ والبسملة، وبه نستعين، وبه الحلول والقوة، رب سهل ويسر، ولا تعسر علينا يا ميسر كل عسير أبت خدذ رزط ظكل منص صعغ فقس شهولاي لا إله إلا الله عشراً، ثم صلاة الفاتح عشراً، ويرفع يديه إلى السماء، ويقرأ فاتحة الكتاب مرة بنية ما يريد، ثم البسملة الله الرحمن الرحيم، يا الله يا عليّ.. الخ" (¬2) وقد ذكر دعاءً يقوله من أراد أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وفي آخره يبخر بالعود أو الجاوي على طريقة الشعوذة والسحرة. ثم ذكر دعاء آخر لجلب الغنى ودفع الفقر. ثم ذكر دعاء لكيفية خاصة من جوهرة الكمال تقوم مقام اللطيف الكبير، هكذا وبهذا الأسلوب. إلى أن ذكر الطامة الكبرى وهي في قوله الآتي: "كيفية من الصلوات تسمى مهر السر والحور، وعين الفتح والنور، من أكثر من تلاوتها يرى رب العزة في المنام، ولا يفارقه رسول الله وروح القدس أبداً " (¬3) وأحب ألا أذكر تلك الأدعية، لأنزه سمع وبصر القارئ عن حشو ¬

(¬1) ص264. (¬2) الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص25. (¬3) المصدر السابق ص 25، 26.

ذهنه بخزعبلات الصوفية وخرافاتهم، ومن تناقضاتهم أن يأتوا بدعاء لجلب الغنى ودفع الفقر، وهم لا يحبون الدنيا كما يزعمون، ويحبون الفقر ويجعلونه من أشرف الأسماء لديهم. وأما زعمهم رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ورؤية المولى عز وجل والاتحاد به، فهي ديدنهم وعليها قام دينهم. الخضوع لأقطاب التصوف: يجب الخضوع التام لأقطاب التصوف وترك الأفكار عليهم في أي شيء، يقول الفوتي في كتابه: "رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم" هامش جواهر المعنى: "اعلم أن المنكر على الأولياء ساقط من عين الله وهالك في الدنيا والآخرة وأنه في لعنة الله ومحاربته" (¬1) ، ويقصد بأولياء الله هنا أقطاب التصوف. فليعتصم المريد بشيخه وليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورد ولا صدر، ولا يبقى في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ، أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب (¬2) ، إلى أن قال: "ولا اعتراض بأن يكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله، وقد قال من قال لشيخه: لمَ؟ فإنه لا ينتفع به" (¬3) . التصدر للمشيخة خطر عظيم إلا بإذن شيخ صوفي: يقول الفوتي: "قلت التصدر للشيخوخة بغير إذن شيخ كامل الخطر جداً، لأنه يكون سبباً لسوء الخاتمة، وإن لم يتب فاعله فلا يموت إلا كافراً" (¬4) . ¬

(¬1) 1/51. (¬2) رماح ص 103. (¬3) رماح ص 105. (¬4) ص 110.

الاتصاف بالله وتهوين الفاحشة: ذكر الفوتي أن أحد المريدين طلب من شيخه أن يدله على الله فقال له: اتصف بصفة من صفات الله تعالى، فاختار الصدق، ثم ارتكب جريمة زنا، وحين سأل أجاب بقوله: نعم، فسجنه الوالي لظنه أنه مجنون، فشفع فيه بعضهم فأخرج من السجن بفضل صدقه كما يزعم. وقد صاغها الفوتي بأسلوب مزخرف مطول يهون الجريمة بدلاً من التنفير عنها (¬1) ، وذكر الفوتي في رماحه قصصاً كثيرة جداً كلها تهدف إلى طاعة المشائخ طاعة عمياء، لا اعتراض ولا جدال، حتى ولو أمر الشيخ المريد بفعل الفواحش وقتل النفوس فعليه التنفيذ، لأنه لا يعرف الحكمة من وراء ذلك إلا الشيخ. منها: أن بعض المشائخ أمر مريداً له بقتل والده، فجاء المريد بالليل ووالده عند أمه فاحتز رأسه وجاء به إلى الشيخ، فلما عرف صدق إيمان المريد كشف له عن الرأس، فإذا هو ليس والد المريد وإنما كان علجاً في حال غياب أبيه، جاء الشيخ الوحي بذلك. ثم ذكر قصصاً كثيرة حول هذه الطاعة، ثم عقب بذكر قصص أخرى تفيد أن التلميذ لا ينبغي أن يشك في شيخه حتى ولو رآه يشرب الخمر ويزني ويقتل النفوس، وقد دخلت على أحد المشائخ امرأة ولكنها الدنيا تصورت في صورة امرأة ثم دخلت عليه. إلى آخر ما ذكر من أمثال هذه الفواحش بأسلوب سافر لم أذكره بنصه، لأولئك الذين سماهم أولياء، والذين قال عنهم بعد ذلك: ¬

(¬1) ص 114.

"الشيخ هو الولي الكامل في قوله كالنبي في أمته، وأن مبايعته كمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لكونه نائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم" (¬1) . ومن هنا فإنه ينبغي على المريد: "أن يرى استمداده من شيخه هو استمداده من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نائبه" (¬2) . "فعلم أن كل من لم يعتقد في شيخه أنه أشفق عليه من نفسه، وأنه لا يأمر قط بترك شيء إلا ليعطيه أنفس منه، فمحبته نفاق" (¬3) . وذكر أن الشيخ لو طلب إلى أحد مريديه أن يطلق زوجته، أو يأتي بنصف ماله، أو منعه من وظائفه ومصالحه فأبى، لكان دل على نفاق أيضاً. ولعل في ذكر الآداب التي ينبغي على المريد أن يمتثلها، أقوى تصوير لمدى هيمنة شيوخ الصوفية على أتباعهم، ومدى الغبن والذل اللذين يلحقان بأولئك القطعان من أتباع رهبان الصوفية، وقد ذكر الفوتي منها ما يلي: 1- تعظيم الشيخ وتوقيره ظاهراً وباطناً، وعدم الاعتراض عليه في شيء فعله، ولو كان ظاهره أنه حرام، وعدم الالتجاء لغيره من الصالحين. 2- ألا يقعد وشيخه واقف. 3- ولا ينام بحضرته إلا بإذنه، في محل الضرورات، ككونه معه في مكان واحد. 4- ألا يكثر الكلام بحضرته ولو باسطه. 5- وألا يجلس على سجادته. ¬

(¬1) ص 126. (¬2) ص 126/127 (¬3) ص 128

6- ولا يسبح بسبحته. 7- ولا يجلس في المكان المعد له. 8- ولا يلج عليه في أمر. 9- ولا يسافر. 10- ولا يتزوج. 11- ولا يفعل فعلاً من الأمور المهمة إلا بإذنه. 12- ولا يمسك يده للسلام ويده مشغولة بشيء، كقلم أو أكل أو شرب، بل يسلم بلسانه، وينظر بعد ذلك ما يأمره به. 13- ولا يمشي أمامه ولا يساويه، إلا بليل مظلم، ليكون مشيه أمامه صوناً له عن مصادمة ضرر. 14- وألا يذكره بخير عند أعدائه، خوفاً من أين يكون وسيلة لقدحهم فيه. 15- وأنه يحفظه في غيبته كحفظه في حضوره. 16- وأنه يلاحظه بقلبه في جميع أحواله سفراً وحضراً لتعمه بركته. 17- وألا يعاشر من كان الشيخ يكرهه، أو من طرده الشيخ عنه. 18- وأن يحب كل من أحبه الشيخ، ويكره كل من يكرهه الشيخ. 19- وأن يرى كل بركة حصلت له من بركات الدنيا والآخرة فببركته. 20- وأن يصبر على جفوته وإعراضه عنه.

21- وأن يحمل كلامه على ظاهره فيمتثله إلا لقرينة صارفة. 22- وألا يتجسس على أحوال الشيخ من عبادة أو عادة، فإن في ذلك هلاكه. 23- وألا يدخل عليه خلوة إلا بإذن. 24- ولا يرفع الستارة التي فيها الشيخ إلا بإذن وإلا هلك. 25- وألا يزور الشيخ إلا وهو على طهارة، لأن حضرة الشيخ حضرة الله تعالى. 26- وأن يحسن الظن به في كل حال. , 27- وأن يقدم محبته على محبة غيره ما عدا الله ورسوله. 28- وألا يكلفه شيئاً، حتى لو قدم من سفر لكان هو الذي يسعى ليسلم على الشيخ، ولا ينتظر أن الشيخ يأتيه للسلام عليه. 29- وألا يكتم عن الشيخ شيئاً مما يخطر له. 30- وألا يعترض عليه فيما يكون منه. 31- وألا ينظر في أفعال الشيخ، ولا يعتدى أمر شيخه، ولا يتأول عليه كلامه. 32- ولا يطلب علة للأمر الذي يأمره به، بل يبادر إلى امتثال ما أمره به، سواء عقل معناه أو لم يعقل.. ومتى تأول على الشيخ ما أمره به، أو يقول: تخيلت أنك أردت كذا، فليعلم أنه في إدبار، فليبك على نفسه. 33- ولا يلبس ثوباً لبسه شيخه إلا إذا كساه الشيخ إياه.

34- ولا يسأله عن شيء سؤال من يطلب الجواب منه، بل يجب عليه أن يقص ما وقع له، فإن أجابه كان وإلا فلا، وإن وصف ذلك على أن يجيب الشيخ فقد جعله سؤالاً، وإذا جعله سؤالاً فقد أساء الأدب. 35- ولا يخون شيخه في أمر مأمور به. 36- ومن شرط المريد أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، إن غسل عضواً من أعضائه قبل آخر أو حركه أو تصرف فيه كيف يشاء، فلا يخطر عليه خاطر اعتراضه. 37- ولا يجلس بين يديه إلا مستوفزاً كجلوس العبد بين يدي سيده. وذكر شروطاً إلى أن قال: 38- ولا يقعد مقعداً حيث كان إلا ويتيقن أن الشيخ يراه، فليلزم ذلك. 39- ولا يديم النظر إليه، فإن ذلك يورث قلة الأدب والحياء، ويخرج الاحترام من القلب. 40- ولا يكثر مجالسته. 41- ولا يقضي لأحد حاجة حتى يشاوره فيها. 42- وإن طلق امرأة فمن الأدب ألا يتزوجها. 43- ولا يدخل عليه متى دخل عليه إلا قبل يديه وأطرق. 44- ويتحبب إليه بامتثال أمره ونهيه. 45- وليكن حافظاً شحيحاً على عرضه. 46- وإذا قدم إليه طعاماً فليلقه أمامه بجميع ما يحتاج إليه، وليقف خلف

الباب فإذا دعاه أجابه وإلا فليتركه حتى يفرغ، فإذا فرغ أزال المائدة، فإن بقي شيء من طعامه وأمره بالأكل فليأكل، ولا يؤثر بنصيبه أحداً. 47- ويجتهد ألا يراه إلا فيما يسره، ولا يتمن عليه، وليحذر مكر الشيوخ فإنهم يمكرون بالطالب، فليحافظ على أنفاسه في الحضور معه. 48- ومن شرط المريد ألا يرد على الشيخ كلامه، ولو الحق بيد المريد. 49- الاعتراض على الشيخ حرام على المريدين وقوعه، فهذا مريد مسخر للشيطان. 50- ومن شرط المريد إذا وجهه شيخه في أمر أن يمضي لأمره، من غير تأمل ولا توقف ولا يصرفه عنه صارف، حتى قال بعض الشيوخ لبعض المريدين: أرأيت لو وجهك شيخك في أمر فمررت بمسجد تقام فيه الصلاة، فما تصنع؟ فقال: امضي لأمر الشيخ ولا أصلي حتى أرجع إليه، فقال له: أحسنت. 51- ومن شروط المريد الوفاء بكل ما يشترط عليه الشيخ سواء كان صعباً أو سهلاً، وليس للمريد أن يعترض على الشيخ في شيء ... فإنهم قالوا: الاعتراض على الشيوخ سم قاتل. وإن رأيت من الشيخ ما يتراءى عندك أنه غير مشروع فاتهم نفسك. الولي ينظر إلى باطن المريد ولا عبرة عنده بظاهره.

كل ما يفعله الولي من الأعمال التي تعينه في الظاهر، إنما يكون بسبب معاصي الناس المريدين له، وإلا ما حصل له ذلك، ولو كانوا أصحاب خير وبر لرأوا كل ما يفعله حسناً (¬1) . ولقد تركت ذكر آداب وشروط كثيرة واجبة لمشائخ الصوفية بإيجاب النبي صلى الله عليه وسلم لها، على حد افتراء هؤلاء الكاذبين سراق عقول البشر، الذين لا يهمهم أن يدوسوا كرامة الإنسان بأرجلهم. ولقد ظهر للقارئ الكريم من خلال ما قدمنا من الآداب التي تطلب من المريد - وهي في الحقيقة أغلال - ما يبعث على الأسى والحزن على أولئك الذي أصبحوا ضحايا الجشع الصوفي، ولقد كنت أتحرق غيظاً في أثناء كتاباتي لهذا الدجل الصوفي التجاني وتشويههم لصورة الإسلام السمحة، واستبعادهم لهؤلاء البله والعوام من المسلمين، إلى حد أنهم يشترطون عليهم أن يروا المنكرات التي يفعلها المشائخ، من الزنا، وبيع الحشيش، وسائر أنواع المنكرات - أن يروا ذلك إما أنهم يفعلونه لحكمة لا يعلمها إلا هؤلاء الأقطاب، أو بسبب معاصي الناس، أو أنها صور تخيل للشخص وليست حقيقية، فأي لصوصية هذه وأي استهتار بكرامة الإنسان؟! قارن يا أخي المسلم بين من يدخل الإسلام ومدى ما يشعر به من كرامة لنفسه، حين يقال له: أنت الإنسان المكرم الذي سخر لك الله ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، أنت أكرم على الله من السموات والأرض، أنت خليفة الله في هذه الأرض (¬2) ، إلى غير ذلك من تعاليم الإسلام، وبين تعاليم هؤلاء اللصوص ¬

(¬1) انظر لتلك الأقوال: رماح الفوتي 1/94 - 140. (¬2) أي في عمارتها وإحيائها إلى الأجل المسمى ولا يصح ما يتوهم بعض الناس من أن الإنسان نائبا عن الله في الأرض فإن الله تعالى لا ينوب عنه أحد من خلقه.

المحترفين، حين يشترطون على الداخل في الإسلام على طريقتهم أن يرمي نفسه أرضا لا حراك به، كالميت بين يدي الغاسل، وإذا قدم لشيخه أكلاً أن يقف وراء الباب، ثم يأكل بعد ذلك ما يبقى بعد شبع شيخه الجشع الذي لا يسال عما يفعل. لقد سد كهنة التصوف كل منفذ لعودة عقل الإنسان إلى الصواب وكبلوه بسلاسل وأغلال لا انفكاك له منها إلا إذا تداركته رحمة الله تعالى، ولهذا نجد أن من خرج عن طرقهم الفاسدة يكاد يصعق حين تذكر له. تثليث صوفي: يقول الفوتي: "فإن المريد لا يجيء منه شيء حتى لا يكون بقلبه غير الشيخ، والله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم" (¬1) ، الشيخ، الله، الرسول. تشريع جديد لأقطاب التصوف: "ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيه أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات ومحرمات ومكروهات وخلاف الأولى" (¬2) . تثبيت الفرقة بين المسلمين وإحكام قبضتهم على أتباعهم وحجرهم عليهم: يقول علي حرازم: "وأما أتباعه رضي الله عنه-أي التجاني- فقد أخبره ¬

(¬1) 1/153. (¬2) ص158.

سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أن كل من أحبه فهو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون ولياً قطعاً، وأمره أن ينهي أصحابه عن زيارة الأولياء، الأحياء منهم والأموات، وكل من زار منهم ينسلخ عن طريقته.."، إلى أن يقول: "ويجب على الشيخ ألا يترك أصحابه يزورون شيخاً آخر، ولا يجالسون أصحابه، فإن المضرة سريعة للمريدين" (¬1) . "وسمعت سيدي علياً المرصفي يقول: لا ينبغي لمريد أن يزور ولا يزار، لغلبة الآفات عليه" (¬2) . تحكم على الله وترهيب للأتباع: "حكى القشيري في رسالته أن شقيقاً البلخى وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد، وقدمت السفرة وشاب يخدم أب يزيد، فقال شقيق: كل معنا يا فتى!، فقال أنا صائم، فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله، فأخذ الشاب بعد مدة وقطعت يده بسرقة" (¬3) . مبدأ باطني وهو التبني الروحي كما يسمونه: قال الفوتي: "الفصل الثالث والعشرون في إعلامهم بأن الوالد المعنوي الذي هو الشيخ أرفع رتبة وأولى بالبر والتوقير، وأحق رعاية، وآكد دراية، وأقرب حسباً، وأوصل نسباً من الوالد الحسي" (¬4) ، ثم جاء في هذا الفصل ¬

(¬1) ص159. (¬2) ص160، وفي رسالة القشيري 2/176. (¬3) ص 160. (¬4) ص161.

بكل طامة إلى أن قال أكاذيب ترددها النصوص الصحيحة والفطر السليمة في دور المشائخ الصوفية في يوم القيامة، منها: "وأيضا يدعو المريدين بأسماء مشائخهم - أي في يوم القيامة - ويدعوهم إلى منازلهم، ودعاؤهم في ذلك اليوم الشديد الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت بأسماء المشائخ دون أسماء الآباء والأمهات يكفي دليلاً على ارتفاع رتبة المشيخة التي هي الولادة المعنوية، على رتبة الولادة الجسمية" (¬1) . جزاء المشايخ: ومن هنا فجزاء المشائخ لا يكاد يبلغه أحد، وقد أوصله كهنة التصوف إلى مرتبة فوق مرتبة الأنبياء حسب قولهم الآتي: "والله لو وقف المريدون على الجمر بين يدي أحد أشياخهم منذ خلق الله الدنيا إلى انقضائها، ولم يقوموا بواجب حق معلمهم، في إرشادهم إلى إزالة تلك الموانع التي تمنعهم من دخول حضرة الله: (¬2) قالوا: "ومن نسب تلميذاً إلى غير أستاذه، كمن نسب ولداً إلى غير أبيه" (¬3) . العشق والغرام في المذهب الصوفي وأكاذيبهم في ذلك: "روى السهرودي بسنده أنا النبي صلى الله عليه وسلم قال حاكياً عن ربه: إذا كان الغالب إلى عبدي الاشتغال بي، جعلت همه ولذته في ذكري، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري عشقني وعشقته، ورفعت له الحجاب فيما بيني وبينه ولا يسهوا إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال الأبدال حقاً، ¬

(¬1) ص 162. (¬2) ص 165. (¬3) ص 165.

أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم" (¬1) . وهذا الحديث بلا شك أنه من جنس الأحاديث التي يرويها الصوفي عن قلبه عن ربه مباشرة، دون أن يعلم بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم. متى يسقط ذكر الله تعالى عند الصوفية، فلا يعود لذكر الله وجود في حقهم؟: يقول الفوتي: "قلت: وإذا كثر العبد ذكر ربه باللسان حصل له الحضور، وإذا حصل له كثرة الذكر مع الحضور، صار الحق مشهودة، وهناك يستغني عن ذكر اللسان ... لأن حضرة شهود الحق سبحانه حضرة بهت وخرس، يستغني صاحبها في الجمعية بالمدلول، فقد استغنى العبد عن الدليل فافهم" (¬2) . ويوضح المقصود من الكلام السابق، قوله عما يجده الشخص في ميدان التصوف، في كفره الآتي: "وفي هذا الميدان ينمحي الذاكر والذكر ويصير حالة أن لو نطق قال: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لاستهلاكه في بحار التوحيد، وهذه المرتبة هي آخر مراتب الذكر وصاحبها صامت جامد لا يذكر ولا يتحرك" (¬3) . وإذا ذكر الله بلسانه في هذه الحال، فإنه يعتبر في حقه ذنباً وفي هذا ¬

(¬1) ص 169. (¬2) ص 171. (¬3) ص 172.

الحال المعكوس يقول: بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس السرائر والقلوب فترك الذكر أفضل كل شيء ... وشمس الذات ليس لها غروب (¬1) زاد الله ذنوبهم وطمس سرائرهم، انظر كيف تلاعب الشيطان بهم حتى أصبح ذكر الله يزيد ذنوب الإنسان، ويطمس سريرته وقلبه، لأن الأولى به حين يصل إلى تلك المرتبة أن يترك كل شيء، ولاتحاده التام بالله تعالى؛ حيث تصبح ذاته لا غروب لها بعد ذلك. مستند الصوفية في وجدهم ورقصهم: قال الفوتي: "قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه، فإذا انضم إلى هذا القيام رقص أو وجد ونحوه، فلا إنكار عليهم، فإن ذلك من لذات الشهود والمواجيد، وقد ورد في بعض طرق الحديث رقص جعفر بن أبي طالب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له: أشبهت خلقي وخلقي، من لذة هذا الخطاب، ولم ينكر عليه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا أصلاً في الجملة في رقص الصوفية ووجدهم" (¬2) . ومما يدركه طلاب العلم أن هذا القول مملوء بالمغالطة والكذب، فأين اهتزاز جعفر وخفته في حال سماعه قول الرسول صلى الله عليه وسلم، من رقص الصوفية وتمايلهم طرباً الذي لا يمت إلى الخشوع بأدنى قرابة، وبذكر لا يورث أيضا أي خضوع ولا ذكر للآخرة، مثل ما يذكره الفوتي بقوله في تعداد أنواع ذكرهم ¬

(¬1) ص 172. (¬2) ص 179.

وقال: "فلا حرج على الذكار ما دام مسلوب الاختيار ويستعمله كيف شاء على أنواع مختلفة كلها محمودة وصاحبها مشكور عليها، فلها أسرار، فربما يجري على لسانه الله الله الله، أو هو هو هو، أو لا لا لا لا لا لا لا، أو آآ آآ بالمد، أو أأ أأ أأ بالقصر، أو اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ، أو ها ها ها ها ها ها ها ها، أو ... عياط بغير حرف أو صراخ وتخبيط، فأدبه في ذلك الوقت أن يسلم نفسه لوارده يتصرف فيه كيف يشاء" (¬1) . ولك أيها القارئ اللبيب أن تتصور الصوفي وهو يترنح يميناً وشمالاً وهو يصرخ هو هو هو، أو لا لا لا لا لا لا لا، أو أأ أأ، أو ها ها ها ها ها ها ها ها ها، أو بغير تلك الصفات الهوجاء، بأن يكون عياطا بغير حرف، أو كان ذكره أن يصرخ، أو تخبط كالذي مسه الشيطان، فكيف تتصور النتيجة، إنها مآس تقشعر لها الجلود، إن هذا عار على الإسلام والمسلمين، بل عار على العقل والإدراك، إنك لو اطلعت عليهم وهم يرددون هو هو هو - ولم تكن تعرف التصوف من قبل - لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً. ذكر الله وصفة طبية محتكرة على أقطاب الصوفية وبرضاهم: "اعلم أن الذكر المأخوذ عن غير شيخ، أو عن شيخ غير مفتوح عليه عارف، هلاك صاحبه أقرب من سلامته، ولا سيما أسماء الله تعالى"؛ وسبب ذلك يبينه أحد كهنة الصوفية - وهو عبد العزيز الدباغ - بقوله: "الأسماء الحسنى لها أنوار من أنوار الحق سبحانه، فإذا أردت أن تذكر الاسم، فإن كان مع الاسم نوره الذي يحجب من الشيطان وأنت تذكره لم يضرك، وإن لم ¬

(¬1) ص 180.

يكن مع الاسم نوره الذي يحجب من الشيطان، حضر الشيطان وتسبب في ضرر العبد والشيخ إذا كان عارفاً وهو في حضرة الحق" (¬1) . رؤية الثعلبي: من رأى الثعلبي أحد أقطاب الصوفية دخل الجنة. اجتمع أحمد التجاني بالشريف الحسني التهامي فقال له: "سمعت أن لك مزية عظيمة فقال له: ما هي؟ قال له: من رآك يدخل الجنة، قال: نعم، إلا أن المزية ليست لي، فقال له شيخنا: لمن هي، قال: للشيخ الثعلبي؛ لأن من رآه ومن رأى من رآه إلى سبعة أو ثمانية، أو اثني عشر إنساناً يدخل الجنة، وأنا رأيت من رأى من رآه" (¬2) . وقال كذلك الثعلبي أنه قال: "من رآني إلى سبعة ضمنت له الجنة" (¬3) . الأولياء والنبي صلى الله عليه وسلم: الأولياء يرون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، حسب زعم الفوتي في قوله: "الفصل الحادي والثلاثون في إعلامهم أن الأولياء يرون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأنه صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض والملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته ولم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله أنا يراه عبد، رفع الحجاب فيراه على ¬

(¬1) ص 286. (¬2) ص 193. (¬3) ص 193.

هيئته التي كان هو عليها" (¬1) . وجاء في الباب بما لا يتصوره عقل سليم من مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ومقابلتهم له، وأخذهم عنه علوماً وفوائد، وغير ذلك مما لا نرى التطويل بذكره، وفوق ما تقدم يذكر الفوتي أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر الديوان الصوفي، وقد أطال في أخبار هذا الديوان والترتيب الذي يسيرون عليه حينما يحضر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حينما يتغيب، قال في أول ذلك الكلام: "قلت: ولا ينكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة إلا من لا شعور له بمقامات العارفين ولا اطلاع له على ديوان الصالحين، فها أنا ألخص لك شيئاً من ذلك" (¬2) . وقال الله من هذا التلخيص الذي هو أشبه ما يكون بحكايات ألف ليلة وليلة، إلا أن تلك الحكايات لألف ليلة وليلة لا تصل إلى عشر الأكاذيب التي ساقها أقطاب التصوف في تفاصيل ذلك الديوان الغريب، الذي يحضره الأولياء والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أحيانا يحضره الأنبياء كلهم ويحضره أيضا الأموات، ويعرفون بعلامات في لباسهم وكلامهم (¬3) ، وأخبار أخرى إذا قرأها العاقل حمد الله على نعمة العقل والدين. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر الديوان الصوفي فقط، وإنما يحضر أيضاً- حسب أكاذيب الصوفية - صلاة جوهرة الكمال، حسبما يقرره محمد السيد التجاني في كتابه الهداية الربانية؛ حيث يقول: ¬

(¬1) ص 210. (¬2) انظر رماح الفوتي ص 212: 214. (¬3) انظر رماح الفوتي ص 212: 214.

"وكذلك يحضر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الأربعة، والشيخ، ومع عدد عظيم من صفوة الملائكة في الوظيفة السابعة من الجوهرة إلى الاختتام، ويشفع في جميع الحاضرين شفاعة خاصة تلحقهم، وتلحق السابع من أولاده ولو لم يكن فقيراً، إن حضرها بمحبة في الذكر وأهله، ولو لم يعرف خاصيتها، بل يحضر النبي صلى الله عليه وسلم لكل من قرأها في غير الوظيفة حتى يختم، ولو سار عمره ما فارقه صلى الله عليه وسلم صباحاً أو فقيراً أو تلميذاً، وهذا أغرب من كل غريب تفضل به الحق سبحانه على أهل هذه الطريقة لا غير" (¬1) . ولئن كان محمد السيد التجاني، قد كذب في أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وتلك الصفوف من الملائكة يحضرون، فإنه قد صدق حين قال عن كل ما ذكره سابقاً: "وهذا أغرب من كل غريب"، نعم إنه في منتهى الغرابة، فأي عقل سليم يصدق مثل ذلك الهراء السمج، والكذب على الله، وعلى نبيه، وعلى خيار الصحابة. ولقد ذكرني كلامه بموقف مر علي حيث وقفت أمام بائع في حانوته- دكانه - وقد كتب عليها لوحة كبيرة هذا عنوانها "من يصدق؟! خصم خمسين في المائة! " فقلت له: نعم، لا أحد يصدق - وأنا أولهم - أنك تخصم خمسين في المائة فضحك وقال: "الناس لا يفهمون غير ما فهمته". أمثلة مختصرة من مزاعم التجاني يذكرها الفوتي، وفيها من المبالغات تزكية النفس وإطرائها ما لا يليق بمخلوق: منها قوله: 1- قد أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني أنا القطب المكتوم، منه إلى مشافهة ¬

(¬1) الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص 21.

يقظة لا مناماً. 2- لا يشرب ولي، ولا يسقي إلا من بحرنا، من نشأة العالم إلى النفخ في الصور. 3- إذا جمع الله خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته حتى يسمعه كل من في الموقف: يا أهل المحشر! هذا إمامكم الذي كان مددكم منه. 4- قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: قدمي هذا على رقبة كل ولي لله تعالى - يعني أهل عصره - وأما أنا فقدماي هاتان - وجمعهما - على رقبة ولي لله تعالى من لدن أدم إلى النفخ في الصور. 5- هذا القرن أفضل من جميع ما تقدمه من القرون السالفة سوى القرون الثلاثة الوارد النص بأفضليتها (¬1) . ثم ذكر الفوتي فضائل من تمسك بطريقة التجاني نوردها ليقف القارئ على مدى الهوس والأماني الفارغة التي أقام الصوفية مذهبهم عليها: 1- أن جده صلى الله عليه وسلم ضمن لهم أن يموتوا على الإيمان والإسلام. 2- أن يخفف الله عنهم سكرات الموت. 3- لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم. 4- أن يؤمنهم الله من جميع أنواع عذابه وتخويفه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة. 5- يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم وما تأخر منها. ¬

(¬1) انظر: 2/4 - 36.

6- أن يؤدي الله عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم. 7- ألا يحاسبهم الله تعالى يوم القيامة ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل والكثير. 8- أن يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة. 9- أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة العين على كواهل الملائكة. 10- أن يسقيهم الله تعالى من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. 11- أن يدخلهم الله الجنة بغير حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى. 12- أن يستقرون في عليين وجنة الفردوس وجنة عدن. 13- أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب كل من أحب التجاني. 14- أن محب التجاني لا يموت حتى يكون ولياً. 15- أن أبوي آخذي ورده وأزواجه وذريته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو لم يكن لهم به تعلق. 16- أن التجانيين تلاميذ للنبي صلى الله عليه وسلم وأحباب الله. 17- أن أصحاب التجاني يعتبرون صحابيين مثل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. 18- أن أي أذية لأي تجاني تعتبر أذية للرسول صلى الله عليه وسلم. 19- أن الإمام المهدي في آخر الزمان يأخذ عنهم ويدخل في زمرتهم ويطلب أن يعلموه الفاتحة.

20- أن كل واحد من التجانيين أعلى من أكبر ولي من الأولياء ممن عداهم. 21- في الأذكار التي أعطيها التجاني اسم الله الأعظم. 22- أن كل تجاني يحفظ الأذكار آمن من السلب. 23- أن الله تعالى يعطيهم عن كل عامل تقبل الله عمله الضعف في أجره وهم رقود. 24- لا يمر عليه ما يمر على سائر الناس من التعب في الموقف. 25- أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هو وخلفاؤه مع التجانيين دائماً. 26- يتميزون يوم القيامة عن سائر الناس بأن كل واحد منهم مكتوب بين عينيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قلبه مما يلي ظهره محمد بن عبد الله، وعلى رأسه تاج من نور مكتوب فيه الطريقة التجانية منشؤها الحقيقة المحمدية. 27- أن التجاني لا يعذب ولو قتل سبعين روحا إذا تاب بعدها. أقتصر على ما ذكر وإلا فإن الفوتي ذكر بعد ذلك مزايا تدل على سعة خياله وعدم خوفه من القول على الله بغير علم. ثم ذكر مزايا لأذكار الطريقة التجانية لا يستطيع الخلق حصرها ولو جائوا بكل أجهزة الآلات الحاسبة، واستدل على ذلك بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وكل المخلوقات في السموات والأرض ومن فيهن والعرش والكرسي والقلم واللوح المحفوظ - كلها خلقت من نور محمد صلى الله عليه وسلم، والأرواح كلها

كذلك من نوره صلى الله عليه وسلم. هذه الخرافات كلها يثبتها الفوتي في رماحه تبعاً لمفاهيم الصوفية الضالة، ويثبت أن الله قبل كل شيء ليس معه إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الملائكة وجبريل في أولهم إنما خلقوا لخدمة محمد صلى الله عليه وسلم (¬1) . تلاعب التجانية بتفسير القرآن الكريم: "أنه صلى الله عليه وسلم عين الرحمة الربانية؛ لأن جميع الوجود رحم بالوجود بوجوده صلى الله عليه وسلم، ومن يفيض وجوده أيضا رحم جميع الوجود؛ فلهذا قيل فيه: عين الرحمة صلى الله عليه وسلم وهو المراد بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2) . وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لَلْعَالَمِينَ} (¬3) " (¬4) . الصوفية باطنية ويفضلون العلوم الباطنية على العلوم الإسلامية: تسائل الفوتي على لسان شخص: ما الفائدة من الالتجاء إلى علم الشريعة - أي علم الظاهر - مع أن الحقيقة أي العلم الباطني أفضل؟، ثم أجاب عن ذلك، وصيغة السؤال والجواب هي: "فإن قلت: فلم لا يكتفي الإنسان بعلم الباطن المسمى علم الحقيقة، فيعمل بها حيث كانت هي المقصودة بالذات، فلم يقدم على الظاهر المسمى بالشريعة التي هي الوسيلة؟ "، قم قال في الجواب: "قلت: اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن علم الشريعة الذي هو علم الظاهر وسيلة إلى المقصود بالذات ¬

(¬1) انظر: انظر: ص118 - 120. (¬2) سورة الأعراف: 156. (¬3) سورة الأنبياء: 107. (¬4) ص127.

الذي هو علم الحقيقة كما ذكرت، وعلم الحقيقة افضل وأشرف منه، إلا أن الانتفاع بعلم الحقيقة منوط باستصحاب علم الشريعة"، ونقل عن عبد العزيز بن مسعود الدباغ قوله: "إن علم الظاهر بمثابة الفنار الذي يضيء ليلاً، فإنه يفيد في ظلمة الليل فائدة جليلة. وعلم الباطن بمثابة طلوع الشمس وسطوع أنوارها وقت الظهيرة" (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) ص147.

الفصل الثامن الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية

الفصل الثامن الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية أورد الفوتي في رماحه المعوجة، إيضاحات كثيرة لهذه الخلوات الصوفية تحتاج إلى دراسة مستقلة، ولئلا يفوت القارئ بعض أخبارها فإنني سأكتفي بإيجاز بعض ما قرره فيها كهنة الصوفية، الذين أسهموا بجهد كبير في تنويم الأمة الإسلامية وتأخرها، وتخدير كل عرق نابض فيها حتى وصلت إلى ما وصلت عليه، ومما لا يزال أقوى شاهد على تلك الجهود ما هو حاصل بين المسلمين في عصرنا الحاضر. الدليل على الخلوات الصوفية حسب زعمهم: يستدلون بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - ... " إلخ الحديث (¬1) . يقول الفوتي: "فهذا الحديث المنبئ عن بدء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في إثبات المشائخ للخلوة لمريد من الطالبين" (¬2) . ¬

(¬1) انظر: صحيح البخاري مع الفتح 1/22. (¬2) انظر: ما كتبه الفوتي ص161 -168، وقد ذكرت ذلك هنا بتصرف.

والجواب: 1- أن هذا الحديث بينه وبين الخلوة الصوفية فراق لا لقاء معه، فإن خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانت لتحبيب الله عز وجل له ليهيئه لحمل الأمانة العظمى. 2- كانت قبل أن يؤمر بتبليغ الناس الدين الإسلامي، 3- لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أشار إليها ولا استحسنها لأمته على الطريقة الصوفية. 4- لم يفعلها أحد من الصحابة ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان. 5- أنها تنافي ما هو ظاهر من الشريعة الإسلامية، بالاكتساب وبدعوة الناس ومخالطتهم، إلى غير ذلك من الأجوبة التي يدركها طلاب العلم. والخلوة الصوفية بدعة مستحدثة، وليس فيها أي نفع لا للشخص ولا للمجتمع، يخرج منها مظلم الفكر محلاً للوساوس نافراً عن الناس. مدتها: يقول الفوتي: "وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى صلى الله عليه وسلم، والقصد في الحقيقة الثلاثون؛ إذ هي أصل المواعدة وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهراً".

شروط الخلوة الصوفية: ذكر الفوتي ستة وعشرين شرطاً لصحتها نذكرها باختصار، وللقارئ أن يلاحظ أثناء عرضها مدى تغلغل الأفكار المخالفة للإسلام فيها، من بوذية وهندوسية ونصرانية وغير ذلك: 1- أن يعود نفسه قبل دخولها إذا أراد الشروع، السهر والذكر وخفة الأكل والعزلة. 2- أن يكون دخول الخلوة بحضور الشيخ ومباركته له وللمكان أيضاً. 3- أن يعتقد في نفسه أن دخوله الخلوة إنما هو بقصد أن يستريح الناس من شره. 4- أن يدخلها كما يدخل المسجد مبسملاً متعوذاً بالله تعالى من شر نفسه، مستعيناً مستمداً من أرواح مشايخه بواسطة شيخه المباشر. 5- أن يدخل الشيخ الخلوة ويركع فيها ركعتين قبل دخول المريد ويتوجه إلى الله تعالى في توفيق المريد. 6- أن يعتقد عند دخوله الخلوة أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فكلما يتجلى له في خلوته من الصور، ويقول له: أنا الله، فيقل: سبحان الله! آمنت بالله. 7- ألا يتلهف كثيراً على كثرة ظهور الكرامات. 8- أن يكون غير مستند إلى جدار الخلوة ولا متكئاً على شيء، مطرقاً رأسه تعظيما لله تعالى، مغمضاً عينيه، ملاحظاً قوله تعالى: أنا جليس من ذكرني، ثم يجعل خيال شيخه بين عينيه، فإنه معه وإن لم يره المريد.

9- أن يشغل قلبه بمعنى الذكر على قدر مقامه، مراعياً معنى الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه. 10- أن يداوم الصوم؛ لأنه يؤثر في تقليل الأجزاء الترابية والمائية فيصفو القلب. 11- أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخل فيها شعاع الشمس وضوء النهار، فيسد على نفسه طرق الحواس الظاهرة، وسد طرق الحواس الظاهرة شرط لفتح حواس القلب. 12- دوام الضوء لتلألأ الأنوار فيها بعد ذلك. 13- دوام السكوت إلا عن ذكر الله تعالى إلا عند الضرورة القصوى فيتكلم بحذر شديد أن يزيد. 14- أن تكون الخلوة بعيدة عن حس الكلام وتشويش الناس عليه. 15- كونه إذا خرج للوضوء والصلاة يخرج مطرقاً رأسه إلى الأرض غير ناظر إلى أحد، ويحذر كل الحذر نظر الناس إليه، مغطياً رأسه ورقبته بشيء؛ لأنه ربما يحصل له عرق الذكر فيلحقه الهواء فيضره. 16- أن يحافظ على صلاة الجمعة والجماعة - وإن وجد نفقة فليتخذ له شخصاً يصلى معه في خلوته؛ أي بالإيجار. وإذا خرج لصلاة الجماعة فليتأخر حتى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام فإذا انتهى من الصلاة رجع فوراً إلى خلوته , قال السهروري: "وقد رأينا من يتشوش عقله في خلوته ولعل ذلك لشؤم إصراره على ترك صلاة الجماعة.

17- المحافظة على الأمر الوسط في الطعام لا فوق الشبع ولا الجوع المفرط. 18- ألا ينام إلا إذا غلبه النوم بأن تشوش عليه الذكر. 19- نفي الخواطر عن نفسه خيره كانت أم شريرة. 20- دوام ربط القلب بالشيخ بالاعتقاد والاستمداد على وصف التسليم والمحبة، والاعتقاد التام بأنه لا يصل إليه أي خير إلا من قبل شيخه المباشر، ومتى غاب فكره عن الشيخ فقد خسر الصفقة. 21- ترك الاعتراض عن الشيخ؛ لأنه أعلم بمصالحه وأكبر عقلاً وأعظم؛ لأنه بالغ مبلغ الرجال بخلاف المريد. 22- أنهم في أثناء خلوتهم لا يفتحون أبواب خلوتهم لمجيء الناس وزيارتهم والتبرك بهم، وإياك وتلبيسات النفوس وخداع الشيطان بالإلقاء فيك أن هذا الشخص يهتدي بك وبكلامك وينتفع بملاقاتك في الدين، فإنها من شبكات مكر اللعين. 23- أنه إذا شاهدوا أشياء تقع لهم في اليقظة أو بين النوم واليقظة فلا يستقبحون ذلك ولا يستحسنونه، بل يعرضون ذلك على الشيخ وهو يتصرف بعد ذلك. 24- دوام الذكر والأذكار حسب ترتيب الشيخ لها. 25- الإخلاص وحسم مادة الرياء وطلب السمعة بالكلية. 26- ألا يعين مدة يخرج بعد كمالها، فإن النفس يصير لها بذلك تطلع

إلى انقضاء المدة، بل يدخلها وهو يحدث نفسه بأنه قد انتهى من الحياة ودخل القبر. هذه أهم الشروط التي لفقها علماء التصوف مثل حرازم الفوتي والسهروردي والشيخ نجم الدين البكري وغيرهم من عتاة التصوف. ولا شك أن القارئ يدرك تأثير هؤلاء الصوفية بالمبادئ الخارجة عن الإسلام، وكيف حاولوا أن يظهروها ويغطوها بغطاء إسلامي، وإلا فأين مستندهم من القرآن والسنة النبوية على تلك الرهبانية وتلك الخلوة، في ذلك الحفش المظلم، الذي يسد فيه أي شعاع للنور، ويجلس غير مستند على شيء؟ ‍!، هل هو من الإسلام؟ ‍!، وتلك الطاعة العمياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي لا ينبغي أن تكون إلا لله ولرسوله فقط، هل هي من الإسلام؟. إن كل ذلك جناية، على العقل أيما جناية وإذلال للمؤمن أيما إذلال، وإساءة لتعاليم الإسلام الحنيف وتشويه لصورته المشرقة عند من لا يعرفه. وزوجة الشيخ المطلقة لا يحق للمريد أن يتزوجها لقول الله في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه} (¬1) ، يقول الفوتي في بيانه لأقسام الناس بالنسبة لطاعة شيوخهم: "ومنهم من يتزوج مطلقة شيخه لولا قول الله تعالى: {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أَبَداً} (¬2) . ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 53. (¬2) ص199.

أقسام الخلوات الصوفية: 1- خلوة الأربعين يوماً التي تقدم ذكرها وشروطها. 2- خلوة فاتحة الكتاب، وكيفيتها أن تصوم أربعين يوماً وتحترز فيها من أكل الحيوان وما يخرج منه، وتقرأ هذا الدعاء.. إلى آخر ما يذكر، وهنا لا أظن أن الأمر يحتاج إلى اجتهاد في استكشاف نزعة التصوف الوثنية. 3- خلوة البسملة ومدتها تسعة عشر يوماً، ومن فاته سر بسم الله الرحمن الرحيم فلا يطمع أن يفتح عليه بشيء. 4- خلوة الفاتحة أيضاً وهي أن يلازم بقراءتها بالخلوة أربعين يوماً. 5- خلوة الياقوتة الفريدة، وخلوتها عشرون يوماً، تتلى كل يوم في الخلوة ألفي مرة. وقال الفوتي بعد ذكر تلك الخلوات الخرافية: "انتهى ما أردنا ذكره منها، ولكل واحد منها ثمرات لا يمكن حصرها، منعني من ذكر بعضها الخوف من شياطين الطلبة" (¬1) . ولعله يدرك أن هؤلاء الطلبة ربما لا يزال فيهم وميض من العقل والمعرفة، فأخر الأخبار بكل التفاصيل إلى وقتها. ولعل الذي شجع الصوفية على هذا الخبط والاضطراب، ما هو مقرر عندهم في القاعدة الآتية: "أصحاب الفتح الأكبر لا يتقيدون بمذهب من مذاهب المجتهدين، بل يدورون مع الحق عند الله تعالى أينما دار" (¬2) ، ولهذا ¬

(¬1) ص170. (¬2) ص171.

فكل عمل يعملونه يعتبر من باب التشريع للأمة. تثبيط الصوفية أتباعهم عن الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار وتسميتهم للجهاد بالجهاد الأصغر وتسميتهم لما يسمونه جهاد النفس بالجهاد الأكبر: قال الفوتي: "انعقد إجماع الأمة على وجوب جهاد النفس، والهجرة عن مألوفاتها وردها إلى الله تعالى، أكبر من جهاد الكفار بلا ريب، لوجوه (¬1) : 1- أحدها: أن جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها السيئة فرض عين وجهاد الكفار فرض كفاية. 2- أن النفس أعدى من كل عدو لصاحبها؛ لأن المجاهد جهاد الكفار إن قتل الكافر دخل الجنة، وإن قتله الكافر كان شهيداً، بخلاف النفس فإن غلبها صاحبها استولى عليها، وكان الحكم للروح وسعد وسعدت سعادة الأبد، ومن غلبت وتسلطت على الروح تسلط عليه الكفر والمعاصي فيهلك. 3- إن ضرر الكفار مقصور في الدنيا وهي فانية ولذلك كان جهادهم أصغر ... وفي عرائس البيان عند قوله تعالى: {يَا أًيُّهَا الًّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} (¬2) النفوس التي هي تجمع الهوى والبلاء والحجاب، من عرفها قاتلها وأمتها؛ يعنون الرياضات. 4- أن جهاد الكفار قد لا يكون فرضاً في بعض السنين، وجهاد النفس ¬

(¬1) نذكرها بتصرف انظر: ص217 إلى آخر الفصل الذي أورده وهو الحادي والخمسين. (¬2) سورة التوبة: 123.

وردها عن مقتضى هواها والهجرة عن مألوفاتها الباطلة واجب عين على كل مسلم ومسلمة في كل لحظة. 5- أن بعض فروض الكفاية أفضل من جهاد الكفار. 6- أن فرض جهاد الكفار يسقط بمنع الأمر والنهي من الوالدين، لوجوب طاعتهما، ويحرم طاعتهما في مجاهدة نفسه. 7- أن جهاد الكفار يقدر عليه كل أحد وجهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها ... لا يقدر عليه إلا الموفقين. 8- أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المخزية شهيد قطعاً في الآخرة، وأكثر شهداء الكفار شهداء الدنيا فقط دون الآخرة. 9- أن القائم بجهاد نفسه والهجرة عن مألوفاتها المضلة، قائم لإصلاح نفسه وساع في تخليصها من الدنيا وعذاب الآخرة، والقائم بجهاد الكفار قائم لإصلاح غيره 10- أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المبعدة عن الله تعالى أفضل من شهيد جهاد الكفار بدرجات. وهناك أقوال أخرى كثيرة لأقطاب التصوف في تثبيط المسلمين عن جهاد الكفار، وتركهم، والانزواء في الزوايا والأربطة ومجاهدة النفس وإصلاحها دون إصلاح الآخرين. ومن الواضح أن تلك التعليلات التي ذكرها الفوتي ويذكرها غيره من أقطاب الصوفية تعليلات واهية، تردها النصوص الكثيرة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه، كما في سورة براءة وكما في أحاديث فضل الجهاد والقتل في سبيل الله، وتمني الشهيد الرجوع إلى الدنيا مرة أخرى ليقتل في سبيل الله، ولما يرى من

إنعام الله ورضاه عنه. وزعم الصوفية أن جهاد النفس أولى مغالطة؛ فإن جهاد الكفار هو أعلى جهاد للنفس، وفضله أعلى وأشرف، ولو أن المسلمين أطاعوا الصوفية، وقبعوا في الزوايا المظلمة، وتركوا قتال الكفار, واهتموا بجهاد أنفسهم على طريقة الصوفية لجاء الكفار , ولكان أول ما يبدءون به هو إخراج هؤلاء الدواجن من زواياهم، ثم هتك أعراض المسلمين وأخذ بلدانهم وأموالهم وإذلالهم وإهانتهم. إن ما يذهب إليه هؤلاء الصوفية هو تخدير وتنويم للمسلمين. يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خدّه بدموعه ... فنحورنا يوم الكتيبة تخضب ومن الواضح أن أعداء الإسلام حينما ينظرون إلى الصوفية بعين الرضا والارتياح، فإنما ذلك لأجل هذه المواقف المتخاذلة التي وقفها أقطاب التصوف منهم، ولقد اتفقت دعوة الصوفية إلى ترك الجهاد مع كل الأفكار الخارجة عن منهج الله عز وجل؛ إذ ما من طائفة من تلك الطوائف إلا وكانت الدعوة إلى ترك الجهاد من أولويات اهتماماتهم. وأرجو من الله عز وجل أن يهيئ لدراسة الأفكار الصوفية المتقدمة دراسة وافية، ورد كل مزاعمهم التي فرقوا بها دينهم وأمتهم إلى وقتنا الحاضر. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل التاسع مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة "ألورن" في نيجيريا

الفصل التاسع مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة "ألورن" في نيجيريا وأما لجنة جماعة الصوفية في مدينة "ألورن" في نيجيريا فقد أرادوا تحسين الوجه الكالح للتجانية والقادرية أيضاً؛ حيث أخرجوا كتيباً باسم "رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات" (¬1) ، وقام بترتيبه الحاج محمد إبراهيم النفاوي القادري، والحاج علي أبو بكر جبتا التجاني. وقد صدروا هذا الكتيب بأبيات للحاج حمزة سلمان أبارغدرما الألوري ومنها: انتبهوا يا معشر الإخوان ... على فساد واعظي الزمان قد دخلوا في هذه البلدان ... لنصرة الإلحاد والشيطان وطعنوا في شيخنا التجاني ... وطعنوا في شيخنا الجيلاني إلى آخر تلك الأبيات التي يدافع بها عن التجانية ويحذر من دعوة المصلحين من المسلمين إلى رجوع التجانيين إلى الحق، وقد وصف هذه الدعوة الإصلاحية أنها نصرة للشياطين وللإلحاد، لمجرد انتقادها منهج التجانية وجرائمه، ويقصد بهم جماعة نصرة الإسلام في مدينة كادونا. ¬

(¬1) رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات يتكون من 32 صفحة، مع مقدمة آدم عبد الله الألوري التجاني القادري مدير المركز العربي في نيجيريا.

وما دامت النصيحة واجبة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنني أحذرك أيها القارئ من قارئتها قبل أن تقرأ مبادئ الصوفية والردود عليهم، لا لغزارة علم فيها، وإنما لكثرة المغالطات والتأويلات وإيراد الأدلة على غير معانيها الصحيحة سواء كانت من القرآن الكريم، أو من السنة النبوية، فقد جاءت ردودهم من واقع الانفعال العصبي، ضد من كفرهم من بعض الدعاة وطلبة العلم في نيجيريا وغيرها، كما يذكرون، ولا ريب أن إعلان تكفيرهم وإخراجهم من الملة هم أو سائر الصوفية، حكماً عاماً دون تفصيل، لا ريب في قبح خطئه. ومما أحب تنبيه طالب العلم إليه هو ما جاء في ردودهم من الأخطاء الفاحشة في تأويل صفات الله تعالى كما في الطريقة المعروفة عن نفاة الصفات؛ حيث جعلوها من المتشابهات ثم أكدوا أنهم يؤمنون بالمتشابهات من القرآن الكريم ومن السنة النبوية، ويطلبون لما ظاهره عدم موافقة الواقع تأويلاً؛ ليخلصوا بعد ذلك لأقطاب الصوفية - أيضاً - كلامهم يحمل ما كان منه مخالفاً للواقع أو فيه شطح على التأويل، مع حسن الظن بهم كيفما كان اعتقادهم، وهو طلب مردود؛ فإن الإنسان لا يعلم ما في نفسه إلا الله، وإنما يحكم عليه حسب ما يظهر من قوله أو فعله أو اعتقاده. وهؤلاء أصحاب الشطح أظهروا كلمات كفرية، وفعلوا أفعالاً باطلة وتمدحوا بذلك كله، ولو جاز هذا المسلك لجاز أن نعتذر لمن لطم شخصاً أو لعنه، بأنه فعل ذلك من فرط حبه وتقديره له. وأما بالنسبة لجواب التجانيين في مدينة "ألورن" عن بعض المبالغات في الطريقة التجانية- ومنها صلاة الفاتح - فقد أجابوا عن تقرير التجانيين، في أن

صلاة الفاتح لما أغلق المرة الواحدة منها تعدل آلاف ختمة، بأن هذا من المتشابهات، ولعله أريد بذلك تفضيل الممكن على المستحيل؛ أي من حيث أنه يمكن أن يصلي بصلاة الفاتح في دقيقة واحدة، ويستحيل أن يقرأ ستة آلاف ختمة في دقيقة واحدة. والغريب في هذا الجواب أن يتكلف له إلى هذا الحد بأن يقال: إنه من المتشابه، وكان الأسهل والأقوى في الجواب أنهم يقولون: هذا خطأ من التجاني وخروج عن الصواب لا أنهم يجعلونه من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فهو قول بشر، والبشر معرضون للخطأ والصواب، وأي حرج في أن يخطأ التجاني أو غيره، ومن المؤسف أن يقال: أخطأ عمر أو أخطأ ابن عباس أو ابن مسعود أو ابن عمر ثم لا تحصل هذه الجرأة أمام التجاني، ويقال له: أخطأت، فإن القرآن الكريم هو كتاب الله لا يعدله كلام البشر، مهما كانوا عليه من العلم أو الصلاح، ولكن التعصب ليس له عقل. مع أن صلاة الفاتح هذه ليس فيها ذكر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بل فيها ذكر الصلاة فقط، وهو نقص بلا شك في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، على ضوء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬1) . ونذكر للقارئ هنا جواب علماء "ألورن" من الصوفيين التجانيين، حيث قالوا: "فالجواب: على المسلم أن يصلي على النبي، وأن يسلم عليه مرة في عمره، ثم ما زاد فعلى الاستحباب، فلا يجب الجمع بينهما في زمان واحد". وهذا رأى مرجوح وإن كان قد قال به جماعة من العلماء. ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 56.

فإن الحق الذي تطمئن إليه النفس هو: أن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم تجب في مواطن كثيرة وليس مرة واحدة (¬1) ، فإن هناك عشرات الأحاديث في الحث على الصلاة عليه في كل وقت وخصوصاً يوم الجمعة، والله تعالى في القرآن الكريم يطلب من المؤمنين أن يداوموا الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليّ"، فهل نترك الصلاة والسلام عليه في التشهد في الصلاة بحجة أنه لا يجب علينا السلام عليه إلا مرة واحدة في العمر؟ فجوابهم هذا سقيم مثل سقم جوهرة الكمال التي ورد فيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأسقم، ومع ذلك حاول كبراء الصوفية جاهدين إخراج ما جاء في هذه الصلاة من عثرات وجهل بصورة مقبولة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، لأن في صلاة جوهرة الكمال أمور يقف عندها الشخص حائراً طالباً الدليل ملحاً عليه، منها: 1- إيجابهم الوضوء لقراءتها كما في الهداية الربانية وجوهرة الكمال ورماح الفوتي. 2- وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأسقم، وهي كلمة نابية لا تقبلها النفس مهما أسدل عليها من تأويلات. 3- ما جاء من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بإحاطة النور المطلسم. 4- زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بنفسه عند قراءة جوهرة الكمال. أجابوا عن وجوب الوضوء لقراءتها بأنه شرط كمال لتحصيل البركة. ¬

(¬1) وقد ذكر ابن كثير رحمه الله عن جماعة من العلماء أنهم يرون وجوب الصلاة مرة واحدة، ولكنه فنده: انظر تفسير القرآن العظيم 2/506 - 517.

وعن الأسقم أنها بمعنى العدل. وعن المطلسم أي الخفي عن الغير. وعن حضور النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ممكن؛ لأنه من الخوارق، والنبي في قبره يرد السلام على من يسلم عليه ويظهر لأحبابه في أي مكان. ثم استدلوا على حضوره في كل مكان بدليل أحب أن تحكم عليه أنت بنفسك أيها القارئ، هذا الدليل هو محطة (التليفزيون) حيث تبث الصور في كل مكان وهي ثابتة في مكانها، فهل تلك الأجوبة التي أجابوا بها على مسائل في غاية الأهمية تقنع أحداً يحرص على معرفة الحق؟، وهل محطة التليفزيون تكفي لإقناع المسلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بعد وفاته إلى مجالسهم؟!. وكذا إيجابهم الوضوء لجوهرة الكمال، فإنه قد تقرر عند المسلمين أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة ولقراءة القرآن والطواف بالبيت، أما أنه يجب لقراءة جوهرة الكمال فهو حكم جديد يحتاج إلى دليل، وأين الدليل؟ ‍!. وأما الأسقم والمطلسم فيكفي في النفور عن ظاهرها، فهي كلمات متكلفة لم ترد في كتاب الله ولا في سنة نبيه ولا في أقوال علماء الإسلام. وأما حضور النبي صلى الله عليه وسلم مجلس لهوهم وطربهم فهو قول لا يسلم لهم به أي إنسان عنده مسكة من عقل أو أثاره من علم، فحينما مات النبي صلى الله عليه وسلم غسل، وحفر قبره، ودلي فيه كما هو الحال في بقية بني آدم، ثم دفن، بعد ذلك النزاع بين المسلمين في موضع دفنه، وحصل ما حصل للمسلمين بعد وفاته من فتن وبلايا - كانوا أحوج إليه، ومع ذلك لم يقل أحد منهم أنه رآه أو حضر أمرهم أو شاركهم فيه.

وإذا كان الأمر على ما ذكره الصوفية في حقه الشريف، من أنه يخرج من قبره حين يجتمعون ويفرشون له بساطاً أبيض يليق بوقوفه عليه، فمن يدفنه مرة أخرى؟ ‍!، فإنهم يزعمون أنه يحضر بجسده ويقابلهم يقظة لا مناماً، وهذا يبطل ما استدل به التجانيون المتأخرون من تمثيل حضوره بمحطة (التليفزيون) ؛ لأن هذا لا يتحقق إلا إذا قالوا: يحضر بروحة فقط وفي مكان واحد أيضاً فقط، وهم لا يقولون هذا؛ بل يقولون: يحضر في كل مكان في وقت واحد وبجسده الشريف. وهل محطة التلفزيون تصلح أن تكون دليلاً مقنعاً على هذه المسألة الخطيرة؟. ويجدر بالذكر هنا أن جماعة "ألورن" تناقضوا في مسألة أصلها خطأ، وبنوا عليها حكماً خاطئاً، وذلك في قولهم: فصلاة الفاتح خالصة جامعة شاملة للمعاني العالية، ولو كان مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لفرح بها، كما فرح بمدح كعب بن زهير حين مدحه بقوله: إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول وبغض النظر عن صحة ترتيب البيت فإن الذي يهمنا هنا أمور، منها: 1- كيف يقولون: أن صلاة الفاتح لو مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لفرح بها، وهم يعتقدون ويقررون في كتبهم المعتمدة، أن الرسول يحضر أماكنهم ويجالسهم ويحضر الديوان العام لهم بجسده وروحه، ومعنى هذا أنه سمع بهذه الصلاة مرات عديدة؟!. 2- أنهم يقررون أنها وحي من الرسول صلى الله عليه وسلم للتجاني فكيف بعد ذلك سيقولون: إنه لو سمع بها لفرح؟!.

3- أنه ليس فيها ما يفرح، ففي الأذكار الثابتة والصلوات التي علمها صلى الله عليه وسلم أمته لا تعتبر صلاة الفاتح لما أغلق شيئاً بالنسبة لها. 4- فكره، فهي من باب إن من البيان لسحراً، بخلاف دعاء الفاتح فليس فيه شيء من هذا. 5- كيف يقررون فرح النبي صلى الله عليه وسلم بها لو سمعها، مع أن فيها إثبات أجور لا يعلم عددها إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بوحي، وهي أمور غيبية لا تقال إلا بإخبار الله ورسوله عنها، فإثباتهم لتلك الأجور إما أن تكون بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وذكره لها، وإما أن تكون من وضع خيالاتهم، وإذا قالوا: ما لم يثبت فهو رد عليه، فكيف يدعون أنها كانت من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون لو علم بها لفرح بها ثم يثبتون فيها أجوراً خيالية بدون سند صحيح. وعلى هذا فيعتبر قول جماعة "ألورن": إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان سمعها لفرح بها، كلام من تلقاء أنفسهم واجتهاد خاص بهم، تناقضوا فيه دون أن يشعروا، مع أن هذا القول غير مسلم به؛ فإنه بإمكان كل شخص أن يخترع في الدين ما يشاء، ثم يقول بمثل مقالتهم هذه ويعلل بمثل تعليلاتهم. تنبيه: لقد أطلت في النقل عن التجانية فيما تقدم لأمور أبديها فيما يأتي: 1- أن ذلك النقل كان من أهم كتب التجانية مثل: جواهر المعاني، ورماح الفوتي، وغيرهما من كتب التجانيين.

2- لأن التجانية لا تزال مستولية على مفاهيم كثير من الناس، ولا تزال لها سلطتها الفولاذية على كثير من بلاد أفريقيا بخصوصها. 3- لكي يقف القارئ على أفكار التجانية وما تحمله من أخطار من كتبهم؛ لئلا يظن أحد بوقوع التحامل عليهم. 4- كنت قد جمعت تلك الأقوال في أوراق خاصة للرجوع إليها عند الحاجة، ثم رأيت أن حاجة طلاب العلم إليها أيضاً لدراستها وللرد على التجانية ربما تفوق حاجتي؛ فأحببت أن أقدمها بل أعتبرها هدية لهم؛ حيث قرأت أهم مصادرهم واستخلصت منها ما يحتاج إلى تنبيه ودراسة ونقد؛ لضرره على الإسلام والمسلمين. عرضت لك الأفكار من باب النصيحة لكي لا يقع أي شخص ضحية تلك الأفكار التجانية الخاطئة، ولينجوا منها من أراد الله به خيراً، ممن وقع فيها، بعدما يقرأ بنفسه ما تبيته التجانية لأتباعها، من ذل واستعباد لا يليق بالإنسان الذي كرمه الله تعالى. ما لمسته بنفسي من التعصب الأعمى للتجاني وأفكاره، من جهلة بعض المسلمين، مما يجعل الواقف على ذلك في حزن على هؤلاء الذين أرغمت أنوفهم في الأرض، دون أن يشعروا بكرامتهم المداسة من قبل أقطاب التصوف؛ حيث علقوا أنظارهم وأهدافهم بالوصل إلى الكرامات والاتحاد مع الله ومناجاته لهم، ووصولهم إلى درجة يسقط معها كل تكليف، وأنهم في الآخرة من الآمنين؛ لأنهم قد رأوا التجاني أو رأوا من يراه إلى اثني عشر رجلاً، وهو أو الثعلبي أو غيرهما ممن جرأ على استعباد أفكار الناس دون رحمة

بهم أو عطف على مصيرهم. كان في نيتي أن أجعل تلك النصوص موضع دراية خاصة؛ إذ لا تحتمل هذه الدراسة التوسع في دراسة تلك النصوص وفحصها والرد عليها، ومهما يكن، فقد حصلت عندي قناعة تامة بأن إطلاع طلاب العلم على تلك النصوص - حتى وإن كانت بطريقة موجزة - فيها نفع عظيم لهم، وفيها أيضاً تزويدهم بما يدحض تعصب التجانيين ضدهم، ودفع شبههم والتطاول عليهم، حين يغالطون في نفي المفاهيم الضالة التي توجد في كتبهم المعتمدة، والتظاهر بالاستقامة وعدم الغلو. والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل العاشر كيفية الدخول في المذهب الصوفي

الفصل العاشر كيفية الدخول في المذهب الصوفي للصوفية طرق عديدة ومسالك مظلمة وقواعد خاصة للتربية حسب منهجهم، وكيفية ذلك عندهم نوجز الكلام عنه فيما يلي: 1- أول ما يجب على الداخل هو أن يختار الفرد أو الجماعة من المريدين شيخاً لهم يسلك بهم رياضة خاصة بهم على دعوى وزعم تصفية القلب للوصول بالمريد إلى معرفة الله، هكذا يزعمون وهو في الحقيقة يصل إلى متاهات وضلال بعيد، ولا يتم السير في الطريق الصوفي إلا إذا عطل المريد عقله وفكره. 2- أن يتبع المريد شيخه أتباعاً مطلقاً حتى وإن كان في تحريم الحلال وإحلال الحرام. 3- عليه أن يردد ما يردده الشيخ من أذكار. 4- ثم يكون وجوباً عليه أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، فإن الاعتراض وإبداء الرأي من أكبر الأخطار على المريد وطرده عن رحمة الله. 5- وعليه كذلك أن يعتقد أن جميع ما يفعله الشيخ هو الحق والصواب حتى وإن رآه يشرب الخمر ويزني؛ لأن الشيخ لا يفعل الفواحش

بروحة وإنما بصورته البشرية لتربية المريدين، وهذا مخرج للصوفي إذا فعل فاحشة، وما أكثر ما يفعلونها تحت هذا الستار، وعلى التلميذ أن لا يفكر في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأنه يتعارض تماماً مع ما يراه زعماء الصوفية من وجوب التسليم للشيخ في كل ما يأتي ويذر. 6- كما أنه يحب عليه أن يجتاز تلك الخلوة المفروضة. 7- وأن يتصور صورة الشيخ ماثلة أمامه في كل حال، وأن يعتقد أن الشيخ يعلم بكل شيء عنه وهو في داخل خلوته، ويعرف كل شؤونه ما دق منها وما جل. 8- وأن لا يغير شيخه بآخر. 9- ولا يزور أحد المشائخ والأولياء ما دام في أول أمره. 10- وأن يمشي في الطريقة منزلة منزلة حتى يصل إلى القطبانية. 11- وألا يخالط المقصرين والبطالين من أهل قيل وقال. 12- وألا يضن بماله ولو طلبه الشيخ كله. 13- وأن يرضى بالذل الدائم وحرمان النصيب، والجوع الدائم والخمول وذم الناس له، وتقديم أضرابه وأشكاله وأقرانه عليه في الإكرام والعطاء والتقريب عند الشيوخ ومجالس العلماء، فيجوع هو والجماعة يشبعون والكل أعزاء ونصيبه الذل، ويعز الجماعة ويستجيز الذل ويجعله نصيبه. قال الجيلاني بعد أن ذكر ما سبق: "فمن لم يرض بهذا ويوطن نفسه عليه فلا يكاد أن يفتح عليه ويجيء منه

شيء" (¬1) ، إلى آخر ما ذكر الجيلاني مما يطول نقله. وأول المنازل في الطرق الصوفية يسمى فيها الداخل مريداً، أي يريد السير في الطريقة، وتسمى منزلة الإرادة يقبلة الشيخ ويأخذ عليه العهود بالتوبة من الذنوب وصدق النية وترداد الأوراد المقررة عليه من الشيخ، وألا يعتقد أي معتقد لم يقره الشيخ، ولا يحق له الاعتراض على الشيخ حتى إن رآه مخطئاً. ويسمى بعد توجهه وإرادته المذهب الصوفي سالكاً، وبعد استمراره وسلوكه ومواظبته على الأوراد التي يلقنه الشيخ، فإذا أتقنها انتقل إلى مرتبة أخرى تسمى مرتبة العبودية (¬2) ، وعليه أن يكثر من الضراعة والإلحاح إلى الله بترداد ما يمليه عليه المشائخ من أذكار وأوراد. ثم ينتقل المريد إلى مقام آخر حيث تقبل عليه العناية الإلهية وينتقل قلبه إلى مقام العشق لله، وعلى المريد هنا أن يكثر من الرياضة التي توصله إلى ربه فيما يزعمون، فيكثر من الأوراد والعزلة بنفسه والندم الشديد حتى تتملكه - بزعمهم - حال علوية شريفة ينتقل بها إلى مقام يسمى (الوجد (¬3) والهيام) وهو أسمى من مقام العشق، وعند هذا المقام المزعوم تتوارد على قلب السالك النفحات الربانية، ويعتقدون أنه في هذه الحال تزداد معرفة السالك الباطنة الصفات الذات العلية. وهنا يصل السالك فيما يزعمون إلى الحقيقة وتسمى هذه المرحلة - مقام ¬

(¬1) 2/ 613 باب فيما يجب على المبتدئ في هذه الطريقة أولاً إلى آخر ص 169؛ حيث ذكر الآداب التي تجب على المريد والآداب التي تجب على الشيخ. (¬2) عرفها المنوفي بقوله: "العبادة غاية التذلل للعامة، والعبودية صدق القصد للخاصة" جمهرة الأولياء 1/ 306. (¬3) يقول النوفي: "الوجود: وجدان الحق بذاته ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود" جمهرة الأولياء 1/ 312.

الحقيقة - التي يعرفها المنوفي بأنها "مشاهدة الربوبية" (¬1) ، وهي في الحقيقة الوصول إلى أعماق الوثنية والحلول، فإذا وصل بزعمهم إلى مقام الحقيقة يمكنه أن يظل يرتقي إلى أن يحقق منازل ثلاثاً هي: "الفناء"، و "اللقاء"، و "البقاء"، والفناء يقصدون به أن يفنى العبد عن كل شيء في الله تعالى، ويصير كما قال الحلاج: ما في الجبة إلا الله. فالوجود عنده كله يمثل الله - تعالى عن قولهم، وخصوصاً النساء فإنه يتمثل فيهم بصورة أكمل، ومن هنا بدى على أدبهم العشق والغرام والهياج الجنسي إلا أنهم زعموا أن هذا الغزل وهذا الهياج الملتهب إنما هو في الله، وسموه الحب الإلهي يجتمع الرجال والنساء ويرددون إما أبياتاً شعرية أو غيرها في رقص وتمايل، كما يحصل في الرقصات والسهرات مما يتنافى مع أبسط المثل الإسلامية والخشوع المطلوب في العبادات. وأما اللقاء والبقاء (¬2) فإن الصوفية يقصدون بذلك أن العبد من خلال تلك المنازل تتجلى عظمة الخالق سبحانه على قلب السالك فلا يرى أمامه إلا الله، ولا يجد في الوجود جميعاً إلا واجب الوجود سبحانه، وتمحى أثار الموجودات من أمام عينيه إلا وجود الله سبحانه وتعالى، قال المنوفي: "سئل أبو يعقوب النهرجوري عن صحة الفناء والبقاء فقال: الفناء هو رؤية قيام العبد بالله عز وجل، والبقاء رؤية قيام الله تعالى منفرداً بذاته" (¬3) . وهذه الدرجات هي ما عبر عنه الحلاج بقوله: "ما في الجبة إلا الله". ¬

(¬1) جمهرة الأولياء 1/ 302. (¬2) عرفه المنوفي بأنه "قيام الأوصاف المحمودة بالله" جمهرة الأولياء 1/ 301. (¬3) المصدر السابق ص264.

وللسهرودي والمنوفي تفاصيل كثيرة حول المقامات ومراتبها العديدة في كتاب السهرودي "عوارف المعارف" وكتاب المنوفي "جمهرة الأولياء" (¬1) ، والواقع أن غلاتهم وقعوا في هوس وتخبط، وتلاعب الشيطان بهم لبعدهم عن منهج الله وشرعه، فجاءوا بأفكار وأقوال وحكم تنضح وثنية وجهلاً وأشعار غزلية، وقد قال الشافعي: "ما تصوف رجل في أول النهار وأتى عليه الضحى إلا وهو أحمق". والحاصل أن تلك هي الطرق لدخول المذهب كما أتضح مما سبق، ونجمل أهمها فيما يلي: 1- أن يلتزم الشخص أمام شيخه بالمحافظة على الطريقة التي يحددها له الشيخ. 2- أن يكون المريد - أي الدال في المذهب - على صلة بشيخه المأذون له هو أو من ينيبه الشيخ عنه ليتولى تعليم المريد. 3- أن يجتاز المريد عهداً يعاهد الشيخ ويده في يده مغمضاً عينيه على الالتزام والوفاء الدائم لشيخه ولطريقته لا يحيد عنها ابداً. 4- أن يكون المريد دائم الاشتغال بالأوراد والأدعية التي يقررها عليه الشيخ سواء عرف معانيها أم لا. 5- أن يكمل مدة الخلوة التي يقررها الشيخ على المريد في سرداب أو دهليز أو زاوية مدة لا تزيد عن أربعين ليلة ولا تقل عن أربعين ليلة ولا تقل عن عشر ليال، ¬

(¬1) انظر: جمهرة الأولياء 1/ 190 في عنوان "المقامات والأحوال". وانظر: عوارف المعارف من ص 330 - 338.

ولهم شروط كثيرة لصحة هذه الخلوة قاسية جداً يخرج الشخص منها وهو في منتهى الحمق والبلادة والغفلة عن كل شيء إلا عن شيخه وأذكاره، وهو الهدف الحقيقي من تلك الفكرة. ومن الشروط التي يقطعونها للمريد على أنفسهم - حسب زعمهم - أن يصبح من أهل الكشف، وأن يترقى في ذلك إلى أن يتعلم ما وراء العقل ويصبح من أهل التجلي، بحيث تدرك ذات المريد ذات الله في كل وقت. أن يفنى المريد عن كل شيء غير الله تعالى، فلا يحس بأي وجود غير وجود ربه وشيخه، وبذا يصبح الشخص من أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؛ لأن الله قد ظهر في كل شيء حسب تعاليمهم بعد فناء المريد عن كل شيء وتصوره أن الله أمامه في كل مكان. أن يطلب المريد علم الباطن الذي هو بمنزلة اللب، وأن يتعمق في العلم الباطني حسب ما يمليه عليه الشيخ، وإذا تطور في ذلك فإنه يصل إلى حد اليقين فتسقط عنه التكاليف كما يفترون ويصبح ولياً من الأولياء. وهذه القواعد والشروط الصوفية يتمرن عليها الشخص أو الأشخاص الذين يريدون الداخل في متاهات الصوفية، حتى يتقبلها الدخول بقبول حسن، فيموت فكره وذوقه ويصبح في الحقيقة عبداً ذليلاً لمشائخ الصوفية، فيسلكون به طرقاً ملتوية وتعاليم معقدة حتى تثبت في ذهن الداخل أمور عظام أقلها أن لا حلال ولا حرام، ولا علم ولا عمل إلا ما جاء عن شيخ طريقته

وإذنه به، وما يتلقاه عن قلبه عن ربه وما يمليه عليه ذوقه أيضاً. وإذا أراد القارئ التوسع في هذا ومعرفة كيفية الدخول في الطريق الصوفي فعليه بالرجوع إلى عوارف المعارف للسهروردي وإلى ما كتبه الجيلاني في كتابه الغنية (¬1) . قال المنوفي في بيان بعض المسالك الصوفية ومنزلة الشيخ فيها: "وإذن فهناك طريق الله، وسالك يسلك ذلك الطريق، ومرشد يدل على مفاوز الطريق ... وذلك الطريق الذي كان أول مرشد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تحلى بدقائق الإيمان ... وبعبارة أخرى هو طريق التصوف الذي كان أول خطوة فيه أن بايع الرسول صلى الله عليه وسلم العشرة أهل بيعة الرضوان ... فمن بدأ السير فيه فهو مريد التصوف، ومن توسط فهو سالك متعرف، ومن انتهى إلى مقام التحقيق فهو المرشد المحقق (¬2) . وقد أوصل المنوفي الدرجات إلى سبعين درجة (¬3) ، يكاشف العبد في آخرها إذا ترقى فيها مقاماً مقاماً، ولا طائل من وراء سرد كل ما قرره أقطاب التصوف كالسهروردي والمنوفي والغزالي والقشيري. فإنه يكفي أن يقال في الجواب عنها: أنها بناء في الهواء وأفكار لم يرشد إليها كتاب ولا سنة ولا أقوال علماء الأمة الإسلامية أصحاب العقول النيرة الذين أعرضوا عن تكليف ما ليس لهم به علم من الأمور الغيبية التي لا يصح ¬

(¬1) الغنية 2/ 163 - 169. (¬2) جمهرة الأولياء 1/ 144. (¬3) المصدر السابق ص 147.

فيها الحكم إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الحادي عشر أصول الصوفية

الفصل الحادي عشر أصول الصوفية يزعم المتصوفة: كما هو شأن كل الطوائف المفارقة للمنهج الرباني أنهم على حق وأن ما يدينون به من أفكار وخرافات إنما هي نابعة من تمسكهم بالكتاب والسنة وفهم حقائق الإسلام، وهذه الدعوى ينتحلها زعماء الطوائف بغرض ترويج مبادئهم وإظهارها بمظهر الحق مهما كانت بعيدة عنه. وذلك أن دعوى التمسك بالكتاب والسنة سهلة على اللسان ولكن التطبيق هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه. وقد ذكر أحد أعلامهم وهو السيد محمود أبو الفيض المنوفي بعض مستنداتهم فقال: "والتصوف الإسلامي نبعه القرآن أولاً وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً والفقه في الدين فروعاً وأصولاً ثالثاً ولهم - أي المتصوفة - فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، ومن دقائق السنة عملية معملية، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، وهذا في الواقع مستمد علم التصوف الإسلامي (¬1) . أي أنهم يرجعون في جملة مستنداتهم إلى تلك الدعوى العريضة وهي أخذهم الأحكام من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، وفي الحقيقة إنما يرجعون إلى الهوى، وإلى تفسير القرآن باطنياً غير مستندين إلى ¬

(¬1) انظر كتاب جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف 1/ 154.

المعاني التي ذكرها العلماء من أهل الحق لمعاني تلك النصوص. ثم يذكر المنوفي مستنداً آخر لهم بقوله: "ومستمد الصوفية هم أهل الصفة، وإن كان تعريف الاسم يناسب لبس الصوف من حيث الاشتقاق. وهذا صحيح؛ لأن أهل الصفة وغيرهم من الروحيين في الإسلام وقبل الإسلام، ومن قديم الزمان كانوا يلبسون الصوف لخشونة فيه وهم متخوشنون، أو قل لسبب لونه الأبيض الذي يرمز إلى الطهارة والصفاء، وكان أيضاً لباس الحواريين" (¬1) . ويذكر الغزالي أن مستندات الصوفية وأصولهم مشاهدة الملائكة وأرواح الأنبياء، والخضر بخصوصه ومخاطبتهم فهو يقول: ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم تترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها النطاق، ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظة خطأ صريح لا يمكن الاحتراز عنه إلا لمن رسخ فيه ونهل منه منهله" (¬2) . وبطلان هذا الكلام واضح، وربما أن الذين يشاهدونهم بزعم أنهم الملائكة أو أرواح الأنبياء وسماع الأصوات إنما هي شياطينهم تتلاعب بهم وتتراءى لهم ليضلونهم، وما أكثر خدع الشياطين لإغواء الناس. وكذلك من مزاعمهم وأصولهم في مستندهم إلى الطريق إلى الله علم ¬

(¬1) انظر: جمهرة الأولياء 1/ 154. (¬2) جمهرة الأولياء 1/ 155. نقلاً عن الغزالي.

الباطن الذي أفضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه، وعلي أفضى به إلى الأئمة المذكورين في كتبهم، وذلك فيما يزعمون أن جبريل عليه السلام نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالشريعة فلما تقررت الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة (¬1) المقصودة والحكمة المرجوة من أعمال الشريعة وهي الأيمان والإحسان، ثم خص الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم باطن الشريعة بعض أصحابه كعلي ثم الحسن دون بعض. وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب هؤلاء، وقد سرد المنوفي أسماء السلسلة التي تداولتها الصوفية ابتداءً بالإمام علي إلى أحمد بن عطا الله السكندري (¬2) ، صاحب لطائف المنن، أورد بعض النصوص المرفوعة كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيها أن كل آية لها ظاهر وباطن وظاهر الآية ما ظهر من معانيها، وباطنها ما تضمنته من أسرار إلهية لا يطلع عليها إلا أهل المعرفة بالله ممن سرد أسماءهم من أوليائه الذين يعلمون علم الباطن في زعمه. ولقد نفى عليّ رضي الله عنه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصهم بعلم دون سائر البشر، وقد سبق إبطال الباطنية في دعواهم أن النصوص لها ظاهر وباطن. ويقول المنوفي أيضاً في دعواهم الالتصاق بأهل الصفة: "وكان عظماء أهل الصفة بل جلهم من أوائل الصوفية وأهل طريق الله، ¬

(¬1) يزعم الصوفية أن الشريعة هي ما أوحاه الله إلى رسوله، وأما الحقيقة فهي عندهم المعرفة العقلية التي وصلوا إليها بذوقهم وصارت من الدين بغض النظر عن موافقتها للشريعة أو مخالفتها، ويجب التنبيه إلى أن وسيلة المعرفة عند الصوفية هي الذوق؛ ولهذا اختلفت أفكارهم لاختلاف أذواقهم. (¬2) أنظر: جمهرة الأولياء 1/ 159 - 160.

وحسبنا في ذلك أن نزل فيهم قرآن عند قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (¬1) " (¬2) . ويقول الشعراني في مستند القوم: "مقدمة في بيان أن طريق القوم مشيدة بالكتاب والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، وبيان أنها تكون مذمومة إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير" (¬3) . لكنه أضاف بعدما تقدم قوله عن مستند جديد: "ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء"، إلى أن قال: " فمن جعل علم التصوف علماً مستقلاً صدق ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق" (¬4) . ومستند آخر أيضاً يذكره بقوله: "ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات، وآداباً ومحرمات، ومكروهات وخلاف الأولى، نظير ما فعله المجتهدون" (¬5) . ¬

(¬1) سورة الكهف: 28 (¬2) جمهرة الأولياء 1/ 162. (¬3) طبقات الشعراني المسمى الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار 1/ 4. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق.

ومن هنا نجد أن الصوفية ينفرون أشد النفور من العلم عن طريق التعلم، ويفضلون ما يسمونه علم الكشف بلا واسطة وهو ما عبر عنه محي الدين بن العربي حينما كتب إلى الرازي كتاباً جاء فيه: " إن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن كان علمه مستفاداً من نقل أو شيخ فما برح عن الأخذ عن المحدثات، وذلك معلوم عند أهل الله عز وجل"، إلى أن يقول: "فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين" (¬1) . ويقول الشعراني في هذا المعنى ناقلاً عن شيخه البسطامي، موضحاً مصادر التشريع في ذوقهم: "وكان الشيخ كامل أبو اليزيد البسطامي رضي الله عنه يقول لعلماء عصره: أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت" (¬2) . وبعد هذا الكلام لا يلام من احتار في أمر الصوفية ومصادرهم، فبينما هم يحضون على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج عنهما إذا بهم يفصحون بالحقيقة في النهاية وهي أن مصادرهم في التشريع إنما هو الكشف والإلهام وهو فعلاً ما سلكوه في كل سلوكهم وتشريعاتهم. وعلى نفس المعنى السابق يقول الفوتي: "إن الولي المفتوح عليه لا يتقيد ¬

(¬1) الطبقات الكبرى 1/ 5. (¬2) المصدر السابق.

بمذهب معين من مذاهب المجتهدين بل يدور مع الحق عند الله تعالى أينما درا" (¬1) ، أي حسب تجدد الكشف له والإلهام الرباني المتكرر عليه، وهو كذلك يشير إلى قول أحمد بن المبارك في الإبريز حيث قال: "إن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، ولو تعطلت المذاهب بأسره لقدر على إحياء الشريعة، وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلالة لحظة" (¬2) . والواقع أن كل منصف له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية لو حكم في دعاوى الصوفية وفي زعمهم شرعيه شطحاتهم، ومستنداتهم في ذلك كله لا تضح له بما لا خفاء به أن المتصوفة قد جانبوا الصواب في كثير من أمور الدين، وأنه لا مستند لهم إلا هواهم الذي يسمونه الكشف والإلهام الصريح، دلك أن قولهم: أن التصوف نبعه القرآن والسنة والفقه في الدين، وفوق ذلك أن له قواعد وقوانين استمدوها من حقائق اليقين دعاوى غير ثابتة. فليس في القرآن آية واحدة في شريعة غلو التصوف، وليس في السنة النبوية عبارة واحدة جاءت دليلاً يسند شطحات الصوفية وأورادهم وترنيماتهم وحلقات رقصهم، وليس في علوم الفقه الإسلامي وأصوله شيء من هذا القبيل، ثم هم لا يذكروا أيضاً أدلة من القرآن تدل فعلاً على ما يذهبون إليه. وقد تلمسوا بعض الأدلة من السنة أساءوا الفهم فيها؛ ولهذا جعلوا ¬

(¬1) رماح حزب الرحيم 1/ 96. (¬2) المصدر السابق ص 96 نقلاً عن الإبريز.

القواعد والقوانين الصوفية فوق المصادر الثلاثة: القرآن، والسنة، والفقه الإسلامي، كما قال المنوفي: "ولهم فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين"؛ ولهذا تجد السلسلة عندهم حدثني قلبي عن ربي: "وهذه الحقائق اليقينية التي ذكرها المنوفي في الحقيقة من جنس الهوى والاضطراب الفكري، ثم حرفوا معاني القرآن إلى ما يوافق أهوائهم كما فعلت الباطنية تماماً. إن ما زعمه القطب الصوفي صاحب كتاب جمهرة الأولياء من أن مستمد الصوفية هم أهل الصفة إنما هو دليل على خواء علمي بالكتاب والسنة وسيرة الصحابة الكرام، فهل كان لأهل الصفة تشريع خاص بهم، وهل كان لهم شرف يحبون الحفاظ عليه والانتساب إليه غير شرف الانتساب إلى الإسلام وطاعة الله وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأهل الصفة الذين ذكرهم المنوفي هم خيار الصحابة كأبي هريرة وخباب بن الأرت وبلال وسلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري وأبى برزة الأسلمي وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر وأبو فكيهة ووابصة بن معبد الجهني وأنس بن مالك" (¬1) . فهل هؤلاء الأعلام الأبرار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الصوفية وهل كان هؤلاء على الزعم الصوفي هم سلف الحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين، وغيرهم من عتاة الصوفية الذين يأخذ أحدهم السكر بالله كما يزعمون إلى حد أن يقول لا إله إلا أنا - أو ما في الجبة إلا الله - أو قولهم - العبد رب والرب عبد، يا ليت شعري من المكلف هل يمكن أن يكون أساس ¬

(¬1) جمهرة الأولياء 1/ 134، 135.

هؤلاء هم أولئك الأخيار. بل إن المنوفي زعم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يكون صوفياً فقال: "وأيضاً قد أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن رباه وكمل خلقه وأتم عليه نعمته بأن يتصوف ويندمج في الصوفية بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (¬1) . ومع بعد هذا الاستدلال عن ما يهدف إليه المنوفي فإنه يواصل ما يعتبره أدلة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من مشى على الطريق الصوفي فقال: "وأن الله عز وجل قبل أن يرسل محمداً برسالته الكبرى، والملة العظمى أمره بدخول الخلوة (غار حراء) " إلى أن يقول: "فلما دخل الرسول الخلوة وتعبد وتحنث في غار حراء، وفيه قد أكثر من الذكر والاستغفار والاعتكاف ... وما نعتبر هذا النمط من العبادة الخاصة إلا أن نعده تصوفاً إسلامياً رفيعاً. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بدأ متدرجاً في الكمال كمريد ثم تهيأ لحمل الرسالة؛ ولذا وصفه الله في كتابه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍْ عَظِيمٍ} (¬2) ، وحتى بعد أن حمل الرسالة وأصبح سيد المرسلين أمره الله بأن يصاحب أهل الصفة، وذلك واضح في قوله": {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يا محمد" (¬3) . لقد قالب المنوفي الأمور وحاول جاهداً أن يقيم الأدلة على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان صوفياً قولاً وفعلاً قبل إن تأتيه الرسالة وبعد ما جاءته أيضاً، وأنه ابتدأ ¬

(¬1) سورة الكهف: 28 (¬2) سورة القلم: 28 (¬3) جمهرة الأولياء 1/ 267، 268.

كأي صوفي "مريداً" ثم تدرج في الكمال. وإذا أمعنا النظر في هذا التصوف الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة حسب رأي المنوفي فلا نجد للمنوفي مستنداً إلا إلى منشأ التصوف الذي كان قبل الإسلام متمثلاً في شتى الديانات المنحرفة على حد قوله الآتي: " ... وإن تعرجت تعاليم التصوف وتلونت بعض فروعه ألواناً عدة، واتجهت تلك الفروع اتجاهات مختلفة بسبب المذاهب الموروثة للداخلين المحدثين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، الذي شجع عليه المأمون ومن بعده من الخلفاء العباسيين. فترجم المسلون كتباً كثيرة من التصوف الهندي واليوناني والفارسي، وطمعت بعض فروع التصوف الإسلامي الخالص بما دخل عليها من النزعات الأفلاطونية الحديثة أو القديمة، وبعض المذاهب الهندية والفارسية في التصوف كنظرية الحلول والاتحاد والتقمص والتناسخ وما إلى ذلك" (¬1) . وبلا ريب فإن هذه الشهادة منه على ما في التصوف من خلط واضطراب وتعاليم خارجة عن الإسلام لا تحتاج إلى تعليق أحد عليها فكيف تتفق بعد هذا مفاهيم التصوف مع المفاهيم الإسلامية المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى أن ما قرره المنوفي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من سن قواعد التصوف حينما كان يخلو بنفسه ويتعبد في غار حراء وهو منتهى الجهل وأشنع القياس. ولاحظ تناقض المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء حينما لم يستطيع أن يخفي حقيقة التصوف حيث باح بأن الصوفية قد تأثرت إلى حد كبير بعقائد الداخلين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، ولا سيما في ¬

(¬1) جمهرة الأولياء 1/ 266.

عصر الترجمة لفلسفة هؤلاء؛ حيث أخذ التصوف منها جوانب لم ينكرها المنوفي وهو في كل كتاباته عنهم يكيل المدح للصوفية، وأن أول متصوف في الإسلام هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله أمره بذلك ليسنّ الطرق الصوفية ابتداء بالخلوة في غار حراء ثم الزهد. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول المتصوفة فكان ينبغي عليهم أن يقدروا هذا الموقف فيقبلون سنته لا أن يردوها ويعيبون أهل الظاهر كما يسمونهم ممن يخالفهم من أهل الحق حين يقولون لهم: أنتم تأخذون الحديث بسند ميت عن ميت، حدثني فلان وقد مات عن فلان وقد مات، على نحو ما قاله البسطامي ناعياً على علماء الشريعة ومفاخراً لهم حين قال لهم: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت؛ ويقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان وأين هو؟ قولوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات". وهذا القول إنما يدل على جهل وبغض للسنة النبوية ولأهلها وللطريقة التي يتداولها أهل الحق في تلقي دينهم من مصدره الفياض. كما أنه من غير الإنصاف أن يقصروا ذلك المسلك عليهم فقط؛ لأنه في استطاعة كل شخص من الناس أن يقول حدثني قلبي عن ربي، وأن يدعي من الزهد والقرب من الله مثل ما يدعون، ثم أنه يلزم على قولهم الأسانيد الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحابها قد ماتوا فيقال لهم: والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد مات أيضاً.

وينبغي على قولهم هذا أن نأخذ بالأحاديث التي يرونها عن قلوبهم عن ربهم مباشرةً، وهذا القول منهم وإن كان يبدوا ساذجاً تافهاً إلا أنه يحمل في طياته أخطاراً جسيمة بالنسبة للإسلام وللمسلمين لو تحقق لهم ما يهدفون إليه من التفاف الناس حولهم، والأخذ بمبادئهم وتشريعاتهم وإلهائهم بها عن كتاب الله عز وجل وعن سنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثاني عشر إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية

الفصل الثاني عشر إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية 1- عقيدة المتصوفة في الإله عز وجل: الله عز وجل هو الواحد الأحد الفرد الصمد، خلق المخلوقات وأوجدها، وأمر الثقلين والجن والأنس بأوامر، ونهاهم عن نواه، من قام بامتثال أمره فيها دخل في طاعته، ومن أبى صار من أعدائه، وهو غني عن الخلق وعبادتهم، وجعل لكلا الفريقين جزاء عادلاً إما الثواب وإما العقاب. وقد وصف الله نفسه في كتابه الكريم ووصفه نبيه بالصفات الثابتة له عز وجل فهو رب كل شيء ومالكه، {إِن كلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} (¬1) . ولقد استقر في أذهان العقلاء مباينة الله لخلقه وقربه منهم بعلمه وإحاطته وأنه متفرد بالأسماء الحسنى والصفات العليا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأمرنا عز وجل أن نصفه بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وبما وصفه به نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم غير معطلين ولا محرفين ولا مكيفين، ذاته لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفات خلقه حتى وإن اتفقت التسمية فإنها لا تتفق في الحقيقة وتبقى المباينة بين الحقائق مما لا يخفى إلا على من لم يفهم الحق. هذا هو الاعتقاد الذي أمر الله العباد به فما هو موقف الصوفية منه. إن المتتبع لعقائد زعماء الصوفية يجد أنهم يعتقدون بوجود معبود لا حقيقة له ¬

(¬1) سورة مريم: 93: 95.

2 - الحلول

قائمة بذاته، معبود لهم يذكر في الشريعة الإسلامية ولم تدل عليه العقول ولا الفطر السليمة إنه معبود غير رب العالمين تعالى وتقدس. يظهر في صورة الصوفي العابد الذي وصل إلى مرتبة النيابة عن الله قي تصريف أمور هذا الكون والتحكم فيه بحكم نيابته عن الله وعلمه بكل المغيبات ورؤيته لله في كل وقت لارتفاع الإنية بينه وبين الله عز وجل الذي يظهر أحياناً في صورة شاب وأحياناً في صورة الآكل والشارب، وأحياناً في صورة شخص كأنه محجور عليه تعالى بعد أن فوض الكون وما فيه إلى أقطاب الصوفية يتصرفون فيه بما يشاءون، كما تفيد أقوالهم وتبجحهم بذلك. 2 - الحلول: لقد أصبح الحلول من لوازم الصوفية الغلاة ومن المبادئ الأساسية عندهم، وكتبهم مملوءة بذلك نثراً ونظماً، وقد اختلف العلماء في تعريف الحلول: فمنهم من قال: هو اتحاد جسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر كحلول ماء الورد في الورد. ومنهم من قال: هو اختصاص شيء بشيء، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر. واستعمل بعض المتصوفة لفظ الحلول ليشيروا به إلى صلة الرب والعبد واللاهوت والناسوت، بمعنى أن الله تعالى يحل في بعض الأجساد الخاصة، وهو مبدأ نصراني وأول من أعلنه من الصوفية الحسين بن منصور الحلاج، حين عبر عن ذلك في أبياته الشعرية التي يقرر فيها أن الله تعالى حال

في كل شيء، وأنه لا فارق بين الخالق والمخلوق. أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتني (¬1) والقائلون بالحلول منهم من قصر الحلول وخصه ببعض الناس، كقول النصارى بالحلول في عيسى عليه السلام، وكقول بعض غلاة الشيعة كالخطابية الذين اعتقدوا أن الله حل في جعفر الصادق، والسبئية الذين قالوا بحلول الله في عليّ، ومثله قول النصيرية فيه، وقول الدروز بحلوله عز وجل في شخص الحاكم. وفريق آخر قال بالحلول العام، وأن الله حال في كل شيء، وأنه في كل مكان، وهؤلاء تأثروا بالفلسفة الطبيعية عند اليونان - وهم الجهمية ومن قال بقولهم. ويمثل الحلول العام البسطامي في قوله: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زينني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذلك ولا أكون أنا هناك". {كَبُرَتْ كَلمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُن إِلاَ كَذِباً} (¬2) . وهذا الطلب الغريب العجيب يريد به أبو يزيد البسطامي كما تقدم أن يحتال على الله عز وجل ليصبغ عليه الوحدانية ويرفع ما بينه وبين البسطامي ¬

(¬1) عوارف المعارف ص 353. (¬2) سورة الكهف: 5.

من الإنية بحيث إذا قال الله عز وجل "أنا" وقال البسطامي "أنا" انعدم الفرق بينهما، وحينئذ يمثل البسطامي الله عز وجل تمام المماثلة، فإذا شوهد البسطامي شوهد عند ذلك الخلاق العظيم - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وليس هذا فقط، بل أحياناً يختلط الحابل بالنابل فيحصل بين الرب والعبد مدّ وجزر حسب ما يتصوره ابن عربي في قوله: ففي حال أقربه ... وفي الأحيان أجحده فيعرفني وأنكره ... وأعرفه فأشهده فإني بالغني وأنا ... أساعده وأسعده فيحمدني وأحمده ... ويعبدني واعبده (¬1) ولعله بعد هذه المراوغة استقر الأمر على أن الله هو نفسه كل موجود على ظهر الأرض؛ فهو العاشق والمعشوق، والرجل والمرأة، فالأجسام صور عنه، وذلك في قوله: فمن ليلى ومن لبنى ... ومن هند ومن بثينه ومن قيس ومن بشر ... أليسوا كلهم عينه (¬2) وفي قوله أيضاً: فعين الخلق عين الحق فيه ... فلا تنكر فإن الكون عينه ¬

(¬1) الفتوحات المكية 3/ 498. (¬2) المصدر السابق 521.

فإن فرقت فالعرفان باد ... وإن لم فاعتبر فالبين بينه (¬1) وقد ملأ كتابه الذي سماه بالفتوحات المكية أشعاراً وشروحاً لها حول هذا الاتحاد والحلول. ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية كما يتصور: ففي النشأة الأولي تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم النبوة وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... وآونة تدعى بعزة عزت (¬2) ومن هنا نشأ عند ابن الفارض الفوضى الفكرية في تداخل جميع الأديان الحق منها والباطل، حتى صارت بجميع أشكالها شكلاً واحداً، فكأنه أراد أن يجمع بين الليل والنهار، والحار والبارد، والحق والباطل، فتصور أن الملل كلها سواء كانت شركية وثنية أو مجوسية أو نصرانية أو يهودية، الكل عنده يرجع إلى مصدر واحد وحقيقة واحدة هي الله. وتائيته المشهورة مليئة بتأكيد هذا الخلط والاضطراب، فهو بعد أن قرر أن جميع العبادات وجميع الأفعال التي تصدر عن الناس هي نفسها أفعال الله قال عن المجوس: وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في ألف حجة فما عبدوا غيري وان كان قصدهم ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي رأوا ضوء ناري مرة فتوهموه ... ناراً فضلوا في الهدى بالأشعة (¬3) ¬

(¬1) الفتوحات المكية. (¬2) تائية ابن الفارض. (¬3) تائية ابن الفارض.

وكثير من مثل هذا الهذيان في أشعارهم هو وسائر غلاة الصوفية ممكن هم على شاكلته أنهم يتصورون معبودهم يتجلى في صورة امرأة؛ ولهذا نجد أن الصوفية يلهجون بذكر النساء، ويرونهم أكمل وأتم وأجمل لتعينات الذات الإلهية التي يعتقدونها فيهن، وهذا واضح جداً في تلك العناية التي لقيتها المرأة في الأدب الصوفي من التذلل لها والتشبث بها والتفتن في وصفها. ومما قاله ابن عربي في تقريره حول الله تعالى عن كلامه في المرأة أن الأمر بالغسل؛ لأن الحق غيور على عبده أن يعتقد أن يلتذ بغيره، فلهذا أحب النبي صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا نشاهد الحق مجرداً عن المراد، فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله، وأعظم الوصلة والنكاح ... قال: فمن جاء لامرأته أو لأنثى بمجرد الالتذاذ ولكن لا يدري بمن كما قال: صح عند الناس أني عاشق ... غير أنهم لا يعرفوا عشقي لمن كذلك هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه، - هو المرأة -، ولكن غاب عنه روح المسألة فلو علمها لعلم بمن التذ؟ ومن التذ؟ وكان كاملاً قال من شاهد الحق في المرأة كان شهوده في منفعل وهو أعظم الشهود ويكون حباً إلهياً" (¬1) . ومن هذا المفهوم الباطل تجرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأساء الأدب في حقه وافترى عليه بما لا يقدم عليه مسلم يعرف ولو شيئاً يسيراً عن الإسلام وعن نبيه العظيم الذي اعترف له كل من عرفه أو سمع عنه بأنه خير منقذ للبشرية، عابداً لربه حق عبادته، متواضعاً، بالمؤمنين رءوف رحيم، لكن ابن عربي يقرر ¬

(¬1) كتاب ابن عربي الصوفي ص 270 نقلا عن العلم الشامخ ص 550.

حسب مذهبه الرديء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب النساء لكمال شهود الحق فيهن، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا البهتان. بل قرر زعماء الإباحية والزنادقة العتاة ابن عربي وابن الفارض وغيرهما أن الله تعالى يتجلى في كل صورة حسنة في صورة الرجل أو المرأة فيكون فاعلاً ومفتعلاً - تعلى الله عن كفرهم وإلحادهم علواً كبيراً، وأن الله تجلى في صور العاشقات والمعشوقات (¬1) ، ويطول النقل عنهم ولو أردنا ذلك مما يأباه الدين وتشمئز منه النفوس وتمجه الفطر السليمة ويأباه الذوق. "وفي تفسير الحديث: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" (¬2) ، "يذكر السهروردي أن المحب يعود بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب، أي بحيث تشترك الصفات بين المحب والمحبوب فلا يحصل بينهما أي فارق، ثم استشهد على هذا في الاتحاد والحلول بمبدأ الحلاج: أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... الخ. ويقول ابن عطا السكندري في بيان حقيقة الولي: "ولقد سمعت شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول: لو كشف عن حقيقة الولي لعُبِد؛ لأن أوصافه من أوصافه ونعوته من نعوته" (¬3) وقال أيضاً في وجود الله تعالى أنه لا خفاء به ولا حجاب عليه: ¬

(¬1) ترجمان الأشواق لابن عربي، وفصوص الحكم له، وانظر ما ينقله عنهم د. صابر طعيمة في الصفحات من 165 - 183. (¬2) يقول العلماء في معنى الحديث ما حاصله أن العبد قد يصل في طاعة الله تعالى إلى حد ألا يستعمل أي جارحة من جوارح جسمه إلا في ما يرضي الله تعالى. وهو جزء من حديث أخرجه. (¬3) لطائف المنن ص 95.

"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء" (¬1) . وفي الشطحات الصوفية وجرأتهم على قول كل ما يريدون ما لا يخفى على طلاب العلم. ومما يذكر في سيرة ابن عربي أنه شغف حين كان بمكة بحب امرأة هي ابنة رجل يسمى الشيخ مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني، ووصفها بأوصاف من الغزل بجمالها ما لا يحتمل المقام ذكره هنا ضمنه كتابة ترجمان الأشواق"، ثم شرحه بطلب من رجلين من خاصته فشرحهُ في كتاب سماه "ذخائر الأعلاق". حاول جاهداً أن يغطي ما قاله في تلك المرأة من العشق والغرام ليحوله علي أنه قاله في الحب الإلهي، ولكن لم يتم ذلك؛ حيث غلب الطبع على التطبع، وليست هذه معشوقته الوحيدة، بل هناك أخرى عشقها وهو يطوف حول البيت، وقال فيها أشعاراً غزلية ماجنةً، ولم يستشعر مقدار جرمه في الحرم الذي يعاقب الله فيه على مجرد النية، ثم وصف تلك الأشعار بعد ذلك بالحب الإلهي تمويهاً وتغطية لمجون هذا الشيخ الصوفي الكبير، فأين الحب الإلهي في مثل قوله: ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا وفؤادي لو درى ... أي شعب سلكوا أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا ¬

(¬1) لطائف المنن ص 103

3 - وحدة الوجود

حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا (¬1) 3 - وحدة الوجود: وحدة الوجود عقيدة إلحادية تأتي بعد التشبع بفكرة الحلول في بعض الموجودات، ومفادها لا شيء إلا الله وكل ما في الوجود يمثل الله عز وجل لا انفصال بين الخالق والمخلوق، وأن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، وهي فكرة هندية بوذية مجوسية. وهذا هو المبدأ الذي قام عليه مذهب ابن عربي الذي قال: سبحان من خلق الأشياء وهو عينها، وتجرأ على تفسير كتاب الله بغير علم فاستدل بآيات من القرآن الكريم زعماً أن الله أطلق اسم الوجود على نفسه كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ} (¬2) ، {لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} (¬3) ، {يّجِدِ اللهَ غَفُوراً} (¬4) ، واستدل بأحاديث موضوعة مثل حديث: "من عرف نفسه فقد عرف ربه". وهذا الاستدلال من أغرب وأنكر ما تلفظ به قائل. إذ كيف يتأتى لهم القول أن القرآن والسنة يدعون إلى الإلحاد والكفر بالله؟ ولا شك أن هذه العقائد الإلحادية قديمة جداً في العبادات الهندية والديانات البوذية. وقد انقسم أصحاب هذه المبادئ الإلحادية إلى فريقين: 1 - الفريق الأول: يرى الله سبحانه وتعالى روحاً وأن العالم جسماً ¬

(¬1) انظر التصوف المنشأ والمصادر ص 269 - 271. (¬2) سورة النور: 39. (¬3) سورة النساء: 64. (¬4) سورة النساء: 110.

لذلك الروح، فإذا سما الإنسان وتطهر التصق بالروح أي الله. 2 - الفريق الثاني: هؤلاء يزعمون أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله، فكل شيء في زعمهم هو الله تجلى فيه (¬1) . والإسلام بريء من هذه الأفكار المنحرفة الخرافية كلها {هُوَ الأول وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ} (¬2) ، وهؤلاء يقولون أن الله ما دام هو أصل وجود هذه الممكنات المشاهدة فكأن الموجودات في حكم العدل، والوجود الحقيقي هو الله الذي تجلى في أفعاله ومخلوقاته، وبالتالي فإن العقائد كلها حقائق والناس لا خلاف بينهم حقيقة، والديانات كلها ترجع إلى حقيقة واحدة، هذا ولا شك أنه خلط وانحراف شنيع أدى بمن أعتنقه إلى خذلان المسلمين وترك أمر الجهاد. ولهذا نجد أن المستشرقين اهتموا كثيراً بدراسة ظاهرة التصوف؛ لأنها تحقق أهدافهم في إلهاء المسلمين وتفرق كلمتهم، وبالتالي فإنهم وجدوا فيها معيناً لهم على نشر الإلحاد وإنكار النبوات ونبذ التكاليف الشرعية والدعوة إلى القول بوحدة الأديان وتصويبها جميعاً مهما كانت، حتى وإن كانت عبادة الحجر والشجر. والواقع أنه ما من مسلم يشك في كفر أو ارتداد من قال بوحدة الوجود، وعلماء الإسلام حين حكموا بكفر غلاة المتصوفة من القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد حكموا أيضاً بكفر من لم ير تكفيرهم. ¬

(¬1) الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 206 - 207، نقلاً من التصوف الإسلامي والإمام الشعراني للأستاذ طه عبد الباقي سرور: 1/89. (¬2) سورة الحديد: 3.

ولقد قال شيخ الإسلام عن هؤلاء: "إن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب". ولقد وصل الهوس والجنون بابن الفارض - بناء على عقيدته أن الله هو عين كل شيء - وصل به الحال إلى أن يعتقد أنه هو الله حقيقة؛ لأن الله حسب خرافاته هو عين كل شيء فهو على هذا يمثل الله - تعالى عن قولهم. وابن عربي من أساطين القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد وصحة الأديان كلها، مهما كانت في الكفر إذ المرجع والمآل واحد، ومن هنا فهو يقول: عقد الخلائق في الإله عقائداً ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه ويقول: العبد رب والرب عبد ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب فأنى يكلف ولابن عربي في كتابه "فصوص الحكم"، وكتابه الآخر "الفتوحات المكية" من الأقوال في وحدة الوجود ونفي الفرق بين الخالق والمخلوق وثبوت اتحادهما تماماً أقوال لا تكاد تحصر نثراً ونظماً. وأما ابن الفارض فإذا أراد الشخص أن يعرف عقيدته تمام المعرفة فليقرأ تائيته التي باح فيها بكل صراحة وتحد أن الله متحد بكل موجود، وأن ابن الفارض نفسه هو المثل الكبير لله تعالى في صفاته وأفعاله؛ ولهذا فهو يفسر كل ما في الوجود بأنه يصح أن يقال فيه: إن الله أوجده أو كل موجود هو أيضاً ذلك الموجد.

وأن كل عبادة تقام فإنها توجه له أو لله لا فارق بينهما إلا في ذكر الاثنينية التي هي أيضاً لا وجود لها عند استجلاء الحقيقة حيث تتلاشى الاثنينية ويصبح الوجود واحداً ممثلاً في كل شيء. وإذا أردت تفصيل كل تلك الحقائق عنه فاقرأ تائيته أو الأبيات الآتية، وانظر شرحها عند الشيخ عبد الرحمن الوكيل (¬1) . ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية وتجليها له: جلت في تجليها الوجود لناظري ... ففي كل مرئى أراها برؤية ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها ... وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت فوصفي إذا لم تدع باثنين وصفها ... وهيئتها إذ واحد نحن هيئتي فإن دعيت (¬2) كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي وكل الجهات الست نحوي توجهت ... بما تم من نسك وحج وعمرة لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لها صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل سجدة (¬3) ويقول عن معنى سجود الملائكة لآدم، وأ ون الملائكة إنما هم صفة من صفاته لا خلق مستقل: وفيَّ شهدت الساجدين لمظهري ... فحققت أني كنت آدم سجدتي شرحه الصوفي القاشاني بقوله: ¬

(¬1) هذه هي الصوفية 248. (¬2) أي الذات الإلهية. (¬3) تائية ابن الفارض.

"أي عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة وأن الملائكة يسجدون لي والملائكة صفة من صفاتي، فللساجد صفى مني تسجد لذاتي" (¬1) . ومن عتاة دعاة وحدة الوجود الجيلي صاحب كتاب "الإنسان الكامل" وقد ترجم له الشعراني وأطال في ترجمته، ابتدأها بقوله: "ومنهم أبو صالح سيدي عبد القادر الجيلي رضي الله عنه" (¬2) . ثم جاء في أخباره بما لا يصدقه عاقل. ومما يدل على تعمق الجليلي في القول بوحدة الوجود وأنه لم يعد بينه وبين الله أي فارق، ولا بينه وبين كل المخلوقات في هذا الكون أي فارق أيضاً ما أورده في كتابه الإنسان الكامل (¬3) : لي الملك في الدارين لم أر فيهما ... سواي فأرجو فضله أو فأخشاه وقد حزت أنواع الكمال ... جمال جلال الكل ما أنا إلا هو لي الملك والملكوت نسجي وصنعي ... لي الغيب والجبروت مني منشاه ¬

(¬1) كشف الوجوه الغر على هامش شرح الديوان 2/ 89 نقلاً عن هذه هي الصوفية ص33. (¬2) انظر طبقات الشعراني من ص 126 - 132. (¬3) يقول الكشخانلي في شرح وحقيقة الإنسان الكامل: "الإنسان الكامل المتحقق بحقيقة البرزخية الكبرى عين الله وعين العالم" جامع الأصول في الأولياء ص 111 نقلاً عن هذه هي الصوفية ص 44.

فمهما ترى من معدن ونباته ... حيوانه مع أنسه وسجاياه ومهما ترى من أبحر وقفاره ... ومن شجر أو شاهق طال أعلاه ومهما ترى من صور معنوية ... من مشهد للعين طاب محياه ومهما ترى من هيئة ملكية ... ومن منظر إبليس قد كان معناه ومهما ترى من شهوة بشرية ... طبع وإيثار لحق تعاطاه ومهما ترى من عرشه ومحيطه ... كرسيه أو رفرف عز مجلاه فإني ذاك الكل والكل مشهدي ... نا المتجلي في حقيقته لا هو وإني رب للأنام وسيد ... جميع الورى اسم وذاتي مسماه (¬1) فالجيلي هو كل شيء والله هو أيضاً كل شيء، من خير أو شر، من فسق أو فجور، الكل هو الله على حسب هذه العقيدة المجوسية. ومن القائلين بوحدة الوجود ووحدة الشهود هو أبو حامد الغزالي، ولقد تأثر الناس به كثيراً؛ لأنه كان في وقته يداري كل طائفة ويتودد إليها بالموافقة، وخفي أمره على كثير من الناس فلم يفطنوا إلى تعلقه بوحدة الوجود، وإن كان قد صرح بها كثيراً في كتبه، وخصوصاً إحياء علوم الدين، وفي هذا يقول عنه عبد الرحمن الوكيل: "لا تعجب حين ترى الغزالي يجنح في دهاء إلى السلفية في بعض ما كتب فللغزالي وجوه عدة كان يرائي بها صنوف الناس في عصره، فهو ¬

(¬1) هذه هي الصوفية ص 56، 57.

أشعري؛ لأن نظام الملك صاحب المدرسة النظامية أراده على ذلك، وهو عدو للفلسفة؛ لأن الجماهير على تلك العداوة، وهو متكلم ولكنه يتراءى بعداوته للكلاميين اتقاء غضب الحنابلة. وأما بالنسبة لرجوعه عن غلوه في التصوف، وأو عدم رجوعه فقد قرر بعض العلماء أن الغزالي رجع عن تلك الاقوال الصوفية، إلا أن بعضهم شكك في رجوعه وتوبته، ومن هنا يقول عبد الرحمن الوكيل: "يحاول السبكي في كتابه طبقات الشفاعية تبرئة ساحة الغزالي بزعمه أنه اشتغل في أخريات أيامه بالكتاب والسنة ونحن نسأل الله أن يكون ذلك حقاً، ولكن لا بد من تحذير المسلمين جميعاً من تراث الغزالي، فكل ما له من كتب في أيديهم تراث صوفي ولم يترك لنا في أخريات أيامه كتاباً يدل على أنه اشتغل بالكتاب وبالسنة" (¬1) . ومن أقوال الغزالي في وحدة الوجود كما جاءت في كتابه إحياء علوم الدين قوله في ثنايا بيانه لما سماه مراتب التوحيد "والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق عموم المسلمين، وهو ¬

(¬1) هذه هي الصوفية ص 52.

اعتقاد العوام. والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: ألا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا وحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والحق" (¬1) . وفي هذا التعبير أمور تدل على وحدة الوجود، وذلك فيما يلي: وصفه لعموم المسلمين بأنهم عوام في الاعتقاد، ويقصد به العقيدة السهلة الواضحة التي جاء بها الإسلام. في تقريره أن الذي يشاهد تلك الأمور عن طريق الكشف يراها كلها صادرة عن فاعل واحد هو الله تعالى، وأنها عبارة عنه على ما فيها من خير وشر. قوله: لا يرى في الوجود إلا واحداً، هذا هو عين القول بوحدة الوجود. وعندما أورد استشكالاً قد يرد في الذهن، وهو قوله: "فإن قلت كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء ¬

(¬1) إحياء علوم الدين ص 4/ 245 - 246.

والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحداً؟ ولا شك أن هذا الاستشكال وارد، وهو استشكال قوي جداً ويحتاج إلى جواب شاف، فبماذا أجاب الغزالي عن هذا؟ أجاب عن إيراد هذا السؤال بقوله: "فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم، لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء الربوبية كفر". وهذا الجواب فيه اتهام لله بالتقصير في بيان أمر التوحيد؛ حيث لم يبينه الله تمام البيان، ولا بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد إلا أرباب الكشف الصوفي الذين يعرفون كل تفاصيل التوحيد إلا أنهم لا يحبون إفشاء سر الربوبية؛ لأنه يؤدي إلى الكفر حسب هذا الزعم، والواقع أنه قد صدق، فإن هذا التوحيد الذي لا يعرفه إلا أصحاب الكشف هو نفسه التوحيد الذي لا يفرق بين الخالق والمخلوق وهو أمر لا يقر به أحد من المسلمين. أما الجواب الثاني فهو مثل ضربه يفيد أنه قد يحصل تعدد أشياء في شيء واحد دون فارق بينهما؛ وذلك كالإنسان وأعضائه فهو إنسان واحد ولكن له أعضاء كثيرة؛ روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشاؤه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد أي إنسان. وهذا الجواب أردأ من الذي قبله، يريد أن يثبت لنا القول بوحدة الوجود قياساً على الوحدة المتكاملة بين الإنسان وأعضائه، وأراد من هذا أيضاً جعله هذه الأوصاف هي نفسها الفناء في التوحيد حسب ما أورده عن موقف جرى بين الحلاج والخواص. حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: في ماذا أنت؟ فقال: أدور

في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل، فقال الحسين - الحلاج-: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث فطالبه بالمقام الرابع. أي أن الحلاج كان في المقام الثالث أو الرتبة الثالثة في التوحيد، وهي أنه يرى الأشياء هي نفسها "الله"، ولكن بطريق الواسطة والكشف فطالبه الخواص - والغزالي لإقراره كلام الخواص - بأن يرتقي إلى الدرجة الرابعة (¬1) في تحقيق التوحيد، وهي أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي (الفناء في التوحيد) بدون واسطة ولا كشف وبها يتحقق التوحيد. وفي كتابة مشكاة الأنوار للغزالي تصريح بوحدة الوجود في أكثر من موضع (¬2) ، وقد فندها الشيخ عبد الرحمن الوكيل وأظهر عوارها (¬3) . ومن كبار القائلين بوحدة الوجود عامر بن عامر أبو الفضل عز الدين حيث قال محاكياً الفارض في تائيته وفي معتقده أيضاً: تجلى لي المحبوب من كل وجهة ... فشاهدته في كل معنى وصورة وخاطبني مني بكشف سرائر ... تعالت عن الأغيار لطفاً وجلت (¬4) فقال أتدري من أنا قلت أنت أنا ... منادى أنا إذ كنت أنت حقيقتي ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين 4/212، وانظر تعليقات الشيخ عبد الرحمن الوكيل في كتابه هذه هي الصوفية من ص 47-56. (¬2) انظر: ص122-125. (¬3) انظر: ص54-56. (¬4) أي تعالى الله عن أن يكون له غير إذ هو عين كل شيء، والمسلم يقول: تعالى الله عن الشريك والمثيل؛ لأنه العظيم. انظر: هذه هي الصوفية ص 57.

نظرت فلم أبصر محض وحدة ... بغير شريك قد تغطت بكثرة تكثرت الأشياء والكل واحد ... صفات وذات ضمناً في هوية فأنت أنا لا بل أنا أنت وحدة ... منزهة عن كل غير وشركة (¬1) وقد اختار نقل هذه الأبيات من تائية ابن عامر الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهي صريحة لا لبس فيها على ما يذهب إليه أهل وحدة الوجود الذين يرون أنه لا يكتمل إيمان العبد ولا يصل إلى الله إلا إذا تلاشت "أنا" من نفسه فأصبح في لجة جمع الجمع ورفع الاثنينية. وقد سلك هذا المسلك في الاعتقاد بوحدة الوجود جماعة أخرى من الصوفية يمكن إحالة القارئ للاطلاع على كلامهم إلى كتاب الشيخ عبد الرحمن الوكيل، حيث ذكر نصوصاً كثيرة عنهم نثراً ونظماً، ومن أولئك محمد بن إسحاق المشهور بالقونوى (¬2) ، وعبد الغني بن إسماعيل المشهور بالنابلسي (¬3) ، وعبد السلام بن بشيش أو مشيش وهو من كبار شيوخ الشاذلية، ومحمد الدمرداش المحمدي (¬4) ، وأحمد بن عجيبة الإدريسي (¬5) ، وحسن رضوان (¬6) . وكل واحد من هؤلاء قد أدلى بدلوه وخاض فيما ليس له بحق وحاول تثبيت عقيدة وحدة الوجود بكل ما أمكنه من الكلام نثراً ونظماً مما قد يطول ¬

(¬1) تائية ابن عامر. (¬2) له كتاب "مراتب الوجود" مخطوط بالظاهرية بدمشق رقم 5895. (¬3) رسالة اسمها "حكم شطح الولي" مخطوط بالظاهرية بدمشق رقم 4008. (¬4) له كتاب القول الفريد. (¬5) له كتاب إيقاظ الهمم في شرح الحكم. (¬6) له كتاب روض القلوب المستطاب.

4- وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

نقله وتثقل قراءته، إذ إنهم لا يختلفون إلا في الألفاظ فقط والمورد واحد. 4- وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود: وحدة الشهود هو ما يسمونه في بدء أمره مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، أي لا يصل إلى درجة الحلول ولاتحاد في أول الأمر إلا بعد أن يترقى درجات ثم يصبح كما يقول على حرازم ناقلاً جواب شيخه التجاني: "اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً" (¬1) . وهذه نهاية الفناء في الله ووحدة الشهود فيه. وأما العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود: فإنه يرى بعض العلماء أن بين وحدة الوجود ووحدة الشهود فارقاً بعيداً، وذلك أن وحدة الوجود هي الحلول والاتحاد وعدم التفرقة بين الله وبين غيره من الموجودات، بينما وحدة الشهود عند بعضهم هي بمعنى شدة مراقبة الله تعالى بحيث يعبده كأنه يراه. ومن هنا ظن هذا البعض أن وحدة الشهود لا غبار على من يقول بها، ومنهم من يؤكد على أن وحدة الشهود هي الدرجة الأولى إلى وحدة الوجود، والواقع أن التفريق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود ليس له أساس ثابت بل هو قائم على غير دليل إلا دليلاً واحداً هو الذوق الصوفي، وذلك أن ¬

(¬1) جواهر المعاني1/135.

خير البشر لم يستعمل هذه الحالة ولا نطق باسمها في عبادته لربه، ولا كان أصحابه أيضاً يقولون بها. فكان شأنهم أنهم يعبدون الله وهم على أشد ما يكونون من الوجل والخوف أن ترد عليهم أعمالهم مع وجود أشد الطمع في نفوسهم لعفو ربهم وتجاوزه عنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، ووحدة الشهود ووحدة الوجود لم تعرف إلا بين الفئات الذين امتلأت نفوسهم إعجاباً وتيهاً بأعمالهم وقلت هيبة الله تعالى في نفوسهم. يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في أثناء رده على الغزالي وبيان خطر أفكاره على الإسلام والمسلمين، ومدى تعلق الغزالي بوحدة الوجود أو الشهود: "أرأيت إلى من صنمَّته (¬1) الصوفية باللقب الفخم (¬2) لتفتن به المسلمين عن هدى الله تعالى؟ أرأيت إلى الغزالي يدين بوحدة الوجود أو الشهود - سمها بما شئت، فعند الكفر تلتقي الأسطورتان لا تقل إن وحدة الوجود أنشودة من البداية ووحدة الشهود أغرودة عند النهاية فكلتاهما بدعة صوفية، بيد أنها غايرت الاسمين وخالفت بين اللونين ولكن البصر البصير لا يخدعه اسم الشهد سمي به السم الناقع كلتاهما زعاف الرقطاء، غير أن واحدة منهما في كأس من زجاج والأخرى في كأس من ذهب" (¬3) . ¬

(¬1) أي جعلته صنماَ. (¬2) أي لقبه حجة الإسلام. (¬3) هذه هي الصوفية ص 50.

فينبغي أن نبتعد عن هذه الكلمة - وحدة - أشد البعد فإن الله تعالى هو الواحد القهار لم يشرك أحد في خلقه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوَاً أَحَدْ} (¬1) ، ولنا في العبارات الطيبة التي تربطنا بربنا مجال واسع كالإسلام والإيمان والإحسان كما جاء في حديث جبريل؛ حيث سأله عن تلك الأمور ولم يسأله عن وحدة الوجود أو وحدة الشهود ولا وحدة الوجود ولا الحلول ولا الكشف، ولا غير هذا مما هو اختراع الصوفية تبعاً لأفكار ضالة ليس بينها وبين الإسلام أي صلة أو تقارب. إن وحدة الشهود تؤدي في النهاية إلى القول بالحلول رغم ما زخرفوه من الكلام والتدليس. وقد وضح علي حرازم الأمر وجلاه في بيانه لأقسام مراتب المحبة التي هي محبة الإيمان، ومحبة الآلاء والنعماء، ومحبة الصفات، ومحبة الذات، ثم بين هذه المراتب إلى أن قال عن القسم الرابع من المحبة: "ومتى وصل إلى محبة الذات أعني أنه يشم رائحة منها فقط انتقل إلى الفناء مرتبة بعد مرتبة، فيكون أمره أولاً ذهولاً عن الأكوان ثم سكراً ثم عينية وفناءً مع شعوره بالفناء، ثم إلى فناء الفناء وهو لم يحس بشيء شعوراً وتهمماً وحساً واعتباراً، وغاب عقله ووهمه وانسحق عدده وكمه فلم يبق إلا الحق بالحق للحق في الحق، وهو مقام الفتح والبداية يعني بداية المعرفة، وصاحبه إذا أفاق من سكرته يأخذ في الترقي والصعود في المقامات إلى أبد الأبد بلا نهاية" (¬2) . ¬

(¬1) سورة الإخلاص: 3، 4. (¬2) جواهر المعاني1/165.

وقوله: إنه لا نهاية لترقية لا يتفق مع ما قدمه مما يدل على نهاية الترقي، وهو الوصول إلى وحدة الوجود كما في قوله: "إلى أن ينتقل إلى المشاهدة وهي الاستهلاك في التوحيد وغاية المشاهدة ينمحق الغير والغيرية، فليس إلا الحق بالحق للحق عن الحق فلا علم ولا رسم ولا عقل ولا وهم ولا خيال ولا كيفية ولا كمية ولا نسبه انتفت الغيرية كلها" (¬1) . إلى أن قال عن دخول الحضرة الإلهية: "فإن من دخلها غاب عن الوجود كله فلم يبقى إلا الألوهية المحضة حتى نفسه تغيب عنه، ففي هذه الحال لا نطق للعبد ولا عقل ولا هم ولا حركة ولا سكون ولا رسم ولا كيف ولا أين ولا محدود ولا علم، فلو نطق العبد في هذا الحال لقال: لا إله إلا أنا سبحاني ما أعظم شأني؛ لأنه مترجم عن الله عز وجل" (¬2) . وهذا هو الحلول والاتحاد، مع هذا سماه علي حرازم"غاية الصفاء" ونسي أو تناسى أو جهل - وهو الصحيح - أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من صحابته قد قال: سبحاني ما أعظم شأني أو قال: لا إله إلا أنا؛ لأن قائل هذه الألفاظ لا دين له إلا دين المجوسية، ومن هنا استشهد علي حرازم بعد الكلام السابق على صحة هذا الصحو في الله بقول الحلاج: سبحاني ما أعظم شأني. ومن حسن الحظ لم يستدل بقول أحد من المسلمين. وتتضح صورة القول بوحدة الوجود عند التجانية كما هي عند سائر ¬

(¬1) جواهر المعاني ص 13. (¬2) جواهر المعاني ص 17.

أقطاب الغلاة في قول علي حرازم في صراحة تامة زفي مواضع كثيرة في كتابه جواهر المعاني نأخذ منها قوله في أثناء بيانه لمنزلة الخلق من الحق تبارك وتعالى وأنهم صور تنبئ عن الله تماماً فقال في ذلك: "ولا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل فإن الوجود عين واحدة ولا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها، ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بأحكام الخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن كثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة" (¬1) . ومن العجيب أنهم يستدلون على هذا المسلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... " إلى أخر الحديث (¬2) ، والحديث حسب مفهومهم معناه أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك - وأنه يفنى عن نفسه جمله حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج (¬3) ، وينسى العبد نفسه في الله وأن الله يحل بجوارحهم، فهو في سمعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم قد اتحدت ذاته بذواتهم. فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد ما ذهب إليه زعماء الصوفية؟ والجواب سيكون بالنفي قطعاً. وقد أجاب العلماء عن معنى هذا الحديث بعدة أجوبة ذكرها كلها ابن حجر رحمه الله، ومنها أن معناه أن العبد يحب طاعة الله ويؤثر خدمته ومحبته، وأنه لا يستعمل هذه الجوارح إلا وفق ما شرعه الله له فلا ¬

(¬1) جواهر المعاني 2/ 73. (¬2) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 11/ 341. (¬3) فتح الباري 11/ 344.

يستعملها إلا في ما أحبه الله ويبعدها عن كل ما يغضب الله تعالى (¬1) ، لا أن الله يحل في تلك الجوارح، والرسول صلى الله عليه وسلم لعظم وأجل من أن يتصور ربه على هذه الصفات. وتلك المعاني الباطلة لمعنى الحديث موضحة في جمهرة الأولياء للمنوفي فيه مقال تحت عنوان "دور الكمال" ذكر فيه أن الصوفية قد تطورت فشاركت في أبحاث كثيرة فقهية وفلسفية إلى أن قال: "وقد خطى الجنيد في هذا السبيل الخطوات الأولى الفاصلة فانتقل من حال الفناء التي قال بها البسطامي إلى فكرة الاتحاد، وذهب إلى أن المتصوف قد يصل إلى درجة يتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بخالقها عن طريق الشهود" (¬2) . ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس المراد من هذا الاتحاد ما هو معروف في البوذية والمسيحية، وإنما هو بمعنى أنه مجرد ملاحظة روحية، ولكن يبقى عليه أن الملاحظة الروحية لا يقال فيها بالاتحاد، وإنما هي زيادة تعلق القلب بخالقها فقط، ومن قال إن ملاحظاته جعلته متحداً مع الله فلا شك في خروجه عن الحق مهما حاول بعد ذلك تغطية معتقده بزخرف القول. لقد أصبحت وحدة الشهود عند المتصوفة هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية وهي الحال التي يسمونها بالفناء وعين التوحيد وحال الجمع، وهي الاتصال بين العبد وبين ربه عن طريق الشهود الصريح فيما يزعمون. ويصل الإنسان إليها - بزعمهم - بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي ثم يستغني عن الذكر بمشاهدة المذكور - حسب تخيلاتهم السقيمة الإلحادية - فاتضح مما سبق أن الفوارق لا تكاد تعرف بين تلك التسميات، فهي داخلة في النهاية كلها في دائرة واحدة هي القول بالحلول مهما تعددت صوره (¬3) . ¬

(¬1) فتح الباري 11/ 344. (¬2) انظر: 1/ 275. (¬3) انظر: ما كتبه د. صابر طعيمة في كتابه الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 257.

5- اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم

وأما اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضرب من الخيال والإلحاد، فهم يزعمون: 1- أن الله كان في عماء دون تعيين فأراد أن يتعين في صورة فتعين في صورة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفةً حيث تعينت فيه الذات الإلهية في صورة مادة كما قرر الكشخانلي ومحمد الدمرداش - والجيلي والبيطار والقاشاني والفوتي وعلي حرازم والشعراني (¬1) . 2- وأن الذي هاجر من مكة إلى المدينة هو الذات الإلهية متجلية في صورة هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر ابن عربي ذلك في قوله: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعيينات المفاضة من العماء الرباني وأخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة ... الجمع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية" (¬2) . 3- أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض إلى اليوم لم يتبدل بعد وفاته. 4- كل هذه الموجودات إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفرقت في ¬

(¬1) انظر: النصوص عن هؤلاء في كتاب "هذه هي الصوفية" من ص 73 - 92. (¬2) فتح الباري 11/ 344.

الكون (¬1) ، وهكذا فقد أصبح من الأمور المسلمة عند الصوفية أن هذا الكون وكل ما يحصل فيه من خير وفيض، إنما يتم عن طريق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما قدمنا من النقل عن جواهر المعاني ورماح الفوتي ما يغني عن إعادته هنا، وهذا المعتقد مقرر في كتب الصوفية كلهم من التجانية أو من غيرهم؛ ولهذا يقول المنوفي في بيان تلك القضية: لله در القائل: ما أرسل الرحمن أو يرسل ... من رحمة تصعد أو تنزل في ملكوت الله وملكه ... من كل ما يختص أو يشمل إلا وطه المصطفى عبده ... نبيه المختار المرسل واسطة فيها واصل لها ... بعلم هذا كل من يعقل (¬2) أي أن كل من يعقل ـ ولو قال كل من يجهل لكان أصوب- يعرف تمام المعرفة أن هذا الكون وما فيه إنما هو مستمد لبقائه ووجوده من محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو الرب تعالى في تعيينه الثاني. ويقرر ابن عطاء الله السكندري ذلك بقوله: "جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة" (¬3) ومما لا يجهله أي مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد بشر مثل سائر البشر كرمه الله ¬

(¬1) هنا مربط الفرس في العقيدة الصوفية فقلما يخلو كتاب من كتبهم عن تقرير هذه العقيدة. (¬2) جمهرة الأولياء 2/ 10. (¬3) لطائف المنن ص 55

6 - الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية

تفضلاً ومنة بالرسالة مثل سائر الأنبياء والرسل. وهو عليه الصلاة والسلام غني عن مبالغات الصوفية وأكاذيبهم الحمقاء، فكل ما قرره أقطاب الصوفية من أولهم إلى آخرهم حول الحقيقة المحمدية ونشوء الخلق عنها فإنه كلام خارج عن عقيدة المسلمين من دان فلا حظ له في الإسلام بل هو مجوسي وثني. يعتقدون كما قرره ابن عربي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف القرآن قبل نزوله بل إنه على حسب زعمهم هو الذي يعلم جبريل الذي بدوره يوحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثانية (¬1) . ومن الصوفية مثل أبي يزيد البسطامي من يزعم أن الرسل كانوا أقل من مرتبتهم حيث قال: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله" (¬2) وهذه الافتراءات كلها إلحاد وزندقة وشبهات مظلمة وإبطالها مما لا يشق على مسلم عرف شيئاً عن تعاليم الإسلام، فإن القرآن منزل من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام وهذه هي عقيدة كل مسلم، من لم يؤمن بها أو شك فيها فلا حظ له من الإسلام ولا صلة بينه وبين المسلمين. 6 - الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية: تطلق كلمة ولاية في اللغة العربية (¬3) ، على عدة معان منها التابع، المحب والصديق والناصر. أما معناها في مفهوم الصوفية فهي تنتهي أخيراً في مصب وحدة الوجود، ¬

(¬1) هذه هي الصوفية ص 89، ينقله عن كتاب الكبريت الأحمر للشعراني ص 6. (¬2) انظر: شطحات الصوفية ص31. (¬3) انظر: مادة ولي تهذيب اللغة الأزهري 15/447، ونزهة الأعين النواظر ص 614، والمختار من الصحاح ص583، وغير ذلك من كتب اللغة.

فقد عرفها المنوفي (¬1) تحت عنوان "أولياء الله"بقوله: "اعلم أن الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علماً وعيناً وحالاً وأثر لذة وتصرفاً"، ثم زاد الأمر وضوحاً حينما بين التجليات الإلهية والفيوضات التي تقع على السالك وأفعاله وأفعال كل المخلوقات ثم "لا يرى في نظره غير فعل الفاعل الحقيقي وهو الله". وعرفها الجرجاني بقوله: الولي: هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات. وقال أيضاً: الولاية: هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه (¬2) . وقد ذكر السهروردي الولاية وقسمها إلى أقسام باعتبارات مختلفة ثم ذكر بعض الكرامات للأولياء التي لا يخلو من ذكرها كتاب صوفي، وأكثر تلك الكرامات التي يروونها محض خرافات وقصص باطلة. ثم خلص السهروردي إلى أن الصالحين الذين يتولاهم الله ويتولونه ليس المراد بهم: "الذي يقصده أهل الطريق عند تفصيل المراتب ويقولون: فلان صالح وشهيد وولي، بل الصلاح هنا المراد به: الذين صلحوا لحضرته بتحقيق الفناء عن خليقته" (¬3) . وأما القطب الكبير عند الصوفية وهو القشيري فقد ذكر تعريفات كثيرة للولاية، ونقل عن أكابر مشائخهم آراءهم في الولاية وأهميتها وعلاماتها ¬

(¬1) جمهرة الأولياء 1/98، 99. (¬2) كتاب التعريفات ص 254. (¬3) عوارف المعارف ص84.

وكيفية الحصول عليها ومسائل أخرى (¬1) ، وهكذا فإن نظرة الصوفية إلى الولي والولاية ليست هي تلك المنزلة الطيبة في مفهوم الإسلام، لأن الولي الصوفي لا حد لصلاحياته في هذا الكون. وقد جاءت الولاية في القرآن الكريم مراداً بها المدح، وأحياناً مراداً بها الذم، فهي تستعمل في الخير وفي الشر حسب إطلاقها، لأن صاحبها إما أن يكون ولياً لله تعالى أو ولياً للشيطان، وبين الولايتين من البعد والانفصال ما يعرفه كل مسلم سليم الفطرة صافي العقيدة. وجاءت في السنة النبوية مراداً بها وصف من ساروا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزموا طريق الخير ونصروا الدين ووالوه. ثم توسع الصوفية والشيعة في إطلاقها وخرجوا بها عن حقيقتها ومدلولها الصحيح، فأطلقت على الرجل المتصوف أو من ينتسب إلى آل البيت، ثم أسبغوا على أئمتهم وكبار دعاتهم هذه الكلمة وأنواعاً أخرى من التهويلات لمطامع اجتماعية وسياسية. ثم أخذها الصوفيين بعد ذلك وأخرجوها في مذاهب الحلول والاتحاد وحدة الوجود، وهناك صفة ثانية أضيفت إلى مفهوم الولاية عند الشيعة والصوفي، وهي صفة العلم اللدني الذي أخذه علي بن أبي طالب عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعموا، ثم ورثة إياهم ببركة تلك الولاية، وبلغ الغلو بالصوفية في أوليائهم إلى أن اتخذوهم بين الله وبين خلقه وسطاء على طريقة النصارى واليهود والمشركين تماماً. ¬

(¬1) الرسالة القشيرية2/520.

فكما اتخذ هؤلاء المسيح وعزيراً والملائكة أرباباً لهم من دون الله، اتخذ الصوفية وسطاء إلى الله عز وجل أسموهم القطب والغوث والولي ونسبوا إليهم النفع والضر، لأن الله بزعمهم جذبهم إليه واختصهم ثم ساووهم مع الله تعالى في كل صفاته، بل أصبح من شرط الولي أن يكون متصفاً بصفات الله-كما يزعمون- ومن هنا نشأ تنطعهم وتنقصهم للأنبياء على حد ما ورد عن أبي يزيد البسطامي في قوله: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله". ثم اخترعوا مفهوماً كاذباً للولاية، فهي عندهم مجرد هبة من الله عز وجل لبعض خلقه دون أن يكون لها سبب، بل وبغض النظر عن صلاح الشخص أو فجوره، واستدلوا بقول الله عز وجل: {يختص برحمته من يشاء} (¬1) ، أي دون سبب حسب مفهومهم. ومعنى هذا أنهم يجعلون مفهوم للولاية كمفهوم النبوة، الكل بلا سبب ظاهر، وهذا خلاف ما قرره الإسلام بالنسبة لولاية التي تنتج عن طاعة الله تعالى والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قسموا الولاية والأولياء إلى أقسام يطول شرحها بدون فائدة فيها (¬2) . إلا ما نستثنيه مما ذكره المنوفي حين قسمهم إلى: 1- الملامتية: وهم الذين لا يظهرون للخلق أعمالاً وأسراراً، بل يخفون أسرارهم لكمال ذوقهم وقوة شهودهم لربهم. 2- الغوث الأكبر: وهو أكبر الأولياء والأقطاب، وهو ذات الحق باعتبار تجريدها من الاسم ¬

(¬1) سورة آل عمران: 74. (¬2) انظر: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب الفكر الصوفي ص219، وانظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً.

والصفة". 3- الأوتاد الأربعة: وهم حفظة العلم كل واحد منهم في ركن من أركان العالم، وهم على قدم بدل من الأبدال، أي أقل رتبة من الأبدال، لأن الأبدال يكونون على قدم قطب من الأقطاب. 4- الأقطاب السبعة: لحفظ القارات السبع، والقطب هو الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان. والقطبانية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم، والأبدال زعموا أنهم أربعون وهم مكلفون بحفظ العالم والكون، وقد عّرفهم المنوفي بأنهم: "أبدال الأقطاب من الأولياء، فإن مات قطب أحل الله محله بدلاً منه، ومنهم الخلفاء الأربعة". 5- النجباء: وهم الأربعون القائمون بإصلاح شئون السالكين. 6- الأفراد: وهم المفردون والغرباء لتفردهم عن الخلق بشهود الحق، وغربتهم في أهل زمانهم، وهم غير منحصرين في رتبة أو منزلة، ولهم كشف خاص وعلوم إلهية غريبة على الناس.. وهم على قدم النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) . وأخيراً وصلوا بالولاية إلى أنها مثل النبوة تماماً فلها ختم كما للنبوة ¬

(¬1) انظر: جمهرة الأولياء1/121، 306، 311.

ختم، فختم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم الأولياء عند الصوفية مجموعة من الكذابين مختلفون فيما بينهم على ادعائها. وأول من ادعى ختم الولاية به هو محمد بن علي بن الحسين، ويسمونه "الحكيم الترمذي"، وقد ظهر في القرن الثالث الهجري- في آخره- وهو غير الترمذي صاحب السنن. وحين صنف الحكيم الترمذي كتابه"ختم الولاية" مضاهياً بذلك القول بختم النبوة شهدوا عليه الكفر ثم نفي من ترمذ. ثم جاء ابن عربي المتوفي سنة 638 هـ فادعى أنه خاتم الأولياء، ثم جاء محمد بن عثمان الميرغني السوداني المتوفي سنة 1268 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، ثم جاء أحمد التجاني من فاس بالمغرب المتوفي سنة 1230 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، وأن من سبقه أو يلحقه ممن يدعي ختم الولاية فإنه كاذب مفتر. وكل واحد ممن يدعيها له مزاعم وادعاءات وكرامات ومزايا لا يصدقها شخص له أدنى معرفة بالدين الإسلامي. وكلما جاء رجل منهم ادعى أنه هو خاتم الأولياء وأن غيره كاذب والكل-والله يشهد- كاذبون، ثم بلغ بهم الغلو أن فضلوا خاتم الأولياء المزعوم على خاتم النبيين لأمور لا فائدة من التطويل بذكرها، فإنهم مهما تفننوا في الاستدلال على ذلك ومهما زخرفوا القول فيه فهو مردود جملةً وتفصيلاً. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثالث عشر الكشف الصوفي

الفصل الثالث عشر الكشف الصوفي من أصول الدين الإسلامي وقواعد الإيمان في الشريعة الإسلامية أن الله تعالى وحده هو علام الغيوب، وأن الخلق مهما كانت منزلة أحدهم لا يصل إلى معرفة الغيب، إلا من شاء الله أن يطلعه على ما أراد من ذلك، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً. ولقد تعدى المتصوفة على هذه الصفة لله عز وجل فأقاموا أمراً سموه "الكشف الصوفى"، ويعنى عندهم رفع الحجب من أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم بعد ذلك كل ما يجرى في هذا الكون. وبالغوا في هذا الإدعاء بما لا يجرؤ على القول به إلا عتاة الزنادقة، كما هو مسطر في كتبهم بأقلامهم، وكما تبين ذلك من خلال ما قدمنا من الإشارات الكثيرة إلى حقيقة الكشف من خلال نظرتهم إلى أقطابهم في حالة رفع الحجب عنهم واتحادهم بالله ورفع الأنية بينهم وبين الله، ويبدوا أنهم ترقوا في هذه الدعوى على النحو التالى: 1- ادعوا أن الصوفي يكشف له عن معان جديدة في القرآن والسنة والآثار والرسوم لا يعلمها علماء الشريعة، الذين سموهم علماء الظاهر والقراطيس؛ لأنهم أي علماء الشريعة إنما يعتمدون في نقل تلك المعاني من القرآن والسنة على موتى، وأما هم فإنهم يأخذونها عن الله تعالى مباشرة.

ومن هنا تجد أقطاب التصوف حين يشرحون بعض الآيات والأحاديث يأتون فيها بمعان من نسج أخيلتهم ويزعمون فيها مزاعم هي عين الأكاذيب التي لا يسندها أي دليل لا من الشرع، بل ولا من العقل في أكثر ما جاءوا به في شروحاتهم. 2- ثم ترقوا فقالوا: إن لهم علوماً لا توجد في الكتاب ولا في السنة يأخذونها جديدة عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن حسب زعمهم. وهذه الفرية هي التي استباحوا بموجبها كثيراً من الفواحش والمحرمات إذ أن النصوص التي يفيد ظاهرها التحريم قد يفيد باطنها الإباحة، والخضر يؤكد لهم ذلك، فإذا بتلك النصوص ظاهرها في واد وباطنها في واد آخر لا صلة بينها إلا تلك الروايات التي صدرت عن الخضر، أو بعض المنامات التي حدثت لأقطابهم الكبار الذين استباحوا كل محرم من الفواحش. 3- وهناك فرية أيضاً اقترفوها، وهي قولهم: أنهم يتلقون علومهم عن ملك الإلهام كما تلقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم علومه من ملك الوحي مباشرة. 4- وآخرون منهم يزعمون أنهم يتلقون علومهم عن الله رأساً وبلا واسطة؛ حيث تنطبع هذه العلوم في نفوسهم، وبموجبها يأتون ما يأتون من أمور. 5- وآخرون منهم يدَّعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم بأذكارهم وعبادتهم يقظة لا مناماً.

6- ثم زعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن وقصص الأنبياء على حقيقتها، وأنهم يجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم، وخرافات كثيرة ذكرها الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" يمجها السمع وينفر عنها الذوق. وكذا الغزالي حين دخل التصوف ولم يستطع الخروج منه رغم أنه كان من علماء الشريعة، فقد ذكر أشياء كثيرة عن الكشف الصوفي وخرافاتهم فيه مؤيداً له. وعتاة هذه الدعوى ابن عربي وعبد العزيز الدباغ والبسطامي والتجاني والمرسي وغيرهم (¬1) ، لقد كانت دعوى الكشف هي المقدمة الأولى في نظري إلى الادعاء بوحدة الوجود والحلول، فإن دعوى الكشف مبالغة فاحشة، ولكنها تعتبر من باب التمهيد لما هو أفحش منها، وهو ادعاء الاتصاف بالله والأخذ عنه مباشرة. ولذلك ترى كثيراً من المؤلفين من علماء التصوف زعموا أنهم لم يأتوا بما ذكروه في كتبهم إلا عن طريق الكشف الصريح يتلقونه عن الله مباشرة، رغم ما يحمل من كفر وفجور وزندقة وإباحية. كما زعم ابن عربي في فصوصه، والجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" الذي يقصد به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتصف حسب تقرير الجيلي بصفات الله تعالى، وبصفات أقطاب التصوف أحياناً؛ حيث يظهر في صورة أى شيخ منهم كالشبلي والجبرتي وغيرهما في زمنهم وفي غير زمنهم. وكتاب الجيلي "الإنسان الكامل" مملوء بالعبارات التي تؤدي إلى إحياء الخرافات والزندقة، فقراءة عابرة له تجعلك لا تتوقف في هذا الحكم عليه ولا ¬

(¬1) انظر: الفكر الصوفي ص 143 الفصل التاسع.

فيما كتبه عتاة التصوف كالدباغ وتلميذه أحمد بن مبارك والشعراني وعلي حرازم، وغيرهم ممن لا يلتزم بالعقيدة الإسلامية الصحيحة. ثم دخلوا على عوام المسلمين عن طريق الكشف الإلهي والوصول إلى الحقيقة وصفاء القلب والولاية، وغير ذلك من أنواع الشبكات الصوفية التي يصطادون بها الناس عن طريق دعوى الكشف والتظاهر بالزهد، وإكرام الله لهم بمعرفة ما لم يعرفه غيرهم، وفى كل ذلك تساعدهم الشياطين، وأكثر هؤلاء الذين يخبرون بالمغيبات عن طريق الكشف إنما يستعينون بالسحر والطلاسم. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الرابع عشر الشطحات الصوفية

الفصل الرابع عشر الشطحات الصوفية لقد وصل الصوفية في شطحاتهم إلى حد لا يقدم عليه إلا من تزندق وألحد وخرج عن الدين، ولقد فاضت كتبهم بذلك وتواتر النقل عنهم، وهو أمر لا يدع مجالاً للشك في إلحاد من يعمل ذلك منهم، وفي إعراضه عن الخلق الفاضل والعقل السليم، فضلاً عن الدين. ومما يلحظه القارئ أنهم بعد أن أوردوا أنفسهم تلك الموارد الوخيمة أرادوا أن يجدوا مخرجاً منها، فلم يجدوا لهم مخرجاً فادعوا أنهم إنما قالوا تلك الكلمات الكفرية في حال سكرهم بالله تعالى وغيبوبة عقولهم عن الإحساس بأى شيء غير الله، وما أقبح هذا العذر وأسمجه فهل هم أحب لله من الأنبياء ومن كثير من أتباعهم الذين لا يقاس بهم غيرهم، ولم يعثر عن أحد منهم أن تلفظ بما تلفظ به هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم زندقة وحقداً على الإسلام والمسلمين. ومما يدركه طالب العلم أن الشطحات الصوفية كثيرة جداً، لا يمكن حصرها إلا بدراسة وافية (¬1) ، غير أننا سنعرض هنا بعض الامثلة لتكون نموذجاً ¬

(¬1) انظر: ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه "شطحات الصوفية" الجزء الأول "أبو يزيد البسطامي"؛ حيث نقل أقوالاً كثيرة في شطحات الصوفية.

لبقية شطحهم وغلوهم ومقدار جرأتهم على اقتحام الامور العظيمة في الإلحاد. ونبدأ ببعض ما ذكر عن أبي يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى. 1- قال أبو يزيد عن الله تعالى: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعنى إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا". ومعناه أنه يطلب أن يصوره الله على صورته عز وجل تماماً، فإذا شاهده الناس قالوا: شاهدنا الله. والرواية عنه هي كما تقدم إلا أني أرى أن هذه العبارة: "إن خلقي يحبون أن يروك" ليست هكذا - ولم أر أحد بين هذا - ولكن لعل الصواب فيها "إن خلقي يحبون أن يروني"، ولهذا بين أبو يزيد كيفية الطريقة التي يمكن أن يرى الخلق فيها ربهم، وذلك بأن يرقى البسطامي إلى حد النيابة التامة عن الله تعالى صفة وشكلاً - تعالى الله. 2- وقال مرة: "سبحاني سبحاني". وقال: ضربت خيمتي بإزاء العرش أو عند العرش. 3- واجتاز بمقبرة لليهود فقال: "معذورون" ومر بمقبرة للمسلمين فقال: "مغرورون". 4- وقال: يخاطب الله: كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة. 5- وقال: لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة.

6- وقال: إلهي أن كان في سابق علمك أنك تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي فيه - أى النار - حتى لا يسع معي غيري. 7- وقال: ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول: اجعلنى لأهلها فداء أو لأبلعنها. ما الجنة؟ لعبة صبيان. 8- تلك بعض شطحات البسطامي، وهناك الكثير يوردها علماء الصوفية عنه بين مستحسن لها وبين مراوغ في معانيها (¬1) . أما الشبلي فهو الأخر له من الشطحات ما نذكر بعضه فيما يلي: 1- أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها فقال: "إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق". 2- وقال لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشتركاً. 3- وقال: أيش أعمل بلظى وسقر؟ عندي أن لظى وسقر فيها تسكن يعني في القطيعة والإعراض - لأنه من عذبه الله بالقطيعة فهو أشد عذاباً ممن عذبه بلظى وسقر. 4- وسمع قارئاً يقرأ هذه الآية: (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) (¬2) ، فقال الشبلي: ليتني كنت واحداً منهم. ¬

(¬1) انظر: لتلك الشطحات وغيرها كتاب: شطحات الصوفية ص 28 - 32 نقلاً عن اللمع السرَاج ص 380 - 394، وعن ماسنيون في مجموع نصوص ابتداء من ص 27، وحلية الأولياء 1/41. (¬2) سورة المؤمنون: 108.

5- وقال: إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفؤها فصعب ذلك على جماعة ممن كان يسمع ذلك. 6- وقيل له: لم تقول: "الله"، ولا تقول "لا إله إلا الله"؟ فقال: استحى أن أواجه إثباتاً بعد نفي.. أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار (¬1) . وقال أبو الحسن النوري وقد سمع المؤذن طعنه وشم الموت وسمع نباح كلب فقال: لبيك وسعديك. وسمع أبو حمزة الصوفي شاة مرغياً فقال: "لبيك يا سيدي". وقيل للتلمسانى وقد أشاروا له إلى كلب أجرب ميت: هو ذات الله أيضاً؟ فقال: "وهل ثم شيء خارج عنها" (¬2) . وهذه العبارات إنما هي أمثلة قليلة وهناك آلاف الشطحات في حال سكرهم بالله كما يزعمون، والحقيقة أنها صادرة عن أناس يدعون الحلول والاتحاد وهم في كامل وعيهم وشيطنتهم، وعندهم تمام الجرأة على الكذب على الله لجهلهم به عز وجل وهوانهم عليه. وإذا رجع القارئ إلى كتاب الطبقات الكبرى للشعراني فسيرى العجائب والغرائب مما ينقله الشعراني عن أسياده الذين ترجم لهم مبتدئاً بقوله: "فقال سيدى.. رضي الله عنه - ثم ملأ كتابه بأخبار هؤلاء في شطحاتهم وفي تصرفاتهم بما يستحي الإنسان أن يقرأه أو ينظر فيه، شطحات تصل إلى عمق ¬

(¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) إلى التصوف يا عباد الله ص 35.

الكفر، وتصرفات من أولئك الأقطاب تصرخ بالعار والفجور، وقد ترجم لعدد كثير، فارجع إليه إن أحببت أن ترى مهازل الصوفية وسقطاتهم التي لا تقال". وقد ترجم الشعراني لعدد كثير منهم، وزعم أنهم كلهم أقطاب التصوف، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنه حشر خيرة الصحابة رضوان الله عليهم بل جعل الخليفة الأول للمسلمين أبا بكر رضي الله عنه هو أول هؤلاء الأقطاب ثم عمر، إلى أن ذكر أيضاً كثيراً من خيار التابعين وعلماء الأمة الذين لا صلة لهم بخرافات الصوفية وخزعبلاتها، بل إن حشره لهؤلاء مع الحلاج والبسطامي والشاذلي والمرسي وغيرهم من عتاة التصوف يعتبر إهانة لهم. وقد سار على نفس المنهج كثير من مؤلفي الصوفية، كما فعل نفس المسلك الذي سلكه الشعراني، المنوفي في جمهرة الأولياء، وقبلهم القشيري، وكل من جاء بعد هؤلاء سلك نفس ذلك المسلك الخاطئ. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الخامس عشر التكاليف في نظر الصوفية

الفصل الخامس عشر التكاليف في نظر الصوفية يعتقد غلاة الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة أو خاصة الخاصة، ولذلك فإن لهم عبادات خاصة، ومناهج وطرق خاصة، ومفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيم العامة، خصوصاً بعد وصول أحدهم درجة اليقين - كما يزعمون - وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم، في الذكر والخلوة والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة. وقد يتفقون في بعضها وقد يختلفون، إلا أن كل صاحب طريقة يجعل على أتباعه أغلالاً وحواجز شديدة، بحيث لا يستطيع أحدهم أن يغير طريقته بطريقة أخرى، وحتى مجرد الذكر إلا بإذن الشيخ وكل ذلك إنما يفعلونه كما يزعمون من أجل ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، ولاستمداد العلوم والمعارف عن الله رأساً على يد شيخ خوله الله ومنحه القدرة على ذلك. وأما بالنسبة للتحريم والتحليل فأهل وحده الوجود منهم لا شيء يحرم عندهم؛ لأن الكل عين واحدة وفعل الخير وفعل الشر والقبيح والحسن إنما هي أفعال لا فروق بينها لاحتواء الذات لها كلها، ولذلك فقد حصل من بعض كبارهم وأئمتهم ما يستقبح الشخص مجرد ذكره؛ إذ كان منهم الزناة واللوطية والملاحدة، ثم لا يحق لأي شخص أن يعترض؛ لأن الشيخ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة. وأيضاً لا يفعل هذه الأمور التي يعتبرها الناس فواحش بجسمه وروحه بل بجسمه فقط، وأما روحه فهي أجل من أن تتدنى إلى فعل هذه الأمور

الجسيمة، وقد وجدوا من الناس الذين هم أضل من البهائم من يصدقهم في كل ما يصدر عنهم، فصدقوهم في التفرقة بين ما يفعلونه بأجسامهم لحكمة وبين ما في أرواحهم من السمو والتعالي عن ما يفعله سائر الناس، والعقل من أجل نعم الله على الإنسان. ثم اخترعوا مفهوماً ضالاً وهو أنه قد يصل الأمر أحياناً إلى حد أن للولي شريعته الخاصة، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقي شريعته الخاصة فلا يمنع أن يحصل الخلاف بينهما ويكون الجميع على الصواب، فالولي يتلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للخاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للعوام. ولذلك تجد في حلقات هؤلاء الصوفية الغلاة من الفواحش والخروج عن تعاليم الإسلام ما لا يمت إلى الإسلام بصلة؛ لأن هذه الأفعال من الاختلاط والحشيش وأنواع الفساد قد تكون مباحة في شريعة الولي مع حرمتها في شريعة النبي، ولكل شريعته. وما دام الشيخ الصوفي قد وصل إلى حد التلقي عن الله مباشرة واطلعه على كثير من أسرار هذا الكون وعرف الكثير من المغيبات فإنه والحال هذه ليس عنده طمع في جنة ولا خوف من النار، ومن هنا تنشأ الاستهانة التامة بجميع التكاليف الشرعية. وقد تبجح الكثير منهم بأنه لا يعبد الله طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار؛ لأن هذه العبادة معاوضة والصوفي قد اتحد بالله وفني فيه لأجله لا لغرض آخر، والخوف من النار أيضاً طبع العبيد لا طبع الأحرار كما تبجح البسطامي بقوله السابق: "ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول اجعلني لأهلها فداء أو

لأبلعنها، ما الجنة؟ لعبة صبيان"، وقول الشبلي: "إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفئوها". فهم يزعمون أنهم يعبدون الله حباً في الله لا كما يعبده الخائفون من النار الطامعون في الجنة فإن عبادتهم إنما هي على سبيل العوض لا حباً في الله - وعلى هذا فإن من سبقهم من صالحي المؤمنين والأولياء من الصحابة وغيرهم بل والأنبياء كانت همتهم قاصرة عن إدراك هذا المعنى الذي اهتدى إليه هؤلاء!! ومما يدل على تقدم ما نذكره فيما يلي من كلام الصوفية، حيث قسم المنوفي الناس بالنسبة لمراتبهم وقربهم وبعدهم عن الله تعالى ثلاثة أقسام تحت عنوان "حقيقة الطريق" فقال: "إن هذا الطريق وهو السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى عند قطع المنازل والترقي في المقامات ينقسم بحسب اختلاف أحوالهم إلى ثلاثة أقسام لكل قسم منها طريقة: فالقسم الأول ذوو الامزجة الكثيفة والأفهام الضعيفة الذين يعسر عليهم محاولة التعلم من طريق التعليم , فطريقهم يستقيم بالعبادة والتنسك والزهادة والصلاة والصوم وتلاوة القرآن والحج والجهاد وغيرها من الأعمال الظاهرة، لأن هذه الطائفة لصلابة أبدانها وقوة أركانها تتحمل مشاق العبادة ... والسالكون بهذا الطريق لا يزالون على هذه المناهج حتى يرقوا لأرفع المعارج ويقربون من مواطن تنزلات المعارف - وإذا وصلوا إلى هذا الحد -"، فحينئذ يكشف لهم عن سبحات المحبوب ويرون عجائب الغيوب ويتلقون عرائس الأسرار، وهذه الطرق صعبة جداً والواصل بها على خطر عظيم.

أما الثانية وهى طريقة أهل الخصوص وهم من ذوى الأفهام اللوذعية والأخلاق الرحبة والهياكل النورانية والنفوس الأبي، أولئك الذين قد لا يملكون نفوسهم في حال النزوات فطريقهم المجاهدات.. والسالكون بها لا يزالون يرتاضون في قلع ما انطبع في نفوسهم من الأخلاق الذميمة إلى أن تذهب تلك الطباع المكتسبة وترجع إلى فطرتها السليمة. والقسم الثالث هم ذوو النفوس الرضية والعقول الزكية والفطرة الصديقية التي أبدان أصحابها في نهاية الاعتدال واللطافة، وطريقهم طريق المطلوبين إلى الله والطائرين إليه، وهي طريق المحبوبين المخطوبين من رب العالمين، وملاك السير بها صفاء القلب، وصدق الحب، والتحقق ظاهراً وباطناً جهراً وسراً بشعائر التصديق، فيخرج عن حوله وقوته وعقله وفطنته إلى حول الله وقوته" (¬1) . وقال أيضاً: "وبما أن التصوف هو زبدة الديانات ولبها وليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية كان لكل ديانة تصوفها" (¬2) . وهذا الكلام فيه التصريح بأن التصوف لم يكن نبعه الإسلام فقط، وإنما هو زبدة الديانات أي أنه ملفق من ديانات شتى، وفيه أيضاً التصريح بأنه ليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية. والإسلام كما هو معلوم فيه بيان شامل لكل ما يحتاجه المسلم وهو نظام كامل، ولا يجوز تسميته مجرد تقاليد وطقوس، على أن القواعد الظاهرية ¬

(¬1) انظر: جمهرة الأولياء 1/157، 158. (¬2) ص 155.

نسبة إلى الظاهر يقصد بها قواعد الشريعة الذين يسميهم الصوفيون أهل الظاهر. وقد فرق أيضاً بين الزاهد والصوفى: بأن الزاهد هو الذي ينصرف عن الملاذ الدنيوية وينكر على نفسه جميع شهواته وإن أحلها الشرع، ويتحمل مرارة الجوع والعطش بصفة مستمرة وصوم دائم.. لا يفعل كل ذلك إلا طمعاً في ربح الآخرة والمكافأة بجنات النعيم. وأما الصوفي فلا يرجو من ذلك شيئاً وإنما همة الوقت الحاضر وهدفه أن زهد وأن عبد معرفة الله والاتصال برضوانه" (¬1) . ومعنى هذا أن الجنة والنار لا قيمة لها في نظر الصوفي: "لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة، ولكن بالسخاء والشجاعة وذمهم أنفسهم عند أنفسهم" (¬2) ، وهذا الكلام فيه الاستهانة بشرائع الإسلام حيث فضل السخاء والشجاعة وذم النفس على الصوم والصلاة. وقال أيضاً: "إن الله يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي" (¬3) ، وهذه دعوى صريحة إلى التكاسل في الطاعات وتعريض بقلة فضل الصلاة. ¬

(¬1) ص 156. (¬2) جمهرة الأولياء 2/175. (¬3) الرسالة القشيرية 2/606.

وتتضح منزلة التكاليف عند بعض أولياء الصوفية عند الشعراني في تراجمه لكثير من أعلامهم بما لا يدع مجالاً للشك في إلحاد وزندقة هؤلاء الذين يسميهم أولياء ويترضى عنهم أيضاً. وكمثال على ذلك ما أورده في ترجمته للشريف المجذوب حيث قال: "وكان أصله جمالاً عند بعض الأمراء ثم حصل له الجذب ... وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان ويقول: أنا معتوق أعتقنى ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال، وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش فوجدوها حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار" (¬1) . ومن أولئك الأولياء أيضاً بركات الخياط رضى الله عنه، كان رضي الله عنه من الملامتية ... وأخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه أحد جماعة سيدي أبي السعود الجارحي رضي الله عنه، قال: مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتى الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضو بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة , فقالوا له: نصلي الجمعة فقال: مالي عادة بذلك. فأنكروا عليه فقال: نصلى اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر منها، ثم وقع في مشخة حمير ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ الذي جاء بهم إلى هذا الرجل، وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك ¬

(¬1) الطبقات الكبرى بتقديم بعض العبارات - انظر 2/150.

بالعادة أبداً ... وله وقائع مشهورة رضي الله عنه" (¬1) . وأمثلة أخرى كثيرة يوردها الشعراني تدل على مدى استهتار هؤلاء الأولياء - حسب زعمه - بالأخلاق والدين والتكاليف، فقد ذكر عن علي وحيش ما يخجل القلم من كتابته ويتلعثم اللسان من النطق به (¬2) ؛ من الأعمال الفاحشة والزنا وفعله بالبهائم وصاحبها قائم أمامه، وإن لم يرض تسمر في مكانه كما يذكر الشعراني. ويبدو أن للكشف الصوفي علاقة قوية بترك التكاليف على حد ما أورده عنهم الشيخ سعيد حوى في قوله: "يربط بعض الصوفية بين الكشف وترك التكاليف، فيرون أن الإنسان متى كشف له شيء من أمر الغيب - وما أكثر ما يتوهون في هذا الشأن - سقط عنه التكليف، فلا صلاة ولا صيام ولا غير ذلك، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَى يَأتِيَكَ الْيَقِنُ} (¬3) " (¬4) . * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) الطبقات الكبرى 2/144. (¬2) المصدر السابق 2/149. (¬3) سورة الحجر: 99. (¬4) تربيتنا الروحية ص 200.

الفصل السادس عشر الأذكار الصوفية

الفصل السادس عشر الأذكار الصوفية أم الأذكار الصوفية فحدث ولا حرج عن خرافتهم فيها، وقد قدمنا من الأمثلة ما يوضح حال هؤلاء ومدى ما وصلوا إليه من الجهل بربهم والبعد عن هدى خير الأنام، هذا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. لقد اخترعوا أذكاراً وشرعوا أوراداً ما أنزل الله بها من سلطان، بل اشتملت على الكفر والزندقة في كثير منها والكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما اشتملت على كلمات سريانية غير معروفة المعنى وعلى رموز وحروف مقطعة لا يعرف المراد منها. وكل صاحب طريقة له أذكار هي أفضل من كل ذكر، وأجرها أعظم من كل أجر، وما عداه باطل حسب تخرصاتهم في كل ذلك، ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيءٍ} (¬1) ، فهم متفرقون قد لا يجمعهم إلا الاتفاق على الرقص وادعاء الوصول إلى الله ومكالمته ورفع الغير والغيرية بينة وبينهم. مع أن كل صاحب طريقة يدعى أنه يأخذ تلك الأذكار مباشرة عن الله عز وجل أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقظة لا مناماً كما يزعمون، وفضلوها تفضيلاً عالياً ليرفعوا شأنها في نفوس أتباعهم ومريديهم على القرآن والسنة والأدعية ¬

(¬1) سورة البقرة:113.

المأثورة، ويطول البحث لو أردنا ذكر نماذج من تلك الطرق المختلفة والأذكار المتباينة فيما بينها. فمنها الأذكار التجانية التي سبق ذكرها، ومنها أذكار البسطامي والرفاعي والجيلاني والشبلي وأبو العباس المرسي وآخرين كثيرين، ومنها أذكار الطريقة الشاذلية التي زعم أصحابها أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخضر هما اللذان علما الشيخ أحمد الإدريسي، حيث ذكر تلميذه صالح محمد الجعفري ذلك في كتابه مفاتيح كنوز السموات والأرض المخزونة التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لشيخ الطريقة الإدريسية المصونة (¬1) . وهي أذكار في غاية الركاكة والكذب على الله وعلى الرسول والاعتداء في الدعاء على حق الله ورسوله، ولم يكتف هؤلاء بادعائهم أنهم يأخذون أذكارهم عن الله ورسوله فقط، بل هناك كما يذكرون بعض الأولياء الذين قد ماتوا هم أيضاً يلتقون ببعض المشائخ الأحياء ويعلمونهم أدعية وأوراداً لا حد لأجر من يقولها. ولو كان الذكر كلاماً لا معنى له في أي لغة من اللغات المعروفة من مثال ما ذكروه عن الدسوقي أنه علمهم هذا الدعاء: "بسم الله الخالق يلجمه بلجام قدرته أحمى حميثاً أطمي طميثاً وكان الله قوياً عزيزاً حم عسق حمايتنا كهيعص كفايتنا ... " (¬2) إلى آخر الذكر الذي يدل على مدى ضحالة معرفتهم بالله ورسوله وعدم التفاهم إلى ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الدعاء الواضح المثمر في قلب العبد إذا دعا ربه بإخلاص وتوجه. وقد ذكروا من الأجر لقائل أذكارهم الجوفاء ما لا يحد ولا يعد ولا ¬

(¬1) انظر: الفكر الصوفي ص284. (¬2) المصدر السابق: ص290. نقلاً عن الإبريز للدباغ

يتصور في الذهن، وقد يبدو على تلك الأدعية حرارة الإيمان وصدق الالتجاء إلى الله تعالى، ولكنه في الحقيقة ليس موجهاً إلى الله فقط بل إلى أوليائهم الأحياء أو الأموات أيضاً. ومدار أذكارهم على الإثبات كما يزعمون، فهم يقتصرون على لفظة "الله" بدلا عن لا إله إلا الله يعللون لهذا المسلك بما لا مقنع فيه حتى للجهال العامة فضلاً عن أهل العلم، حيث يقولون: إن اقتصارهم على لفظة "الله" وتكرارها خوفاً أن يموت الشخص عند ذلك النفي في قول "لا إله". ولا ندري كيف يقرءونها في القرآن {فاعلم أنه لا إله إلا الله} ، وماذا يفعل المؤذن، وماذا يفعل الداخل في الإسلام عندما ينطق الشهادتين، وأمور أخرى لا يستطيع العقل أن يتصور مدى التخبط الذي حل بهؤلاء. ومن غريب أمر الصوفية في أذكارهم أنهم رتبوها على طريقة شيطانية من وحي شياطينهم، حيث جعلوا لكل اسم من أسماء الله تعالى ذكراً خاصاً به، ولطبقة خاصة به، فمن ذلك زعمهم أن اسم الله العفو يليق بأذكار العوام، لأنه يصلحهم وليس من شأن السالكين إلى الله ذكره. أما اسمه تعالى الباعث فإنه يذكره أهل الغفلة ولا يذكره أهل طلب الفناء، وأما اسمه الغافر فيلقن لعوام التلاميذ وهم الخائفون من عقوبة الذنب، وأما من يصلح للحضرة الإلهية فذكره مغفرة الذنب عندهم يورث الوحشة، وأما اسمه تعالى المتين فإن ذكره يضر أرباب الخلوة وينفع أهل الاستهزاء بالدين. وهكذا استمر السكندري في وصف أسماء الله وخواصها، وكأنما هو طبيب يصف العلاج ومنافعه، وقد تقدم ذكر الطريقة التجانية، ونضيف هنا ما استخلصه الشيخ عبد الرحمن الوكيل في بيانه لكيفيات الذكر الصوفي

ومراحله، فنوجز ذلك فيما يلي (بتصرف) : إذا جاء وقت المولد - الأعياد الوثنية - يجتمع الرجال والنساء أو الدراويش والدرويشات كما يحبون تسميتهم بذلك. بعد أن يتخموا بطونهم بأنواع المأكولات التي تقدم في هذه المناسبة يقوم الشيخ الكبير ويصفق بيديه اللامعتين من "دسم الحرام" إيذاناً ببدأ الذكر. يخرج من شفتيه ومنخريه اسم الله ملحداً في حروفه وفي النطق به. يقوم المتغزلون بإنشاد قصائد غزلية تلهب المشاعر، ويصاحبهم المطبلون وأصحاب الآلات المطربة. ثم يهب الشيخ ويهب معه المريدون يتمايلون يمنة ويسرة في حركات مثيرة صاخبة كل ينوح على ليلاه _ والآهات والزفرات والقبل، كما رأيتهم بعيني (¬1) - هي الشعار العام لهم، وكل واحد من الحاضرين يبذل أقصى جهده في إظهار أقوى الحركات والحماس ليلفت الأنظار إليه. على الحاضرين أن يستحضر كل واحد منهم صورة شيخه أمامه إن لم يكن موجوداً، أو يستمد منه العون في بدء قيامه بهذا الذكر قائلاً: مددك يا أستاذي، ثم يستأذن أصحاب الطريق والقدم فيقول: دستور ¬

(¬1) حينما ذهبت في رحلة علمية إلى دولة عربية سنة 1397هـ.

يا أصحاب الطريق والقدم. ينبغي على كل واحد أن يلتزم بطريقة الذكر، وهي كما يلي: أن يهتز من فوق رأسه إلى أصل قدميه. أن يبدأ بـ (لا) يميناً ويرجع بـ (إله) فيتوسط، ثم يختم (إلا الله) يساراً قبلة القلب. إذا ذكر اسماً مفرداً مثل الله، أو هو، أو حيّ لابد أن يضرب بذقنه على صدره. في كل ذلك يجب أن ينتع الكلمة من سرته إلى قلبه ثم يستمر هكذا في هذه الصور البهلوانية التي هي أقرب إلى الجنون والعربدة منها إلى أقل التفات إلى الله تعالى أو ثوابه وعقابه. يجب ملاحظة أن المريد لا يدعو بأي اسم لله إذا سمح له به الشيخ وإلا حصل عليه ضرر شديد. ثبت أن تلك الطريقة الصوفية في الدعاء أخذت بتمامها عن اليهود، حيث جاء ذلك في المزمور التاسع والأربعين بعد المائة في العهد القديم وهو: "ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود ليرنموا، هللوا يا، سبحوا الله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوع الهتاف" (¬1) ¬

(¬1) انظر: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل عفا الله عنه ص141-145. وانظر العهد القديم المزامير ص641.

ولقد ذكر ابن عطاء الله السكندري أدعية عن مشائخه وأسياده في الطريقة طويلة مملة ممجوجة، مملوءة بالتنطع والتعدي في الدعاء والإشعار بكبريائهم وعتوهم وطلبهم الحلول والاتحاد به، منه دعاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وفيه: "يا عزيز يا رحيم ... وأسقط البين بيني وبينك حتى لا يكون شيء أقرب إلي منك ... اللهم هب لي النور الذي أرى به رسولك صلى الله عليه وسلم ما كان ويكون، اللهم ارزقني من كنز لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة، واضربني بها ضرباً تمحق بها من قلبي كل قوة. باسم المهيمن العزيز القادر أجل كل شيء وهو ناصري ق. ج ن ص انصرني" (¬1) . ونفس الدعاء السابق أيضاً كان يدعو به القطب الكبير أبو العباس أحمد المرسي، بل وزاد عليه أشياء أخرى ومنه: "اللهم اهدني لنورك ... وهب لي علماً يوافق علمك ... وارفع الحجاب فيما بيني وبينك، وأسقط البين عني حتى لا يكون شيء بيني وبينك، واكشف لي عن الحقيقة الأمر.."، إلى أن قال: "كيف يكون ذنبي عظيماً مع عظمتك أم كيف تجيب من لم يسألك وتترك من سألك؟ إلهي جذبك لي أطمعني فيك ... قاف جيم سران مع سرك هب لي من نورك ما أتحقق به حقائق ذاتك" (¬2) الخ. ¬

(¬1) لطائف المنن ص342. (¬2) لطائف المنن ص 343-354.

ثم أورد السكندري دعاء حزب شيخه الشاذلي، وفيه: "لا إله إلا الله نور عرش الله، لا إله إلا الله نور لوح الله، لا إله إلا الله نور قلم الله، لا إله إلا الله نور رسول الله"، ثم كرر الدعاء على الصفة إلى أن قال: "وتالله لئن لم ترعني بعينيك وتحفظني بقدرتك لأهلكن نفسي ولأهلكن أمة من خلقك.. يا من به ومنه وإليه يعود كل شيء أسألك بحرمة الأستاذ، بل بحرمة النبي الهادي، بل بحرمة السبعين والثمانية.. اللهم صلني باسمك العظيم الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، وهب لي من سراً لا تضر منه الذنوب شيئاً.. واجعلني خزانة الأربعين" (¬1) . إلى آخر ما ورد من أذكار لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي سراب يحسبه الظمآن ماءً. ومنهم من يدعو بهذا الدعاء بدلاً عن سبحان الله وبحمده، لا إله إلا الله، بدلاً عن ذلك يدعو بهذا الذي تقشعر منه الجلود وتشمئز منه النفوس وهو من أدعية الطريقة الشاذلية. "سقفاطيس، سقاطيم آمون قاف آدم حم هأ آمين كد كد كردد ده بها بهيا بهيا بهيهات لمقفنجل يا أرض خذيهم" (¬2) ، نعم يا أرض خذيهم إنها مأساة حقيقية حين توجد تلك الأذكار الجوفاء ثم يتبعها الوجد والرقص والطبول والزغاريد كما نبينه فيما يلي: * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) المصدر السابق ص355-365. (¬2) انظر: الفكر الصوفي ص292، نقلاً عن أبى الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص210.

الفصل السابع عشر الوجد والرقص عند الصوفية

الفصل السابع عشر الوجد والرقص عند الصوفية لقد كان للغرام العارم والرقص والتمايل عند الصوفية مكانه ثابتة بل هذا النوع صار من أقوى الشبكات التي يصطادون بها من قلت معرفتهم بالدين الإسلامي الحنيف، وحقاً إنه نوع من الخلل في السلوك والاضطراب الذهني حين يعبدون الله بالرقص والحركات التي لا تمت إلى عبادة الله بأية صلة إلا كما تمت إليها عبادة اليهود من قبل حين حثتهم التوراة _ المحرفة _ العهد القديم _ المزامير على وجوب التسبيح لله بالدف والمزمار والعود والربابة. وعند الصوفية في أوقاتهم الخاصة مجالس يجتمعون فيها على الرقص والغناء والتصفيق والصياح بأصوات منكرة يمزقون فيها ثيابهم ويتمايلون حين يأخذ منهم الطرب مأخذه في حركات بهلوانية لا يفهم منها أي إشارة إلى الخوف من النار أو الرغبة في الجنة. وقد أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بمولد بعض كبارهم أو في أية مناسبة من مناسباتهم الكثيرة، يحضر عازفون وموسيقيون ويختلط بعضهم ببعض رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، ويجلس في هذه المناسبة كبار الأتباع يتناولون ألواناً من شرب الدخان، وكبار أئمتهم يقرءون عليهم بعض الخرافات المنسوبة لمقبوريهم (¬1) . ¬

(¬1) انظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص230

والغناء الذي يترنمون به يشتعل حباً وعشقاً وغراماً وقصائد وجد وحزن، فإذا سئلوا عن ذلك زعموا أنها من الطرق التي توصلهم إلى ربهم، أو هو الحب الإلهي كما يسمونه لترغيب الناس فيه. وهذه الصور البهلوانية الرعناء هي صورة الذكر. فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة يفعلون مثل هذا التنطع المذموم، وهل مثل تلك الحركات تشير إلى الخشوع لله تعالى والسكينة في العبادة من قريب أو من بعيد، وهل ذلك الاختلاط والتمايل يمكن أن يكون بعيداً عن الشيطان. إنها مهازل وسخرية بدينهم ومع ذلك فهم يتلمسون لهم الأدلة التي يجادلون بها مهما كان سقوطها. أدلتهم على جواز ذلك والرد عليها: وهكذا لم يكتف هؤلاء بتلك المسالك التي غلوا فيها إلى أن أخرجوا بعض عباداتهم في صور غنائية ورقص، بل حاولوا كذلك أن يجدوا لتلك الأفعال أدلة لمشروعيتها، ومن ذلك: زعمهم أن سلمان رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى: (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) (¬1) صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هارباً ثلاثة أيام. ومن ذلك أيضاً احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب عليه السلام: (اركض برجلك) (¬2) . ¬

(¬1) سورة الحجر: 43. (¬2) سورة ص: 42.

ومنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "أنت مني وأنا منك" فحجل، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" فحجل، وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" فحجل. ومنها احتجاجهم لسماع الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاريتين تغنيان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى بثوبه، فجاء أبو بكر فانتهرهم، فنهاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: "دعهما فإنها أيام عيد". ومنها أن الحبشة زفنت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليهم. واحتج أبو عبد الرحمن السلمي على جواز الرقص بما روي عن الشافعي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحداء يتغنى في دار العاص بن وائل بهذين البيتين: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت به زينب في نسوة عطرات فلما رأت ركب النميري أعرضت وهن من أن يلقينه حذرات قال فضرب برجله الأرض زماناً وقال: هذا مما يلذ سماعه. ومنها أن عمر رضي الله عنه كان ربما مر بآية في وردة فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضاً. ومنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في حق أبى موسى: " لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود " ومنها استحسان الرسول شعر النابغة حتى قال له: "لا يفضض الله فاك"، ووضعه أيضاً المنبر لحسان يقول عليه الشعر في هجاء المخالفين

للرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومنها أن بعض الصالحين رأى الخضر وسأله عن السماع الصوفي فقال له: ذلك هو الصفاء الزلال. ورأى أحدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن سماع الصوفية فقال له الرسول: ما أنكره، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختتمون بعده بالقرآن.. ومنها أن الخضر تواجد حتى سقط على جبهته وصار الدم يقطر منها ولا يقع على الأرض، حين سمع أبياتاً من الشعر قالها شخص بحضرته، ذكرها السهروردي. ومن أدلتهم أن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهو يقول له كلاماً والنبي صلى الله عليه وسلم قد وضع يده على صدره كالمتواجد بذلك. ثم أورد السهروردي أدلة كثيرة عن بعض الصوفيين في حال تواجدهم؛ بعضهم مشى على الماء، وبعضهم لم يحترق بالنار، وبعضهم يرتفع أذرعاً عن الأرض، إلى أن، ختم السهروردي أدلته - وهى كثيرة بزعمه - بهذه القصة، وهي أن أعرابياً أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد لسعت حية الهوى كبدى فلا طيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي فتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن

منكبيه، ثم قسم رداءه بينهم، حيث مزقه إلى أربعمائة قطعة (¬1) . تلك أهم الحجج التي يتمسك بها الصوفيون في مشروعية لهوهم وتواجدهم، فما مدى صحة استدلالهم، وهل ما ذكروه من تلك الروايات كلها صحيحة، أو هل كان فهمهم لها فهماً صحيحاً؟ والجواب عن هذه الاحتجاجات يحتاج إلى دراسة ووقت، ولكن أكتفى هنا بإيجاز الرد عليهم في دفع حججهم وأدلتهم بأنها احتجاجات واهية وتلفيق غير مقبول ومزاعم لا صحة لها: *فأما ما رووه عن سلمان فإنه كذب، ومحال كذلك، فقد رويت هذه القصة بلا سند. ثم إن الآية نزلت بمكة بالاتفاق كما قال القرطبي، وسلمان إنما أسلم بالمدينة كما هو معلوم. ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي أشد النهي عن مثل هذه الأمور المنافية للوقار والخشوع، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يبغض الصياح أو إظهار التخشع عند سماع القرآن أو المواعظ إلا في الحدود المشروعة، ومن ذلك ما رواه أنس قال: "وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فإذا برجل قد صعق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذا الملبس علينا ديننا إن كان صادقاً فقد شهر نفسه وإن كان كاذباً فمحقه الله" (¬2) . وقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يخشعون تمام الخشوع، فتذرف عيونهم وتخاف قلوبهم، ولم يصعق أحد منهم وهم أعرف ¬

(¬1) انظر عوارف المعارف ص 124-147، وانظر: كتاب حزب الرحيم 1/179 (هامش جواهر المعاني) ، وانظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 230. وانظر: الرسالة القشيرية 1/246 - 252. (¬2) تلبيس إبليس ص252.

بالله من غيرهم وأتقى له وأكثر انقياداً وقبولاً للحق تمسكاً به، ولو كان ذلك الوجد والهيام والصعق خير لما سبقهم أحد إليه. *واما احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب: (اركض برجلك) (¬1) فهذا احتجاج يدل على جهل صاحبه بحقيقة حال أيوب المبتلى بما لا يصبر عليه أحد إلا من أعانه الله وقوى يقينه، فإنه يقال لهذا المحتج: إن الله لم يأمر أيوباً بضرب رجله فرحاً وطرباً. وإنما أمر بضرب رجله من باب فعل الأسباب إكراماً من الله تعالى له، ثم إنه لم يركض برجله ابتداء وإنما تنفيذاً للأمر، وكذلك لإشعاره بتغير الحال، ولحكم أخرى لا يعلمها إلا الله تعالى ليس منها جواز الرقص، ولم يك حاله يستدعي أن يضرب برجله الأرض تواجداً وطرباً إلا عند الجفاة. *وأما احتجاجهم بحجل على وجعفر وزيد، فإن الحجل هو نوع من المشي يفعل عند الفرح وارتياح النفس أحياناً ليعبر الشخص به عن فرحه دون قصد الرقص والتمايل، والصحابة هؤلاء لم يكن منهم رقص ولا تمايل ولا إنشاد قصائد الغزل المهيجة، فليس فيه دلالة على ما يريد المتصوفة، وما فعله هؤلاء الصحابة إنما كانت حالة عارضة لا قصد لهم فيها لإظهار الطرب والتواجد. *وأما احتجاجهم بزفن الحبشة فإن الزفن أيضاً نوع من المشي مع الرقص ويشير كذلك إلى الاعتداد بالنفس، وأكثر ما يفعل عند اللقاء في الحرب إظهاراً للشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، وليس المقصود منه الرقص والطرب ¬

(¬1) سورة ص:42

كما يرى الصوفية. *وأما ما ذكروه عن سعيد بن المسيب - رحمه الله - فإنه مكذوب عليه، وليس هذا شعره، وهو أوقر من أن يصل إلى هذا الحد. *وهذه الأبيات فيما يذكره الأدباء قالها محمد بن عبد الله بن نمير الشاعر الثقفي، يتغزل فيها بزينب بنت يوسف الثقفي أخت الحجاج. وقد هرب بعد ذلك إلى عبد الملك خوفاً من الحجاج، فسأله عبد الملك بن مروان عن الركب ماذا كان؟ فقال له: كانت أحمرة عجافاً حملت عليها قطراناً من الطائف، فضحك عبد الملك وأمر الحجاج أن لا يؤذيه. ثم لو قدرنا أن ابن المسيب ضرب برجله الأرض فليس في ذلك حجة على جواز الرقص، ولا أنه ضرب بها وهو يريد الرقص، فإن الإنسان قد يضرب برجله الأرض أو يدقها لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصاً منه، بل إن الإنسان قد يضرب برجله الأرض إما فرحاً وإما غضباً وإما غيظاً (¬1) . *وأما احتجاجهم بسماع الرسول للجاريتين فهو استدلال غريب منهم على جواز الرقص والتمايل والتواجد؛ ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مسجي بثوبه، وهم حينما يتواجدون لا يتدثرون بثيابهم، بل تعلو همتهم ويشتد عراكهم ويمزقون ثيابهم، فأين فعلهم من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟. *كذلك فإن الجاريتين كانتا تنشدان كلاماً ليس فيه غزل أو تشبيب أو خروج عن حد الوقار والأدب، وكان الحال يستدعي الترويح عن النفس، خصوصاً وأنه يوم عيد وعائشة رضي الله عنها كانت جارية شابة. ¬

(¬1) انظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص231.

*وأما استدلالهم بما ينسبونه إلى عمر رضي الله عنه من أنه كان يلزم البيت اليوم واليومين حينما يسمع بعض الآيات في ورده؛ فإنه لم يعرف أن الصحابة كانت لهم أوراد يرددونها على طريقة الصوفية، بل ولم يعرف عنه أنه يمرض اليوم واليومين بسبب ما يسمعه من بعض الآيات، لا هو ولا غيره من الصحابة. *وأما استدلالهم بحسن صوت أبى موسى فليس فيه دليل على الوجد الصوفي، وإنما هو إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك النعمة التي أعطيها أبو موسى، فهل كان الصحابة يرقصون على سماع قراءته أو يصعقون أو يمزقون ثيابهم؟ كلا. *وكذلك استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الكلام أو الشعر ليس فيه دلالة للصوفية، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستحسن أشياء ويستقبح أشياء، وهذا أمر طبيعي في النفوس. *وأما ما يحشده أقطاب التصوف من الأدلة بالرؤى المنامية أو بمقابلتهم للخضر، فإنها أدلة باطلة، حتى ولو كان الرائي ثقة، فإنه لا يتعبد برؤياه فما بالك وتلك الرؤى الصوفية عن مجهولين، إضافة إلى التكليف الظاهر في رواياتهم. *وزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطرب ويتواجد ويضرب بيده على صدره ويمزق ثيابه ويعطيها لأصحابه كله كلام يدل على عدم احترامهم للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم معرفة قدرة العظيم. فهل كان يصل به التواجد إلى حد أن يسقط رداءه عن منكبيه من سماع تلك الأبيات الفارغة: قد لسعت حية الهوى

كبدي ... ؟ *وما ذكره السهروردي من أن بعض أقطاب التصوف يكاد أن يطير أو يرتفع من الأرض أذرعاً أو يدخل الشمعة في عينه أو يطأ النار ولا يحس بها أو يمشي على الماء أو غير ذلك من الحركات البهلوانية العشوائية التي يفعلها هؤلاء، فلا ريب أنها من أقوى الدلائل على تلاعب الشياطين بهم وإخراجهم عن حد الاعتدال الذي أقل ما يوصف به أنه ينافي الخوف من الله تعالى والرغبة في المغفرة. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثامن عشر الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية

الفصل الثامن عشر الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية للأولياء الحقيقيين كرامات لا تنكر، وقد كان للصحابة رضي الله عنهم من الكرامات ما هو جدير بهم، وكان لغيرهم من الأولياء والعلماء كرامات كثيرة، وهدفنا هنا من ذكر الكرامات وخوارق العادات هو بيان تلك الكرامات والخوارق التي تتم على أيدي أناس ليسوا من أولياء الله، وليس لهم صلاح يؤهلهم لذلك. وبيان أن ذلك من مكائد الشيطان وتلبيسه على الناس بأن يظهر لبعضهم أموراً غيبية تبدو كأنها كرامات من الله للشخص فيتخيل أنه بلغ منزلة عالية فاق فيها غيره من الناس، وأنه أصبح يماثل الأنبياء في كراماتهم وقربه من الله. وهذه الحال كثيرة الوقوع لمن يدعون أنهم أولياء لله، وأكثرهم في الحقيقة أعداء له وموالين لشياطينهم. ومن تلاعب الشياطين بهؤلاء: أن يسمع أحدهم صوتاً من حجر أو شجر أو صنم يأمره وينهاه بأمور في بعضها الشرك بالله فيظن المغرور أن الله خاطبه أو , الملائكة على سبيل الكرامة، ومعلوم أن الله لا يأمر بالفحشاء، والملائكة لا تأمر بالشرك بالله وإنما أولئك هم الشياطين يلبسون عليهم أمورهم كما كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام أيضاً. وقد يظن هؤلاء أن ذلك وحى من الله عليهم كما حصل لكثير من الذين قلت معرفتهم بالله كالمختار بن أبى عبيد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذاب ثقيف وغيره ممن استهوتهم الشياطين. ومنها: أن الشياطين قد تتمثل بصورة المستغاث به من الناس فيظن المشرك

بالله أن هذه الصورة هي الشيخ الفلاني أو الولي الفلاني، أو أن ملكاً جاء على صورته، وإنما هو في الحقيقة شيطان تمثل له ليضله. ومنها: أن تخاطب الشياطين بعض العبَّاد الجهال، ويوهمونه أنه المهدي المنتظر وصاحب الزمان الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويغرونه بزخرف القول وشتى الوساوس حتى يصدق نفسه فيدعي المهدية وغير ذلك. بل يبلغ الحال ببعضهم أن يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة وأنواراً وأشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة بين يدي الله تعالى وأن الله كشف له النظر إليه. وهذا يتطلب من المؤمن العاقل التنبه لمثل المكائد الشيطانية بلجوئه إلى الله والاهتداء بهدية، وسوء الظن بنفسه الأمارة بالسوء، وأن ينظر إلى نفسه من باب الذل والاحتقار والحاجة إلى ربه، ويزن أعماله بامتثاله أوامر الله واجتنابه نواهيه، فيحكم على نفسه عند ذلك بالتقصير أو القرب من الله تعالى. ويكبح جماح نفسه الأمارة بالسوء، وأن لا يصدق ما يتراءى له من كرامات تنافي الإسلام، مثل أنواع الكرامات التي تبجح بها بعض غلاة الصوفية لأنفسهم كما ذكرها المناوي، وهي: إحياء الموتى. وقد مثل بأبي عبيد اليسري الذي أحيا دابته بعد ما ماتت، ومفرج الدماميني الذي أحيا الفراخ المشوية، والكيلانى وأبو يوسف الدهمانى الذي أحيا لتلميذه ولده بعد ما مات. ومن الكرامات التي يزعمونها أن الأولياء من الصوفية لهم القدرة على المشي على الماء وكلام البهائم وطي الأرض وظهور الشيء في غير موضعه والمشي على السحاب وتحويل التراب إلى خبز وإبراء الأكمه

والأبرص. ويذكر علي حرازم منهم أن الولي يملك كلمة التكوين فإذا أراد شيئاً فإنه يقول له كن فيكون. وقد ذكر أمثلة كثيرة في كتابه جواهر المعاني لمثل هذا الخلط والكذب على الله وعلى الناس. ومن المعجزات والكرامات التي يملكها الأولياء من الصوفية - حسب زعمهم - سماع نطق الجمادات، كما يزعم ابن عربي الذي ملأ كتبه بأنواع الأكاذيب حول تلك المعجزات والكرامات الصوفية. ضمانة الجنة لمن أطعم صوفياً أو قضى له حاجة؛ كما ضمن ذلك التجاني لكل من أحبه أو أطعمه أو أحسن إليه بأي شيء كما يذكر التجانيون في كتبهم افتخاراً بكرامات سيدهم التي منها هذه الكرامة التي أكدها علي حرازم والفوتي نقلاً عن التجاني. وكل تلك الكرامات أشبه ما تكون بأحلام الصبيان أو صراعات المجانين، وتكذيبها والسخرية بها لا تحتاج إلى ضياع الوقت في الاشتغال بالردود عليها وبيان سخافتها ودجل من يدعيها ممن جرؤ على الكذب على الله وعلى الناس وضللوا أتباعهم وأخرجوهم عن الإسلام من حيث لا يشعر أولئك الأتباع، لأنهم أصبحوا كما قال الله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (¬1) . وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة من كلام أقطاب التصوف في الكرامات التي يزعمونها لأنفسهم أو لأوليائهم لترى مدى بعد تلك العقول عن الحق ¬

(¬1) سورة الأعراف: 179.

والأفكار الرديئة التي انطوت عليها الزعامات الصوفية. يقول عبد الكريم القشيري عن كرامات أبى الحسين النوري أنه قال: "كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين ثم قلت: وعزتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي، قال فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال" (¬1) . فهذا جاهل بحق ربه وأراد أن يقتل نفسه: وقد صادف ما قدره الله له - أو كان بفعل الشيطان ليغويه - أن خرجت له تلك السمكة، ومهما كان فإن هذا المسلك لم يكن من مسلك الأولياء على هذا النحو، وقال عنه: "وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شط دجلة فوجدها وقد التزق الشطان فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق". وقد فسر ذلك العروسي فقال: "أي التقى له الشطان بحيث لو مد رجله كان على الشط الآخر، فانصرف وقال تأدباً واعترافاً بتوالي نعم الله عليه في كل خارق: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق كسائر الناس" (¬2) . فكيف يكون الأدب مع الله أن ترد مكرمته إلا عند القشيري والنوري، وقال أبو الحارث الأولاشي: "مكثت ثلاثين سنة ما يسمع - أي ينطق - لساني إلا من سري ثم تغيرت الحال فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي". (¬3) "وكان يحيى بن سعيد يتعبد في غرفة ليس إليها سلم ولا درج، فكان إذا ¬

(¬1) الرسالة القشيرية 2/676. (¬2) ص678. (¬3) ص682.

أراد أن يتطهر يجيء إلى باب الغرفة ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويمر في الهواء كأنه طير ثم يتطهر فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود إلى غرفته" (¬1) . وقال أبو يعقوب السوسي: "جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ أنا غداً أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه وكفِّنِّي بنصفه الآخر، ثم لما كان الغد وطاف بالبيت ثم تباعد ومات، فغسلته وكفنته ووضعته في اللحد، ففتح عينيه فقلت أحياة بعد موت؟ فقال أنا حي وكل محب لله حي" (¬2) . وأما بالنسبة للخضر فحدث ولا حرج لقد ملأ الصوفيون كتبهم بحكايات عن الخضر لا حد لها ولا حصر إذ لا يخلو كتاب من كتبهم من نسج القصص والأساطير عليه، ومفادها أن الخضر يجيب كل من يستغيث به في أي بلد كان. ويذكر القشيري أنه حدث ابن أبى عبيد اليسري عن أبيه أنه غزا سنة من السنين فخرج في السرية فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية فقال: يا رب أعرناه حتى نرجع إلى بسرى يعنى قريته فإذا المهر قائم ... إلى آخر القصة. ومثل هذه القصة قصة أخرى وقعت لأحد الأولياء ذكرها أبو سبرة النخعي (¬3) ، وذكر السكندري أنواعاً من الكرامات التي تحصل للولي فقال: "ثم إن هذه الكرامات قد تكون طياً للأرض ومشياً على الماء وطيراناً في ¬

(¬1) ص685. (¬2) ص700. (¬3) انظر: الرسالة القشيرية ص712.

الهواء واطلاعاً على كوائن كانت وكائن بعد لم تكن من غير طريق العادة وتكثير الطعام أو الشراب أو إتياناً بثمرة في غير إبانها، وإنباعاً ماء من غير حفر أو تسخير حيوانات عادية، أو إجابة دعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبر عن الغذاء مدة تخرج عن طور العادة، أو إثمار لشجرة يابسة ما ليس عادتها أن تكون مثمرة له" (¬1) . ونقل عن المرسي قوله: "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: جلت في ملكوت الله فرأيت أبا مدين متعلقاً بساق العرش وهو رجل أشقر أزرق العينين.. الخ" (¬2) . وذكر السكندري عن الصوفي القرشي أنه جاءه الخضر بزيتونه من نجد وكان به مرض الجذام فقال له: كل هذه الزيتونة ففيها شفاؤك، فقال له: اذهب أنت وزيتونتك لا حاجة لي بها (¬3) . ثم شرع السكندري كغيره من علماء الصوفية في ذكر فضائل الخضر وأفعاله مع الأولياء الصوفية وأورد قصصاً في ذلك كثيرة ورد على الذين ينكرون وجوده بدليل أن إبليس موجود الآن فلا ينبغي جحد وجود الخضر وهذا الدليل من أبعد ما يكون عن الصواب، لأن وجود إبليس بنص القرآن والسنة، وجود الخضر إلى الآن لا دليل عليه لا عقلاً ولا نقلاً. وكرامات كثيرة يذكرها السكندري لمشائخه لا يصدقها عاقل نترك ذكرها هنا، ومن أراد الإطلاع عليها فليرجع إلى كتاب السكندري "لطائف المنن"؛ ¬

(¬1) لطائف المنن ص123. (¬2) ص146. (¬3) ص153.

حيث ملأه بكرامات وبشطحات أولئك المشائخ بما لا يجرؤ أي مسلم يخاف الله أن يتطاول على الله وعلى رسله ولو بأقل من تلك الشطحات الخرقاء من دعوى علم الغيب بكل شيء في هذا الكون مهما كان حقيراً في ليل أو نهار، ومن دعوى الاتحاد بالله ومجالسته، ومن دعوى مصاحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل وقت، ومن دعوى مشاهدة الجنة دائماً، وأشياء أخرى حين يقرأها المسلم يقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ومثل ما خاض فيه السكندري خاض فيه أيضاً الشعراني، ولا أرى أن المقام يسمح بذكر نماذج من تلك الكرامات الخيالية التي زعمها الشعراني لأقطاب التصوف الذين ترجم لكل واحد منهم وجاء في تراجمهم بما لا يقوله إنسان سليم الفترة سليم العقل عنده أدنى معرفة بالدين الإسلامي. إنها جرائم حشدها الشعراني في طبقاته على أنها كرامات لأولئك الذين زعم كذباً أنهم أولياء أقل ما فيها الاستهانة بجرائم اللواط والزنا والشذوذ الجنسي _ كما يسمى في عصرنا _ ومن غريب أمره أنه يذكر الشخص منهم ثم يأتي في ترجمته وكراماته بما ينكس الرأس حياء ثم يختمها بقوله عنه _ رضي الله عنه _. ولو أن هؤلاء الصوفية من أمثال ابن عربي والمنوفي والسهروردي والشعراني والسكندري وعلي حرازم والفوتي ذكروا كرامات قليلة وفيها نوع من التعقل لكنت نقلتها هنا ولكن لا حيلة في ذلك وكتبهم كلها مملوءة بكرامات كل واحدة تعلن أختها (¬1) ، ومن هنا أعرضت عن ذكر ذلك وكنت ¬

(¬1) انظر: الفتوحات المكية أربع أجزاء، جمهرة الأولياء جزئين، عوارف المعارف مجلد، طبقات الشعراني جزئين، لطائف المنن مجلد، جواهر المعاني جزئين، رماح حزب الرحيم جزئين، هامش جواهر المعاني، وغيرها من كتب الصوفية الذين غلوا في دينهم.

مثل خراش الذي قال فيه الشاعر: تكاسرت الضباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد على أن بعض تلك الكرامات لا تستحق أن تذكر لأحد؛ إذ فيها الاستهانة بالأخلاق والآداب العامة، وفيها التشجيع على اللهو والفسق. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل التاسع عشر تراجم زعماء الصوفية

الفصل التاسع عشر تراجم زعماء الصوفية للصوفية زعماء كثيرون ليس من السهل حصرهم وذكر تراجمهم غير أننا نحيل من أراد التوسع في تراجمهم إلى كتب الصوفية أنفسهم. وقبل إيراد بعض تلك الكتب أحب التنبيه إلى أن بعض علماء الصوفية حينما كتبوا تراجم لمشاهيرهم وأسلافهم ارتكبوا جرماً في حق الصحابة رضوان الله عليهم وفي حق غيرهم من خيار المسلمين وعلمائهم، حيث حشروهم في سلسلة واحدة مع كبار غلاة وفساق الصوفية الذين وصل بهم الاستهتار بأخلاق وبأمور الدين الشرعية وبالآداب الإسلامية، بل والعرفية إلى حد يستحي الإنسان من ذكرها، وأعمال لا يتصور وقوعها من جهال المسلمين، فما الظن بطلاب العلم، بل وما الظن بأولياء الله؟ وكنت قد جمعت عدة أوراق في تراجم أقطاب التصوف، ولكني رأيتها أليق بكتب التاريخ وتطول بها هذه الدراسة فاكتفيت بذكر بعض المراجع التي اهتمت بدراسة شخصيات علماء التصوف ونقل أخبارهم وشطحاتهم وكشوفاتهم ومنزلتهم عند الله وعند الناس، وما آل إليه أمر كل واحد منهم، ومن أهم تلك الكتب: الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي 471-465هـ، وهي مجلدان، خصص

المجلد الأول من ص61 إلى آخره لتراجم مشائخ التصوف، ابتدأه بهذا العنوان: "فصل في ذكر مشائخ هذه الطريقة وما يدل من سيرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة" (¬1) ، ثم ذكر تراجم لثلاثة وثمانين شخصاً من كبار زعماء التصوف. الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار تأليف عبد الوهاب ابن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني. ظهر في القرن العاشر الهجري. والطبقات مجلدان خصصهما لتراجم كبار علماء الصوفية من رجال ونساء، وقد ترجم لأربعمائة وأربعة وعشرين شخصاً، بإضافة مشائخه وعددهم 87 شخصاً، وقد بدأ تراجم هؤلاء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وختمهم بعلي بن شهاب جده الأدنى، ثم ابتدأ بمحمد المغربي الشاذلي وختمهم بالشيخ علي العياشي. جمهرة الأولياء أعلام أهل التصوف، تأليف محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. مجلدين، خصص الجزء الثاني لترجمة كثير من الأعلام، أعلام الصحابة وأهل الصفة، ثم ترجم لعدد من أعلام التصوف تحت عنوان: "طبقة التابعين وتابعيهم ذكر التابعين من الأولياء" (¬2) . ثم ترجم لسبعة وثمانين شخصاً، حشر بعض الفضلاء من أعلام الإسلام ¬

(¬1) الرسالة القشيرية 1/61 (¬2) 1/80

مع كبار الغلاة من الصوفية دون تمييز. كتاب عوارف المعارف لأبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد عموية الصديقي القرشي التميمي اليكري الشافعي الملقب بشهاب الدين السهروردي 539-632هـ، ولم يبرز التراجم لرجال الصوفية في هذا الكتاب إلا أنه ذكر كثير من أعلام التصوف في ثنايا أبواب الكتاب. لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، وطريقته مثل طريقة السهروردي. جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني- تأليف/علي حرزام ابن العربي برادة المغربي. كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم-تأليف/عمر بن سعيد الفوتي الطوري الكدوي. و"جواهر المعاني" مجلدان، وكذا"الرماح" مجلدان بهامش كتاب جواهر المعاني، اهتم المؤلفان ببيان الطريقة التجانية، وذكر التجاني وكبار أتباعه بتوسع تام. وقد ألف بعض العلماء مؤلفات خاصة عن شخصيات الصوفية مثل ابن عربي والبسطامي والتجاني والنقشبندي وابن سبعين والغزالي وابن الفارض والحلاج والجيلاني. * * * * * * * * * * * * * *

بعض المراجع عن الصوفية

بعض المراجع عن الصوفية كتب الصوفية 1- الرسالة القشيرية-للقشيري. 2- عوارف المعارف. للسهروردي. 3- لطائف المنن. للسكندري. 4- جمهرة الأولياء. للمنوفي. 5- جواهر المعاني. علي حرازم. 6- رماح حزب الرحيم. الفوتي. 7- الطبقات الكبرى. الشعراني. 8- الفتوحات الربانية. ابن العربي. 9- فصوص الحكم. ابن العربي. 10- تائية ابن الفارض. ابن الفارض. 11- تخريج الأربعين السلمية في التصوف. للسخاوي، تحقيق علي حسن. 12- الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية. محمد السيد التجاني. 13- الغنية لطالبي طريق الحق. عبد القادر الجيلاني.

14- رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات. لجنة جماعة الصوفية في ألورن. * * * * * * * * * * * * * *

ومن الكتب التي ألفها علماء الإسلام من غير الصوفيين 1- الصوفية والفقراء. شيخ الإسلام ابن تيمية. 2- الجزء11 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام. 3- هذه هي الصوفية. عبد الرحمن الوكيل. 4- الفكر الصوفي. عبد الرحمن عبد الخالق. 5- التصوف معتقداً ومسلكاً. صابر طعيمة. 6- التصوف المنشأ والمصدر. إحسان إلهي ظهير. 7- التصوف والاتجاه السلفي في العصر الحديث. مصطفى حلمي. 8- إلى التصوف يا عباد الله. الجزائري. 9- التجانية. علي بن محمد الدخيل الله. 10- رسائل وفتاوى في ذم ابن العربي الصوفي. جمع وتحقيق موسى الدويش. 11- النقشبندية عرض وتحليل. عبد الرحمن دمشقية. 12- كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق. عبد القادر حبيب الله السندي.

13- الهداية الهادية إلى الطائفة التجانية. محمد تقي الدين الهلالي. 14- الصوفية نشأتها ونطورها. محمد العبدة، طارق عبد الحليم. 15- نظرات في معتقد ابن عربي. كمال محمد عيسى. 16- الرفاعية. عبد الرحمن دمشقية. 17- نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام. سارة عبد المحسن السعود. * * * * * * * * * * * * * *

تتمة المنهج

تتمة المنهج لقد استحسن بعض أعضاء العقيدة إضافة بعض الجوانب عن المرجئة، وبعض المسائل عن الفرق الإسلامية كان لها دور بارز في قيام مفاهيم جديدة على العقيدة الإسلامية التي عليها أهل السنة والجماعة. ومما أحب التنبيه عليه أن تلك الفرق التي سنأخذ بعض الفقرات عنها تعتبر من الفرق الأساسية في تقسيم الأمة الإسلامية وتفرقهم، وقد حظيت تلك الفرق بالدراسة الواسعة من قبل علماء الفرق ومؤلفي العقائد الإسلامية، وقد ألفت فيها مؤلفات لا تكاد تحصر، كما أنها قد مرت دراستها بصفة عامة على طلاب هذه المرحلة من الدراسة، ولا يزالون أيضاً يدرسونها في مادة التوحيد. ومن هنا فإنني سأكتفي بذكر الفقرات المستحسن إضافتها إلى المنهج تاركاً ماعدا ذلك من أخبار تلك الفرق سواء تاريخية منها أو عقدية، فهي كما تقدم تحتاج إلى مؤلفات لدراستها وبيان ما قاله علماء الإسلام عنهم، ولعل ما أكتبه هنا يصح أن يوصف بأنه من باب التذكير بالمعلومات السابقة، أسأل الله أن ينفعني وإخواني طلاب العلم بما نقرأ ونسمع، وأن يرزقنا حسن النية والرغبة في خدمة الإسلام والمسلمين فهو القادر على ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل. * * * * * * * * * * * * * *

الباب الحادي عشر دراسة المرجئة

الباب الحادي عشر دراسة المرجئة أولاً: تمهيد: المرجئة من أوائل الفرق التي تنسب إلى الإسلام في الظهور، وقد احتلت مكاناً واسعاً في أذهان الناس وفي اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداتهم بين مدافع عنهم ومحاج لهم، وبين معجب بأدلتهم وبين داحض لها، ومن هنا نجد أن المقصود بالإرجاء بالذات لم يتفق علماء الفرق والمقالات على تعيينه دون اختلاف، كما أن قضية الإرجاء قد جرّت كثير من علماء الأمة الإسلامية المشهورين إلى الركون إليها على تفاوت في المواقف والمفاهيم حيالها، ووجد بعض علماء السلف طريقاً إلى انتقاد مسالك آخرين، ووجد لهؤلاء مدافعين عنهم ومؤيدين لفكرتهم دفاعاً قد يصل إلى درجة التعصب وليّ أعناق النصوص لتوافق ما يذهبون إليه، كما وجد قسم من المدافعين حاولوا جهدهم لتقريب وجهات النظر بين القائلين بالإرجاء وبين مخاليفهم فيه. ولقد أخذت تلك الخصومات أشكال من العنف واللين، كما التهمت كثيراً من الأوقات والجهود التي لو كانت قد بذلت في خدمة ودراسة العقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة ومعتقد السلف لكان لها من النفع والخير ما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولكنها ذهبت حول تقرير حقيقة الإرجاء والرد عليه وجمع أدلته

والوقف عندها، واستنتاج مفاهيمها ومقارنة بعضها بالبعض الآخر، وكان يكفي للانتهاء عن الخوض في هذه القضية وقفة واحدة متأنية، ومواجهة الحقيقة التي طالما أغفلها هؤلاء وأولئك ألا وهي الإرجاء الذي هو بمعنى ترك الأعمال وعدم الاهتمام بها لا مكان له في الواقع إلا عند المتأخرين الذين يريدون التحايل والانفلات بأي وسيلة، ذلك أن الذين قرروا الإرجاء في بدء أمرهم عند التحقيق من أكثر الناس عبادة وعملاً، بدليل أنك تجد الشخص منهم يحث على الإرجاء بكلام قد ألفه وحفظه، ولكن إذا جاء إلى ميدان العمل تجده من المحرضين على اغتنام الفرص، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فلم يبق للإرجاء عنده إلا ذلك الجزء من الكلام المردد في إيقاظ الخصومة (¬1) . ومن هنا نجد أن شيخ الإسلام رحمة الله - وقد قدم دراسة وافية للمرجئة- يذكر أن السلف كانوا يصلون خلفهم ويترحمون عليهم، وإنما يشنعون عليهم مسلكهم الخاطئ في تأخير العمل عن الحقيقة الإيمان، وهؤلاء هم مرجئة الفقهاء بخلاف مرجئة الجهمية الغلاة. وقبل البدء بتفاصيل فكر المرجئة وبيان نشأته وما آل إليه، قبل أن نذكر على سبيل الإيجاز التعريف بالمرجئة لغة واصطلاحاً. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، وانظر كلام عمر بن ذر الهمداني، حلية الأولياء 5/108

الفصل الأول التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحا وبيان أقوال العلماء في ذلك

الفصل الأول التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحاً وبيان أقوال العلماء في ذلك الإرجاء في اللغة: يطلق على عدة معاني منها: الأمل والخوف والتأخير وإعطاء الرجاء، وقد يهمز وقد لا يهمز. قال تعالى: {وترجون من الله ما لا يرجون} (¬1) ، أي لكم أمل في الله لا يوجد عندهم، وقال تعالى: {ما لكم ترجون لله وقاراً} (¬2) ، أي ما لكم لا تخافون من عذاب الله تعالى؟ أما الإرجاء بمعنى التأخير فمثل قول الله تعالى: {قالوا أرجه وأخاه} (¬3) ، قرئ أرجه وأرجئه أي أخره، وقال تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله} (¬4) . ويذكر الأزهري حال استعمال الجاء بمعنى الخوف بقوله: إنما يستعمل الرجاء في موضع الخوف إذا كان معه حرف نفي، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} المعنى مالكم لا تخافون لله عظمة. قال الفراء: وقد قال بعض المفسرين في قول الله: {وترجون من الله ما لا يرجون} : إن معناه ¬

(¬1) سورة النساء: 104، وانظر التفسير ابن الكثير 1/550. (¬2) سورة نوح: 13. (¬3) سورة الأعراف: 111، والشعراء36. (¬4) سورة التوبة: 106.

تخافون (¬1) والإرجاء يهمز ولا يهمز، قال ابن السكيت: يقال: أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته، قال الله عز وجل {وآخرون مرجون لأمر الله} وقرئ مرجئون، وقرئ أرجه وأخاه، وقرئ أرجئه وأخاه. قال: ويقال هذا رجل مرجئ، وهم المرجئة، وإن شئت قلت: مرج وهم المرجية ... وقال غيره: إنما قيل لهذه العصابة مرجئة، لأنهم قدموا القول وأرجوا العمل، أي أخروه" (¬2) . تعريف الإرجاء في الاصطلاح: اختلفت كلمة العلماء في المفهوم الحقيقي للإرجاء، مفاد ذلك نوجزه فيما يلي: 1- أن الأرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي؛ أي بمعنى التأخير والإمهال - وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله في منزلة ثانية بالنسبة للإيمان لا أنه جزء منه، وأن الإيمان يتناول الاعمال على سبيل المجاز، بينما هو حقيقة في مجرد التصديق، كما أنه قد يطلق على أولئك الذين كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. كما أنه يشمل أيضاً جميع من أخر العمل عن النية والتصديق. 2- وذهب آخرون إلى أن الأرجاء يراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى ¬

(¬1) قال ابن الكثير في معنى الآية: "أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه وفي إقامة كلمة الله وإعلائها"1/550. (¬2) انظر: تهذيب اللغة11/181، 183، وانظر معاجم اللغة مادة"رجا".

يوم القيامة، فلا يقضى عليه في الدنيا حكم ما (¬1) . وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي رضي الله عنه من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة (¬2) ، أو إرجاء أمره هو وعثمان إلى الله ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر، وخلص بعضهم من هذا المفهوم إلى وصف الصحابة الذين اعتزلوا الخوض في الفتن التي وقعت بين الصحابة وخصوصاً ما جرى بين علي ومعاوية من فتن ومعارك طاحنة، خلصوا إلى زعم أن هؤلاء هم نواة الإرجاء، حيث توقفوا عن الخوض فيها واعتصموا بالسكوت، وهذا خطأ من قائليه؛ فإن توقف بعض الصحابة إنما كان بغرض ريثما تتجلى الأمور، واستندوا إلى مفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت - أو وقعت - فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة" (¬3) . ومن هؤلاء الصحابة الذين امتنعوا عن الخوض في تلك الأحداث المؤسفة: سعد بن أبى وقاص، وأبو بكرة راوي الحديث السابق، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين؛ حيث توقفوا ثم أرجئوا الحكم في تلك الفتن وفوضوا أمر المختلفين فيها إلى الله سبحانه وتعالى فلم يحكموا بتخطئة أحد أو ¬

(¬1) انظر: مقالات الأشعري تعليق 1/213. (¬2) هذا هو الصواب فإن ترتيب الخلفاء في الفضل مثل ترتيبهم في الخلافة ويبدو الأثر الشيعي في هذا القول واضحاً. (¬3) أخرجه البخاري 13/30، ومسلم 1/2213، واللفظ له.

تصويبه مع اعترافهم بفضل الجميع، فكيف يعتبر هؤلاء هم أساس الإرجاء، فإن موقفهم لا يعد التوقف عن الدخول عن نصرة أحد بالسيف، وهم في توقفهم كانوا يستندون إلى النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، والتي تحذر من الدخول في الفتن، فقد كان هؤلاء يودون لو أن الأمور تمت معالجتها بالصبر والصلح بين المتقاتلين، بدلاً عن التسرع في القتال ابتداء قبل بذل أسباب الوفاق. وهذا الموقف منهم هو عين الصواب؛ فإن السلامة من قتل المسلم خير من التعيير بالتريث لعدم قتاله. وليس إرجاء حكم هؤلاء الصحابة في علي ومعاوية هو أساس الإرجاء البدعي، فالواقع أن إطلاق اسم الإرجاء على كل من يقول عن الإيمان: إنه قول أو تصديق بلا عمل، أو القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة - هو الأغلب في عرف العلماء حينما يطلقون حكم الإرجاء على أحد؛ بل هو المقصود بالإرجاء. وفي كل ما تقدم يقول الشهرستاني: "الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه) " أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء. أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر× فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما

في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار (¬1) ، إلى أن قال: وقيل: الإرجاء تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة (¬2) . *** ¬

(¬1) مذهب السلف أنه لا يجوز الحكم على معين بالجنة أو بالنار إلا ما جاء التنصيص عليه عن الشارع. (¬2) الملل والمحل 1/139.

الفصل الثاني الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة

الفصل الثاني الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة الأساس الذي قام عليه مذهب الإرجاء هو الخلاف في حقيقة الإيمان ومم يتألف، وتحديد معناه، وما يتبع ذلك من أبحاث. وهل الإيمان فعل القلب فقط أو هو فعل القلب واللسان معاً؟ أي والعمل غير داخل في حقيقته، وبالتالي لا يزيد الإيمان ولا ينقص؛ إذا التصديق واحد لا يختلف أهله فيه، هذه أهم ميزات بحوث هذه الطوائف المرجئة، وإلى كل قسم من تلك الأقسام ذهب فريق من المرجئة. إلا أن أكثر فرق المرجئة على أن الإيمان هو مجرد ما في القلب ولا يضر مع ذلك أن يظهر من عمله ما ظهر، حتى وإن كان كفراً وزندقة، وهذا مذهب الجهم بن صفوان، ولا عبرة عنده بالإقرار باللسان ولا الأعمال أيضاً؛ لأنها ليست جزءاً من حقيقة الإيمان. وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو القول باللسان، ولا يضر مع ذلك أن يبطن أي معتقد حتى وإن كان الكفر. وذهب أبو حنيفة رحمة الله إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، لا يغنى إحداهما عن الآخر؛ أي فمن صدق بقلبه وأعلن التكذيب بلسانه لا يسمى مؤمناً. وعلى هذا قام مذهب الحنفية وهو أقرب مذاهب المرجئة إلى أهل السنة لموافقتهم أهل السنة في أن العاصي تحت المشيئة، وأنه لا يخرج عن الإيمان. وخالفوهم في عدم

إدخال العمل في الإيمان يزيد وينقص، فلم يقولوا بذلك. هذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة من المرجئة، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن قال بقوله من فقهاء الكوفة الذين أخروا العمل عن حقيقة الإيمان وماهيته. على أن في نسبة الإرجاء إلى أبى حنيفة من الخلاف الكثير بين العلماء ما لا يخفى، هل كان أبو حنيفة من المرجئة كما وصفه كتاب المقالات والفرق، أم كان ضد الإرجاء كما يصفه المدافعون عنه؛ لأن الإرجاء يتميز بالتساهل في الأعمال وتأخيرها من منزلة الإيمان، وأبو حنيفة رحمة الله تعالى بلغ حداً كبيراً في الاهتمام بالفروع، مما يدل على أنه يهتم بالعمل، وهذا عكس الإرجاء، فكيف يوصف بالإرجاء حسب هذا الدفاع عنه!! وأما ماجاء في الكتاب المنسوب إليه الفقه الأكبر، من عبارات تدل دلالة واضحة على إرجائه - فقد شكك هؤلاء المدافعون عنه في صحة نسبة هذا الكتاب إليه، بل كذبوا نسبته إليه. ودافع عنه الشهرستاني وذهب إلى أن نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة إنما كان سببه في رأيه-المعتزلة والقدرية- عن سوء فهم منهم لرأي أبي حنيفة الذي يرى بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان، إضافة إلى أن المعتزلة-كما يرى الشهرستاني- كانوا يسمون كل من خالفهم مرجئاً (¬1) . والواقع أن النقول بإرجاء أبي حنيفة كثيرة، وعلماء الفرق أغلبهم يقر ¬

(¬1) الملل والنحل 1/141.

نسبة الإرجاء إليه بالمعنى الذي قدمنا ذكره. وهذا هو الثابت، ولا يقال: إن أبا حنيفة كان من غلاة المرجئة بالجهمية مثلاً، وذلك لموافقته أهل السنة والاعتقاد السليم في جوانب كثيرة في باب الإيمان وإن خالفهم فيما ذكر. ولقد بذل كثير من علماء الأحناف جهدهم ليجعلوا الخلاف بينهم وبين أهل السنة في حقيقة الإيمان لفظياً، فلم يتم لهم ذلك مع أنهم يستندون إلى جعل الخلاف لفظياً على الاتفاق الحاصل فعلاً بينهم وبين أهل السنة في مرتكب الكبيرة عند الله؛ إذ لا يسمى كافراً ولا يحكم له بالخلود في النار يوم القيامة، بل هو تحت المشيئة إن شاء الله عفى عنه بفضله وإن شاء عاقبه بعدله. وكذلك اتفاقهم على أن الأعمال لا بد منها، وأن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ولكن امتنع عن العمل فلم يقم به-أنه يستحق اللوم والعقوبة، وأنه من العصاة. إلا أن كل هذه الحجج لا تجعل الخلاف لفظياً؛ وذلك أن أهل السنه لايخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، فالتفرقة بين الأعمال والإيمان لا يقول بها السلف. كما أن السلف لا يرون أن الناس على درجة واحدة في الإيمان والتوحيد، كذلك حكم الأحناف للعصاة بالإيمان الكامل لم يوافقهم فيه السلف، كما أن السلف لا يوافقونهم في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه. والحاصل: أن المرجئة أقسام كثيرة وأنهم يختلفون في بعض أسس الإرجاء، كما سيتضح ذلك إن شاء الله. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثالث كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب

الفصل الثالث كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب عرفنا مما سبق في التعريف بالمرجئة أن الإرجاء في بدء الأمر كان يراد به في بعض اطلاقاته أولئك الذين أحبو السلامة والبعد عن الخلافات وترك المنازعات في الأمور السياسية والدينية، وخصوصاً ما يتعلق بالأحكام الأخروية من إيمان وكفر وجنة ونار، وما يتعلق كذلك بأمر علي وعثمان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وغيرهم. وما جرى بين علي ومعاوية من أحداث- كما مثله الحسن بن محمد بن الحنفية ومن جاء على طريقته- إلا أنه من الملاحظ أنه بعد قتل عثمان رضي الله عنه وبعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجياً. فظهر الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الأيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولاتنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملاً لايتزعزع. وهذا بلا شك غلو وتطرف مذموم. وأهل هذه المرحلة ممقوتون ومذهبهم يفضي إلى درجة الإباحية والتكاسل والتعويل على عفو الله وحده دون العمل لذلك. وهو أمر تأباه الشريعة

الإسلامية. ولقد احتدم النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة من جانب، وبين المرجئة من جانب آخر في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ويظهر أثر ذلك في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وأمره في الآخرة إلى الله وإلى مشيئته- كما يقول السلف- أم هو كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار- كما تقول الخوارج- لأنه أخل بالعمل فكفر؟ أم هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة هو مخلد في النار- كما تقول المعتزلة-؟ أم هو مؤمن كامل الإيمان لم يتأثر إيمانه بالكبيرة مطلقاً- كما تقول المرجئة- لأنه مصدق بقلبه فلا مجال لأن يتأثر إيمانه؛ لأن الإيمان عندهم- على هذا المفهوم- لا يزيد ولا ينقص بل يبقى إيمانه كاملاً إذا كان التصديق موجوداً في قلبه. وفي الحقيقة أن مذهب المرجئة تطور على هذا المفهوم حتى صار من أوسع المذاهب وأكثرها تساهلاً. فبينما الخوارج يرون أن مرتكب الذنب كافرا مخلد في النار، والمعتزلة تراه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي الآخرة مصيره النار، ثم تزعم هاتان الطائفتان أن الناس كلهم كفار إلا من كان خارجياً، وتزعم المعتزلة أن الناس كلهم كفار إلا من كان معتزلياً، فضاقت نظرتهم إلى غيرهم، فإذا بالمرجئة توسع المجال، فزعمت أن كل طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتصدق به تعد من المؤمنين الخلّص بغض النظر عن عملها بعد ذلك، بالخوارج والشيعة والمعتزلة وسائر الطوائف في نظر المرجئة هم من أهل الإيمان الكامل. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الرابع بيان أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة

الفصل الرابع بيان أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة تطورت فكرة الإرجاء حتى وصلت في دورها المتأخر إلى الحد الذي يصدق عليها أنها ظاهرة بدعية خطيرة بعد أن تضاربت الأفكار، وتعصب كل فريق لفكره ولرأيه من خوارج وشيعه ومعتزلة وجهمية وأشعرية وغيرهم كما تقدم، ولكن من الذي بدأ بهذه الفكرة التي تطورت بعد ذلك إلى أن وصلت على ما هي عليه اليوم. يذكر العلماء أن الحسن بن محمد بن الحنفية هو أول من ذكر الإرجاء في المدينة بخصوص علىّ وعثمان وطلحة والزبير، حينما خاض الناس فيهم وهو ساكت ثم قال: قد سمعت مقالتكم ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا يتبرأ منهم (¬1) . ولكنه ندم بعد ذلك على هذا الكلام وتمنى أنه مات قبل أن يقوله، فصار كلامه بعد ذلك طريقاً لنشأة القول بالإرجاء، وقد بلغ أباه محمد بن الحنفية كلامُ الحسن فضربه بعصا فشجه، وقال: لاتتولى أباك عليّا؟ ولم يلتفت الذين تبنوا القول بالإرجاء إلى ندم الحسن بعد ذلك، فإن كتابه عن الإرجاء انتشر بين الناس وصادف هوى في نفوس كثيرة فاعتنقوه (¬2) . ¬

(¬1) انظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ص 244. (¬2) لم يكن ما كتبه الحسن كتاباً حسب ما يتبادر إلى الذهن، وإنما كان بمنزلة منشور.

ولكن ينبغى معرفة أن إرجاء الحسن إنما هو في الحكم بالصواب أو الخطأ على من ذكرهم، ولم يتعلق إرجاؤه بالإيمان أم عدمه كما هو حال مذهب المرجئة أخيراً. فأصبح هذا الموقف يناقض ما عليه الخوارج من تكفيرهما والبراءة منهما، وما عليه الشيعة من الغلو في عليّ والحط من شأن عثمان وتكفيره، ويخالف أيضاً موقف أهل السنة والجماعة منهما من وجوب موالاتهما والترضي عنهما والشهادة لهما بالجنة، كما هو مذهب السلف فيهما إلا أنه يعتبر كالخطوة الأولى إلى مذهب الخوارج والتمهيد له. وقيل: إن أول من قال بالإرجاء على طريقة الغلو فيه هو رجل يسمى ذر بن عبد الله الهمداني وهو تابعي، وقد ذمه علماء عصره من أهل السنة، بل كان بعضهم- مثل إبراهيم النخعي- لايرد عليه إذا سلم، وكذلك سعيد بن جبير. والجمع بين هذا القول والذي قبله يتضح باختلاف حقيقة الإرجاء عند الحسن وعند ذر بن عبد الله؛ إذ الإرجاء عند الحسن ترك الحكم على أولئك الأشخاص. وأما الإرجاء عند ذر فهو إخراج العمل عن مسمى الإيمان. وهناك أقوال أخرى في أول من دعا إلى الإرجاء فقيل: إن أول من أحدثه رجل بالعراق اسمه قيس بن عمرو الماضري. وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان وهو شيخ أبي حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم انتشر في أهل الكوفة، وقد عاصر حماد بن ذر بن عبد الله. ويذكر شيخ الإسلام عن نشأة الإرجاء بالكوفة أن أول من قال فيهم

حماد بن أبي سليمان (¬1) . وقيل: إن أول من قال به رجل اسمه سالم الأفطس، ويطلق على إرجاء هؤلاء أنه إرجاء الفقهاء، ويظهر أن تلك الأقوال لاتباعد بينها؛ لأن هؤلاء كانوا في عصر واحد، وكانوا أيضاً على اتفاق في إرجائهم. ولقد نسب الإرجاء إلى علماء مشاهير، وقد عد الشهرستاني جماعة من هؤلاء ومنهم: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، وذكر أنه أول من قال بالإرجاء، ولكنه لم يجزم بذلك فيما يبدو من تعبيره، حيث ذكر ذلك بصيغة التمريض"قيل"، ثم ذكر أنه كان يكتب فيه الكتب إلى الأمصار ثم قال: "إلا إنه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر؛ إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها". كما عدّ منهم سعيد بن جبير (¬2) ، وطلق بن حبيب وعمر بن مرة ومحارب ابن زياد ومقاتل بن سليمان وذر، وعمرو بن ذر، وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر، ثم قال: "وهؤلاء كلهم أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر بالكبيرة، ولم يحكموا بتخليدهم في النار؛ خلافاً للخوارج والقدرية". إلا أنه ذكر عن مقاتل قوله: "ويحكى عن مقاتل بن سليمان: أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان، وأنه لا يدخل النار مؤمن" ثم قال: ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى7/297، 311. (¬2) هكذا ذكر عن سعيد بن جبير أنه من رجال المرجئة، وسيأتي أن سعيد بن جبير ممن كان يذم الإرجاء ويمقته.

" والصحيح من النقل عنه أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة، ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار" (¬1) . ومن كبار المرجئة ومشاهيرهم: الجهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحى، ويونس السمري، وأبو ثوبان، والحسين بن محمد النجار، وغيلان، ومحمد بن شبيب، وأبو معاذ التومني، وبشر المريسي، ومحمد بن كرام، ومقاتل ابن سليمان المشبه لله عز وجل بخلقه ومثله الجواربي وهما من غلاة المشبهة (¬2) . * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر: الملل والنحل 1/139، 146. (¬2) انظر: مقالات الإسلاميين 1/213.

الفصل الخامس أصول المرجئة

الفصل الخامس أصول المرجئة تكاد فرق المرجئة تتفق في أصولها على مسائل هامة هي: تعريف الإيمان بأنه التصديق بالقول أو المعرفة أو الإقرار. وأن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان، ولا هو جزء منه، مع أنهم لا يغفلون منزلة العمل من الإيمان تماماً إلا عند الجهم ومن تبعه في غلوه. وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق بالشيء والجزم به لا يدخله زيادة ولا نقصان. وأن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملوا الإيمان بكمال تصديقهم وأنهم حتماً لا يدخلون النار في الآخرة. ولهم اعتقادات أخرى: كالقول بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد تأثروا في هذه الآراء بالمعتزلة، وكذا رأيهم في أن الإمامة ليست واجبة، فإن كان ولا بد فمن أي جنس كان ولو كان غير قرشي، وقد تأثروا بهذا الرأي من الخوارج الذين كانوا ينادون به ولم يطبقوه. ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جهم -، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما.

وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، ومنهم من أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة، ومنهم من نفاها كالمعتزلة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف. واختلفوا في القول بالقدر فبعضهم نفى القدر وقال بأقوال المعتزلة، وبعضهم أثبته، واختلفوا في أسماء الله وصفاته، فبعضهم قال بأقوال عبد الله ابن كلاب، ومنهم من قال بأقوال المعتزلة (¬1) . وفيما يلي تفصيل واضح لأقسام اتجاهات الناس في حقيقة الإيمان كما رتبها الدكتور/ سفر الحوالي: أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح: 1- أهل السنة 2- الخوارج 3- المعتزلة أنه بالقلب واللسان فقط: مرجئة الفقهاء الحنفية. ابن كلاب، وكان على عقيدة المرجئة الفقهاء، وقد انقرض مذهبه. أنه باللسان والجوارح فقط: الغسانية. فرقة مجهولة لم يصرح العلماء بتسميتها، ولعلها الغسانية. ¬

(¬1) انظر: مقالات الإسلاميين 1/213/234.

أنه بالقلب فقط: 1- الجهمية 2- المريسية 3- الصالحية 4- الأشعرية 5- الماتريدية. أنه باللسان فقط: الكرّامية: وقد انقرضوا، وقد ذكر عنهم شيخ الإسلام أنهم يقولون: المنافق مؤمن وهو مخلد في النار؛ لأنه آمن ظاهراً لا باطناً ويدخل الجنة من آمن ظاهراً وباطناً. أ- الذين قالوا: إنه بالقلب واللسان والجوارح: 1- الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة: 1-الخوارج؛ مرتكب الكبيرة عندهم كافر. 2-المعتزلة؛ مرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين؛ يعني في الدنيا، وأما في الآخرة فقد وافقوا الخوارج في الحكم. 2- الذين قالوا: الإيمان قول وعمل - أي عمل القلب والجوارح - وكل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه. والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصانها، لكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه؛ ومنها ما ينقص بذهابه. فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها، ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها، ومنها كمالات يرتقي صاحبها إلى أعلى درجاته. "وتفصيل هذا كله

بحسب النصوص". كما هو مذهب أهل السنة والجماعة. ب- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط: الذين يدخلون أعمال القلب - يعنى في حقيقة الإيمان - وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء، وبعض محدثي الحنفية المتأخرين. الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضاً من الإيمان وجعلوه علامة فقط، وهم عامة الحنفية "الماتريدية". ج- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط: الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعاً، وهم سائر فرق المرجئة: كاليونسية والشمرية والتومنية. الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد - المعرفة - الجهم بن صفوان. الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد - التصديق - الأشعرية والماتريدية * * * * * * * * * * * * * *

الفصل السادس أقسام المرجئة

الفصل السادس أقسام المرجئة انقسمت المرجئة في اعتقاداتها إلى أقسام كثيرة وفرق كثيرة وفرق يطول ذكرها، ويمكن الإشارة هنا إلى رؤوس تلك الفرق، وهى كما يذكرها علماء الفرق: مرجئة السنة: وهم الأحناف: أبو حنيفة وشيخه حماد بن أبى سليمان ومن أتبعهما من مرجئة الكوفة وغيرهم، وهؤلاء أخروا العمل عن حقيقة الإيمان. مرجئة الجبرية: وهم الجهمية أتباع جهم بن صفوان، وهم الذين اكتفوا بالمعرفة القلبية وأن المعاصي لا أثر لها في الإيمان، وأن الإقرار والعمل ليس من الإيمان. مرجئة القدرية: الذين تزعمهم غيلان الدمشقي، وهم الغيلانية. مرجئة خالصة: وهم فرق اختلف العلماء في عدهم لها. مرجئة الكرامية: أصحاب محمد بن كرام، وهم الذين يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب. مرجئة الخوارج: الشبيبية وبعض فرق الصفرية الذين توقفوا في حكم مرتكب الكبيرة.

وعدّ الأشعري في مقالاته المرجئة وأوصالهم في اثنتي عشر فرقة (¬1) . ولهم فروع كثيرة، وبين العلماء اختلافات كثيرة أيضاً في عدّهم لأقسام وطوائف المرجئة، وفي أي الفرق أصلية وأيها فرعية، وأيها يصدق عليه الإرجاء وأيها لا يصدق عليه. ولا ضرورة تدعوا إلى تفصيل الكلام هنا في كل طائفة من هذه الفرق الفرعية وذلك لاتحادهم العام في مذهبهم وقيامه على الإرجاء. ولما حصل أيضاً من رجوع بعض فرقهم إلى الفرق الأخرى واندماجهم بعد ذلك في فرقة واحدة، ولدقة الخلاف في بعض المسائل الفرعية، وموضع استقصاء ذلك كله الكتب المطولة في التاريخ والفرق. ¬

(¬1) في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين من ص 213 إلى ص 234، أول فرقهم الجهمية وآخرهم الكرامية-الفرقة الثانية عشر منهم- كما ذكر الأشعري، وذكر البغدادي أنهم ثلاثة أصناف قائلون بالجبر والقدر، ومن خرج عن القول بهما صاروا خمس فرق. انظر: الفرق بين الفرق ص 302، والشهر ستاني في الملل والنحل 1/139، ذكر أنهم أربعة أصناف ثم ذكر مقالات المرجئة الخالصة وعدّهم ست فرق.

الفصل السابع أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها

الفصل السابع أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها تلمس المرجئة في الاستدلال لمذهبهم نصوصاً وشبهات، أوّلوا النصوص ونصروا الشبهات بتكلفات غير صحيحة، وخرجوا بنتيجة، هي أن العمل ليس من حقيقة الإيمان، وأخّروا جميع أعمال الجوارح عن الإيمان، وقالوا: يكفي في دخول الإيمان والفوز برضى الله أن يحتوي القلب على المعرفة والتصديق كما سبق، وفتحوا بذلك باباً واسعاً لأهل البطالة والكسل والمغرمين بالأماني دون العمل، والذين يحبون التفلت عن ما تقضيه النصوص الشرعية، ولهذا تجد المرجئة الغلاة منهم أكسل الناس في العبادة وأضعفهم في الالتزام، وقد تلمسوا لما يذهبون إليه بعض الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وزعموا أنها تدل على مذهبهم. فمن القرآن الكريم: استدلوا بقول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬1) . {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} (¬2) . كما اهتمت الجهمية بجمع النصوص التي تجعل الإيمان أو الكفر محله ¬

(¬1) سورة النساء: 48. (¬2) سورة الزمر: 53.

القلب. كما في قول الله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (¬1) . {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (¬2) . {ختم الله على قلوبهم} (¬3) . إلى غير ذلك من الآيات التي يوحي ظاهرها بهذا المفهوم المتكلف للمرجئة. أما من السنة النبوية: فقد استدلوا بما يلي: بعض الأحاديث والآثار التي يدل ظاهرها على الاكتفاء بالبعد عن الشرك ووجود الإيمان في القلب للفوز برضى الله، مثل: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار". قال ابن مسعود: "وقلت أنا من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" (¬4) . وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (¬5) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ثبت قلبي على دينك" (¬6) . ¬

(¬1) سورة المجادلة: 7. (¬2) سورة النحل: 106. (¬3) سورة البقرة: 7. (¬4) أخرجه البخاري3/110، ومسلم1/94 في الايمان. (¬5) أخرجه مسلم4/2068 بلفظ: "ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة"واللفظ السابق للترمذي وحسنه. (¬6) أخرجه أحمد 2/454.

وكذا حديث الجارية التي سألها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: "أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال لمولاها: اعتقها فإنها مؤمنة" (¬1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات" (¬2) . ومن أدلتهم كذلك ما جاء في أحاديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقوام فيخرجهم الله من النار حتى لا يبقى من في قلبه ذرة أو برة أو شعيرة من الإيمان، وفيه: "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل إلى أن قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه" (¬3) . وقد استدل بهذا الحديث لإرجائهم من العبارات السابقة: لم يعملوا خيراً قط. هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه. فقالوا: إذا لم يكن لهم عمل خير قط فما الذي بقي معهم؟ والجواب -كما يزعمون- أنه بقي معهم التصديق فقط ونفعهم دون النظر في العمل، لأن حقيقة الإيمان -كما يزعمون- لم تتوقف على العمل. ¬

(¬1) أخرجه مسلم1/382 رقم 537، وأحمد في المسند 5/447. (¬2) أخرجه مسلم 4/1986 رقم 2564. (¬3) أخرجه مسلم 1/170.

ومن الشبهات التي تعلق بها المرجئة أيضاً على أن العمل ليس من الإيمان قولهم: إن الكفر ضد الإيمان فحيثما ثبت الكفر نفي الإيمان، والعكس. ومنها ما جاء في نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان. ومن أدلة الأحناف على أن الإيمان قول واعتقاد فقط، وأن الأعمال ليست داخلة فيه وإنما هي شرائع الإسلام فإذا عمل معصية نقص من شرائع الإسلام وليس من التصديق بالإسلام - من أدلتهم على ذلك قولهم: إن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق فقط، والعمل بالجوارح لا يسمى تصديقاً فليس من الإيمان. لو كانت الأعمال من الإيمان والتوحيد لو جب الحكم بعدم الإيمان لمن ضيع شيئاً من الأعمال، وفي ذلك يقول أبو حنيفة في كتابه الوصية: ثم العمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل، بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ولا يجوز أن يقال يرتفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة، ولا يجوز أن يقال: ارتفع عنها الإيمان، إلى غير ذلك من النصوص التي استدل بها المرجئة عموماً والأحناف بخصوصهم، والتي فهموا منها ما يدل على صحة مذهبهم، ثم نتج عن صنيعهم هذا تضارب الأدلة في مدلولاتها-أمامهم- لعدم وقوفهم على ما تقتضيه من الفهم السليم الذي هدى الله إليه أهل السنة، بل ذهبت كل طائفة من طوائف المرجئة الكثيرة إلى الاستدلال لما تزعمه بنصوص قد لا تستدل بها الطوائف الأخرى.

قال ابن أبي العز الحنفي: "فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمة الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن إخوة يوسف: {وما أنت بمؤمن لنا} (¬1) أي بمصدق لنا، ومنهم من أدعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي- وهو التصديق بالقلب-هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى. والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم. ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما، وقوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (¬2) يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركب من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة، قال الله تعالى: {آمنوا وعملوا الصالحات} (¬3) ، وغيرها في مواضع من القرآن" (¬4) . الرد على أدلة المرجئة: والواقع أن تلك النصوص التي تقدمت في استدلال المرجئة على إخراج العمل عن حقيقة الإيمان لا يسلم لهم فهمهم لها من أنها على إخراج الأعمال الظاهرة عن أعمال القلب، فإن إيمان القلب وإن كان الأساس وعليه الاعتماد الأول ولكن لا ينفي هذا أثر إيمان القلب يظهر على الجوارح ¬

(¬1) سورة يوسف: 17 (¬2) سورة النحل: 106 (¬3) سورة البقرة: 25. (¬4) شرح الطحاوية ص 319.

بل هو الحق، والنصوص كما هو الواضح منها لا تدل على تصديق القلب وحده، وإنما تدل على أن الإيمان له دلالات لا تتضح إلا بالأعمال الظاهرة، والذين أحجموا عن إدخال الأعمال الظاهرة في حقيقة الإيمان نتج عن ذلك تساهل عندهم في الحكم حتى على الفجار الذي لا شك في ظهور فجورهم. فتجد منهم من لا يكفر بالأعمال الظاهرة حتى وإن كانت توحي بكفر صاحبها علانية، فهم لا يجرءون على تكفيره حتى يتأكدوا من مصداقية قلبه بالإيمان، لأنه لو صدق بشعائر الإسلام فلا يكفر مهما عمل إلا إذا ارتفع التصديق عن قلبه فهنا يجرءون على تكفيره. وهذه نتيجة طبيعية بالنسبة لهم بعد أن أغفلوا ارتباط الأعمال بإيمان القلب. والحق أن الفعل المكفر يكفر به صاحبه إذا كان الفعل نفسه يوحي الشرع في الكتاب أو السنة أو إجماع علماء الأمة بكفر فاعله، إذ لو لم يكفر قلبه أولاً لما كفرت جوارحه، فمن سبّ الله أو رسوله أو فضل القوانين الوضعية على الشرعية الإسلامية وقدمها عليها أو غير ذلك من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة-فإنه لا يحتاج لتكفيره إلى مساءلته هل هو مصدق بالإيمان أم لا، لأن فعله شاهد عليه بعدم التصديق، أو أن تصديقه مثل تصديق إبليس بربه وباليوم الآخر، فهل نفعه ذلك؟ فكذلك هؤلاء، إلا أن يأتي أحدهم بمخرج له في ذلك معتقداً صحته. قال شيخ الإسلام -رحمة الله- عنهم: "فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر- ليس هو كفر في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على كفره،

ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليه الحجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطني، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك" (¬1) . ومن استند منهم إلى إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان بما استنبطه مما جاء في القرآن الكريم من إسناد الإيمان إلى القلب فقط، كقول الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (¬2) . وقوله تعالى: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب} (¬3) . وقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} (¬4) . وقوله تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} (¬5) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين منزلة الإيمان وضده من القلب، من استند منهم إلى ذلك فقد أخطأ الفهم، فليس المراد منها إخراج العمل وإغفاله عن إيمان القلب، فإن من أنكر تلازم الأعمال الظاهرة بأعمال القلوب وقال: إن الإيمان هو المعرفة فقط فهو جهمي، وكذا من قال: إنه التصديق فقط مثل الأشاعرة فقد تجهم، إذ لا فرق بين دعوى المعرفة ودعوى التصديق فقط-وكلاهما من دون عمل، وما ذكره بعض الأشاعرة من التفريق بينهما فإنه ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوي7/557. (¬2) سورة الحج: 32. (¬3) سورة ق: 33. (¬4) سورة الحديد: 16. (¬5) سورة البقرة: 10.

نصرة لمذهبهم فإن كلتا الطائفتين تلتقي على إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان، فيبقى النزاع في التفرقة بين المعرفة والتصديق المجرد عن العمل غير واضح، فإن المعرفة والتصديق موضعهما القلب، والعمل الظاهر دليل ذلك ولازم له. وقد كفر أئمة العلم من قال بقول جهم: إن الإيمان هو التصديق فقط. فظهر أن تلك الآيات لا تدل على نفي دخول الأعمال في حقيقة الإيمان، بل غاية ما فيها التركيز على أهمية الإيمان القلبي الذي بدوره يثمر الإيمان بالقيام بأعمال الشرع الظاهرة، أو أنها أسندت إلى القلوب باعتبار أنها هي المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. وأما ما استدل به المرجئة من النصوص التي تدل على أن من اجتنب الشرك دخل الجنة-سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة النبوية فإن الجواب على ذلك: "إن هذه النصوص تفيد أن من لم يقع في الشرك مع التوبة والقيام بأمر الله والانتهاء عن نهيه-أن الله يغفر له الذنوب التي هي دون الشرك، فإذا مات على بعض الذنوب يرجى له المغفرة ابتداء، أو يعاقبه الله بذنبه ثم يدخله الجنة، كما هو مذهب السلف في أهل الذنوب حسب ما تفيده النصوص من الكتاب والسنة. كما أنه لا يقع من شخص عرف التوحيد وأخلص لربه أنه لا يأتي بالأعمال الأخرى التي أوجبها الإسلام، بحيث يكتفي بابتعاده عن الشرك ثم يركن إلى ذلك لدخوله الجنة، فاتضح أن هذه الآيات لا تدل عن إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو التصديق بالقلب أن هذه الآيات لا تدل على إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو القلب كما يرى المرجئة، بل هي واردة في حكم من مات تائباً أو لم تكن عليه معاص، أو كانت عليه معاص

ومات على التوحيد، بحيث كان آخر كلامه في الدنيا: لا إله إلا الله". وما فهموه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا" بأن الإيمان والكفر محلهما القلب، ولا عبرة بعمل جارح- فهو فهم غير سديد من جهة نفي دخول الأعمال الظاهرة إذا لم تثمر القيام بأعمال الإيمان الظاهرة فهي ليست تقوى صحيحة. وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن الإيمان هو مجرد التصديق والإقرار بالقلب فقط دون أن يرى أثر ذلك في الأعمال كلها. وقد جرهم إلى هذا الفهم أمر لم يتقبلوه وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة يعبر عن الإيمان بأعمال القلب ومرة بأعمال الجوارح ومرة بكليهما، فمن وقف على جانب دون آخر من هذه المراتب فقد قصر ولم يلتزم الحق واختلط الأمر عليه، وأما حديث الجارية الذي استدل به المرجئة على مذهبهم أن ترك العمل لا ينافي الإيمان، فإن المراد من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالإيمان-أي الإيمان الظاهر- الذي تجري بموجبة الأحكام الدنيوية لا الإيمان الحقيقي الكامل. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن إيمان هذه الجارية ليس مثل إيمان كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة السابقين، وإنما أراد الإيمان الظاهر الذي يميز المسلم عن الكافر ابتداءً في المعاملات الدنيوية، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بسؤالها عن الإيمان فقط بأن قال لها: هل أنت مؤمنة وسكت لكان فيه نظر للمرجئة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم سألها عن أشياء أخرى فقد قال لها: "أتشهدين أن لا إله إلا الله. قالت: نعم. قال: أتشهدين أن محمداً رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها" (¬1) . ¬

(¬1) الموطأ ص 666.

وهذه كلها من أعمال الإيمان الباطنة والظاهرة أيضاً. قال شيخ الإسلام عن تمسك المرجئة بهذا الحديث: "وهذا لا حجة فيه، لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة" (¬1) . فظهر أن هذه الأسئلة يريد الرسول صلى الله عليه وسلم من ورائها معرفة منزلة هذه الجارية من أحكام الإسلام، وهل تستحق أن يطلق عليها اسم الإيمان أم لا. وليس المقصود أنها بلغت في إيمانها إلى حد إيمانه أو إيمان كبار أصحابه. وعلى الفرض أن الجارية قالت للرسول صلى الله عليه وسلم أنا مؤمنة بكل شرائع الإسلام بمعنى مصدقة بها، ولكني لا أرى فرضية الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك من شرائع الإسلام. أي لا أرى لزوم عملها بالجوارح على أنها حقيقة الإيمان، بل تطلق عليه مجازاً، فهل كان صدر الرسول صلى الله عليه وسلم سينشرح منها ويأمر مولاها بعتقها ويشهد لها بالإيمان (¬2) . وأما حديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أولئك فالجواب عنه: أنه لابد من النظر إلى الأحاديث الكثيرة التي صرحت بأنها من أهل الإيمان وعليهم أثر السجود الذي هو عبارة عن عمل الصلاة وأن الجهنميين يعرفون بذلك. وفي بعض الروايات أن المؤمنين يشفعون فيمن عرفوه بأنه من أهل الإيمان والعمل في الدنيا، وهذا لا يمنع أن فيه جماعة من الناس لهم أعمال لا يعلم بها إلا الله أخرجهم الله بسببها من النار، حيث ظهرت عليهم علامات إيمانهم وأعمالهم التي قدموها. ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوي7/209-416. (¬2) انظر لمزيد التفصيل: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ص519، 526.

وقوله: "لم يعملوا خيراً قط" لا ينفي العمل مطلقاً بل قد يكون لهم عمل وإن كان قليلاً إلى جانب إيمانهم وحسناتهم الأخرى فينفعهم ذلك، وهذا مثل أن تقول لشخص: أنت ما عملت شيئاً بعد إتمامه للعمل الذي هو فيه، فإنك لا تنفي وجود عمل ما، ولكن حيث كان العمل غير كامل ولا دقيق ولا يعتبر به-ولو من وجهة نظرك- اعتبرته في عداد من لم يعمل شيئاً وهو أسلوب من أساليب العرب في كلامهم. ثم إن هؤلاء معهم إيمان وعمل، ولولا ذلك لكانوا كسائر الكفار والمشركين يخلدون في النار، فلا مزية لخروجهم منها إلا ذلك، وربما أن الله أخرجهم أو أدخلهم الجنة لعزمهم على العمل ومباشرتهم الدخول فيه كما حصل لبعضهم حين أسلم صادقاً مخلصاً ثم دخل المعركة فقتل فشهد الرسول صلى الله عليه وسلم له بالجنة، مع أنه لم يظهر منه إلا حسن قبوله للإسلام ودخوله المعركة، ولكن الله اطلع على إيمانه القوي وأوله بذله نفسه للقتل مع المسلمين في سبيل نصرة الإسلام، ولقصر وقته عن أداء الواجبات الأخرى فغفر الله له. وكقصة الرجل الذي قتل مائة نفس ثم تداركته رحمة الله فدخل الجنة، ومثله ما وقع للرجل الذي أوصى أن يحرق بعد موته فغفر الله له، فمثل هؤلاء في عزمهم وقوة إيمانهم كمثل الذي عمل، وفرق بين من له رغبة وعزم على العمل وبين من تركه اتكالاً وتكاسلاً. وأما احتجاجهم بقولهم: إن الكفر ضد الإيمان فحينما ثبت الكفر انتفى الإيمان والعكس. فإنه يقال لهم: إطلاق القول بأن كل كفر هو ضد الإيمان ويخرج من الملة مطلقاً ليس صحيحاً على إطلاقه هكذا إلا عند الخوارج في حكمهم

على أصحاب المعاصي بالكفر المخرج من الملة، فإن الإيمان درجات، وهو اسم مشترك يقع على معان كثيرة، منها ما يكون الكفر ضداً له، كأن يعتقد الكفر ويعمل به ويدعو إليه فكفره اعتقادي وهو ضد الإيمان ولا نزاع في هذا. ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر، كترك بعض الأعمال المفروضة مع الاعتراف بوجوبها. ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق، كترك بعض الأعمال التي هي تطوع إذ لا يصح تسمية التارك لها كافراً ولا فاسقاً وإنما يسمى تاركاً ومفرطاً في حق نفسه لعدم قيامه بتلك الأعمال التي تزيد في إيمانه (¬1) . وقد يطلق السلف التسمية بالكفر على بعض من يعمل أعملاً جاء الشرع بإطلاق الكفر عليها ولكنهم يسمونه كفراً عملياً لا اعتقادياً حتى تقام الحجة على صاحبه، كالذنوب التي وردت النصوص بإطلاق الكفر على أهلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر في حق من لم يجحد النصوص الواردة في تحريمها قبل إقامة الحجة عليه ببيانها، فإن السلف يطلقون عليه الكفر تمشياً مع النصوص، ثم يفصلون بعد ذلك فإذا استحلها ولم يعترف بوجوبها وردَّ النصوص فهو كافر كفراً اعتقادياً ظاهراً وباطناً. وأما ما استدلوا به من ورود نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان، وأن المعطوف والمعطوف عليه بينهما مغايرة وفرق وإلا لما عطف عليه، فالواقع أن النصوص كما يتضح منها، أحياناً يرد فيها ذكر الإيمان في حالة العطف بمعنى الدين وذلك في حال إطلاق الإيمان وحده، فإنه يدخل فيه الأعمال، فإذا أطلق لفظ الإيمان فقط تبادر إلى الذهن أن المقصود بذلك الإيمان ¬

(¬1) انظر: الفصل لابن حزم3/212.

القلبي وعمل الجوارح والنطق باللسان ولا يفهم منه التصديق فقط أو الإقرار فقط إلا عند المرجئة، حيث تكلفوا دعوى وقوع ذلك. وأما في حال ذكر الإيمان والعمل معاً فلا مغايرة بينهما في الحكم الذي ذكر لهم، بل يكون ذلك من جنس عطف الخاص على العام مثل قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (¬1) . فإن الصلاة الوسطى من ضمن بقية الصلوات وإنما أفردت بالذكر الخاص بعد الذكر العام لمزيد العناية والاهتمام بها، وأحياناً إذا ذكر العمل الصالح والإيمان معاً يكون المقصود بذلك إظهار وتوكيد حقيقة الإيمان بالعمل الصالح، إذ لا يكون العمل صالحاً مقبولاً إلا بعد إيمان صاحبه، فذكر الإيمان والعمل معاً من باب التوكيد أو عطف الخاص على العام. والحاصل أن الإيمان المطلق يستلزم الأعمال كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية (¬2) . وأما ما استدل به الأحناف من أن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق، والعمل لا يسمى تصديقاً فيقال لهم: إنه لم يسم التصديق بالقلب دون التصديق باللسان والعمل إيماناً في اللغة، ولم يعرف عن العرب أنهم يحكمون للشخص بالتصديق والإيمان بشيء صدقه بقلبه ثم أعلن التكذيب به بلسانه، كذلك لم يعرف في اللغة أن التصديق باللسان فقط دون التصديق بالقلب يعتبر إيماناً. إذاً فلا يسمى مؤمناً بالشيء إلا إذا توافق التصديق بالقلب واللسان معاً ونتج عنهما حصول أثر ذلك وهو العمل. ¬

(¬1) سورة البقرة: 238 (¬2) انظر: مجموع الفتاوى 7/160-161

ويرد على من ذهب مذهب الإمام أبى حنيفة في إخراج العمل عن الإيمان، واستدل باللغة على أن الإيمان هو التصديق - يرد عليهم بما ذهبوا إليه هم أيضاً من عدم جواز إطلاق الإيمان على الشخص إلا إذا صدق بالله عز وجل وبرسوله، وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة، وغير ذلك. ومعلوم أن هذا الإيمان قد اشتمل على أعمال، فكيف يحق لهم بعد ذلك عدم اعتبار الأعمال من الإيمان، وهم يشترطون لثبوت إيمان الشخص ما ذكر. ويقال لهم أيضاً: لو كان ما تقولون صحيحاً من أن الإيمان هو التصديق فقط - لوجب أن يطلق اسم الإيمان على كل من صدق بشيء ثم كذب بلوازمه، فقد أخبر الله بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض الرسل ومع ذلك سماهم الله كفاراً مع تصديقهم بالله. قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} (¬1) . فهؤلاء مصدقون بالله وبرسوله، لولا أنهم يريدون أن يأخذوا من كل ديانة ما يوافق هواهم. نعم إن أصل الإيمان في اللغة هو التصديق بالقلب واللسان معاً بأي شيء كان إلا أن الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء. ¬

(¬1) سورة النساء: 150، 151

وأوقعها أيضاً سبحانه على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها. وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط. والله عز وجل هو خالق اللغة وأهلها، فلا يجوز لأحد مخالفة الله عز وجل فيما أنزله وحكم به والتعلل باللغة في دفع الحق. وقد أنزل في القرآن أن الأعمال من الإيمان قال تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} (¬1) . ومعلوم أن التصديق بالشيء حقيقة لا يقع إلا إذا وجد التصديق الكامل بذلك الشيء وازداد فيه رغبة وعملا. فالمصدق بالله تعالى وبأنبيائه وبما جاء عن الله تعالي هو الذي صدق بذلك ظاهرا وباطنا فصح وصفه بالتصديق. والآية فيها الأخبار بزيادة الإيمان لا بالتصديق فإنه قد حصل في قلوب المؤمنين، والزيادة هنا هي ما يحصل من الزيادة بالأعمال والتقرب بها إلى الله تعالى. فإن أساس التصديق لا يتبعض في الشيئ الواحد وإن كان الناس يتفاضلون فيه؛ لأنه لو تبعض لكان صاحبه شاكاً. فلو أن شخصاً صدق بالقرآن كله إلا آية واحدة لما كان مؤمناً بالقرآن ولكان تصديقه مشابهاً لتصديق بعض أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم وكفرهم بذلك، كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان الذين صدقوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نبي الله حقاً ولكنه إلى العرب خاصة لا إليهم، ولكان أيضاً مشابهاً لتصديق إبليس بربه، وهو مع ذلك كافراً بلا خلاف مخلد في النار لم ¬

(¬1) سورة الفتح: 4

ينفعه تصديقه ومعرفته بربه دون الإذعان الكامل لما أمر الله واجتناب ما نهي عنه قولاً وعملاً واعتقاداً. ولشيخ الإسلام ردود مطولة في إبطال تعلق المرجئة بقوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق - على أن الإيمان هو التصديق، والعمل خارج عن التصديق، وفي أن الإيمان هو التصديق في اللغة وفي الشرع أيضاً (¬1) ، ثم إن إطلاق الإيمان على الأعمال أو الأعمال على الإيمان أمر مقرر عند السلف وثابت لا يمارون في صحته لورود ذلك في نصوص كثيرة. فالجهاد والصوم والصلاة وغيرها من الإيمان، كما أنهم يسمون الإيمان عملاً لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" (¬2) . وقال الأوزاعي: "لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيل الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيل الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل" (¬3) . فالصلاة مثلاً من أعمال الجوارح، وقد قال تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (¬4) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لا كما ذهب إليه المرجئة من أن ¬

(¬1) انظر: 7/289-297 من مجموع الفتاوى. (¬2) أخرجه البخاري 1/77. (¬3) انظر: مجموع الفتاوى 7/296. (¬4) سورة البقرة: 143.

المعنى أي تصديقكم بالنبي صلى الله عليه وسلم والدين. قال شيخ الإسلام: وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا ... فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو, العمل كان دالاً على الباطن فقط. وإن أُفرد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص. وأما إذا قُرن اسم الإسلام والإيمان كما في قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} (¬1) وقوله تعالى {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين} (¬2) فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة (¬3) ، أي والإيمان الأعمال الباطنة، وهذا هو مذهب السلف أما الإيمان أخص من الإسلام. وأما استدلالهم بقولهم: لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد الإيمان كله، فلا يكون مؤمناً أو لا يقال له مؤمن. يقال لهم: إن هذا الاستدلال تحكم وخروج عن ما يقتضيه الحق، فلا يجوز أن نسمى الشخص مؤمناً ولا كافراً إلا بنص واضح عن الله أو عن رسوله، فمن سماه الله مؤمناً نسميه مؤمناً، ومن سماه كافراً نسميه كافراً، بل نقول: أن من ضيع شيئاً من ما أمر بالإيمان به فقد ضيع بعض الإيمان ولم يضيع الكل، فلا يخرج عن الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه بالكلية (¬4) . ¬

(¬1) سورة الحجرات: 14. (¬2) سورة الذاريات: 35، 36. (¬3) انظر: مجموع الفتاوى 7/575، 576 بتصرف. (¬4) انظر: الفصل لابن حزم 3/191.

وأما بالنسبة لارتفاع العمل عن الحائض وعدم ارتفاع الإيمان عنها فإن هذا الاستدلال غير صواب، ذلك أنها في حالة ارتفاع العمل عنها لم يكن من قبلها، وإنما ذلك من قبل خالقه، وهي في تلك الحال في حكم العامل؛ ولهذا لا يتوجه إليها الذنب بترك الصلاة والصوم في تلك الحال وهى لا زالت على الإيمان والعمل لم تخرج بتركهما في تلك الحال عن الإيمان ولا عن مواصلة العمل فإن تلك الفترة الطارئة لا تجعلها في عداد من خرج عن الإيمان وضيع العمل لكي يصدق عليها ترك الإيمان بسبب ترك العمل كما استدل هؤلاء. وأما ما ذهب إليه المرجئة من أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، كما أن التصديق لا يزيد ولا ينقص، فهو قول من أبطل الأقوال وهو قياس على أمر غير مسلم، فالتصديق لا يصح لهم ما زعموه فيه من أنه لا يتفاضل الناس فيه، بل يتفاضلون تفاضلاً ظاهراً في التصديق بقضاياً تمر بالناس يومياً في حياتهم، فضلاً عن تصديق بقضايا المغيبات من أخبار اليوم الآخر والجنة والنار وأسماء الله وصفاته، فمن زعم أن تصديق أقل الناس إيماناً بالله مثل تصديق أكمل الناس إيماناً به بتلك الأمور المغيبة - فلا شك في بطلان قوله بما لا يحتاج إلى سرد الأدلة عليهم. وأما زيادة الإيمان ونقصانه فيكفي في ثبوته إخبار الله عز وجل بذلك في كتابه الكريم وإخبار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة بما لا يخفى على طلاب العلم معرفته، فإن أدلته واضحة تمام الوضوح، ومعتقد السلف فيه من أوضح الأمور، وهو الاعتقاد الجازم أن الإيمان يزيد وينقص في قلب كل شخص. وكل إنسان يلمس هذا من نفسه ولا ينكره إلا مكابر، على أنه بعد ثبوت ذلك في كتاب الله وفي سنة نبيه وفي إجماع علماء السلف - بعد ثبوت هذا كله

لا يحق لمسلم أن يتشكك في ذلك، بل يجب الإيمان والجزم به. وينبغي التنبيه إلى أمر هام، وهو وجود عدة أحاديث كلها موضوعة يذكر فيها أن الإيمان في القلب فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ونضيف هنا ما ذكره العلماء من أنه كلما عثرت على حديث من هذا النوع فهو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا يقول ابن القيم رحمه الله: "وكل حديث فيه أن الإيمام لا يزيد ولا ينقص فكذب مختلق" (¬1) ومن تلك الأحاديث: حديث: "من قال: الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فليس له في الإسلام نصيب"، قال الشوكاني: رواه محمد بن تميم، وهو واضعه (¬2) . ومنها الحديث المروي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف أولئك أعداء الرحمن فارقوا دين الله تعالى واستحلوا الكفر وخاصموا الله، طهر الله الأرض منهم ألا فلا صلاة لهم ألا فلا زكاة لهم ألا فلا صوم لهم ألا فلا حج لهم ألا فلا دين لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم"، وقال السيوطي: موضوع، آفته الطالقاني كذاب خبيث من المرجئة كان يضع الحديث لمذهبه (¬3) . ومثله أيضاً الحديث المروى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن وفد ثقيف ¬

(¬1) المنار المنيف ص 119. (¬2) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص453. (¬3) اللالئ المصنوعة 1/40.

جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد وينقص فقال: "لا، زيادته كفر ونقصانه شرك" وهو حديث موضوع وضعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وهو من رؤساء المرجئة. قال السيوطي نقلاً عن الحاكم: "اسناده فيه مظلمات، والحديث باطل والذي تولى كبره أبو مطيع" (¬1) . وكأن الذين وضعوا أمثال هذه الأحاديث كانوا يجهلون أو يتجاهلون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} (¬2) ، وآيات أخرى كثيرة تثبت زيادة الإيمان، فكيف ينفي الرسول صلى الله عليه وسلم ما أثبته الله في القرآن. لأن ما قبل الزيادة - كما هو معروف - قبل النقصان، وقول المرجئة بعدم زيادته ونقصانه إنما حملهم على ذلك زعمهم أن التصديق شيء واحد، وبالتالي فهو لا يختلف حسب مفهومهم ولا يتفاضل الناس فيه. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) المصدر السابق 1/38. وانظر كلام ابن أبي العز على هذا الحديث في شرح الطحاوية ص 325. (¬2) سورة التوبة: 124.

الفصل الثامن مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان

الفصل الثامن مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان مذهب أهل السنة المتمسكين بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم السائرين علي وفق ما كان عليه المصطفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في أسماء الله وصفاته، وفي مجانبة البدع وأهلها - مذهبهم في الإيمان أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي". هذا هو منهجهم واعتقادهم في الإيمان. أن العمل داخل في حقيقة الإيمان وأنه لا إيمان بدون عمل، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية حسب ما حل بالقلب من ذلك. وهذا هو الواضح من النصوص الكثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، إلا أنه قد تختلف تعبيرات أهل السنة عن حقيقة الإيمان فيعرفونه بصيغ مختلفة (¬1) ، ولكن القصد واحد، وهو إدخال العمل في حقيقة الإيمان كما يدل عليه كلام الله تعالي وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه قوله تعالي في بيان جملة من صفات المتقين أهل الإيمان: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ¬

(¬1) مثل قولهم: هو عمل وقول ونية، أو هو قول وعمل واتباع السنة، أو هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، أو هو إقرار وعمل، أو تصديق وعمل. أنظر: مجموع الفتاوى 7/ 170.

والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (¬1) . وقال تعالي مبيناً الخصال التي يكون بها الشخص مؤمناً إذا طبقها على نفسه وعمل بما دلت عليه: {قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم علي صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (¬2) ، وقال تعالي: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (¬3) . وهذه الآيات واضحة الدلالة علي مذهب أهل السنة في حقيقة الإيمان المكون من القول والعمل والاعتقاد. وهي حجة على من فرق في الإيمان بين الاعتقاد والعمل، أو غالط في بعض تعريفات السلف للإيمان. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله - في بيان أقوال السلف حقيقة الإيمان: "ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة ¬

(¬1) سورة البقرة: 177. (¬2) سورة المؤمنون: 1-11. (¬3) سورة الحجرات: 15.

يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية: وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام" (¬1) . وقال أيضاً: "والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل الجوارح والقلب، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية. قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع فلان كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة ". وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل وإنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال ولكن كان مقصودههم الرد علي المرجئة الذين جعلوه قولا فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة" (¬2) . واستدل أهل السنة على ما يذهبون إليه من دخول العمل في مسمى الإيمان بأحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 7/170. (¬2) مجموع الفتاوى 7/ 170

الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬1) وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم" (¬2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخيارهم خيارهم لنسائهم" (¬3) وأحاديث أخرى كثيرة جعل فيها العمل من الإيمان. وعلى هذا مضى السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم. وعليه أيضاً مضى علماء الإسلام، ومنهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد، حيث فسروا الإيمان بأنه التصديق والقول والعمل، وأنه يقبل الزيادة ويقبل النقص، وأن أهله يتفاوتون فيه. ومما ينبغي فهمه أن السلف حينما يعرفون الإيمان بأنه قول وعمل؛ لا يقصدون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح دون النظر إلي إيمان القلب وتصديقه وعمله، فإن السلف ما كانوا يريدون ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل القلب وتصديقه الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع شرائع الإسلام. فإن السلف يعتبرون إيمان القلب أمراً أساسياً في الإيمان وصلاح العمل، وإنما لم يصرحوا به لظهوره، إذ إنهم لم يتصوروا أن تلك الثلاثة الأمور في التعريف بالإيمان منفصلة عن بعضها. وحينما يعرف السلف الإيمان بأنه ¬

(¬1) أخرجه البخاري 1/ 51، ومسلم واللفظ له 1 / 210 (¬2) أخرجه البخاري 1/ 129 في مواضع من صحيحه، ومسلم 1 / 154 (¬3) الإمام أحمد في المسند 2 /250

الإقرار والتصديق أو تصديق وعمل، لا يريدون من التصديق مجرد التصديق بالخبر فقط دون الالتفات إلي ثمرة التصديق وهو الإذعان والامتثال للأمر، الذي يتبعه العمل حتماً بل يريدون التصديق الذي يتبعه العمل كأثر للتصديق، وإلا فلا فائدة من التصديق إن لم يثمر العمل. وهذا التفسير هو ما دل عليه الكتاب والسنة واللغة قال تعالي: {وناديناه أن يا إبراهيم (140) قد صدقت الرءيا} (¬1) أي قد امتثلت الأمر وحققته فعلاًُ لولا أن الله فدى ولدك بذبح غيره، وليس المقصود إنك صدقت الرؤيا كما تصدق سائر الأخبار أو تكذب، بل صدقتها وجزمت بالعمل القلبي الذي يتبعه العمل الظاهر وهو إرادتك ذبح ابنك، ولو كان المقصود بذلك مجرد المدح على تصديق الرؤيا لما كان له فضيلة فيها. ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب علي ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهى، والفرج يصدف ذلك كله ويكذبه" (¬2) . وتصديق الفرج وتكذيبه كناية عن الفعل نفسه أو عدمه، وعلي هذا فالتصديق الذي يريده السلف هو ما يتبعه العمل، وبهذا يتبين خطأ من ذهب إلى أن مراد السلف هو التصديق المجرد بالقلب دون الالتفات إلى عمل القلب وإذعانه. كما أن السلف يفسرون الإقرار هنا بمعنى حصول الالتزام والإذعان لا مجرد الإقرار بمعنى الاعتراف أو التصديق بالشيء، قال تعالى: {وإذ أخذ ¬

(¬1) سورة الصافات: 105 (¬2) أخرجه البخاري 11/ 26

الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (¬1) . والإقرار هنا ليس مجرد الاعتراف بل لابد من الإقرار المستلزم للعمل إذ الإقرار وحده لا يكفي. أما مذهب المرجئة؛ فإن مجرد التصديق بالشيء يعتبر إيماناً به ظاهراً وباطناً، بغض النظر عن العمل - على حسب منهجهم-، فإذا تلفظ الشخص عندهم بكلمة الإخلاص - لا إله إلا الله -أصبح بمجرد تلفظه، إضافة إلي تصديقه مؤمناً كامل الإيمان ظاهراً وباطناً. فإذا امتنع عن قولها فحكمه عندهم أنه كافر في الظاهر، وقد يكون مؤمناً في باطنه كما يزعمون، والسلف يحكمون بكفره ظاهراً وباطناً إذا امتنع عن قولها مع القدرة، مع أن مجرد التصديق قد لا يكون به الشخص مؤمناً، فإن بعض اليهود كان مصدقاً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من عند الله، ولكنهم لم يدخلوا الإسلام إما حسداً وإما خوفاً وإما استكباراً. وبعضهم يزعم أنه رسول الله حقاً ولكن إلى العرب بخصوصهم (¬2) ، فلم ينفعهم هذا التصديق في الحكم لهم بالإيمان مع جمعهم بين الإقرار والتصديق كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان - كما قدمنا. وإن الإنسان ليعجب حقاً ممن تجاهل منزلة العمل من الإيمان وهو يقرأ كتاب الله وسنة نبيه، ويسمع الأحاديث التي تجعل الإيمان والعمل قرينين لا ¬

(¬1) سورة آل عمران: 81 (¬2) انظر: الملل والنحل للشهر ستاني 1 /217

يغني أحدهم عن الآخر، فقد قرن الله تعالى العمل بالإيمان في مواضع عديدة من كتابه الكريم، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أحاديث كثيرة. قال تعالى: ( {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} (¬1) . وقال تعالي: {والعصر (1) أن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (¬2) ، ومرة يذكر الله في القرآن الكريم العمل ثم يذكر بعده الإيمان. ومما يدل علي أنه لا فرق بين العمل والإيمان أو الإيمان والعمل في إطلاق كل منها علي الآخر أيضاً قوله تعالي: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} (¬3) . فمن فرق بين الإيمان والعمل بالجوارح فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع إلي هدي القرآن الكريم، وأن يترك الفلسفيات التي أنتجت هذه الخلافات العقيمة في قضية الإيمان التي كانت في تمام الوضوح عند الصحابة ومن بعدهم، حتى نبغت هذه الفئام من الناس ليشرحوا الإيمان بأغمض مما يتصور العقل كما هي عادة أولئك. فإنهم يشرحون المسألة الواضحة حتى يجعلوها ألغازاً وطلاسم لا يعرف منها أحياناً إلا الحروف التي كتبت بها فتجد شروحات وكلاماً كثيراً لا فائدة من ورائه، وصدق ابن العز في قوله عن كثرة كلام المتأخرين وقلة كلام ¬

(¬1) سورة البقرة: 25 (¬2) سورة العصر: 1-3 (¬3) سورة طه: 112

المتقدمين قال: "كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة بخلاف كلام المتقدمين فإنه قليل كثير البركة" (¬1) ، فهل يوجد أوضح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حقيقة الإيمان حين قال لجبريل في سؤاله عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (¬2) ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (¬3) . والأحاديث كثيرة في هذا المعنى الذي يوضح حقيقة الإيمان في أنه مركب من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمن زعم أنه مؤمن ومصدق بقلبه ولكن لا يؤمن بعمل تلك الأمور الظاهرة للإيمان فقد رد الحديث مهما ادعى من تعليلات، كما أن مجرد الإقرار لا يكفي للدخول في الإسلام عند السلف، فإذا أقر الشخص لكنه رفض العمل متعمداً فهو دليل علي كذبه في إقراره. فمن أقر بالإسلام ثم امتنع عن الصلاة والزكاة والحج والصيام وغير ذلك من شعائر الإسلام وأصر على الامتناع، فإن المرجئة لا يتجاسرون على الحكم عليه بالكفر لجواز أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، وفاتهم أن الذي يطمئن قلبه بالإيمان تكون شعائر الإسلام أحب إليه من كل فعل، وأن قرة عينه تكون دائماً في القيام بتلك الأعمال والاستزادة منها متقرباً بعملها إلي ربه. ¬

(¬1) شرح العقدية الطحاوية ص13 (¬2) أخرجه البخاري 1 /114، ومسلم 1 /126 (¬3) أخرجه البخاري 1 /51 بلفظ: "بضع وستون" ومسلم 1 /202 بلفظ: " بضع وسبعون " وأخرجه علي الشك: "بضع وسبعون أو بضع وستون".

هذا ويدل علي بعد فكر المرجئة عن الحق، فلو أن شخصاً صدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه أبى أن يعمل بجوارحه ما أمر به كالصلاة مثلاً، وأصر على إبائه حتى قدم لضرب عنقه وهو مصر على إبائه، فإنهم يزعمون بأنه قد يكون مؤمناً في الباطن، ونحن لا ندري حتى وإن كان ظاهره الكفر الصريح. وهذا افتراض كاذب لا وجود له إلا في الذهن؛ إذ لو كان مصدقاً بقلبه لما فضل أن تضرب عنقه على الامتثال لأمر ربه، وهو يعلم أن الأحكام في الدنيا إنما تجري على حسب ما يظهر من أفعال الإنسان، ثم رضي أن يموت كافراً في نظر المسلمين وراضياً بالأحكام التي سيعامله بها المسلمون بعد موته من عدم الصلاة عليه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، وأنه لا يورث إلى غير ذلك (¬1) . يقول شيخ الإسلام رحمة الله: "ومن هنا يظهر خطأ جهم بن صفوان ومن اتبعه؛ حيث ظنوا أن الإيمان، مجرد تصديق القلب وعمله، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة. قالوا: وهذه كلها معاصي لا ينافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما يثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر. كما يحكم بالإقرار والشهود وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود" (¬2) * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص218-219 (¬2) انظر مجموع الفتاوى 7/ 188

الفصل التاسع منزلة مذهب المرجئة عند السلف

الفصل التاسع منزلة مذهب المرجئة عند السلف مذهب المرجئة المتأخرين منهم مذهب رديء وخطير، يهون المعصية، ويدعو إلي الكسل والخمول، ولذا تجد السلف يحذرون منه كثيراً ويذمونه لما اشتمل عليه من فساد وإخمال لشعلة الإيمان في القلوب، وتمييع لمنزلة العمل في النفوس. وهذا المذهب ومذهب القدرية من المذاهب الرديئة. ويذكر بعض العلماء روايات في ذمهم والتنفير من معتقداتهم، ومن تلك الروايات. 1-"صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب؛ المرجئة والقدرية" (¬1) . 2-"صنفان من هذه الأمة لا تنالها شفاعتي؛ المرجئة والقدرية" (¬2) . 3-"ألا وإن الله لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً " (¬3) . 4-"صنفان من أمتي لا يردان على الحوض ولا يدخلان الجنة؛ القدرية والمرجئة" (¬4) . ¬

(¬1) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه قرير بن سهل وهو كذاب. انظر: مجمع الزوائد 7 /206 (¬2) رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن محصن وهو متروك انظر مجمع الزوائد 7/206 (¬3) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه بقية بن الوليد وهو لين. قال الهيثمي: مجمع الزوائد 7/204، قال: ويزيد حصين لم أعرفه. (¬4) قال الهيثمي، مجمع الزوائد 7 /207، وراه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الغروي وهو ثقة.

5-"لكل أمة مجوس ولكل أمة نصارى ولكل أمة يهود، وإن مجوس أمتي القدرية، ونصاراهم الحشوية، ويهودهم المرجئة" (¬1) . 6- وفي رواية عن أنس بن مالك مرفوعة: "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" (¬2) وهذه الروايات ظاهرة في ذم المرجئة والقدرية لو كانت صحيحة بالرغم من تعدد طرقها، وبالرغم من كثرة احتجاج العلماء بها على القدرية والمرجئة. وهناك من ضعفها لضعف أسانيدها، وإن ذكرها فمن باب تنوع الردود علي ذم القدرية والمرجئة، ويتلخص من كلام العلماء أنها دائرة بين الصحة والضعف والحسن، وفيها أن القول بالقدر والإرجاء لم يختص به هذه الأمة، بل إنها نزعة شريرة في الأمم السابقة، فالشيطان هو الذي يمليها لأتباعه في كل أمة وفي كل عصر ومع دعوة كل نبي. ومهما كان فإن علماء السلف قد أدوا ما عليهم من النصح بوقوفهم في وجه هذه الطائفة، وتبيين ضلالها والخطر الذي يكمن في دعوتهم، ونصحوا للمسلمين بالابتعاد عن أقوالهم، ومن ذلك: قال الإمام أحمد رحمة الله حين قيل له: من المرجئ؟ قال: المرجئ الذي يقول: الإيمان قول. وقيل له: المرجئة من هم؟ قال: من زعم أن الإيمان قول. وسئل عن من يقول: إنما الإيمان قول؛ فأجاب: هذا قول أهل الإرجاء قول ¬

(¬1) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه يحيي بن سابق وهو ضعيف. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الغروي وهو ثقة. مجمع الزوائد 7 / 205

محدث لم يكن عليه سلفنا ومن يقتدى به، وقال أيضاً: لا يصلي خلف مرجئ. وذكر سعيد بن جبير المرجئة فقال: إنهم يهود أهل القبلة، أو صابئة هذه الأمة، ولعله لمشابهتهم اليهود حينما قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، أو قد يكون قال هذا عنهم لا تكالهم على غفران ذنوبهم دون النظر إلي أهمية العمل. وقال فضيل بن عياض: "يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول لا عمل. ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة لا قول ولا عمل. ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل. فمن قال: الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالتونقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه. وقال منصور بن المعتمر في شئ: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة. وقال شريك، وذكر المرجئة فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون علي الله. وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري. وقال إبراهيم النخعي: الإرجاء بدعة؛ وقال أيضاً: لفتنتهم عندي أخوف علي هذه الأمة من فتنة الأزارقة. وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من الإرجاء. وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.

وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك. وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه. وقال أيوب السختياني: أنا أكبر من دين المرجئة (¬1) . ونكتفي بما تقدم ذكره عن هذه الطائفة التي ازداد شرها وانتشارها في عصرنا الحاضر لموافقة هذه الأفكار لما في نفوس كثير من الناس الذين يريدون التفلت عن القيام به، فوجدوا في مذاهب المرجئة سنداً قوياُ وعذراً واضحاً في ذلك، وهم يغالطون أنفسهم، على معرفة تامة بأن منهجهم هذا لم يتحروا فيه النهج الذي بينه الله لعباده، والسيرة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وما من ناصح لهم عن تفريطهم إلا وأجابوه بأن الإيمان في القلب لا في المظاهر التي هي أقرب إلي الرياء بزعمهم. وهي حجة شيطانية كاذبة، إذ لو صحت لقلنا لكل من يعمل عملاً صالحاً: أنت مراء، وبذلك أفسدوا قلوب كثير من عامة المسلمين الذين يتأثرون بمثل هذه الأفكار الخبيثة التي ينفرون بها الناس عن مجالس العلم وسماع طريق الخير من أهل الصلاح والتقوى. ولذلك تجرأ هؤلاء- وأكثرهم ممن لا يحسن فاتحة القرآن- علي ذم العلماء والمصلحين الذين يدعونهم إلي العمل الصالح وإلي الالتزام بمنهج الله وتطبيقه قولاً وفعلاً واعتقاداً، زاعمين أن إيمانهم يعدل إيمان هؤلاء الذين إيمانهم في هذه المظاهر كما يسمونها، بل ويجزم بعضهم أنهم أقرب إلي الله من هؤلاء الكادحين في رضى ربهم وطلب مغفرته وعفوه. ¬

(¬1) انظر لتلك النصوص: مجموع الفتاوي 7/ 394، 395

نكتفي بهذا الموجز عن الإرجاء ومن أراد التوسع فعليه بكتب الفرق والمقالات؛ إذ لا يخلو كتاب من ذكر هذه الطائفة، ويرجع كذلك إلي ما كتبه الأخ سفر الحوالي في كتابه طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم، وقبل ذلك كله ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عنهم كما تجد ذلك في كتابه الإيمان الذي أصبح ضمن الجزء السابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمة الله. وغير ذلك من كتب علماء السلف الذين عنوا بدراسة هذه الطائفة. * * * * * * * * * * * * * *

أهم المراجع لهذه الفرقة

أهم المراجع لهذه الفرقة 1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين / لأبي الحسن الأشعري. 2- الملل والنحل / للشهر ستاني. 3- الفرق بين الفرق/ للبغدادي. 4- الفصل في الملل والأهواء والنحل / لابن حزم. 5- مواضع متفرقة من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي في الجزء (7) منها، وفي كتابه "الإيمان". 6- ظاهرة الإرجاء قي الفكر الإسلامي / د. سفر الحوالي. 7- طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم / د. هادي طالبي. 8- شرح العقيدة الطحاوية / لابن أبي العز. * * * * * * * * * * * * * *

الباب الثاني عشر الجهمية هل توجد آراء الجهمية في وقتنا الحاضر؟ تمهيد: لقد كان لهذه الطائفة التي قامت على مبدأ التعطيل والجبر صولة وجولة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولقد تمكنوا وعلا شأنهم وقتاً من الزمن، واهتم علماء الفرق وأصحاب التاريخ والعقائد بأخبارهم وبيان عقائدهم وذكر أشهر رجالاتهم. وآراء هذه الطائفة لا تزال في بعض المجتمعات، ولا يزال الخصام بينهم وبين أهل الحق قائماً على أشده، كما كان سابقاً في الزمن القديم حتى وإن اختلفت في بعض الأحيان المسميات، خصوصاً بعد ظهور العصريين الجدد بمفاهيمهم الباطلة، الذين لم يقفوا عند حد في إثارة كل ما يمت إلي هواهم ولو بأدنى صلة، فهم جادون في إحياء تلك المفاهيم الجهمية الباطلة باسم التجديد حيناً والتطور أحياناً أخرى. فمثلاً الاكتفاء بمعرفة وجود الله عن العمل، أو الاعتقاد بعدم وجود الجنة الآن، وكذا النار، أو قولهم أو زعم أن الله لا يوصف بوصف، أو ليس في جهة. وغير ذلك من الآراء التي يعتقدها بعض الناس اليوم هي نفسها آراء الجهمية قديماً.

وإذا كان المثال للانفلات من الالتزام بالعقيدة الصحيحة والسير لهدمها تحت شعارات براقة في دعوى التجديد والتطوير، وأحياناً في صورة تمجيد للعقل والعلم أو التراث مما اهتم به كثير من الكتاب والكاتبات قديماً وحديثاً؛ فإنه يتوجب على كل طالب علم أن يحذر هؤلاء ويحذر منهم، وألا يركن إلي كتاباتهم، بل ولا ينبغي الاهتمام بقراءة كتبهم قبل أن يطلع على ما عندهم من الباطل؛ فإن تلك الكتب مملوءة بالدس والانحراف تحت زخرف من القول. * * * * * * * * * * * * * *

الباب الثاني عشر الجهمية

الفصل الأول التعريف بالجهمية وبمؤسسها الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلي الإسلام، وهي ذات مفاهيم وآراء عقدية كانت لها آراء خاطئة في مفهوم الإيمان وفي صفات الله تعالي وأسمائه. وترجع في نسبتها إلي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي، الذي كان له ولأتباعه في فترة من الفترات شأن وقوة في الدولة الإسلامية حيناً من الدهر، وقد عتوا واستكبروا واضهدوا المخالفين لهم حينما تمكنوا منهم، ثم أدال الله عليهم فلقوا نفس المصير الذي حل بغيرهم على أيديهم. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلاً. لقد كان هؤلاء الجهمية العقبة الكئود في طريق العقيدة السلفية النقية وانتشارها؛ حيث صرفوا علماء السلف عن نشرها بما وضعوا أمامهم من عراقيل شغلتهم وأخذت الحيز الأكبر من أوقاتهم في رد شبهات الجهمية ومجادلاتهم لهم وخصامهم معهم، وكانت العاقبة الحسنة - ولا تزال - لأهل السنة والجماعة ولله الحمد. من هو الجهم بن صفوان: هذ1 الرجل هو حامل لواء الجهمية، واسمه الجهم بن صفوان، وهو من أهل خراسان، ظهر في المائة الثانية من الهجرة سنة 2هـ، ويكني بأبي محرز،

وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته. وكان مولى لبني راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج إلي أن قتلاً سنة 128 هـ، وقيل: إن الجهم قتل سنة 130، وقيل سنة 132هـ. وتاريخه طويل، وكتبت فيه مؤلفات عديدة ورسائل جامعية. كان الجهم كثير الجدال والخصومات والمناظرات، وإلا أنه لم يكن له بصر بعلم الحديث ولم يكن من المهتمين به، إذ شغله علم الكلام عن تلك، وقد نبذ علماء السلف أفكار جهم وشنعوا عليه ومقتوه أشد مقت مع ما كان يتظاهر به من إقامة الحق، قال عنه الأشعري بعد أن ذكر جملة من آرائه الاعتقادية التي تفرد بها، قال: "وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (¬1) . إلا أن الشيخ جمال الدين القاسمي ذهب إلي أن جهماً كان من أحرص الناس على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن قتله إنما كان لأمر سياسي، وذلك لخروجه في وجه بني أمية، ولم يكن قتله لأمر ديني يوجب ذلك فيما يرى القاسمي" (¬2) . وهو بهذا قد خالف ما ذكره جمهور العلماء من أن قتله إنما كان لأمر ديني، وقد أقر الناس قتله في وقته لضلاله. وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال عنه: "وكذلك الجهم وشيعته دعو ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين 1 / 238 (¬2) اقرأ كتابه: تاريخ الجهمية والمعتزلة ص14-18

الناس إلي المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدوا الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام" (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) الرد على الزنادقة والجهمية ص 23

الفصل الثاني نشأة الجهمية

الفصل الثاني نشأة الجهمية نشأة الجهمية: قامت أفكار الجهم بن صفوان على البدع الكلامية والآراء المخالفة لحقيقة العقيدة السلفية متأثراً بشتى الاتجاهات الفكرية الباطلة. وكانت نقطة الانتشار لهذه الطائفة بلدة ترمذ التي ينتسب إليها الجهم، ومنها انتشرت في بقية خراسان، ثم تطورت فيما بعد وانتشرت بين العامة والخاصة، ووجد لها رجال يدافعون عنها، وظهرت لها مؤلفات وتغلغلت إلي عقول كثير من الناس على مختلف الطبقات. وقد ذكر شيخ الإسلام درجات الجهمية ومدى تأثر الناس بهم، وقسمهم إلي ثلاث درجات: الدرجة الأولي: وهم الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز. الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة لكن ينفون صفاته. الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ولكنهم يريدون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها.

ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه. وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلي السنة المحضة أقرب منهم إلي الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائف هم إلي الجهمية أقرب منهم إلي أهل السنة المحضة" (¬1) * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) انظر: التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوي.

الفصل الثالث بيان مصدر مقالة الجهمية

الفصل الثالث بيان مصدر مقالة الجهمية يذكر شيخ الإسلام أصل مقالة التعطيل وأنها ترجع في نهايتها إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، يذكر ذلك في قوله: "ثم أصل هذه المقالة - التعطيل للصفات - وإنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام - أعني أن الله سبحانه وتعالي ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعني استولى ونحو ذلك ... أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم " (¬1) . ولهذا كان التجسيم والتشبيه هو أظهر سمات الديانة اليهودية المحرفة التي ملئت بها التوراة من وصف الله تعالي بصفات البشر من الندم والحزن وعدم العلم بالمغيبات، وغير ذلك من المعتقدات الباطلة. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) الفتوى الحموية الكبرى ص24.

الفصل الرابع ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالا

الفصل الرابع ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالاً للجهمية آراء وعقائد كثيرة تحتاج في دراستها إلي غير هذه العجالة. ومن أهم تلك الآراء للجهم ما نوجزه فيما يلي: 1 - مذهبهم في التوحيد؛ هو إنكار جميع الأسماء والصفات لله عز وجل ويجعلون أسماء الله من باب المجاز. 2 - القول بالجبر والإرجاء. 3 - إنكار كثير من أمور اليوم الآخر مثل: 1- الصراط. 2- الميزان. 3- رؤية الله تعالي. 4- عذاب القبر. 5- القول بفناء الجنة والنار. 4- ومنها نفي أن يكون الله متكلماً بكلام يليق بجلاله، والقول بأن القرآن مخلوق. 5- وأن الإيمان هو المعرفة بالله.

6- ونفي أن يكون الله تعالي في جهة العلو. 7- والقول بأن الله قريب بذاته، وأن الله مع كل أحد بذاته عز وجل، وهذا هو المذهب الذي بنى عليه أهل الاتحاد والحلول أفكارهم. وقد ذكر أبو الحسن الأشعري آراء جهم التي تفرد بها فقال: "الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً بذلك، كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولوناً كان به متلوناً ويحكي عنه أنه كان يقول: لا أقول: إن الله سبحانه شيء؛ لأن ذلك تشبيه له بالأشياء (¬1) ، وكان يقول: إن علم الله سبحانه محدث - فيما يحكى عنه، ويقول بخلق القرآن، وأنه لا يقال: إن الله لم يزل عالماً بالأشياء قبل أن تكون" (¬2) . إلي غير ذلك من آراء الجهمية الكثيرة. وقد استفاض النقل عن العلماء في ردودهم على آراء جهم وأتباعه وفندوها وبينوا مصادرها، وعلى حسب ما قيل قديماً: "ما لا يدرك كله لا ¬

(¬1) وقد رد عليهم الإمام أحمد في الرد على الزنادقة ص25 بقوله: وقلنا: هو شئ فقالوا هو شئ لا كالأشياء فقلنا إن الشئ الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شئ فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشئ ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية. (¬2) (المقالات 1 /238.

1 - إنكار الجهمية لجميع الأسماء والصفات

يترك كله"، ولهذا فإنني سأقتصر على إيضاح أهم الجوانب الاعتقادية لهذه الطائفة، وأبرز سماتها فيما يلي: 1- إنكار جميع الأسماء والصفات. 2- القول بالجبر والإرجاء. 3- إنكار الصراط. 4- إنكار الميزان. 5- القول بفناء الجنة والنار 1 - إنكار الجهمية لجميع الأسماء والصفات: تنكر الجهمية جميع الأسماء التي سمى الله بها نفسه وجميع الصفات التي وصف بها نفسه بحجج واهية وتأويلات باطلة، وقد عرفنا فيما سبق مصدر هذه الأفكار التي يعتنقها الجهمية القدماء والجدد. وهذه المسألة كتب عنها العلماء كتابات مستفيضة ومؤلفات عديدة، دحضوا فيها كل ما يتعلق به الجهمية في نفي الأسماء والصفات، وقلما يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وسائر علماء الفرق من رد وخصام وجدال مع هؤلاء. شبهات الجهمية في نفي الصفات: لقد أقدم الجهمية علي نفي الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها: 1-أن إثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها.

2-إرادة تنزيه الله تعالى. 3-أن وصف الله تعالي بتلك الصفات التي ذكرت في كتابه الكريم أو في سنة نبيه العظيم يقتضي مشابهة الله بخلقه، فينبغي نفي كل صفة نسبت إلي الله تعالى وتوجد كذلك في المخلوقات لئلا يؤدي إلى تشبيه الله - بزعمهم - بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك الصفات. الرد عليهم: مما يدركه طلاب العلم أن الله عز وجل وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم بصفات تعرف معانيها ولا تدرك كيفياتها، وهي معروفة في القرآن والحديث. وقد وقف السلف من الصحابة الكرام إلي وقتنا الحاضر إزاء هذه الصفات موقفاً واضحاً جلياً لا لبس فيه، يتلخص في كلمات يسيرة ومعان واضحة، ألا وهو الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف. يقولون عن كل صفة: الصفة معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعه، ولم يتنطعوا تنطع المشبهة ولم يسلكوا مسالك المعطلة؛ لأنهم على معرفة تامة أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يصفون ذاتاً غير مدركة الماهية بصفات تكيفها؛ لأن هذا هو القول على الله بغير علم. إذ كيف تكيف ذاتاً لم تدركها ولم توصف لك أكثر من صفات مجملة قابلة للاشتراك في الأسماء متباينة الحقائق، ومن هنا نجد أنه لم يعرف عن أي شخص من الصحابة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من الصفات التي أخبر الله بها في القرآن الكريم أو أخبرهم بها نبيهم صلى الله عليه وسلم.

وهذه دلالة على قوة ذكائهم وصفاء عقولهم لأنهم يعرفون بداهة أن الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة في الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل. وكذلك بقية الصفات، ولهذا فإن عقلاء الناس حينما آمنوا بصفات الله عز وجل لم يتصورا فيها أي تشبيه، بل كانوا يعتبرون مجرد التفكير في المشابهة من وسواس الشيطان فيذكرون الله تعالي. كما أن إيمانهم بالصفات كان يجري كله على هذا المفهوم، فما كانوا يفرقون بين أن تكون الصفة ذاتية أو فعلية، ولم يحصل بينهم أي نزاع أو جدال في مسائل الأسماء والصفات، كما حصل عند من اتبع هواه ممن عطل أولاً ثم شبه ثانياً ثم زعم أنه ينزه الله تعالي. ومن العجائب أن يثبت الله لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم في هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا، ذلك أن الله تعالى قال: {الرحمن علي العرش استوى} ، وهم يقولن: لا يجوز إثبات هذه الصفة بل يجب نفيها مطلقاً، أو تأويلها بمعني استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة. وحينما قال تعالى عن نفسه: {وهو السميع البصير} ، قالوا: يجب نفي مدلول هذا نفياً تاماً أو تأويله؛ إما أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلي آخر مواقفهم الخاطئة تجاه كل الصفات والأسماء. لقد عارض الجهمية ومن سار على طريقتهم كتاب الله وسنة نبيه، وقدموا آراءهم وما تراه عقولهم على نصوص الكتاب والسنة فلم يقفوا عند حدود فهم العقل ومدى قدرته، بل تجاوزوا ذلك وظنوا أنهم علي شيء، وزخرفوا

القول في ذلك، وتحذلقوا وتنطعوا فخرجوا من نور العلم إلي ظلمات الجهل، ومن اليقين إلي الشكوك عقاباً من الله لهم لعدم تلقي النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، وترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات ولم يخبرنا الله بتفاصيلها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به: {قل أأنتم أعلم أم الله} (¬1) . إن التنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالي. وأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يري أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلي آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلا للمعدوم. إنها صفات سلبية نتيجتها أن لا معبود إلا العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال. ومن هنا وجد الملاحدة ضالتهم المنشودة في تقوية إلحادهم واحتجاجهم على ذلك بما زعموا أنه من كلام المسلمين السابق، وهم يعلمون تمام العلم أن كلام الجهمية السابق ليس له بالإسلام أية صلة، وأنه ليس من كلام المسلمين، وإنما هو من أفكار ملاحدة الفلاسفة. ¬

(¬1) سورة البقرة 140

إن الجسمية التي يزعمونها حينما يثبتون الصفات لله تعالى، إنما هو من باب تغطية إلحادهم ومروقهم عن الدين، وهم أقل وأذل من أن يجدوا كلاماً ما، لعلماء المسلمين فضلاً عن الصحابة فضلاً عن الكتاب والسنة، يشير إلي هذا المفهوم الذي تنبهوا له بزعمهم ونفوا بموجبه صفات الله وأسمائه. إن كلمة الجسمية لله تعالي نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة التي لم ترد في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، وهي تخفي وراءها هدفا ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم؛ لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلي بيان وتوضيح ممن يقول به؛ لأنه لم يرد في الشرع لا بالنفي ولا بالإثبات، ولهذا كان في إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد. فهناك من ينفي لفظ الجسم من الجهمية والمعتزلة ليخفي ما يهدف إليه من نفي ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وهناك من يثبت الجسم من المشبهة ليخفي ما يهدف إليه من إثبات ما نفاه الله عن نفسه؛ وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمة الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال: "واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمي في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعاً.

والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويري بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالي وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً". إلي أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلي السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم. وإن أردتم بالجسم ما يلحقه (من وإلى) (¬1) . فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة ... " إلى أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا ¬

(¬1) هكذا النص في الأصل، وهي عبارة غامضة، ولعل المراد بها ما يمكن أن يقال: (منه وإليه) أي من عنده وإليه، كما يفيده الكلام الذي جاء بعده. والله أعلم.

2- قول الجهمية بالإرجاء والجبر

الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه" (¬1) . فينبغي للعاقل أن يتفطن لكلام أهل الزيغ ونبزهم لعلماء السنة تنفيراً للعامة عنهم، كما أنه يجب على المؤمن ألا ينساق وراء مغالطات أصحاب البدع، فهم من دأبهم قلب الحقائق والتلبيس على الناس لتقوية ما اقتنعوا به من أفكار الملاحدة وفلاسفة اليونان. 2- قول الجهمية بالإرجاء والجبر: لقد كان الجهم بن صفوان مؤسساً حقيقياً لكثير من الشبهات في الدين، ومؤججاً لكثير من الفتن بين المسلمين بفعل من جاء بعده ممن راقت في نظره آراء جهم، ويظهر الإرجاء عند الجهمية في تلك الآراء التي نادى بها الجهم، ومن أهمها عدم اعتبار العلم من الإيمان، فإن الإيمان وحقيقته في نظرهم إنما هو مجرد الإقرار بالقلب ولا قيمة للعمل في الإيمان؛ ولهذا سارع أصحاب الفسق والاستهتار بالقيم إلى التمسك بهذا المذهب؛ لأنه يساير رغباتهم ويثبت لهم الإيمان بغض النظر عن جميع المعاصي التي يرتكبونها، فهم مؤمنون كاملو الإيمان بالمفهوم الجبري والإرجائي، فهم لا يمكن أن يطلقوا الكفر على أحد بسبب ترك الأعمال التي أمر الله بها، بل لا يتجاسرون على إطلاق الكفر إلا إذا لم يقر بقلبه حسب زعمهم. قال ابن أبي العز رحمة الله: "والجبرية أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد ¬

(¬1) انظر: مختصرة الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص175، 177 اختصار الموصلي.

بمنزلة طوله ولونه، وهم عكس القدرية نفاة القدر فإن القدرية إنما نسبوا إلي القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمي الجبرية قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر وكما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب وكما لا يجزم لمعين" (¬1) . وقد قام أساس إرجاء الجهمية على موقفهم من حقيقة الإيمان وفي مبحث المرجئة دراسة حول المرجئة وموقفهم من الإيمان، وأنه المعرفة فقط وأنه كذلك لا يزيد ولا ينقص، ومن العمل وأنه لا صله له بالإيمان، ومن مرتكب الكبيرة،، وأن الذنوب لا تعلق لا بالإعتقاد وإنما هي تابعة للأعمال، وبالتالي فلا أثر لها على الإيمان الذي في القلب فهونوا المعاصي وشجعوا علي الركون إلي الكسل والخمول في العبادات. ومع ذلك فهم يزعمون أن إيمان أي واحد منهم هو مثل إيمان جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لا تفاقهم في المعرفة بالله التي بنى الجهميون عقيدتهم في الإيمان عليها، وهم أجهل الناس بمعرفته عز وجل إذ نفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلا، إضافة إلي ما أحدثوه من الآراء والبدع الفاسدة. وأما الجبر- بفتح الجيم وسكون الباء- فمعناه إسناد ما يفعله الشخص من أعمال إلي الله عز وجل، وأن العبد لا قدرة له البتة على الفعل، وإنما هو مجبور على فعله، وحركته في الفعل بمثابة حركة النباتات والجمادات، ومن ¬

(¬1) شرح الطحاوية ص592

هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأن العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة. قال الإمام ابن القيم عنهم: والعبد عندهم فليس بفاعل ... بل فعله كتحرك الرجفان وهبوب ريح أو تحرك نائم ... وتحرك الأشجار للميلان والله يصليه على ما لم ليس من ... أفعاله حر الحميم الآن لكن يعاقبه على أفعاله ... فيه تعالى الله ذو الإحسان والظلم عندهم المحال لذاته ... أنى ينزه عنه ذو السلطان ويكون مدحاً ذلك التنزيه ما ... هذا بمقبول لدى الأذهان والمقصود بهذا بيان مذهب الجهم الذي قرر فيه أن العبد مسلوب الإرادة والاختيار لأفعاله، مثله مثل حركة المرتعد وهبوب الرياح وحركة النائم وحركة الأشجار وتمايلها بفعل الرياح، ثم زعموا ما لا يعقله أحد إلا هم ومن قال بقولهم؛ وهو أن الله عز وجل مع أنه هو الذي جبر الإنسان على فعله ورغماً عنه، ومع ذلك فإن الله يعذبه بنار جهنم مع أن الفعل هو نفسه فعل الله فيه. وقالوا: إن هذا ليس بظلم، لأن الإنسان ملك الله؛ لأن الظلم في مفهومهم هو المحال لذاته غير المتصور وقوعه (¬1) ، وهذا تكذيب لقول الله: {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (¬2) ، وقوله تعالي: {ومن جاء بالسيئة ¬

(¬1) لأن الظلم عندهم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، والظلم كذلك لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي وإلا ليس كذلك" شرح الطحاوية ص449 أي أن الظلم عندهم هو نفي الله ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، أما ما كان تحت قدرة الله تعالي فليس بظلم وأفعال ناتجة عن جبر الله تعالي لهم، وهذا الاعتقاد باطل وليس هو المراد من نفي الظلم عن الله تعالي. (¬2) سورة البقرة: 281

3- إنكار الجهمية الصراط

فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} (¬1) ، إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى الذي يفيد أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وقد مدح بذلك لبيان كمال عدله، فأين هذا المفهوم من مفهوم الجهمية حينما يقررون أن الإنسان مجبور على فعله، لا لوم عليه فيما يأتيه من الأفعال القبيحة والمنكرات؛ لأن موجدها إنما الله تعالى، ثم كلفه بامتثال أمره ونهيه فكيف يتصور هذا؟ يكلفه الله بالامتثال ثم يوجد فيه قوة العصيان، هذا تناقض وتكليف بما لا يطاق. وقد أخبر الله تعالي بأن الحق هو عكس هذا المفهوم، فقال عز وجل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (¬2) ، وجبر العبد على فعله لا يتفق مع مضمون هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث، ويصح على مفهوم هؤلاء الجهمية ألا يقال للزاني: إنه زان، ولا للسارق: إنه سارق، ولا للمصلي: إنه مصل ... الخ؛ لأن هذه الأفعال هي أفعال الله فيهم، وإنما هم منفذون لها. لقد أعظموا على الله الفرية وقفوا ما ليس لهم بحق!! 3- إنكار الجهمية الصراط: الصراط من الأمور الغيبية التي أعدها الله في يوم القيامة، وقد ثبت في الشرع بأحاديث صحيحة إضافة إلي قول الله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما ًمقضياً} (¬3) وفي الصراط تفاصيل طويلة وأخبار كثيرة، وقد حاولت حصر أكثر ما تيسر من أخباره في "الحياة الآخرة ما بين البعث إلي دخول الجنة أو النار" (¬4) . ونكتفي بإيجاز ما يهمنا ذكره هنا من أخبار هذا الأمر. ¬

(¬1) سورة الأنعام: 160 (¬2) سورة البقرة: 286 (¬3) سورة مريم: 71 (¬4) قدمتها لمرحلة الدكتوراه. انظر الباب العاشر منها من ص1211 إلي ص1317، ط 1، 1417هـ - 1997م.

الصراط المراد به: ما ثبت في السنة النبوية أنه جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، يعبره الخلائق بقدر أعمالها إلي الجنة فمنهم من يجتازه ومنهم من يقع فيه. وقد ورد في القرآن الكريم لفظة الصراط في تسعة وأربعين موضعاً-علي معان مختلفة لكنها متقاربة في المعنى- مراداً بها الطريق أو طريق الهداية والرشاد. هذا في اللغة، ولكن السلف ما كانوا يغفلون حقيقته الشرعية من أنه جسر ممدود على متن جهنم، ولم يأت التصريح بذكره في القرآن الكريم. غير أن هناك آيات بعض العلماء جعلها في ذكر الصراط وبعضهم يجعلها إشارة إليه، ومن ذلك: قول الله تعالى: {فاهدوهم إلي صراط الجحيم} (¬1) ، وهذه الآية ليس فيها التصريح التام بذكر الصراط في اصطلاح الشرع، إلا أن يقال: إن طريق الجحيم هو أخذهم إلي الصراط ومنه إلي النار. ومنه قوله تعالى: ( {فلا اقتحم العقبة} (¬2) ، ورد في تفسير العقبة أقوال كثيرة منها أن العقبة هنا هي الصراط. وكذا قوله تعالي: {وإن منكم إلا واردها ... } الآية؛ أي بالمرور على الصراط. أما في السنة النبوية فقد ورد ذكره ووصفه وكيفية المرور عليه في عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب جسر ¬

(¬1) سورة الصافات: 23. (¬2) سورة البلد: 11

جهنم)) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم، وبه كلابيب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق ومنهم المخردل ثم ينجو" (¬1) إلى آخر الحديث. وللصراط أوصاف كثيرة؛ فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ولا ينجو عليه إلا من كتبت له السعادة، ولا صحة لأقوال المتأولين له فإنها في مقابلة النصوص، وفي مرورهم عليه يعطون أنواراً كل شخص نوره على قدر عمله. ثم يقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملاً0 وقد نصبه الله لحكمة فلو شاء لاجتاز الخلق بغير نصبه، وقد تلمس بعض العلماء حكماً كثيرة لذلك إلا أنه ينبغي الإيمان التام بأن لله حكمة قد تظهر وقد لا تظهر حقيقتها لأحد، ولسنا مكلفين باستخراج الحكمة وقد كلفنا بالإيمان بكل ما صح ثبوته. كما أنه ورد في تحديد مسافة الصراط أقوال كثيرة تفتقر إلى دليل من الشرع، فهي من اجتهادات العلماء واستنباطاتهم، وينبغي معرفة أن المسافة وطولها أو قصرها تعود إلى العمل، فالاجتياز عليه إنما هو بقدر العمل كما ثبت ذلك في عدة نصوص. وإنكار الجهمية وغيرهم للصراط ليس لهم ما يتمسكون به إلا شبهات ¬

(¬1) أخرجه البخاري 11/45، الفتح، وقد بوب البخاري بقوله: باب الصراط جسر جهنم.

4- إنكار الجهميه للميزان

باطلة واستبعاد له، ظانين أن استبعاده في عقولهم يصح أن يكون دليلاً على إنكاره، وبغض النظر عن سرد تلك الشبهات فإن النتيجة واحدة وهي إنكار الصراط، ويكفي في الرد عليهم أن يقال لهم: إنكم تردون أقوال نبيكم صلى الله عليه وسلم بمحض الهوى والشبهات، وليس لكم أي دليل، ومن رد أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بعد صحة ثبوتها، فلا ريب في خسرانه ومفارقته طريق المؤمنين0 وإذا أردت أيها القارئ الكريم تفاصيل الصراط كاملة فارجع إلى ما سبق ذكره في المراجع التي ترشدك إلى أماكن أقوال العلماء وخلاصة آرائهم.. 4- إنكار الجهميه للميزان: الميزان من أمور الآخرة الغيبية التي يجب الإيمان بها وقد أنكرته الجهمية، والمراد به في الاصطلاح الشرعي: الميزان الذي أخبر الله تعالى عنه في الأحاديث الشريفة في أكثر من مناسبة تنويهاً بعظم شأنه وخطورة أمره. وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد خيرها وشرها، وقد أخبر الله عنه في القرآن الكريم إخباراً مجملاً من غير تفصيل لحقيقته، وجاءت السنة النبوية فبينته. يظهره الله في يوم القيامة لإظهار مقادير أعمال الخلق، وقد أجمع المسلمون على القول به واعتقاده. وجاء ذكره في القرآن الكريم في أكثر من آية تنويهاً بعظمه وأهميته، قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (¬1) ، وآيات أخرى كثيرة لا ¬

(¬1) سورة الأنبياء: 47.

تخفى على طلاب العلم، ودلالتها على إثبات الميزان أمر ظاهر، وقد وصف الله فيها الموازين عدل وأن من ثقل ميزانه، فقد أفلح وعاش عيشة راضية، ومن خف ميزانه فقد خسر وهوى إلي جهنم. كما وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة فيها بيان ثبوت الميزان وصفاته وما الذي يوزن فيه، هل هو العامل فقط أو العمل فقط أو العامل والعمل، أو صحف الأعمال، وما الذي يثقله وما الذي يخففه ومن تلك الأحاديث وهي كثيرة: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" (¬1) . وأنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (¬2) " (¬3) . وثبت أن العمل يوزن ويوزن أيضاً العامل، وتوزن صحائف الأعمال، وروي أن أشد ما يكون الناس خوفاً في يوم القيامة عندما يأتي دور الوزن. وقد تلقى المسلمون أخباره بالقبول والتصديق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع (¬4) ، ولم يخالف في ثبوته أي شخص من السلف. ¬

(¬1) صحيح البخاري 13/ 537، ومسلم 5 /548 (¬2) سورة الكهف: 105. (¬3) أخرجه مسلم 5 /655. (¬4) انظر: لوامع الأنوار 2 /184

5- قول الجهمية بفناء الجنة والنار

وقد ذهبت الجهمية وغيرهم من أهل البدع إلى إنكاره بلا دليل، لأنه في زعمهم - يستحيل وزن الأعراض، كما أنكروا أن يكون هناك ميزان حقيقي له كفتان ولسان، معرضين عن النصوص الثابتة بذلك كما قدمنا بعضها. وإذا أراد القارئ المزيد من أخبار الميزان والإطلاع على المناقشات الموسعة فيه فليقرأ - إن أحب - "الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار ". فسوف يجد فيه إن شاء الله كل ما يطلبه من تفصيل لأخبار الميزان ومواقف علماء السنة وعلماء البدع منه، وما الذي يوزن؟ وهل توزن أعمال الجن؟ وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر. 5- قول الجهمية بفناء الجنة والنار: اقتضت حكمة الله تعالى أن يوجد الجنة وأن تكون دار أوليائه إلى الأبد، وأن يوجد النار وتكون دار أعدائه إلى الأبد، خلقهما الله وكتب لهما البقاء الأبدي بإبقاء الله تعالى لهما وهذا هو الثابت في الشريعة الإسلامية. وخالفت الجهمية وجاءوا بأفكار ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، قال شمس الدين ابن القيم: "والجهم أفناها وأفنى أهلها تبا لذاك الجاهل الفتان " (¬1) ولم يكن لهم ما يستدلون به على إنكارهم ذلك إلا مجرد الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وصاروا يشنعون على السلف أهل الحق ما يعتقدونه في وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل. ¬

(¬1) النونية 2/ 393.

قال ابن أبي العز رحمه الله (¬1) : " وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة وكفروه به وصاحوا به وباتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصلة الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فداوم الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي ". لقد زعم الجهم وأتباعه أن الجنة والنار ستفنى بحجة أن ما لا نهاية له من الأمور الحادثة المتجددة بعد أن لم تكن يستحيل - حسب زعمه - أنها تبقى إلى ما لا نهاية، ولم يتصور أن بعض الأشياء التي شاء الله البقاء أنه يمتنع فناؤها. ولا يوجد له من الأدلة إلا ما قاله أهل الكلام حينما أرادوا الاستدلال حسب عقولهم على حدوث الأجسام حين قالوا: كل جسم حادث لا بقاء له، فالأجسام حادثة وكل ما قبل الحدوث فهو حادث، والعالم قبل الحدوث فهو حادث. ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا أخر ¬

(¬1) شرح الطحاوية ص 420.

لها لأن الله وحده هو الأول والآخر. وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أرا د الله البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيبا لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد. قال تعالى: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} (¬1) أي غير منقطع إلا إذا شاء الله أن يقطعه، فقوته فوق ذلك، ولكن أخبر عز وجل أنه لم يشأ أن ينقطع أبدا فيجب تصديق ذلك: (ومن أصدق من الله قيلا} . وقال تعالى: (وما هم منها بمخرجين} (¬2) ، " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " (¬3) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في إثبات هذا المفهوم. وقد جاءت السنة بتأكيد ثبوت وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل في أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس} (¬4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ينادي مناديا يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا} (¬5) . وورد عن ذبح الموت بين الجنة والنار ثم يقال: (يا أهل الجنة! خلود فلا ¬

(¬1) سورة هود: 108. (¬2) سورة الحجر: 48. (¬3) سورة الدخان: 56. (¬4) رواه مسلم 4/ 2181. (¬5) أخرجه مسلم 4/ 1282.

موت، ويا أهل النار خلود فلا موت} (¬1) ، والمذبوح هنا ليس هو ملك الموت كما يظن البعض حاشاه من ذلك، وإنما المذبوح هو الموت نفسه على صورة كبش أملح، لأن الموت مخلوق والحياة مخلوقة كما أخبر الله تعالى. وعن دوام النار يقول الله تعالى: " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (¬2) ، وقال تعالى: {خالدين فيها أبدا} (¬3) ، (وما هم بخارجين من النار} (¬4) ، (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} (¬5) فهذه النصوص تثبت بجلاء دوام الجنة والنار، وأن المنكرين ذلك ليس لهم أي جليل أي دليل إلا مجرد الاستبعاد وهو ليس بدليل، وإلا ما قاسوه بأخيلتهم الضعيفة، ولئن نازع هؤلاء في دوامهما فقد نازعوا في وجودهما الآن، حيث نفوا ذلك وأصروا على عدم وجودهما الآن بدليل أن الجنة لو كانت موجودة الآن لما ذكر في الأحاديث أن الأعمال الصالحة يغرس لصاحبها شجر في الجنة، ونسوا أن البيت الجميل المتكامل البناء والحسن، لا يمنع أن يزداد فيه من أنواع التحسينات والنقوش والزخرفة ما يزيده جمالاً وحسناً. وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أدلة على وجودهما الآن بما لا يخفي إلا على أهل البدع، فقد قال تعالى عن الجنة: (أعدت للمتقين} (¬6) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري 8/ 428، ومسلم أيضا. (¬2) سورة البقرة: 81. (¬3) سورة البينة: 8. (¬4) سورة البقرة: 167. (¬5) سورة فاطر: 36. (¬6) سورة آل عمران: 133.

وقال عن النار كذلك: (أعدت للكافرين} (¬1) ، لقد أعدهما الله تعالى قبل نزول أهلهما فيهما. وقد جاء في السنة النبوية ما يؤكد وجودهما الآن كما جاء ما يؤكد بقاءهما أبدا - كما تقدم. ومن الأحاديث التي تؤكد وجودهما الآن ما جاء في حديث الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى. فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ وإذا ترا بها المسك " (¬2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعدة بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " (¬3) . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: رأى الجنة وتناول منها عنقودا، وقال لهم " ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" (¬4) . إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد وجودهما الآن، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم، ولكن أهل البدع لا ينظرون إلى الحق إلا من زاوية هواهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. * * * * * * * * * * * * * * ¬

(¬1) سورة آل عمران: 131. (¬2) صحيح البخاري 4 / 107. (¬3) المصدر السابق 4/85. (¬4) صحيح مسلم 3/ 34.

الفصل الخامس الحكم على الجهمية

الفصل الخامس الحكم على الجهمية يتورع السلف كثيرا عن إكفار أي جماعة أو شخص، ويرهبون إطلاق التكفير، فلا يتسرعوا فيه كما تفعل الفرق المبطلة في تكفير الناس أو في تكفير بعضهم بعضا أيضا، إلا أن السلف لا يتورعون عن إطلاق كلمة الكفر على من جاءت النصوص بتكفيرهم أو بتسميتهم كفارا، عملا بالنصوص ووقوفا عند مفهومها الصحيح. ومن هنا تجد أن السلف حينما يطلقون الكفر على فرد أو جماعة لهم ضوابط قوية ودرجات في التكفير، من لا يفطن لها وقع - ولابد - في الخطأ سواء أكان خطأ شرعيا أم خطأ في مفهومه للتكفير عند السلف. ولهذا نجد أن كثير من العلماء يقعون في الخطأ حينما يحكون مذاهب السلف وهم على غير دراية كافية بمفاهيمهم ومصطلحاتهم. أما بالنسبة لتكفير الجهمية بخصوصهم، فإنك ستجد أيها القارئ الكريم أن كلام الناس مختلف في إطلاق الكفر على الجهمية، فهناك من يهاجمهم ويحكم بكفرهم ويسوق المبررات لذلك، وهناك من يدافع عنهم ويأتي أيضا بمبررات. ولقد ذهب كثير من علماء السلف إلى تكفير الجهمية وإخراجهم من أهل القبلة، ومن هؤلاء الإمام الدارمي أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، فقد

جعل في كتابه - " كتاب الرد على الجهمية " (¬1) - بابا سماه باب الاحتجاج في إكفار الجهمية "، وبابا أخر سماه " بابا قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم ". وأورد تحت هذين البابين أدلة كثيرة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية، ومن الآثار وأقوال العلماء ما يطول ذكره، وحاصلة أن الجهمية كفار للأمور الآتية: بدلالة القرآن الكريم، حيث أخبر عن قريش قالوا عن القرآن: (إن هذا إلا قول البشر} (¬2) أي مخلوق، وهو نفسه قول الجهم بخلقه، ثم أورد كثيرا من الآيات في هذا. ومن الأثر ما ورد عن علي وابن عباس في قتلهم الزنادقة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " (¬3) ، والجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا منهم. قال الدارمي: " ونكفرهم أيضا بكفر مشهور "، ثم ذكر من ذلك قولهم بخلق القرآن، وتكذيبهم لما أخبر الله تعالى أنه يتكلم متى شاء وكلم موسى تكليما، وهؤلاء ينفون عنه صفة الكلام فيجعلونه بمنزله الأصنام التي لا تتكلم، ثم بكفرهم في عدم إثباتهم لله تعالي ما أثبته لنفسه من الصفات: كالوجه والسمع والبصر والعلم والكلام. وبكفرهم في أنهم لا يدرون أين الله ¬

(¬1) أنظر كتاب الرد على الجهمية ص 106 / 117. (¬2) . وقال الترمذي: حديث (2) سورة المدثر: 25. (¬3) أخرجه البخاري 6/ 149، وأبو داود 4/ 520، والترمذي 4/59، والنسائي 7/ 104، وابن ماجة 2 / 848. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

تعالى ولا يصفونه بإين ولا يثبتون له مطلق الفوقية الثابتة بالنصوص الصريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ". كما أورد الدارمي جملة من أسماء الذين حكموا بكفر الجهمية صراحة، ومنهم: سلام بن أبي مطيع، وحماد بن زيد، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، ووكيع، وحماد بن أبي سليمان، ويحي بن يحيى، وأبو توبة الربيع ابن نافع، ومالك بن أنس. * * * * * * * * * * * * * *

الباب الثالث عشر المعتزلة

الباب الثالث عشر المعتزلة الفصل الأول نشأتهم المعتزلة أسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين سنة 105 وسنة 110هـ، بزعامة رجل يسمي واصل بن عطاء الغزال. نشأت هذه الطائفة متأثرة بشتى الاتجاهات الموجودة في ذلك العصر، وقد أصبحت المعتزلة فرقة كبيرة تفرعت عن الجهمية في معظم الآراء، ثم انتشرت في أكثر بلدان المسلمين انتشارا واسعا، وعن كثرتهم وانتشارهم يقول الشيخ جمال الدين القاسمي: " هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالا وأكثرها تابعا، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية والشامية والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن، فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول كما قاله العلامة المقبلي في " العلم الشامخ "، وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين. بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة، فضلا عن أن يظن أنهم انقرضوا وأن لا فائدة في المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان ومذاهب أهلها " (¬1) . وهناك روايات يذكرها الباحثون في كيفية نشأة المعتزلة: ¬

(¬1) تاريخ الجهمية ص 56.

إذ يرى بعض العلماء أن أصل بدء الاعتزال كان في زمن الخليفة الراشد علي رضى الله عنه، حينما اعتزل جماعة من الصحابة كانوا معه السياسة، وتركوا الخوض في تلك الخلافات التي نجمت بين علي ومعاوية رضى الله عنهما، وهذا القول باطل لا صحة له، وقد أيده الشيخ محمد الطاهر النيفر (¬1) . ويرى أكثر العلماء أن أصل بدء الاعتزال هو ما وقع بين الحسن البصري وواصل بن عطاء من خلاف في حكم أهل الذنوب. وقد ظهر قرن الاعتزال بمبادئه المعروفة من البصرة التي كانت مسكنا للحسن البصري ثم انتشر في الكوفة وبغداد، ومنها إلى شتى الأقطار والآفاق. ومما يذكر للمعتزلة أنهم كانوا شوكة قوية في صد مبادئ الزندقة، وقاموا بجهود كثيفة لنشر الإسلام، إلا أنهم لم يحسنوا التصرف إزاء القول بخلق القرآن وغيره من المبادئ التي عجلت باضطهادهم بعد قوتهم وشدة جانبهم. وقد تفرقت المعتزلة فرقا كثيرة، واختلفوا في المبادئ والتعاليم، ووصلوا إلى اثنين وعشرين فرقة، نترك ذكر تفاصيلها هنا، ونحيل من أراد التوسع في ذلك إلى كتب الفرق (¬2) . إلا أنه يجمعهم إطار عام وهو الاعتقاد بالأصول الخمسة: التوحيد على طريقة الجهمية والعدل على طريقة القدرية، والوعد ¬

(¬1) أنظر: كتابه أهم الفرق الإسلامية ص 33. (¬2) أنظر: مقالات الشعري، الملل والنحل للشهر ستاني، الفرق بين الفرق للبغدادي، التنبيه والرد للمطلبي، التبصير في أمور الدين للإسفراييني، الفصل لابن حزم.

والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طريقة الخوارج. * * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثاني أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات

الفصل الثاني أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات يجد الباحث عن أسماء المعتزلة أن العلماء لم يتفقوا على تسمية واحدة للمعتزلة، ولم يقتصر كذلك المعتزلة على تسمية واحدة لهم. ومن أقوال العلماء في تسميتهم: 1. المعتزلة: ويرجع سبب التسمية إلى اعتزال أول زعيم لهم وهو واصل ابن عطاء الغزالي إلى حلقة الحسن البصري حينما ألقي رجل سؤالا عن مرتكبي الذنوب فبادر واصل إلى الجواب قبل أن يجيب الحسن (¬1) ، ومن هنا تطور الأمر إلى اعتزال واصل ومن معه حلقة الحسن البصري فسموا معتزلة على سبيل الذم من قبل المخالفين لهم، على أن هذا التعليل لتسميتهم ليس أمرا متفقا عليه بل هناك عدة تعليلات واعتراضات وأجوبة أخرى (¬2) . وقد أخذت المعتزلة مبادئ كثيرة عن الجهمية، فقد أخذت القول بنفي رؤية الله تعالى ونفي الصفات والقول بخلق القرآن. 2. تسمية المعتزلة جهمية: ولهذا الاتفاق بين المعتزلة والجهمية في تلك المسائل العقدية، ولسبق الجهمية في الظهور، أطلق العلماء اسم الجهمية على المعتزلة، وذلك لأن المعتزلة هم الذين احيوا آراء الجهمية في مبدأ ظهورهم، ¬

(¬1) حيث أجاب بأنهم في منزله بين المنزلتين لا مؤمنون ولا كافرون، وفى الأخرى هم مخلدون في النار، مخالفا بذلك مذهب السلف القائم على الحق الموافق للكتاب والسنة في أنهم تحت المشيئة. (¬2) أنظر: المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منهم ص 14-21.

حيث جاء المعتزلة ونفخوا في رمادهم وصيروها جمرا من جديد، ومن هنا استحق المعتزلة أن يطلق عليهم جهمية. فالجهمية أعم من المعتزلة فكل معتزلي جهمي، وليس كل جهمي معتزليا (¬1) . 3. تسميتهم بالقدرية: بسبب موافقتهم القدرية في إنكار القدر وإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم، وهم لا يرضون بهذا الاسم ويرون أنه ينبغي أن يطلق على الذين يقولون بالقدر خيره وشره من الله تعالى لا عليهم، لأنهم لا يقولون بذلك، بل يقولون بان الناس هم الذين يقدرون أعمالهم. ولكن ابن قتيبة يرد عليهم ويرى أن نفي المعتزلة للقدر من الله تعالي وإضافته إلى أنفسهم يوجب أن يسموا قدرية، لأن مدعي الشيئ لنفسه أحق أن ينسب إليه (¬2) ، وكان أول المتكلمين في القدر والمقررين له معبد الجهني وغيلان الدمشقي. 4. ومن أسمائهم الثنوية والمجوسية: وهم ينفرون من هذا الاسم، والذي حمل المخالفين لهم على تسميتهم به هو مذهب المعتزلة نفسه، الذي يقرر أن الخير من الله والشر من العبد، وهو يشبه مذهب الثنوية والمجوس الذي يقرر وجود إلهين: أحدهما للخير والآخر للشر. 5. الوعيدية: وهو ما اشتهروا به من قولهم بإنفاذ الوعد والوعيد لا محالة، وأن الله تعالى لا خلف في وعده ووعيده، فلابد من عقاب المذنب إلا أن يتوب قبل الموت. ¬

(¬1) أنظر: منهاج السنة 1/344. (¬2) أنظر: تأويل مختلف الحديث ص 98.

6. المعطلة: وهو اسم للجهمية أيضا ثم أطلق على المعتزلة لموافقتهم الجهمية في نفي الصفات وتعطيلها وتأويل ما لا يتوافق مع مذهبهم من نصوص الكتاب والسنة , وإذا كانت تلك الأسماء لم يرتاحوا إليها ولا يحبون التسمية بها, فإن هناك أسماء أخر اختاروها لأنفسهم وأخذوا يدللون على الأفضل. وتلك الأسماء هي: 1. المعتزلة: وقد سبق أنه اسم ذم وهو كذلك إلا أن المعتزلة حينما رأوا ولع الناس بتسميتهم به أخذوا يدللون على أنه اسم مدح بمعنى الاعتزال عن الشرور والمحدثات واعتزال الفتن والمبتدعين على حد قوله تعالى: {واهجرهم هجرا جميلا} (¬1) . 2. أهل العدل والتوحيد أو "العدلية ": والعدل عندهم يعنى نفي القدر عن الله تعالى، أو أن تضاف إليه أفعال العباد القبيحة، والتوحيد عندهم يعنى نفى الصفات عن الله تعالى، وتسميتهم بالعدلية اسم مدح اخترعوه لأنفسهم. 3. أهل الحق: لأنهم يعتبرون أنفسهم على الحق ومن عداهم على الباطل. 4. الفرقة الناجية: لينطبق عليهم ما ورد في فضائل هذه الفرقة. 5. المنزهون الله: لزعمهم حين نفوا الصفات أنهم ينزهون الله، وأطلقوا على من عداهم وخصوصا أهل السنة أسماء جائرة كاذبة مثل: القدرية - المجيزة - المشبه - الحشوية - النابتة. ¬

(¬1) سورة المزمل: 10.

سلطان المعتزلة: ومهما كان، فلقد عظم أمر المعتزلة - الجهمية - واشتدت شوكتهم وقوى ساعدهم حينما استطاعوا اختطاف الخليفة العباسي المأمون إلى جانبهم، وحجبوا عنه كل فكر يخالف فكرهم، ووقع - رغم حبة للعلم والإطلاع - في يد أحمد بن ابي دؤاد، ومن ثم ناصر المعتزلة بكل ما لديه من قوة، بلا وأراد حمل كافة الناس على اعتناق المذهب المعتزلي، ورغب الناس فيه ورهبهم من تركه. ولقي المسلمون عنتا شديدا منه، وفتن كثير من الناس، وأوذي الكثير من العلماء الأجلاء وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله. " وتسمى هذه الفترة بمحنة خلق القرآن، وقد بلغوا الذروة ثم أخذوا ينحدرون عنها، فلما جاء المتوكل وجد نارا تتقد في كل مكان وامتحانات وضربا وتشريدا ونفيا، كل ذلك جلب السخط العام على رجال الدولة، فأبطل المتوكل القول بخلق القرآن وأبطل المحاكمات ليكتسب تأييد الرأى العام، وبذلك نصر المحدثين نصرا مؤزرا، فأصبح القول بالاعتزال يتحدث به سرا بعد أن كان جهرا " (¬1) . الاتفاق بين المعتزلة والقدرية: ومن الجدير بالذكر أنه قد اتفقت مفاهيم المعتزلة مع القدرية في مسألة من أهم مسائل العقيدة، ألا وهى القدر وموقف الإنسان حياله، فذهبت المعتزلة والقدرية إلى القول بأن الله تعالى غير خالق لأفعال الناس، بل الناس هم الذين يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وليس لله تعالى أي صنع في ذلك ولا قدرة ¬

(¬1) أنظر: أهم الفرق الإسلامية للنيفرص 34.

ولا مشيئة ولا قضاء. وهذا تكذيب لله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام. وقد حملهم على ذلك قلة علمهم وعدم تصورهم أن يكون الله تعالى يأمر أو ينهى عن شيء وهو يعلم عاقبة ما سيئول إليه ذلك الشيء، فإن إثبات علم الله السابق ينافي أمره بالامتثال، وعلمه بالعصاة ينافى خلقه لهم وأمرهم بالطاعة كما يرى هؤلاء. وكل هذا باطل، فإن الله تعالى يقول: (والله خلقكم وما تعملون} (¬1) ، ويقول سبحانه وتعالى في نفاذ مشيئته: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله} (¬2) ، فمشيئة الإنسان ليست مستقلة عن مشيئة الله تعالى، والعبد مأمور بالامتثال ومنهي عن العصيان، وهو غير مسئول عن معرفة ما في القدر والأمور المغيبة، وإثبات علم الله تعالى لا ينافى الأمر بالامتثال، وعلمه بالعصاة لا ينافى خلقه لهم وأمرهم بطاعته، فقد علم الله كل ما سيفعله إبليس، ولكنه أمره بطاعته وبالسجود لآدم، وعلم أن الناس سيكون منهم الطائع والعاصي ولكنه أمر الجميع بطاعته، والعباد أعجز من أن يخلقوا أفعالهم بأنفسهم دون قدرة الله ومشيئة وقضائه. * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) سورة الصافات: 96. (¬2) سورة التكوير: 29.

الفصل الثالث مشاهير المعتزلة القدرية الجهمية

الفصل الثالث مشاهير المعتزلة القدرية الجهمية ظهر في المعتزلة الجهمية رجال كان لهم أثر بارز في انتشار أفكارهم وذيوعها بين الخاصة والعامة، فكان منهم المناظرون الخصمون والمؤلفون، بل ووصلوا إلى أخذ السلطة، واستجلاب الخلفاء إلى مبادئهم، كما سبق. ومن رجالهم المشاهير. 1- بشر بن السري ... 2- ثور بن زيد المدني 3- ثور بن يزيد الحمصي ... 4- حسان بن عطية المحاربي 5- الحسن بن ذكوان ... 6- داود بن الحصين 7- زكريا بن إسحاق ... 8- سالم بن عجلان 9- سلام بن عجلان ... 10- سلام بن مسكين 11- سيف بن سليمان المكي ... 12- شبل بن عاد. 13- شريك بن أبي نمير ... 14- صالح بن كيسان 15- عبد الله بن عمرو ... 16- عبد الله بن أبي لبيد 17- عبد الله بن أبي نجيح ... 18- عبد الأعلى بن عبد الأعلى 19- عبد الرحمن بن إسحاق المدني ... 20- عبد الوارث بن سعيد الثوري

21- عطاء بن أبي ميمونة ... 22- العلاء بن الحا رث 23- عمرو بن أبي زائدة ... 24- عمران بن مسلم القصير 25- عمير بن هانيء ... 26- عوف الأعرابي 27- كهمس بن المنهال ... 28- محمد بن سواء البصري 29- هارون بن موسى الأعور النحوي ... 30- هشام الدستوائي 31- وهب بن منبه ... 32- يحيى بن حمزة الحضرمي قال السيوطي: "هؤلاء رموا بالقدر وكلهم ممن روى له الشيخان أو أحدهما " (¬1) وإضافة إلى ما ذكره السيوطي رحمه الله هنا، فإنه لم يقتصر خطأ المعتزلة الفاحش في مسألة القدر، إنما كان لهم خبط واضطراب في أهم قضية على ¬

(¬1) انظر: تاريخ الجهمية والمعتزلة ص 76 - 77. من الواضح أن البخاري ومسلمًا رحمهما الله وغيرهما من علماء الحديث كانوا يروون عن أناس عرفوا بميلهم عن مذهب السلف، وذلك لأمور كثيرة من أهمها: 1- ثقة أولئك وصدقهم في روايتهم. 2- يروون عنهم ما لا يقوي بدعتهم. 3- يروون عنهم حرصا على حفظ العلم وتدوينه. 4- يروون عنهم بسبب أن المسائل التي خالفوا فيها مما يتسامح في الخلاف فيه إلى حد ما، لغموضها ولقوة الشبهة التي دفعتهم إلى ذلك.. إلى غير ذلك من الأمور. كذلك فإن الأشخاص الذين روى لهم البخاري ومسلم لم يكونوا ممن يتهمون بمحاربة الإسلام والكيد له، وإنما كانت لهم أخطاء ظنا منهم أنهم فيها على صواب، فقد اجتهدوا كغيرهم من طالبي الحق ولكن ليس كل من اجتهد في طلب شئ أصاب الحق فيه وأخذ العلماء عن هؤلاء إنما هو دليل قوى على ذم التعصب والتسرع في تكفير المخالفين وإخراجهم من الملة، ودليل أخر على وجوب الإنصاف، وأن الحق ضالة المؤمن أينما وجده أخذه بغض النظر عن حامله.

الإطلاق ألا وهى توحيد الله عز وجل، في مذهبهم أن التوحيد هو نفى جميع الصفات التي وصف الله بها نفسه المقدسة، واستبدلوها بصفات يتنزه الله عن الاتصاف بها، وزعموا أنها هي الحق. وقد أورد الأشعري جملة اعتقاد المعتزلة في التوحيد وسرد عنهم عدة جمل يصفون بها الله عز وجل، زعموا أن ذلك هو توحيد الله تعالي وهو في الحقيقة إلحاد يؤدي إلى إنكار وجود الله تعالي، فقد وصفوة بصفات مبنية كلها على النفي المجرد، مملوءة بالتناقض والمستحيلات التي لا يمكن أن يوجد لها محل خارج الذهن لا تمت إلى توحيد الله بأى صلة، بل هي خيالات محضة وكذب على الله بغير دليل ولا أثاره من علم، ويمكن للقارئ أن يقف عليها في كلام الأشعري الآتي: " أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم ولا شبح، ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ولا دم ولا شخص، ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال، وأمام وخلف، وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن " (¬1) . إلى أخر تلك الأوصاف التي ملئوا بها كتبهم وحشوا بها أذهان الناس، والتي لا يخرج القارئ منها بثمرة ولا يستفيد السامع فائدة تنفعه في دينه أو في ¬

(¬1) المقالات 1/ 235.

دنياه لأنها جهل وخبط واضطراب فكري أدى إليه علم الكلام الذي جر على المسلمين الفتن وأنواع الشرور. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الرابع ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا

الفصل الرابع ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا وللمعتزلة - كغيرهم من الفرق الكلامية - آراء وأفكار ومعتقدات كثيرة تحتاج دراستها إلى مجلدات، غير أنه يمكن عرض أهم آرائهم بإيجاز في المسائل الآتية: 1 - اختلفوا في المكان لله تعالي: 1- فذهب بعضهم - وهم جمهورهم - إلى أن الله تعالى في كل مكان بتدبيره، وهذا قول أبي الهذيل والجعفرين، والإسكافي، ومحمد بن عبد الوهاب الجبائي. 2- وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا في مكان، بل هو على ما لم يزل عليه، وهذا هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر 2- ذهبوا إلى أن الاستواء هو بمعنى الاستيلاء في قول الله تعالي: (الرحمن على العرش استوى} (¬1) . 3- اجمعوا على أن الله لا يرى بالأبصار. 4- اختلفوا في صفة الكلام لله تعالى: 1- فذهب بعضهم إلى إثبات الكلام لله تعالي. ¬

(¬1) سورة طه: 5.

2- وذهب بعضهم إلى إنكار ذلك. ولهم اختلافات كثيرة في مسائل دقيقة من مسائل الصفات والعقائد (¬1) ، لا يستدعي المقام الدخول في تفاصيلها , وأهم ما أود التنبيه عليه هو أن أبرز سمات هذه الطائفة في باب الأسماء والصفات تظهر في: إنكارهم الصفات وتعطيلها. أنهم بنوا آراءهم ومعتقداتهم في أصول خمسة، لا يسمي الشخص معتزلياً إلا إذا حققها واعتقد صحتها، وسوف نبين هذه الأصول مع الرد عليها، حسب ما يقتضيه المقام من الإيجاز المفيد إن شاء الله تعالى. وقبل بيان تلك الأصول أجدني على يقين من أن إنكار الصفات وتعطيلها في مفهوم الفكر المعتزلي أمر لا يجهله طلاب العلم، فقد استفاضت كتب الفرق والمقالات وكتب التاريخ والعقائد في بيان هذا الموقف الخاطئ للمعتزلة، وسموه مع ذلك توحيد الله تعالي، وتنزيها له. لقد لبس الشيطان عليهم " حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن"، لانسياقهم في فلك أهل الكلام المذموم والفلسفة الدخيلة الممقوتة، فسموا ذمهم لله تعالى بإنكارهم لصفاته تعالى باسم ظاهره فيه الرحمة وباطنة من قبله العذاب، أي أن ظاهرة التنزيه ولكن باطنه تمام التشبيه والتعطيل، ولكن التسمية لا تغير الحقيقة عند عقلاء بني أدم في المسائل الاعتقادية التي يتوجب بسببها الطاعة ¬

(¬1) أنظر: المقالات: جـ1، والفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والنحل للشهر ستاني الجزء الأول.

والمعصية والحق والباطل. وكل هذه المواقف إنما جرتها كتب اليونان الفلسفية، التي وصفها أحد علماء اليونان بأنها ما دخلت بلدا إلا وأفسدت أهله. لقد أساء المأمون الخليفة العباسي إلى الإسلام والمسلمين حين شجع ترجمة تلك الكتب ونشرها في ديار المسلمين، وحينما تضلع منها المعتزلة بدأت أفكارهم في الاضطراب، ولا أدل على هذا من إقدامهم على إنكار صفات الله تعالى الذي نتج عن جمعهم بين التشبيه والتعطيل ثم نفي تلك الصفات وسنذكر مزيدا من الرد عليهم إن شاء الله تعالي في دراسة أصول المعتزلة في الأصل الأول. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الفصل الخامس الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها، والرد عليها

الفصل الخامس الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها، والرد عليها الأصول الخمسة هي إجمالا: 1- التوحيد. 2- العدل. 3- الوعد والوعيد. 4- القول بالمنزلة بين المنزلتين. 5- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ويذكر العلماء أنه لا يسمى الشخص معتزلياً حتى يقول بهذه الأصول الخمسة. أ - أما الأصل الأول وهو التوحيد: فإنهم يقصدون به البحث حول صفات الله عز وجل وما يجب لله تعالي وما لا يجب في حقه. وقد حرص المعتزلة على إنكار صفات لله تعالى بحجة أن إثباتها يستلزم تعدد القدماء وهو شرك على حد زعمهم، لأن إثبات الصفات يوحي بجعل كل صفة إلها، والمخرج من ذلك هو نفى الصفات وإرجاعها إلى ذات الباري تعالي فيقال: عالم بذاته قادر بذاته.. الخ، وبذلك يتحقق التوحيد في نظرهم.

الرد عليهم إن الرد على المعتزلة في نفى صفات الله عز وجل مما لا يجهله أي طالب علم، كما أن مذهب السلف في تقرير صفات الله عز وجل في أتم وضوح وأجلى حقيقة، فإن السلف رحمهم الله يثبتون صفات الله عز وجل كما جاءت في الكتاب والسنة دون تحريف أو تأويل، مع معرفتهم بمعانيها وتوقفهم في بيان كيفياتها، لأنهم يؤمنون بأن الكلام في صفة كل شيء فرع عن تصور ذاته، والله عز وجل له ذات لا تشبه الذات ولا يعلم أحد كيفيتها، وصفاته كذلك ثابتة على ما يليق بذاته جل وعلا. وهكذا ينبغي أن يكون معتقد المسلم، يصف الله بما وصف به نفسه في كتابه الكريم، وبما وصفه به رسوله الأمين نفيا وإثباتا. ولا يقف ما ليس له به علم، وقد علم أن طريقة السلف تتلخص في إثبات أسماء الله وصفاته على وجه لا يوحي بأي نوع من المماثلة والمشابهة على ضوء قول الله عز وجل: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (¬1) المتضمن رد التشبيه والتمثيل ورد الإلحاد والتعطيل. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه حينما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل: " أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعا بصيرا قريبا " (¬2) . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها - ¬

(¬1) سورة الشورى: 11. (¬2) فتح الباري 13 / 372. باب: وكان الله سميعا بصيرا.

الأصل الثاني العدل - الصلاح والأصلح

يعني قوله تعالى: (سميعا بصيرا} (¬1) ويضع أصبعيه، قال أبو يونس: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينية (¬2) ، وهذا زيادة تأكيد في إثبات صفات الله تعالي، قال البيهقي " وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله بيان محلهما من الإنسان " (¬3) وصفاته عز وجل قديمة قائمة بذاته زائدة على الذات (¬4) ، على التفضيل الصحيح عند السلف، لا كما ترى الفرق المخالفة للحق بأنها ذاته وليست بزائدة على الذات، لكي يتم لهم نفي الصفات مطلقا بزعم نفي التجزؤ أو التركيب أو تعدد القدماء وهو زعم باطل. 2- الأصل الثاني للمعتزلة: العدل: يقول القاضي عبد الجبار في بيانه لمعنى العدل ودلالاته، وفى سبب تأخيره الكلام عليه بعد إيراد بحث التوحيد - يقول: " وأما الأصل الثاني من الأصول الخمسة وهو الكلام في العدل. وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم جل وعز وما يجوز عليه وما لا يجوز، فذلك ¬

(¬1) سورة النساء: 58. (¬2) أخرجه أبو داود 2/534، أنظر: فتح الباري 13 /373، قال ابن حجر عن سند الحديث: إنه قوى على شرط مسلم من رواية أبي يونس عن أبي هريرة. (¬3) فتح الباري 13 / 373. (¬4) هذا من الألفاظ المجملة عند السلف، فلا يطلقون على الصفات أنها غير الله تعالى ولا أنها ليست غير الله تعالى. فإن أريد أن هناك ذاتا بلا صفات فهو غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، فهو محال إلا في التصور الذهني. والله تعالى بصفاته حقيقة واحدة لا تجزؤ فيها. أنظر: شرح الطحاوية ص 71.

أو جبنا تأخير الكلام في العدل عن الكلام في التوحيد " (¬1) . والذي يهمنا هنا هو بيات المراد بالعدل عندهم، حيث اتضح أنهم يريدون بالعدل ما يتعلق بأفعال الله عز وجل التي يصفونها كلها بالحسن ونفي القبح عنها - بما فيه نفي أعمال العباد القبيحة عن الله عز وجل رضاء وخلقا، لأن ذلك يوجب نسبة الفعل القبيح إلى الله تعالى وهو منزه عن ذلك لأن الله تعالى يقول: (والله لا يحب الفساد} (¬2) ، {وما الله يريد ظلما للعباد} (¬3) ، ويقول تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم..} (¬4) الآية. وفى هذا الفهم الخاطئ يقول القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: " أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم هم المحدثون لها " (¬5) . وقال في كتابه " المغني في أبواب العدل والتوحيد " تحت عنوان " الكلام في المخلوق ": " اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم. وأن من قال: إن سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه (¬6) . ¬

(¬1) أنظر: شرح الأصول الخمسة ص 301. (¬2) سورة البقرة: 205. (¬3) سورة غافر: 31. (¬4) سورة الزمر: 7. (¬5) شرح الأصول الخمسة ص 323. (¬6) المغنى في أبواب التوحيد والعدل 8/3 الكلام في المخلوق - ذكر اختلاف الناس في أفعال العباد ".

فاتفق المعتزلة على أن الله تعالى غير خالق لأفعال العباد وأن العباد هم الخالقون لأفعالهم، مع أنهم يؤمنون بأن الله تعالي عالم بكل ما يعمله العباد وأن الله تعالي هو الذي أعطاهم القدرة على الفعل أو الترك. ولهم في هذا الباب شبه كثيرة وجدال عقلي. ومن تلك الشبه: أن إثبات خلق الله تعالي لأفعال العباد فيه نسبة الظلم والجور إليه تعالى والله منزه عن ذلك. ومنها آيات كثيرة في القرآن الكريم يستدلون بها، منها قول الله تعالي: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (¬1) ، ومأخذهم من هذه الآية كلمة "تفاوت"، وقد أخطأوا المراد منها حيث فسرها القاضي عبد الجبار بقوله: " نفى الله التفاوت عن خلقه، فلا يخلو: إما أن المراد بالتفاوت من جهة الخلقة أو من جهة الحكمة، ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة، لأن في خلقه المخلوقات من التفاوت ما لا يخفي، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالي، لاشتمالها على التفاوت وغيره " (¬2) . الرد عليهم: مما لا شك فيه أن أفعال الله كلها حسنة لا قبيح فيها، إلا أن المعتزلة ارتكبوا مغالطات واضحة في فهم النصوص. ¬

(¬1) سورة الملك: 3. (¬2) شرح الأصول الخمسة ص 355.

ذلك أن الظلم الذي نفاه الله عن نفسه هو وضع الشيء في غير موضعه أو وضع سيئات شخص على أخر، أو أن ينقص من حسنات المحسن، وهذا ظلم بلا شك والله منزه عنه. والخلاف إنما هو في حقيقته في خلق كل الأشياء وكل الأفعال، وأنها لا تخرج عن خلق الله وإرادته لها، قال تعالي: (والله خالق كل شيء} (¬1) ، وقال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون} (¬2) ، وهؤلاء يقولون: الإنسان هو الذي يخلق فعله فرارا - بزعمهم - من نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالي وإرادتها بزعمهم. ولم ينظروا إلى أن الله عز وجل هو الخالق للعباد وأعمالهم، ولا يوجب ذلك أن يكون الله تعالي هو الفاعل لأعمالهم، فخلق الظلم والكذب والطاعة والمعصية، فمن فعل الظلم بأن غش الناس أو غصبهم أموالهم يقال له: غاش ومغتصب ومنتهب وسارق وفاجر.. إلى أخر الصفات، ولا ينسب إلى الله تعالى إلا باعتبار أقدار الله تعالي للعبد وشمول مشيئة لها لا أن الله هو الفاعل الحقيقي لتلك الجرائم، ولذلك حين جئ بسارق إلى عمر رضى الله قال له: لم سرقت؟ فقال السارق: قدر الله علي، فقال عمر: وأنا قدر الله على أن أقطع يدك " (¬3) . " ذلك أننا لسنا مطالبين بالوقوف على ما عند الله من الأقدار، إنما نحن مطالبون بالقيام بالأعمال التي يريدها الله والاجتناب عن مالا يريده، ¬

(¬1) سورة الرعد: 16. (¬2) سورة الصافات 96. (¬3) انظر: شرح الطحاوية ص 94.

ورتب الله الحدود ومصالح الناس على هذا القدر ". فالله تعالى خلق ظلما من اتصف به من الناس كان ظالما، وخلق كذبا من اتصف به كان كاذبا، وخلق طاعة من اتصف بها كان مطيعا، وقد ورد في الحديث: إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم " (¬1) . وأما بالنسبة لاستدلالهم بالآية الكريمة: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (¬2) . فقد فسروا التفاوت هنا بالحكمة، بينما الصحيح أن التفاوت المنفي هنا هو التفاوت في الخلقة، أي لا يوجد في خلق السموات والأرض من تفاوت، أي من عيب أو خلل، لقلة استوائهما بل هما في أدق تناسب وإتقان، فالمقصود بنفي التفاوت في الخلقة وليس في الحكمة كما فسروه. وهناك آيات أخرى استدلوا بها ذكرها القاضي عبد الجبار في كتابه شرح الأصول الخمسة (¬3) . ويلتحق بمسألة العدل مسائل من أهمها: الصلاح والصلح، واللطف من الله تعالى، وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام. والصلح: كلمة محببة إلى النفوس، لأنها ضد الفساد. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود 5 / 75، وابن ماجة 1/30، وأحمد 5/185. (¬2) سورة الملك: 3. (¬3) انظر: شرح الأصول الخمسة ص 354، 362 تحت عنوان جانبي " آيات من القرآن تدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد ".

والأصلح: كلمة توحي بأعمق من الصلاح، وقوة القرب من الخير والنفع. والمعتزلة تؤكد أن الله تعالي لا يفعل بعبادة إلا الصلاح وما فيه نفعهم وجوبا عليه جلا وعلا، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان ظلما لهم ونقصا مما فيه صلاحهم، بل وخلاف الحكمة في إيجاده لهم إذا لم يعنهم على ما كلفهم به، حسب ما يرى المعتزلة من الواجبات التي افترضوها على الله تعالى. الرد عليهم: أمر الله وأرشد عبادة إلى أن يفعلوا كل ما فيه صلاحهم، وأن مرد ذلك يعود إليهم هم، وأن الله تعالى لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة المطيع، وقد كتب الله على نفسه الرحمة تفضلا منه، وحرم الظلم عدلا منه. والله تعالى يفعل بعباده الأصلح لهم، ولكن لا يجوز القول بالوجوب عليه جل وعلا على سبيل المعاوضة كما هو الحال بين المخلوقين. فإن العباد لا يوجبون عليه شيئا وإنما هو الذي أوجب على نفسه تفضلا منه وكرما، لا أنه يجب عليه فعل الصلاح والأصلح بمفهوم المعتزلة الذي فيه إقامة الحجة عليه إن لم يفعل بهم ذلك، فإنه حسب معتقد هؤلاء يحق للكافر أن يقول: يا رب أنت خلقتني وزقتني ومكنتني من الكفر حتى مت كافرا، فلم أقدرتني على ذلك، ولم تعاملني بالأصلح كغيري من الناس الذين ماتوا على الإسلام؟ ويحق كذلك لمن كانتا درجته نازلة في الجنة أن يقول: لما لم تمكني من الأعمال التي توصلني إلى ما وصل إليه غيري من الدرجات العلى؟ ومذهب أهل السنة هو الحق، فلا إيجاب على الله إلا ما أوجبه على نفسه

تفضلا منه وكرما، لأن العباد يستحقون عليه شيئا بإيجاب أحد من خلقه عليه. وكذلك مسألة اللطف من الله تعالى هي من الأمور الثابتة، لكن ليس على سبيل الإيجاب على الله تعالى كما ترى المعتزلة. بل اللطف من الله بمحض تفضله جل وعلا وكرمه ومنه عليه بالتوفيق إلى فعل الخيرات وترك المحذورات، ولا يجوز القول بوجوب فعل اللطف على الله تعالى. قال تعالي: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} (¬1) فقد لطف الله بعباده إذ لم يتبعوا الشيطان جملة، حيث بصرهم بعواقب طاعة الشياطين وبين لهم أضرار ذلك، ثم لطف بهم وقوى عزيمتهم على عصيان الشيطان تفضلا منه تعالي وليس بإيجاب أحد عليه. وأما إرسال الرسل فإنه من جملة ما توجيه المعتزلة على الله تعالى، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان مخلا بما هو واجب عليه، لأن صلاح العباد يتعلق بإرسال الرسل لتعريف الناس، وما دام صلاح العباد يتوقف على إرسالهم فإن إرسالهم يكون واجبا عليه، لأن إرسالهم هو مقتضى العدل الذي يتم به صلاح الخلق. الرد عليهم: قد عرفنا فيما سبق أنه لا يجوز لأحد أن يوجب على الله تعالي شيئا، فهو ¬

(¬1) سورة النساء: 83.

الأصل الثالث: الوعد والوعيد

رب العباد وخالقهم ومالكهم يتصرف فيهم كما يشاء فلا موجب عليه إلا ما أوجبه هو على نفسه تفضلا وكرما. وقد اقتضت حكمته تعالى أن يرسل الرسل وأن يعذر إلى الخلق فلا يعذب أحدا إلا على مخالفته لرسله قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (¬1) ، وقال تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} (¬2) ، وهذا من تفضله وكرمه على عباده ولطفه بهم، لا أن أحدا أوجبه عليه كما ترى المعتزلة. 3- الأصل الثالث: الوعد والوعيد: 1 - الوعد: الوعد في مفهوم المعتزلة عرفه القاضي عبد الجبار بقوله: "أما الوعد فهو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسنا مستحقا وبين ألا يكون كذلك، ألا ترى أنه كما يقال: أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب، فقد يقال: وعدهم ... بالتفضل مع أنه غير مستحق، وكذلك يقال: فلان وعد فلانا بضيافة في وقت يتضيق عليه الصلاة مع أنه يكون قبيحا " (¬3) قال: " ولابد من استقبال الحال في الحدين (¬4) جميعا، لأنه إن نفعه في الحال أو ضره مع القول لم يكن واعدا ولا متوعدا " (¬5) .. إلى أن قال في بيان ¬

(¬1) سورة الإسراء: 15. (¬2) سورة الأنعام: 131. (¬3) شرح الأصول الخمسة ص 134. (¬4) الحدين يقصد بهما الوعد والوعيد. (¬5) المصدر السابق ص 135.

علوم الوعد والوعيد في مفهومهم: " وأما علوم الوعد والوعيد فهو أنه يعلم أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب " (¬1) . هذا هو مذهب المعتزلة، يوجبون على ربهم أن ينفذ وعده وأن يعطي العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقا منه على الله مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التي اختارها الله وكلف بها عباده. وقد أورد المعتزلة لتأييد مذهبهم هذا بعض النصوص التي فهموا منها وجوب إنفاذ الله وعده، وهى آيات من القرآن الكريم وبعض الشبه العقلية، منها قول الله عز وجل: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} (¬2) . وموضع الشاهد من الآية هو قوله تعالى: {فقد وقع أجره على الله} ، حيث فسروا هذا الوقوع بمعني الوجوب، أي فقد وجب ثوابه على الله استحقاقا، لأن العمل في رأيهم من موجبات الثواب. واستدلوا أيضا على ذلك من العقل بأن الله مادام قد كلف عباده بالأعمال الشاقة فلابد أن يكون لها مقابل من الأجر، وإلا لكان ذلك ظلما، والله منزه عن الظلم، فلا يجوز على الله تعالي - في نظرهم - أن يوجب العمل ولا يوجب له جزاء. والواقع أن ما استدلوا به من الآية والشبهة العقلية إنما بنوه على مسألة ¬

(¬1) المصدر السابق ص 135 - 136. (¬2) سورة النساء: 100.

وجوب دخول الجنة بالعمل وهى من المسائل الهامة، وقد أورد الحافظ ابن حجر فيها عدة معاني للعلماء حول مفهوم الحديث الذي روته عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سددوا وقاربوا وابشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة " (¬1) . وحول مفهوم الآيات التي تفيد أن دخول الجنة لا يكون إلا بالعمل لقوله تعالى: (يقولون سلام عليكم أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون} (¬2) . وبين الآيات التي تفيد أن دخولها إنما هو تفضل من الله تعالى لقوله عز وجل في إخباره عن كلام أهل الجنة وغبطتهم بما هم فيه: (الذي أحلنا دار المقامة من فضله} (¬3) . فهل يكون دخول الجنة استحقاقا بالعمل كما ترى المعتزلة، أم إن دخولها إنما هو بفضل الله مضافا إليه العمل؟ والحق أن دخول الجنة إنما هو بفضل الله أولا وأخيرا، وليس للعبد على ربه أي استحقاقا غير أن الله تعالي أوجب على نفسه أنه لا يظلم عمل عامل من ذكر أو أنثي، فجعل العمل من الأسباب دخول الجنة، والسباب نفسها إنما هي تفضيل من الله تعالى. فاتضح أن استدلال المعتزلة بالآية السابقة وغيرها في وجوب الثواب - بمعني أن الله تعالى يجب عليه شيء لم يوجبه هو على نفسه - استدلال خاطئ، فإن الله تعالي لا يستطيع أحد من خلقه أن يوجب عليه شيئا لم يوجبه هو على ¬

(¬1) أخرجه البخاري، انظر: فتح الباري: 11 / 294 - 300. (¬2) سورة النحل: 32. (¬3) سورة فاطر: 35.

2 - الوعيد

نفسه. فالخلق عبيده وله عليهم من النعم ما لا يقومون بشكر أقلها، ومع ذلك فإن الله تعالى لا يخلف وعده، فإنه يعطي العبد ما وعده به من الخير بحكم وعده وكرمه، وفرق بين وقوع ذلك على هذه الصفة وبين وقوعه استحقاقا. هذا الجواب يدفع كذلك شبهتهم العقلية التي بنوها على المعارضة بينهم وبين الله عز وجل وقد علمت خطأ هذا التصور (¬1) ، وأن نعمة واحدة لا تفي بها أعمال العبد مهما كثرت، ولكن الله تعالي جعل العمل مع رحمة الله تعالى من أسباب دخول الجنة. 2 - الوعيد: والوعيد في مفهوم المعتزلة سبق بيانه في كلام القاضي عبد الجبار من أن الله يفعل ما وعد به توعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب ". والمقصود بالوعيد هنا هو ما يتعلق بأحكام المذنبين من عصاه المؤمنين إذا ماتوا من غير توبة، وقد أوضح المعتزلة رأيهم في هذا وهو أن أصحاب الكبائر إذا ماتوا من غير توبة فإنهم يستحقون بمقتضى الوعيد من الله النار خالدين فيها إلا أن عقابهم يكون أخف من عقاب الكفار (¬2) شبههم: للمعتزلة شبهات في تأييدهم لمذهبهم بإنفاذ الوعيد لا محالة، وقد استدلوا من القرآن الكريم بكل آية يذكر فيها عقاب العصاة بالنار والخلود فيها، ¬

(¬1) أنظر لمزيد التفضيل: المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها ص 213 - 217. (¬2) أنظر: الملل والنحل للشهرستاني: 1/45.

وهى آيات كثيرة مثل قوله عز وجل: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين} (¬1) . وقوله تعالى: (بلي من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (¬2) . وآيات أخرى كثيرة يدل ظاهرها على هذا المفهوم. والواقع: أن مسألة تخليد أصحاب الذنوب في النار من المسائل التي بحثها المعتزلة وأهل السنة، وأطالوا فيها الكلام وكثر فيها الخصام، وأود إيجاز النتيجة في ما يلي: إن استدلال المعتزلة لما يذهبون إليه من إنفاذ الوعيد لا محالة، وأن أصحاب الكبائر والذنوب من المؤمنين مخلدون في النار حتما قول غير مسلم، وهو خطأ في فهم النصوص وحمل لها على غير معانيها الصحيحة، فإن الآيات لا تدل على خلود أصحاب المعاصي من المؤمنين خلودا أبديا حتميا، ذلك أن الله عز وجل قد يعفو عنهم ابتداء وقد يعذبهم بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم الله بتوحيدهم وإيمانهم، لأنه لا يخلد في النار إلا من مات على الشرك الذي أخبر عز وجل أنه لا يغفر لصاحبه، وأما ما عدا الشرك فإن الله تعالي يغفره. ومن ناحية أخرى، فإن خلف الوعيد من فعل الكرام وهى صفة مدح، ¬

(¬1) سورة الانفطار: 13 - 16. (¬2) سورة البقرة: 81.

بخلاف خلف الوعد فإنها صفة ذم، والله عز وجل يتنزه عنها، بخلاف الوعيد فإنه يعتبر من باب التفضل والتكرم وإسقاط حق نفسه، وهذا هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة. وما ذهب إليه المعتزلة من منع إخلاف الوعيد وزعمهم أنه من الكذب فهو إلى سوء الظن أقرب، وهو تحكم على الله عز وجل، والله تعالى يفعل ما يشاء. وقد أجمل الطحاوي مذهب أهل السنة في كلامه الآتي: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين (¬1) وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬2) ، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالي تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته (¬3) . وهذه الشفاعة التي أشار إليها الطحاوي رحمه الله للمعتزلة فيها موقف مخالف لموقف أهل الحق. وذلك أن المعتزلة لا ترى الشفاعة لأحد في الآخرة إلا للمؤمنين فقط دون الفساق من أهل القبلة، فلا شفاعة لأهل الكبائر، لأن إثبات ذلك يؤدي إلى ¬

(¬1) قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي معقبا على قول الطحاوي: " بعد أن لقوا الله عارفين " - قال: " لو قال "مؤمنين" بدل قوله: "عارفين" كان أولى، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم وقوله مردود باطل " ص359. (¬2) سورة النساء: 48، 116. (¬3) أنظر: شرح الطحاوية ص 356 - 357.

خلف وعيد الله، وخلف الوعيد عندهم يعتبر كذبا والله يتنزه عن الكذب. ثم استدلوا بالآيات الواردة في نفي الشفاعة عن غير المؤمنين الفائزين كقوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجرى نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} (¬1) . وكذا قوله تعالي: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي} (¬2) ، أي والفساق غير راضي عنهم فلا تصح الشفاعة فيهم. وقوله تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (¬3) .. إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا المعنى. ولا ريب أن المعتزلة جانبوا الصواب في الحكم بنفي الشفاعة في العصاة، فإن القول بإثبات هذه الشفاعة مما هو ثابت متواتر عن السلف، لثبوت الأحاديث المتواترة بذلك وإجماع علماء الإسلام عدا المعتزلة. والذي جر المعتزلة لهذا الخطأ خطأ أخر، وهو أن من عقائدهم أن السيئات يذهبن الحسنات, فلو أتى الشخص بحسنات كالجبال , ثم جاء بعدها بسيئة , فإن تلك الحسنات تحبط بمجرد صدور المعصية. ومذهب السلف أنه لا شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة عن الإسلام والرجوع إلى الكفر، كما أن تكفير جميع السيئات عن المذنب لا يكون إلا بالتوبة. ¬

(¬1) سورة البقرة: 48. (¬2) سورة الأنبياء: 28. (¬3) سورة غافر: 18.

الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين

وفى هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والتحقيق أن يقال: إن الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط، لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة، لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين، فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، إلى أن قال: " فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة " (¬1) . 4 - الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين تدور هذه المسألة حول الحكم على مرتكب الكبيرة، حينما طلب إلى الحسن البصري أن يبين الحكم في صاحب الكبيرة، وما تلا ذلك من جواب واصل بن عطاء، ثم اشتداد الخلاف بعد ذلك واعتزال واصل وجماعته حلقة الحسن البصري. وقد قدمنا أن قضية مرتكبي الذنوب كانت هي الحصيلة الحتمية عند المعتزلة لمواقف الفرق الأخرى من خوارج ومرجئة وأهل السنة أيضا، بسبب ما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 12 / 483.

استجد بين المسلمين من أحداث خطيرة سياسية، ابتداء من قتل عثمان رضي الله عنه وانتهاء بأصحاب المعاصي أيا كان عصيانهم. وقد أجمعت المعتزلة على قضية المنزلة بين المنزلتين واعتبروها أصلا من الأصول الثابتة. وتلقب هذه المسألة حسب ما يذكره القاضي عبد الجبار " بمسألة الأسماء والأحكام " (¬1) . وقد بين اصطلاح المتكلمين في معنى المنزلة بين المنزلتين بقوله: " والأصل في ذلك أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه. هذا في أصل اللغة، وأما في اصطلاح المتكلمين فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسما بين الاسمين وحكما بين الحكمين على ما يجئ من بعد " (¬2) . وما أحال إليه هنا في قوله: " على ما يجئ من بعد " قد شرحه تحت عنوان: " الأصل الرابع: وهو الكلام في المنزلة بين المنزلتين "، قال فيه: " أعلم أن هذا الفصل كلام في الأسماء والأحكام ويلقب بالنزلة بين المنزلتين، ومعنى قولنا: إنه كلام في أسماء الأحكام، هو أنه كلام في أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن وإنما يسمى فاسقا وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان ¬

(¬1) شرح الأصول الخمسة ص 137. (¬2) شرح الأصول الخمسة ص 697.

المنزلتان، فليست منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما " (¬1) . والمقصود أن المعتزلة يريدون بالمنزلة بين المنزلتين المؤمن صاحب المعاصي، فهو عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل يفرد له حكم ثالث وهو تسميته " فاسقا" في الدنيا، والحكم بخلوده في النار في الآخرة، فاختلف اسمه وحكمه في الدنيا فاستحق أن يكون في منزلة بين المنزلتين. والذي حيرهم في أمر الفاسق هو أنه من جهة ليس بمؤمن، لأن حكم المؤمن لا ينطبق عليه في الواقع لمجيئه بأعمال غير المؤمنين في بعض أموره، وهو كذلك ليس بكافر تماما لمجيئه بأعمال المؤمنين في بعض أموره، إذا فهو فاسق، والفسق اسم ذم، وما ثبت له اسم الذم انتقى عنه اسم المدح، وقد توعد الله الفساق بالنار فحكمه في الآخرة الخلود فيها. ويرد عليهم: ببيان حكم مرتكب الكبيرة في الشرع، هل حكم بكفره وإخراجه من الملة أو حكم بإيمانه الإيمان الكامل، أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. الواقع: أن العاصي غير خارج من الملة بفسقه بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولم تخرجه النصوص عن الإيمان لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه، ولا في إجماع الأمة، وفى هذا يقول الطحاوي: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " (¬2) . وقد أجاب الشارح ابن أبي العز الحنفي حول ما ورد من تسمية الشارع ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية ص 295.

لبعض الذنوب كفرا مثل قول الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (¬1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬2) . وأمثلة أخرى كثيرة يفيد ظاهرها إطلاق كلمة الكفر على من اقترف ذنبا من تلك الذنوب. ثم أجاب عن ذلك كله فقال: " والجوانب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية - كما قالت الخوارج - إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة لكان مرتدا يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولا القصاص ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين - كما قالت المعتزلة - فإن قولهم باطل أيضا، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (¬3) إلى أن قال: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} ، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخا لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب، وقال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى أن قال: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم} (¬4) ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق ¬

(¬1) سورة المائدة: 44. (¬2) متفق عليه: البخاري 1/110، ومسلم 2/241. (¬3) سورة البقرة: 178. (¬4) سورة الحجرات: 9-10.

الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار " (¬1) فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه "، ثم أورد حديث المفلس (¬2) وقول الله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات} (¬3) ، ثم قال: " فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته " (¬4) . وهذا جواب نفيس جامع لفوائد عظيمة وفيه بيان جلي لمذهب السلف في هذه القضية التي أخطأ فيها المعتزلة وجعلوا العصاة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وحكموا بخلودهم في النار في الآخرة، ولم يلتفتوا إلى مشيئة الله تعالى في أولئك وهو الفعال لما يريد جل وعلا - فقطعوا عنه المشيئة، ثم زادوا الخطأ بآخر حينما حكموا بخلوده في النار مع من مات على الشرك ولم يسجد لله سجدة، ولا شك أن العقل يأبى هذا الحكم مع أنهم ممن يقدر العقل ويقدمه على النقل، ولكن الهوى يغطي على العقل والفهم إلا من وفقه الله تعالي. 5- الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هذا هو الأصل الأخير من أصول المعتزلة الخمسة. وقد بين القاضي عبد الجبار حقيقة الأمر، والنهي، والمعروف، والمنكر، ¬

(¬1) رواه البخاري في الرقاق 11/395، وفى المظالم أيضا 5 / 101. (¬2) هو حديث رواه مسلم 8 / 18. (¬3) سورة هود: 114. (¬4) أنظر: شرح الطحاوية ص 301 - 30 2.

فقال: " أما الأمر: فهو قول القائل لمن دونه في الرتبة: أفعل، والنهي هو قول القائل لمن دونه: ولا تفعل. وأما المعروف: فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى: معروف، لم يعرف حسنها ولا دل عليها. وأما المنكر: فهو كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه، ولو وقع من الله تعالي القبيح لا يقال: أنه منكر، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه " (¬1) . ومعنى التعريف أن المعروف والمنكر لابد أن يتضح أمرهما عند الشخص بأن يرى حسن المعروف ويدلل عليه، ويرى قبح المنكر ويستطيع أن يدلل عليه، وهذا بخلاف ما لو وقع من الله - افتراضا - فعل القبيح فإنه لا يستطيع أن يدلل عليه، ولذا فلا يوصف بالمنكر. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبران من فروض الكفايات عند المعتزلة إذا قام بهما من يكفي سقط عن الباقين، وحكمها عموما الوجوب الكفائي. وقد استدل المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة كثيرة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية والإجماع. فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (¬2) ، قال عبد الجبار: " فالله تعالى مدحنا على ¬

(¬1) شرح الأصول الخمسة ص 141. (¬2) سورة آل عمران: 110.

ذلك فلولا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك " (¬1) . قال عبد الجبار: " وأما من السنة فهو قول النبي: " ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل" (¬2) . قال: " وأما الإجماع فلا إشكال فيه، لأنهم اتفقوا على ذلك " (¬3) ، وقد توافق أهل السنة والمعتزلة في حكم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كونه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره الله تعالي في كتابه الكريم حيث قال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (¬4) ، وإلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يلي: 1- طريقة تغيير المنكر. 2- أوجبوا الخروج على السلطان الجائر. 3- حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم سواء كانوا من الكفار أو من أصحاب المعاصي من أهل القبلة. فأما طريقة تغيير المنكر: فقد ساروا فيها عكس الحديث الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المسلم إزاء تغيير المنكرات. عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف ¬

(¬1) شرح الأصول الخمسة ص 142. (¬2) رواه ابن ماجه وأحمد في المسند. (¬3) شرح الأصول الخمسة ص 142. (¬4) سورة آل عمران: 104.

الإيمان " إذ إن تغيير المنكر عندهم يبدأ بالحسنى ثم باللسان ثم باليد ثم بالسيف، بينما الحديث يرشد إلى العكس، وهو ما يذهب إليه أهل الحق، من أن تغيير المنكر يبدأ بالفعل باليد إذا لم يترتب عليه مفاسد، والتغيير باليد هنا لا يكون بالسيف، وإنما هو إزالة المنكر بدون قتال ولا فتح باب فتنة أكبر من المنكر المراد إزالته. فإن لم يتمكن الشخص من التغيير باليد انتقل إلى التغيير باللسان، فإن وصل الحال إلى عدم الاستطاعة من التغيير باللسان بأن كان الشر هو الغالب على الخير، فليكتف بالتغيير بالقلب من كراهة المنكر وتمنى زواله وبغضه وبغض أهله، ومع هذا فلا مكان للسيف هنا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرشد إليه، ولما فيه كذلك من جر الأمة إلى ما هو أكبر من تغيير ذلك المنكر، بخلاف المعتزلة فإنهم لا يرون حرجا في حمل السلاح لتغيير المنكر. وأما الخروج على السلطان الجائر فقد أوجبه المعتزلة، والواقع أن جور السلطان وارتكابه المعاصي لا يوجب الخروج عليه لما يترتب على ذلك من المفاسد ومن سفك الدماء وتفريق كلمة الأمة، فإن الإسلام لا يبيح الخروج عليه إلا عندما يظهر الكفر منه صراحة. وأما حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم من أهل القبلة فلا دليل لهم على ذلك، ولا يجوز أن يستحيل دم المسلم إلا بما حدده الشرع، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فلا يجوز قتاله واستحلال دمه ولم يأمر الشرع بذلك، فيجب على المسلم الالتزام وترك تنطع الخوارج والمعتزلة. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الباب الرابع عشر " الأشاعرة أو السبعية "

الباب الرابع عشر " الأشاعرة أو السبعية " (¬1) وفيه المطالب الآتية: 1- ظهور الأشاعرة: ظهرت الأشعرية بعد أن تنفس الناس الصعداء من سيطرة المعتزلة في القرن الثالث الهجري. وهى في الأصل نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، ظهر بالبصرة وكان أول أمره على مذهب المعتزلة ثم تركه واستقل عنهم، ولقد أصبح الانتساب إلى الأشعري هو ما عليه أكثر الناس في البلدان الإسلامية. بعضهم على معرفة بمذهبه الصحيح وآرائه التي استقر عليها أخيرا، وبعضهم على جهل تام بذلك وبعضهم يتجاهل ويصر على مخالفته مع انتسابه إليه. وانتساب الأشاعرة إليه إنما هو بعد تركه للاعتزال وانتسابه إلى ابن كلاب، وهى المرحلة الثانية من المراحل التي مر بها الأشعرية، ولم يدم فيها إذ رجع إلى مذهب السلف، ولكن بعض الأشاعرة ينتسبون إليه ولكن في مرحلته الثانية، ومن انتسب إليه في مرحلته الثالثة فقد وافق السلف، ونذكر ¬

(¬1) (*) بعض العلماء يطلق عليهم السبعية بسبب أنهم يثبتون لله تعالى سبع صفات فقط ويؤولون فيما عداها.

2 - أبو الحسن الأشعري

فيما يلي نبذة موجزة عنه. 2 - أبو الحسن الأشعري: هو علي بن إسماعيل الأشعري ينتسب إلى أبي موسى الأشعرية، وهو أحد علماء القرن الثالث، تنتسب إليه الأشعري، ولد في البصرة سنة 250 هـ وقيل: سنة 270 هـ وتوفى سنة 330 هـ على أحد الأقوال. تعمق أولا في مذهب المعتزلة وتتلمذ على أبي علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب أحد مشاهير المعتزلة، إلا أن الله أراد له الخروج عن مذهبهم والدخول في مذهب أهل السنة والجماعة، وتوج ذلك بما سجله في كتاب " الإبانة عن أصول الديانة ". ومما يذكر عن سيرته أنه كان دائما يتململ من اختلاف الفرق في وقته وينظر فيها بعقل ثاقب، فهداه الله إلى الحق واقتنع بما عليه السلف من اعتقاد مطابق لما جاء في القرآن والسنة النبوية فكان له موقف حاسم في ذلك. ومما يدل على ذكائه وطلبه للحق وإفحامه لخصمه في المحاجة أنه سأل أستاذه (¬1) أبا علي الجبائي عن ثلاثة أخوة كان أحدهم مؤمنا برا تقيا. والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيرا، فماتوا فكيف حالهم؟ فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بطاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن ¬

(¬1) على حسب مذهب المعتزلة.

3 - عقيدة الأشعري

قال: ذلك التقصير ليس مني فإنك ما أبقيتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول البارئ جل وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الأكبر يا إله العالمين كما علمت حاله فقد علمت حالي فلم راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي. لقد كان الأشعري إماما فذا كثير التأليف واسع الإطلاع محببا إلى الناس، ولهذا تجد أن كل طائفة تدعي نسبته إليها " فالمالكي يدعي أنه مالكي، والشافعي يزعم أنه شافعي، والحنفي كذلك " (¬1) . 3 - عقيدة الأشعري: علمنا فيما مضى أن الأشعري كان على مذهب المعتزلة ومن العارفين به، وأنه أقام عليه مدة أربعين سنة ومما يذكره العلماء عن سيرته ورجوعه عن الاعتزال ومذهب ابن كلاب إلى المذهب الحق، أنه مكث في بيته خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الناس وفى نهايتها خرج في يوم جمعة، وبعد أن انتهى من الصلاة صعد المنبر وقال مخاطبا من أمامه من جموع الناس: " أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله تعالى لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم. معاشر الناس إنما تغيبت عنكم هذه المدة، لأني نظرت فتكافأت عندي ¬

(¬1) أنظر: كتاب " أبو الحسن الأشعري " ص 8.

الأدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا "، وانخلع من ثوب كان عليه. ودفع الناس ما كتبه على طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين (¬1) . وحينما أنضم إلى أهل السنة والجماعة، فرحوا به فرحا شديدا، واحترموه وعرفوا قدرة وإخلاصه وتوجهه إلى الحق بيقين ثابت، وصارت أقواله حجة وآراؤه متبعة، بينما ثار عليه أهل الاعتزال وذموه بأنواع الذم غيظا عليه، لوقوفه في وجوههم وإبطال آرائهم المخالفة للحق وتركه لمذهبهم، خصوصا وأنه كان من المتعمقين في مذهبهم والعارفين بعواره. ومما ينبغي ملاحظته أن ينتبه طالب العلم إلى تمويه المغرضين ممن يزعم أن الأشعري لم يتب عن الاعتزال، وأن الإبانة مدسوسة عليه، وهو كذب ليس له ما يسنده، بل الصحيح الذي عليه عامة علماء السلف أن الأشعري رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة وتاب من كل ما يخالفه، كما صرح بذلك في كتبه كالإبانة وغيرها من مؤلفاته النافعة (¬2) . وعلى هذا فإن الأشعري مر بثلاثة أحوال في عقيدته: الحال الأول: حال الاعتزال. الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبع: وهى الحياة - والعلم - ¬

(¬1) أنظر: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/181. (¬2) في رسالة للشيخ حماد الأنصاري تسمى " أبو الحسن الشعري " نقول كثيرة عن علماء الإسلام في إثباتهم الإبانة لأبي الحسن، أنظرها إن شئت، وهى خلاصة عقيدته، أما اللمع فهي تمثل المرحلة الثانية: عقيدته الكلابية.

والقدرة - والإرادة - والسمع - والبصر - والكلام. وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك. الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف كما في الإبانة التي نوه بها أحد معاصري الأشعري فقال بمدحه: لو لم يصنف عمره ... غير الإبانة واللمع لكفي فكيف عمره ... تفنن في العلوم بما جمع مجموعة تربي على المئين ... مما قد صنع لم يأل في تصنيفها ... أخذا بأحسن ما استمع فهدى بها المسترشد ... ين ومن تصفحها انتفع تتلى معاني كتبه ... فوق المنابر في الجمع ويخاف من إفحامه ... أهل الكنائس والبيع فهو الشجا في حلق من ... ترك المحجة وابتدع (¬1) وفى كتابه الإبانة توضيح تام لعقيدته السلفية ومتابعته لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، فارجع أيها القارئ الكريم إلى هذا الكتاب واقرأة، وخصوصا الباب الذي عنوانه " باب في إبانة قول أهل الحق والسنة " تجد فيه العقيدة السلفية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. وأرى أنه من باب تيسير الإطلاع على ما في هذا الباب أن أنقله بطولة لعظيم نفعه وعموم فائدته، في كلام عذب وعبارات جميلة لا يمل القارئ من ¬

(¬1) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري: ص 152 أنظر: " أبو الحسن الأشعري ": ص 214.

عقيدته كما بينها في كتابه "الإبانة"

قراءته، فإليك مضمون ما فيه بحروفه، أسأل الله النفع للجميع. عقيدته كما بينها في كتابه "الإبانة": قال رحمه الله تعالى: باب في إبانة قول أهل الحق والسنة فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قبل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسوله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبه ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال: (الرحمن على العرش استوى} (¬1) ، وأن له وجها كما قال: (ويبقى ¬

(¬1) سورة طه: 5.

وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (¬1) ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: (خلقت بيدي} (¬2) ، وكما قال: (بل يداه مبسوطتان} (¬3) ، وأن له عينا بلا كيف كما قال: (تجري بأعيننا} (¬4) ، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: (أنزله بعلمه} (¬5) ، وكما قال: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} (¬6) . ونثبت له السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت أن لله قوة كما قال: (أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} (¬7) ، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له: كن فيكون كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (¬8) وإنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وإن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله ولا نستغني عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله عز وجل، وإنه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة كما قال: (خلقكم وما تعملون} (¬9) وإن العباد ولا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال: ¬

(¬1) سورة الرحمن: 27. (¬2) سورة ص: 75. (¬3) سورة المائدة: 64. (¬4) سورة القمر: 14. (¬5) سورة النساء: 166. (¬6) سورة فاطر: 11. (¬7) سورة فصلت: 15. (¬8) سورة يس: 82. (¬9) سورة الصافات: 96.

(هل من خالق غير الله} (¬1) ، وكما قال: (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} (¬2) ، وكما قال: (أفمن يخلق كمن لا يخلق} (¬3) ، وكما قال: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (¬4) ، وهذا في كتاب الله كثير. وإن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} (¬5) ، وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم، وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونبث الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن من قال بخلق القرآن فهو كافر. وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال الله عز وجل: (كلا إنهم ¬

(¬1) سورة فاطر: 3. (¬2) سورة النحل: 20. (¬3) سورة النحل 17. (¬4) سورة الطور: 35. (¬5) سورة الأعراف: 178.

عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (¬1) ، وإن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وإن الله سبحانه وتعالي تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، ونرى بألا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا. ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمان، وندين بأنه يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (¬2) ، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع (¬3) كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وندين بألا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين. ونقول: عن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين. ¬

(¬1) سورة المطففين: 15. (¬2) أخرجه مسلم 16/155، والترمذي 5/538، وابن ماجة 1/72، وأحمد 6/315. (¬3) البخاري 8/550، ومسلم 18/272.

وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحية في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وندين (¬1) بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونثني عليهم بما أثني الله به عليهم ونتولاهم أجمعين. ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضى الله عنه وأن الذين قاتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم. وندين لله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم. ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه واثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه على ¬

(¬1) منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى فلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن ذرة من خير، ويخرج من النار وفى قلبه وزن ذرة من خير" وفى رواية: "من إيمان" بدل "من خير". البخاري 1/127 في " بابا زيادة الإيمان ونقصانه".

كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عز وجل يجئ يوم القيامة كما قال: (وجاء ربك والملك صفا صفا} (¬1) ، وإن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (¬2) ، وكما قال: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} (¬3) ، ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وغيره، كما روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج. وإن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ولإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة. وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسائلتهما المدفونين في قبورهم (¬4) ، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيرا، ونرى الصدقة عن موتي المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحره وسحرا وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من ¬

(¬1) سورة الفجر: 22. (¬2) سورة ق: 16. (¬3) سورة النجم: 8، 9. (¬4) المساءلة تتم حتى ولو لم يقبر الشخص على صورة يعلمها الله تعالى.

أشهر زعماء الأشعرية

مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم. ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها عبادة حالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} (¬1) ، وكما قال: (من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} (¬2) ، ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم. وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارا ثم يقول لهم: اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية، وندين لله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، وما كان يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقى منه مما لم نذكره بابا بابا وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى (¬3) . 4 - أشهر زعماء الأشعرية الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري: لقد انتسب إلى الأشعري جماعة من المشاهير كان لهم الباع الطويل في تحرر المذهب الذي ينتسبون إليه. إلا إنهم لم يكونوا على طريقة أبي الحسن ¬

(¬1) سورة البقرة: 285. (¬2) سورة الناس: 4-6. (¬3) الإبانة.

الأشعري والمتقدمين من أصحابه في إثبات الصفات. ومن كبار أولئك الرجال: أبو بكر الباقلاني المتوفي سنة 403 هـ. البيضاوي المتوفي سنة 701 هـ. الشريف الجرجاني المتوفي سنة 816 هـ. وكذا الإمام الجويني (الأب) ، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438 هـ. وكذا ابنه إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 478 هـ. والجويني نسبة إلى بلدة في فارس تسمى " جوين" وقد سمى إمام الحرمين، لأنه مكث أربع سنوات ثم عرج على المدينة المنورة وكان يدرس فيهما ويناظر. ومن أولئك أيضا: الغزالي - أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الملقب حجة الإسلام، توفى سنة 505 هـ وهو ينسب إلى طوس. ومنهم: أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني ولد سنة 467 هـ وتوفى سنة 548 هـ. ومنهم: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني، الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي. وأما قدماء الأشاعرة الذين كانوا على مذهب أبي الحسن الأشعري في إثبات صفات الله تعالي فمنهم: الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب،

موقف الأشاعرة من صفات الله تعالى

والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد، وهؤلاء مشوا على الطريقة السلفية في باب الصفات (¬1) ، ولكن من جاء بعدهم ممن ينتسب إلى الأشعري تركوا طريقتهم وأولوا الصفات تأويلات باطلة، ومنهم من رجع أخيرا إلى مذهب السلف وذموا ما كانوا عليه من الانحراف وهم بعض من قدمنا أسماءهم فيما يذكر عنهم عند وفاتهم. 5 - موقف الأشاعرة من صفات الله تعالى وقف الأشاعرة بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى موقفا مضطربا مملوءا بالتناقض، ولم يتمكنوا من الدخول في المذهب السلفي كاملا، إذ وافقوا السلف في جانب وخالفوهم في جانب آخر، ونفس المسلك هذا أيضا تم مع مذهب المعتزلة، فقد وافقوهم في جانب وخالفوهم في آخر. ومن هنا وقفوا بين خصمين، فألزمهم السلف بإلزامات كثيرة تنقض ما ذهبوا إليه بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى، كما ألزمهم المعتزلة أيضا وشنعوا عليهم، ولو رضوا بمذهب الأشعري وساروا في طريقة تماما لما وجد أحد طريقا إلى ذمهم في باب صفات الله تعالى كما هو حالهم اليوم. وموقف الأشاعرة في باب الصفات حاصله ما يلي: ذهب الأشاعرة إلى تقسيم الصفات الإلهية إلى: صفات نفسية راجعة إلى الذات أي إلى وجود الله تعالى ذاته، وإلى صفات سلبية، واختاروا لها خمسة أقسام: وحدانية الله تعالى، والبقاء، والقدم، ومخالفته عز وجل للحوادث، وقيامه عز وجل بنفسه. وسموها سلبية، لأن كل صفة منها تسلب في إثباتها ¬

(¬1) أنظر الصفات الخير بين الإثبات والتأويل ص 257 والمصادر السلفية التي أسند إليها.

كل ما يضادها أو كل ما لا يليق بالله تعالى. كما يقسمون الصفات كذلك إلى سبعة أقسام يسمونها " صفات المعاني " وهى: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، وهذه الصفات يثبتونها لله تعالى صفات ذاتية لا تنفك عن الذات يؤمنون بها كما يليق بالله تعالى. ويسمونها أحيانا الصفات الذاتية والوجودية. وقد يجمع الأشاعرة تبعا للكلابية بين المتناقضات في صفات الله تعالى، فهم يقرون أنه لا يقال: إن صفات الله تعالى عين ذاته، ولا يقال: أنها غير ذاته، والذي حيرهم فيها هو أن الصفة للشيء ليست هي ذاته وليست هي غيره، لأنها لا تنفك. وأقسام الصفات الثابتة لله تعالى هي كما يلي: صفات ذاتية: وهى التي لا تنفك عن ذات الله تعالى، كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر.. الخ. وصفات فعلية: وهى التي تتعلق بمشيئته وقدرته بمعنى إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش والنزول والمجيء: إلى أخره. وبعض الصفات تجمع الأمرين، فتكون ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار آخر، مثل صفة الكلام فهي ذاتية باعتبار أن الله تعالي لم يزل ولا يزال يتكلم لا تنفك عن ذاته هذه الصفة، وهى فعلية باعتبار أن الله يتكلم حسب مشيئته. ومن جهة أخرى تنقسم الصفات الثابتة لله تعالى إلى: صفات عقلية: ثبتت بالنص وبالعقل أيضا، كالعلم، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، والبقاء، والحياة، والقدرة، والوجود، والوحدانية.

صفات خبرية: وهى التي ثبتت بالخبر - السمع - دون النظر إلى ثبوتها بالعقل، كالاستواء، والنزول، والوجه، واليدين. وهذه الصفات تشمل: الصفات الفعلية الاختيارية، المتعلقة بمشيئة الله تعالى، كالنزول، والاستواء، والرضى، والغضب، والإتيان، والمجيء، والفرح والسخط. وهذه الصفات يقال لها: قديمة النوع، باعتبار أن الله تعالى لم يزل متصفا بها، حادثة الآحاد، باعتبار تجدد وقوعها. وقد ذهبت الكلابية وتبعهم الأشعرية إلى نفي الصفات الفعلية عن الله تعالى ويؤولون ما ورد منها بزعم أنها لا تليق بالله تعالى، لإشعارها بالأعراض التي لا تقوم إلا بالجسم، ومع هذا فهم يثبتون له تعالى الصفات الذاتية اللازمة له. وأنكروا قيام الصفات الفعلية الاختيارية به، وأوهموا الناس أن الحامل لهم على هذا هو تنزيه الله تعالى عن قيام الحوادث به. بخلاف قدماء الأشاعرة كالباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب، والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد الذين كانوا يثبتون الصفات الخبرية على ظاهرها ويؤولونها، تبعا لأبي الحسن الأشعري وعلى طريقة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث. وفى ترجمة العلماء لأبي الحسن الأشعري وبيان رجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة من النصوص التي تثبت ذلك ما لا يخفي على طلاب العلم. ولكن المتأخرين من الأشاعرة كالغزالي، والجويني، والرازي، والتفتازاني،

والجرجاني - كانوا يذهبون إلى تأويل الصفات الخبرية ونفي معانيها الحقيقية وأنها مجازات، فالاستواء بمعنى الاستيلاء، واليد: القدرة أو النعمة، والنزول: نزول الملائكة، والوجه: الذات والعين والحفظ، وزعموا أن إثبات هذه الصفات على ظاهرها يؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وتركوا ما قرره الأشعري في وجوب إثبات هذه الصفات كما يليق بجلال الله وعظمته. وهو أمر ينافي انتسابهم إليه وإلى أصحابه المتقدمين كالباقلاني وابن مجاهد والطبري الذين ساروا على طريقة شيخهم السلفي. وينبغي الحذر مما درج عليه بعض الكتاب من زعم أن الأشعري قد ترك المذهب السلفي ورجع عنه، وكون مذهبا وسطا ليس هو على طريقة المعتزلة ولا هو على طريقة أهل السنة أصحاب الحديث، وأن كتابه الإبانة كان على طريقة هؤلاء بينما اللمع هو آخر ما كتبه، وقد استقر عليه كما يزعم هؤلاء. تجد هذا القول عند الدكتور حمودة غرابة في كتابه " أبو الحسن الأشعري " وفى مقدمته لكتاب اللمع، كما تجده أيضا عند الدكتور عبد العزيز سيف نصر في رسالته " العقيدة الإسلامية بين التأويل والتفويض ". ولعلهما تأثرا بما قرره قبلهما زاهد الكوثري. وقد رد عليهما الشيخ عثمان بن عبد الله آدم (¬1) ودفع تصورهما وأنهما أخطآ الحقيقة، ولم يطلعا على ما قرره علماء الاسم والحقائق التي أوردوها على رجوع الأشعري، وعلى أن كتابه الإبانة هو آخر ما كتب وآخر ما استقر عليه. وحينما يذهب الأشاعرة إلى إثبات السبع الصفات، وهى: الحياة، ¬

(¬1) أنظر: الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل ص 281.

والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة - حينما يثبتون هذه الصفات كما يليق بالله تعالى من أنه حي بحياة وعليم بعلم وقدير بقدرة.. الخ، ثم يردون بقية الصفات الأخرى ويؤولونها تأويلات بعيدة عن حقيقتها إنما يسلكون مسلكا متناقضا لا مبرر له، إذ يقال لهم: يلزمكم من إثبات الصفات السبع على ما يليق بالله أن تقولوا كذلك في بقية الصفات الخبرية، من الرحمة، والغضب، والفرح، والضحك، والمجيء، والنزول.. الخ، إنها ثابتة لله تعالى كما جاء في كتابه الكريم على ما يليق بالله تعالي دون أن يلحظ فيها المشابهة بخلقه، لا في علمه ولا في رحمته، فإن الذي يلحظ في إثبات صفة الفرح أو الرحمة بخلقه، يلزمه أن يلحظ المماثلة بخلقه في إثبات السمع والبصر والحياة أيضا، وإلا كان تفريقا بلا دليل، فيجب أن يثبتوا كل الصفات السمعية على حد سواء، وأن ينزهوا بعد ذلك في كل صفة. وأما إجابتهم لمن نازعهم وألزمهم بالإلزام السابق بأن تلك الصفات السبع دل عليها العقل بخلاف ما عداها فهو قول غير صحيح وحجة غير مقبولة، وهو قول في مقابلة النصوص، وتقديم العقل على النقل ليس بتسليم للنصوص ورضى بها وإذعانا لله تعالى فيها. وإثبات الأشعرية لسبع صفات ونفي ما عداها بالتأويلات، جعلهم بين المعتزلة وأهل السنة " فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا " (¬1) ، وقال شيخ الإسلام عن طرق الأشعرية: " ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض، الذين يوجبون فيما نفوه ¬

(¬1) أنظر: التحفة المهدية شرح التدمرية ص 80.

إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ - قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح " (¬1) بل جوابهم إما أن يلجؤوا إلى التأويل الباطل، وإما أن يدعوا عدم العلم بمعانيها وتفويض ذلك، وكلاهما جواب باطل فإن التأويل الباطل مرفوض والتفويض في المعاني ليس من مذهب السلف. كما أنهم وقعوا في التناقض حينما ينفقون بعض الصفات على أساس أن إثباتها يستلزم مشابهة الله بخلقه، لأن المخلوق هو الذي يوصف بتلك الصفات، ولكنهم لا يجعلون هذه قاعدة عامة، إذ ينقضونها بإثبات السبع الصفات على ما يليق بالله، حتى وإن وجد مفهوم الاشتراك فيها بين الله وبين خلقه فإن هذا الاشتراك لا يوجب المماثلة. وقولهم: إن الاشتراك في تلك الصفات لا يوجب المماثلة كلام صحيح، لكنهم لا يجرونه في كل الصفات، فلزمهم التناقض والتفريق بين المتماثلات، من هنا ألزمهم المعتزلة أن ينفوا الصفات كلها، لأنها تدل على التشبيه فأجابهم الأشاعرة بأن إثبات تلك الصفات السبع إنما هو على وجه لا يستلزم المشابهة، فألزمهم أهل السنة أن يقولوا هذا القول في كل الصفات وهو ما يدل عليه العقل والشرع. وقد هدى الله السلف فآمنوا بكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فنفوا عنه كل ما نفاه وأثبتوا له كل ما أثبته، بلا تنطع ولا تأويلات باطلة، وقد علموا أن كل ما أخبر الله به فليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه فهو أعلم بنفسه، ¬

(¬1) الرسالة التدميرية ص 106.

وما جرى عليه السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم، من أن كل صفة وردت في القرآن لله تعالي فهي صفة كمال، وقولهم في كل صفة الجواب المأثور عن السلف: " هذه الصفة معلومة وكيفيتها مجهولة والسؤال عنها بدعة " توفيق ظاهر من الله تعالي لهم، فمن لم يرضى بما رضيه الله لنفسه فقد نازع الله تعالى وقال عليه بلا علم وسلك سبيل غير المؤمنين. * * * * * * * * * * * * * * * * **

الباب الخامس عشر الماتريدية

الباب الخامس عشر الماتريدية وفيه المطالب الآتية: 1 - التعريف بمؤسس الماتريدية: تنتسب هذه الطائفة إلى أحد علماء القرن الثالث الهجري وهو محمد بن محمد بن محمود المعروف بأي منصور الماتريدي، ولد في ما تريد وهى من بلدان سمرقند فيما وراء النهر، ولا يعرف على وجه اليقين سنة مولده، وقد توفى سنة 333 هـ على أرجح القوال (¬1) . تلقى علوم الفقه الحنفي والكلام على أحد كبار علماء ذلك العصر وهو نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة 368 هـ، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبي نصر العياض وأبي بكر أحمد الجوزجاني وأبي سليمان الجوزجاني، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير في علم الكلام. لقد كان لأبي منصور مناظرات ومجادلات عديدة مع المعتزلة في الأمور التي خالفهم فيها، وقد اتحد في الهدف مع الأشعري في محاربة المعتزلة وكان معاصرا له، وأما في العقائد فكان على اتفاق مع ما قرره أبو حنيفة في الجملة، مع مخالفته في أمور وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون، منها: بيان وهم المعتزلة تأويلات أهل السنة - الدرر في أصول الدين - الرد على تهذيب الكعبي في الجدل - عقيدة الماتريدية - كتاب التوحيد وإثبات الصفات - كتاب الجدل - مأخذ الشرائع في ¬

(¬1) أنظر الماتريدية للشمس الأفغاني جـ1 ص 214.

2 - أهم آراء الماتريدي إجمالا

أصول الفقه - المقالات. وكان يلقب فيما وراء النهر بإمام السنة وبإمام الهدى (¬1) ، وقد وقف في وجه المعتزلة الذين كانوا فيما وراء النهر إلا أنه كان قريبا منهم في النظر إلى العقل، ولم يغل فيه غلوهم، بل اعتبره مصدرا أخر إضافة إلى المصدر الأساسي وهو النقل، مع تقدم النقل على العقل عند الخلاف بينهما (¬2) إلا أنه يعتبر معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وإن الله يعاقبه على عدم هذه المعرفة. وقد أوجز الشيخ أحمد عصام الكاتب عقيدة الماتريدي، من خلال كتاب الماتريدي في التوحيد المسمى "كتاب التوحيد " الذي حققه الدكتور فتح الله خلف عن نسخة مخطوطة يتيمة في مكتبة جامعة كمبردج بإنجلترا، وقد عرضه الدكتور المذكور في مجلة تراث الإنسانية المجلد 9 العدد 2، كما أن تحققه لكتاب التوحيد نشر في بيروت سنة 1970م. ثم قال أحمد عصام عن كتاب التوحيد للماتريدي بتحقيق الدكتور فتح الله خلف: " وسنعتمد عليه في كلامنا على عقائد الماتريدية، لأنه أفضل مصدر لهذه العقائد وأصدقها وأقربها، ولا عبرة بما فعله المتأخرون منهم ومن خطط الحابل بالنابل ". وأنا بدوري سوف أختصر أيضا ما ذكره الشيخ أحمد عصام بقصد الاختصار والإشارة إلى عقيدة الماتريدي، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتاب التوحيد المذكور أو لمجلة تراث الإنسانية. 2 - أهم آراء الماتريدي إجمالاً: 1- لا يرى الماتريدي مسوغا للتقليد، بل ذمة وأورد الأدلة العقلية والشرعية ¬

(¬1) انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/197 بل هو إمام من أئمة الكلام والتأويل. (¬2) هذا من باب الإخبار عن مذهب الماتريدي، وإلا فإن العقل السليم لا يعارض النقل الصحيح.

على فساده وعلى وجوب النظر والاستدلال. 2- يذهب في نظرية المعرفة إلى لزوم النظر والاستدلال، وأنه لا سبيل إلى العلم إلا بالنظر، وهو قريب من آراء المعتزلة والفلاسفة في هذا، ثم يذكر أدلة كثيرة على وجود الله، مستخدما أدلة المعتزلة والفلاسفة في حدوث الأجسام وأنها دليل على وجود الله. 3- يوافق في الاعتقاد في أسماء الله السلف، ويرى أن أسماء الله توقيفية، فلا نطلق على الله أي اسم إلا ما جاء به السمع، إلا أنه يؤخذ على الماتريدية أنهم لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله وبين باب التسمية فأدخلوا في أسمائه ما ليس منها كالصانع والقديم والشيء، والسلف يخالفونهم في هذا وقد عطل الماتريدية كثير من أسماء الله تعالى وأولوها. 4- يرى أن المؤمنين يرون ربهم والكفار لا يرونه، ويخالف الأشعري هنا في أن الماتريدي يرى أن الأدلة على إمكان رؤية الله تعالى عقلا غير ممكنة، بينما يستدل عليها أبو الحسن الأشعري بالعقل، إلا أنهم خالفوا السلف فنفوا المقابلة والجهة مطلقا، وذلك بسبب نفيهم عن الله علو الذات كما أن إثباتهم للرؤية ونفى الجهة والمقابلة فيه تناقض فإن الله تعالى يرى في جهة العلو. 5- هو أقرب ما يكون إلى السلف في سائر الصفات، فهو يثبت الاستواء على العرش وبقية الصفات دون تأويل لها ولا تشبيه، أي في الصفات التي تثبت عند الماتريدية بالعقل لكنهم يؤولون ما عداها، كما أنهم يعتقدون أن صفات الله لا هي هو ولا غيره وهو تناقض منهم. 6- في القضاء والقدر هو وسط بين الجبر والاختيار، فالإنسان فاعل

مختار على الحقيقة لما يفعله ومكتسب له وهو خلق لله، حيث يخلق للإنسان عندما يريد الفعل قدرة يتم بها، ومن هنا يستحق الإنسان المدح أو الذم على هذا القصد، وهذه القدرة يقسمها إلى قسمين: قدرة ممكنة: وهى ما يسميها: لسلامة الآلات وصحة الأسباب. وقدرة ميسرة، زائدة على القدرة الممكنة: وهى التي يقدر الإنسان بها على الفعل المكلف به مع يسر، تفضلا من الله تعالى. يقول الماتريدي بخلق أفعال العباد، وهو يفرق بين تقدير المعاصي والشرور والقضاء بها وبين فعل المعاصي، فالأول من الله والثاني من العبد بقدرته واختياره وقصده. ويمنع أبو منصور من إضافة الشر إلى الله فلا يقال: رب في الأوراث والخبائث ولو أنه خالق كل شيء، وهذا الشق الأخير معروف عن السلف، أما تقسيمه القدرة وجعل العبد فاعلا باختياره وقصده وقدرته من وجه، ولو كان الله هو الفاعل من وجه آخر، فيه حيد عن مذهب السلف في ذلك، ونسبة الماتريدية الفعل إلى العبد يقصدون به أن الله لا يخلق فعل العبد إلا بعبد أن يريده العبد ويختاره فيصبح ذلك العمل كسبا له يجازي به حسب اختياره له وإرادته المستقلة له. فى مسائل الإيمان: لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بخروج مرتكب الكبيرة عن الإسلام. ويرى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، دون الإقرار باللسان، ومن هنا يفترق الماتريدي عن السلف. وعنده لا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأن الاستثناء يستعمل في موضع الشكوك والظنون. وهو كفر، وأهل السنة قالوا بجواز الاستثناء في الإيمان لأنه يقع على الأعمال لا على أصل الإيمان أو الشك في وجود الإيمان.

وبين الماتريدي والأشعري مسائل كثيرة اتفقوا فيها وأخرى اختلفوا فيها، فمما اختلفوا فيه (¬1) : مسألة القضاء والقدر: فقال الماتريدية: إن القدر هو تحديد الله أزلا كل شيء بحده الذي سيوجد به من نفع، وما يحيط به من زمان ومكان، والقضاء: الفعل عند التنفيذ. وقال الأشاعرة: إن القضاء هو الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر: تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها المخصوصة أي أن الأشاعرة يرون أن المحبة والرضى والإرادة بمعني واحد، بينما يرى الماتريدية أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة. واختلفوا في أصل الإيمان، فذهب الماتريدية إلى أنه يجب على الناس معرفة ربهم، ولو لم يبعث فيهم رسولا بينما ذهب الأشعرية إلى أن هذه المعرفة واجبة بالشرع لا بالفعل كما تعتقد الماتريدية. وذهب الأشاعرة إلى عدم وجوب الإيمان وعدم تحريم الكفر قبل بعثه الرسل. اختلفوا في صفة الكلام، فترى الماتريدية أن كلام الله لا يسمع وإنما يسمع ما هو عبارة عنه بينما يرى الأشاعرة جواز سماع كلام الله تعالى. كما اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصانه وشرطه.. الخ. واختلفوا في المتشابهات كما أسلفنا. ¬

(¬1) لم يكن بين الماتريدي والأشعري أى تقارب بل وحتى مجرد المعرفة، وقد أرجع بعض الباحثين تقارب المذهب الأشعري مع الماتريدي إلى أخذ الجميع عن ابن كلاب لأن الأشعري كان كلابياً قبل أن يدخل مذهب السلف.

كما اختلفوا في النبوة هل يشترط فيها الذكورة؟ فجعلها الماتريدية شرطا، ونفى ذلك الأشاعرة عنها، واحتج هذا الفريق بقوله تعالي: (وأوحينا إلى أم موسى} (¬1) ، ورد الفريق الأول بأن الإيحاء هنا بمعناه الواسع وهو الإلهام. وهذه المسألة الأخيرة وهى نبوة النساء وعدمها مما وقع فيه الخلاف بين العلماء إلا أن الحق أن النبوة مختصة بالرجال، وليس هنا موضع بحث هذه القضية بالتفضيل، وأرجو أن يتم الله ما قمت به من دراسة حول المتنبئين وبيان خطرهم في الفكر والمجتمع، حيث بينت فيما يتعلق بنبوة النساء وعدمها أقوال العلماء والراجح منها. اختلفوا في التكليف بما لا يطاق، فمنعه الماتريدية وجوزه الأشاعرة. اختلفوا في الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي فأثبتتها الماتريدية ونفتها الأشاعرة. اختلفوا في التحسين والتقبيح، فقال به الماتريدية وأن العقل يدركهما، ومنع الأشاعرة ذلك، قالوا: إنما يتم التحسين والتقبيح بالشرع لا بالعقل. اختلفوا في إيمان المقلد، فجوزته الماتريدية بينما منعه الأشاعرة واشترطوا أن يعرف المكلف كل مسألة بدليل قطعي عقلي (¬2) . اختلفوا في معنى كسب العباد لأفعالهم، بعد اتفاقهم جميعا على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فعند الماتريدية يجب التفريق بين المؤثر في ¬

(¬1) سورة القصص: 7 (¬2) أنظر: عقيدة التوحيد في فتح الباري شرح صحيح البخاري ص 98، 101، وانظر " الماتريدية دراسة وتقويما " ص 498 - 501.

أصل الفعل والمؤثر في صفة الفعل فا لمؤثر في صفة الفعل قدرة الله تعالى والمؤثر في صفة الفعل قدرة العبد وهو كسبه واختياره. وعند الأشاعرة: إن أفعال العبد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحدها وليس للعبد تأثير فيها، بل أن الله يوجد في العبد قدرة واختيارا يفعل بهما إذا لم يوجد مانع فالفعل مخلوق لله والعبد مكتسب له. وأما الاختلاف بين الماتريدية والمعتزلة فهو: اختلفوا في مصدر التلقي هل هو العقل أو النقل؟ فذهب المعتزل إلى أنه العقل، وتوسط الماتريدية فقالوا بالعقل فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات وأما فيما يتعلق باليوم الآخر فمصدره السمع، كذا سموا هذه المسائل ونحوها بالسمعيات. الأسماء: أسماء الله عند المعتزلة ثابتة، ولكن بلا دلالة على الصفات، فقالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر.. إلى آخره. وعند الماتريدية هي ثابتة بدلالاتها على الصفات الثابتة عندهم إلا اسم "الله" فليس له دلالة على شيء من الصفات. وقولهم باطل لا معنى له. الصفات: نفي المعتزلة جميع الصفات القائمة بذات الله تعالي. بينما أثبت الماتريدية ثمان صفات: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين. القرآن: يعتقد المعتزلة أنه كلام الله محدث مخلوق. ويعتقد الماتريدية أنه كلام الله النفسي وأنه قديم أزلي غير مخلوق. أفعال العباد. نفت المعتزلة خلق الله لها وإرادته لها، وإنما هي من

العباد، وأثبتت الماتريدية أنها خلق لله تعالى. وكسب من العباد لها. الاستطاعة: نفي المعتزلة أن تكون مع الفعل بل هي قبلة، بينما أثبتتها الماتريدية قبل الفعل ومع الفعل. الرؤية: نفتها المعتزلة وأثبتتها الماتريدية. الجنة والنار: غير مخلوقتين ولا موجودتين الآن عند المعتزلة، بل تنشأ في يوم القيامة، وقالت الماتريدية بخلقهما الآن. ينفي المعتزلة نعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والحوض والشفاعة لأهل الكبائر. وأثبتت الماتريدية كل ذلك لورود السمع به. نفت المعتزلة كرامات الأولياء وأثبتتها الماتريدية. الإيمان عند المعتزلة قول واعتقاد وعمل، وعند الماتريدية هو التصديق بالقلب، ومنهم من زاد الإقرار باللسان. مرتكب الكبيرة في منزله بين المنزلتين عند المعتزلة في الدنيا، وأما في الآخرة فهو في النار , وعند الماتريدية هو مؤمن كامل الإيمان مع أنه فاسق بمعاصية , وفي الآخر هو تحت المشيئة. لا يصح إيمان المقلد عند المعتزلة، وذهب الماتريدية إلى صحته مع الإثم على ترك الاستدلال. عند المعتزلة الإيمان يزيد وينقص، لإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وأما المسائل التي وافقت فيها الماتريدية المعتزلة فهى كما يلي: القول بوجوب معرفة الله تعالى بالعقل.

الاستدلال على وجود الله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام. الاستدلال على وحدانية الله تعالى بدليل التمانع. القول بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد. نفي الصفات الخبرية والاختيارية. القول بعدم إمكان سماع كلام الله. القول بالحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي. القول بالتحسين والتقبيح العقليين. عدم جواز التكليف بما لا يطاق. منع الاستثناء في الإيمان. القول بأن معنى الإيمان والإسلام واحد (¬1) وفيما سبق يتضح أن فرقة الماتريدية لم تنهج منهج السلف فيما يتعلق بالأمور الاعتقادية، وأن من وصفهم بأهل السنة أو العقدية السلفية فقد بالغ في ذلك وجانب الحكم الصحيح. ولكى تتضح المقارنة بين عقيدة الماتريدية وبين العقيدة السلفية أحب أن تطلع أخي القارئ على هذا الملخص المفيد الذي تتضح به الفوارق بين عقيدة الماتريدية وبين عقيدة السلف بإيجاز، أكتفى به عن إطالة الردود لإيفائه بالغرض لموافقته القصد من تقديم هذه العجالة عن الماتريدية. ¬

(¬1) أنظر: " الماتريدية دراسة وتقويما " ص 503 - 508، ولمزيد من التفصيل عن الماتريدية أنظر كتاب " عداء الماتريدية للعقيدة السلفية " تأليف الشمس الأفغاني.

وقبل إيراد هذا الملخص إليك بيان الأسس والقواعد التي قام عليها مذهب الماتريدية: مصدرهم في التلقي في الإلهيات والنبوات هو العقل. معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع. القول بالتحسين والتقبيح العقليين. القول بالمجاز في اللغة والقرآن والحديث. التأويل والتفويض. القول بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد. وأما بالنسبة لآرائهم التي خالفوا فيها السلف فمن أهمها ما يلي: خلاف الماتريدية في مفهوم توحيد الألوهية، إذ هو عندهم بمعنى أن الله واحد في ذاته لا قسم له ولا جزء له، واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وأهل السنة يخالفونهم في هذا المفهوم لتوحيد الألوهية. اعتمدت الماتريدية في إثبات وجود الله تعالي على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وهى طريقة باطلة لا اعتبار لها عند السلف، وإنما هي طريقة غلاة الفلاسفة وأهل الكلام المذموم. يستدل الماتريدية على وحدانية الله تعالى بقوله عز وجل: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} (¬1) وهو ما يسميه البعض بدليل التمانع، وقد خطأهم السلف في هذا المفهوم، مع إقرار ¬

(¬1) سورة الأنبياء: 22.

السلف بأن دليل التمانع صحيح في دلالته على امتناع صدور العالم عن إلهين، لكن ليس هذا هو المقصود من الآية الكريمة. تثبت الماتريدية جميع الأسماء الحسنى لدلالة السمع عليها، إلا أنهم غلوا في الإثبات ومدلول السماء لعدم تفريقهم بين ما جاء في باب التسمية وبين ما جاء في باب الإخبار عن الله، فمدلول الاسم عندهم هو الذات وهذا خاص في اسم "الله" فقط، وأما ما عداه فمدلوله يؤخذ عندهم من الصفات التي أثبتوها فلم يقفوا على ما ثبت بالسمع فقط. وقف الماتريديون في باب الصفات على إثبات بعض الصفات دون غيرها، فأثبتوا من الصفات: القدرة، العلم، الحياة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين، وذلك لدلالة العقل عليها عندهم، وهم تحكم باطل، وقد ألزمهم السلف بإثبات ما نفوه بنفس الدليل الذي أثبتوا به تلك الصفات الثمانية. نفت الماتريدية جميع الصفات الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة، لأن في إثباتها - بزعمهم - مخالفة للعقل الذي يرى في إثباتها ما يدعو إلى وصف الله تعالي بالتشبيه والتجسيم. ولقد دحض السلف هذا المفهوم الباطل والاعتقاد الخاطئ، وكذلك نفوا ثبوت الصفات الاختيارية لله تعالى التي هي صفات الفعل اللازمة لله تعالي، لأنها كذلك تؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وقد أبطل السلف هذا المفهوم وفندوا شبههم. يعتقد الماتريديون أن كلام الله تعالي معنى واحد قديم أزلي، ليس له تعلق بمشيئة الله تعالي وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، بل هو كلام

نفسي لا يسمع، بل المسموع منه إنما هو عبارة عنه، وهو اعتقاد باطل مخالف للكتاب والسنة ولما عليه السلف. حصر الماتريديون الدليل على صدق الأنبياء في ظهور المعجزات على أيديهم، لأنها تفيد العلم اليقيني وحدها بزعمهم. والسلف لا يختلفون في أن المعجزات دليل صحيح معتبر لصدق الأنبياء، ولكنهم يخالفونهم في حصر أدلة صدق الأنبياء في المعجزات فقط دون النظر إلى الأدلة الأخرى. يرى الماتريديون أن كل المسائل المتعلقة باليوم الآخر لا تعلم إلا بالسمع، والسلف يخالفونهم في هذا، ويقولون: إن تلك المسائل علمت بالسمع ودل عليها العقل أيضا. أثبت الماتريديون رؤية الله تعالي، ولكنهم نفوا الجهة والمقابلة، وخالفهم السلف واعتبروا قول الماتريدية تناقضاً واضطراباً في مفهومهم للرؤية، ويؤدي إلى إثبات ما لا يمكن رؤيته، وإلى نفي جهة العلو المطلق الثابت لله تعالي. اعتبر السلف ما ذهب إليه الماتريديون في خلق أفعال العباد اعتقادا خاطئا لما فيه من إثبات إرادة للعباد مستقلة - عن مشيئة الله تعالى، وأن خلق الله لأفعالهم إنما هو تبع لإرادتهم غير المخلوقة، والسلف يعتقدون أن لله تعالى وحده المشيئة وأن للعباد مشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى. ذهبت الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وقال بعضهم: إنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان ومنعوا زيادته ونقصانه

وحرموا الاستثناء فيه ومنعوا التفريق بين مفهوم الإيمان والإسلام. وخالفهم السلف في كل ذلك فإن الإيمان عندهم هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان وأنه يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه لعدم جواز تزكية النفس. وأما الإسلام والإيمان فإنهما متلازمان، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما هو الحال في مفهوم الفقير والمسكين ونحو ذلك. 13- يرى الماتريديون أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، بينما يرى السلف أنه مؤمن بإيمان فاسق بكبيرته، فلا يسلبون منه الإيمان ولا يثبتون له الكمال فيه. (¬1) * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) لقد اهتمت كتب العقيدة ببيان تفاصيل كل تلك المسائل، وهى مسائل طويلة تحتاج إلى دراسة مطولة وما أثبته هنا يكفي إذ الغرض هو الإشارة والإيجاز. أنظر: " الماتريدية دراسة وتقويما" ص 514 - 517 وتفصيل ذلك في هذا الكتاب الذي تخصص في دراسة الماتريدية بالإضافة إلى المراجع التي ذكرناها سابقا.

الباب السادس عشر دراسة أهم المسائل التي اتفق عليها أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية وتشمل ما يأتي

الباب السادس عشر دراسة أهم المسائل التي اتفق عليها أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية 1 - تقديم العقل على النقل: من المساوئ التي ابتلى بها بعض المنتسبين إلى الإسلام تقديس العقل واعتماده مصدراً أعلى من كلام خالق العقل. وقد لبس عليهم إبليس فرأوا أنهم على صواب، وقويت في نفوسهم شبه الملاحدة أعداء الدين، فارتكبوا هذا الجرم الشنيع، ورأوا أنه إذا تعارض النقل والعقل في شيء فإن العقل هو المقدم، وذلك عند الجمهية والمعتزلة وجمهور الأشعارة المتأخرين، ظانين أنه يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنص الصحيح - حسب زعمهم - ولهم حجج في تقديم العقل على النقل وهى شبه لا تسلم لهم، ومنها: أن العقل هو الأصل والأساس للنقل وإلا لم يرد النقل. أن الدلالة العقلية قطعية بينما الدلالة النقلية ظنية. أن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل وهى أصل وما عداها فرع، وهذا الأصل إنما قام على العقل، فلو قدمنا النقل لكان من باب تقديم الفرع على الأصل فالعقل هو الأساس، فلو حكم باستحالة الشيء وحكم السمع

بخلافه فيجب تأويل السمع، ليتوافق مع العقل، فإن هو الذي شهد بصدق الشرع ولم يعرف الشرع إلا بالعقل، فمن كذب العقل فقد كذب الشرع والعقل معاً سواء كان في الصفات أو في غيرها من الأخبار، وما ورد من آيات الصفات في القرآن الكريم ينبغي عرضها على العقل، فإذا عارضها وجب تأويلها لتوافق العقل أو تفويض عملها إلى الله. إن صدق الأنبياء في إخبارهم عن الله لا يتوقف على النقل بل يتوقف على العقل، لأن النقل لا يقبل إلا أن يكون عن الأنبياء فلو توقف صدق الأنبياء على النقل للزم الدور. ما ثبت بالتواتر وخالفه العقل إما أن يؤول أو يفوض، وما ثبت بأخبار الآحاد فإنه لا يقبل بأي حال في العقائد الرد عليهم: مهما حاول دعاة تقديم العقل على النقل من سرد المبررات لقبول ذلك، فإن تلك المحاولات والاحتجاجات والجداول والخصومة، غير مقبولة عند من وفقه الله لمعرفة دينة، وابتعد عن الوساوس التي جاء بها علم الكلام، وهذه المسألة على بساطة الرد عليها قد أخذت حيزاً واسعاً من الجدال والخصومة بين المثبتين والنافين، إلا أنه يمكن إيجاز الرد عليهم فيما يلى: هل يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح؟ الجواب: لا يوجد تعارض بين العقل والنقل، فإن النقل وهى النصوص الشرعية إذا صحت من كتاب الله عز وجل أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن

يعارضها العقل السليم الخالي عن الشهوات والبدع، فإنه لا يمكن أن يحصل التعارض بين دليل عقلي قطعي وآخر نقلى قطعي، أما إذا كان الدليلان ظنيين فإنه يقدم الراجح منهما سواء كان عقلياً أو نقلياً، إن كان أحدهما ظنياً والآخر قطعياً، فإنه يقدم الدليل القطعي بغض النظر عن كونه نقلياً أو عقلياً، إذا القطعي هو الذي يمكن الاعتماد علية حتى وإن كان عقلياً، فالمزية إنما هي لكونه قطعياً لا لأجل لأنه عقلي. وأما ما ذهبوا إليه من إسقاطهم أخبار الآحاد في العقد، فهو من المساوئ التي وقع فيها هؤلاء، كما زعموا أن المتواتر حتى وإن كان قطعي السند فهو غير قطعي الدلالة، وذلك لأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين حسب مفهومهم (1) . وأخبار الآحاد - حسب زعمهم - لا تفيد العلم وهو من جملة أقوالهم البدعية العارية عن الأدلة الشرعية، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال علماء الأمة الذين يعتبر كلامهم في هذه القضية، ذلك أن الحق هو قبول خبر الآحاد في باب الاعتقاد وفى غيره مادام ثابتاً (2) . قال تعالى:) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (3) . ولولا أن خبر الواحد مقبول، لما توجه الأمر بالتثبت فيما يخبر به مما يحتاج إلى تثبيت خصوصاً إذا جاء من فاسق، ومعناه أنه إذا كان غير فاسق فإن خبره يقبل. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بخبر الواحد ويأمر بالاكتفاء به، حيث كان

يرسل الشخص الواحد إلى مجموعة من الناس ويأمره بتبليغ ما يأمره به، ويطلب إلى الناس قبول ما يأمرهم به والانتهاء عما ينهاهم عنه. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن وأمره بتعليمهم الدين وسائر شعائر الإسلام، وكان يرسل من أصحابه الواحد والاثنين أو الثلاثة أو أكثر - حسب ما يتيسر له - بغض النظر عن قضية خبر الآحاد التي ابتدعها أهل الكلام، وقد حصل ذلك منه في وقائع كثيرة، وعلى قبول خبر الآحاد جميع الأمة خلفاً وأعرض عن النصوص الشرعية من الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج ومن سار عليهم طريقتهم. وكان السلف من الصحابة فمن بعدهم، لا يشترطون لقبول رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به، سوى عدالة الراوي وثقته وتقواه، وكانوا إذا روى الثقة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقوه بالقبول والعمل، ولم يخطر في أذهانهم أنه خبر آحاد، وأن أخبار الآحاد غير مقبولة كما هي حجة من أراد رد النصوص وتعطيلها والتشويش على عقول عامة المسلمين. وهنا أمر جدير بالذكر، وهو أن السلف حينما يقدمون النقل على العقل، ليس مقصودهم احتقار العقل وأنه لا يستفاد به المعرفة، بل يقدرون دور العقل في المعرفة والاهتداء به إلى الحق، ولكنهم لا يوصلونه إلى درجة التقديس التام وتقديمه على كلام الله عز وجل وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم. فكل ما في القرآن الكريم وكل ما صح في السنة النبوية، لا يستجيز مسلم يؤمن بالله رباً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، أن يعارضه بعقلة أو باجتهادات العلماء، وهو يعلم ثبوت النص، اللهم إلا أن يكون من باب

الاجتهاد وتنوع المفاهيم في معاني النصوص وتوجيهها، فإن الشخص حينئذ إن اجتهد فأصاب له أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر اجتهاده ونيته. أما إذا قدم عقله فلاسفة اليونان، فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله، وحسن رد ما جاءت به الأنبياء واستبدال مفاهيم الفلاسفة السقيمة بها، التي يسميها بالأدلة والبراهين اليقينية، تهويلاً لأمرها ورفعاً لشأنها، ليتم له ما يريد من رد النصوص الشعرية وتأويلها - فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله. إن الهداية لم تأتنا إلا عن طريق الوحي وعلى أيدي رسل الله الكرام، فبأي مسوغ نترك طريق الهداية ونرجع إلى تقديم العقل، فلو كان العقل يكفى للوصول إلى الحق مجرداً عن النقل، لما عاش هؤلاء المعرضون عن الله في متاهات الكفر والضلال، ولما احتجنا إلى الأنبياء، فمن الإجرام أن نترك طريق الهداية واضحاً مشرقاً، ثم نتعلل بتقديس العقل في مقابل نصوص الكتاب والسنة، فالعقل حد إذا تجاوزه صاحبه انقلب إلى الجهل والخزعبلات. فمثلاً المشبهة حينما أبوة الوقف عند حدود الشرع، بحثوا وتعمقوا في الصفات إلى أن وصلوا دإلى تشبيه الله بخلقة تماماً، ووصفوه إنساناً واقفاً أمامهم، وظنوا أن عقولهم أوصلتهم إلى علم غزير، فهل ذلك صحيح؟ كلا. وقابل هؤلاء نفاة الصفات فقد أوصلتهم عقولهم حينما تجاوزت الوقوف عند النصوص الشرعية إلى حد أن وصفوا ربهم بصفات، نتيجتها أن الله لا وجود له حتى وإن لم يصرحوا بنفي وجود الله لكن تلك الأوصاف السلبية لا نتيجة لها إلا هذه النتيجة، وظنوا أنهم اهتدوا بعقولهم إلى الوصول إلى

الحق وزين لهم الشيطان ذلك. فقارن بين مواقف هؤلاء ومواقف أهل الحق أهل السنة والجماعة، الذين يسيرون وراء النصوص مستعملين عقولهم إلى الحد الذي تنتهي عنده، وبالتالي فالقائد هو النص إلى أن يصلوا إلى غاية ما يريدون أو يطلب منهم. فأمنوا العثار واهتدوا إلى سواء السبيل، ورضوا بما جاء به كتاب ربهم وسنة نبيهم، وما كان علية سلفهم الكرام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعلموا أن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصحيح، فأراحوا أنفسهم عناء التأويلات والتكلفات التي ابتلى بها غيرهم، حين بحثوا كثيراً وأتبعوا أنفسهم طويلاً وخرجوا عن الحق الذي طلبوه بتلك التأويلات والتكلفات وهم لا يشعرون. لأن السلف يعلمون أن النقل حينما جاء مخاطباً للعقل ومبيناً له الطريق الصحيح يعلمون أن بينهما توافقاً تاماً، فالخطاب إنما جاء لأهل العقول لا للمجانين ولا للحيوانات البهيمية، فكيف يتصور بعد ذلك أن العقل أعلى من النقل بحجة أن العقل هو الأصل وإلا لم يرد النص، فالنقل هو الموجه لمحل قابل للتوجيه وهو العقل، ولم تأت العقول لتوجه النقول في أي زمن من عمر البشر. وزعمهم أن الدلالة النقلية ظنية بينما الدلالة العقلية قطعية (1) ، هذا كلام اخترعوه وأرادوا أن يؤصلوه، وإلا فإن السلف من الصحابة فمن بعدهم لا يعرفون هذه المسالك، بل كانوا يعتبرونها من وساوس الشيطان ومن نقص الإيمان وزعمهم هذا هو مثل زعمهم أن صدق الأنبياء إنما يتوقف على العقل، ولو كان هذا صحيحاً لآمن قوم نوح وسائر أمم الأنبياء، إذا إن لهم عقولاً، ولما احتاجوا إلى سماع النقل منهم عن الله تعالى

2- التأويل في مفاهيم الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة

والواقع خلاف ذلك فإن كلام الأنبياء وإخبارهم عن الله تعالى هو في حد ذاته الطريق إلى الإيمان بالأنبياء، فكل رسول كان يأتي لقومه ويقول لهم: {إني رسول الله إليكم} (2) ، ثم يخبرهم عن الله تعالى ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً، دون التركيز على الأدلة العقلية، فهي تأتى عرضاً ويستفاد منها كثيراً، لكن ليست هي الدليل الوحيد على صدق الأنبياء، فدلائل صدقهم كثيرة جداً. 2- التأويل في مفاهيم الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة: لقد جرت التأويلات الفاسدة فتناً عظيمة على الإسلام والمسلمين، وأخرجت الكثير منهم عن عقيدتهم السليمة إلى عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، ولقد عبر عن بعض مضار التأويلات الفاسدة العلامة ابن أبى العز، في معرض رده على الذين يؤولون رؤية الله تعالى في قوله عز وجل:) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة} (¬1) فقال: ((وهى من أظهر الأدلة، وأما من أبى تحريفها بما يسميه تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص. وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل ¬

(¬1) سورة القيامة: 22 - 23.

قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟، وكذا ما جرى في يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة. وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد)) (2) لقد كثر الجدال والخصام بين أهل السنة من جانب، وبين المخالفين لهم ممن تأثر بعلم الكلام والفلسفات من جانب آخر في قضية التأويل. فما هو التأويل، وما المراد به عند هؤلاء الفرق من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة وغيرهم ممن اقتحم التأويلات الفاسدة حقيقة التأويل في أساس إطلاقه يشمل أمرين: الأمر الأول: تطلق كلمة التأويل ويراد بها ما تؤول إليه حقيقة ذلك الشيء ومصيره وعاقبته. الأمر الثاني: تطلق هذه الكلمة ويراد بها معرفة ذلك الشيء ومفهم تفسيره وبيانه، سواء وافق ظاهره الصواب أو خالفه، وكثير من المفسرين يستعمل كلمة التأويل بمعنى التفسير فيقول: تأويل هذه الآية كذا أي تفسيرها، فإن وافق الحق فهو مقبول وصحيح، وإن خالفه فهو باطل. وقد ورد ذكر كلمة التأويل في القرآن الكريم في عدة آيات، قال تعالى: (ذلك خير وأحسن تأويلا} (3) أي عاقبة التحاكم إلى الله ورسوله عند التنازع هو أحسن مآلاً وعاقبة، ومنه قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله} (4) ، أي

عاقبة تأويله، وجميع ما ورد في القرآن الكريم من معاني التأويل فهي تطلق بهذا المعنى. وورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى (5) حيث روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية:) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم من تحت أرجلكم} (6) ، فقال: ((أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد)) ، أي لم يأت وقت ظهور حقيقة العذاب ومصير المخاطبين وما تؤول إليه عاقبتهم. وورد في السنة النبوية أيضاً استعمال التأويل بمعنى التفسير والمعرفة كما في دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقولة: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (7) ، أي فهمه معرفة الدين. وهذه المعاني للتأويل هي التي كانت معروفة عند السلف قبل ظهور أهل الكلام والفلسفات العقيمة، وقبل ظهور الخصام والجدال في معاني التأويل. قال ابن القيم: ((وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره، وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه، ولهذا يقولون: التأويل على خلاف الأصل والتأويل. وهذا التأويل هو الذي صنف

في تسويغه وإبطاله من الجانبين، فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها، كأبي بكر بن فورك وابن مهدى الطبري وغيرهما، وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال ذلك التأويل، كالقاضي أبى يعلى والشيخ موفق الدين بن قدامة، وهو الذي حكى عن غير واحد، إجماع السلف على عدم القول به)) (1) وقد بين ابن القيم رحمه الله انقسام التأويل إلى صحيح وباطل وأنه ينحصر في هذين القسمين فقال: ((وعلى هذا يبنى الكلام في الفصل الثاني، وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل. وذكر أن كل ما ورد من الروايات عن الصحابة وفيها ذكر التأويل، أن المراد به حقيقة المعنى وما يئول إليه في الخارج أو المراد به التفسير، وذكر أمثلة كثيرة على هذا، وأن تأويلهم من جنس التأويل الذي يوافق الكتاب والسنة أو أن لهم وجهة نظر قوية لا تخرج عن الحق (1) وأما التأويل الباطل فقد ذكر له عدة أنواع منها: أحدها: ما لم يحتمله اللفظ بوضعه، كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى يضع رب العزة عليها رجله)) (2) بأن الرجل جماعة من الناس، فإن هذا لا يعرف في شيء من لغة العرب ألبته. الثاني: ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله

مفرداً كتأويل قول {لما خلقت بيدي} (3) بالقدرة. الثالث: ما لم يحتمله سياقه وتركيبة وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله:) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} (4) بأن إتيان بعض آياته التي هي أمره، وهذا يأباه السياق كل الإباء. الرابع: ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث، وذكر أن هذا النوع لم يؤلف استعماله في لغة العرب وإن كان معهوداًَ في اصطلاح المتأخرين، ومثل لهذا بتأويل الجهمية والفلاسفة والمعتزلة لقول الله تعالى:) ثم استوى على العرش} (5) بأن المعنى أقبل على خلق العرش، فإن هذا لا يعرف في لغة العرب، بل ولا غيرها من الأمم، أن من أقبل على الشيء يقال: قد استوى عليه، فلا يقال لمن أقبل على الرجل: قد استوى عليه ولا لمن أقبل على الأكل: قد استوى على الطعام. الخامس: ما ألف استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص، فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله، وهذا من أقبح الغلط والتلبيس، ومثل لهذا بتأويل اليد بالنعمة، والنظر إلى الله بانتظار الثواب. السادس: كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل، كتأويل

قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) (1) ، بحمله على الأمة، فإن هذا التأويل مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ يرجع على أصل النص بالإبطال وهو قولة: ((فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)) ومهر الأمة إنما هو للسيد، فقالوا: نحمله على المكاتبة، وهذا يرجع على أصل النص بالإبطال من وجه آخر، فإنه أتى بأي الشرطية التي هي من أدوات العموم، وأكدها بما المقتضية تأكيد العموم، وأتى بالنكرة في سياق الشرط وهى تقتضي العموم، وعلق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضى لوجود الحكم بوجوده وهو نكاحها نفسها، ونبه على العلة المقتضية للبطلان وهي افتياتها على وليها، وأكد الحكم بالبطلان مرة بعد مرة ثلاث مرات، فحمله على صورة لا تقع في العالم إلا نادراً يرجع على مقصود النص بالإبطال (2) إلى آخر الأوجه التي ذكرها للتأويل الباطل. وكان السلف يدركون الفرق بين التأويل بمعنى التفسير وفهم المراد من الكلام الذي هو باستطاعة الإنسان الوصول إليه - وهذا هو التأويل المقبول عند السلف - وبين التأويل بمعنى معرفة ما يؤول إليه المراد من الكلام سواء كان في الدنيا أو في الآخرة من الأمور الغيبية، الذي ليس باستطاعة الشخص معرفته إلا بعد ظهوره ووضوح حقيقته. وأمثلة هذا النوع كثيرة يمثلها الإخبار بالمغيبات التي ستحدث في الدنيا أو في الآخرة، ويمثلها كذلك معرفة صفات الله عز وجل حقيقتها وكيفياتها.

وأهل السنة لا يتعدون هذه المفاهيم الواضحة المشرقة البعيدة عن التكليفات والتأويلات الباطلة. ولو وقف الخلف عند المكان الذي وقف فيه السلف لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ولكنهم تجاوزوا النصوص وقدموا عليها عقولهم ومفاهيمهم القاصرة وتأويلاتهم الباطلة، فجاءت خليطاً مشوهاً. والتأويل في عرف هؤلاء المتأخرين يراد به: ((صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهرة تأويلاً على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله ولا يعلمه المتأولون)) (3) . فالمتأخرون يريدون بالتأويل عدم إجراء النص على ظاهره والإتيان له بمعنى يحتمله، ليتوافق مع تأويلهم الذي حرفوه عن معناه الصحيح، وهذا هو التأويل الباطل. وقد رفض السلف تأويل الخلف بالمعنى الذي قرره هؤلاء، لأنه تحريف للنصوص وإبعاد للمراد منها، خصوصاً وأن تلك النصوص ظاهرة الدلالة لا خفاء فيها ولا احتمال، فإن كل ما جاء في القرآن والسنة من الوضوح وتحديد المراد ما لا يحتمل التلاعب به ولا بمعاينة، لأنه نزل على قوم أدركوا المراد به وآمنوا به وأطمأنت قلوبهم، ولم يحتاجوا إلى التأويلات التي اخترعها زعماء التعطيل. فإنه على حسب مفهومهم ما من نص إلا وهو يحتمل التأويل، وبالتالي

فلا تتم الثقة بأي نص على ظاهره، فإذا ورد النص بقول:) وجاء ربك} (1) قالوا: جاء أمره، وإذا ورد النص) إن الله سميع بصير} (2) ، قالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر بل بذاته ورحمة الله إرادة الثواب، واليد النعمة.. إلى غير ذلك من تلك التأويلات التي ملئوا بها كتبهم، استناداً إلى أن العقل هو الفاصل والمقدم على النقل، فلا حرج بعد ذلك أن تؤول نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الذين يقتدي بهم على حسب ما تراه العقول، فصار هؤلاء المؤولة أشر من المعطلة، قال ابن القيم رحمة الله: ((فصل في بيان أن التأويل شر من التعطيل)) . وتحت هذا العنوان قال عن التأويل: ((فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفى حقائق الأسماء والصفات، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرة الضلال والإضلال)) (3) . وقال ابن أبى العز: ((فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه صرف اللفظ عن ظاهرة، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا فسموا التحريف تأويلاً، تزييناً له وزخرفة ليقبل)) إلى أن قال: ((فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدله الرؤية وأدلة العلو، وأنه لم يكلم

موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً)) (4) . وما زعمه المؤولة من أن نصوص الصفات في القرآن والسنة لا تعرف إلا بالتأويل زعم مردود، إذا أريد أن معاني تلك الصفات معروفة، أما إذا أريد بأنها لا تعرف بمعنى أننا لا نعرف كيفيتها فهذا حق، ولكنهم لا يريدونه. وعموما ً فكل تأويل يوافق دلالة الكتاب والسنة فهو مقبول وصحيح، وكل تأويل يخالفهما فهو تأويل فاسد فاتح لباب الزندقة، مهيئ للتفلت من قبول الشرع، ومسبب للحيرة والاضطراب، ويمثل علماء السلف للتأويل الصحيح بمسألة شفعة الجار في حديث ((الجار أحق بسقبه)) (5) ، أي من حق الجار أن يشفع حق جاره ويكون أحق بشرائه من غيره، ولفظ الجار يشمل الجار الملاصق ويشمل أيضاً الشريك المقاسم على احتمال مرجوح. لكن هذا الاحتمال المرجوح هو الصحيح المقبول، وذلك لموافقة السنة النبوية في الحديث الثابت وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) (6) فثبت من الحديث أن المعنى المرجوع هو المراد، لنسخة ظاهر المعنى الراجح وهو الجار عموماً، وهذا ليس من التأويل المذموم في شيء بل هو من باب الجمع والترجيح. ومما ينبغى ملاحظته أن التأويل المذموم وإنما وجد حين ظهرت الفرق من خوارج ومعتزلة وشيعة وجهمية وباطنية وصوفية، حيث أراد هؤلاء أن يوجدوا لأفكارهم غطاء مقبولاً، فلم يجدوا أفضل من التستر بالتأويل،

3 - جهل أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية بمعنى توحيد الألوهية

وإظهار أنه علم غزير توصلوا إليه، وهو في حقيقته نقلة إلى القول بأن للنصوص ظاهراً وباطناً وأن الظاهر غير مراد وأن الباطن هو المراد وهو بمنزلة اللب وتشويش مفاهيمهم بما أدخلوه من تلك المصطلحات الجوفاء، التي نرجو من الله عز وجل أن يبطلها ويعيد ذلك الصفاء الذي كان عليه سلف هذه الأمة الإسلامية فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وإذا رجع القارئ إلى ما كتبة الإمام ابن القيم في موضوع التأويل في كتابه الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، فسيجد فيه من أنواع الجدال لأصحاب التأويلات الفاسدة ومن الفوائد ما لا يتسع البحث هنا لذكره. فليرجع من أحب التوسع في دراسة قضية التأويل إلى هذا الكتاب والمكون من جزئين بعد تحقيقه (1) فلقد أزاح كل الشبهات التي يتعلق بها دعاة التأويل، وبين المضار التي جلبها على الإسلام والمسلمين، مع سعة المناقشة وعمقها وإفحام الخصوم ودخص كل ما يتعلقون به. 3 - جهل أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية بمعنى توحيد الألوهية: التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. هذا هو تقسيم - أهل السنة والجماعة - لأنواع التوحيد، وهذه الأنواع

كانت معروفة بالبداهة عند السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان حتى ولو لم يفصلوا هذا التفصيل في وقتهم. فإنهم كانوا يعلمون أن توحيد الألوهية يتعلق بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخضوع والإنابة وحده جل وعلا، والابتعاد عن الاشتراك مع الله آلهة أخرى. وأما توحيد الربوبية فهم يعلمون أن الله هو رب كل شيء وملكية، وهو خالق الخلق ورازقهم ومدبر أمورهم كلها، وان هذا النوع من التوحيد داخل في مضمون توحيد الألوهية إلا عند الخلف من المتكلمين الذين عكسوا الحقائق. وأما توحيد الأسماء والصفات فلقد كانوا على معرفة بأن الله عز وجل من الصفات ما أخبر به عز وجل في كتابه الكريم وما أخبر به نبيه العظيم، يؤمنون أن الله تعالى له ذات لا تشبه الذوات وله صفات الخلق إلا مجرد الاشتراك في التسمية. ودراسة هذه الأقسام وتفصيلها تفصيلاً كاملاً يحتاج إلى مجلدات، بل هو الحاصل بالفعل، فإن كتب علماء السنة تبلغ المئات في بيان هذه الأنواع والواجب على الناس تجاهها، وكيفية الإيمان بها، وغير ذلك مما لا يكاد يحصر إلا بالكلفة وليس الغرض هنا هو الخوض في ذكر كل تلك التفاصيل، وإنما الغرض هو بيان خطأ أهل الكلام في مفاهيمهم لتوحيد الألوهية الذي كان أكثر النزاع بين الأنبياء وأممهم فيه، بل وبين علماء السنة وغيرهم من علماء الطوائف الضالة.

فمن حقق توحيد الألوهية قولاً واعتقاداً فاز، ومن حاد عن الحق الواجب فيه كان ذلك أكبر دليل على خسارته وضلاله. والمتكلمون حينما يقررون الكلام في التوحيد يقسمونه إلى ثلاثة أقسام، فيقولون: ((هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له)) ، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الفعال وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع)) (2) . هكذا يقرر المتكلمون أنواع التوحيد، فيجعلون توحيد الربوبية - الذي لم يوجد فيه نزاع بين الأنبياء وأممهم - هو أهم أقسام التوحيد وأوجبها معرفة، مع أن الله تعالى أخبر في كتابة الكريم أن كفار قريش وغيرهم عند بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كانوا يعرفون توحيد الربوبية ويعتقدون أن الله هو الخالق لكل شيء، فإذا وجه لأحدهم سؤال: من خلق السموات والأرض؟ فإنه على الفور يجيب: الله هو الذي خلقهما. وكانوا يعرفون أن معنى لا إله إلا الله نفى ألوهية أي كائن كان، لا أصنامهم ولا غيرها مع الله تعالى، ولهذا وقفوا في وجوه رسلهم شعارهم: {أجعل الآلهة إلها واحداً} (1) ، فكانوا في فهمهم وهم على شركهم أحسن من فهم علماء الكلام - وهم يدعون الإسلام - حينما قرروا أن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع والخلق والإيجاد إلا الله، وهو معنى باطل يرده كتاب الله

وما جاء في سنة رسول الله عليه عامة أهل الحق، فإن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله وحده. وهذه هي دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى: ) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} (2) وقال تعالى حاكياً عن دعوة الرسل لأممهم: ) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (3) . فالإله هو الذي يستحق العبادة والخضوع له وهذا هو التفسير الحق، وأما تفسير الإله بأنه القادر على الخلق فهو باطل، وأول ما يدل على بطلانه: أنه لو حقق شخص مفهوم هذا التوحيد، فأقر بأن الله هوالخالق الرازق المدبر لكي يشهد الشهادتين، معترفاً بأن الله هو الإله المستحق للعبادة لا يشرك به أحداً. والبشر كلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق، حتى الذين عاندوا وجحدوا الربوبية يعترفون في قرارة أنفسهم بانفراد الرب بخلق كل شيء، وما تقوله نفاة الصفاة، من أن الله واحد لا قسيم له، يريدون من وراء هذه العبارة إثبات ذات مجردة عن كل الصفات، التي يسمونها انقساماً للبارئ وتركيباً في ذاته، وبالتالي يلزم من ذلك - حسب أكاذيبهم - تعدد الآلهة، فتكون العين والسمع واليد وغير ذلك من الصفات آلهة معه وحينما تصوروا وقوع هذا المفهوم وشبهوا الله تعالى، ثم عطلوه عن صفاته بتلك الحجة الباطلة.

وحينما جعلوا توحيد الألوهية نفس توحيد الربوبية استدلوا على ذلك بدليل التمانع فقالوا في تقريره: لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر يريد سكونه، أو كان أحدهما يريد أن يكون ذلك الجسم حياً والآخر يريد أن يكون ميتاً، أو غير ذلك من الأمور المتضادة، فإنه حينئذ إما أن تتحقق إرادتهما معاً، وهو مستحيل، إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين لأمر واحد. أو يتحقق إرادة واحد منهما ويمتنع تحقيق إرادة الآخر، فيكون هذا الآخر عاجزاً ليس بإله. أو لا يمكن أن تتحقق إرادتهما معاً لعجز كل واحد عن قهر الآخر، فتسقط ألوهيتهما معاً. وبهذا التقرير نتج عندهم أن الله هو وحده الخالق لكل شيء، وأنه رب كل شيء. وهذا وإن كان حقاً أن الله هو رب كل شيء وخالقه، لكنه ليس هو مضمون توحيد الألوهية الذي هو بمعنى إفراد الله بالألوهية وحده لا شريك له، وإفراده أيضاً بالعبودية التي هي معنى الألوهية. وليس هو مضمون جحد أسماء الله وصفاته كما يزعمون حين يؤكدون نفيها وتعطيلها عن الله، ويسمون ذلك توحيدا، ويزعمون أن من أثبت لله الأسماء والصفات الواردة في كتاب الله وفى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مشبه ومجسم، وهم على حد قول القائل: ((رمتنى بدائها وانسلت)) ، فهم أهل التشبيه والتجسيم، كما هي سمة أهل التعطيل والإلحاد، وهم يسترون باطلهم بأوصاف لله تعالى مجملة، مثل قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، ولا جزء له، ولا بعض له ... إلخ.

فهو يحتمل معنى صواباً إذا كانوا يقصدون به أن الله واحد لا يجوز علية الانقسام ولا التجزؤ ولا التبعض، مع أنها ألفاظ مخترعة لم ترد في أي نص شرعي ويحتمل معنى باطلاً وهو نفى صفات الله تعالى تحت هذه الأوصاف وقد اتضح من إنكارهم وتعطيلهم لأسماء الله وصفاته، أنههم لا يريدون إلا هذا المعنى الموافق لتأويلاتهم التي يسمونها توحيداً، ويسمون من يردها مشبها ً ومجسماً وحشوياً.. الخ لأنه لم يقر بأن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد ويستدل المؤولون من الخلف على دليل التمانع من القرآن الكريم بقول الله عز وجل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (1) على اعتقادهم أن معنى الآية: لو كان في السموات والأرض إله يخلق غير الله عز وجل لفسدتا، فثبت أنه لا خالق إلا الله، وأن هذا هو توحيد الربوبية الذي بينه القرآن الكريم ودعا إلى تحقيقه وأنه هو دعوة الرسل. فهل أصابوا في هذا الفهم؟ الجواب: لا، وقد بينه ابن أبى العز رحمة الله فقال: ((وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى:) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له (2) ثم قال: "فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن

توحيد الربوبية)) (¬1) فدليل التمانع قائم على أن الله هو خالق الخلق لا رب سواه، والخطأ إنما هو المتكلمين الذين جعلوه هو التوحيد الخالص، وقدموه على توحيد الألوهية استغناء به، مع إغفال توحيد الألوهية الذي خلق الله الجن والإنس لتحقيقه، وجعله احب شيء إليه، ة وبه يثيب وبه يعاقب. يقول الشيخ سليمان بن عبد الله عن هذا التوحيد: ((وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والتعظيم وجميع أنواع العبادة، ولآجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار..)) إلى أن قال: ((وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك في الله، كما هو أقوال من لم يدر ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة)) (4) . ثم أورد السؤال الآتي وأجاب عنه وهو قوله: ((0 فإن قيل: قد بين معنى الإله والإلهية (5) فما الجواب عن قول من قال بأن معنى الإله: القادر على الاختراع، ونحو هذه العبارة؟ ¬

(¬1) سورة ص: 21.

قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا باطلاً)) . وإشارته إلى ما تقدم، يريد ما ذكره من تفسير العلماء لمعنى الإله بالمعبود الذي يجب له وحده العبودية والذل والخضوع، ثم قال: ((وهذا كثير جداً في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود خلافاً لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله، أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات..)) ، إلى أن قال: ((ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته ويلبون دعوته، إذا يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله بمعنى أنه لا قادر على الاختراع إلا الله فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا، قال الله تعالى:) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (1)) ) (2) . الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقاً قادراً على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمى إلها، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام، وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين (3) . ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رده على المفهوم

4 - تعطيل النصوص عن مدلولاتها

الخاطئ لأهل تجاه المراد بالتوحيد: ((وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا اثبتوا ذلك فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد..)) إلى أن قال: ((فإذا فسر المفسر (الإله) بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - ما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية - وهو الذي يقولونه عن أبى الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع ذلك مشركين)) (4) 4 - تعطيل النصوص عن مدلولاتها: من الأمور الواضحة بعد عرض ما تقدم، أن كل الطوائف المخالفة لأهل السنة والجماعة لم يلتزموا بالمفاهيم الواضحة للنصوص، وإنما كان حالهم فيها مثل حال من يفسر الواضح حتى يجعله غامضاً، فهؤلاء تعمقوا - كما يظنون - في استخراج الحق الكامن خلف النصوص ثم خرجوا بعلم غزير لم يهتد إليه أحد قبلهم، لا الصحابة ولا من جاء بعدهم، بل لم يهتد إليه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهم وإن لم يصرحوا بذلك، لكن عباراتهم ومواقفهم تدل على هذا دلالة لا تخفى على من عرف ألغازهم في كلامهم، والمصطلحات التي تستروا بها، لدس أفكارهم الضالة حيال التلاعب بالنصوص، وإظهارها بالمظهر الذي يريدونه.

وقد كانوا بحق أذكياء جدا في عرض شبهاتهم وتأويلاتهم، حيث جاءوا بزخرف من القول والدعاية، واختيار الأسماء المنفرة لما لا يريدونه، وإلقاء الأسماء التي ظاهرها يخدمهم ولها رونق وبريق، فانخدع بذلك كثير من عوام المسلمين، بل من طلاب العلم، وسموا أنفسهم بأحسن الأسماء، مثل: أهل التوحيد، أهل العدل، أهل الاستقامة، الفرقة الناجية، أهل السنة، محققين، حكماء. إلى غير ذلك من الألقاب التي اصبغوها على أنفسهم واتباعهم. وبالتالي أطلقوا أسماء أخرى على أهل السنة والجماعة تنفر السمع عنهم وتجعله يمتلئ غيظا عليهم، كارها لمذهبهم وعقيدتهم الحنيفية، فأطلقوا عليهم ظلما وعدوانا: أهل التشبيه والتجسيم، الحشوية، خوارج، نوابت، وفى هذا يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته، حكاية عن معطل يحذر أصحابه من مذهب أهل السنة: قالوا مشبهة مجسمة فلا قال أيضا ... تسمع مقال مجسم حيوان وقال أيضاً: ومن العجائب أنهم قالوا لمن ... قد دان بالآثار والقرآن أنتم بذا مثل الخوارج إنهم ... أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعان وقال أيضا في تسميتهم لأهل السنة حشوية، أي من حشو الناس وسقطهم: ومن العجائب قولهم لمن اقتدى ... بالوحي نمن اثر ومن قرآن حشوية يعنون حشوا في الوجود ... وفضلة في أمة الإنسان ويظن جاهلهم بأنهم حشوا ... رب العباد بداخل الأكوان

إذ قولهم فوق العباد وفى السماء ... الرب ذو الملكوت والسلطان ظن الحمير بأن في للظرف والر ... حمن محوي بظرف مكان أي ظن هؤلاء أن أهل السنة يقولون: إن الله في السماء، أي هي ظرف له وتحويه، وهو كلام باطل لا يقوله أهل السنة وهناك اسم أخر يسمون به أهل السنة وهو: " النوابت "، أي نبتوا في الإسلام بأقوال بدعية بعد اختلاطهم بالأعاجم، بل وسموا أهل السنة: عابدي أوثان، لأنهم يقولون: إن ربهم في السماء وفوق العرش بذاته، والروافض أيضا يسمون أهل السنة - كذباً - " نواصب"، ومن الغرائب أنهم يسبون أهل السنة بما ينطبق عليهم هم، وفيهم يقول ابن القيم رحمه الله: فرموهم بغيا بما الرامي به ... أولى ليدفع عنه فعل الجاني يرمي البرئ بما جناه مباهتا ... ولذاك عند الغر يشتبهان سموهم حشوية ونوابتا ... ومجسمين وعابدي أو ثان وكذاك أعداء الرسول وصحبه ... وهم الروافض أخبث الحيوان نصبوا العداوة للصحابة ثم ... سموا بالنواصب شيعة الرحمن (¬1) وكذا المعطل شبه الرحمن ... بالمعدوم فاجتمعت له الوصفان وكذا شبه قوله بكلامنا ... حتى نفاه وذان تشبيهان وأتي إلى وصف الرسول لربه ... سماه تشبيها فيا إخوان ¬

(¬1) وقد تقدم في درس الشيعة أنهم يسمون أهل السنة نواصب، وذكرنا الأدلة على هذا من كتبهم ومن كلام علمائهم، خلفهم عن سلفهم.

وبالله من أولى بهذا الاسم من ... هذا الخبيث المخبث الشيطان فمن المشبه بالحقيقة أنتم ... أم مثبت الأوصاف للرحمن والله عز وجل يعلم أن أهل السنة براء من تلك الألقاب الظالمة، فإن الذي يثبت لله ما أثبته لنفسه لا يجوز أن يسمي مشبها أو مجسما، والذي يقول: الله في السماء، أي في جهة العلو المطلق، وأن السماء ليست ظرفا له عز وجل، وإنما المقصود جهة العلو بغير تحديد مكان - لا يصح أن يسمى حشويا. والذي يأخذ بظواهر النصوص ويفهم معانيها فهما جيدا ويقول عن الكيفية: لا علم بها، لأن الله لم يخبرنا بذلك، لا يصح أن يسمي خارجيا يقف على ظواهر النصوص دون فهم لمعانيها. والذي نبت على معرفة الحق وما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لا يصح أن يسمي نابتا جديدا خارجا عن الحق. والذى يحترم أهل البيت وينزلهم المنزلة التي تليق بهم فلا يرفعهم إلى مرتبة العصمة أو الألوهية، ولا ينزلهم عن قدرهم فيذم بعضهم ويمدح البعض الآخر، كالرافضة، لا يصح أن يسمى رافضيا. إن تلك الأسماء كلها في إطلاقها على أهل الحق ظلم وكذب وزور، فهي في الحقيقة أسماء لأهل الباطل، لكن الجاني يسمى نفسه بريئا ويسمي البريء مجرما، والله عز وجل يفصل بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. إن تسلط علماء الخلف على النصوص وتحريفها عن معانيها الصحيحة لتوافق ما جاءوا به من عقائد ما أنزل الله بها من سلطان - أمر معلوم لطلاب العلم.

فإن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تخبطات في فهم النصوص وبناء عقائدهم، إلا على لي أعناق النصوص وزخرف الأقاويل في تأويلها، وإيراد الشبهات الكثيرة تحت اسم الأدلة القاطعة والبراهين الواضحة، وهى أسماء تخفي وراءها خداعهم لمن يعرف ما يهدفون إليه، إحياء أفكار أساطين الملاحدة والفلاسفة من اليونانيين وغيرهم. وقد ذكرنا من خلال ما تقدم دراسته - بيان مذاهب الفرق الباطلة وأقوالهم المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ابتداء بالخوارج وانتهاء بهذه الفرق الكلامية أتباع الفلاسفة. ومجمل الاعتقاد فيما تقدم في باب الأسماء والصفات، هو أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له، وأن ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم على حسب ما يأتي: نثبت لله تعالى كل الأسماء الحسنى كما قال عز وجل: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} (¬1) نثبت له كل الصفات الواردة في القرآن الكريم. نثبت أن لله في كل صفة المثل الأعلى والأكمل. الإيمان بكل ما جاء من صفات الله تعالي إلى التفصيل الذي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية. ¬

(¬1) سورة الأعراف: 180.

أن نثبت معاني كل أسماء الله وصفاته، ونتوقف عن الخوض في كيفياتها، لأن الله لم يخبرنا بذلك. وأن نردد في كل صفة عبارة السلف: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة ". * * * * * * * * * * * * * * * * **

5- جدول مختصر لبيان صفات الله تعالى وتأويل الخلف لها

5- جدول مختصر لبيان صفات الله تعالى وتأويل الخلف لها (وما من صفة من الصفات إلا وللسلف دليل على ثبوتها لله تعالى) كما في الجدول الآتي تعطيل الخلف لها ... دليل ثبوتها ... الصفحة زعموا أن الله لا يصح وصفه بذلك، وإنما أضاف النفس إليه مثل إضافة سائر الخلق إليه، وهو تعطيل لتلك النصوص وغيرها مما لم نورده هنا. ... (كتب ربكم على نفسه الرحمة} (¬1) . ... نفس الله (ويحذركم الله نفسه} (¬2) . وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فإن ذكرني في ملأ خير منهم " إلى آخر الحديث (¬3) . فلله تعالى نفس لا تعرف كيفيتها، وليست كسائر النفس المركبة في أبدان المخلوقات. لا يؤمنون بصفة العلم على أنها من صفات ذاته عز وجل مضافة إليه، ومن الغريب أنهم يقولون: إن الله هو العالم وينكرون أن لله علماً مضافاً إليه من صفات الذات " يعني أنهم يثبتون الاسم وينكرون الصفة التي يدل عليها، وهو تناقض، فإنه لا يعقل عالم بلا علم ". ... (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ¬

(¬1) سورة الأنعام: 54. (¬2) سورة آل عمران: 28. (¬3) أخرجه البخاري 13 / 384، ومسلم في الذكر 5/542.

الوجه لله تعالى

وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} (¬1) . ... علم الله (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (¬2) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب إذا وما تدري نفس بأي أرض تموت} (¬3) . نفوا أن يتصف الله بالوجه وأولوه بمعنى نفس الذات. أي ويبقي ذات ربك أو يبقى ثوابه أو هو بمعنى القبلة، أو هو كما تقول العرب: وجه الدار ووجه الكلام، وهذا تكذيب لله ورسوله وتأويل باطل لا مبرر له، وهو من تلاعب الشياطين بهؤلاء المعطلة النفاة، والسلف يؤمنون بأن لله تعالى وجهاً من غير تشبيه وجه يليق به، وهذا هو الحق الموافق لكتاب الله وسنة نبيه. ... (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (¬4) . ... الوجه لله تعالى: صفة ذاتية لله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه} (¬5) ، ولله وجه ¬

(¬1) سورة سبأ: 2. (¬2) سورة الملك: 14. (¬3) سورة لقمان 34، والحديث أخرجه البخاري: 8/291. (¬4) سورة الرحمن: 27. (¬5) سورة القصص: 88.

عين الله تعالى

لا تعلم كيفيته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر (¬1) . كله " الحديث. والسلف رحمهم الله يثبتون الوجه لله تعالى حقيقة مع تنزيهه عن مشابهة خلقه، ولا يلزم من المشاركة في التسمية الاتحاد في الذات فالله أعلى وأجل من ذلك. لا يثبتون هذه الصفة ويؤولونها بحجة أنها مرة جاءت بلفظ الإفراد ومرة بلفظ التثنية متجاهلين أنها أسلوب من أساليب العرب في لغتهم. والسلف يثبتونها صفة ذاتية لله تعالى ولا يكيفونها، والخلف أولوها بمعنى حفظ الله أو العلم، وان الحديث فيه تنزيه الله عز وجل عن أن يكون له صفة تشبه صفات خلقه وهذا تأويل. ... {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} . ... عين الله {ولتصنع على عيني} ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال "إنه أعور وإن الله ليس بأعور" ¬

(¬1) سنن أبي داود 2/13، والنسائي 6/49 وأحمد 5: 234.

السمع والبصر

وفى رواية أخرى ((أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية (¬1) . ينفون إثبات السمع والبصر على أنهما صفتان على حقيقيتان لله تعالى ويزعمون أن اثباتهما يقتضى تشبيه الله بخلقه، لأنه على حسب زعمهم لا يوجد خارج من يتصف بالسمع والبصر إلا المخلوقات، والسلف يثبتونهما صفتان حقيقيتان لله عز وجل من غير تكييف لهما تمشياً مع الأدلة. ... (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (¬2) . ... السمع والبصر (إننى معكما أسمع وأرى} (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري 13 / 90 - 91. (¬2) سورة آل عمران: 181. (¬3) سورة طه: 46.

اليدان

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما رفعوا أصواتهم بالتكبير: ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنه سميع قريب)) (¬1) . وفى رواية: ((إن الذي تدعون هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (¬2) . نفوها وقالوا: إن اليد من صفات المخلوقين، وزعموا المخلوقين، وزعموا أن اليد النعمة واليدين النعمتان أو القوة. ... (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} (¬3) . ... اليدان والسلف يثبتونها صفة حقيقية ذاتية لله عز وجل لا تشبه أيادي ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات المخلوقة. ... (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} (¬4) . (يد الله فوق أيديهم} (¬5) ، والآيات والأحاديث في إثبات اليد واليدين لله عز وجل كثيرة جداً، من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل إلا الطيب. فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم قلوه ¬

(¬1) روى بعدة طرق، انظر: صحيح البخاري 6 / 135. (¬2) مسلم 5 / 556. (¬3) سورة ص: 75. (¬4) سورة المائدة: 64. (¬5) سورة الفتح: 10.

الأصبع

حتى تكون مثل الجبل)) (¬1) . وفى رواية أبى هريرة رضي الله عنه: ((إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه أو قلوصه حتى مثل الجبل أو أعظم)) (¬2) . وعن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء الليل الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) (¬3) . ذهب بعضهم إلى نفى ما جاء من النصوص في ما جاء من النصوص في إثبات الأصابع، وزعموا أن إثباتها إنما هو من أكاذيب اليهود، لأنهم من غلاة المشبهة وأن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان كراهة وبغضاً لذلك، وهذا رد سافر للنص، وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يضحك عندما توجه ألفاظ الإهانة إلى الله تعالى. ... عن عبد الله قال: جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلائق على أصبع فيقول أنا الملك قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى ¬

(¬1) البخاري: 3 / 278. (¬2) أخرجه مسلم 3 / 50، 51. (¬3) أخرجه مسلم 5 / 603.

بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬1) (¬2) . ... الأصبع وبعض هؤلاء لم يجد بداً من تصحيح الحديث، فذهب يؤول الأصابع إلى أنها بمعنى شيء يخلقه الله يحمل السماوات وكل ما ذكر في الحديث كما تحمل الأصابع الشيء الثقيل، إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة التي يردها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، ومنهم الصحابة رواة الحديث ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء" (¬3) . ¬

(¬1) سورة الزمر: 67. (¬2) أخرجه البخاري 8 / 550، 551 ومسلم 5/654. (¬3) أخرجه مسلم 5 / 509.

الرجل والقدم

أهل السنة يثبتون أن لله قدماً لصريح الحديث في إثبات الرجل والقدم لله عز وجل، ولا يعلم مقدار عظمة ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، وتكلف القول في بيان كيفيتها أو الإقدام على نفيها من الباطل المنهي عنه. ... عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة" (¬1) . وفي رواية: "فيضع فيها رجله" (¬2) . ... الرجل والقدم وقد أول المعطلة ما ورد من إثبات القدم لله تعالى في الحديث بمعنى أن النار حين يضع فيها الجبار المتعالي على الله؛ تقول: قط قط، وهو تأويل بعيد لا تدل عليه النصوص ولا اللغة، وأول المعطلة الرجل إلى معنى الجماعة من الناس. للسلف وغيرهم مفاهيم مختلفة حول ثبوت صفة الساق لله، فيروى أن الساق هو الشدة، وقيل: الساق هو النور العظيم، وقيل: هو ما يقع للمؤمنين من لطف الله. فمن أثبته صفة لله تعالى فمستنده حديث أبي سعيد الخدري ومن نفاه عن الله ذهب إلى تلك التأويلات. ... ¬

(¬1) أخرجه مسلم 5/704-705. (¬2) أخرجه مسلم 5/704-705.

الساق

قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (¬1) . ورد لفظ الساق هنا منكراً، ومن هنا وقع خلاف بين علماء السلف هل الساق صفة ذاتية لله أم لها معنى آخر على قولين إلا أنه قد جاء حديث صحيح يفصل هذا النزاع وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: "فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم" الحديث (¬2) . ... والحق هو إثبات الساق صفة لله تعالى بدون تكييف ولا تأويل؛ لثبوت ذلك في حديث أبي سعيد الخدري. وفي قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} نفوا الاستواء وزعموا أن معنى النصوص الواردة باستوائه أي بمعنى استيلائه على العرش، أو بمعنى الإقبال على خلق العرش وغيره، وهي تأويلات باطلة خلاف ما جاءت به النصوص الواضحة من كتاب الله وسنة نبيه، بل وخلاف ما عرف في اللغة العربية من أن الاستواء هو غير الاستيلاء، وأن الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة. ... ¬

(¬1) سورة القلم: 42. (¬2) صحيح البخاري 13/421، ورواه مسلم 1/436.

الاستواء

استواء الله على عرشه كثرت أدلته من القرآن والسنة، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1) ، وفي الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات" (¬2) . ... الاستواء وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي" (¬3) . لا يؤمنون بالنزول ولا المجيء ويؤولون ذلك إلى معنى نزول أمره أو نزول الملائكة أو نزول رحمته. ... ¬

(¬1) سورة طه: 5. (¬2) البخاري 13/403. (¬3) المصدر السابق 13/404، ومسلم 5/595..

النزول والإتيان والمجيء

1- النزول والمجيء والإتيان في يوم القيامة: قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} (¬1) وقال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬2) . ... النزول والإتيان والمجيء وهو تأويل باطل وتعطيل ظاهر للنصوص , والسلف يؤمنون بنزول الله عز وجل , وهو من الصفات العلية , ينزل ربنا تعالى نزولاً يليق به. ... ومن السنة: ما جاء في أحاديث القيامة وفصل القضاء بين العباد, وهي أحاديث كثيرة , منها قوله صلى الله عليه وسلم قال: "فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم , فيقولون: هل بينكم وبينه آية تعرفونه , فيقولون: الساق , فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن , ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة.." الحديث (¬3) . ... 1- يوم القيامة كل هذه الصفات الاختيارية لا يؤمن بها الخلف فلا يثبتون ما دل عليه كل نص. ... 2- في الدنيا: ينزل ربنا كل ليلة كما يرويه ¬

(¬1) سورة البقرة: 21.. (¬2) سورة الفجر: 22. (¬3) أخرجه البخاري 13/421، ومسلم 1/ 434-435.

كل ليلة

أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" (¬1) . ... 2- كل ليلة بل جاءوا لها بمعان مختلفة عطلوا بها معاني تلك النصوص فالرضى عندهم إرادة الثواب أو العطاء أو الإنعام , والغضب إرادة الانتقام , والضحك إرادة الثواب أو الرضى , والفرح قبول التوبة وإرادة الثواب , ومحبة الله للعبد بمعنى إحسانه إليه وإنعامه , والرحمة إرادة الله الخير والنعم لعبده. ... هذه الصفات يؤمن بها السلف كما جاءت بها النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه على ما يليق بجلال الله وعظمته , وأدلتها على الترتيب: قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} (¬2) وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم} (¬3) وفي الصحيح أن آخر رجل يدخل الجنة يتوسل إلى الله كلما قدمه درجة طلب أخرى , قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "فلا يزال ¬

(¬1) أخرجه البخاري جـ 2 ص 66 ومسلم جـ 2/407 وأخرجه أبو داود ص 303 جـ 1 والترمذي 2/307. (¬2) سورة البينة: 21. (¬3) سورة المجادلة: 14.

يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك منه قال له: أدخل الجنة " (¬1) . ... الرضى, وكل تلك التأويلات باطلة ومخالفة للحق الذي قررته الشريعة الإسلامية , ولا يلزم من إثباتها أي محذور , وليس فيه أي تشبيه لله بخلقه , خصوصاً وقد مدح الله نفسه بها , ولا يتصور التشبيه إلا من لم يعرف الحق ولم يطلع على مذهب السلف , ذلك أنها صفات تليق بالله عز وجل وكما ل نعرف ذاته فكذلك لا نعرف كيفية صفاته. ... وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه , فطلبها فلم يجدها , فنام تحت شجرة ينتظر الموت , فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه , فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته" (¬2) . ... الغضب, وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} (¬3) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" (¬4) ¬

(¬1) صحيح البخاري 13/420. (¬2) البخاري كتاب الدعوات 11/102. ومسلم 5/589 وقد روي بألفاظ مختلفة. (¬3) سورة محمد: 28. (¬4) متفق عليه، والمراد بهم الكفار حين يؤسرون ويؤتى بهم في السلاسل فيسلمون فيدخلون الجنة، انظر: فتح الباري 6/145 باب الأسارى في السلاسل.

الكلام

... الضحك. وقال تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (¬1) . ... الفرح, وقال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم} (¬2) وقال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} (¬3) . ... السخط, التعجب, المحبة, الكراهة, الرحمة. لا يؤمنون بأن الله تعالى يتكلم متى يتكلم متى شاء ولا يثبتونها صفة لله تعالى , وأولوا النصوص الواردة بإثباتها وعطلوها عن مدلولاتها , ومن هنا زعموا أن القرآن الكريم مخلوق لم يتكلم به الله , وأن نسبة الكلام إلى الله مجاز , وهو قول الجهمية. أو هو معنى قائم بذات الله خلقه في غيره , وهو قول الماتريدية , أو أنه ألفاظ ومعان , فلألفاظ مخلوقة والمعاني قديمة قائمة بالنفس , وهو معنى واحد يختلف حسب التعبير به إن عبر عنه بالعربية صار قرآناً وإن عبر عنه بالعربية صار توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً. ... قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} (¬4) , عن ابن مسعود: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم" الحديث (¬5) . ... الكلام صفة ذات وفعل ولا تعلق له بالمشيئة الإلهية وهذا قول الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة الذين لا سثبتون لله تعالى إلا كلاماً نفسياً لله قائماً بذاته من غير حرف ولا صوت. ... وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو أن القرآن متعلق بالمشيئة والقدرة , وأنه قائم بذات الرب إلا أنه حدث بعد أن لم يكن , وهذا قول الكرامية. ... ¬

(¬1) سورة المائدة: 54. (¬2) سورة التوبة: 46. (¬3) سورة الأعراف: 156. (¬4) سورة التوبة: 6. (¬5) البخاري 8/180، والترمذي 5/362، وابن ماجه 1/69، وسنن أبي داود 5/106.

" إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض" (¬1) . أو أن كل كلام طيباً أو خبيثاً هو كلام الله , وهذا قول الاتحادية , إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة. ومذهب السلف أن الله يتكلم متى شاء بما شاء على وجه لا نعرف كيفيته , وأن نوع الكلام قديم وآحاده حادثة. ينفي المخالفون رؤية الله في الدار الآخرة , ويزعمون أنها تؤدي إلى القول بأن الله مثل الحوادث وأنه متحيز في مكان , وزعموا أن قول الله: {وجوه يومئذ ناضرة} أي منتظرة لفضله ونعمه , وأن "لن" في قول الله تعالى لموسى: {لن تراني} على التأبيد , وهو كذب على اللغة وعلى الحق. ... ¬

(¬1) أخرجه البخاري 6/303.

الرؤية

لا يختلف السلف في أن الله يرى بالأبصار في يوم القيامة , قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} (¬1) . ... الرؤية الرؤية ليست من صفات الله تعالى , والغرض هو بيان تعطيل الخلف للنصوص وأهل السنة يثبتون رؤية الله في الدار الآخرة يرونه بأبصارهم رؤية لا تعرف كيفيتها , بعيدة عن التشبيه وعن ما يتوهمه أهل التعطيل , وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا خلاف مشهور بين الصحابة ومن جاء بعدهم. ... ¬

(¬1) سورة القيامة: 22-23.

وفي السنة: عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضمون في رؤيته, فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا " (¬1) . ينكر المعطلة صفة العلو , ويزعمون أن الله في كل مكان بذاته , وأولوا الفوقية أنها بمعنى فوقية القدر والعظمة , وهو تعطيل للنصوص ورد لها وجحد للحق الثابت ... ¬

(¬1) رواه البخاري 13/419.

العلو

علو الله أمر معلوم من الدين بالضرورة قال تعالى: {بل رفعه الله إليه} (¬1) . وقال تعالى: {أأمنتم من في السماء} (¬2) . عند أهل السنة كلمة السماء المراد بها مطلق العلو , وتكون "في" بمعنى "على"قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} (¬3) . ... العلو وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟ قالت: في السماء " (¬4) . ¬

(¬1) سورة النساء: 158. (¬2) سورة الملك: 16. (¬3) سورة النحل: 50. (¬4) أخرجه مسلم 2/174.

هذا وأسأل الله عز وجل أن يكون فيما تقدم ما ينفع وأن يجزل لي الأجر , فإنه يجزي على العمل الحقير الأجر الكثير , وكل ما أطمع فيه هو عفو الله وثوابه في جمع تلك المعلومات وكتابتها , وجمع شتات ما تفرق في كتب العلماء حول الطوائف المخالفة للحق الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وإنني مدين في نهاية هذا البحث بالشكر العظيم لله عز وجل أولاً , ثم لأصدقائي من مشائخ فضلاء وطلاب علم , وموظفين في مكتبات الجامعة الإسلامية وغيرها من تيسير كثير من المراجع التي لم تتوفر لدي واحتسابهم ذلك عند الله تعالى , ولم يرغبوا في ذكر أسمائهم أو الإشادة بهم ولهم في قلبي أعمق الود والإجلال. أسأل الله لي ولهم ولكل طالب علم ولكل المسلمين عموماً الهداية والتوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. * * * * * * * * * * * * * * * * **

بعض المراجع

ومن المراجع المفيدة في دراسة أقوال علماء أهل الكلام والرد عليهم - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. - القصيدة النونية للإمام ابن القيم مع شرحها للهراس. - الصواعق المنزلة لابن القيم مع تحقيقها للدكتور أحمد عطية الغامدي، والدكتور علي بن ناصر فقيهي. - بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية. - كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لابن خزيمة. - شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار. - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم. - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم. - رد الإمام الدارمي على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي. - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز. - مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين لأبي الحسن الأشعري. - الفرق بين الفرق للبغدادي. - الملل والنحل للشهر ستاني.

- الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم. - الإبانة لأبي الحسن الأشعري. - كتاب الإيمان لابن منده تحقيق الدكتور علي بن ناصر. - المعتزلة عواد بن عبد الله المعتق. - تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة. - فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. - تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. - الصفات الإلهية للدكتور محمد أمان الجامي. - أبو الحسن الأشعري للشيخ حماد الأنصاري. - عقيدة التوحيد في فتح الباري شرح صحيح البخاري للشيخ أحمد عصام الكاتب. - تاريخ الجهمية والمعتزلة للشيخ جمال الدين القاسمي. - العصريون معتزلة اليوم يوسف كمال. - المعتزلة بين الفكر والعمل علي الشابي / أبو لبابة حسين / عبد المجيد النجار. - خلق أفعال العباد للإمام البخاري محمد بن إسماعيل. - المواقف للعضد الإيجي.

- الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية. - التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية للشيخ فالح بن مهدي آل مهدي. - درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية. - الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل للشيخ عثمان بن عبد الله آدم. ومئات المراجع التي كتبها العلماء في دراستهم لهذه الفرق مما لا يخفي على طلاب العلم، وقد ذكرت فيما تقدم مراجع قديمة ومراجع عصرية. وأرغب في نهاية دراسة هذه الفرق أن أتقدم بنصيحة إلى كل محب من طلاب العلم ألا يزهد عن كتابة المتأخرين، فإن فيها صفوة كثير من المعلومات لإطلاع هؤلاء على ما كتبه السابقون واستخلاص زبدة أفكارهم ثم تدوينها في كتاباتهم. وليس من الإنصاف الإعراض عنها بحجة أنهم عالة على ما كتبه القدامى فهذا خطأ يفوتك فوائد قد تجتنيها بدون عناء مع أنه لا يبعد عن الصدق في أن علماء هذا العصر عالة في كثير من الأمور على ما كتبه القدامى لمعايشتهم الأحداث وصفاء عقولهم وإخلاصهم في نفع الناس. ولكن هذا لا يمنع أن توجد فوائد قد لا نجدها في بعض كتابات القدامى، ومن قال بخطأ هذا فقد زعم انحصار فضل الله عز وجل على عباده، فإن الله تعالى هو الوهاب وهو الفتاح العليم. غفر الله لعلمائنا من تقدم منهم ومن تأخر، ونسأله عز وجل أن يلحقنا بهم صالحين غير خزايا ولا مفتونين.

(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (¬1) . * * * * * * * * * * * * * * * * ** ¬

(¬1) سورة الحشر: 10.

§1/1