فرح الأسماع برخص السماع

الشاذلي التونسي

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما مقدمة المؤلف (قال سيدنا وسندنا المولى الكبير، والعلم الشهير المنير، الولي العارف، والمربي الملاطف، قطب وقته، وفريد عصره، أستاذ الزمان وبركة الوقت والأوان، إمام الحضرة والطريقة، ومعدن السلوك والحقيقة: محمد المالكي، الشاذلي، الوفائي، الشهير بأبي المواهب) : الحمد لله الذي أباح وفسح مجال الغناء رغما لأنف أهل الجهل الأغبياء، وأراح به بواطن أهل السلوك من الصوفية الأصفياء، وجعله لهم معراجا للأرواح وراحة من كدورات الأطغياء وأنسوا به في غربة السير في عالم الأشباح مع إخوانهم الأتقياء، كيف لا؟ وهو عرس للأرواح للسادة الأولياء، يريح الأرواح، ويخفف الأشباح، ويذهب الأتراح، ويأتي بالأفراح (ويؤنس الإشراق ولمعان الضياء.) نحمده سبحانه وتعالى على ما فهمنا معاني،

وأطلعنا على اسراره الخفية في مبانيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: شهادة شهود لكمال تفرد فردانيته، وتحققا بتنزيه جلال أحديته، وأشهد أن أكمل متبوع من الرسل والأنبياء سيدنا ومولانا محمد جامع دواير الكمال، من ألبسه الله حلة الجمال، وتوجه بتاج الوقار والجلال، ورضي الله عن الصحابة الكرام الأكابر، أيمة الهدى والإقتداء (الأوائل والأواخر وسلم عليه وعليهم تسليما كثيرا) . أما بعد فهذه فوائد تتعلق بإباحة السماع والغناء، سبب جمعها إنكار الجهال،

ووقوع الأندال في الأبدال (وحسد أهل الأكدار من الأغيار الأحبار الأبرار) .

أقسام الغناء

أقسام الغناء القسم الأول بغير آلة ملحن بألحان اعلم أن الغناء ثلاثة أقسام: قسم ساذج بغير آلة ملحن بألحان، فذهب قوم إلى إباحته من غير كراهة - وهو مذهب أكثر الفقهاء - مع أمن الفتنة والسلامة من المنكر. (قالوا - رضي الله عنهم - (: ونقل هذا عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وعن جماعة من التابعين، فمن الصحابة: عمر بن الخطاب

وعثمان بن عفان وأبو عبيده بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأبو مسعود الأنصاري، وبلال وعبد الله بن الأرقم، وأسامة بن زيد وعبد الرحمان بن عوف وحمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر، والبراء بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن العاص ومعاوية والنعمان بن بشير، وحسان بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وعائشة أم المؤمنين. ومن التابعين: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمان بن حسان، وخارجه بن زيد، وشريح القاضي، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وعبد الله بن أبي عتيق، وعطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز. ومن غير التابعين من العلماء المجتهدين: ابن جريج والعنبري، ونقل عن: مالك،

والشافعي، وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة، وقال به القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، وأبو بكر بن مجاهد، واختاره من الشافعية الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو القاسم القشيري والداركي، والحليمي، وإمام الحرمين والماوردي، والروياني ومحلي، وحكى الغزالي الإتفاق عليه، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية، ذكر ذلك في أحكام القرآن له وفي كتاب العارضة: شرح له على الترمذي، وحكاه ابن رشيق في عمدته عن جماعة من المالكية، وقال القاضي: ناصر الدين بن المنير في فتواه: إذا كان بشرط في محله من أهله فالسماع صحيح. واختاره من الحنابلة: الخلال: صاحب الجامع، واختاره صاحب

المستوعب، عن جماعة منهم. وهو مذهب الظاهرية، حكاه ابن حزم وصنف فيه، وابن طاهر، ونقل اجماع الصحابة والتابعين عليه ونقل ابن قتيبة وتاج الدين الفزاري: مفتي الشافعية وشيخهم بدمشق: إجماع أهل الحرمين عليه. ونقله صاحب النهاية في شرح الهداية من الحنفية، وقال بعضهم: إذا كان لدفع الوحشة عن النفس فلا بأس به، وبه أخذ شمس الأيمة: السرخسي، واستدل عليه بأن أنسا: صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يفعل ذلك. واختاره من متأخري الأئمة: الإمام: عز الدين بن عبد السلام الشافعي الإمام: تقي الدين بن دقيق العيد

الإمام: بدر الدين بن جماعة ومن العلماء من قسمه إلى: مباح ومستحب، وجعل من المستحب الغناء في العرس ونحوه، والمباح فيما سوى ذلك، قال الإمام عز الدين - في القواعد -: من كان عنده هوى من مباح كعشق زوجته وأمته فسماعه لا بأس به. ومن قال: لا أجد في نفسي شيئا. فالسماع - في حقه - ليس بمحرم. وقال - في فتواه للشيخ أبي عبد الله بن النعمان -: سماع ما يحرك الأحوال السنية المذكرة للآخرة مندوب. وقاله الغزالي في الإحياء. وقال الإمام أبو بكر بن فورك: من سمع الغناء والقول على تأويل نطق به القرآن أو جاءت به السنة، أو على طريق الرغبة إلى الله تعالى أو الرهبة منه، فهنيئا له، ومن سمعه على اعتقاد معنى في المسموع في الأنبياء والأولياء فحاله أتم ممن تقدمه وهو الذي يسمع في جاريته أو في زوجته، ومن سمعه على حظ نفسه في القينات - لاحظ روحه وقلبه - فليستغفر الله تعالى. ولهذا قال الجنيد رضي الله

عنه: الناس في السماع على ثلاثة أضرب: العوام والزهاد والعارفون، فأما العوام فحرام عليهم لبقاء نفوسهم، وأما الزهاد فيباح لهم لحصول مجاهدتهم، وأما أصحابنا فيستحب لهم. وإلى هذا ذهب أبو طالب المكي في القوت، والسهروردي في العوارف، وقال أبو طالب: لو أنكرنا السماع من غير تفصيل فقد أنكرنا على سبعين صديقا. وقال السهروردي: المنكر للسماع. إما جاهل بالسنن والآثار وإما مغتر بما أتيح له من أعمال الأخيار وإما جامد الطبع لا ذوق له فيصر على الإنكار. قال بعض العارفين: السماع لما سمع له، كماء زمزم لما شرب له. قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

إنما الأعمال بالنيات. قال الأستاذ الكبير أبو القاسم الجنيد: وغنّى لي من قلبي وغنّيت كما غنّى ... وكنا حيثما كانوا وكانوا حيثما كنا

القسم الثاني

القسم الثاني في الغناء المقارن للدف والشبابة فقال أصحابنا المالكية: من السنة إعلان النكاح بالدف وحكاه شارح المقنع عن الحنابلة وأبو بكر العامري عن الشافعية. وذهبت طائفة إلى إباحته مطلقا وعليه جرى إمام الحرمين، والغزالي، وحكى غير واحد من الشافعية وجهين في غير النكاح والختان، وصحح الرافعي الجواز، وكذا القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية.

وأما الشبابة - وهي القصبة المثقبة: قال أصحاب الموسيقى: إنها آلة كاملة وافية بجميع النغمات - فاختلف العلماء فيها: فذهبت طائفة إلى التحريم وذهبت طائفة إلى الإباحة، وهو مذهب جماعة من الشافعية، واختاره الغزالي، والعامري، والرافعي - في الشرح الصغير - وقال: انه الأظهر، وقال - في الكبير -: إنه الأقرب، واختاره الإمام: عز الدين بن عبد السلام، والإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والإمام قاضي القضاة: ابن جماعة: وقال تاج الدين الشريسي: إنه مقتضى المذهب، وقال الرافعي: إن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان يضرب بها في غنمه، قال: وروى عن الصحابة

الترخيص في الراعى. قالوا: والشبابة تجري الدمع، وترقق القلب، وتحث على السير، وتجمع البهائم إذا سرحت، ولم يزل أهل الصلاح والمعارف والعلم يحضرون السماع بالشبابة، وتجري على أيديهم الكرامات الظاهرة، وتحصل لهم الأحوال السنية، ومرتكب المحرم - لا سيما إذا أصر عليه - يفسق به وقد صرح إمام الحرمين، والمتولي وغيرهما من الأيمة بامتناع جريان الكرامة على يد الفاسق.

القسم الثالث

القسم الثالث وهو سماع الغناء بالأوتار وسائر المزامير أما العود - وهو معروف، ويقال إن أول من صنعه مالك بن آدم ابي البشر عليه السلام لما مات ولده، وقيل صنعه أهل الهند على طبائع الإنسان - فقد اختلف العلماء فيه وفيما جرى

مجراه من الالات المعروفة ذوات الأوتار، فالمشهور من مذاهب الأيمة الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام وذهبت طائفة إلى جوازه، ونقل سماعه عن: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان

وعمر بن العاص، وغيرهم. ومن التابعين عن: خارجة بن زيد وعبد الرحمان بن حسان، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وابن أبي عتيق، وأكثر فقهاء المدينة، ونقل عن مالك سماعه وليس ذلك بالمعروف عند أصحابه، وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي - في كتابه شرح الترمذي الذي سماه بالعارضة لما تكلم على إباحة الغناء -: وإن زاد فيه أحد على ما كان في عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عودا يصوت عليه نغمة فقد دخل في قوله: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فقال: دعهما فإنه يوم عيد، وإن اتصل نقرطنبور به، فلا يؤثر أيضا في تحريمه، فإنها كلها آلات تتعلق بها قلوب الضعفاء وللنفس عليها استراحة وطرح لثقل الجد الذي لا تحمله كل نفس: ولا يتعلق به قلب، فإن تعلقت به نفس فقد سمح الشرع لها فيه العود

يسمى طنبورا، وهو المعروف في اللغة. وحكى إباحته المارودي عن بعض الشافعية، ومال إليه الأستاذ: أبو منصور البغدادي، ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه ومشهورا عنه، وأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه أنكره عليه، حكاه ابن طاهر المقدسي عنه، وكان قد عاصر الشيخ، وحكاه عن أهل المدينة، وادعى أنه لا خلاف بينهم فيه، وكان إبراهيم بن سعد: من علماء المدينة يقول بإباحته، ولا يحدث حديثا حتى يضرب به، ولما قدم بغداد واجتمع بالخليفة هارون قال له: حدثنا يا إبراهيم حديثا، ائتني بالعود يا أمير المؤمنين، قال: أتريد عود المجمر أم

عود الغناء؟ قال: لا، عود الغناء، فأحضره له فضرب به وغناه ثم حدثه. وإبراهيم بن سعد أحد شيوخ الشافعي رضي الله عنه، وروى عنه البخاري، وهو إمام مجتهد مشهور، عدل بارز ثقة مأمون، ولما ضرب بالعود بين يدي هارون الرشيد قال له يا إبراهيم من قال بتحريم هذا من علمائكم؟ قال: من ربطه الله يا أمير المؤمنين. وذكر الإمام ابن عرفة - في مختصره الفقهي عن إبراهيم بن سعد - إباحة الغناء بالعود، ونقل الإمام المازري من أصحابنا المالكية عن عبد الله بن عبد الحكم أنه مكروه، وحكي عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه مباح، ثم اختلف الذين ذهبوا إلى تحريمه هل هو كبيرة أو صغيرة؟ والأصح - عند المتأخرين من الشافعية أنه صغيرة،

وهو اختيار إمام الحرمين ولا ترد بسماعه شهادة وحكى المازري في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إذا كان في عرس أو صنيع فلا ترد به شهادة، قال الأستاذ: شرف الدين بن الفارض - رضي الله عنه: ولاتك باللاهي عن اللهو معرضا ... فهزل الملاهي جّد نفس مجدة.

فصل في الرقص

فصل في الرقص وقد اختلف فيه الفقهاء: فذهبت طائفة إلى الكراهة، منهم: القفال حكاه الروياني في البحر، وقال الأستاذ: أبو منصور: تكلف الرقص على الإيقاع مكروه. وذهبت طائفة إلى اباحته، قال صاحب العمدة من الشافعية: الغناء مباح أصله، وكذلك ضرب القضيب، والرقص،

وما أشبه ذلك، وقال إمام الحرمين: الرقص ليس بمحرم، فإنه حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يحرم المروءة، وكذلك قال: المحلي والعماد السهروردي والرافعي، واحتج عليه الرافعي بما يقتضي إباحته، وجزم الغزالي بإباحته. وقال الحليمي في منهاجه: إذا لم يكن فيه تثن وتكسر فلا بأس به. وقال الإمام النووي - في المنهاج -: ويباح رقص ما لم يكن بتكسر وتثن كهيئة مخنث. والأمر فيه مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن، وذهبت طائفة إلى التفرقة بين أرباب الأحوال وغيرهم، فيجوز لأرباب الأحوال ويكره لغيرهم. وهذا القول هو المرتضى وعليه أكثر الفقهاء المسوغين لسماع الغناء وهو مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم أجمعين وبعض المتصوفة يفرق بين أن يشير به شيخ أم لا. فإن

أشار به شيخ اعتمد. وإلا فلا. واحتج من ذهب لإباحة الرقص بالسنة والقياس، أما السنة فما روته عائشة رضي الله عنها - في الصحيح - من رقص الحبشة في المسجد يوم عيد، وأن الرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعاها فوضعت رأسها على منكبه، قالت: فجعلت أنظر إليهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم. وأن جعفرا وعليا وزيدا حجلوا لما قال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما قال من الثناء عليهم. فقال لعلي - رضي الله عنه - أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي، وقال لزيد: أنت منا ومولانا. والمشهور عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه كان يرقص في السماع، ذكره

غير واحد عنه في طبقات الشافعية كالأسنوي والسبكي، وغيرهما من الأيمة الثقات، وذكر ذلك عنه الشيخ العارف تاج الدين بن عطاء الله في كتابه: لطائف المنن.

وأما القياس فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، فيقاس على الأصل: فعل الحبشة، وفعل علي حين حجل هو ومن شاركه في فعله من الصحابة، فآفهم ذلك والله سبحانه أعلى وأعلم.

فصل في من حضر السماع

فصل في من حضر السماع بالدف والشبابة من مشاهير العلماء المتأخرين من أهل المشرق ومن أهل المغرب. فمن أهل المشرق: الشيخ عز الدين بن عبد السلام، حكاه عنه غير واحد من العلماء في كتبهم: ذكر ذلك الأدفوي في كتابه: الامتاع بأحكام السماع. قال الشيخ الإمام ابن القماح: سئل الشيخ عز الدين عن الآلات كلها: فقال: مباح: فقال الشيخ شرف الدين التلمساني: يريد أنه لم يرد دليل صحيح من السنة على تحريمه، يخاطب بذلك أهل مصر فسمعه الشيخ عز الدين، قال: لا، أردت أن ذلك مباح.

وحضر السماع بالدف والشبابة الشيخ: تاج الدين الفزاري شيخ دمشق ومفتيها وحضره غير مرة. قال في كتابه الذي سماه: نور القبس: إنه كان في عصره شيخ مقعد فإذا غشيه الحال في السماع قام منتصبا زمانا طويلا كأصح الرجال. وحضر السماع الإمام الحافظ الورع المجتهد: تقي الدين بن دقيق العيد غير مرة بالشبابة والدف. قالوا: ولما حضر بإسنا عمل لأجله سماع بالشبابة والدف، وكان المغني يغني والشيخ تقي الدين والشيخ بهاء الدين القفطي - تلميذ والد الشيخ - والفقهاء العدول حاضرون، والفقراء يرقصون في

السماع. قال الأدفوي: فقيل للشيخ ابن دقيق العيد: ما تقول في هذا الأمر؟ قال: لم يرد حديث صحيح على منعه، ولا حديث صحيح على جوازه، وهذه مسالة اجتهاد: فمن اجتهد وأداه اجتهاده إلى التحريم قال به، ومن اجتهد وأداه اجتهاده إلى الجواز قال به، وأحضر أهل هذا السماع - الذي حضره الشيخ تقي الدين - الشيخ عليا الكردي نفعنا الله به، وحصل للجماعة حال وغيبة عظيمة، ثم حضرت الصلاة فتقدم بعض الجماعة للإمامة فقال الشيخ تقي الدين: حصل في نفسي شيء، فقلت: لو أنه توضأ؟ فلما فرغت الصلاة قال لي: الشيخ ما غاب غيبة يحصل بها نقض

الوضوء. وكذلك لما حضر بأخميم، وحضر لحضور الشيخ جماعة أيمة، قال شهاب الدين بن عبد الظاهر: رأيت الشيخ تقي الدين وقد حصلت له غيبة وهو يتمشى ويقول: أرى السماع - لمثل هؤلاء - قربة. وسأل الشيخ شهاب الدين الدشناوي الشيخ تقي الدين - وهو يومئذ قاضى القضاة -: ما تقول في السماع؟ فقال: هو مباح. قلت: بالشبابة والدف؟! قال: إياه أعني. وقال الشيخ شمس الدين القماح: سمعت الشيخ تقي الدين يقول - في درس جامع ابن طولون - حضرت سماعا وفيه فقير وأن القوال غنى

قصيدة ابن الخياط التي أولها: خذِا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد ريّاها يطير بلبه إلى أن قال: وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبّه وإن الفقير حط رأسه، وقال: لبيك، ومات رحمة الله عليه. قالوا وسمعه غير مرة الإمام قاضي القضاة: بدر الدين بن جماعة بالشبابة والدف، وشاهد فيه من بعض الصلحاء أحوالا عظيمة وحضره شيخ الشيوخ والعلماء: شمس الدين الأصبهاني الشارح المصنف الشهير مرات كثيرة، والشيخ

النقوشاني، والشيخ: علاء الدين التركماني، والشيخ شهاب الدين الكركي. ومن المغرب: حضره السلطان أبو الحسن: سلطان فاس المحروسة مع مشاهير من المفتين والمصنفين، فمنهم الإمام أبو زيد وأبو موسى، ولم يكن لهما نظير في عصرهما، وحضره الإمام حافظ المغرب: أبو عبد الله: محمد السطي، والإمام أبو عبد الله الأبلي أحد شيوخ الإمام ابن عرفة، ولقي هذا الإمام - في سياحته - الخضر وأخذ عنه الأسماء الحسنى، والإمام: القوري. والإمام أبو عبد الله بن عبد الرزاق الجزولي والإمام أبو الفضل المردعي، والإمام أبو عبد الله الصفار، والإمام أبو عبد الله بن الحفيد السلوي والإمام حافظ عصره ومحدث وقته: أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي، وهذا الإمام الحضرمي عبد المهيمن قال في حقه الأستاذ: ابن حيان:

ليس في المغرب عالم ... غير عبد المهيمن نحن في العلم إسوة ... أنا منه وهو مني بالتخفيف وهي لغة: والإمام أبو عبد الله الرندي، وإمام بجاية وحافظها أبو عبد الله بن المسفر والإمام أبو محمد بن الكاتب، وإمام عصره أبو عبد الله بن عبد السلام: شارح ابن الحاجب، والإمام أبو عبد الله ابن هارون: المصنف الشهير، والإمام أبو عبد الله محمد الأجمي: قاضي القضاة، وكانت تبدو منه العجائب من الأحوال وقت السماع. قال الشيخ: وممن رأيته يغيب وتبدو منه أحوال ومكاشفات وكرامات - في السماع - الشيخ محمد النحاس. بالقاهرة المحروسة: قلت: وسمعت من غير واحد عن الشيخ الإمام قاضي القضاة: شمس الدين البساطي رحمة الله عليه أنه كان يرقص في السماع بالدفوف والشبابة، وأخبرني من شاهده وهو معتنق مع ولي الله الكبير الشهير سيدي: علي بن وفا: رضي الله عنه يرقصان بالدف والشبابة، وهذا مشهور عنه. وعمل سماع بالشام أيام وفور الناس بها

وحضره كل عالم ومفتي كان بها حتى قيل: لو وقع عليهم سقف لم يبق بها عالم ولا مفتي. ومن له اتساع علم، وذوق ومشرب ورقة طبع أدرك معنى السماع، ومن حرم ذلك فهو حمار هالك، وما يعقلها إلا العالمون.

حكاية

حكاية قال عبد اللطيف بن أبي الطاهر بن هبة البغدادي الإمام: حضرت يوما في زاوية الجنيد ببغداد يقال لها: الشونيزية مع جماعة السادة الصوفي، وبينهم شخص يقال له: محمد الطوسي ومعهم شريف ولي من أولياء الله تعالى فأحضروا قوالا ينشد: فأنشدهم: من الوافر علاني من صدودك ما علاني ... وعاودني هواك كما بداني وأنت ضمنت أنّك لي محبّ ... فديتك لم تحول عن الضمان؟ أليس الله يعلم أن قلبي ... يحبّك أيها القلب اليماني لقد حكم الزمان علىَّ حتّى ... أراني في هواكم ما أراني لقد أسكنت حبَّكَ في فؤادي ... مكانا ليس يعرفه جناني كأنّكَ قد حكمت على ضميري ... فغيرك لا يمر على لساني

فقال الشيخ: إيه، وأنشد أبياتا أخر فقام الشريف الضوفي على رأسه والتفت أذياله على رجليه، وبقي قائما على رأسه إلى أن انتصف الليل، فحمل فإذا به ميت، قلت: فأين هذا الحال الصادق البعيد من غليظ الطبع. المحروم؟! فإنا لله، وإنا إليه راجعون، نعوذ بالله من حالة الطرد، وسوء الحجاب، ونحمده سبحانه على التوفيق والإيمان ونسأله الأمان، آمين.

خاتمة

خاتمة ارتكاب الصغيرة لا يقدح في الولاية، وإن تكررت ورفعت إلى الحكام لا يعزرون عليها، لأنهم أولى من سترت عورته وأقيلت عثرته، قاله الإمام: عز الدين بن عبد السلام.

مسألة

مسألة من ارتكب أمرا فيه خلاف لا يعزر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ادرؤوا الحدود بالشبهات. قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: إن الله لا يعذب على فعل اختلف العلماء فيه، ومعلوم من مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة ممن آمن بالله ورسوله.

واختلاف المذاهب رحمة في هذه الأمة، قال الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: بعثت بالحنيفية السمحة، قال الله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج. أي: ضيق. قال الإمام: عز الدين ابن عبد السلام: إن الله تبارك وتعالى لم يوجب على أحد أن يكون مالكيا ولا شافعيا ولا حنبليا والواجب عليهم اتباع الكتاب والسنة ومن اقتدى بقول عالم فقد سقط عنه الملام، والسلام.

توضيح وبيان

توضيح وبيان وتحرير بميزان: قد غلب الجهل على أهل هذا الزمان وفشا، ولم يصدق أحدهم إلا بما عليه نشا، فلهذا يسارع كل منهم إلى التكفير والنكير، وما علم المسكين ما فاته من العلم الكثير: فاسمع أيها الجاهل، تحرير العلماء الأكابر، ولا تلتفت إلى السفلة الأصاغر، وما هم عليه من عصبية الانكار، سيما على الأولياء الكبار، حتى أن أحدهم يسفه بالمقال، ولم يدر حقيقة ما قال، وما مثل هؤلاء في تنطعهم في الغسل والوضوء ووقوعهم - بالأغراض -، إلا كما قال بعض الأكابر: ورع هؤلاء يسمى: الورع الكلبي: يرفع رجله عند البول: ويرتع بفمه في الميتة. وقديما قيل: سلاح اللئام ... قبيح الكلام ولم تزل الأشراف ... مبتلين بالأطراف سنة الله قدم بقدم ... فيمن تأخّر وتقدّم

وإذ قد علمت هذا، فاسمع التحرير من التحرير، سأل الإمام الأذرعي شيخ الإسلام: تقي الدين السبكي عن تكفير أهل الأهواء والبدع ممن خالف السنة. فقال: اعلم أنا نستعظم القول بالتكفير لأنه يحتاج إلى أمرين عزيزين أحدهما: تحرير المعتقد، وهو صعب من جهة الاطلاع على ما في القلب: وتخليصه عما يشيبه، وتحريره، ويكاد الشخص يصعب عليه تحرير اعتقاد نفسه فضلا عن غيره. الأمر الثاني: الحكم بأن ذلك كفر، وهو صعب من جهة صعوبة علم الكلام ومأخذه، وتمييز الحق فيه من غيره، وإنما يحصل ذلك لرجل جمع صحة الذهن ورياضة النفس واعتدال المزاج، والتهذيب بعلوم النظر: والامتلاء من علوم الشريعة، وعدم الميل إلى الهوى، وبهذين الأمرين يمكن القول بالتكفير أو عدمه، ثم ذلك إما في شخص خاص، وشرطه - مع ذلك - اعتراف الشخص به، وهيهات أن يحصل. وأما البينة - في ذلك - فصعب قبولها، لأنها تحتاج - في الفهم - إلى ما قدمناه. وإما في فرقة. فإنما يقال ذلك من حيث العلم الجملي، وإما على أناس بأعيانهم فلا سبيل إلى ذلك إلا بالاقرار أو ببينة ولا يكفي - في ذلك - أن يقال: هذا من تلك الفرقة لصعوبة ما قدمناه، والغالب على الفرق أنهم عوام لا يعرفون الاعتقاد، وانما يحبون مذهبا ينتمون إليه من غير إحاطة بكنهه، فلو قدمنا على ذلك وحكمنا بتكفيرهم: جر ذلك فسادا عظما، وإن كنا

نحكم من حيث الجملة على من اعتقد أنه كافر، والثاني: في تشخيصه، على أن التكفير صعب بكل حال، ولا ينكر إذا حصل شرطه. ولقد رأيت تصانيف جماعة يظن بهم أنهم من أهل العلم، ويتعلقون بشيء من رواية الحديث، وربما كان لهم نسك وعبادة، وشهرة بالعلم تكلموا بأشياء ورووا أشياء تنبي عن جهلهم العظيم، وتساهلهم في نقل الكذب الصريح، ويقدمون على تكفير من لا يستحق التكفير، وما سبب ذلك إلا ما هم عليه من فرط الجهل، والتعصب، والنشأة على شيء لم يعرفوا سواه وهو باطل، ولم يشتغلوا بشيء من العلم حتى يفهموا، بل هم في غاية الغباوة، فالأولى الإعراض عمن هذا شأنه وإن وجدت أحدا يقبل الهدي هديته وتركت عموم الناس موكولين إلى خالقهم العام بسرائرهم، يجازيهم يوم يبعثهم. انتهى.

تتميم وتكميل

تتميم وتكميل من غلب على روحه سلطان المحبة والغرام، شطح ورقص وهام، وصاحب هذا المقام لا يفرغ عن السماع والاستمتاع في كل الأحايين، والأوقات، له أفراح وأوقات، بها يحيا ويقتات. كان بعض الأولياء لا يقوم ولا يقعد إلا بالسماع حتى كان يقال في حقه من أهل بلده: الزنديق، لأنه كان إذا قرئ عليه القرآن لا يتواجد، ولا يستمع، وإذا غني له بالأشعار يستمع ويطيب، فلما حضرته الوفاة قال لأصحابه: إذا مت فغسلوني بالسماع، وإذا حملت على الأعناق فأقيموا السماع، وإذا نزلت إلى قبري كذلك، فلما مات حضر الأكابر من الفقهاء والرؤساء فاستحيى أصحابه أن يحضروا آلات الطرب. فلما فرغ من غسله وأرادوا حمله في التابوت لم يقدروا على ذلك، وتكاثر الناس على حمله فلم يستطيعوا فقال بعض من حضر من الأكابر والفقهاء: فهل أوصاكم الشيخ بوصية؟ قالوا: نعم، أوصانا أن لا نغسله إلا بالسماع، فلما حضرتم

استحيينا منكم، فقالوا: افعلوا ما أوصاكم به، فحركوا الآلات وأنشدوا، فحمل بسرعة، وهذه حكاية مشهورة ذكرها صاحب: الوحيد في أخبار أهل التوحيد، وهنا سؤال وجواب عنه، ف وهذه حكاية مشهورة ذكرها صاحب: الوحيد في أخبار أهل التوحيد، وهنا سؤال وجواب عنه، فإن قلت: هلا كان الاستماع والتواجد على كلام الله تعالى الذي هو أفضل من كلام المخلوقين وأجل وأعظم، وفي سماعه ثواب؟ قلت الجواب: كلام الله سبحانه قديم، ومستمعه حادث، ولا جامع بين القديم والحادث في مناسبة حتى يحدث في سماعه طرب وإنما يحصل في سماعه الخشوع والهيبة والتعظيم، فافهم ترشد.

وبعض القوم يسمع السماع فرحا بمقام عرس الوصال، قال الله تعالى: فرحين بما آتاهم الله من فضله. وإذا ثبتت الولاية ذهب الخوف والحزن جميعا، قال الله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم الكافي والكفيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد: خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليما كثيرا، دائما إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.) (تمت بحمد الله وحسن عونه)

الملاحق

الملاحق رقم واحد ما جاء في الوليمة وما يكره من السماع فيها سألت يحيى بن عمر عن الرجل يدعى إلى العرس، وهي الوليمة أو الختان، أو إلى صنيع، فيسمع فيه صوت بوق أو ضرب كبر أو ضرب مزهر أو ضرب عود أو طنبور، أو يعلم أن فيه شرابا مسكرا، هل ترى له أن يجيب إذا دعي؟ قال يحيى: ليس على الناس أن يجيبوا إلا إلى الوليمة، وفيها جاء الحديث. فإن جاء إلى وليمة وكان فيها ما ذكرت، فأما الكبر والمزهر والمدور فقد سهل فيه في العرس ولا بأس أن يجيب إليها، وأما غير هذا مما ذكرت مثل البوق والطنبور والعود فلا يجيب. وسألته عمن استرعاه الله رعية إذا سمع في هذا العرس اللهو: مثل البوق والكبر والمزهر أو يسمعه في دار غير دار العرس والاختان، هل يغيره أيضا؟ وهل ترى العود والطنبور مثله؟ قال يحيى: أرى أن ينهى عن ذلك كله إلا أن يكون في عرس فقد بينته قبل هذا فيما ينهى عنه، وما سهل فيه أهل العلم. وما تقول في هذه الرواية التي أخبرك بها عبيد الله بن معاوية التي في سماع أصبغ بن الفرج، قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: وسئل عن الرجل يدعى إلى صنيع فيجد فيه لعبا أيدخل؟ قال: إن كان الشيء الخفيف والدف والكبر والشيء الذي يلعب به النساء فلا أرى به بأسا. وذكر عن مالك في الدف والكبر أنه لا بأس بهما، قال أصبغ: يعني في العرس خاصة، للنساء وإظهار العرس به، وقد أخبرني عيسى بن يونس عن خالد بن الياس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أظهروا النكاح وأضربوا عليه بالغربال. يعني الدف المدور، وقال أصبغ: لا يعجبني المزهر، وهو الدف المركن.

وأحب إلي أن لا يكون مع الدف غيره، وهو الذي مضت به الرخصة في الزمان الأول في العرس، وإن ضرب معه بالكبر فلا بأس به، ولا يجوز معهما غيرهما، ولا يجوز الغناء على حال فيه ولا في غيره، وقد أخبرنا ابن وهب عن الليث بن سعد، حدثه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى البلدان أن يقطع اللهو كله إلا الدف وحده في العرس. قال يحيى: هذا رأيي وبه آخذ. وسئل سحنون عن طعام الوليمة يدعى لها الرجل، أيجيب؟ قال سحنون: أما إذا كان فيها اللهو والدف فلا أرى ذلك، وإن لم يكن فيها لهو فلا بأس بذلك، فقد جاء في ذلك من الأحاديث ما جاء. قلت ليحيى: أي شيء معنى: قد جاء فيه من الأحاديث ما جاء؟ قال: معناه أنه قد أمر أن يجيب إذا دعي. قال سحنون: وسئل مالك عن الرجل يمر على الطريق يجد فيها اللهو واللعب، أيمر أم يرجع؟ قال: فليمش وإن خاف فليرجع. قلت ليحيى: وقد أخبرتنا عن الحارث بن مسكين عن أشهب قال: سألت مالكا عمن يدعى إلى الوليمة وفيها إنسان يمشي على الحبل، وآخر يجعل على جبهته خشبة كبيرة يركبها إنسان وهو على جبهته. قال: قال مالك: لا أرى أن تؤتي وأرى أن لا يكون معهم. قيل له: أرأيت إن دخل ثم علم بهذا، أترى له أن يخرج؟ فقال: نعم، لقول الله سبحانه: فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذن مثلهم. (140 - سورة النساء) قال يحيى: ولا يجيب إذا علم أن فيها مسكرا. قلت ليحيى: فبأي قولة تقول هذا؟ وما تختار لنفسك ولنا ولعامة المسلمين أن يعملوا به؟ وقد جاء في موطأ ابن وهب قال: حدثنا سمرة بن نمير الأموي عن حسين بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - مرّ هو وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء ولعبا فقال: ما هذا؟ قالوا: نكاح فلان يا رسول الله. فقال: كمل دينه، هذا النكاح لا السفاح، ولا نكاح حتى يسمع دف أو يرى دخان. وقال ابن وهب: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أيوب بن شرحبيل: أن مر قومك فليضربوا عند النكاح الدفاف فانها تفرق بين النكاح والسفاح، وامنع الذين يضربون بالبرابط. قال أبو طاهر: يعني العيدان والطنابر. قال ربيعة بن أبي عبد الرحمان: إظهار العرس باللعب واللهو من الأمر الذي يتبع. قلت ليحيى بن عمر: ما معنى: فسمعوا غناء ولعبا؟ وتفسير قول ربيعة: وإظهار العرس باللعب واللهو؟ وهل يصح عندكم حديث سمرة بن نمير وقد

علمت أن الحارث بن مسكين كان لا يقرأ حديثه؟ قال يحيى: بهذا الحديث آخذ وقد رواه أهل العلم عن سمرة بن نمير عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، وسمرة ثقة. وإنما كان يوقف الحارث حديثه، وأما إذا حدثه سمرة بن نمير عن غير عبد الله بن ضميرة كان يقرؤه ولا يوقفه.

رقم اثنين

رقم اثنين رأي ابن حزم في اللهو وآلاته وبيع الشطرنج، والمزامير، والعيدان، والمعازف والطنابير حلال كله، ومن كسر شيئا من ذلك ضمنه إلا أن يكون صورة مصورة فلا ضمان على كسرها، لما ذكرنا من قبل، لأنها مال من مال مالكها، وكذلك بيع المغنيات وابتياعهن، قال تعالى: (وأحل الله البيع) . وقال تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) . وقال تعالى: (وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم) . ولم يأت نص بتحريم بيع شيء من ذلك، وروى أبو حنيفة الضمان على من كسر شيئا من ذلك، واحتج المانعون بآثار لا تصح أو يصح بعضها ولا حجة لهم فيها، وهي ما روينا من طريق أبي داود الطيالسي عن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن عبد الله بن زيد بن الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل

شيء يلهو به الرجل فباطل إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فأنهن من الحق. عبد الله بن زيد بن الأزرق مجهول. ولم يخل أي طريق آخر من طرق هذا الحديث من مجهول أو مدسوس. وكذلك قول صلّى الله عليه وسلّم - فيما روي عن عائشة -: إن الله حرّم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها. فيه: ليث وهو ضعيف، وسعيد بن أبي رزين وهو مجهول، وأخوه لم يسم، وقوله صلى الله عليه وسلم: إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء، فذكر منهن: واتخذوا القينات، والمعازف فليتوقعوا عند ذلك ريحا حمراء ومسخا وخسفا. وسنده: لاحق بن الحسين وضرار بن علي، والحمصي مجهولون، وفرج بن فضالة متروك، وما روي عن معاوية من أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن تسع، وذكر فيهن: الغناء والنوح. في سنده: محمد بن المهاجر ضعيف، وكيسان مجهول. وما رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الغناء ينبت النفاق في القلب. سنده عجيب جدا. وما رواه أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض. في سنده ضعف، وليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف كما أنه ليس على اتخاذ القينات، والظاهر أنه على استحلالهم الخمر بغير اسمها والديانة لا تؤخذ بالظن. وما نقل عن أنس بن مالك أنه قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من جلس إلى قينة فسمع منها صبّ الله في أذنيه الآنك يوم القيامة. موضوع مركّب ما عرف من طريق أنس ولا من رواية ابن المنكدر، وسنده مليء بالمجهولين ورووا من طريق ابن شعبان قال: روى هاشم بن ناصح عن عمر بن موسى عن مكحول عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه: وهو حديث مردود لأن هشاما وعمر مجهولان، ومكحول لم يلق عائشة. وحديث لا ندري له طريقا إنما ذكروه هكذا مطلقا أن الله تعالى نهى عن صوتين ملعونين: صوت نائحة وصوت مغنية. وهذا لا شيء. ويمضي ابن حزم في عرض مجموعة أخرى من الأحاديث تنهى كلها عن الغناء وتحذر من اللهو، ويعقب على كل حديث بالطعن فيه بعلّة من العلل، ولما أتى على جميعها قال: هذا كل ما حضرنا ذكره مما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عمن دونه عليه السلام فقد روي أن ابن مسعود قال - في تفسير قوله

تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها هزوا، أولئك لهم عذاب مهين) . -: الغناء والذي لا إله غيره. وقال فيها ابن عباس: الغناء وشراء المغنية. وفي رواية أخرى عنه: الغناء ونحوه، وروي عنه أيضا - من طريق أبي هشام الكوفي - أنه قال: الدف حرام، والمعازف حرام، والمزمار حرام، والكوبة حرم.،.. قال أبو محمد: لا حجة في هذا كله لوجوه: أحدها أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه قد خالف غيرهم من الصحابة والتابعين، والثالث أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها لأن فيها: ويتخذها هزوا، وهي صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله تعالى هزوا، ولو أن امرءا اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله تعالى ويتخذها هزوا لكان كافرا، فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم قط عز وجل من اشترى لهو الحديث ليتلهى به، ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالى فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرنا، وكذلك من اشتغل عامدا عن الصلاة بقراءة القرآن، أو بقراءة السنن، أو بحديث يتحدث به، أو بنظر في ماله، أو بغناء أو بغير ذلك فهو فاسق عاص لله تعالى. ومن لم يضيع شيئا من الفرائض اشتغالا بما ذكرنا فهو محسن. واحتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق، ولا سبيل إلى قسم ثالث؟ فقالوا: وقد قال الله عز وجل: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) . فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. فمن نوى باستماع الغناء عونا على معصية الله تعالى فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عزّ وجل وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن وفعله هذا من الحق، ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها، وقعوده على باب داره متفرجا، وصباغة ثوبه لازورديا أو أخضر أو غير ذلك، ومد ساقه وقبضها وسائر

أفعاله، فبطل كل ما شغبوا به بطلانا متيقنا ولله تعالى الحمد، وما نعلم لهم شبهة غير ما ذكرنا.. فلما لم يأت عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم تفصيل بتحريم شيء مما ذكرنا صحّ أنه كلّه حلال مطلق، فكيف وقد روينا من طريق مسلم عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجهه وقال: دعهما يا أبا بكر فانها أيام عيد، وفي رواية: وليستا بمغنيتين، نعم ولكنها قد قالت: إنهما كانتا تغنيان فالغناء منها قد صحّ، وقولها ليستا بمغنيتين: أي ليستا بمحسنتين، وهذا كله لا حجّة فيه إنما الحجة في إنكاره صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله - في إحدى الروايات - أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصحّ أنه مباح مطلق لا كراهة فيه، وأن من أنكره فقد أخطأ بلا شك. وقد روينا بسند إلى نافع مولى ابن عمر قال: سمع ابن عمر مزمارا فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافع عل تسمع شيئا؟ قلت: لا، فرفع اصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مثل هذا وضع مثل هذا. قال أبو محمد: هذه الحجة القاطعة بصحّة هذه الأسانيد ولو كان المزمار حراما سماعه لما أباح عليه السلام لابن عمر سماعه. ولو كان عند ابن عمر حراما سماعه لما أباح لنافع سماعه، ولأمر عليه السلام بكسره، ولكنه لم يفعل وإنما تجنب - عليه السلام - سماعه كتجنبه أكثر المباح من أكثر أمور الدنيا: كتجنبه الأكل متكئا، وأن يبيت عنده دينار أو درهم، وأن يعلق الستر على سهوة في البيت، وبالله تعالى التوفيق. وعن عائشة أيضا: جاء حبش بزفنون في يوم عيد في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم حتى وضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي انصرفت عن النظر. وروينا من طريق سفيان الثوري أن عامر بن سعد البجلي رأى أبا مسعود البدري، وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد وهم في عرس وعندهم غناء فقلت لهم: هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! فقالوا: أرخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح، ليس فيه النهي عن الغناء في غير العرس، وعن محمد بن سيرين أن رجلا قدم المدينة

بجوار فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فأحدت، قال أيوب: بالدف، وقال هشام: بالعود، حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر. حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان فساومه، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمان إني غبنت بسبعمائة درهم فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبعمائة درهم فإما أن تعطيها إياه وإما أن تردّ عليه بيعه فقال: بل نعطيها إياه. فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعى في بيع المغنية، وهذه أسانيد صحيحة لا تلك الملفقات الموضوعة.

رقم ثلاثة

رقم ثلاثة ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة قد تكلم الناس في الغناء: في التحريم والإباحة، واختلفت أقوالهم وتباعدت مذاهبهم، وتباينت استدلالاتهم فمنهم من رأى كراهته وأنكر استماعه، واستدل على تحريمه، ومنهم من رأى خلاف ذلك مطلقا وأباحه وصمم على إباحته، ومنهم من فرق بين أن يكون الغناء مجردا أو أضيف إليه آلة كالعود والطنبور وغيرهم من الآلات ذوات الأوتار، والدفوف والمعازف والقصب. فأباحه على انفراده وكرهه إذا انضاف إليه غيره، وحرم سماع الآلات مطلقا. ولكل طائفة من أرباب هذه المقالات أدلة استدلت بها، وقد رأينا أن نثبت في هذا الموضع نبذة من أقوالهم على سبيل الاختصار وحذف النظائر المطوله فنقول وبالله التوفيق: أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدل به من رأى ذلك، فإنهم استدلوا على التحريم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين والأيمة من علماء المسلمين، أما دليلهم من الكتاب العزيز فقول الله عز وجل: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون) . وقوله عز وجل: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) . وقوله سبحانه وتعالى: (والّذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما) . وقوله تبارك وتعالى: (ومن الناس يشتري لهم الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) . وقوله سبحانه

وتعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) . وقوله: (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) . قال ابن عباس: سامدون، هو الغناء بلغة حمير، وقال مجاهد: هو الغناء بقول أهل اليمن، سمد فلان إذا غنى. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال - في هذه الآية - (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) : إنه الغناء، ومن طريق آخر إنه الغناء وأشباهه، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هو - والذي لا إله إلا هو - الغناء، وعن مجاهد رضي الله عنه في قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) قال: صوته الغناء والمزامير، وعنه في قوله تعالى (والّذين لا يشهدون الّزور) قال: الغناء. وأما دليلهم من السنة فما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن الله عز وجل حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثم قرأت (ومن الناس من يشتري لهم الحديث ... ) وروى بو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله عز وجل إليه شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك. وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى. وعن عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه قال: نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة. وأما أقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما تغنيت قط، فتبرأ من الغناء وتبجّح بتركه. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما مرّ على قوم محرمين ومعهم قوم ورجل يغني فقال: ألا لا أسمع والله لكم، ألا لا أسمع والله لكم. وروي عن عبد الله بن دينار قال: مرّ

ابن عمر رضي الله عنهما بجارية صغيرة تغني فقال: لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه. وعن إسحاق بن عيسى قال: سألت مالك بن أنس رضي الله عنه عما ترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال: ما يفعله عندنا إلا الفساق، وقال الشعبي: لعن المغنِّي والمغَنَّي له. وقال الحكم بن عتيبة: حبّ السماع ينبت النفاق في القلب. وروي أن رجلا سأل القاسم بن محمد فقال: ما تقول في الغناء أحرام هو؟ فأعاد عليه فقال له في الثالثة: إذا كان يوم القيامة فأتي بالحق والباطل أين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل. قال القاسم: فأفت نفسك. وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا. وقال بعضهم: الغناء رائد من رواد الفجور. وقال الضحاك: الغناء مفسدة القلب، مسخطة للرّب. وقال يزيد بن الوليد - مع اشتهاره بما اشتهر به - يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا شك فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا، وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلى نفسي من الماء إلى ذي الغلة الصادي ولكن الحق أحق أن يقال. وأما أقوال الأيمة رحمهم الله تعالى فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتاب أدب القضاة: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل، وقال من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. قال القاضي حسين بن محمد: وأما سماعه من المرأة التي ليست بمحرم، فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوز بحال سواء كانت بارزة أو من وراء حجاب وسواء كانت حرّة أو مملوكة، وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته. ثم غلظ القول فيه وقال: هو دياثة. قال: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا إلى الباطل كان سفيها فاسقا. وقال مالك بن أنس: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب، قال وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم ابن سعد وحده، وكره أبو حنيفة ذلك وجعل سماع الغناء من الذنوب، قال: وذلك مذهب سائر أهل الكوفة

وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة وإبراهيم النخعي والشعبي وغيرهم لا خلاف بينهم في ذلك. قال: ولا يعرف - أيضا - بين أهل البصرة خلاف في كراهة ذلك والمنع منه. وقد تكلم الناس في إباحة الغناء وسماع الأصوات والنغمات والآلات، وهو الدف واليراع والقصب والأوتار على اختلافها من العود والطنبور وغيره، وأباحوا ذلك واستدلوا عليه وضعفوا الأحاديث الواردة في تحريمه، وتكلموا على رجالها وجرحوهم وبسطوا في ذلك المصنفات ووسعوا القول وشرحوا الأدلة، وكان ممن تكلم في ذلك وجرد له تصنيفا الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي رحمه الله تعالى، فقال - في ذلك - ما نذكر مختصره معناه: اعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة إلى كافة البشر، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وسن وشرع. وأمر ونهى، كما أمر. فليس لأحد بعده وبعد الخلفاء الراشدين الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم والاتباع لسنتهم أن يحرم ما أحل الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بدليل ناطق من آية محكمة، أو سنة صحيحة أو إجماع من الأمة على مقالته. وأما الاستدلال بالغرائب والموضوعات والأفراد من رواية المكذبين والمجروحين الذين لا تقوم بروايتهم حجة، وبأقاويل من فسر القرآن على حسب مراده ورأيه، فلا يرجع إلى قولهم ولا يسلك طريقهم، إذ لو جاز ذلك لم يكن قول أحد من الناس أولى من قول غيره. وقد استدلوا على إباحة الغناء بأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... (تقدم ذكرها جملة وتفصيلا وخاصة في ملحق ابن حزم رقم: اثنين) .

رقم أربعة

رقم أربعة حكم الرقص والسماع وسئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن جماعة من أهل الخير والصلاح والورع يجتمعون في وقت فينشد لهم منشد أبياتا في المحبة وغيرها، فمنهم من يتواجد فيرقص، ومنهم من يصيح ويبكي، ومنهم من يغشاه شبه الغيبة عن إحساسه، فهل يكره لهم هذا الفعل أم لا؟ وما حكم السماع؟ فأجاب: الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلا للنساء. وأما سماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية، المذكر بما يتعلق بالآخرة فلا بأس به. بل يندب إليه عند الفتور والسآمة لأن الوسائل إلى المندوب مندوبة والسعادة كلها في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء الصحابة الذين شهد لهم بأنهم خير القرون، ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث: فإن السماع يحرك في القلوب من هوى محبوب أو مكروه، والله تعالى أعلم. وسئل الشيخ الصالح أبو فارس عبد العزيز بن محمد القيرواني تلميذ سيدي أبي الحسن الصغير عن قوم تسموا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغناء، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاما كانوا أعدوه للمبيت عليه ثم يصلون ذلك بقراءة عشر من القرآن والذكر. ثم يغنون ويرقصون ويبكون، ويزعمون في ذلك كله أنهم على قربة وطاعة ويدعون الناس إلى ذلك، ويطعنون على من لم يأخذ بذلك من أهل العلم، ونساء اقتفين في ذلك اثرهم وعملن في ذلك على نحو عملهم. وقوم استحسنوا ذلك وصوبوا فيه رأيهم، فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوز إمامتهم وتقبل شهادتهم أم لا؟ بينوا لنا ذلك. فأجاب: بأن قال: الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة على محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين، أكرمكم الله وإيانا بتقواه ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، لاتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، قد وقفنا على ما رسمتم وتصفحنا فصوله، فالجواب فيه ما قاله بعض أيمة الدين، من

علماء المسلمين الناصحين حين سئلوا عن ذلك، من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة.) وقد ظهر ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من افتراق أمته على هذه الفرق وتبين صدقه صلى الله عليه وسلم وتحقق. ولم يكن أحد في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأمية الجاهلة الغبية الذين ولعوا بجمع أقوام جهال فتصدوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة، وعقولهم قاصرة، فدخلوا عليهم من طريق الدين وأنهم لهم من الناصحين وأن هذه الطريقة التي هم عليها هي طريق المحبين فصاروا يحضونهم على التوبة والإيثار والمحبة وصدق الأخوة، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بالكلية، وصرفه إليه بالقصد والنية. وهذه الخصال محمودة في الدين فاضلة، إلا أن الذين في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة، وطامات هائلة. وهذه الطائفة أشد ضررا على المسلمين من مردة الشياطين، وهي أصعب الطوائف للعلاج، وأبعدها عن فهم طرق الاحتجاج لأنهم أول أصل أصلوه في مذهبهم بغض العلماء والتنفير عنهم، ويزعمون أنهم عندهم قطاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق، فمن كانت هذه حالته، سقطت مكالمته، وبعدت معالجته، فليس للكلام معه فائدة، والمتكلم معه يضرب في حديد بارد، وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم. ومن لم يسقط في مهواتهم، لعله يسلم من عاديتهم وينجو من غاويتهم. واعلموا أن هذه البدعة في فساد عقائد العوام، أسرع من سريان السم في الأجسام، وأنها أضر في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام، فإن هذه المعاصي كلها معلوم قبحها عند من يرتكبها ويجتلبها، فلا يلبس مرتكبها على أحد، وترجى له التوبة منها والإقلاع عنها، وصاحب هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات وأعلى القربات فباب التوبة عنده مسدود، وهو عنه شرود مطرود. فكيف ترجى له منها التوبة وهو يعتقد أنها طاعة وقربة؟

§1/1