فتح رب البرية في شرح نظم الآجرومية

أحمد بن عمر الحازمي

مقدمة الشارح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا شرحٌ وجيز، وبيانٌ عزيز، لألفاظ نظم الآجرومية، للعلامة محمد بن آبَّ القلاوي التواتي، في علم النحو، يحل عباراتها، ويظهر معانيها، ويكشف أسرارها، ويوضح شواهدها، كان أصله دروسًا ألقيتُها في المسجد، فسُجِّلتْ ثم فُرِّغتْ، فرَغِب الطلبة في مراجعتها، وتنقيحها، فأجبتهم إلى ما رغبوه، فحررت منه ما استطعت، فزدت فيه وحذفت، حتى جاء شرحًا تقَرُّ به عين كل ناظر، يجد فيه بغيته المبتدي، ولا يستغني عن فوائده المنتهي، سميته (فَتْحَ رَبِّ البَرِية بِشَرْحِ نَظْمِ الآجُرُّومِيَّة). واللهَ أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه سميع قريب.

المبادئ العشرة لعلم النحو

مسألة لابُدَّ لكل شارع في فن من الفنون أن يتصوره قبل الشروع فيه؛ ليكون على بصيرة فيه؛ وإلا صار كمَن ركب متنَ عمياء، وخبَطَ خبْطَ ناقةٍ عشواء، ويحصل التصور المطلوب بالوقوف على المبادئ العشرة التي جمعها الناظم محمد بن علي الصبان عليه رحمة الله في قوله: إِنَّ مَبادِئ كُلِّ ... فَنٍّ عَشَرَه ... الحَدُّ وَالموضُوعُ ثُمَّ الثَّمَرَه وَنِسْبَةٌ وَفَضْلُهُ وَالوَاضِعْ ... وَالاِسْمُ الِاسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِعْ مَسَائِلٌ والبَعْضُ بِالبَعْضِ اكْتَفَى ... وَمَنْ دَرَى الجَمِيعَ حَازَ الشَّرَفَا فنقول: النحو له معنيان معنىً لغوي، ومعنىً اصطلاحي، وهو من جهة اللفظ مصدرٌ على وزن فَعْلٍ بمعنى اسم المفعول أي المَنْحُوٌّ، من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، وهذا مجازٌ مرسلٌ عندهم، والأصل في إطلاق النحو في لغة العرب بمعنى القصد، فسمي هذا العلم نحوًا لأنه مقصود، لأن النحو بمعنى القصد، ويأتي على ستِّ معاني وهي أشهرها: قَصْدٌ وَمِثْلٌ جِهَةٌ مِقْدَارُ ... قَسْمٌ وَبَعْضٌ قَالَهُ الأَخْيَارُ أما في الاصطلاح: فهو علم بأصول يعرف بها أحوال أواخر الكلم إعرابًا وبناءًا. موضوع علم النحو: الكلمات العربية من حيث البناء والإعراب.

مقدمة الناظم

ثمرة علم النحو وفائدته: أنه مفتاحٌ لفهم الشريعة، وأما صيانة اللسان عن الخطأ في الكلام فهذه ثمرة فرعية، ولا ينبغي لطالب العلم أن يجعل غايته صيانة اللسان عن الخطأ في الكلام، وإنما يكون هذا تبعًا، والأصل أن يكون علم النحو مفتاحًا للشريعة وينوي طالب العلم ذلك حتى يؤجر، لأن هذا العلم ليس من المقاصد وإنما هو علم آلة، ووسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد. حكمه: فرضُ كفاية، وقيل: فرض عين على من أراد علم التفسير، ونقل السيوطيُّ رحمه الله الإجماعَ على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يتكلم في التفسير إلا إذا كان مليًّا باللغة العربية، وليس النحو فحسب، ولذلك من شروط المفسر كما هو مذكور في موضعه أن يكون عالمًا بلغة العرب. نسبته إلى سائر الفنون: التباين، فهو مخالف لعلم الأصول، ولعلم الحديث، ولسائر العلوم، وقد يشترك مع بعضها. مسائله: هي أبوابه التي ستذكر فيما بعد في ضمن النظم. والواضع: هو أبو الأسود الدؤلي، وقيل: علي رضي الله عنه. وقيل: أبو الأسود بأمر علي رضي الله عنه. فنشرع في المقصود وبالله التوفيق، قال الناظم رحمه الله تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ ابْنُ آبَّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ ... اللهَ فِي كُلِّ الأُمُورِ أَحْمَدُ مُصَلِّيًا عَلَى الرَّسُولِ المُنْتَقَى ... وَآلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي التُّقَى

وَبَعْدُ فَالقَصْدُ بِذَا المَنْظُومِ ... تَسْهِيلُ مَنْثُورِ ابْنِ آجُرُّومِ لِمَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ وَعَسُرَا ... عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مَا قَدْ نُثِرَا واللهَ أَسْتَعِينُ فِي كُلِّ عَمَلْ ... إِلَيْهِ قَصْدِي وَعَلَيْهِ المُتَّكَلْ بدأ الناظم على عادة أهل العلم بما استقر في عرفهم بالبسملة وهي [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وذلك لأمور: أولاً: اقتداءًا بالكتاب العزيز؛ حيث بدأ ببسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. ثانيًا: اقتداءًا وتأسيًا بالسنة الفعلية؛ حيث كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كتب كتابًا ما قال: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، كما في صحيح البخاري رحمه الله تعالى. ثالثًا: التبرك بالبسملة؛ لأنَّ الباء هنا للاستعانة أو للمصاحبة على وجه التبرك، والمعنى بسم الله الرحمن الرحيم حالة كوني مستعينًا وطالبًا التوفيق والإعانة من الله عز وجل على ما جعل البسملة مبدءًا له. رابعًا: اقتداءًا بالأئمة المصنفين، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله -: وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على أن يفتتحوا كتبَ العلم بالتسمية وكذا معظم كتب الرسائل.

وأما استدلال بعضهم بحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أو أجذم أو أقطع» فهذه الروايات كلها ضعيفة. ومثلها ما جاء في الحمدلة. [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] هنا الناظم -رحمه الله- بدأ نظمه بالبسملة، وإذا استقر عمل أئمة التصنيف على ابتداء كتبهم بالبسملة فهل المراد بها المنثورات دون المنظومات؟ وهل المنظوم الذي هو الشعر كالمنثور؟ نقول: أما ما كان من المنظومات العلمية التي ضمَّنها أهل العلم مسائل العلم؛ منظومةً على بحر الرجز أو غيره فهذه باتفاق العلماء يستحب البداءة فيها بالتسمية. وما عدا ذلك ففيه قولان لأهل العلم: قولٌ بالمنع. وقولٌ بالجواز. فالأول: روي عن الشعبي أنه قال: أجمعوا أن لا يكتبوا أمام الشعر بسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن الزهري أنه قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم. والثاني: قول جمهور أهل العلم تبعًا لما نقل عن سعيد بن جبير وأبي بكر الخطيب -رحمهما الله- لأن الجواز هو الأصل. فالأصل استحباب البداءة بالبسملة في كل أمر مباح. وما عدا المنظومات العلمية فتأخذ حكمه، فما كان من الشعر محرمًا فالتسمية حرام؛ لذلك أجمعوا على أنه لا يحل لمن شرب مسكرًا أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. بل يعتبر في بعض المذاهب أنه قد كفر وارتد لأنه مستهزئ بالله. وما كان مكروهًا من الشعر كالغزل ونحوه يكره فيه البداءة بالتسمية، وما عدا ذلك فالأصل أنه مباح والتسمية تكون حينئذٍ مباحةً؛ لأن الأصل بقاء ما

كان على ما كان حتى يأتي دليل ينص على أن البسملة حينئذٍ تكون محرمةً فإذا كان مباحاً فالأصل الاستحباب. [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] نقول: [بِسْمِ اللهِ] هذا جار ومجرور، وعند النحاة أن حرف الجر إذا كان حرفًا أصليًا- كما هنا على الصحيح - فلابد أن يكون متعلِّقًا بمحذوف، وهذا المحذوف نقدره على الأصح فعلاً لا اسماً، وعامًا لا خاصًا، ومؤخرًا لا مقدَّمًا. [بِسْمِ اللهِ] فالباءُ أصليَّةٌ وقيل: زائدة، والأصحُ أنها أصليَّةٌ، فحينئذٍ تحتاج إلى متعلَّقٍ تتعلق به قال بعضهم: لابُدَّ لِلجَارِّ مِنَ التَّعلُّقِ ... بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرتَقِي إذًا لابُدَّ للحرف الجار الأصلي أن يتعلق بفعل أو ما فيه رائحة الفعل، إذًا [بِسْمِ اللهِ] جار ومجرور متعلق بفعل على الأصح وليس اسمًا، وهذا الفعل مؤَخَّرٌ لا مُقدَّمٌ، وهذا الفعل خاصٌّ لا عامٌّ. لماذا كان التقدير فعلاً؟ لأن الأصل في العمل للأفعال، وأيضًا ورد التصريح به في الكتاب والسنة فعلاً؛ قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1) {بِاسْمِ} هذا جار ومجرور متعلق بقوله: {اقْرَأْ} , و {اقْرَأْ} هذا فعل. وجاء في الحديث: «باسمك ربي وضعت جنبي» «باسمك» جار ومجرور متعلق بقوله: (وضعت). وهذا الفعل المحذوف الأرجح فيه أن نقدره متأخرًا: بسم الله أؤلف، وإنما يقدر متأخرًا لفائدتين: الأولى: الاهتمام؛ لأنه لا يتقدم على اسم الله تعالى شيء فيؤخر

لذلك، أما إذا قلت: أؤلف بسم الله فقد قدمت على لفظ الجلالة غيره، فحينئذٍ كان فيه فائدة الاهتمام، وأما تقديمه في سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فقد أجاب أهل البيان بأنَّ المقصود هنا هو القراءة، قال السيوطي في عقود الجمان: وَقَدْ يُفِيدُ فِي الجَمِيعِ الاِهْتِمَامْ ... بِهِ وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ ... مُؤَخَّرًا فَإِنْ يَرِدْ بِسَبَبِهْ تَقْدِيمُهُ فِي سُورَةِ اقْرَا فَهُنَا ... كَانَ القِرَاءَةُ الأَهَمَّ ... المُعْتَنَى إذًا قُدِّم في قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لأن القراءة هي الأهم المعتنى به في هذا المقام. الفائدة الثانية: إفادة القصر والحصر، وهو إثباتُ الحكم في المذكور ونفيه عمَّا عداه، أي بسم الله أؤلف، إذًا قُدِّم ما حقه التأخير فأفاد القصر، يعني بسم الله لا باسم غيره. ويُقدر الفعل خاصًّا يعني يقول عند التقدير: بسم الله أؤلف إذا أراد التأليف. بسم الله أشرب إذا أراد الشرب وهكذا. ولا يقدره: بسم الله أبدأ؛ لأنه عام فلا يُفهم من المقدَّر هنا فعلٌ وحدثٌ خاصٌّ قالوا: لأنَّ دلالةَ الحال أدلُّ على المقدر؛ لأنه ينوي في نفسه ما جَعل البسملةَ مبدءًا له، وهو الفعل الخاص الذي تلبس به. [بِسْمِ اللهِ] اسم مضاف، ولفظ الجلالة (الله) مضاف إليه. وهنا الإضافة من إضافة الاسم إلى المسمَّى فتفيد حينئذٍ العموم. [بِسْمِ

اللهِ] أي بكل اسمٍ هو لله، سمى به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علمه أحدًا من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده. [اللهِ] عند كثير من أهل العلم أنه هو الاسم الأعظم، والأصح أنه مشتق، وأصله الإله، حذفت الهمزة تخفيفًا، واجتمع عندنا حرفان مثلان، وهما اللامان، الأولى ساكنة، والثانية متحركة؛ فوجب الإدغام فقيل: الله، ثم فُخِّمتِ اللام بعد الفتح والضم تعظيمًا لله عزَّ وجَلَّ فقيل: الله قال ابن الجزري: وَفَخِّمِ الَّلاَمَ مِنِ اسْمِ اللهِ ... عَنْ فَتحٍْ اوْ ضَمٍّ كَعَبْدُ اللهِ [عَن فتحٍ او ضمٍّ] أي بعد فتح او ضمٍّ كما في قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} (الانشقاق:19) أي طبقًا بعد طبق. بعد فتح نحو: رأيت عبدَ الله، وبعد ضمٍّ نحو: جاء عبدُ الله. أما بعد الكسر فترقق اللام وهذا مذهب الجمهور أنَّ اللام تفخم بعد الضم والفتح، وترقق بعد الكسر. وقيل: ترقق مطلقًا. وقيل: تفخم مطلقًا. إذًا [الله] مشتق من الإله بمعنى أنه يدل على ذاتٍ متصفةٍ بصفةٍ وهي الإلهية. لأن أصله الإله -كما ذكرنا- فهو فِعَال بمعنى مفعول أي المألوه محبةً وتعظيمًا. لذلك ذُكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) لأن ألِه يألَه إلهةً وألوهةً وألوهيَّة يأتي بمعنى عبد عبادة والألوهية هي العبادة، قال رؤبة: لِلهِ دَرُّ الغَانِيَاتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهِي

[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة؛ إلا أنَّ الرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم، لأنه على وزن فعلان يدل على الامتلاء كغضبان وعطشان. وهو أيضًا أكثرُ حروفًا من الرحيم. وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا. [الرَّحْمَن] عامٌّ من جهة المعنى، خاصٌّ من جهة اللفظ، من جهة المعنى = الرحمة عامة تشمل الكفار والمسلمين والبهائم ونحوها. ومن جهة اللفظ = خاصٌّ لا يطلق إلا على الله عزَّ وجلَّ. وأما إطلاق أهل اليمامة ذلك على مسيلمة الكذاب فهو من باب تعنتهم وكفرهم قال قائلهم: سَمَوْتَ بِالمَجْدِ يَابنَ الأَكْرمَينِ أَبًا ... وَأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لاَ زِلْتَ رَحْمَانَا وقد ردَّه بعضُ الأدباء بقوله: خُصِّصْتَ بالمقْتِ يَابْنَ الأَخْبَثَينِ أَبًا ... وَأَنْتَ شَرُّ الوَرَى لاَ زِلْتَ شَيطَانًا [الرَّحِيم] خاصٌّ من جهة المعنى، عامٌّ من جهة اللفظ. من جهة المعنى = خاص بالمؤمنين قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب:43) أي لا بغيرهم؛ لأنَّ تقديم ما حقه التأخير يفيد الاختصاص، والأصل وكان رحيمًا بالمؤمنين، {بِالْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور متعلق بقوله رحيمًا، فقُدِّم ما حقه التأخير عن عامله وهو المعمول فأفاد القصر أي بالمؤمنين لا بغيرهم. ومن جهة اللفظ = عامٌّ يصح أن يطلق على غير الله تعالى تقول: جاء زيد الرحيم. ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ

أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128). هذا كلام مختصر يتعلق بالبسملة من جهة المعنى. وأما من جهة الإعراب فنقول: [بِسْمِ اللهِ] جار ومجرور متعلق بمحذوف، فعل مؤخر خاص مناسب للمقام، تقديره بسم الله الرحمن الرحيم أُؤلف أو أنظمُ. [بِسْمِ] اسم مجرور بالباء، وهو مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره. [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] بالكسر فيهما [الرَّحْمَنِ] صفةٌ أولى، و [الرَّحِيمِ] صفةٌ ثانية صفة بعد صفة، والجر فيهما سنة متبعة. قال الناظم: [قَالَ ابْنُ آبَّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ] قوله: [قَالَ] هذا فعل ماضٍ، والناظم قد سمَّى نفسه وقد أتى بجملة الحكاية، ومقتضى الظاهر أنَّ كونه حكاية عن نفسه يقتضي أن يقول: قلت لا قال، لكن أراد أن يذكر اسمه؛ لأنَّ الكتاب إذا كان مؤلفُه معلومَ الاسم ترغب النفس فيه أكثر، ففيه ترغيب للكتاب بتعيين مؤلفه ليكون أدعى لقبوله والاجتهاد في تحصيله فيثاب مؤلفه. ومدح الكتاب وذكر الاسم ليس من الأمور المعابة عند أهل التصنيف، وإنما فيه إظهار للنعمة التي أنعم الله بها عليه، وأيضًا المجهول مرغوب عنه، والناظم ناقلٌ فإذا سمَّى نفسه عرَفَ طالبُ العلم جلالةَ مَن نقل العلم فيُقبِل على ما نقل بقلبه وجوارحه فيحصل له النفع في أقرب مدَّة. وأيضًا من جهة أخرى أنَّ المقرر عند أهل التصنيف أنَّ ثَمَّ

أمورًا في مقدمات الكتب لا بُدَّ من ذكرها، وهي ثمانية، أربعة واجبة وجوبًا صناعيًا، وأربعة مستحبة استحبابًا صناعيًا. فالأربعة الواجبة هي البسملة، والحمدلة، والصلاة والسلام على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتشهد. والأربعة المستحبة هي تسمية نفسه، وقد أتى به الناظم كما ذكرنا، وتسمية كتابه، وأما بعد، وبراعة الاستهلال. قوله: [قَالَ] فعلٌ ماضٍ لفظًا مُستقبَلٌ معنى. إذًا لِمَ عدل عن الفعل المضارع وأتى بالفعل الماضي؟ نقول: التعبير بالفعل الماضي مرادًا به الاستقبال خروج عن مقتضى الظاهر فلابد فيه من نكتة وفائدة، قال السيوطي في عقود الجمان مبينا تلك النكتة: وَمِنهُ مَاضٍ عَن مُضَارعٍ وُضِعْ ... لِكَونِهِ مُحَقَّقًا نَحو فَزِعْ [ابْنُ آبَّ] هذا اسم أبيه، ولعلَّه كنيةٌ؛ لأنَّ الكنية ما صُدِّرَ بأبٍ أو أُمٍّ وعلى الأصح أو ابن أو بنت. وأراد أن يُبيِّنَ اسمَه فقال: [وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ] وهذا لضيق النظم، وإلا لو قال: محمدُ مباشرةً لأَدَّى المراد، واسمه مبتدأ، محمد خبر. وهو محمد بن آبَّ القلاوي التواتي، القلاوي الأصل من قبيلة الأقلال الشنقيطية، ومولده ومسكنه في مدينة أتوات المغربية توفي سنة ألف ومائة وستين (1160هـ) هذا هو الصواب والمشهور عند المتأخرين، ولذلك غُلِّط من شرح هذا النظم ونسبه لعبيد ربه، ولذلك نقول هذه المنظومة منسوبة لمحمد بن آبَّ لذلك الصواب في الشطر الأول أن يقال (قال بن آبَّ واسمه محمد) ولا نقول: (قال عبيد ربه محمد).

[اللهَ فِي كُلِّ الأُمُورِ أَحْمَدُ] أي قال: أحمد الله في كل الأمور، وجملة أحمد الله في محل نصب مقول القول. وأتى بالحمدلة بعد البسملة لأمور: أوَّلاً: اقتداءًا بالكتاب العزيز حيث ثنَّى بالحمد بعد البسملة فقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة:1 - 2) ثانيًا: تأسيًا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بسنته الفعلية حيث كان يفتتح خُطَبه في خِطبة النكاح ونحوها بإنَّ الحمد لله نحمده. ثالثًا:: اقتداءًا بالأئمة المصنفين في افتتاح الكتب كما قيل في البسملة. ولذلك القاعدة العامة -كما ذكر أهل العلم- أنَّه يُستحب البَداءةُ بالحمد لله في كل أمر مهم قالوا: يستحب البداءة بالحمدلة لكلِّ مصنِّفٍ، ودَارسٍ، ومُدرسٍ، ومتعلِّمٍ، ومُعلِّمٍ، ومزوِّجٍ، وخاطبٍ، وخطيبٍ، وبين يدي سائر الأمور المهمة. وأما حديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله .. » فهو ضعيف أيضًا، فلا يحتج به. قال الناظم: [أَحْمَدُ] عبَّر بالجملة الفعلية. والأصل أن يأتي بالجملة الاسمية؛ لأنها تدل على الدوام والثبوت؛ إلا أنَّه عَدَل عنها إلى الجملة الفعلية؛ لأنها تدل على التجدد والحدوث؛ لأنَّ التجددَ والحدوثَ مُقابَلٌ بما عُلِّقَ به الحمد وهو الأمور. أحمد الله في كل [الأُمُورِ] جمع أمرٍ، والمراد به الشأن، والحال، يعني في كل شؤوني

أحمد الله، فحينئذٍ كان متعلَّقُ الحمدِ شأنَ العبدِ. وشأنُ العبدِ متقلِّبٌ، فقد يكون في سرَّاء، وقد يكون في ضرَّاء. وفي الحديث: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضرَّاءُ صبر فكان خيرًا له» إذًا حالُه متقلِّبٌ بين الحالين؛ فحينئذٍ يُحمَد الرَّبُ جلَّ وعَلا على السَّراءِ والضَّراءِ، وهذا أمرٌ حادثٌ ومتجدِّدٌ، يوجد بعد أن لم يكن شيئًا فشيئًا، فحينئذٍ ناسب أن يأتي بالجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث، كُلَّما وُجدتِ النِّعمةُ سواء كانت سرَّاءَ فشكرَ، أو ضرَّاءَ فصبرَ وُجِدَ الحمدُ، بخلاف الجملة الاسمية فإنها تدل على الثبوت والدوام. [اللهَ] منصوبٌ على التَّعظيمِ، مفعولٌ به مُقدَّم. [أَحْمَدُ] فعل مضارع متأخر، إذًا قدَّمَ ما حقُّه التأخير، والقاعدة العامة = أنَّ تقديمَ ما حقُّه التأخيرُ يُفيد الحصر والقصر، وهو إثباتُ الحكمِ في المذكور ونفيُه عمَّا عَداه. وإثباتُ الحكمِ هنا هو الحمد، للمذكور وهو الربُّ جَلَّ وعَلا ونفيُه عمَّا عدا الله سبحانه. إذًا لا يَستحق الحمدَ الكاملَ إلا اللهُ عَزَّ وجَلَّ كأنَّه قال أحمدُ اللهَ لا غيرَه. ومثله قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: من الآية5) أي نعبدُ اللهَ لا غيرَه. [اللهَ فِي كُلِّ الأُمُورِ أَحْمَدُ] في كُلِّ الأمورِ مُتعلِّقٌ بقوله: أحمد. [أَحْمَدُ] مُشتَقٌ من الحمد، وهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: ذِكرُ محاسنِ المحمودِ معَ حُبِّه وتعظيمهِ وإِجلالهِ. سواءٌ كانت هذه المحاسنُ صفاتٍ لازمةً أوصفاتٍ متعديةً. فيُحمدُ الرَّبُ جَلَّ وعَلا على كُلِّ صفةٍ اتَّصفَ بها سواءٌ كانت صفةً ذاتيةً أم فعليةً. ثُمَّ بعد

الحمدلة والثناء على الله بما هو أهله عقبه بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم إظهارًا لعظمة قدره، وأداءًا لبعض حقوقه الواجبة، وامتثالا لقوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: من الآية56)) فقال: [مُصَلِّيًا] بالنَّصبِ، حالٌ مِن فاعلِ [أَحْمَدُ] أي أحمدُ اللهَ في كُلِّ الأمورِ حالةَ كوني مُصليًا على الرسول. فهي حالٌ مقارِنةٌ مِن فاعلِ أحمدُ المستتر، ومقارَنةُ كُلِّ شيءٍ بِحَسَبه، فَمُقارَنةُ لفظٍ معَ لفظٍ وقوعُه عَقِبَهُ مباشرةً، لا حَال منوية؛ بمعني أحمدُ اللهَ حالةَ كوني ناويًا في قلبي بعدَ الحمدِ أن أصلي، لأنَّ نية الصلاة ليست بصلاة. [مُصَلِّيًا] اسم فاعل مِن صلَّى الرُّباعِيِّ، أي طَالبًا من اللهِ صلاتَه على الرسول. والصلاة من الله على الرسول -كما قال ابن القيم- ثناؤُه على عبدِه في الملأ الأعلى، وصلاةُ الملائكةِ عليه ثناؤُهم عليه، وصلاةُ الآدَميينَ سؤالهُم اللهَ أن يُثني عليه ويزيدَه تشريفًا، وتكريمًا. [عَلَى الرَّسُولِ] جار ومجرور متعلِّقٌ بقوله: مصليًا، يعني أينَ مَحَلُّ الصلاةِ؟ قال: على الرسول. وهنا أتى بالصلاة ولم يذكر السلام أي أفرد الصلاة عن السلام بناءًا على أنه لا كراهة وهو الصحيح وإن كان الأفضل والأكمل الجمع بينهما للآية. و [الرَّسُول] فَعُولٌ مِنَ الرِّسَالةِ. معناه في اللغة: الذي يُتَابِعُ أخبار الذي بعثه، أخذًا من قولهم: جاءتِ الإبِلُ رَسْلاً أي مُتَتَابِعَةً. وأمَّا في الشَّرعِ فالمشهورُ عندَ الجمهورِ: أنَّه إنسان ذكر حر أُوحِيَ إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه، فإن لم يُؤمر فهو نبيٌّ، فكلُّ رَسولٍ نبيٌّ ولا عكس. قال-رحمه الله-: [عَلَى الرَّسُولِ] ولم يقُل على النَّبيِّ، لأنهم أجمعوا على أنَّ الرَّسُولَ- الذَّاتَ

التي نزلتْ عليها الرسالةُ- أَشرَفُ مِنَ النَّبيِّ. واختلفوا في أيِّهما أفضلُ = الرِّسالةُ أم النُّبوةُ؟ فالجمهورُ على أنَّ الرِّسالةَ أفضَل؛ لذلك قال: [عَلَى الرَّسُولِ] ولَم يقُل على النَّبيِّ، لشرف الرسالة على النُّبوة. [عَلَى الرَّسُولِ] هو محمَّدُ بنُ عبد اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. وإذا أُطْلِقَ الرَّسولُ وكان النَّاطِقُ من أُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم انصرفَ إليهِ لأنَّهُ صار عَلَمًا بالغلبََة. لذلك هو مُحَلَّى بِأَل كما قال ابن مالك-رحمه الله-: وَقَدْ يَصيرُ عَلَمًا بِالغَلَبَهْ ... مُضَافٌ او مَصْحُوبُ أَلْ كَالْعَقَبَهْ و [الرَّسُول] أَي إِلى النَّاسِ كَافَّةً قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف:158) إذًا حَذَفَ المتَعَلِّقَ للدلالة على عُمُومِ رسالته. [المُنْتَقَى] اسم مفعول انتُقِي- المبني للمجهول-[وَآلِهِ] عطفٌ على الرَّسُولِ، أَي مُصليًا على الرسول ومصليًا على آله. وأَضافهُ إلى الضَّميرِ لأَنَّ الصحيحَ جوازُ إضافته إلى الضَّميرِ خلافًا للكِسائي وغيره. [وَآلِهِ] أَصلُ آلٍ أَوَلٌ كَجَمَلٍ تحرَّكتِ الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبَتْ ألفًا، وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الكِسَائي. وذهب سيبويهِ إلى أَنَّ أصل آلٍ أَهْلٌ قُلِبَت الهاءُ همزةً ثم قُلِبَت الهمزةُ أَلِفًا فصار آل وغَلَّطَهُ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية - رحمه الله-[وَآلِهِ] الأصح أن يُفَسَّرَ بأتباعه على دينه. وقيل: أقاربُهُ المؤمنون. وقوله: [مُصَلِّيًا عَلَى الرَّسُولِ المُنْتَقَى وَآلِهِ] أَي ومُصليًا على آله وهم أتباعُهُ على دينه. ودليل الصلاة على الآلِ قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قولوا

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ».إذًا الصلاة على الآلِ مأمورٌ بها. [وَصَحْبِهِ] اسم جمع لصاحب كرَكْبٍ وراكب. والمراد بهم صحابة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولذلك إذا قيل: الصحابة صار علمًا بالغلبة على من اجتمع بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُؤمنًا به ومات على ذلك ولو تخلَّلت رِدَّةٌ في الأصح. كما قال ابن حجر-رحمه الله- ولكن الصلاة على الصحب لم يأت فيها نصٌّ، وإنما أجمع العلماء على إلحاقهم بالآل؛ لما للصحابة من فضل عظيم في نقل الشريعة ونحو ذلك ألحقهم أهل العلم بالآل تبعا لا استقلالا. وعطف الصحب على الآل من عطف الخاص على العام إذا فسرنا الآل بأتباعه على دينه. وإذا فسر بأقاربه المؤمنين يكون من عطف العام على الخاص. وكلاهما جائز؛ إلا أَنَّ عطف الخاص على العَامِّ جائز باتفاق. وعطفُ العَامِّ على الخَاصِّ جائز على الأصح. قال في عُقُودِ الجُمَانِ: وَذِكْرُ خَاصٍ بَعْدَ ذِي عُمُومِ ... مُنَبِّهًا بِفَضْلِهِ المحتُومِ كَعَطْفِ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ عَلَى ... مَلَائِكٍ قُلْتُ وَعَكْسُهُ جَلَا [ذَوِي التُّقَى] صفة لصحبه مجرور وجرُّه الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وهو جَمْعُ ذُو بِمَعْنَى صَاحِبٍ [ذَوِي التُّقَى] أَي أصحاب التُّقَى. يقال اتَّقَى يَتَّقِي، وتَقَى يَتْقِي كَقَضَى يَقْضِي. والتُّقَى والتَّقْوَى بمعنى واحد وهي فِعْلُ المأْمُوراتِ واجتنابُ المنهيَّاتِ.

وَبَعْدُ فَالقَصْدُ بِذَا المَنْظُومِ ... تَسْهِيلُ مَنْثُورِ ابْنِ آجُرُّومِ [وَبَعْدُ] كلمة يُؤتَى بها للانتقال من أُسلوبٍ إلى أُسلُوبٍ آخر. وهي سُنَّةٌ؛ إلا أنها مُقيدة بلفظ أَمَّا بَعْدُ، لأنها هي الواردة والمسموعة. [وَبَعْدُ] الواو نائبة عن أَمَّا النَّائبةِ عنْ مهما. وأصلُ التَّرْكيبِ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيءٍ. فأَمَّا حرف باتفاق ومَهْمَا اسم على الأصح. [وَبَعْدُ] أَي وبَعْدَ الحمدلةِ والبسملةِ فأَقول القَصْدُ .. ويجب وقوع الفاء في جواب أَمَّا قال ابن مالك: أَمَّا كَمَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ وَفَا ... لِتِلوِ تِلوِهَا وُجَوبًا أُلِفَا [وَبَعْدُ] من ظروف الغاية وهو ظرف مبهم لا يُفهَمُ معناه إلا بإضافته إلى غيره، وهو مبنيٌّ على الضَّمِّ لحذف المضاف إليه ونِيَّةِ معناه. [فَالقَصْدُ] الفاء واقعة في جواب الشَّرطِ. وهو مبتدأ. و [بِذَا المَنْظُومِ] [بِذَا] جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقوله: القَصْدُ. و [المَنْظُومِ] عطف بيانٍ أو بدل. و [تَسْهِيلُ] خبرُ المبتدأ0 [فَالقَصْدُ] القَصْدُ مصدرٌ بمعنى المفعولِ أي فالمَقْصُودُ والمُرَادُ؛ لأنَّ القَصْدَ في اللغة: إِتْيَانُ الشَّيءِ، وبابُه ضَرَبَ. يقال: قَصَدَهُ، وقَصَدَ لَهُ، وقَصَدَ إِليهِ كله بمعنى واحد. [بِذَا المَنْظُومِ] [بِذَا] اسمُ إشارةٍ لمفردٍ مذَكَّرٍ، إشارةً إلى المترَتِبِ الحاضرِ في الذهن تَنْزِيلاً للمعدوم مَنْزِلةَ الموجودِ؛ إنْ كانت المقدِّمةُ متقدِّمةً على التَّصنيف وإلا فهي على بابها لأَنَّ الأصلَ في اسم الإشارة أَنْ يكون لأَمْرٍ مَحْسُوسٍ. [بِذَا المَنْظُومِ] أَي الكِتَابِ أَنَّه

مَنْظُومٌ، والنظم التأليف وهو ضم شيء إلى شيء آخر، والمراد به الكلام الموزون قصدًا، على بحر الرجز ضرب من الشعر وزنه مستفعلن ستُّ مرات، سمي بذلك لتقارب أجزائه وقلة حروفه، والقصيدة منه أرجوزة. [تَسْهِيلُ] مصدرُ سَهَّلَ يُسَهِّلُ تَسْهِيلاً ضِدُّ التَّعْسِيرِ وهو التَّيسِيرُ. [مَنْثُورِ] اسم مفعولٍ من نَثَرَ وهو ما يُقابل الشِّعْرَ. مَنْثُورِ أبي عبدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِِ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدَ الصِّنْهَاجِيِّ المعروفِ بـ[ابْنِ آجُرُّومِ] بضمِّ الجيم والرَّاء. قيل المرادُ به بلغة البَرْبَرِ: الفقيرُ الصُّوفِيُّ. [لِمَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ] هذا تعليلٌ لقوله: [تَسْهِيلُ مَنْثُورِ ابْنِ آجُرُّومِ] وهو جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقوله تَسْهِيلُ لأنَّه مصدر. [لِمَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ] يعني حِفْظَ المَنْثُورِ لِأنَّه لا عِلْمَ إِلَّا بِحِفْظٍ. لكن لما صَعُبَ وعَسُرَ أراد أَن يُسهِّله [لِمَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ] أَي استِظْهَارَهُ عن ظهْرِ قَلْبٍ [وَعَسُرَا] الألف للإطلاق، وعَسُرَ من باب فَعُلَ ضِدُّ اليُسْرِ. [وَعَسُرَا عَلَيْهِ] أَي شق على الطالب الذي يريد حِفْظَ مَتْنِ ابنِ آجُرُّومِ [عَسُرَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مَا قَدْ نُثِرَا] الألف للإطلاق و [مَا] اسم موصول بمعنى الذي و [أَنْ يَحْفَظَ] [أَنْ] مصدرية و [يَحْفَظَ] فعل مضارع منصوب بأَنْ، وأَنْ وما دخلت عليه في تأْويل مصدرٍ فاعلٍ لعَسُرَ فعْلٌ ماضٍ، والتقدير وعَسُرَ عليه حِفْظُ المَنْثُورِ. واللهَ أَسْتَعِينُ فِي كُلِّ عَمَلْ ... إِلَيْهِ قَصْدِي وَعَلَيْهِ المُتَّكَلْ [واللهَ] جلَّ وعلا [أَسْتَعِينُ] السين للطلب يعني أطلُبُ العون من اللهِ وحْدَهُ لا من غيره، ولذا قدَّم المفعول به لإفادةِ القَصْرِ

والحَصْرِ أَي أستعين اللهَ لا غيره. و [أَسْتَعِينُ] أصلها أَسٍتَعْوِنُ [فِي كُلِّ عَمَلْ] أَي في عملي كلِّه، من إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ. سواءٌ كان ظاهرًا أو باطنًا. [إِلَيْهِ قَصْدِي] أَي قَصْدِي إِلَيهِ وقَصَدَ قَصْدَه نحا نحوه. قدَّم الجارَّ والمجرورَ لإفادةِ القَصْرِ والحَصْرِ أَي إليه لا إلى غيره. [قَصْدِي] مبتدأٌ مُؤخَّرٌ مرفوع، ورَفْعه ضمة مقدّرة على آخره- الذي هو الدَّال - منع من ظهورها اشتغال المحلِّ بحركة المناسبة. و [إِلَيْهِ] خبر مقدَّم. [وَعَلَيْهِ] جلَّ وعلا [المُتَّكَلْ] اتكل على فلان في أمره إذا اعتمده، مبتدأ مؤخَّر مرفوع، ورفعه ضمَّة مقدَّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحلِّ بسكون الوَقْف. [وَعَلَيْهِ] خبر مقدَّم.

باب الكلام

بَابُ الكَلاَمِ إِنَّ الكَلاَمَ عِنْدَنَا فَلْتَسْتَمِعْ ... لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مُفِيدٌ قَدْ وُضِعْ أَقْسَامُهُ الَّتِي عَلَيْهَا يُبْنَى ... اِسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفُ مَعْنَى فَالاِسْمُ بِالخَفْضِ وَبِالتَّنْوِينِ أَوْ ... دُخُولِ أَلْ يُعْرَفُ فَاقْفُ مَا قَفَوا قال: [بَابُ الكَلاَمِ] بدأَ به الناظم لأَنَّه هو المقصودُ بالذَّات، وأيضًا لأَنَّه الذي يقع به التَّفاهم والتَّخاطب بين النَّاس. وبعض النحاة يبدأُ بحدِّ الكلمة، وهذا نظر إلى أحد أمرين: إمَّا لكون موضوع علْمِ النَّحو هو الكلماتُ العربيَّةُ من حيث الإعرابُ والبناءُ؛ فحينئذٍ بدأَ بما يُنَاسِبُ موضوع عِلْمِ النَّحو. وإمَّا لكون الكلامِ مُرَكَّباً من كلماتٍ فهو كُلٌّ مُرَكَّبٌ من أجزاءٍ والكلمةُ جُزْؤُهُ، ومعرفةُ الجزءِ مُقَدَّمَةٌ على معرفةِ الكُلِّ طَبْعًا فقُدِّمَ تعريفُ الكلمةِ على تعريف الكلام وَضْعًا لِيُوَاِفَق الوَضْعُ الطَّبْعَ. قال رحمه الله: [بَابُ الكَلاَمِ] هذه ترجمةٌ مُؤلَّفة من كلمتَينِ: (بَابُ) و (الكَلَامِ) وهما مُرَكَّبٌ إضافي. الكلمة الثانية منهما مجرورةٌ أبدًا؛ لأنَّها مضاف إليه، وكُلُّ مضافٍ إليه فهو مجرورٌ والعاملُ فيه هو المضافُ على الصَّحيح. وأمَّا الكلمة الأُولى وهي المضافُ فلا تَلْزَمُ حالةً واحدةً، وإنَّما تختلِفُ أحكامُها من رَفْعٍ ونَصْبٍ وجَرٍٍّ باختلاف العواملِ الدَّاخلةِ عليها، فحينئذٍ قد يكون المضافُ مرفوعًا إذَا دخل عليه عاملٌ يقتضِي الرفْعَ نحو: جاء غلامُ زَيدٍ. وقد يكون المضاف منصوبًا إِذَا دخلَ عليه

عاملٌ يقتضِي نصْبَه نحو: رَأَيتُ غلامَ زَيدٍ. وقد يكون المضافُ مجرورًا إِذَا دخل عليه عاملٌ يقتضِي الجرَّ نحو: مَرَرْتُ بغلامِ زَيدٍ. وهنا يرد إشكال وهو أنَّ بابُ الكلام مركبٌ إضافيٌّ، والمركب الإضافي كالكلمة الواحدة، ومعلوم أن الكلام لابد أن يكون مركبا من مسند ومسند إليه. وما عدا ذلك لا يصح أن يكون كلامًا. وإذا أفاد المركب الإضافي لوحده دون أن يلفظ بمسند أو مسند إليه كما هو في باب الكلام نقول: لابد من التقدير، فالتقدير في مثل هذا التركيب واجب؛ لأنه كلمة واحدة أو في قوة الكلمة الواحدة، ويشترط في الكلام الاصطلاحي أن يكون مؤلفًا من كلمتين فأكثر، والتلفظ بالكلمتين هو الأصل، وقد تحذف إحدى الكلمتين للعلم بها. [بَابُ الكَلاَمِ] حصلت الفائدة الكلامية بهذا التركيب. وإذا حصلت الفائدة الكلامية نقطع بكون الملفوظ به مركبًا لأن الفائدة التامة تستلزم التركيب، فعلمنا أن ثَمَّ مقدرًا لابد من تقديره فحينئذٍ نقول في مثل هذه التراكيب: الحذف جائز والتقدير واجب. وعلى هذا فنقول: يجوز في (باب) ثلاثة أوجه: الرفع، والنصب، والجر. فأما الرفع- وهو الأرجح مطلقًا- ففيه وجهان: إما أن يكون باب خبرَ مبتدأ محذوف تقديره: هذا باب الكلام، هذا: مبتدأ وباب: خبر وهو مضاف والكلام مضافٌ إليه. وإما أن يكون العكس، وهو كون باب مبتدأ خبره محذوف تقديره: باب الكلام هذا موضعه، باب مبتدأ أول, وهو مضاف والكلام مضاف إليه، وهذا موضعه، مبتدأ ثانٍ وخبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل

رفع خبر المبتدأ الأول. وأيهما أولى؟ نقول: الأولى أن يجعل خبرًا لمبتدأ محذوف؛ لأن المبتدأ محكوم عليه، والخبر محكوم به، والأصل فيه الجهل به، وما كان مجهولاً فالأصل فيه عدم جواز حذفه إلا إذا علم. ويجوز النصب بابَ الكلام أي أقرأ بابَ الكلام فهو مفعول به لفعل محذوف جوازا. ويجوز فيه الجر على مذهب الكوفيين أي انظر في بابِ الكلام فحذف حرف الجر وبقي عمله. وهو شاذ عند البصريين. [بَابُ الكَلاَمِ] البابُ في اللغة: المدخل للشيء وقيل: فرجة في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج وعكسه. وهو حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني. وأما في الاصطلاح فهو: ألفاظ مخصوصة دالة على معانٍ مخصوصة. وبَابُ الألف فيه منقلبة عن واو- الألف إذا كانت في ثلاثي لا تكون زائدة البتة. وإنما تكون منقلبة عن أصل نحو: قَوَلَ تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت الواو ألفًا. وباع أصله بَيَعَ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الياء ألفًا- وباب ثلاثي إذًا الألف هذه لا تكون أصلاً بذاتها، وإنما هي منقلبة عن واو بدليل تصغيره على بويبٌ، وجمعه على أبواب قياسًا وعلى أبوبة وبيبان سماعًا؛ لأن القاعدة عند الصرفيين: أن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. [بَابُ الكَلاَمِ] بفتح الكاف. وهي مثلثة، ويقال: كُلام، وكِلام، لكن المعنى يختلف فالكُلام بالضم-وهو مفرد- اسم للأرض الصعبة الغليظة، يقال: هذه أرضٌ كُلامٌ. وبالكسر -وهو جمع-، كِلام جمعُ كَلْمٍ من باب نصر والمراد

به الجراحات، يقال: فلان به كِلامٌ أو قلبي به كِلامٌ يعني جراحات. ولذلك ذكر ابن يعيش في شرح المفصل أن الكلام سمي كلامًا لأنه يجرح القلب. جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لهَا الِتئَامُ ... وَلا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ [الكَلاَمِ] المشهور أنه اسم مصدر لكلَّم؛ لأن كلَّم يُكلِّم مصدره التكليم، فإذًا هو اسم مصدر. وقيل: هو مصدر سماعي. الكلام لغةً: القول وما كان مكتفيًا بنفسه. والقول: هو اللفظ الدال على معنى كرجل وفرس وزيد. واللفظ قسمان: مهمل ومستعمل، فاللفظ المستعمل هو القول. فهو أخص مطلقًا من اللفظ، لأن اللفظ جنس تحته قسمان: مهملٌ، وهو الذي لم تضعه العرب قالوا: كديز مقلوب زيد، ورفعج مقلوب جعفر، فهو مهمل من الإهمال وهو الترك أي متروك. فالقول خاصٌ بالمستعمل أو بالموضوع. وهذا قد وضعته العرب، وما لم تضعه يسمى لفظًا ولا يسمى قولاً. وما كان مكتفيًا بنفسه وما: اسم موصول بمعنى الذي يصدق على شيء أَيْ شيء اكتفى بنفسه في الدلالة على ما يدل عليه القول. فكل ما أفاد فائدة للناظر أو للقارئ دون ضميمة قولٍ إليها نقول: هذا أفاد فائدةً واكتفى بنفسه دون لفظ. وهذه خمسة أشياء -التي تفيد بنفسها دون لفظ-: الكتابة والإشارة والعقد والنصب ولسان الحال. فلو كُتب (زيدٌ قائم) فقرأت دون أن تتكلم. هل أفادك فائدة أو لا؟ لا شك أنه أفادك فائدةً. هل هو كلام أو لا؟ نقول: ليس بكلام، ولذلك تقرأ المجلد من أوله إلى آخره فتستفيد منه علمًا

فالكتاب قد أفادك لكنها دون لفظٍ. والإشارة، لوأشار لصاحبه آمرًا له بالجلوس - أشار بيده من علو إلى سفل- فالإشارة أفادت معنى للناظر إليها دون ضميمة لفظ إليها. والعقد قالوا: هذه طريقة عند العرب كانوا يعقدون الأصابع للدلالة على عدد معين، فإذا عقدت الأصابع بهيئة معينة أفادت الناظر لكن أفادته دون ضميمة لفظ. والنصب وهو جمع نصبة ما ينصب للدلالة على شيء كأعلام الأرض فلو دخل إنسانٌ مسجدًا ما، يريد أن يعرف أين القبلة فنظر إلى المحراب، فعرف اتجاه القبلة، فالمحراب أفاده فائدة وهي كون القبلة في هذا الاتجاه دون أن يتكلم أو يضم إلى ذلك لفظًا. ولسان الحال كأن ترى الرجل ووجهه فيه نوع يأس وحزن تعرف أنه حزين أو تراه سرير وقرير العين فتقول: هذا فرح، ما الذي دلك على أن هذا حزين وهذا فرح؟ تقول: بلسان حاله ومثله المسكين. فنقول هذه الأمور الخمسة اكتفت بنفسها في الدلالة على المعنى دون ضميمة لفظٍ إليها. فحينئذٍ تأخذ قاعدة عامة: كل ما دل على معنى لا يشترط فيه أن يكون لفظًا بل قد تؤخذ المعاني من الألفاظ ومن غيرها كالدوال الأربع التي ذكرناها. هذا هو حد الكلام في اللغة: القول وما كان مكتفيًا بنفسه، وأما الكلام عند النحاة فهو أخص مطلقًا من الكلام عند أهل اللغة قال رحمه الله: إِنَّ الكَلاَمَ عِنْدَنَا فَلْتَسْتَمِعْ ... لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مُفِيدٌ قَدْ وُضِعْ

[إِنَّ الكَلاَمَ عِنْدَنَا] معاشرالنحاة [عِنْدَ] مثلَّث العين عِنْدَ وعَنْدَ وعُنْدَ، والكسر أشهر. والأصل أنها ظرف زمان أو مكان، لكن في مثل هذا التركيب عند ليست بظرف زمان ولا مكان، لأنه يتكلم بلسان النحاة ولذلك قال: [عِنْدَنَا] يعني معاشر النحاة؛ لأن الكلام يختلف باختلاف الفنون، فالكلام له معنى عند الأصوليين، وله معنى عند المتكلمين، وله معنى عند المناطقة، وله معنى عند الفقهاء، كل فن إذا أطلق الكلام عندهم انصرف إلى ما اصطلح عليه بينهم، وليس المراد به الذي اصطلح عليه النحاة. ولذلك يقال الاصطلاح، والكلام في الاصطلاح: بمعنى الحقيقة العرفية التي تكون عند أرباب ذلك الفن، ولذلك نقول: كلمة الاصطلاح تتكرر معنا كثيرًا في سائر الفنون ولابد أن يضبطها طالب العلم ويعرف ما المراد بهذه الكلمة إذا أطلقها النحاة أو الفقهاء أو غيرهم لذلك نقول الاصطلاح أصله: اصتلح قلبت الفاء طاءًا لأنه من باب افتعل كما هو معلوم عند الصرفيين، والاصطلاح في اللغة الاتفاق يقال: اصطلح زيدٌ وعمرٌو إذا اتفقا. والاصطلاح في الاصطلاح يعني عند أرباب الحقائق العرفية: اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص بينهم متى أُطلق انصرف إليه. اتفاق طائفة مخصوصة سواءٌ كانوا نحاة أو أصوليين أو مناطقة أو مهندسين أو أطباء قل ما شئت، اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص بينهم متى أطلق انصرف إليه، فمثلاً الفاعل عند النحاة له معنى خاص بهم، إذا أطلق لفظ الفاعل انصرف إلى المعنى الخاص الذي هو عند النحاة

ولا ينصرف إلى الفاعل الذي هو عند أهل اللغة فإذا قال النحوي: هذا فاعل فليس المراد به من أحدث الفعل، بل المراد به الاسم المرفوع المذكور بعد الفعل. [عِنْدَنَا] لأنه يتكلم عن نفسه وعن غيره وهذا هو الأظهر. أو أنها دالة على التعظيم، ولذلك ذُكر في قول ابن مالك رحمه الله: (كلامنا) أن ابن مالك رحمه الله بلغ درجة الاجتهاد فعبر عن نفسه بـ (نَا) الدالة على التعظيم. هنا قال [إِنَّ الكَلاَمَ عِنْدَنَا] في مثل هذا التركيب نفسر عند بمعنى حُكم كأنه قال: [إِنَّ الكَلاَمَ عِنْدَنَا] أي في حكمنا معاشر النحاة، لأنه لا يمكن حمل عند هنا على الظرفية الزمانية ولا المكانية. ولذلك يقال: زيد عندي أفضل من عمرو. يعني في حكمي وليست الظرفية هنا مرادة لا الزمانية ولا المكانية، يقال: عندي كذا، فيقال: ولك عندٌ استُعمل غير ظرف، ويراد به القلب والمعقول. قوله: [فَلْتَسْتَمِعْ] الفاء عاطفة، وتستمع فعل مضارع مقرون بلام الأمر، وهو مجزوم بها، والجملة لا محل لها من الإعراب معترضة. [إِنَّ] حرف توكيد ونصب و [الكَلاَمَ] اسم إن، وخبرها [لَفْظٌ] أي إن الكلام لفظٌ عندنا أي في حكمنا [فَلْتَسْتَمِعْ] له، ذكر هنا أن تعريف الكلام عند النحاة لابد أن يكون مشتملاً على أربعة أركان: الأول: أن يكون لفظًا. الثاني: أن يكون مركبًا. الثالث: أن يكون مفيدًا. الرابع: أن يكون موضوعًا بالوضع العربي. الركن الأول: لابد أن يكون لفظًا أي ملفوظًا به، فإذا لم يكن لفظًا لا يكون كلامًا نحويًا فقوله: لفظٌ أخرج خمسة أشياء: وهي

الكتابة والإشارة والعقد والنصب ولسان الحال. هذه لا تسمى كلامًا عند النحاة لفقد الركن الأول وهو كونها ليست بلفظٍ. ولا يسمى الكلام كلامًا عند النحاة إلا إذا كان ملفوظًا به فالمقروء الذي تقرأه لا يسمى كلامًا عند النحاة وإن أفاد فائدة تامة. الركن الثاني: كونه مركبًا يعني مركبًا من كلمتين فأكثر حقيقة أو حكمًا. فنحو: زيد قائم وقام زيد، مركب من كلمتين. ونحو: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون:1) و {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:23) مركب من أكثر من كلمتين. وقولهم: حقيقة أو حكمًا، حقيقة بأن يلفظ بالكلمتين معًا كأن تقول: زيد قائمٌ. تلفظت بالكلمتين معًا. وحكما بأن تلفظ بإحدى الكلمتين دون الأخرى نحو: كيف زيدٌ؟ تقول: مريضٌ؟ فمريضٌ خبر لمبتدأ محذوف. فلم يُلفظ بالكلمتين، مع كونه مركبًا والملفوظ به كلمة واحدة، وقد دلت على المحذوف. فإذا لم يكن مركبًا انتفى التركيب فلا يسمى كلامًا، نحو: غلام زيدٍ، أو زيد، أوقام. الركن الثالث: أن يكون مفيدًا. والمقصود بالإفادة هنا أن يحسن السكوت عليه من المتكلم بحيث لا يصير السامع منتظرا لشيءٍ آخر. لو قال له: قد قام زيدٌ حصلت الفائدة التامة، فيحسن السكوت عليه من المتكلم لوجود التركيب الإسنادي، لكن لو قال: إن قام زيدٌ ... لم تحصل الفائدة التامة، فحينئذٍ لا يسمى كلامًا لأن السامع صار منتظرًا لشيء آخر، فلم تحصل الفائدة التامة فإذا لم

تحصل حينئذٍ انتفى حد الكلام فلا يصير كلامًا في عرف النحاة. الركن الرابع: وهو ما أشار إليه بقوله: [قَدْ وُضِعْ] وهنا اختُلف في تفسير الوضع هل المراد به القصد أو الوضع العربي؟ الأصح أن المراد به الوضع العربي. وهو جعل اللفظ دليلاً على المعنى- هذا في المفردات- فأخرج كل لفظٍ ليس بعربي كلغة البربر والإنجليز والفرنسي ونحوها فهذه لا تسمى كلامًا في اصطلاح النحاة مع كونها لفظًا مركبًا مفيدًا ولكنها ليست موضوعةً بالوضع العربي. ودخل بهذا القيد كلام النائم والناسي والساهي والمجنون ومن جرى على لسانه ما لا يقصده لأنهم تكلموا بكلامٍ عربي. إذا تلفظ النائم فأتى بكلام مركب من جملة اسمية أو جملة فعلية. نقول: هو لفظٌ مركب مفيدٌ وموضوع بالوضع العربي لكنه ليس مقصودًا لأنه نائم مرفوع عنه التكليف فحينئذٍ نحكم على كلامه بأنه توفرت فيه القيود الأربعة التي وضعها النحاة. أما من فسر الوضع بالقصد قال: كلام النائم والساهي ونحوه لا يسمى كلامًا لاشتراط القصد في الكلام فلابد أن يكون مقصودًا من جهة المتكلم أي إرادة المتكلم إفادة السامع، لابد أن ينوي في قلبه أنه أراد إفادة السامع. والنائم إذا قام فتكلم لم يرد إفادة السامع، فمن فسر الوضع بأنه القصد أخرج كلام النائم والمجنون والساهي ومن جرى على لسانه ما لا يقصده، ودخل معه كلام البربر والتكرور والفرنسي والإنجليزي ونحوه فيسمى كلامًا في اصطلاح النحاة ولو لم يكن موضوعًا بالوضع العربي، لكن الأصح أنه يفسر بالوضع العربي. هذه قيودٌ

أربعة من باب الاختصار ونرجع إلى المتن نفصله من جهة اللغة والاصطلاح، قال رحمه الله: إِنَّ الكَلاَمَ عِنْدَنَا فَلْتَسْتَمِعْ ... لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مُفِيدٌ قَدْ وُضِعْ [إِنَّ] حرف توكيد ونصب. والأصل في الكلام أنه لا يؤكد إلا لمترددٍ أو منكر، أما خالي الذهن فلا يؤكد له؛ لأن المخاطب عند العرب لا يخلوا من ثلاثة أحوال: الأول: أن يكون خالي الذهن من الحكم، كمن لا يعرف أنَّ (زيد مسافر) فتقول له: سافر زيدٌ تخبره بالخبر فقط فيحصل العلم بفائدة الخبر. هذا لا يجوز تأكيده عند البيانين إلا إذا نزل منزلة المتردد أو المنكر. الثاني: أن يكون مترددًا, عنده علم بالخبر لكنه شاك، زيد سافر أو لم يسافر، سمع كلامًا نحو هذا لكنه غير متأكد فيقال له: إن زيدًا مسافر، يؤتى بتوكيد لأنه متردد في النسبة. الثالث: أن يكون منكرًا للخبر، فتقول: والله إن زيدًا لمسافر، فعنده علم بالخبر؛ ولكنه منكر له فيقول: زيدٌ ليس بمسافر فحينئذٍ يجب تأكيده بمؤكد أو مؤكدين فأكثر على حسب الإنكار. وأما الطالب المبتدئ الذي يقرأ الآجرومية فليس عنده تردد ولا إنكار فلا يحتاج إلى أن يؤكد له الكلام قال في عقود الجمان: فَإِنْ تُخَاطِبْ خَالِيَ الذِّهْنِ مِنِ ... حُكْمٍ وَمِنْ تَرَدُّدٍ فَلْتَغْتَنِي عَنِ المُؤَكِّدَاتِ ........... ... ......................

ولذلك أرى أن هذا الكلام فيه حشوٌ من جهة إدخال إنَّ على الجملة فلو قال: حدُّ الكلام عندنا فلتستمع، لسلم من الاعتراض. [الكَلاَمَ] أل للحقيقة وهي التي تدخل على المعرفات، [عِنْدَنَا] متعلق بمحذوف حال من اسم إنَّ، [لَفْظٌ] خبر إنَّ، وهو من جهة اللفظ مصدر، وليس المراد به المعنى المصدري - التلفظ - بل هو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول أي الملفوظ به. وهذا مجاز مرسلٌ عند البيانيين، ومنه {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان:11) أي مخلوقات الله. واللفظ له معنيان: معنى لغوي ومعنى اصطلاحي. أما معناه في اللغة فهو: الطرح والرمي. يقال: أكلت التمرة ولفظت نواها بمعنى طرحتها ورميتها. أما في الاصطلاح فالمشهور عند النحاة أنه الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية التي أولها الألف وآخرها الياء مهملاً كان أو مستعملاً. قوله: (الصوت) اللفظ لابد أن يكون صوتًا. فإذا لم يكن صوتًا لا يقال إنه لفظ. إذًا أُخذ الصوت جنسًا في حد اللفظ، وعليه فكل لفظٍ صوت ولا عكس؛ لأن العلاقة بين جنس الحد والمحدود العموم والخصوص المطلق. وحقيقة الصوت: هو صفة مسموعة أو عرض مسموع. فكل ما يدرك بالسمع فهو صوت. ثم هذا الصوت قد يكون خارجًا من الفم، وقد يكون من غير الفم. وما كان خارجًا من الفم إما أن يكون مشتملاً على حرفٍ، وإما أن لا يكون مشتملاً على حرفٍ, والذي معنا ويسمى لفظًا هو الصوت المشتمل على بعض الحروف. حينئذٍ نقول: أخرج الصوت الذي لم يشتمل على بعض الحروف كما لو

حرك الإنسان بين أضراسه وظهر صوت غير مشتمل على بعض الحروف فلا يسمى لفظًا، لأنه وإن كان صوتًا فليس مشتملاً على بعض الحروف، فليس كل صوت خرج من الفم فهو لفظٌ بل لابد أن يكون مقيدًا بكونه مشتملاً على بعض الحروف الهجائية، والصوت الذي يخرج من الفم وليس معه حرف يسميه النحاة الصوت الساذَج الذي ليس معه حرف. المشتمل على بعض الحروف: على بعض: لأنه لا يمكن أن يوجد لفظ مشتمل على كل الحروف بل لابد وأن يكون مشتملاً على بعضها، ويتعذر أن يوجد لفظ قد اشتمل على الحروف كلها, والحروف الهجائية: نسبة إلى الهجاء وهو التقطيع، وهي إنما أخذت من الكلمات بتقطيعها, فإذا قيل: قطِّع كلمة زيد فقل: زَهْ، يهْ، دهْ بهاء السكت، ولا تقول: الزاي والياء والدال، هذا غلط لأنها أسماء للحروف، وإنما تقول: زه، يه، ده، لأنه هو الذي أُلِّف منها كلمة زيد،،فزه حرف هجاء واسمه الزاي، ويه حرف هجاء واسمه الياء، وده حرف هجاء واسمه الدال، أُلِّف من هذه الحروف الثلاثة كلمة زيد. (مهملاً كان أو مستعملاً) قسم لك اللفظ إلى قسمين: القسم الأول: اللفظ المهمل مأخوذ من الإهمال وهو الترك والهجر، وهو الذي لم تضعه العرب. كديز مقلوب زيد، ورفعج مقلوب جعفر. القسم الثاني: المستعمل، وهو ما وضعته العرب كزيد وجعفر. إذًا اللفظ جنس-وهو ما عمَّ شيئين فصاعدًا- فيشمل النوعين:

المهمل والمستعمل. وسبق أن اللفظ أخرج به خمسة أشياء الكتابة والإشارة والنصب والعقد ولسان الحال. وأدخل المهمل والمستعمل. فهو للإدخال والإخراج. [مُرَكَّبٌ] هذا نعت للفظ، على صيغة اسم المفعول وزنه مُفَعَّل، وهو مشتق من التركيب وهو في اللغة: وضع شيء على شيء مطلقًا سواء كان على جهة الثبوت أو لا, وسواء كان بينهما مناسبة أو لا. فالتركيب أعم من البناء، وأعم من التأليف، فكل بناء تركيب ولا عكس؛ لاشتراط الثبوت في البناء. وكل تأليف تركيب ولا عكس؛ لاشتراط المناسبة في التأليف. وبعض النحاة يشترط المناسبة بين المسند والمسند إليه ولذلك قال ابن مالك: (باب الكلام وما يتألف منه) ولم يقل وما يتركب منه، لأنه إذا لم تكن مناسبة -وهي إمكان إيقاع المسند من المسند إليه- فحينئذٍ ينتفي الكلام ولو وجد المسند والمسند إليه, فنحو: قام زيدٌ هذا مركب ومؤلف لأن القيام صفة، وزيد موصوف؛ فيمكن أن يقوم القيام بزيد إذًا ثمَّ مناسبة بين الفعل والفاعل. لكن لو قلت قام الجدار أو طار الجدار أو مات الجدار أو سافر السقف، مركب من فعل وفاعل. هل هو كلام أو لا؟ على مذهب ابن مالك ليس بكلام لأنه وإن وجد المسند والمسند إليه إلا أنه ليس بينهما مناسبة، فلا يمكن أن يطير الجدار. وإذا كنا ظاهرية وأسندنا المسند والمسند إليه وقلنا الجملة فعلية مركبة من فعل وفاعل فهو كلام.

وأما المركب اصطلاحا: فهوما تركب من كلمتين فأكثر حقيقة أو حكمًا. وسبق بيان هذا الحد. [لَفْظٌ مُرَكَّبٌ] إذًا قيَّدنا اللفظ بأنه مركب، فأخرج من اللفظ أمرين: المفرد والأعداد المسرودة، فالمفرد كزيد وهو لفظٌ؛ لكنه ليس بكلام، والأعداد المسرودة كواحد اثنين ثلاثة أربعة، هذه وإن أفادت إلا أنها ليست بكلام لانتفاء التركيب إذًا [لَفْظٌ] أخرج خمسة أشياء [مُرَكَّبٌ] أخرج شيئين اثنين لا ثالث لهما وهما المفرد والأعداد المسرودة. [مُفِيدٌ] نعت لمركب، على صيغة اسم الفاعل أصله مُفْيِد وزنه مُفْعِل من أفاد الرباعي مثل أكرم يكرم فهو مكرم، استثقلت الكسرة على الياء فنقلت إلى ما قبلها وهذا يسمى إعلالاً بالنقل فصار مُفِيد- بإسكان الياء وكسر الفاء-. والفائدة لغةً: ما استفيد من خيرٍ أو مالٍ أو جاهٍ. واصطلاحا: ما أفاد فائدةً -التنوين هنا للكمال يعني فائدة تامة- يحسن السكوت عليها من المتكلم. وهذا الأصح وهو أن السكوت من المتكلم. وقيل: من السامع. وقيل: من السامع والمتكلم معا. فائدةً يحسن السكوت عليها وهذا إنما يحصل عند النحاة بوجود الفعل وفاعله، أو المبتدأ والخبر. إذا وجد المبتدأ والخبر مثلا نقول: حصلت الفائدة الكلامية، فهو مفيد فائدة تامة. لأن السامع إذا سمع هذا التركيب زيد قائم، استفاد منه فائدة يحسن السكوت عليها بحيث لا ينتظر شيئًا آخر انتظارًا تامًا [مُفِيدٌ] أخرج أربعة أشياء: المركب الإضافي كغلام زيد. والمركب المزجي كبعلبك وحضرموت. والمركب

التوصيفي- التقييدي- الذي هو الموصوف وصفته جاء زيد العالم، زيدٌ العالم صفة وموصوف، هذا يسمى مركبًا تقييديًا. والمركب الإسنادي الذي لم يفد فائدة تامة. والمركب الإسنادي من حيث هو ثلاثة أقسام: الأول: مركب إسنادي مسمى به، كالجملة الفعلية قد يسمي الشخص ولده بجملة فعلية مثل: شاب قرناها، وتأبط شرًّا، فتأبط شرًّا هذا اسم رجل تقول جاء تأبط شرًّا، ورأيت تأبط شرًّا، ومررت بتأبط شرًّا، هذا مفرد كما تقول: جاء زيد، ورأيت زيدًا، ومررت بزيدٍ. وهو مركب إسنادي باعتبار الأصل لأنه فعل وفاعل ومفعول به، تأبط فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، وشرًّا مفعول به. فنقل التركيب الذي هو الجملة الفعلية وصار علمًا على شخصٍ بعينه فصار مفردًا حينئذٍ يعامل معاملة المفرد. الثاني: المركب الإسنادي غير التام نحو: إن قام زيدٌ ... هذا مركب إسنادي لكنه لم تحصل به الفائدة التامة. الثالث: المركب الإسنادي المفيد فائدةً تامة. فقوله [مُفِيدٌ] أخرج المركبات بأنواعها ماعدا المركب الإسنادي المفيد فائدة تامة. ودخل فيه ما علم ثبوته أو نفيه للسامع نحو: الضدان لا يجتمعان، والسماء فوقنا، والأرض تحتنا. [قَدْ وُضِعْ] المراد به الوضع، وهو مصدر أريد به اسم المفعول كاللفظ بمعنى الملفوظ كذلك الوضع بمعنى الموضوع. الوضع لغة: الولادة يقال: وضعت المرأة إذا ولدت. ويأتي بمعنى الإسقاط والحط يقال: وضعت عن زيد الدين بمعنى أسقطته وحططته. وأما في

الاصطلاح فهو إما أن يفسر بالقصد، وهو قول مرجوح. وإما أن يفسر بالوضع العربي وهو الأرجح. إذًا عرفنا حد الكلام وأنه [لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مُفِيدٌ قَدْ وُضِعْ] ما اشتمل على الأربعة الأركان إن انتفى واحدٌ منها انتفى الكلام، وإن انتفت الأربعة فمن باب أولى وأحرى. ثم قال: أَقْسَامُهُ الَّتِي عَلَيْهَا يُبْنَى ... اِسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفُ مَعْنَى [أَقْسَامُهُ] الضمير يعود على الكلام، أي أقسام الكلام، فأراد أن يقسم لنا الكلام لأنه ذكر أنه مركب، فحينئذٍ لابد أن يتركب من أجزاء، فيأتي السؤال ممَّ يتركب الكلام؟ قال: [أَقْسَامُهُ] وهذا يسمى استئنافًا بيانيًا، وهو ما وقع في جواب سؤال مقدر، كأن سائلاً قال له: ما هي الأجزاء التي يتركب منها الكلام؟ لأنك أخذت التركيب قيدًا في حد الكلام فقال: [أَقْسَامُهُ الَّتِي عَلَيْهَا يُبْنَى] بمعنى التي يتألف منها الكلام، من مجموعها لا من جميعها ثلاثة وقوله: [الَّتِي عَلَيْهَا يُبْنَى] احترز به من نوعه الذي إليه ينقسم، [اِسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفُ مَعْنَى] ودليل هذا التقسيم الاستقراء والتتبع، يعني نظر النحاة في كلام العرب فوجدوا أنه لا يخلو عن ثلاثة أحوال: إما أن يكون اسمًا، وإما أن يكون فعلاً، وإما أن يكون حرفًا. وذكر بعضهم دليلاً نقليًا عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال لما شكى له أبو الأسود الدؤلي العجمة قال له: انحُ لهم نحوًا واقسم

الكلام ثلاثة أشياء: اسمًا وفعلاً وحرفًا جاء لمعنى ذكره السيوطي في الأشباه والنظائر. ومن الأدلة التي يثبت بها هذا التقسيم النظر بأن يقال: الكلمة إما أن تدل على معنى في نفسها أولا، الثاني: الحرف. والأول: إما أن يقترن بزمن أولا، الثاني: الاسم. والأول: الفعل. وثمَّ إشكال إذا قيل: [أَقْسَامُهُ] الضمير هنا يعود على الكلام، والاسم والفعل والحرف هل هي أقسام للكلام أو أقسام للكلمة؟ نقول: الثاني، هي أقسام للكلمة. ولكن أحسن ما يحمل عليه اللفظ أن ثَمَّ مضافًا محذوفًا [أَقْسَامُهُ] أي أقسام أجزاء الكلام، لأن الكلام له أجزاء، وهذه الأجزاء هي الكلمات، فأقسام الأجزاء التي يتألف الكلام من مجموعها يعني من بعضها لا من جميعها ثلاثة [اِسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفُ مَعْنَى] وثم هنا بمعنى الواو؛ لأنه لا معنى للتراخي مع تساوي الأقسام، لأن الأقسام باعتبار المقسوم شيء واحد. [حَرْفُ مَعْنَى] أي وضع ليدل على معنى، والمعنى هو ما يقصد من الشيء. قال كثير من الشراح أن الحرف هنا قُيِّد بالمعنى احترازًا عن حرف المبنى؛ لأن الحرف نوعان: حرف مبنى، وحرف معنى.- حروف معاني، وحروف مباني- حروف المباني: هي التي تتركب منها الكلمة- أجزاء الكلمة كزه، يه، ده- زه يسمى حرف مبنى لأنه لا يدل على معنى وليس قسيمًا للاسم ولا للفعل. النوع الثاني: حروف المعاني وهي ما كان كلمة مستقلة بذاته وله معنى، لكنه ليس بذاته وإنما يفيد معنى إذا ضم إلى غيره من اسم أو فعل. والمراد هنا الذي جُعل قسيمًا للاسم والفعل هو حرف المعنى. والأصح أن

يقال: هذا القيد لبيان الواقع لا للاحتراز عن حروف المباني لأن الذي يصح أن يكون جزءًا للكلام هو حرف المعنى لا حرف المبنى، لمَّا قال: [أَقْسَامُهُ] يعني أقسام أجزائه خرج حرف المبنى ولم يدخل معنا حتى نحتاج إلى الاحتراز عنه. [اِسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفُ مَعْنَى] اسم وما عطف عليه خبر المبتدأ أقسام، وقدم الاسم هنا لأنه مقدم على الفعل بالاتفاق قالوا: لأن الكلام لابد له من إسناد-وهو نسبة حكم إلى اسمٍ إيجابًا أو سلبًا- والمراد بالحكم هنا في اصطلاح النحاة: الفعل، والخبر، فهو محصورٌ في شيئين لا ثالث لهما. فالفعل محكوم به فنحو: قام زيد زيدٌ محكوم عليه بثبوت القيام في الزمن الماضي وهو فاعل وقام محكوم به. وزيد قائم زيدٌ محكوم عليه وهو مبتدأ، وقائم محكوم به وهو خبر. إذًا نسبة حكم، أي الفعل والخبر، إلى اسم أي المبتدأ والفاعل ونائبه. إذا كان الإسناد بهذا المعنى فلابد له من مسند ومسند إليه،، المسند إليه هو المحكوم عليه، والمسند هو المحكوم به، المسند إليه هو المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل، والمسند هو الخبر والفعل. هذا الإسناد قد يحصل من نوع الاسم يعني قد يكون المسند إليه والمسند في نفس التركيب قد يكونا اسمين. إذًا حصل الكلام من نوع واحد، وهو الاسم نحو: زيد قائم، زيدٌ محكوم عليه، مسند إليه، وهو اسم، وقائم محكوم به، مسند وهو اسم. إذًا حصل الكلام من النوع الأول وهو الاسم، لذلك علا وارتفع عن الفعل؛ لأن الفعل لا يكون مسندًا إليه أبدًا. وإنما يكون مسندًا محكومًا به فقط،

إذًا نقص الفعل درجةً عن الاسم، وعلا الاسمُ درجةً على الفعل؛ لوقوعه مسندًا ومسندًا إليه فعلا وارتفع على أخويه الفعل والحرف. ولكون الفعل بقي له ركنٌ من ركني الإسناد، وهو كونه مسندًا أُعطي الدرجة الثانية، وأما الحرف فلا يكون مسندًا ولا مسندًا إليه. إذًا الكلام يتألف من اسمين، وكذلك من اسم وفعل، وهو أقل ما يتألف منه الكلام؛ لأنه بالإجماع لا يتألف الكلام من فعلين. ولا يتألف من حرفين. لماذا لا يتألف من فعلين؟ لأن الكلام لابد أن يكون فيه إسناد، والإسناد لابد فيه من مسند ومسند إليه، والفعل لا يكون مسندًا إليه. فلا يصح أن يقال: جاء قال! لأن (جاء) صفة في المعنى، ولذلك نص النحاة على أن الأفعال كلها الماضي والمضارع والأمر هي أوصاف في المعنى فإذا قلت: جاء زيدٌ. فقد وصفت زيدًا بالمجيء. وقام زيدٌ وصفت زيدًا بالقيام. وإذا كانت الأفعال صفاتٍ في المعنى فلابد من موصوفٍ، وأين الموصوف إذا قيل: جاء قام! فليس عندنا موصوف. فحينئذٍ لا يتألف الكلام من فعلين. ولا من حرفين من بابٍ أولى لأن الحرف لا يكون مسندًا ولا مسندًا إليه. لكن هل يتألف من حرف واسم، أو من حرف وفعلٍ؟ هذا فيه نزاع، ذهب أبو علي الفارسي إلى أنه يتألف من حرف واسم، وحصره في باب النداء نحو: يا زيد، قال: فقد حصلت الفائدة التامة وهي مستلزمة لصحة التركيب. والصحيح أنه ليس مؤلفا من حرف واسم؛ بل هذا التركيب فرع وليس بأصل؛ لأن أصل قولك: يا زيدُ أدعو زيدًا، والدليل على

ذلك أن زيدُ لو نُعت لجاز فيه النصب إتباعا للمحل. ثم نقول: هو مبني في محل نصب من أين ثبت له هذا المحل؟ لابد وأن يكون ثَمَّ عامل يعمل النصب في محل زيد، ويا حرف نداء لا تعمل النصب، والحاصل: أن هذا التركيب فرع وليس بأصل. كذلك لا يصح أن يتألف من حرف وفعلٍ خلافًا للشلوبين لأنه ذهب إلى أنَّ نحو: ما قام، مؤلف من حرف وفعلٍ، والضمير المستتر في الفعل لا يعد كلمة. والأصح أنه يُعد كلامًا فنحو: ما قام الأصل أن يعتبر الضمير المستتر أنه كلمة مستقلة بذاتها، فحينئذٍ نقول: ما حرف نفي، وقام فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو على حسب ما يعود إليه في الكلام. قال في نظم الورقات مشيرا إلى هذين المذهبين: أَقَلُّ مَا مِنْهُ الكَلَامَ رَكَّبُوا ... اسْمَانِ أَوِ اسْمٌ وَفِعْلٌ كَارْكَبُوا كَذَاكَ مِنْ فِعْلٍ وَحَرْفٍ وُجِدَا ... وَجَاءَ مِنْ إِسْمٍ وَحَرْفٍ فِي النِّدَا قوله: [اِسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفُ مَعْنَى] نأخذ منه أن أقل ما يتألف منه الكلام اسمان أو اسم وفعلٌ، ولا ينحصر الكلام في هذين النوعين، بل قد يتألف من أكثر، وابن هشام أوصلها إلى سبعٍ في شرح قطر الندى. ثم شرع-الناظم- في بيان حقيقة كل واحدٍ من هذه الأنواع الثلاثة، لأن الاسم والفعل والحرف هذه تشترك في كونها أنواعًا للكلمة، وهي قول مفرد. وتنقسم إلى اسم وفعلٍ وحرفٍ، وتمييز بعضها عن بعض يكون من جهتين: إما من جهة الحد، وإما من جهة

العلامة والأثر. والحد أضبط من العلامة لأنه مطّرد منعكس، والعلامة تطّرد ولا تنعكس. فالحد ينضبط بأنه كلما وجد الحد وجد المحدود وبالعكس كلما انتفى الحد انتفى المحدود، فالتلازم في الطرد أي في الثبوت، وفي العكس أي في الانتفاء. أما العلامة فهي ملازمة في الثبوت لا في الانعكاس. فكلما وجدت أل وجد الاسم بعدها، لكن هل كلما انتفت أل انتفى الاسم بعدها؟ يعني إذا قيل: الرجل -أل- وجدت وهي علامة على كون ما بعدها-رجل- اسمًا. إذًا وجدت أل فلابد أن يكون ما بعدها اسمًا، ولا يمكن أن يقع بعدها الفعل ولا الحرف، فهي مطّردة كلما وجدت وجد الاسم. لكن إذا انتفت فقيل رجلٌ هل انتفت الاسمية عن رجل لعدم وجود أل؟ الجواب: لا، إذًا هي غير منعكسة. ذكر الناظم هنا أربع علامات للاسم تميزه عن قسيميه الفعل والحرف فقال: فَالاِسْمُ بِالخَفْضِ وَبِالتَّنْوِينِ أَوْ ... دُخُولِ أَلْ يُعْرَفُ فَاقْفُ مَا قَفَوا [فَالاِسْمُ] هذه الفاء تُسمَّى فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، كأنه قال: إذا أردت تمييز ومعرفة كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة مما يميزها عن غيرها فأقول لك الاسم. إذًا ثمَّ شرط مقدر والاسم هذا واقع في جواب الشرط، [الاِسْمُ] أل للعهد الذكري، لأن النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأولى. والاسم لغة: ما دل على مسمى. فكل ما دل على مسمى فهو اسم في اللغة. ولذلك الفعل اسم في اللغة، والحرف اسم في اللغة. أما الاسم

اصطلاحا فهو أخص مطلقا من المعنى اللغوي فهو: كلمة دلت على معنى في نفسها ولم تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة. قوله: (كلمة) جنس في الحد، لأن المقسوم إذا عُرِّفت أقسامه لابد أن يؤخذ جنسًا في الحد فنقول: الاسم هو كلمة لأن العلاقة بين جنس الحد والمحدود هي العموم والخصوص المطلق، فكل اسم كلمة وليس كل كلمة اسمًا. لأن الكلمة أعمُّ تشمل الاسم والفعل والحرف. (دلت على معنى في نفسها) يعني كلمة ذو دلالة على معنى يستفاد منها، (معنىً في نفسها) أخرج الحرف؛ لأن الحرف لا يدل على معنى في نفسه. وليس المراد أن الحرف مسلوب المعنى بالكلية؛ وإلا لما كان فرقًا بين الحرف وبين اللفظ المهمل. ولكن مراد النحاة أنه لا معنى له يُفهم بذاته دون ضميمة كلمة أخرى. فإذا قيل: (بيت) فُهم المراد منه دون أن يسند إليه شيء آخر، فبذاته أفاد معنى. وإذا قيل: (قام) مثلا فُهم منه معنى مستقل وهو ثبوت القيام في الزمن الماضي. لكن إذا قيل (في) لا تُفهم الظرفية منه إلا إذا كان هذا الحرف في جملة تامة. فحينئذٍ كون الحرف لا يدل على معنى مرادهم لا يدل على معنى بذاته بل لابدَّ من ضميمة كلمة أخرى تكشف وتُظهر هذا المعنى. (كلمة دلت على معنى) نقول: أخرج الحرف، وبقي معنا الفعل والاسم، واشتركا في الدلالة على معنى. (ولم تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة) ولم تقترن أي الكلمة لم تقترن يعني لم يجعل في دلالتها على المعنى دلالتها على شيء آخر وهو الزمن، لأن اللفظ قد يدل على شيء واحد فقط، وقد يدل على شيئين. فمثلا دلالة لفظ بيت على

المعنى المفهوم من اللفظ شيء واحد. ودلالة زيد على الذات المشخصة شيء واحد. ودلالة قام نقول على شيئين: المصدر وهو القيام، والزمن الماضي. إذًا قوله: (ولم تقترن) هذا احتراز عن الفعل، لأن الفعل دل على معنى واقترن بأحد الأزمنة الثلاثة التي هي الماضي أو الحال أو الاستقبال. ولا يمكن أن يقترن الفعل بزمانين أو ثلاثة ولذلك قال بأحد الأزمنة. وقولنا: (ولم تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة) ليس المراد به سلب الاسم عن الزمن مطلقًا بل الزمن نوعان: زمن معين، وهو الماضي الذي دل عليه قام. والحال الذي يدل عليه يقوم. والمستقبل الذي يدل عليه قم. وثمَّ نوع آخر مطلقُ زمنٍ يعني زمن ولكنه ليس مقيدًا لا بماض ولا بحال ولا بمستقبل. نحو: أمس. فهو اسم بالإجماع، وقد دل على معنى ولم يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة. بل مدلوله والمعنى الذي دل عليه لفظ أمس هو الزمن فمعناه الزمن الماضي. لكن هل حصل اقتران المعنى بزمن؟ نقول: لا، لأن مدلول أمس شيء واحد وهو معناه وهو الزمن ولم يقترن بزمن. ونحو: صباح مدلوله زمن معين لكن ليس هو الزمن المنفي في حد الاسم، لأن الذي خصه النحاة للدلالة على الزمن الحال أو الماضي أو الاستقبال هو ما كان دالاً عليه بالفعل الماضي أو المضارع أو الأمر، فالزمن في الفعل مستفاد من الصيغة. إذًا نحكم على اللفظ بكونه اسمًا إذا دل على معنى ولم يقترن بزمن معين. أما إذا كان معناه الزمن فهو اسمٌ، أو كان معناه الزمن المعين وليس هو الزمن المعين الماضي أو الحال أو الاستقبال فهو اسمٌ. ثمَّ

ميَّزه ببعض العلامات، وذكر له أربع علامات وقد أوصلها بعضهم إلى بضع وثلاثين علامة. فقال رحمه الله تعالى: فَالاِسْمُ بِالخَفْضِ وَبِالتَّنْوِينِ أَوْ ... دُخُولِ أَلْ يُعْرَفُ فَاقْفُ مَا قَفَوا كما ذكرنا أن هذا شروع منه في بيان ما يميِّز الاسم عن قسيمه الفعل والحرف، لأن هذه الأنواع الثلاثة بينها قدر مشترك، وهذا القدر المشترك هو القول المفرد، فحينئذٍ نحتاج أن نميز ما هو القول المفرد الذي يطلق عليه إنه اسم. وما هو القول المفرد الذي يطلق عليه إنه فعل. وما هو القول المفرد الذي يطلق عليه إنه حرف. ولتمييز الاسم عن الفعل وعن الحرف علامات وهي مطردة ولكونها أسهل للمبتدئ من الحد بدأ بها الناظم. فقال رحمه الله: [فَالاِسْمُ] الفاء فاءُ الفصيحةِ -مركب إضافي- وفصيحة فعيلة بمعنى اسم الفاعل- مفعلة - مأخوذة من الإفصاح سميت بذلك لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، أفصحت أي بينت وأظهرت أن في الكلام محذوفًا كما سبق بيانه. هذه تسمى فاء الفصيحة بالتركيب الإضافي. وبعضهم جوز أن تكون بالتركيب التوصيفي الفاء الفصيحة، وبعضهم يسميها فاء الفضيحة. [فَالاِسْمُ] أل للعهد الذكري لأنه قال في الأول اسم نكرة ثم قال: [فَالاِسْمُ] أعاد النكرة معرفة. والقاعدة عند البيانيين أن النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأولى، لأن اللفظ الواحد باعتبار التنكير والتعريف إما أن تعاد النكرة نكرة نحو: جاء رجلٌ فأكرمت رجلاً. وإما أن تعاد المعرفة معرفة نحو: جاء الرجل فأكرمت

الرجل. وإما أن تعاد النكرة معرفة نحو: جاء رجلٌ فأكرمت الرجل. أو بالعكس نحو: جاء الرجل فأكرمت رجلاً. هذه أحوال أربعة لا خامس لها فإن أعيدت المعرفة معرفة أو أعيدت النكرة معرفة فهي عين الأولى. وإذا أعيدت النكرة نكرة فالثانية ليست عين الأولى. وإذا أعيدت المعرفة نكرة ففيها خلاف. وهذه قاعدة أغلبية. قال السيوطي في عقود الجمان: ثُمَّ مِنَ القَوَاعِدِ المُشْتَهَرَهْ ... إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِي ... تَوَافَقَا كَذَا المُعََّرفَانِ شَاهِدُهَا الَّذِي رَوَينَا مُسْنَدَا ... لَنْ يَغْلِبَ اليُسْرَينِ عُسْرٌ أَبَدَا إذًا [أل] هذه نقول: للعهد الذكري، وهي التي عهد مصحوبها ذكرًا. ومصحوب أل لفظ اسم. تقول: الرجل مصحوب أل كلمة رجل، فالذي دخلت عليه أل هو مصحوبها. فإذا قيل إن أل هنا للعهد الذكري فحقيقتها: هي التي عهد مصحوبها ذكرًا، يعني ذكر مدخولها سابقًا نكرة ثم أعيد بأل، وهنا ذكر مدخولها سابقًا في قوله: أَقْسَامُهُ الَّتِي عَلَيْهَا يُبْنَى ... اِسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفُ مَعْنَى قال: [بِالخَفْضِ] الاسم مبتدأ، وخبره جملة يعرف، فالاسم يعرف بالخفض و [بِالخَفْضِ] جار ومجرور متعلق بقوله: [يُعْرَفُ] أي يميز عن قسيميه الفعل والحرف بالخفض وما عطف عليه. أما العلامة الأولى فأشار إليها بقوله: [بِالخَفْضِ] أي مسمى الخفض

وهو الكسرة، فالاسم يعرف بمسمى الخفض لا بلفظ الخفض. فلابد من تقدير مضاف. والخفض لغة: ضد الارتفاع، وهو التذلل والخضوع. واصطلاحًا: الكسرة التي يحدثها عامل الجر. ولذلك لابد في هذا الموضع من تقييدها بالكسرة التي يحدثها عامل الجر، لا مطلق الكسرة، لأن الكسر مطلقًا دون أن يكون مرتبطًا بعامل الجر ليس علامة للاسم، وإلا كلما وَجَد المبتدئ الكسر في لفظ حكم عليه بأنه اسم! فأمسِ اسم مبني على الكسر وليست علامة على الاسمية، ونحو: قمِ الليل، الكسرة هنا دخلت على اللفظ ولا يجوز الحكم على مدخولها بكونه اسما من جهتين: أولاً: كون مدخول هذه الكسرة فعلا. والثاني: كون هذه الكسرة لم يحدثها عامل الجر. فليست العلامة مطلق الكسرة، وإنما الكسرة التي يحدثها العامل، وعامل الجر محصورٌ في عاملين لا ثالث لهما، وهما المضاف وحرف الجر كما سيأتي في موضعه. أما ما ناب عنها- الفتحة والياء - فبعض أهل العلم لا يرى أنها تكون مميزة للاسم عن غيره، لأن المبتدئ قد يرى ضربَ زيدٌ عمرًا، فضربَ كلمةٌ وهي فعل، فلو قيل: الفتحة تنوب عن الكسرة كما في قولك: مررت بأحمدَ، نابت الفتحة عن الكسرة هنا لأنه ممنوع من الصرف، لو رأى ضربَ قال هذه مثل مررت بأحمدَ. والياء كذلك لا تصلح أن تكون علامة، لأن المبتدئ لو رأى تضربين قال: هذه الياء مثل الياء في قولك: مررت بالمسلمين. فيحتمل أنها نابت عن الكسرة. فحينئذٍ لا يصح تمييز الاسم عن الفعل بما ينوب عن الكسرة، وإنما يقيد بالكسرة لأن ما

ينوب عن الكسرة وهو الفتحة والياء ليس مختصًا بالاسم وإنما يشترك فيه الاسم والفعل والحرف. فإذا جاءت كلمة مكسورة وأحدثها عامل الجر؛ كقولك: (مررت بغلام زيدٍ) نقول: بغلامِ اسم، لوجود الكسرة التي أحدثها عامل الجر، وهو الباء. وزيد من غلام زيدٍ اسم، لوجود الكسرة التي أحدثها عامل الجر وهو المضاف على الأرجح. العلامة الثانية أشار إليها بقوله: [وَبِالتَّنْوِينِ] أي فالاسم يعرف بالخفض فيميز عن قسيميه الفعل والحرف بدخول مسمى الخفض، وكذلك يميز عن قسيميه الفعل والحرف بدخول التنوين يعني مسمى التنوين، وليس لفظ التنوين هو الذي يدخل على الاسم وإنما مسماه، فقولك: زيدٌ فيه ضمتان: الضمة الأولى علامة الرفع. والضمة الثانية عوض عن التنوين. والتنوين مصدر نوَّن ينون تنوينًا، وهو في اللغة التصويت، يقال: نون الطائر إذا صوَّت. وأما في الاصطلاح فقد عرفه السيوطي في همع الهوامع بقوله: هو نونٌ تثبت لفظًا لا خطًا. هذا تعريف مختصر، وأجود من قولهم: نون زائدة ساكنة تلحق الآخر لفظًا لا خطًا. نقول: نونٌ تثبت لفظًا لا خطًا، لأن النون الزائدة الساكنة قد تلحق الفعل، وقد تلحق الحرف، وقد تلحق الاسم، فهي مشتركة، وليس كل نون زائدة ساكنة تلحق الآخر نحكم على مدخولها بكونه اسمًا، وإنما تقيد بكونها تثبت لفظًا لا خطًا، يعني وجودها في النطق فقط فأما في الكتابة فلا. فحينئذٍ إذا وجدت النون الزائدة الساكنة متصلة بآخر الكلمة وهي ثابتة خطا

فلا نحكم على مدخولها بكونه اسماً؛ لأن التنوين الذي يكون علامة للاسم لا يكتب. فإذا كُتب لم يختصَّ بالاسم بل يدخل الاسم والفعل والحرف. فإذا وجد التنوين دل على أن مدخوله اسم تقول: جاء زيدٌ، فزيدٌ دخله التنوين لفظًا لا خطًا إذًا هذا التنوين نحكم عليه بأنه علامة على اسمية مدخوله. أما إذا كتب نونا ساكنة هكذا (نْ) فليس من خصائص الاسم كما في قول الشاعر: أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَنْ ... وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُِ لَقَدْ أَصَابَنْ قوله: العتابن-وهو اسم محلى بأل- دخله التنوين، لكنه ليس بعلامة، لأن التنوين الذي يكون علامة على اسمية الكلمة لا يجامع أل، وهنا قد وجد مع أل. وأيضا ثبت هذا التنوين خطًا، فلما ثبت خطًا وجامع أل علمنا أنه ليس من خصائص الأسماء. وقوله: أصابنْ -وهو فعل ماض- دخله التنوين، ويُكتب نونا ساكنة زائدة على آخر الكلمة. إذًا النون التي تثبت خطًا هذه ليست بتنوين حقيقة وإن سماها بعض النحاة تنوينا. وليست علامة لاسمية الكلمة. ولذلك تدخل على الاسم المحلى بأل كما في العتابن، وتدخل على الفعل الماضي كما في أصابن، وتدخل على الحرف أيضًا كما في قول الشاعر: قَالَتْ بَنَاتُ العَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْنْ ... كَانَ فَقِيرًا مُعْدِمًا قَالَتْ وَإِنْنْ وإنن: هي إن الشرطية- وهي حرف - دخلها التنوين خطا. أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِنْ

قد: هي حرف ودخلها التنوين خطا. وأنواع التنوين عشرة جمعها بعضهم في بيتين: أَقْسَامُ تَنْوِينِهِمْ عَشْرٌ عَلَيكَ بِهَا ... فَإِنَّ تَحْصِيلَهَا مِنْ خَيْرِ مَا حُرِزَا مَكِّنْ وَعَوِّضْ قَابِلْ وَالمُنّكَّرَ زِدْ ... رَنِّمْ أَوِ احْكِ اضْطَرِرْ غَالٍ وَمَا هُمِزَا لكن المشهور المطرد عندهم والذي يعتبر قياسًا مطردًا في لغة العرب والذي يختص بالاسم دون الفعل والحرف هي أربعة أنواع: الأول: تنوين التمكين. والثاني: تنوين التنكير. والثالث: تنوين المقابلة. والرابع: تنوين العوض. هذه هي المشهورة في كتب النحاة وقلَّ من ذكر بقية العشرة. الأول: تنوين التمكين- مركب إضافي - من إضافة الدال إلى المدلول، يعني إذا وجد التنوين دل على معنى؛ لأن التنوينَ حرفُ معنى. فحينئذٍ فلابد له من معنى يدل عليه. فتنوين التمكين أي تنوين دالٌ على تمكين الاسم في باب الاسمية. قالوا: الاسم الذي هو قسيم للفعل والحرف على ثلاثة أنواع:- لأنه شارك الفعل في كونه داخلا تحت جنس وهو القول المفرد وشارك الحرف كذلك- الاسم ثلاثة أنواع: اسم فيه شبه من الحرف، واسم فيه شبه من الفعل، واسم ليس فيه شبه من الفعل ولا من الحرف. فالنوع الأول: بعض أفراد وآحاد الاسم أشبهت الحرف، والحرف مبني، فإذا أشبه الاسم

الحرف أخذ حكمه- بشرطه وسيأتي في موضعه- فحينئذٍ نحكم على بعض الأسماء بأنها مبنية لكونها أشبهت الحرف. قال ابن مالك: وَالِاسْمُ مِنْهُ مُعْرَبٌ وَمَبْنِي ... لِشَبَهٍ مِنَ الحُرُوفِ مُدْنِي إذًا علة بناء الأسماء محصورة عند ابن مالك بشبه من الحروف مدني، يعني قريب ليس مطلق الشبه. النوع الثاني: وبعض أفراد وآحاد الاسم أشبهت الفعل، وهو الممنوع من الصرف، لأن الفعل ممنوع من الجر، وممنوع من التنوين؛ فإذا أشبه الاسم الفعل أخذ حكمه، وهو المنع من الجر والمنع من التنوين. النوع الثالث: اسم خالص، لم يشبه الحرف فيبنى، ولم يشبه الفعل فيمنع من الصرف. لأن ما أشبه الحرف أخذ حكمه، وما أشبه الفعل أخذ حكمه. وهذا خالص من الشبهين فعلا وارتفع، فهو أعلى من الجميع، لأن الذي أشبه الحرف خرج من باب الإعراب بالكلية وصار مبنيًا، والأصل في الأسماء الإعراب. إذًا خرج عن حكمه أصالة فهو أدنى المراتب. وأعلى من ذلك مرتبة الاسم الذي أشبه الفعل لأنه لم يخرج عن الإعراب بالكلية، وإنما خرج عن بعض أنواع الإعراب، وهو الجر بالكسر والمنع من التنوين، إذًا بقي على إعرابه ولكنه سلب بعض الصفات التي أعطيت للأسماء، وأعلى من ذلك مرتبة ودرجة وهو يعلو الجميع: الاسم الخالص من شبه الحرف ومن شبه الاسم. قالوا: ما الذي يميز لنا هذا النوع؟ أعطوه تنوينا سموه تنوين التمكين يعني تنوين دالٌ على تمكين الاسم في باب الاسمية

والإعراب بحيث لم يشبه الحرف فيبنى، ولا الفعل فيمنع من الصرف، وهو اللاحق للأسماء المعربة، ومختص بها. وإذا أطلق التنوين عند النحاة انصرف إليه لأنه هو الأصل. النوع الثاني: تنوين التنكير- مركب إضافي - من إضافة الدال إلى المدلول، أي تنوين يدل على أن مدخوله نكرة، فلا يدخل المعارف. وضابطه: أنه اللاحق ببعض الأسماء المبنية فرقًا بين معرفتها ونكرتها. وهو بابان: اسم الفعل، والأعلام المختومة بويه، إلا أنه سماعي في اسم الفعل؛ قياسي في الأعلام المختومة بويه. فاسم الفعل كصهٍ، وصه اسم فعل أمر قد يكون معرفة، وقد يكون نكرة. إذا أردت أن تميز النكرة عن المعرفة فأدخل التنوين واحكم عليه بكونه نكرة. ولذلك نقول: تنوين التنكير، تنوين دال على أن مدخوله نكرة لا معرفة. فإذا قلت صهٍ فهو نكرة، وإذا قلت صهْ دون تنوين فهو معرفة. وثم فرق من جهة المعنى= إذا قلت: صهٍ فهو أمر بالسكوت مطلقًا. وإذا قلت: صه-من غير تنوين- صار معرفة، فهو أمر بالسكوت عن حديثٍ معين، يعني اسكت عن هذا الكلام ولك أن تتكلم في غيره. ومثله إيهٍ بمعنى زدني، إذا قلت: إيهٍ يعني زدني من كلامك مطلقا، وإذا قلت: إيه-من غير تنوين- يعني زدني من هذا الحديث المعين الذي تتكلم فيه. وأما الأعلام المختومة بويه فنحو: سيبويهٍ وسيبويهِ، سيبويهِ-من غير تنوين- معرفة، الذي هو سيبويه إمام النحاة. وسيبويهٍ-منونا- نكرة؛ لأن سيبويهٍ علم مختوم بويه، وهو مبني، فالتنوين إذا دخله فهو تنوين التنكير.

النوع الثالث: تنوين المقابلة، وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم، نحو: مسلماتٍ؛ لأنه لما جمع مسلم - جمع مذكر سالم - سلب عنه التنوين الدال على التمكين فقيل: مسلمو فحصل فيه قصور قالوا: إذًا لابد من تعويضه وجبر خاطره، لأنه سُلب أمرًا يدل على تمكنه في باب الاسمية والإعراب. فعوضوه نونًا، هذه النون عوض عن التنوين ولذلك يقال في إعرابها: عوض عن التنوين في الاسم المفرد، لأن الاسم المفرد الذي هو معرب وليس فيه شبه بالحرف ولا بالفعل فهو في أعلى الدرجات والذي يدل على هذه المكانة وهذه الرفعة والمرتبة هو التنوين، فإذا سلب يُخشى عليه من توهم الانحطاط فعوض عن هذا التنوين بنون تدل عليه. النوع الرابع: تنوين العوض. وهو ثلاثة أقسام: 1 - عوض عن حرف كجوارٍ وغواشٍ. وهذا النوع قد فصلته في شرح الملحة. 2 - عوض عن كلمة وهو اللاحق لكلٍ وبعض، فكل وبعض ملازم للإضافة للمفرد، لكن قد ينفك عنه ويحذف في اللفظ ويعوض عنه التنوين، نحو: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء:84) أي كلُّ إنسانٍ. ولذلك جاء مصرحًا به {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء:13) ونحو: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة:253) أي على بعضهم.

3 - أن يكون عوضًا عن جملة أو جمل. وهو اللاحق لـ (إذ) ونحوها، وقد يكون عوضًا عن جملة واحدة، نحو: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} (الواقعة:84) أي وأنتم حينئذ بلغت الروح الحلقوم. فحذفت هذه الجملة اختصارًا وعوض عنها التنوين. وقد يكون عوضًا عن جمل. نحو قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة].وأصل التركيب يومئذ زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها. هذا أصل التركيب، فحذفت هذه الجمل الثلاثة وأُتي بالتنوين فقيل: (يومئذٍ). العلامة الثالثة: دُخُولُ أَلْ يعني قبول الكلمة لأل علامة عليها بكونها اسما؛ لأن أل من خصائص الأسماء كما أن الخفض والتنوين من خصائص الأسماء. والأصل أن الشيء لا يميز إلا بما اختص به، وما كان مشتركًا لا يصلح أن يكون علامة تميزه عن غيره. وليس المراد بالدخول بالفعل يعني لابد أن نحكم على الكلمة بأنها اسمٌ لوجود أل، بل بمجرد قبوله لأل. فرجل من قولك: جاء رجلٌ اسمٌ بدليل قبوله لأل، ولا يشترط أن توجد أل بالفعل بل كونه قابلاً لها يكفي في الحكم بالاسمية. قال الناظم: [ألْ] ولم يقل الألف واللام، لأنه جرى على مذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي وهو كون المعرِّف أل برمتها. لأن ثمَّ خلافًا إذا قيل أل المعرفة علامة من علامات الأسماء هل هي حرفان

أم حرف واحد؟ فيه أربعة مذاهب، والمشهور قول الجمهور عند المتأخرين أن اللام وحدها هي المعرفة ولذلك قال الحريري: وَآلَةُ التَّعْرِيفِ أَلْ فَمَنْ يُرِدْ ... تَعْرِيفَ كَبْدِ مُبْهَمِ قَالَ الكَبِدْ وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهَا الَّلامُ فَقَطْ ... ..... ..................... يقصد به مذهب الأخفش وتبعه المتأخرون، لكن الأصح عند المحققين أن أل برمتها هي المعرفة، وأن الهمزة همزة قطع، وإنما سهلت في درج الكلام لكثرة استعمالها. وقيل: بل همزة وصل. والأصح مذهب الخليل أنها همزة قطع وليست همزة وصل. وثم ضابط للمذاهب عندهم، يقولون: اثنان ثنائيان، واثنان أحاديان. اثنان من العلماء قالوا: بأن المعرف ثنائيان وهما الخليل وسيبويه، واثنان أحاديان يعني اثنان من العلماء قالوا: بأن المعرف حرف واحد، الأخفش على أنها اللام فقط. والمبرد على أنها الهمزة فقط. وقد فصلت المسئلة في شرح الملحة. [دُخُولِ ألْ] مطلقًا سواءٌ كانت معرفة أم زائدة أم موصولة، والمعرفة وهي التي تفيد التعريف يعني إذا دخلت على النكرة أفادت وأثرت في مدخولها التعريف، فهي أَلْ المعرفة. والتي لا تفيد تعريفًا هي الزائدة، وضابطها التي دخلت على الأعلام كالعباس واليزيد، لأنهالم تؤثر التعريف، فعباس هذا علم والمعرَّف لا يُعرَّف، فإذًا إذا دخلت عليه أَلْ نقول: العباس أَلْ هذه زائدة لأنها لم تفد التعريف، كذلك إذا دخلت على واجب التنكير كالتمييز، قال الشاعر:

رَأَيتُكَ لَمَّا أَنْ عَرَفْتَ وُجُوهَنَا ... صَدَدْتَ وَطِبْتَ النَّفْسَ يَا قَيْسُ عَنْ عَمْرِو فالنفس تمييز، والتمييز يجب أن يكون نكرة على مذهب البصريين، فحينئذٍ دخلت أَلْ على واجب التنكير فحكمنا على أَلْ بكونها زائدة. والموصولة تدخل على الصفة التي هي اسم فاعل واسم مفعول والصفة المشبهة. واختلف في أفعل التفضيل وأيضًا الصفة المشبهة، قال ابن مالك: وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَةُ أَلْ ... وَكَوْنُهَا بِمُعْرَبِ الأَفْعَالِ قَلْ والصفة الصريحة وهي اسم الفاعل واسم المفعول هي التي تكون مدخول أَلْ. وهذه مختلف فيها وابن مالك يقول: وكونها بمعرب الأفعال قل: أي قلَّ دخولها على الفعل المضارع المعرب لقول الفرزدق: مَا أَنْتَ بِالحَكَمِ التُّرْضَى حُكُومَتُهُ ... وَلاَ الَأصِيلِ وَلاَ ذِي الرَّأيِ وَالجَدَلِ دخلت أَلْ على الفعل (ترضى) وهو فعل مضارع مغير الصيغة فحينئذٍ لا يمكن أن تجعل علامة على اسمية الكلمة، لأن الذي يدل على الاسمية لابد أن يكون خاصًا بالاسم ولا يجوز دخوله على غير الاسم. [أَلْ] مطلقًا أما الاستفهامية كما أثبتها بعضهم فهي تدخل على الفعل، نحو: الفعلت؟ أَلْ هذه حرف استفهام. والصحيح أنَّ [أَلْ] سواء كانت أل معرفة، وهي ما أفادت التعريف. أو زائدة وهي الداخلة على الأعلام أو على واجب التنكير، أو كانت موصولة،

بأنواعها كلها علامة على الاسمية، خلافًا لابن مالك رحمه الله في الموصولة بأنها ليست من خصائص الأسماء ولذلك قال: وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَةُ أَلْ ... وَكَوْنُهَا بِمُعْرَبِ الأَفْعَالِ قَلْ يعني تدخل على الصفة الصريحة: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة. وكذلك يقل دخولها على الفعل المضارع. وإذا دخلت على الصفة وعلى الفعل المضارع صارت مشتركة، وإذا صارت مشتركة حينئذٍ لا يصح جعلها علامة تميز الاسم عن الفعل. والأصح مذهب الجمهور بل حكي الإجماع على أنها من خصائص الأسماء. وما سمع من دخولها على الفعل فهو ضرورة. ولذلك ذكر ابن هشام رحمه الله تعالى في شذور الذهب عن عبد القاهر الجرجاني أنه بالإجماع يعني انعقد إجماع النحاة أن دخول أل الموصولة على المضارع شاذٌ فيحفظ ولا يقاس عليه. وحينئذٍ تكون أل الموصولة من خصائص الأسماء ودخولها على الفعل كما في قول الفرزدق شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. إذًا دخول أل هذا عام. [فَاقْفُ مَا قَفَوا] بفتح الفاء [فَاقْفُ] أيها الطالب، أي اتبع. قال في القاموس: قَفَوْتُه قَفْوًا وَقُفُوًّا تبعته. وهذا الأصل في طالب العلم أن يكون متبعًا لغيره من الأئمة. والعلامة الرابعة أشارإليها بقوله: وَبِحُرُوفِ الجَرِّ وَهْيَ مِنْ إِلَى ... وَعَنْ وَفِي وَرُبَّ وَالبَا وَعَلَى وَالكَافُ والَّلاَمُ وَوَاوٌ وَالتَّا ... وَمُذْ ... وَمُنْذُ وَلَعَلّ حَتَّى

[وَبِحُرُوفِ الجَرِّ] يعني يعرف ويميز الاسم عن قسيميه بدخول حروف الجر. وهل يشترط دخول حروف الجر كلها أم واحد منها؟ نقول: بل واحد منها. وعليه تكون الإضافة هنا جنسية، والإضافة الجنسية تبطل معنى الجمعية فحينئذٍ يصدق المضاف على القليل والكثير، والمراد هنا أنه يصدق بالواحد منها. فقوله [وَبِحُرُوفِ الجَرِّ] أي يميز ويعرف الاسم عن قسيميه بدخول حرفٍ واحد من حروف الجر. وليس المراد بالدخول الدخول العقلي وإنما الدخول النقلي-وهذا يقال أيضا في دخول أل والتنوين والكسر- يعني قبول اللفظ للخفض والتنوين ودخول أل وحروف الجر لابد أن يكون مما جَوَّز العرب دخوله عليه، أما مجرد التجويز العقلي فهذا لا يكون مسوغًا له. إذًا [وَبِحُرُوفِ الجَرِّ] يعني بواحد من حروف الجر؛ لأنه متى دخل حرف واحد ثبتت الاسمية وحُكم بها. المصنف صاحب الأصل- وهو ابن آجروم- كوفي المذهب عبارته على مذهب الكوفيين، والكوفيون يعبرون بالخفض، والبصريون بالجر؛ حيث قال [فَالاِسْمُ بِالخَفْضِ] ثم قال [وَبِحُرُوفِ الجَرِّ] إذًا جمع بين المذهبين ولا إشكال في هذا لأن المسألة اصطلاحية. ثم استطرد فأراد أن يبين للطالب المبتدئ بعض حروف الجر؛ ليحكم بوجودها على أن ما بعدها يكون اسمًا، فأخذ يعدها وذكر منها خمسة عشر حرفًا. وذكر ابن مالك عشرين حرفًا، وزيد عليه حرف واحد فالمجموع واحد وعشرون حرفًا. قال ابن مالك:

هَاكَ حُرُوفَ الجَرِّ وَهِيَ مِنْ إِلَى ... حَتَّى خَلاَ حَاشَا عَدَا فِي عَنْ عَلَى مُذْ مُنْذُ رُبَّ الَّلامُ كَيْ وَاوٌ وَتَا ... وَالكَافُ وَالبَا وَلَعَلَّ وَمَتَى هذه عشرون حرفًا بالاستقراء، وزيد عليها لولا، واقتصر الناظم هنا على خمسة عشر حرفًا. [وَبِحُرُوفِ الجَرِّ وَهْيَ مِنْ] هي الضمير يعود على الحروف، إذًا مدلوله جمع (هْيَ) مبتدأ، و (مِنْ) خبر ومدلوله شيء واحد. إذًا المبتدأ دل على الجمع، والخبر دل على المفرد، وشرط المبتدأ والخبر التطابق فلا يجوز أن يكون المبتدأ مثنى والخبر مفردا كما أنه لا يجوز أن يكون المبتدأ مفردا والخبر مثنى فلا يصح نحو: زيد قائمان، والزيدان قائمٌ. إذًا لابد من التطابق إفرادًا وتثنية وجمعًا. وهذا إشكال يرد عند أرباب المتون، فقوله: [وَهْيَ مِنْ] لابد من الجواب عنه. فنقول: (هي) مبتدأ، و (من) خبر، وهو مفرد لكنه لما أراد أن يخبر عن (هي) وهو جمع في المعنى، قالوا: راعى العطف قبل الحمل، فحينئذٍ أخبر بـ (من) وما عطف عليه؛ لذلك يقال في الإعراب الصحيح الدقيق (هي) مبتدأ و (من) وما عطف عليه خبرٌ للمبتدأ، فحينئذٍ قد راعى العطف قبل الحمل يعني قبل الإخبار، فإذا راعى العطف قبل الإخبار فحينئذٍ يكون قد أخبر بجمع عن جمع؛ لأنه قال: هي-ومدلوله جمع الذي هو الحروف- ثم قال: [مِنْ إِلَى وَعَنْ ..... الخ فأخبر عن المبتدأ بجمع فحصل التطابق، إذًا لا إشكال. [وَبِحُرُوفِ الجَرِّ وَهْيَ مِنْ إِلَى] وكذلك يقال: في [أَقْسَامُهُ] [اِسْمٌ] فيما سبق [أَقْسَامُهُ] هذا مبتدأ [اِسْمٌ] هذا خبر. أقسامه جمعٌ [اِسْمٌ] هذا خبر، وهو مفرد فكيف أخبر عن الجمع بالمفرد؟

تقول: راعى العطف قبل الحمل. اسمٌ وما عطف عليه خبر؛ لأنه أخبر عن الأقسام باسم وفعل وحرف معنى. [وَهْيَ مِنْ إِلَى وَعَنْ وَفِي وَرُبَّ وَالبَا] هذه الحروف تبحث في كتب خاصة، ومن أجودها مغني اللبيب لابن هشام، وعليه حاشية للدسوقي. [وَهْيَ مِنْ] وقدمها لأنها أم الباب، لأنها تجر ما لا يجر غيرها كعند وبعد. وتدخل على الظاهر والمضمر ومنه قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (الأحزاب: من الآية7). ولها معانٍ ومن معانيها الابتداء زمانًا أو مكانًا، نحو: قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الإسراء:1) نقول: {من} هنا للابتداء المكاني. {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} (التوبة:108) {من} هنا للابتداء الزماني. [إِلَى] معطوفة على [من] بحرف عطف محذوف. وهل يجوز حذف حرف العطف؟ نقول: في الشعر جائز باتفاق، وفي النثر فيه خلاف. فالحرف الثاني [إِلَى] وثنى بها لأنها في مقابلة مِنْ، ومن معانيها الانتهاء مكانًا وزمانًا. {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (الإسراء:1) إِلَى هنا للانتهاء المكاني. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة:187) إِلَى هنا للانتهاء الزماني. [وَعَنْ] ومن معانيها المجاوزة، وهي لغة: البعد تقول: رميت السهم عن القوس. ولذلك يقولون في ضابط المجاوزة اصطلاحًا: بعد الشيء عن المجرور بها بواسطة إيجاد مصدر ذلك العامل. رميت السهم عن القوس أي باعدت السهم عن القوس بواسطة إيجاد الرمي. [وَفِي] ومن معانيها الظرفية،

والظرف لغة: الوعاء. واصطلاحًا: كون الشيء في المجرور بها، وتكون ظرفية حقيقة وذلك أن يكون للظرف احتواء وللمظروف تحيز، نحو: الماء في الكوز. وتكون ظرفية مجازية وذلك إذا فقد الشرطان نحو: النجاة في الصدق، أو الأول نحو: زيد في الصحراء، أو الثاني، نحو: العلم في الصدور. [وَرُبَّ] حرف جر شبيه بالزائد، واختلف في معناها فقيل: للتقليل. وقيل: للتكثير. والأصح أنها للتقليل قليل وللتكثير كثير. ولكنها لا تجر كل اسم وإنما تجر بخمسة شروط. أولها: أن تكون في صدر الكلام يعني لا يجر بها إلا في أول الكلام. تقول: رُبَّ رجلٍ كريمٍ لقيته. ثانيها: أن يكون مجرورها نكرة. فتختص بالنكرات ولذلك من علامات النكرة دخول رُبَّ عليها. ثالثها: أن تكون النكرة موصوفة تقول: رب رجل كريم. رابعها: أن يكون عاملها مؤخرا رب رجل كريم لقيته. خامسها: أن يكون متعلَّق رب فعلاً ماضيًا. وهذه الشروط مجتمعة في قولك: (رب رجل كريم لقيته) (رب) جاءت مصدرة، ورجل نكرة فمدخولها نكرة، ثم وصفت النكرة بكريم، والفعل متأخر وهو لقيته، وهو فعل ماض. وإعراب الجملة: رب: حرف جر شبيه بالزائد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. رجل: مبتدأ مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الشبيه بالزائد. كريم صفة. وجملة لقيته خبر المبتدأ. ولذلك لما كان المبتدأ في اللفظ مجرورًا، وفي المحل مرفوعًا جاز في الصفة وجهان: رب رجل كريمٍ بالجر إتباعا

للفظ، ورب رجل كريمٌ بالرفع إتباعا للمحل. يعني يجوز أن تراعي في الصفة المحل فترفع، ويجوز أن تراعي اللفظ فتجر. وتقول: ربَّ رجلٍ كريمٍ لقيتُ. رب: حرف جر شبيه بالزائد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. رجل: مفعول به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الشبيه بالزائد. لماذا فرقنا هنا قلنا: مفعول به وفي الأول قلنا: مبتدأ، لأن الفعل لقيته قد استوفى مفعوله. وهنا رب رجلٍ كريم لقيت لم يستوف مفعوله فنصب رجلا مفعولاً به. وكريمٍ فيه وجهان: الجر إتباعا للفظ، والنصب إتباعا للمحل. [وَالبَا] يعني الباء من حروف الجر. قال: [مِنْ إِلَى وَعَنْ وَرُبَّ] بلفظها، ولما جاء عند الباء قال: [البَا] لأن ما كان على حرف واحد يحكى باسمه لا بمسماه، وما كان على حرفين فأكثر من الحروف يحكى باسمه، تقول: مِنْ صارت علمًا ومسماها مِنْ. ولذلك نقول: أعربنا في البيت [مِنْ] خبرًا وهي حرف، والخبر مسند، والحرف لا يقع مسندًا ولا مسندًا إليه. نقول: لما قصد لفظه صار علمًا. ومثله الفعل قد يكون اسمًا كما إذا قلت: ضربَ فعلٌ ماض، ويضربُ فعلٌ مضارع، واضربْ فعلُ أمر. في هذه التراكيب نقول: ليست بأفعال، وإنما يحكم على ضرب بأنه فعلٌ في التركيب في الجملة الفعلية نحو: ضربت زيدًا أو ضرب زيدٌ عمرًا. في هذا التركيب ضرب فعل، فيما عداه إذا أُخبر عنه فحينئذٍ صار علمًا واسما ليس بفعل، ولذلك نقول: ضرب زيدٌ، زيدٌ فاعل مرفوع بضرب، دخل

عليه حرف الجر الباء، وحرف الجر لا يدخل إلا على الاسم، فكيف دخلت على ضرب وهو فعل؟ نقول: قصد لفظه، والفعل إذا قصد لفظه ولم يَرد في جملة بمعنى أنه مقصود المعنى حينئذٍ يعامل معاملة الأعلام فيكون اسمًا يدخل عليه التنوين وحرف الجر. ولذلك تقول: ضرب فعل ماض، هذه جملة مركبة من مسند ومسند إليه، وهي كلام، فيصدق عليها حد الكلام، كأنك قلت: زيدٌ قائم، أخبرت عن زيد بالقيام فهي جملة اسمية. مثلها ضرب فعل ماض أخبرت عن (ضرب) أنه فعل ماضٍ فضرب وقع مسندًا إليه، والمسند إليه لا يكون إلا اسمًا، فحينئذٍ نقول ضرب في هذا التركيب اسمٌ. فنقول: [والبا] أي مسمى الباء، لابد من التقدير؛ لأنه على حرف واحد فيحكى باسمه لا بمسماه. ومن أشهر معانيها التعدية نحو: ذهبت بزيد. والإلصاق نحو: مررت بزيد. وتأتي للقسم أي الحلف فتدخل على لفظ الجلالة-وهو الذي لا يجوز الحلف إلا به- فتعمل بلا شرط؛ لأن القاعدة أن ما جاء على الأصل في الاستعمال يعمل بلا شرط، ولذلك نقول: الأصل في العمل للأفعال، فلا يشترط في الفعل لإعماله شروط، لكن الاسم لا يعمل إلا بشروط وقيود لأنه فرعٌ، وكذلك الحروف لا تعمل إلا بشروط، فيشترط في الفروع ما لا يشترط في الأصول. الباء أصل في القسم إذًا يعمل بلا شرط، ولذلك يذكر معه فعل القسم فتقول: أقسم بالله، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (فاطر:42) ويجوز حذف فعل القسم، وتستعمل مطلقا فتقول: بالله عليك إلا أخبرتني في

قسم الإخبار وغيره. وتدخل على الظاهر والمضمر تقول: بالله وبه لأفعلن كذا. [وَعَلَى] من حروف الجر أيضًا، ومن أشهر معانيها الاستعلاء، وهو لغة: العلو والارتفاع، والاستعلاء اصطلاحًا: تفوُّق الشيء على المجرور بها بواسطة إيجاد مصدر ذلك العامل. تقول: زيد على السطح. ومنه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) على معناه حقيقة يعني استوى استواءً يليق بجلاله، وهو علو خاص. [وَالكَافُ] من حروف الجر أيضًا، أي مسمى الكاف، هنا حكاه بالاسم ولم يحكه بالمسمى؛ لأنه على حرف واحد. والقاعدة عند أهل اللغة أن ما كان على حرف واحد حكي باسمه، وما كان على حرفين حكي بالمسمى. ومن أشهر معانيها التشبيه، وهو مشاركة أمر لأمر آخر في المعنى. نحو: ليلى كالبدر. [والَّلاَمُ] أي مسمى اللام من حروف الجر. وهي تكسر مع الظاهر نحو: لِزيد، وتفتح مع غير ياء الضمير نحو: لَه ولَك ولَنا. واللام تأتي للملك، وللاختصاص، والاستحقاق، وضابط اللام التي تدل على الملك أنها تقع بين ذاتين، وتدخل على من يملك، نحو: المال لزيد، فالمال ذات وزيد ذات، ودخلت اللام على زيد وهو يملك يعني يصح منه الملك، فحينئذٍ نحكم على اللام بأنها للملك. واللام التي للاختصاص أن تقع بين ذاتين، وتدخل على ما لا يملك، نحو: اللجام للفرس، والحصير للمسجد. فالحصير ذات والمسجد ذات، إذًا وقعت بين ذاتين ودخلت على المسجد وهو لا يملك. واللام التي للاستحقاق أن تقع بين ذات ومعنى، وتدخل

على الذات نحو: الحمد لله نقول: هذه للاستحقاق، وعند بعضهم يجوز أن تكون للملك والاختصاص. فالحمد معنى ولله ذات دخلت عليها اللام. [وَوَاوٌ] المراد بها واو القسم، فهي حرف جر إذا أراد بها القسم. [وَوَاوٌ] هي حرف قسم لكنها فرعٌ وليست أصلا، وحينئذٍ لا يجوز إعمالها الجر إلا بشروط ثلاثة أولها: أنها تختص بالظاهر ولا تدخل على الضمير. ثانيها: يجب حذف فعل القسم معها فيقال: والله، ولا يجوز أن يقال: أقسم والله. ثالثها: أنها لا تستعمل في قسم الإخبار فلا يقال: والله أخبرني. [وَالتَّا] أي مسمى التاء، وهي حرف قسم أيضا، وهي فرع عن الواو-كما أن الواو فرع عن الباء- فيشترط فيها ما اشترط في الواو، ويزاد عليها أنها تختص بلفظ الجلالة، نحو قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (الأنبياء:57) وقد سمع ترب الكعبة، وسمع تالرحمن لكنه قليل، والقياس المطرد (تالله). [وَمُذْ وَمُنْذُ] هذان الحرفان يعتبران من حروف الجر، لكنهما لا يدخلان على كل اسم بل على اسم الزمان المعين فقط، ولذلك قال ابن مالك: وَاخْصُصْ بِمُذْ وَمُنْذُ وَقتًا ... .................... إذًا لا تدخل على كل اسم زمان، وإنما اسم الزمان المعين- المحدد - الذي له أول وآخر، نحو: ما رأيته مذ يومِ الجمعة فمذ حرف جر، ويومِ اسم مجرور بمذ وعلامة جره الكسرة. إذًا دخلت مذ على يوم الجمعة وهو اسم زمان معين. ومثله ما رأيته منذ يومنا. ولا يصح أن يقال ما رأيته مذ زمانٍ أو مذ وقتٍ، لأنه زمن

غير معين مبهم. [مُذْ وَمُنْذُ] قد يكونان بمعنى (من) الابتدائية، وقد يكونان بمعنى (في) الظرفية. قال ابن مالك: وَإِنْ يَجُرَّا فِي مُضِيٍّ فَكَمِنْ ... هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى فِي اسْتَبِنْ وإن يجرا: أي مذ ومنذ. وإن يجرا في مضي فكمن هما: إذا كان ما بعدهما من الزمن المحدد ماضيا فهما في مقام (من) الابتدائية، فإذا قلت: ما رأيته مذ يوم الجمعة-وكان يوم الجمعة سابقا- كان تقديره ما رأيته من يوم الجمعة لأن مجرورها ماضٍ. وإذا كان حاضرًا, قال: وفي الحضور معنى في استبن: في الحضور أي في يومنا، تقول: ما رأيته مذ يومنا، يعني في يومنا لأنه زمن حاضر. وقد اختلف النحاة في مذ ومنذ، هل هما أصلان أم أحدهما أصل والآخر فرع؟ المشهور وعليه الجمهور أن منذ هي الأصل ومذ فرع، فمذ أصلها منذ وإنما حذفت منها النون تخفيفًا، وهذا قول الجمهور قالوا: والدليل أنك لو سميت رجلاً بمذ صار علمًا، فإذا أردت تصغيره تقول: مُنَيذٌ على وزن فُعَيل، من أين جاءت النون في المصغر؟ قالوا: القاعدة أن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، فلما قلت: منيذ رجعت النون المحذوفة، فدل على أن الأصل منذ، ومذ مقتطعة منها. [وَلَعَلّ] قلَّ من ذكرها من حروف الجر وهي لغة عُقيل. وبعضهم يحكم عليها بالشذوذ يعني يقول الجر بها شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. ومنه قول القائل: لَعَلَّ أَبِي المِغْوَارِ مِنْكَ قَرِيبُ ... ................

وقول الآخر أيضًا: لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَينَا ... بِشِيءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ الشاهد قوله: لعل اللهِ .. وإعرابه: لعل حرف جر وترج شبيه بالزائد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، فحينئذٍ ما بعده على أصله قبل دخول لعل. الله: مبتدأ مرفوع بالابتداء ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الشبيه بالزائد. [وَلَعَلّ] فيها أربع لغات لَعَلَّ بالفتح، ولعلِّ بالكسر مع إثبات اللام فيهما، وعَلَّ بحذف اللام وبالفتح، وعَلِّ بحذف اللام وبالكسر. [حَتَّى] من حروف الجر أيضا، وهي من الحروف الدالة على الانتهاء مثل (إلى) وإن كانت إلى هي الأصل، ولذلك تجر الآخر وغيره، تقول: سرت إلى آخر الليل، فجرت الآخر، وتقول: سرت إلى نصف الليل، وهذا دون الآخر. وأما (حتى) فتدل على الانتهاء لكنها لا يصح أن يجر بها ما دون الآخر. وإنما يجر بها الآخر والمتصل بالآخر نحو: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر:5) فمَطْلَعِ مجرور حتى وهو هنا متصل بالآخر. وتقول: أكلت السمكة حتى رأسِها. الرأس هل هو مأكول أم لا؟ في مثل هذا التركيب يجوز ثلاثة أوجه: حتى رأسِها، وحتى رأسُها، وحتى رأسَها. الأول: أكلت السمكة حتى رأسُها. فحتى ابتدائية، ورأسُها مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: حتى رأسُها مأكول. الثاني: أكلت السمكة حتى رأسَها. معطوف على ما قبلها، وحتى عاطفة. الثالث: أكلت السمكة حتى رأسِها يعني النهاية بلغت إلى الرأس، وحتى حرف جر.

ثم لما أنهى علامات الاسم-وقد ذكر لك أربعا منها- انتقل بعد ذلك لذكر الجزء الثاني مما يتألف الكلام من مجموعه لا من جميعه وهو الفعل فقال: وَالفِعْلُ بِالسِّينِ وَسَوْفَ وَبِقَدْ ... فَاعْلَمْ وَتَا التَّأْنِيثِ مَيْزُهُ وَرَدْ ذكر لك أربع علامات للفعل، كما ذكر للاسم أربع علامات. [وَالفِعْلُ] أل للعهد الذكري- وهي التي عهد مصحوبها ذكرًا- يعني والفعل الذي ذُكر آنفًا في أقسام أجزاء الكلام؛ لأن النكرة -كما سبق- إذا أعيدت معرفة فهي عينها. [وَالفِعْلُ] بكسر الفاء، ويقال: الفَعْل عند النحاة والمراد به المصدر. الفِعل عند النحاة اسم، والفَعْل مصدر، هذا اصطلاح خاص عند النحاة، ولا مشاحة في الاصطلاح. وعند أهل اللغة الفِعْل والفَعْل مصدران لفعَل يفعَل، أما فَعْل فهو القياس، والفِعْل سماعي. الفعل لغة: نفس الحدث الذي يحدثه الفاعل من قيام أو قعود أو ضرب أو نوم أو أكل أو شرب إلى آخره. واصطلاحًا: كلمة دلت على معنى في نفسها واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة. قوله: (كلمة) جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. دلت على معنى في نفسها أخرج الحرف، لأن الحرف لا يدل على معنى في نفسه. واقترن بمعنى اتصل، بأحد الأزمنة الثلاثة أخرج الاسم لأن الاسم يدل على معنى ولا يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة. بأحد الأزمنة الثلاثة ظاهره أنه لفظ مبهم، واللفظ المبهم لا يجوز إدخاله في الحدود عند المناطقة؛ لأنه مبهم، وإنما جيء بالحد للكشف والإيضاح عن حقيقة

المحدود؛ فإذا جعل اللفظ المبهم داخلاً في الحد فحينئذٍ زاده إبهامًا، والمقصود هو الإيضاح. فأورد اعتراض على هذا التعريف بأن الأزمنة الثلاثة مجهولة المعنى. نقول: ليست مجهولة المعنى، لأنه صار حقيقة عرفية عند النحاة. إذا أُطلق هذا اللفظ (الأزمنة الثلاثة) انصرف إلى المعنى الخاص، وهو الحال والماضي والاستقبال. فحينئذٍ ليس في التعريف إبهام. [وَالفِعْلُ] مبتدأ أول [بِالسِّينِ] جار ومجرور متعلق بورد ومعنى أنه متعلق به أنه عامل فيه لا يتم معنى ورد إلا بالجار والمجرور. [مَيْزُهُ] مبتدأ ثانٍ [وَرَدْ] بالسين وما عطف عليه، الجملة في محل رفع خبر المبتدأ الثاني. والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول. قوله: [مَيْزُهُ وَرَدْ] أي الفعل ميزه عن أخويه الاسم والحرف ورد بالسين وما عطف عليه. [بِالسِّينِ] أي مسمى السين، والسين اسم، والذي يجعل علامة على الفعل هو المسمى. [بِالسِّينِ] أل للعهد الذهني- وهي الذي عهد مصحوبها ذهنًا- فحينئذٍ ليس المراد [بِالسِّينِ] سين التهجي كسين سالم، وليس المراد بها سين الصيرورة كقولك: استحجر الطين أي صار حجرًا. بل المراد بها السين التي تدخل على الفعل المضارع سين الاستقبال، لأنها هي المعهودة ذهنا، فإذا أطلق السين انصرف إلى سين الاستقبال فقط. إذًا [وَالفِعْلُ بِالسِّينِ] أي سين الاستقبال، وتسمى بسين التنفيس، والتنفيس هو الاستقبال، وتسمى حرف التوسع أو التوسيع. وهي تدل على تأخير زمن الفعل

المضارع عن الحال إلى الاستقبال. الأفعال ثلاثة: ماضٍ ومضارع وأمر، فالفعل الماضي يدل على شيء وقع وانتهى في الزمن الماضي. والفعل المضارع يدل على وقوع الحدث في زمن الحال، وجمهور النحاة على أن الفعل المضارع من حيث الزمن مشترك بين الحال والاستقبال، فإذا قيل: زيد يصلي، فإنه يحتمل أنه يصلي الآن أو سيصلي في المستقبل. والأصح أن يقال: إن زمن فعل المضارع هو الحال فقط، ودلالته على الزمن المستقبل مجاز. والدليل على هذا أن دلالة الفعل المضارع على الاستقبال تحصل بدخول السين ونحوها، فدلت السين على تأخير زمن الفعل المضارع عن الحال إلى الاستقبال. فحينئذٍ ما احتاج إلى قرينة فرعٌ عما لا يحتاج إلى قرينة، فدلالة الفعل على الحال هي الحقيقة؛ لأنه يدل على الحال بلا حرف. فإذا قيل: زيد يصلي فهو الآن، فإذا أردت به المستقبل فلابد من حرف تدخله ليدل على الاستقبال، وهذا ضابط المجاز عندهم. فدلالة المضارع على الاستقبال مجازية لا حقيقية. وهذا هو الأصح من حيث التحقيق، تقول: زيدٌ يصلي يعني الآن، زيدٌ سيصلي يعني سيوقع الحدث وهو الصلاة بعد زمن قريب. إذًا عرفنا السين تدل على التنفيس والاستقبال وهو تأخير زمن الفعل عن الحال. وبعضهم يقول: السين موضوعة للدلالة على الاستقبال للحدث القريب. ومثال السين قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) [البقرة:142] وقوله: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) [الفتح:11] [وَسَوْفَ] أي والفعل ميزه ورد بالسين، وبسوف، وسوف أخت

السين، كل منهما يدل على التنفيس والاستقبال، إلا أن السين أقل استقبالا من سوف، يعني دلالة السين على الاستقبال إنما هو استقبال قريب، ودلالة سوف على الاستقبال إنما هو استقبال بعيد. إذا قيل: زيد سيصلي. يعني بعد وقت قريب، زيدٌ سوف يصلي إذًا تأخير الفعل عن الحال إلى زمن أبعد من دلالة السين على التأخير. وقوله: [وَسَوْفَ] حكاها كما هي لأنها على ثلاثة أحرف، فحكاها بمسماها لا كالسين حكاها باسمها لأنها على حرف واحد. هذا الذي ذكرنا من أن دلالة السين على التنفيس أقل من دلالة سوف عليه، على مذهب البصريين، خلافا للكوفيين بناءًا على خلاف عندهم= هل السين مقتطعة من سوف أم مستقلة؟ يعني هل هما كلمتان كلٌّ منهما وُضع وضعا خاصا أم الوضع واحد لسوف والسين مقتطعة منها؟ مذهب الكوفيين أن السين مقتطعة من سوف، يعني هي جزء من سوف، وحينئذٍ فهي فرع، وإذا كانت فرعا فجزءُ الشيء لا يمكن أن يدل على معنى مغاير لمعنى الأصل، فحينئذٍ عند الكوفيين= السين وسوف مترادفان، ليس أحدهما أقل ولا أكثر بل متساويان في المعنى، فدلالة السين على الاستقبال كدلالة سوف على الاستقبال. والذي اشتهر على الألسنة-كما هو معلوم- أن دلالة السين على الاستقبال أقل من دلالة سوف على الاستقبال، وهذا على مذهب البصريين= أن السين لها وضع خاص مستقل، وسوف لها وضع خاص مستقل. إذًا السين لها معناها الخاص كوضعها الخاص، وسوف لها معناها الخاص كوضعها

الخاص. فإذا استقل وضع كل منهما تعين أن يكون لكل حرف منهما معنى مغاير للآخر، إذًا وَضْعُ كل منهما بوضع خاص يستلزم أن يكون لكل منهما معنى مغاير للآخر؛ فحملت السين على الأقل، وحملت سوف على الأكثر، ولم يعكس لسببين: أولاً: أن سوف أكثر حروفا من السين، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. إذًا حَمْل سوف على معنى أكثر من السين أولى من العكس. الثاني: كثرة اللغات في سوف؛ لأنه قيل: سَوْفَ وسَفْ وسيف وسَي وسَوْ، وهذه اللغات تدل على كثرة المعاني. ومثال سوف قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:5] وقوله: (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا) [النساء:56] [وَالفِعْلُ بِالسِّينِ وَسَوْفَ] إذًا هاتان العلامتان تدل على فعلية الكلمة، تحكم أوَّلا على الكلمة بأنها فعل بدخول السين أو سوف. ثم بعد ذلك ننظر في الفعل فإذا به فعل مضارع؛ لأن السين وسوف لا يدخلان إلا على الفعل المضارع. ولا تدخل على الفعل الماضي ولا على فعل الأمر؛ لا تدخل على الماضي؛ لأنها تدل على تأخير الزمن من الحال إلى الاستقبال، وهذا المعنى لا يمكن أن يكون في الفعل الماضي، لأن الماضي قد وقع وانتهى. فإذا قيل: قام زيد. هذا في الزمن الماضي فليس عندنا حال حتى يؤخر إلى المستقبل. إذًا لا يصح دخول السين وسوف على الفعل الماضي. ولا تدخل على فعل الأمر لأنه هو نفسه دالٌ على الاستقبال لا يدل على الحال، فحينئذٍ كيف تدخل السين لتنقل

الزمن من الحال إلى الاستقبال، وهو أصلاً لا يدل على الحال، لذلك اختصت بالفعل المضارع. [وَبِقَدْ] أي والفعل ميزه ورد بقد. وهنا دخلت الباء على قَدْ والباء حرف جر، ولا تدخل إلا على الأسماء. فنقول: قد هنا ليست بحرف، وإنما هي اسم بدليل دخول حرف الجر عليها، وإنما تكون حرفًا في التركيب نحو: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون:1) قد في هذا التركيب حرف، لأنه أفاد معنى التحقيق، فاستعمل مرادًا به اللفظ والمعنى. أما إذا قيل: قد حرف. أخبرت عنها بأنها حرف، فاستعمل مرادًا به اللفظ فقط دون المعنى. فحينئذٍ هي علم في هذا التركيب، لذلك يجوز إعرابها وتنوينها-كما سيأتي-[وَبِقَدْ] أي الحرفية، لأن قد تأتي اسمية، وتأتي حرفية. وقد التي تكون علامة الفعلية هي قدُ الحرفية، ولكنها لا تدخل على أيِّ فعل، وإنما تدخل على الماضي والمضارع، ولا تدخل على فعل الأمر. ولا يصح دخولها على كل فعل ماضٍ أو مضارع، وإنما تدخل بشروط أربعة: الأول: أن يكون الفعل مثبتًا لا منفيًا. فنحو: قد ما قام لا يصح؛ لأنه منفي، وقد تفيد التحقيق، والتحقيق إنما يكون لشيء موجود، والمنفي معدوم؛ فكيف يحقق المعدوم؟!. الثاني: أن يكون الفعل متصرفًا لا جامدًا، بمعنى أنه يأتي منه المضارع والأمر والمصدر واسم فاعل إلى آخره. فقد يكون التصرف تامًا، وقد يكون التصرف ناقصًا. فالجامد نحو: نِعْمَ وبِئْسَ، لا يصح دخول قد عليه -على الصحيح-،فلا يقال: قد نِعْمَ زيدٌ الرجل.

الثالث: أن يكون خبريًا لا إنشائيًا. وهذان قسمان للكلام لا ثالث لهما على الأصح كما قال السيوطي: مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالكِذْبِ الخَبَرْ ... وَغَيرُهُ الإنْشَا وَلاَ ثَالِثَ قَرْ الكلام إما أن يكون خبرًا -وهو ما احتمل الصدق والكذب لذاته-.وإما أن يكون إنشاءا - وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته - فإذا كان الفعل خبريًا صح دخول قد عليه. وإذا كان الفعل إنشائيًا لا يصح دخول قد عليه. والعلة هي العلة في عدم صحة دخولها على فعل الأمر. فقد تدخل على الجملة الخبرية، نحو: قد بعت السيارة، وهذه من ألفاظ العقود فإن كان قد وقع البيع في الزمن الماضي صح دخول قد على بعت. وإن كان المقصود بها إنشاء البيع الآن يقول: تبيع السيارة. فيجيب: قد بعتك. فهذا لا يصح، لأن بعت ليس بفعل ماض من حيث المعنى، يعني لا يدل على شيء وقع وانتهى، إنما المراد إنشاء البيع الآن فدلالته على الحال. فحينئذٍ لا يصح دخول قد عليه. الرابع: أن لا يفصل بين قد والفعل فاصل، فلا يصح: قد هو قال. وقد استثنى ابن هشام: القسم نحو: قد والله قام زيدٌ، لوروده في الشعر. قد تأتي لمعانٍ، فإذا دخلت على الفعل الماضي أفادت التحقيق أو التقريب، يعني تدل من جهة المعنى على التحقيق أو التقريب.

فالتحقيق نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون:1) وقولك: قد قام زيد.- وقد وقع القيام- يفيد التحقيق. والتقريب نحو قولك: قد قام زيد.-ولمَّا يقم- ومثله قول مقيم الصلاة: قد قامت الصلاة. وإذا دخلت على الفعل المضارع أفادت التقليل أوالتكثير. فالتقليل كقولك: قد يصدق الكذوب. والتكثير كقولك: قد يجود الكريم. هذا ما يذكره النحاة أن قد إذا دخلت على الفعل الماضي أفادت التحقيق أو التقريب، وإذا دخلت على الفعل المضارع أفادت التكثير أو التقليل، هذا هو المشهور لكن الأصح أن يقال أن قد تدخل على الفعل المضارع وتفيد التحقيق، وبعضهم ينفي إفادتها للتحقيق عند دخولها على الفعل المضارع، وليس بصواب، بل تدخل على الفعل المضارع وتفيد التحقيق بدليل قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (الأحزاب:18) فقد هنا أفادت التحقيق. [فَاعْلَمْ] الفاء عاطفة، وفعل الأمر وفاعله جملة معترضة لا محل لها من الإعراب. [وَتَا التَّأْنِيثِ] أي والفعل ميزه ورد بتاء التأنيث أي بقبوله تاء التأنيث، فإذا قبلت الكلمة تاء التأنيث دلت على أن مدخولها فعلٌ. وتاء التأنيث مركب إضافي، والمركب الإضافي لابد أن يكون للمضاف مع المضاف إليه معنى ودلالة وهي أنواع. وهنا الإضافة من إضافة الدال إلى المدلول، بمعنى أن هذه التاء تدل على التأنيث، تأنيث المسند إليه، وهي من علامات الفعل فاتصالها يكون بالفعل، وتدل على أن المسند إليه مؤنث، نحو: قامت

هندٌ. نقول: التاء تاء التأنيث اتصلت بالفعل الماضي ودلت على تأنيث المسند إليه وهو الفاعل. ومثله: ضُربت هندٌ ضُرِب فعل ماض مغير الصيغة، اتصلت به تاء التأنيث الساكنة، ودلت على تأنيث المسند إليه وهو نائب الفاعل. ومثله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12) كان فعل ماض ناقص، اتصلت به تاء التأنيث، ودلت على تأنيث المسند إليه وهو اسم كان. وحينئذٍ قول بعضهم: إن تاء التأنيث تدل على تأنيث الفاعل، فيه قصور. وإنما التعبير الأعم والأصح: أن تاء التأنيث تدل على تأنيث المسند إليه. والمسند إليه قد يكون فاعلاً أو نائب فاعل أو اسم كان. [وَتَا التَّأْنِيثِ] أي التأنيث المعنوي. وأما التأنيث اللفظي= فهذا تفيده تاء تأنيث ساكنة، تدخل على الحرف مثل ربتْ وثمتْ. فرُبَّ حرف جر شبيه بالزائد، يجوز في لغة العرب أن يتصل به تاء التأنيث الساكنة، فتقول: ربتْ. وثم حرف عطف، يجوز أن يتصل به تاء التأنيث الساكنة. فحينئذٍ كيف نقول: تاء التأنيث الساكنة علامة فعلية الكلمة، ثم نجد تاء التأنيث الساكنة قد اتصلت برب وثم وهما حرفان؟ تقول: تاء التأنيث المراد بالتأنيث التأنيث المعنوي. والتاء في ربت وثمت هي تاء تأنيث؛ لكنه تأنيث لفظي لا معنوي، فلا نقض ولا اعتراض. [وَتَا التَّأْنِيثِ] أي الساكنة أصالة، احترازًا من تاء التأنيث المتحركة؛ فإنها من خواص الأسماء إن كانت حركتها حركة إعراب كقائمة ومسلمة، نقول: هذه التاء تاء التأنيث، وهي متحركة وحركتها حركة الإعراب؛ نحو: جاءت فاطمةُ، ورأيت فاطمةَ،

ومررت بفاطمةَ. صارت هذه التاء محلا لظهور حركة الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًا. هذه التاء تاء التأنيث المتحركة بحركة الإعراب من خواص الأسماء. [وَتَا التَّأْنِيثِ] الساكنة أصالة، فلا يضر تحريكها لعارض كالتخلص من التقاء الساكنين نحو: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} (يوسف:51) قال: فعل ماض مبني على الفتح الظاهر. وتاء التأنيث الساكنة أصالة المتحركة عرضًا حرف دال على تأنيث المسند إليه، مبني على سكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، إذًا [وَتَا التَّأْنِيثِ] الساكنة أصالة قد تحرك بالكسر على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين. وقد تحرك بالفتح نحو: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11) وقد تحرك بالضم نحو قوله تعالى: ((وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ)) [يوسف:31] فيمن ضَمَّ التاء. [مَيْزُهُ] وتمييز الفعل عن قسيميه الحرف والاسم [وَرَدْ] بواحدة من هذه العلامات الأربع. ولكنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم مشترك بين الفعل الماضي والمضارع وهو قد. وقسم مختص بالفعل الماضي وهو تاء التأنيث الساكنة. وقسم مختص بالفعل المضارع وهو السين وسوف. ولم يذكر الناظم علامة فعل أمر قيل: تبع ابن آجروم، وهو كوفي، والكوفيون عندهم القسمة ثنائية لا ثلاثية ماض ومضارع، والأمر عندهم معرب مقتطعٌ من المضارع فلذلك لا يحتاج أن يميز عن قسيميه وإنما هو جزء من الفعل المضارع. والأصح أنه قسم مستقل برأسه، والأصل في الأفعال أنها مبنية، فالفعل الماضي مبني بالاتفاق. والفعل المضارع له حالتان: قد

يكون مبنيا إذا اتصلت به نون الإناث أو إحدى نوني التوكيد، وقد يكون معربًا إذا لم يتصل بآخره شيء، وفعل الأمر مبني على الراجح. وأما علامة فعل الأمر فهي مركبة من شيئين: إحداهما: لفظية، والأخرى: معنوية. أما المعنوية فهي دلالته على الطلب بصيغته، كون اللفظ يُفهِم طلبًا، وهذا معنى الأمر اللغوي، لكن بشرط أن تكون دلالة الفعل على الطلب بالصيغة، يعني بذاته بدون واسطة تدخل عليه. وأما اللفظية فهي أن يكون قابلا لياء الفاعلة أو إحدى نوني التوكيد. فحينئذٍ إذا دلت الكلمة على طلب بالصيغة لا بواسطة. والمراد بالصيغة أي بوزنه بحروفه وحركاته وسكناته، بأن لا يزاد عليه حرف أو لفظ يدل على الأمر. فنحو: ينفق فعل مضارع لا يدل على الطلب، وإنما يدل على وقوع حدث في الزمن الحال أو الاستقبال وهو الإنفاق. لكن قوله:. {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} (الطلاق:7) ومثله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج:29) {لِيُنْفِقْ} دل على الطلب. {وَلْيَطَّوَّفُوا} دل على الطلب. لكن من أين فُهم الطلب منهما؟ هل دلا على الطلب بمفهومهما الخاص أي بذاتهما وبصيغتهما دون ضميمة أُخرى؟ الجواب: لا، وإنما فهم الطلب بواسطة اللام لام الأمر نقول: هذا الفعل دالٌ على الطلب ولكن بواسطة اللام، فهل هو فعل أمر؟ نقول: لا، ليس فعل أمر، وإن دل على الطلب؛ لأن فعل الأمر إنما يدل على الطلب ويحكم عليه بكونه دالاً

على الطلب إذا دل على الطلب بالصيغة بنفسه بدون واسطة، احترازًا مما دل على الطلب بواسطة كالفعل المضارع إذا دخل عليه لام الأمر. وقبوله ياء الفاعلة أو نوني التوكيد يعني إحدى نوني التوكيد أن يكون قابلاً لها بمعنى أنه يقبل أن تدخل عليه ياء الفاعلة مثاله: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} (مريم:26) هذه ثلاثة أفعال، فكلي دل على الطلب، وهو طلب إيجاد الأكل بالصيغة، ثم قَبِلَ ياء الفاعلة، فهو فعل أمر. واشربي أيضًا هو فعل أمر لوجود العلامتين دلالته على الطلب بدون واسطة مع قبوله ياء الفاعلة. وقري أيضًا يقال فيها ما قيل في كلي واشربي. إذا دل على الطلب بالصيغة فهو فعل أمر. إذا دل على الطلب لا بصيغته فهو إما أن يكون فعلاً مضارعًا كقوله: {لِيُنْفِقْ} وإما أن يكون مصدرًا كقوله: ضربًا زيدًا. فضربًا هذا ليس بفعل أمر وإن دل على الطلب؛ لأنه ناب مناب الأمر أي اضرب زيدًا. وخرج كذلك الحرف فقد يدل على الطلب ولا يكون قابلاً لياء الفاعلة ولا نوني التوكيد مثل كلا بمعنى انتهِ. وإذا قبل ياء الفاعلة ولم يدل على الطلب فهو فعل مضارع نحو: تقومين، هذه الياء ياء الفاعلة، فالفعل قبل ياء الفاعلة ولم يكن فعل أمر؛ لعدم دلالته على الطلب. ثم شرع في بيان علامة الجزء الثالث من أجزاء الكلام وهو الحرف. وإن كان عَدُّ الحرف جزءًا من أجزاء الكلام من باب التسامح والتوسع. فقال:

وَالحَرْفُ يُعْرَفُ بِأَلاَّ يَقْبَلاَ ... لاِسْمٍ وَلاَ فِعْلٍ دَلِيلاً كَبَلَى [وَالحَرْفُ] أي الذي تقدم لنا ذكره عند قوله: اسم وفعل وحرف معنى. أي الحرف الذي جاء لمعنى، فـ (أل) للعهد الذكري، لأنه أعاد النكرة معرفة فهي عين الأولى. الحرف لغة: طرف الشيء كحرف الجبل، قيل: مشتق من التحرف. وأما اصطلاحا: فهو كلمة دلت على معنى في غيرها. فالحرف ليس له معنى في ذاته، أي لا يدل على معنى في نفسه دون ضميمة كلمة أخرى. وليس المراد أنه مجرد عن المعنى مطلقا، وإلا لصار مهملاً كديز لا معنى له، لأنه لم تضعه العرب. فمثلا الحرف (في) وضعته العرب، فكيف يقال: لا معنى له وقد وضعته العرب.! هل تضع العرب حرفًا وليس له معنى؟ الجواب: لا، بل وضعته وله معنى يدل عليه، وهو الظرفية، لكن متى يظهر؟ إذا ضم إليه كلمة أخرى. ولذلك حروف الجر سميت بذلك لأنها تجر معانِ الأفعال إلى الأسماء إذًا فيها معنى الجر والبسط والتعدية لأن حروف الجر فيها معنى التعدية، لذلك عندهم التعدية قسمان: تعدية عامة، وتعدية خاصة. فأما التعدية العامة فكل حرف من حروف الجر هو معدٍّ. وأما التعدية الخاصة فهي التي تتعلق بحرف الباء نحو: ذهبت بزيدٍ. والحرف كلمة: هذا جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. دلت على معنى في غيرها يعني لا في ذاتها لا في نفسها، والمراد أنها دلت على معنى لكن ينكشف هذا المعنى إذا ضم الحرف إلى غيره، وأما استقلالا فلا. وإلا لا معنى أن يقال: الحرف (في)

للظرفية، والباء للتعدية ... إلخ هذه كلها معاني للحروف، تظهر وتنكشف إذا ضمت هذه الكلمة إلى غيرها. وبعضهم يزيد قيدا في الحد، فيقول: كلمة دلت على معنى في غيرها فقط. قوله: (فقط) للاحتراز، لأن الفعل يدل على معنى في غيره. فإذا قيل: قام زيدٌ فالفعل- قام- دل على ثبوت القيام لزيد، إذًا (قام) دل على معنى في غيره فيصدق عليه الحد. لأن القيام بل كل الأفعال الماضي والمضارع والأمر هي في المعنى صفات، فحينئذٍ تستلزم موصوفًا، لأنها عرض لا تقوم بنفسها، فلا يمكن أن يوجد قيام هكذا لا في محل، لا في زيد ولا في عمرو، فإذا قيل: قام زيد فـ (زيد) موصوف بما دل عليه لفظ (قام). وهو ثبوت القيام، لكنه مقيد في الزمن الماضي. فقد دل الفعل على معنى في غيره، فحينئذٍ يصدق عليه أنه كلمة دلت على معنى في غيرها، وهذا هو حد الحرف. كذلك نحو: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (الطلاق:2) (من) اسم، دلت على معنى في نفسها، ودلت على معنى في غيرها، وهو التعليق {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} جعل المخرج مرتبا على حصول التقوى؛ فقد دلت على ترتب الجواب على الشرط؟ فحينئذٍ يصدق عليها أنها كلمة دلت على معنى في غيرها، وهذا هو حد الحرف. فإذا قلنا: في حد الحرف فقط أخرجنا الفعل وأسماء الشرط، لأن الحرف دل على معنى في غيره فقط دون دلالته على معنى في نفسه. أما الفعل ومن الشرطية ونحوها؛ فقد دلت على معنى في غيرها، وهو القدر المشترك مع الحرف؛ إلا أنها قد دلت على معنى في نفسها. فدلالة الفعل ومن

الشرطية ونحوها على معنى في نفسها صيرها أفعالا وأسماءا، ومع ذلك فقد دلت على معنى في غيرها أيضا. وهذا لا ينقلها عن أصلها من الفعلية والاسمية. إذًا شارك الفعل وأسماء الشرط الحرف في كونه دل على معنى في غيره، لكن نقيد الحرف بأنه كلمة دلت على معنى في غيرها فقط. أما إذا دلت على معنى في نفسها ومع ذلك فقد زادت على هذا المعنى ودلت على معنى في غيرها فليست بحرف بل هي اسم أو فعلٌ. [وَالحَرْفُ] عرفنا حقيقته [يُعْرَفُ] ويميز عن قسيميه الفعل والاسم [بِأَلاَّ يَقْبَلاَ لاِسْمٍ وَلاَ فِعْلٍ دَلِيلاً] أي دليلاً لاسم ولا فعل. والدليل هنا العلامة، ودليل فعيل بمعنى فاعل، مأخوذ من الدلالة وهي الإرشاد، والمراد به علامة الاسم وعلامة الفعل، إذًا يميز الحرف عن قسيميه بأن لا يقبل علامة لاسم ولا علامة لفعلٍ. [بِأَلاَّ يَقْبَلاَ] دليلاً لاسم ولا لفعل فحينئذٍ نقول: دليلا نكرة في سياق النفي فيعم. فنقول: علامة الحرف أن لا يقبل أيَّ علامةٍ لاسم، ولا يقبل أيَّ علامةٍ لفعل. فعلامة الحرف عدم قبول علامة الاسم ولا علامة الفعل. قال في الملحة: وَالحَرْفُ مَا لَيْسَتْ لَهُ عَلامَهْ ... فَقِسْ عَلَى قَوْلِي تَكُنْ عَلاَّمَهْ والحرف ما ليست له علامة: ليست له علامة وجودية، وليس المراد نفي العلامة مطلقًا لا وجودية ولا عدمية نقول: ليس هذا المراد بل المراد ليست له علامة وجودية، وإنما علامته عدمية، وهي عدم قبول علامة الأسماء، وعدم قبول علامة الأفعال. قال الفاكهي في كشف النقاب: فإذا مرت بك كلمة ولا

تدري هل هي اسم أو فعل أو حرف فاعرض عليها علامة الأسماء، فإن لم تقبل فاعرض عليها علامة الأفعال، فإن لم تقبل فاحكم عليها بأنها حرف؛ لأن هذا شأن الحرف، وهو عدم قبول علامة الاسم ولا علامة الفعل. فحينئذٍ يرد الإشكال وهو: أن العدم جُعل علامة لوجود الحرف، فكيف يكون العدم دليلاً على الوجود، والحرف موجود؟ قالوا: العدم نوعان: عدم مطلق، وعدم مقيد. وهنا الذي جعل علامة على الحرفية-وهو موجود- العدم المقيد، فلم يُقل: الحرف هو ما لا يقبل شيئًا. لا بل ما لا يقبل علامة الاسم ولا علامة الفعل. فالعدم هنا مقيد، وإذا كان العدم مقيدًا صح جعله علامة على الموجود. [كَبَلَى] أي مثل بلى، وبلى حرف جواب مبني على السكون لا محل له من الإعراب. يستعمل بعد النفي فيجعله إثباتًا كقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن:7) والفرق بين بلى ونَعَمْ: أن بلى لا تأتي إلا بعد نفي، أما نعم فتأتي بعد النفي، وبعد الإثبات. فإذا قيل: أما نجح زيدٌ؟ فتصديقه نعم أي لم ينجح. وتكذيبه بلى أي نجح. الحرف على ثلاثة أقسام: حرف مشترك بين الأسماء والأفعال، نحو: هل وبل، تقول: هل زيدٌ قائم. هل قام زيدٌ. وحرف مختص، وهذا نوعان: مختص بالأسماء، ومختص بالأفعال. فالمختص بالأسماء مثل: (أل) المعرفة، والتنوين، وحروف الجر. والمختص بالأفعال مثل: السين، وسوف، وتاء التأنيث الساكنة. هذه ثلاثة أقسام ثم كل

منها إما عاملٌ أو ليس بعامل، فهي ستة أنواع حاصلة من ضرب اثنين في ثلاثة. الأول: مشترك بين الأسماء والأفعال ولا يعمل، كهل وبل. والثاني: مشترك بين الأسماء والأفعال ويعمل كـ (ما) النافية، نحو: ما قام زيد،,ما زيدٌ قائمًا. قال في الملحة: وَمَا الَّتِي تَنْفِي كَلَيْسَ النَّاصِبَهْ ... فِي قَوْلِ سُكَّانِ الحِجَازِ قَاطِبَهْ إذًا تعمل وهي مشتركة ومنه: {مَا هَذَا بَشَراً} (يوسف:31).الثالث: مختص بالأسماء ويعمل. مثل إنَّ زيدًا قائمٌ فـ (إن) خاصة بالدخول على الأسماء وعملت النصب. الرابع: مختص بالأسماء ولا يعمل. مثل (أل) المعرفة. قالوا: لا يعمل لتنزيله منزلة الجزء من الكلمة، وجزء الشيء لا يعمل فيه، فـ (الرجل) مؤلف من كلمتين، (أل) حرف معنى وهي كلمة، و (رجل) كلمة. إذًا كلمتان، ما الدليل على أن (أل) لا تعمل؟ قالوا: لكونها نزلت منزلة الجزء من الكلمة، فصارت (أل) مثل الراء أو الجيم أو اللام من رجل، والدليل على هذا قالوا: تخطي العامل إلى ما بعدها. إذا قلت مررت بالرجل. الباء: حرف جر. وهل دخلت على (أل) أو على الرجل؟ لو جعلت (أل) مستقلة ولم تنزل منزلة الجزء من الكلمة؛ لدخل الحرف على الحرف، وهذا ممتنع. ولكن لما دخل حرف الجر على (أل) مع مدخولها، تخطى العامل (أل) يعني تجاوزها فأثر في رجل. ولذلك نقول: الرجل: اسم مجرور بالباء. و (أل) هذه كأنها غير موجودة. فلتنزيل (أل) من (الرجل) منزلة الجزء منه قالوا: تخطاها العامل فلم يؤثر فيها لأنها تعتبر كحرف من حروف كلمة رجل؛ لذلك

لا تعمل. الخامس: مختص بالأفعال لا يعمل، مثل: السين، وسوف، أيضًا لتنزيلها منزلة الجزء من الكلمة، لأن ارتباط السين وسوف بالمعنى متعلق بالفعل المضارع. فحينئذٍ لو قيل: سوف يصلي زيد. سوف دلت على تأخير زمن الفعل من الحال إلى المستقبل البعيد. إذًا لها أثر في المعنى فنزلت منزلة الجزء من الفعل. السادس: مختص بالأفعال ويعمل مثل أدوات الجزم، والنواصب نحو: {لَمْ يَلِدْ} (الإخلاص:3).

باب الإعراب

بَابُ الإِعْرَابِ الاِعْرَابُ تَغْييرُ أَوَاخِرِ الكَلِمْ ... تَقْدِيرًا اوْ لَفْظًا فَذَا الحَدَّ اغْتَنِم وَذَلِكَ التَّغْيِيرُ لاِضْطِرَابِ ... عَوَامِلٍ تَدْخُلُ لِلإِعْرَابِ أقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ تُؤَمُّ ... رَفْعٌ وَنَصْبٌ ثُمَّ خَفْضٌ جَزْمُ فَالأَوَّلاَنِ دُونَ رَيْبٍ وَقَعَا ... فِي الاِسْمِ وَالفِعْلِ المُضَارِعِ مَعَا فَالاِسْمُ قَدْ خُصِّصَ بِالجَرِّ كَمَا ... قَدْ خُصِّصَ الفِعْلُ بِجَزْمٍ فَاعْلَمَا قال رحمه الله تعالى: [بَابُ الإِعْرَابِ] أي هذا باب بيان حقيقة الإعراب المصطلح عليه عند النحاة. فأل للعهد الذهني، لأن الإعراب له معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي والمراد به هنا المعنى الاصطلاحي؛ لا المعنى اللغوي. [بَابُ الإِعْرَابِ] كما ذكرنا سابقًا أنها ترجمة مؤلفة من كلمتين ولذلك نقول: إِنَّمَا النَّحْوُ قِيَاسٌ يُتَّبَعْ ... وَبِهِ فِي كُلِّ عِلْمٍ يُنْتَفَعْ فما قيل هناك يقال هنا، فلا عود ولا إعادة. وثنى بباب الإعراب بعد أن ذكر لك باب الكلام، وإن كان باب الإعراب أولى بالتقديم، لأن موضوع فن النحو الكلمات العربية من حيث الإعراب والبناء، فحينئذٍ الأولى أن يقدم الإعراب على الكلمة والكلام. وإنما ذكر الكلام أولاً ثم ذكر الإعراب؛ لأن الكلام محلٌ للإعراب، والإعراب حالٌّ. ومعرفة المحل متقدمة على معرفة الحال. أويقال: الإعراب

كالصفة، والكلام كالموصوف. والعلم بالموصوف مقدم على العلم بالصفة. [بَابُ الإِعْرَابِ] الإعراب- بكسر الهمزة- لا الأعراب - بفتحها- لأنه اسم سكان البادية. والإعراب مصدر أعرب الثلاثي المزيد بالهمز في أوله من باب الإفعال يقال: أعرب يعرب إعرابًا. والإعراب يأتي في اللغة على معانٍ منها التحسين والبيان والتغيير. فالتحسين كقولك: هذه جارية عروبة أي حسناء. أو أعربت الجارية أي حسنت. والبيان والإظهار كقولك: أعرب زيدٌ عما في نفسه. إذا أبانه وأظهره، ومنه الثيب تعرب عما في نفسها أي تبين وتظهر. والتغيير كقولك: أعربت معدة البعير إذا تغيرت لفساد. وأما في الاصطلاح فقد اختلفت كلمة النحاة في الإعراب، هل هو لفظي أم معنوي؟ هل الإعراب شيء يلفظ وينطق به أم أمر معنوي وله دليل لفظي يدل عليه؟ نقول: فيه خلاف، مذهب البصريين أنه لفظي، ومذهب الكوفيين أنه معنوي. وأدلةُ كلٍّ من الفريقين مع جواب كل منهما مبسوطة في شرح الملحة من أرادها فليرجع إليها. ولكن نقول هنا الأرجح هو مذهب البصريين أن الإعراب لفظي وليس بمعنوي. والناظم هنا قد تبع الأصل ابنَ آجروم وهو كوفي، لذلك اختار أن الإعراب معنوي وتعريفه ينطبق على القول بأن الإعراب معنوي. والفرق بين القولين: أنه إذا قيل: الإعراب لفظي-وهو مذهب البصريين- مرادهم بهذا = أن الضمة والفتحة والكسرة والسكون هي عين الإعراب، هي نفسه، فإذا قلت: جاء

زيدٌ. فالضمة هي الإعراب، وإعرابه: جاء فعل ماض، وزيد فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة في آخره. إذًا حكمنا أن الضمة هي الإعراب لأنه لفظيٌّ ينطق به. وإذا قيل: الإعراب معنوي- وهو مذهب الكوفيين- مرادهم بهذا = الانتقال من الرفع إلى النصب، ومن النصب إلى الجر، فتكون الحركات علامة لا نفس الإعراب. فإذا قلت: جاء زيدٌ. فزيد فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة. وليست الضمة هي الإعراب، وإنما هو تغيير الكلمة من كونها موقوفةً قبل دخول العامل، ثم صارت مطلوبة لعامل يقتضي الرفع، وهذه الضمة دليل على هذا التغيير والانتقال. لأن الكلمة تكون موقوفة أولاً يعني قبل جعلها في ضمن الجملة، فـ (زيد) وحدها فيها ثلاثة أقوال: قيل: لا معربة ولا مبنية وهذا هو الأرجح. وقيل: مبنية. وقيل: معربة حكمًا، بمعنى أنها إذا دخل عليها عامل صارت معربة. والأصح القول الأول؛ لأن الإعراب والبناء وصف للكلمة بعد التركيب. أما قبل التركيب فلا توصف لا بإعراب ولا بناء. فإذا قلت (جاء زيد) نقلت الكلمة من الوقف بدون إعراب ولا بناء إلى كونها مطلوبة لعامل يقتضي الرفع وهو جاء فحينئذٍ حصل التغيير والنقل من كونها لا معربة ولا مبنية إلى كونها مرفوعة، وهذا التغيير والانتقال هو الإعراب عند الكوفيين، والذي دلنا على هذا التغيير هو الضمة، فحينئذٍ الضمة ليست هي الإعراب كما يقول البصريون وإنما هي دليل على الإعراب. وكذلك إذا ركبت (زيد) مع عامل يقتضي النصب حصل التغيير والانتقال من عامل

يقتضي الرفع إلى عامل يقتضي النصب. فتقول: رأيت زيدًا. فـ (زيدًا) بالنصب، إذًا حصل الانتقال والتغيير، وهذا هو الإعراب عند الكوفيين، ودليله الفتحة. وكذلك يقال في الجر. إذًا النتيجة بعد هذا الخلاف هو في كيفية الإعراب فقط. فإذا كنت بصريًا فتقول: مرفوع مثلا ورفعه ضمة، ولا تأتي بعلامة. وإذا كنت كوفيًا تقول: مرفوع وعلامة رفعه الضمة، فالذي دلَّنا على أنه مرفوع هو الضمة. وقل كذلك في النصب والجر. هذا ومع كون البصريين يرجحون أنه لفظي؛ إلا أنهم في الإعراب يكاد يطبقون على قولهم علامة رفعه كذا. قالوا: هذا من باب التوسع والتسامح. الاِعْرَابُ تَغْييرُ أَوَاخِرِ الكَلِمْ ... تَقْدِيرًا اوْ لَفْظًا فَذَا الحَدَّ اغْتَنِم وَذَلِكَ التَّغْيِيرُ لاِضْطِرَابِ ... عَوَامِلٍ تَدْخُلُ لِلإِعْرَابِ هذا هو حد الإعراب على مذهب الكوفيين على أنه معنوي. قال: [الاِعْرَابُ] أل للعهد الذكري؛ لأنه أعاد المعرفة معرفة، فهي عين الأولى، ومقتضى الظاهر أن يأتي بالضمير هو لكنه عدل إلى الاسم الظاهر للإيضاح. [تَغْييرُ] هذا مصدر، وهو فعل الفاعل، وليس هو الإعراب، وجوابه أن يقال: هذا من باب إطلاق المصدر وإرادة أثره الحاصل بالمصدر وهو التغير، والمراد بالتغيير: صيرورة أواخر الكلم على وجهٍ مخصوص-كونك تُصيِّر آخر الكلمة الذي هو محل الإعراب على وجه مخصوص- من رفع أو نصب أوخفض أوجزم. لأن أقسام الإعراب منحصرة في هذه الأربعة. [تَغْييرُ أَوَاخِرِ الكَلِمْ] لما كان التغيير يلحق الأوائل، كفُلَيس تصغير فلس. وقد

يلحق الأواسط كفُلَيس بفتح اللام تصغير فلْس بإسكان اللام. ولما كانت علامة الإعراب محلها الحرف الأخير قيد التغيير هنا بمحل الإعراب أي الذي يظهر عليه علامة الإعراب. فأخرج تغيير الأوائل، وتغيير الأواسط. إذًا تغيير أواخر الكلم الإضافة هنا للتقييد احترازًا عن تغيير الأوائل والأواسط، وهذا التغيير ليس بإعراب باتفاق. إنما محل التغيير الذي يعد إعرابًا هو الآخر، لذلك قال: [تَغْييرُ أَوَاخِرِ الكَلِمْ] [أَوَاخِرِ] جمع آخر، وأقل الجمع ثلاث، فحينئذٍ لا يصدق الإعراب إلا إذا تغير ثلاثة أواخر، وليس هذا بمراد. وجوابه: أن هذه الإضافة جنسية، والإضافة الجنسية تُبطل معنى الجمعية، فيصدق الجمع بالواحد. والآخر نوعان: حقيقيٌّ وحكميٌّ. فالحقيقي: هو الذي لا حذف بعده، كدال زيد. تقول: جاء زيد (زيد) هذا فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. إذًا محل الإعراب هو الدال، وهي آخر الكلمة، إذًا هذا الآخر آخر حقيقي لأنه ليس بعدها حرف محذوف. والحكمي: هو ما حذف الحرف الذي بعده وصار نسيا منسيا، كيد ودم. تقول: هذه يدٌ. فـ (يد) خبر مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. هل هذه الدال آخر الكلمة؟ الجواب: لا، ليست آخر الكلمة بل هي عين الكلمة، لأن أصلها يَدْيٌ على وَزْنِ فَعْلٍ، فـ (يدْيٌ) بإسكان الدال مع الياء المحذوفة التي هي لام الكلمة، لأنه لَمَّا قيل: (يد) علمنا أن هذه الدال ليست آخر الكلمة، لماذا؟ لأن أصل وضع الاسم يكون على ثلاثة أحرف، وهذا باتفاق الصرفيين، وكذلك الفعل، وأصل وضع الحرف يكون على

حرف أو حرفين. فحينئذٍ لو جاء الاسم-وهو معرب- على أقل من ثلاثة أحرف لابد من حرف محذوف من الكلمة. فحينئذٍ نقول: يدي هو الأصل، فحذفت الياء التي هي لام الكلمة، وهذا الحذف يسمى عند الصرفيين حذفًا اعتباطيًا. لأن الحذف نوعان: حذف قياسي، وحذف اعتباطي. والحذف القياسي هو الذي يكون لعلة تصريفية. والحذف الاعتباطي هو الذي يكون لغير علة تصريفية، يعني هكذا سمع من لغة العرب لم يذكر هذا الحرف أصلا. فحينئذٍ حذفت الياء اعتباطًا فصارت نسيًا منسيًا، وإذا صارت نسيًا منسيًا وهذه الكلمة معربة فحينئذٍ لابد من إعراب، والإعراب يظهر على آخر الكلمة، وهو الياء المحذوفة. قالوا: إذًا ننزل ما قبل الآخر منزلة الآخر، فنعامل العين التي هي الدال معاملة الحرف الآخر وهو الياء المحذوفة، فنقول: هذا آخر الكلمة، لكنه ليس بحقيقي بل هو حكمي، فصار محلاً للإعراب. ومثلها (دم) أصلها دَمْوٌ أو دَمْيٌ على الخلاف هل المحذوف واوٌ أم ياء؟. فـ (دم) الميم هنا عين الكلمة وليست بآخر الكلمة، ولكن لما حذف الحرف الذي هو محل لإظهار الإعراب-الواو أو الياء- حينئذٍ لابد من حرف يقوم مقامه وإلا لسقط الإعراب بجملته، فنزل ما قبل الآخر منزلة الآخر. [تَغْييرُ أَوَاخِرِ الكَلِمْ] الكلم اسم جنس جمعي واحده كلمة. أقله ثلاثة وحينئذٍ لابد من ثلاث كلمات حتى تتغير فيصدق الإعراب. وجوابه: أن (أل) الجنسية تبطل معنى الجمعية، فحينئذٍ يصدق بالكلمة الواحدة. قلنا: الكلم اسم جنس جمعي واحده كلمة،

والكلمة اسم وفعل وحرف. فإذا قلنا: [تَغْييرُ أَوَاخِرِ الكَلِمْ] واحده كلمة، دخلت الكلمة بأنواعها الثلاثة. وهل الحرف معرب حتى ندخله في باب الإعراب؟ الجواب: لا، وهل الفعل كله معرب حتى ندخله في باب الإعراب؟ الجواب: لا، وهل الأسماء كلها معربة حتى ندخلها في باب الإعراب؟ الجواب: لا. إذًا لابد من التقييد، فنقول: المراد بالكلم هنا نوعان: الاسم المتمكن، والفعل المضارع الخالي من نون الإناث ومن نوني التوكيد. هذا هو المراد بأواخر الكلم هنا، لأن الذي يدخله الإعراب من الأسماء هو الاسم المتمكن. والذي يدخله من الأفعال هو الفعل المضارع بشرط خلوه من نون الإناث ونوني التوكيد. أما بعض الاسم الذي هو غير متمكن فهذا مبني. فخرج الاسم المبني فلا يكون معربًا؛ لأن البناء والإعراب ضدان فلا يجتمعان في محل واحد، من جهة واحدة. وخرج الفعل الماضي لأنه مبني باتفاق، وخرج فعل الأمر وهو مبني على الأرجح. وخرج الحرف لأن الحروف كلها مبنية. إذًا سقط قسم برأسه من الإعراب وهو الحرف. وبعض الاسم، وبعض الفعل. النوع الأول: الاسم المتمكن. وما المراد بالاسم المتمكن؟ نقول: الاسم نوعان: معرب، ومبني. والاسم المعرب يسمى متمكنًا، وهو الذي تمكن في باب الإعراب، وبقي على أصله؛ لأن الأصل في الأسماء أنها معربة، والبناء فرع فيها، فحينئذٍ إذا جاء الاسم معربًا لا يسأل لِمَ أعرب؟ لأن ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته. أما إذا جاء الاسم مبنيًا فلابد من سؤال لم بني الاسم؟ فحينئذٍ يبحث عن

علل بناء الاسم. فنقول: الاسم المتمكن هو الذي تمكن في باب الإعراب بحيث لم يشبه الحرف فيبنى، فالاسم الذي لم يشبه الحرف هو الاسم المتمكن. وهو نوعان: متمكن أمكن، ومتمكن غير أمكن. فالمتمكن الأمكن: هو الذي يدخله تنوين التمكين، الدال على أن الاسم قد تمكن في باب الإعراب والاسمية؛ بحيث لم يشبه الحرف فيبنى، ولا الفعل فيمنع من الصرف، فهو المصروف. والمتمكن غير أمكن هو الممنوع من الصرف وسيأتينا بحثه. وهذان القسمان معربان. ويقابل هذا النوع الاسم غير المتمكن وهو المبني. هذا الاسم المتمكن جملةً، وعند التفصيل هو ثمانية أنواع: الأول: الاسم المفرد المنصرف كزيد. الثاني: الاسم المفرد غير المنصرف كأحمد. الثالث: جمع التكسير المنصرف كرجال. الرابع: جمع تكسير غير المنصرف كمساجد ومصابيح. الخامس: الأسماء الستة. السادس: المثنى. السابع: جمع المؤنث السالم. الثامن: جمع المذكر السالم. هذه ثمانية كلها داخلة تحت قولك: الاسم المتمكن، إذًا قوله [تَغْييرُ أَوَاخِرِ الكَلِمْ] دخلت فيه هذه الأنواع الثمانية. هي التي يدخلها الإعراب، فأخرج غير المتمكن قولاً واحدًا لأنه مبني، والبناء ضد الإعراب فلا يجتمعان من جهة واحدة. النوع الثاني: الفعل المضارع الخالي من نون الإناث ونوني التوكيد. وهذا ثلاثة أنواع: الأول: صحيح الآخر كيضرب. الثاني: معتل الآخر، وهو ما كانت لامه حرفا من حروف العلة الثلاثة. قال الحريري في الملحة:

وَالوَاوُ وَاليَاءُ جَمِيعًا وَالأَلِفْ ... هُنَّ حُرُوفُ الاعْتِلالِ المُكْتَنِفْ إذًا معتل الآخر ما كانت لامه واوًا كيدعو، أو ألفًا كيخشى، أو ياءًا كيقضي. النوع الثالث: الأمثلة الخمسة-وسيأتي بحثها-.أما إذا اتصلت به نون الإناث فحينئذٍ صار مبنيًا، نحو: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} (البقرة:228) فيتربصن: فعل مضارع مبني على السكون فليس معربًا لاتصال نون الإناث به نقلته إلى أصله، وهو البناء. كذلك إذا اتصلت به نون التوكيد {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ} (الهمزة:4) لينبذن: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. حينئذٍ في هاتين الحالتين الفعل المضارع مبني، وليس معربا. نخلص من هذا أن الفعل المضارع له حالتان: حالة إعراب، وحالة بناء. والذي يدخل معنا هنا الفعل المضارع الذي هو معرب سواءٌ كان صحيح الآخر، أو معتل الآخر، أو كان من الأمثلة الخمسة. فالاسم المتمكن ثمانية أنواع، والفعل المضارع المعرب ثلاثة أنواع، وجميعها أحد عشر نوعًا، هي التي تكون معربة وما عداها فلا. قال: [تَقْدِيرًا اوْ لَفْظًا] بين لك نوعي الإعراب، فقد يكون مقدرًا، وقد يكون ملفوظًا به. إذًا الإعراب قسمان: تقديري، ولفظي. [تَقْدِيرًا] بالنصب، فيه خمسة أوجه من الإعراب، والأحسن أن يكون حالاً أو تمييزًا. وإذا كان حالاً فلابد من تأويله بمشتق، لأن الحال لا يقع مصدرًا، وإذا سمع وجب تأويله

بالمشتق، فنقول: تغيير أواخر الكلم حالة كونه أي ذلك التغيير مقدرًا-اسم مفعول- وحالة كونه أي ذلك التغيير ملفوظًا به. [تَقْدِيرًا اوْ لَفْظًا] أو للتنويع والتقسيم وليست للشك ولا للتردد؛ لأن أو للشك لا يجوز إدخالها في الحدود. قال في السلم: وَلاَ يَجُوْزُ فِي الحُدُوْدِ ذِكْرُ أَوْ ... وَجَائِزٌ فِي الرَّسْمِ فَادْرِ مَا رَوَوْا والإعراب التقديري: هوما يمنع من التلفظ به مانعٌ من تعذرٍ أو استثقال أو مناسبة. فلا يمكن أن يلفظ بالضمة، ولا يمكن أن يلفظ بالفتحة، ولا يمكن أن يلفظ بالكسرة. فتكون حينئذٍ هذه الحركات مقدرة. ومواضع الإعراب التقديري عديدة، ذكرناها كلها في شرح الملحة فمن أرادها فليرجع إليها، ونذكر هنا المشهور منها وهي أربعة: الأول: الاسم المقصور. والمقصور اسم مفعول من القصر وهو الحبس. ومنه قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (الرحمن:72) أي محبوسات في الخيام. وسمي المقصور مقصورًا لحبسه عن الحركات كلها. والمقصور: كل اسم معرب آخره ألف لازمة قبلها فتحة. قوله: (كل اسم) خرج الفعل كيخشى فهذا آخره ألف لازمة قبلها فتحة، لكن لا يسمى مقصورًا في الاصطلاح، وإن حبس عن الحركات، لأن المقصور خاص في الاصطلاح بالاسم، وغير الاسم لا يسمى مقصورًا في الاصطلاح. وخرج الحرف كـ (إلى) فهذا آخره ألف قبلها فتحة، ولا يسمى مقصورًا في الاصطلاح؛ لأنه حرف والمقصور خاص في الاصطلاح بالاسم. (معرب) خرج المبني فلا يكون المقصور مبنيا كـ (ذا) اسم إشارة

وهو اسم آخره ألف لازمة قبلها فتحة. لأنه مبني والمقصور معرب. (آخره ألفٌ لازمة) أخرج ما كانت ألفه غير لازمة، مثل: الزيدان-رفعًا-آخره ألف قبلها فتحة، لكنها ليست بلازمة، لأنك تقول: جاء الزيدان، فآخره ألف-وأما النون فليست من الكلمة بل هي عوض عن التنوين- آخره ألف، وهي ساكنة، وقبلها فتحة. لكنه ليس بمقصور مع كونه اسمًا معربًا وآخره ألف وقبلها فتحة، لأن الألف ليست بلازمة بل تنفك عنه، ولذلك تقول: رأيت الزيدين، ومررت بالزيدين. إذًا انقلبت الألف فصارت ياءًا، فليست بلازمة. والمقصور مثل: الفتى، والعصا، والرحى. فحينئذٍ نقول: كل الحركات تقدر فيه. فتقول: جاء الفتى (الفتى) فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره. لماذا قُدِّرَت الحركة؟ لأنه مقصور. ما الذي منع من ظهورها؟ التعذر. والتعذر هنا أصلي لا عرضي، وضابط التعذر: هو ما لو تكلَّف المتكلم به لم يظهره. فلو حاول أن يأتي بالفتحة مثلا على الألف لم يستطع ذلك؛ لأنها ملساء لا تقبل الحركة لذاتها. إذًا التعذر الأصلي هنا لكون الحرف ليس قابلاً لذاته الحركة. وإعرابه نقول: جاء الفتى. جاء فعل ماضٍ. والفتى فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على الألف الملفوظ بها منع من ظهورها التعذر. ولو قلت: جاء فتىً ففتى: فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين. كذلك رأيت الفتى ومررت بالفتى. والحاصل: أن الاسم المقصور يكون إعرابه مقدرًا، وتقدر عليه جميع الحركات الضمة والفتحة والكسرة.

النوع الثاني: الاسم المنقوص. مأخوذ من النقص، وسمي منقوصًا لكونه نُقص منه بعض الحركات لا كل الحركات، أو لكونه تحذف لامه عند التقاء الساكنين وذلك إذا نون. والمنقوص: هوكل اسم معرب آخره ياء لازمة قبلها كسرة، كالقاضي. قوله: (كل اسم) خرج الفعل، فالمنقوص لا يكون وصفًا للفعل، فنحو: يقضي آخره ياء لازمة وهي ساكنة وقبلها كسرة لكن لا يسمى منقوصًا في الاصطلاح، لأنه فعل والمنقوص خاص في الاصطلاح بالاسم. وخرج الحرف، فالمنقوص لا يكون وصفًا للحرف، فنحو: في حرف آخره ياء لازمة قبلها كسرة، لكن لا يسمى منقوصًا في الاصطلاح؛ لأنه حرف والمنقوص خاص في الاصطلاح بالاسم. (معرب) أخرج المبني، فنحو: الذي آخره ياء لازمة قبلها كسرة، لكن لا يسمى منقوصًا لأنه مبني، والمنقوص خاص بالمعرب. (آخره ياء لازمة) أخرج جمع المذكر السالم في حالتي الجر والنصب، فالزيدِين آخره ياء ساكنة قبلها كسرة لكن هذه الياء ليست بلازمة، وإنما تنفك عنه إلى الواو في حالة الرفع إذا قيل: جاء الزيدون. وحكم المنقوص أنه تقدر عليه الضمة والكسرة وتظهر الفتحة، ولذلك سمي منقوصًا لأنه نقص بعض الحركات. تقول: جاء القاضي، فالقاضي فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، لكونه منقوصًا. وعلة عدم إظهار الحركة هو الثقل وليس التعذر، وضابط الثقل: هو ما لو تكلف المتكلم لأتى به. وإنما أسقط للثقل وطلبا للخفة، نحو: جاء القاضيُ فيمكن أن تنطق بالضمة، ولكن لثقلها

على اللسان أسقطت طلبًا للخفة، فحينئذٍ يكون الرفع مقدرًا على الياء الملفوظ بها. وإذا قلت: جاء قاضٍ حذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، فحينئذٍ تقول: قاضٍ فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل. النوع الثالث: المضاف إلى ياء المتكلم، تقدر عليه جميع الحركات، وهو كل اسم معرب أضيف إلى ياء المتكلم. وياء المتكلم يلزم أن يكون ما قبلها مكسورًا، لا يكون مفتوحًا ولا مضمومًا. فحينئذٍ إذا أضيف اسم معرب إلى هذه الياء اقتضى أن يكون آخر الكلمة-وهي المضاف- على حالة واحدة وهي الكسر. فتقول: غلامي أضفته إلى ياء المتكلم، وياء المتكلم تستلزم أن يكون ما قبلها مكسورًا، فحينئذٍ يلزم الكسر في جميع المواضع-رفعا ونصبا وجرا- فتقول: جاء غلامي- بكسر الميم- آخر غلامي هو الميم، وهو محل إظهار الضمة، ولكنها لا تظهر لاشتغال المحل بحركة المناسبة. والمراد بالمناسبة هنا: كون اللفظ أضيف إلى ياء المتكلم، وياء المتكلم لا يناسبها ما قبلها إلا أن يكون مكسورًا. فـ (غلامي) فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. وبعضهم يقول: التعذر العرضي. وأما في نحو: الفتى، فالتعذر أصلي لأن ذات الحرف لا يقبل الحركة. وهنا تعذرٌ عرضي لأن ذات الحرف وهو الميم تقبل الحركة لو لم تضف لكن لما أضيفت لزمت الكسر، فحينئذٍ عدم قبولها الحركة لا لذاتها

وإنما لأمر خارج عنها. ولذلك لو حذفت الياء لقيل جاء غلامٌ ورأيت غلامًا ومررت بغلامٍ. فهذا تعذر عرضي لا أصلي، فالتعذر نوعان: أصلي وهو في المقصور. وعرضي وهو في المضاف إلى ياء المتكلم. مثاله: جاء غلامي. فغلامي فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. ورأيت غلامي. فغلامي مفعول به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. ومررت بغلامي. فغلامي مجرورٌ وجره كسرة، هل هي هذه الظاهرة أم مقدرة؟ فيه خلاف بين النحاة، والأصح أنها مقدرة، وأن هذه الكسرة كسرة المناسبة وليست كسرة عامل الجر. وبعضهم يقول: بغلامي الباء حرف جر. وغلامي اسم مجرور بالباء وجره كسرة ظاهرة على آخره. ولكنه مرجوح لأن التركيب الإضافي سابقٌ على تسليط العامل عليه، فركب أولاً تركيبًا إضافيًا فقيل: غلامي ثم قال: مررت بغلامي. النوع الرابع: الفعل المضارع المعتل الآخر، نحو: يخشى، ويدعو، ويرمي، فنحو: يخشى تقدر عليه الضمة والفتحة، ويكون مجزومًا بحذف الألف وهو ظاهر. ونحو: يدعو تقدر عليه الضمة، وتظهر عليه الفتحة، نحو: قوله تعالى: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} (الكهف:14) فندعوَ: فعل مضارع منصوبٌ بلن ونصبه فتحة ظاهرة على آخره. وجزمه بحذف الواو. ومثله نحو: يرمي تقدر عليه الضمة وتظهر عليه الفتحة لخفتها على الياء، وجزمه

يكون بحذف الياء. هذا هو المشهور أن الإعراب التقديري في أربعة مواضع ونزيد خامسًا: وهو الوقف، لأن العرب لا تقف إلا على ساكن. فإذا قلت: جاء زيدْ، ومررت بزيدْ. تقف على ساكن ويقدر عليها الإعراب. فإذا أعربت تقول: جاء زيدْ، فزيدْ فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. ومررت بزيدْ. الباء حرف جر، وزيد اسم مجرور بالباء وجره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. وما عدا هذه المواضع - في الجملة - يكون الإعراب لفظيا لذا قال [اوْ لَفْظًا] وهو ما لا يمنع من النطق به مانع. [فَذَا الحَدَّ اغْتَنِم] أي عُدَّه غنيمة، يقال: غَنِمَ بالكسر غُنْمًا بالضم، وبالفتح ,بالتحريك، وغُنْمانًا بالضم الفوز بالشيء بلا مشقة. [فَذَا الحَدَّ اغْتَنِم] [ذَا] مفعول مقدم على عامله الحد بدل أو عطف بيان أو نعت، ولذلك نصب. [اغْتَنِم] فعل أمر، ذا الحد أي عده غنيمة. وَذَلِكَ التَّغْيِيرُ لاِضْطِرَابِ ... عَوَامِلٍ تَدْخُلُ لِلإِعْرَابِ [وَذَلِكَ] المشار إليه الجنس المأخوذ في حد الإعراب-وهو التغيير-، ولذلك فسره بقوله: [التَّغْيِيرُ] لأنه لو قال [وَذَلِكَ] وسكت لوقع إيهام، لأن المشار إليه يحتمل أنه التغيير، ويحتمل أنه الأواخر، ويحتمل أنه الكلم، أو التقدير، أواللفظ. فلما أبهم فسره بما بعده فقال: [وَذَلِكَ التَّغْيِيرُ] ثم بيَّن علة هذا التغيير فقال: [لاِضْطِرَابِ] في الأصل قال: لاختلاف. وهو المراد به هنا،

واللام للتعليل أي لأجل [اِضْطِرَابِ] قال في القاموس: اضطرب تحرك وماج كتضرَّبَ. يعني أن اختلاف العوامل علة لتغيير أحوال أواخر الكلم، عرفنا أن التغير محله أواخر الكلم. لكن هل كل تغير في الآخر يكون إعرابًا؟ الجواب: لا، وإنما يكون هذا التغير من الوقف إلى الرفع، ومن الرفع إلى النصب، ومن النصب إلى الجر بسبب العوامل. فإذا ركب الاسم المعرب مع عامل يقتضي الرفعَ رُفِع. وإذا ركب مع عامل يقتضي النصبَ نُصِب. وإذا ركب مع عامل يقتضي الجر جُرَّ. أما لو قال قائل: جلست حيثُ جلس زيد، وجلست حيثَ جلس زيد، وجلست حيثِ جلس زيد. فحيث هذه معربة أو مبنية؟ نقول: مبنية باتفاق. وهنا قد حصل التغيير في آخر الكلمة، لكن هذا التغيير، ما سببه؟ هل هو لاختلاف العوامل الداخلة عليها التي تقتضي رفعًا أو نصبًا أو جرًا أم اختلاف لغات؟ لا شك أن الجواب هو الثاني أنه اختلاف لغات. إذًا ليس كل تغييرٍ واختلافٍ لأواخر الكلم يكون إعرابًا بل لابد أن يكون سبب هذا الاختلاف هو دخول العامل لذلك قال: [وَذَلِكَ التَّغْيِيرُ] ليس مطلقًا، وإنما هو لاضطراب واختلاف [عَوَامِلٍ تَدْخُلُ] على الاسم المعرب [لِلإِعْرَابِ] يعني مقتضية للإعراب، لكونها تطلب فاعلاً أو مفعولاً أو اسمًا مجرورًا. [عَوَامِلٍ] اضطراب مضاف وعوامل مضاف إليه ممنوع من الصرف، وصرف هنا لضرورة الوزن، جمع عامل، والعامل: هو ما أثَّر في آخر الكلمة من اسم أو فعل أو حرف. فقد يكون فعلاً وقد يكون اسمًا وقد يكون حرفًا. وهذا ضابط تقريبي

للعامل وإلا فيه نظر. فالعامل يقتضي معمولاً ويقتضي عملا، فالمعمول: ما يظهر فيه الإعراب لفظًا أو تقديرًا. والعمل: ما يحدثه العامل وتختلف بسببه أحوال آخر المعرب. فإذا قلت: ضربَ زيدٌ عمرًا. فضرب: فعلٌ ماضٍ-وهو العامل-،وزيدٌ-وهو المعمول- فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. والذي أحدث هذه الضمة هو ضرب، إذًا ضرب فعلٌ، وقد أثر في آخر زيد، فاقتضى الرفع- وهو العمل- لأن ضرب يطلب فاعلاً فحينئذٍ لمّا وجد زيد وصلح أن يكون فاعلاً رفعه. وعمرًا مفعولٌ به لأن ضرب يطلب مفعولا فهو فعل متعدٍّ، ولمّا وجد عمرو وكان محلاً لوقوع الضرب نصبه. فحينئذٍ تعلق ضرب بزيد فرفعه على أنه فاعل، لأن ضرب يقتضي فاعلا. وتعلق بعمرو ونصبه لأن ضرب يتعدى إلى مفعولٍ به، فحينئذٍ نقول: هذا الاختلاف-زيدٌ مرفوع، وعمرًا منصوب- لاختلاف العامل-ولو كان واحدًا- وما يقتضيه من رفع أو نصب وهذا هو مراده بقوله: [تَدْخُلُ لِلإِعْرَابِ] أي مجيئها لما تقتضيه من الفاعلية والمفعولية والإضافة. وإذا قلت: أقائمٌ الزيدان. فقائم: مبتدأ، والزيدان: فاعل سد مسد الخبر مرفوع ورفعه بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، والذي أحدث هذه الألف هو قائمٌ، إذًا قائمٌ أثر في آخر الزيدان فاقتضى الرفع لأنه يطلب فاعلاً، وهو اسمٌ، إذًا يكون الاسم عاملاً للرفع، وقد يكون عاملاً للنصب ومثاله تقول: أنا ضاربٌ زيدًا، فزيدًا منصوبٌ بضارب. كذلك الحرف يكون عاملاً، كقولك: إن زيدًا قائمٌ، فزيدًا منصوب، والعامل فيه إنَّ وهي

حرف. وإنّ عاملة في اسمها باتفاق البصريين والكوفيين. قائمٌ خبر إنّ يعني خبر اسم إن، مرفوع والعامل فيه إنَّ على الصحيح وهو مذهب البصريين أنّّ إنّ ناصبة ورافعة. وعند الكوفيين ناصبة لا رافعة. فحينئذٍ الفعل يعمل والاسم يعمل والحرف يعمل، وثَمَّ عوامل أخرى ذكرها عبد القاهر الجرجاني في كتابه العوامل المائة وشرحه خالد الأزهري. والحاصل: أنه يكون ثَمَّ ارتباط بين الأثر الذي يحدثه العامل وبين العامل، ولذلك معنى العمل في الحقيقة: إن المعمول يتمم معنى العامل، فإذا قلت: جاء، هل معناه تَمَّ عند السامع؟ الجواب: لا، فإذا قلت: جاء زيد. تمم معناه؛ لذلك معنى الاقتضاء أنه يطلبه ليتمم معناه، لأن العامل قد يحتاج فاعلاً فقط كـ جاء زيد. وقد يحتاج إلى فاعل ومفعول به إذا كان متعديًا كضرب زيدٌ عمرًا ضرب: حدث، وهذا الحدث لابد له من فاعل، ولابد له من محل يقع فيه الحدث، فحينئذٍ يقتضي فاعلاً ويقتضي مفعولاً تقول: جاء زيد. لم يقتض مفعولاً؛ لأن هذا الحدث وصف يقوم بذاتٍ ولا يتعدى، وأما الضرب فلا، لابد من فاعل يُحدِث الضرب، ولابد من محل يقع عليه الضرب، لذلك احتاج وافتقر إلى مفعول به. وقيل العامل: هو ما أوجب كون آخر الكلمة على وجه مخصوص من رفع أو نصب أو خفض أو جزم. وهذا أعم من الأول لشموله العامل المعنوي، واختصاص الأول باللفظي. والعامل نوعان عند النحاة: عامل معنوي، وعامل لفظي. وضابط المعنوي: ما ليس للسان فيه حظ، أو ما لا حظ للسان فيه.

يعني لا يُنطق به، وإنما هو أمر معنوي اعتباري ذهني، وهذا على الصحيح منحصر في اثنين لا ثالث لهما، وثمَّ ثالث فيه نوع نزاع والخلاف فيه قوي. وهما الابتداء، والتجرد، فالابتداء: أمر معنوي، المبتدأ: مرفوع بالابتداء، والابتداء ليس شيئًا يلفظ به، قولك: زيد قائم، مبتدأ به، مفتتح به في الكلام هو الذي صار عاملاً فرَفعَ زيدًا على الابتداء. حينئذٍ نقول: هذا عامل، وهو معنوي. هل نطقت بالابتداء؟ هل للسان فيه حظ؟ الجواب: لا، هذا يسمى عاملاً معنويًا. الثاني: التجرد: وهذا في باب الفعل المضارع: اِرفَعْ مُضَارِعًا إِذَا يُجَرَّدُ ... عَنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسعَدُ نحو قولك: يضرب زيد عمرا، فيضرب: فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة في آخره، ما العامل فيه؟ إذا قلت (لن يقومَ) بالنصب، العامل هو لن، وهو ملفوظ به. (لم يضربْ) بالجزم، والعامل هو لم، وهو ملفوظ به. (يضرب) لم يسبقه لا ناصب ولا جازم، ما العامل؟ تقول: التجرد. والمراد بالتجرد: التعري، كونه لم يسبقه ناصب ولا جازم، وهذا أمر معنوي لأنه غير ملفوظ به، هذا هو الصحيح أن العامل المعنوي قسمان: الابتداء والتجرد فالابتداء في المبتدأ والتجرد في الفعل المضارع إذا لم يسبقه ناصب ولا جازم. وأما جزم المضارع لوقوعه في جواب الطلب فالنزاع فيه قوي. نحو: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} (الأنعام:151) أتل: فعل مضارع مجزوم، والعامل فيه وقوعه في جواب الطلب، وهو أمر معنوي، ولو قال به قائل وثلَّث به لا مانع. وأما العوامل اللفظية

فكثيرة، وضابطها: ما للسان فيه حظ. يعني ينطق ويلفظ به. مثل: الجوازم والنواصب، (لم يضربْ) لم: عامل لفظي ملفوظ به. هذه العوامل قسمان: سماعي، وقياسي، والجرجاني ذكرها في العوامل المائة. ومن أراد حفظها فإنه يعينه كثيرا في باب الإعراب، وشرحها خالد الأزهري بشرح نفيس جدًا. هذا حد الإعراب في اصطلاح الكوفيين. وأما في اصطلاح البصريين: فهو أثر ظاهر أو مقدر يجلبه العامل في آخر الكلمة أو ما نزل منزلته. قوله: أثرٌ فهذا الذي يتميز وينفصل به الإعراب اللفظي عن المعنوي وما عدا هذا القيد فالتعريف هو التعريف، أثرٌ: الأثر هو حركة أو حرف أو سكون أو حذف، فالأثر الذي أحدثه العامل هو الحركة نفسها الضمة أو الفتحة أو الكسرة. فنقول: الإعراب اللفظي عند البصريين هو أثرٌ ونفسر هذا الأثر بالحركة -عين الحركة- فالضمة نفسها هي الإعراب، والفتحة نفسها هي الإعراب، والكسرة نفسها هي الإعراب، والسكون نفسه هو الإعراب، والحذف نفسه هو الإعراب. فنقول: هذا الأثر وهو الذي يجلبه العامل في آخر الكلمة، وشرح بقية التعريف كما ذكرناه في حل ألفاظ المتن. ثم قال: أقْسَامُهُ ... أَرْبَعَةٌ ... تُؤَمُّ ... رَفْعٌ وَنَصْبٌ ثُمَّ خَفْضٌ جَزْمُ فَالأَوَّلاَنِ دُونَ رَيْبٍ وَقَعَا ... فِي الاِسْمِ وَالفِعْلِ المُضَارِعِ مَعَا فَالاِسْمُ قَدْ خُصِّصَ بِالجَرِّ كَمَا ... قَدْ خُصِّصَ الفِعْلُ بِجَزْمٍ فَاعْلَمَا

[أقْسَامُهُ] أي أقسام الإعراب، الإعراب جنس- وهو ما عمَّ اثنين فصاعدًا - يدخل تحته أربعة أنواع. وهذه الأنواع الأربعة هي [رَفْعٌ وَنَصْبٌ ثُمَّ خَفْضٌ جَزْمُ] ودليله الاستقراء والتتبع. [رَفْعٌ وَنَصْبٌ ثُمَّ] وثُمَّ ليست على بابها وإنما هي بمعنى الواو [خَفْضٌ جَزْمُ] على حذف حرف العطف. هذه الأربعة تنقسم باعتبار الاجتماع والافتراق إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسم يشترك فيه الأسماء والأفعال، وهو الرفع والنصب. 2 - وقسم يختص به الأسماء وهو الجر. 3 - وقسم يختص به الأفعال وهو الجزم. [أقْسَامُهُ] أي الإعراب، أي ما يحمل عليه الإعراب- على مذهب المصنف - لأن المعنى لا ينقسم. [أقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ] لا زائد عليها، بدليل الاستقراء والتتبع لكلام العرب. قال في السلم المنورق: وَإِنْ بِجُزْئِيْ عَلَى كُلِّيْ اسْتُدِلْ ... فَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ عِنْدَهُمْ عُقِلْ [تُؤَمُّ] أي تقصد، من أمّ يؤمُّه أمًّا بمعنى قصده، ولذلك لو قال في الصلاة: آمِّين شدد الميم نقول بطلت صلاته. ومنه {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (المائدة:2) يعني قاصدين. فـ[تُؤَمُّ] أي تقصد عند طلاب علم النحو، لأن ضبطها يعينه على فهم الإعراب، فحينئذٍ قد استقام لسانه وفهم كلام غيره. [رَفْعٌ] هذا هو النوع الأول قدمه، لأنه عمدة، وهو إعراب العمد. والرفع في اللغة: العلو

والارتفاع. وفي الاصطلاح على مذهب البصريين: هو نفس الضمة وما ناب عنها. وعلى مذهب الكوفيين: هو تغيير مخصوص علامته الضمة وما ناب عنها. [وَنَصْبٌ] ثنى به لأن عامله قوي لأنه قد يكون فعلا. والنصب لغة: الاستقامة والاستواء. واصطلاحًا على مذهب البصريين: هو نفس الفتحة وما ناب عنها. وعلى مذهب الكوفيين: هو تغيير مخصوص علامته الفتحة وما ناب عنها. [ثُمَّ خَفْضٌ] ثلث به لأنه مختص بالاسم، وهو أشرف من الجزم. والخفض في اللغة: هو التذلل والخضوع. وعلى مذهب البصريين: هو نفس الكسرة وما ناب عنها. وعلى مذهب الكوفيين: تغيير مخصوص علامته الكسرة وما ناب عنها. [جَزْمُ] الجزم في اللغة هو: القطع، تقول: جزمت الحبل إذا قطعته. واصطلاحًا على مذهب البصريين: هو نفس السكون وما ناب عنه. وعلى مذهب الكوفيين: هو تغييرٌ مخصوص علامته السكون وما ناب عنه. [فَالأَوَّلاَنِ] الفاء فاء الفصيحة، وسبق بيانها. والأَوَّلاَنِ هما الرفع والنصب، وهذا من باب التغليب كالقمرين؛ لأن الرفع هو الأول وناسب أن يثني معه النصب، فحينئذٍ نقول: هذا ملحق بالمثنى كالقمرين. فالأولان وهما الرفع ظاهرًا كان أو مقدرًا، والنصب ظاهرًا كان أو مقدرًا. [دُونَ رَيْبٍ] أي بلا ريبٍ وبلا شكٍ [وَقَعَا] وحلاَّ، والألف تعود على الأولين، إذًا هي فاعل، في [الِاسْمِ] أي المعرب، لا مطلق الاسم. [وَالفِعْلِ] المضارع الخالي من نون الإناث ونوني التوكيد [مَعَا] منصوب على الحال، يعني مجتمعَين. هذا فيما اشترك فيه الاسم

والفعل، نحو: زيدٌ يقومُ. فزيدٌ اسم، وهو مرفوع، ورفعه ضمة. ويقوم فعل مضارع خالي من نون الإناث ونوني التوكيد، وهو مرفوع بالضمة. إذًا اجتمع الرفع في الاسم والفعل في مثالٍ واحد. واجتمع النصب في الاسم والفعل في قولك: إن زيدًا لن يقوم. إن: حرف توكيد ونصب، وزيدًا: اسمها منصوب بها. لن يقوم لن: حرف نصب واستقبال ونفي، يقوم: فعل مضارع منصوب بلن ونصبه فتحة ظاهرة على آخره. إذًا اجتمع النصب في الاسم وفي الفعل معًا. [فَالاِسْمُ] هذه فاء الفصيحة أيضًا كأن سائلاً قال: ما الذي يختص به الاسم؟ وما الذي يختص به الفعل؟ فقال: [فَالاِسْمُ قَدْ خُصِّصَ بِالجَرِّ] سواء كان ظاهرًا أو مقدرًا [كَمَا قَدْ خُصِّصَ] أي كتخصيص، فمَا مصدرية، فحينئذٍ تكون الكاف داخلة على المصدر المنسبك من ما وما دخلت عليه، كتخصيص [الفِعْل] أي المعرب الذي هو الفعل المضارع الخالي من نون الإناث، ونوني التوكيد. [بِجَزْمٍ] ظاهرًا كان أو مقدرًا. فإذا قيل [فَالاِسْمُ قَدْ خُصِّصَ بِالجَرِّ] أي أن الجر- الذي هو الكسرة وما ناب عنها-خاصٌ بالاسم دون الفعل، فيختص الاسم بالجر دون الفعل. فالجر يدخل الأسماء ولا يدخل الفعل المضارع. وأحسن ما يعلل به أن يقال: إن عامل الجر يمتنع دخوله على الفعل، فحينئذٍ لا يجر، فإذا قيل الاسم يدخله الجر، من أين يدخله الجر؟ بأي عامل؟ بحرف جر أو بمضاف. وهل الفعل يدخله حرف الجر؟ الجواب: لا يمكن؛ لامتناع دخول حرف الجر على الفعل. وهل الفعل يضاف؟ الجواب: لا، إذًا امتنع

دخول الجر على الفعل لامتناع دخول عامل الجر على الفعل، واختصاصه بالأسماء.، مثاله: مررت بزيدٍ والفتى. [قَدْ خُصِّصَ الفِعْلُ بِجَزْمٍ] ظاهرًا كان أو مقدرًا. والأصل فيه السكون الظاهر نحو: {لَمْ يَلِدْ} (الإخلاص:3) يلد: فعل مضارع مجزوم بلم، وجزمه سكون ظاهر على آخره. {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (البينة:1) يكن: فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، وجزمه سكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين. [فَاعْلَمَا] ما ذكرته لك، وهو تتميم وتكميل للبيت. والفاء لعلها عاطفة أو فصيحة. [اعْلَما] فعل أمر، والألف هذه منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة. هذه الأنواع الأربعة لها علامات تدل عليها. وهذه العلامات على ضربين: علامات أصول وعلامات فروع. والعلامات الأصول التي تدل على الرفع والنصب والخفض والجزم- على مذهب الناظم- أربعة بالاستقراء والتتبع: الضمة للرفع، والفتحة للنصب، والكسرة للجر، وحذف الحركة للجزم. والعلامات الفروع إما أن ينظر لها باعتبار المحل، وإما أن ينظر لها باعتبار الحالّ. المحل أي الكلمة التي حل فيها النائب، أو تنظر إلى النائب نفسه. فباعتبار المحل هي سبعة أبواب يعني أين تكون هذه العلامات الفروع؟ وأين نجدها؟ وفي أي المواضع؟ نقول: محصورة في سبعة أبواب: خمسة في الأسماء واثنان في الأفعال. خمسه في الأسماء وهي: الأسماء الستة، والمثنى، وجمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم في حالة

النصب، والاسم الذي لا ينصرف في حالة الجر. واثنان في الأفعال: الباب الأول: الأمثلة الخمسة، وهي (يفعلان، تفعلان، يفعلون، تفعلون، تفعلين).والباب الثاني: الفعل المضارع المعتل الآخر في حالة الجزم. هذا باعتبار المحل يعني الكلمة التي تكون قابلة للعلامة الفرعية. وأما باعتبار الحالّ أي نفس العلامة الفرعية فهي: ثلاثة عن الضمة، وأربعة عن الفتحة، واثنان عن الكسرة، وواحد عن السكون. _فهذه عشرة_. إذًا تكون العلامات الفروع باعتبار المحل في سبعة أبواب وباعتبار الحالّ الذي هو النائب عشر علامات.

باب علامات الرفع

بَابُ عَلاَمَاتِ الرَّفْعِ شرع يبين لك العلامات التي تكون للرفع، لأنه قسم لك الإعراب إلى أربعة أقسام: الرفع والنصب والخفض والجزم، لكلٍ من هذه الأقسام الأربع علاماتٌ تدل عليها. يأتي السؤال ما هي علامات الرفع؟ ومتى نحكم على الكلمة بأنها مرفوعة؟ نقول: إذا وجد فيها واحدة من أربع علامات، سواءٌ كانت أصولاً أم فروعًا. قال: [بَابُ عَلاَمَاتِ الرَّفْعِ] ذكرنا أن الأرجح هو مذهب البصريين، أن الإعراب لفظي؛ فحينئذٍ لا يقال: علامة الرفع كذا، ولكن تسامح البصريون في باب الإعراب فإذا أعربوا اللفظ قالوا: وعلامة رفعه كذا. وهذا من باب التسامح لأن العلامة هي الضمة مثلاً، والرفع هو الإعراب، والضمة هي الإعراب، فحينئذٍ كيف يكون الشيء علامة على نفسه؟! هذا لا يمكن. إذًا لا يصح أن يقال علامة رفعه الضمة، لأن الضمة هي الإعراب فكيف يجعل الإعراب علامة الإعراب؟! هذا من باب تحصيل الحاصل. لكن من باب التسامح يقال: علامة الرفع موافقةً لما كثر من كلام الكوفيين ونحوهم. [بَابُ] معرفة [عَلاَمَاتِ الرَّفْعِ] أي هذا باب بيان ومعرفة علامات الرفع. [عَلاَمَاتِ الرَّفْعِ] على مذهب الكوفيين في الإعراب تكون الإضافة لامية أي علامات للرفع. وعلى مذهب البصريين: أن العلامات هي الإعراب، تكون الإضافة بيانية أي علامات هي الرفع. وهذا ضابط الإضافة البيانية: أن يصح الإخبار بالمضاف إليه

عن المضاف. كما ذكرنا هنا علامات هي الرفع. [عَلاَمَاتِ] جمع علامة، وهي لغة: الأمارة. واصطلاحًا عند النحاة: ما يلزم من وجوده وجود المعلَّم، ولا يلزم من عدمه عدم المعلَّم. يعني: إذا وجدت الضمة لابد أن يوجد الرفع، ولا يلزم من انتفاء الضمة انتفاء الرفع، لأن العلامة-كما سبق في علامات الأسماء- مطردة غير منعكسة، مطردة بمعنى أنه كلما وجدت العلامة وُجد المعلَّم، غير منعكسة بمعنى: أن لا يلزم من انتفاء العلامة انتفاء المعلَّم. كما قلنا: (أل) علامة الاسمية، فإذا وجدت أل لابد أن يكون ما بعدها اسم، وهذا معنى الاطراد: أنه كلما وجدت العلامة وجد المعلَّم. ولا يلزم أنه إذا انتفت (أل) انتفت الاسمية. فمثلا إذا لم تدخل (أل) على (زيد) لا يلزم أن لا يكون زيد اسمًا؛ بل هو اسم و (أل) ليست داخلة عليه بل يمتنع دخول (أل) عليه. [بَابُ عَلاَمَاتِ الرَّفْعِ] إذًا الرفع له علامات، وهذه العلامات تدل عليه. ضَمٌّ وَوَاوٌ أَلِفٌ وَالنُّونُ ... عَلاَمَةُ الرَّفْعِ بِهَا تَكُونُ [ضَمٌّ وَوَاوٌ أَلِفٌ وَالنُّونُ] هذه العلامات الأربعة لابد أن يحدثها عامل الرفع. وعامل الرفع- بالاستقراء - لا يخرج عن خمسة عوامل: اثنان معنويان، وثلاثة لفظية، وعرفنا معنى العامل المعنوي، ومعنى العامل اللفظي. اثنان معنويان وهما الابتداء والتجرد، فالابتداء يرفع المبتدأ. كما قال ابن مالك: ... وَرَفَعُوا مُبَتدأً بِالْابْتِدَا

إذًا المبتدأ مرفوع، والعامل فيه معنوي وهو الابتداء. والتجرد يرفع الفعل المضارع كما قال ابن مالك: اِرفَعْ مُضَارِعًا إِذَا يُجَرَّدُ ... عَنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسعَدُ إذًا تجرد الفعل المضارع عن أداة نصب وأداة جزم هذا أمر معنوي، وهو الذي أحدث الضمة في الفعل يضربُ زيد. والثلاثة اللفظية: الفعل، والاسم، والحرف. فالفعل يرفع، والاسم يرفع، والحرف يرفع. فالفعل يرفع الفاعل، ونائب الفاعل، واسم كان، ضربَ زيد فزيد: فاعل والذي عمل فيه الرفع وأوجد الضمة هو الفعل ضربَ. والاسم يرفع نحو: أقائم الزيدان فقائم: اسم وهو مبتدأ، والزيدان: فاعل سد مسد الخبر، إذًا هو فاعل مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، ما الذي رفع الفاعل وأحدث الألف؟ نقول: قائم وهو اسم. إذًا ثبت أن الاسم يرفع. والحرف يرفع نحو: إن زيدًا قائم فإن: حرف باتفاق، وزيدًا: منصوب بإن باتفاق، وقائم: مرفوع بإن على مذهب البصريين وهو الأرجح. إذًا (قائم) اسمٌ مرفوع والذي أحدث الرفع فيه هو الحرف إنَّ. ومنه {مَا هَذَا بَشَراً} (يوسف:31) ما: حرف نفي، وهذا: اسمها مرفوع محلا، وبشرًا: خبر ما منصوب بها. ونحو: ما زيد قائمًا، فما النافية تعمل عمل ليس. قال الحريري في الملحة: وَمَا التِّي تَنْفِي كَلَيسَ النَّاصِبَةْ ... فِي قَولِ سُكَّانِ الحِجَازِ قَاطِبَةْ

فزيد: اسم ما مرفوع بها وقائمًا: خبرها؛ لأنها تعمل عمل ليس.،إذًا الحرف يرفع الاسم. قال: [ضَمٌّ] إما أن يكون مبتدأ، وعلامة الرفع خبرا له، ويجوز العكس وهذا أجود، ويكون الخبر قوله ضم وما عطف عليه، لأن مدلول المبتدأ عام فحصل التطابق بين المبتدأ والخبر. [ضَمٌّ] المقصود به الضمة. وبعضهم يفرق بين الضم فيجعله من ألقاب البناء، والضمة -بالتاء- فيجعلها من أنواع الإعراب، وبعضهم يسوي بينهما. وبعضهم يفرق ويتساهل فيطلق الضم على الضمة. حينئذٍ قوله: [ضَمٌّ] ليس المراد به ضم بناء، كما في (حيثُ)،وإنما المراد به الضمة؛ من باب التوسع والتساهل، وإلا الأولى أن يفرق بين الضم فيكون في البناء، والضمة بالتاء فيكون في الإعراب. [ضَمٌّ] هذه علامة أصلية، وهي الأصل في باب الرفع [وَوَاوٌ أَلِفٌ وَالنُّونُ] هذه فروع الضمة. إذًا الأصل أن يكون الرفع بالضمة، والواو نائبة عن الضمة، والألف نائبة عن الضمة، والنون نائبة عن الضمه، ولذلك قدم الضم على غيره لأنه الأصل وما كان أصلاً كان أشرف من غيره، وأيضا الكثير الغالب في كل مرفوع أن يرفع بالضمة، وثنى بالواو لأنها تنشأ عن الضمة أي تتولد عنها إذا أشبعت الضمة صارت واوًا؛ ولذلك يقول بعض النحاة: أن الضمة واو صغيرة، والواو الأصلية هي الكبيرة التي تنشأ عن إشباع الضمة. وثلّث بالألف؛ لأنها أخت الواو: أي نظيرتها في حروف المد واللين، وربَّع بالنون لأنها أجنبية، وليس لها مرتبة إلا التأخير. [وَوَاوٌ أَلِفٌ] أسقط حرف العطف لأنه لم يقل (وألف)،بناءا على

جواز حذف حرف العطف في الشعر. [عَلاَمَةُ الرَّفْعِ بِهَا] أي بهذه المذكورات من الضم وما عطف عليه، وهو مفرد مضاف، فحينئذٍ يعم، كأنه قال علامات الرفع، فيكون قد وافق الترجمة. [تَكُونُ] أي توجد، فكان هنا تامة لا ناقصة، يعني تفسر بالوجود والحصول. ومنه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} (البقرة:280) يعني وإن وجد أو حصل ذو عسرة. وهذه ليست كـ (كان زيد قائمًا) لأن هذه ناقصة _كما سيأتي في موضعه_ تفتقر إلى مرفوع ومنصوب يعني تدخل على المبتدأ فترفعه رفعًا جديدًا وعلى الخبر فتنصبه على أنه خبر لها. فهنا [تَكُونُ] بمعنى: تحصل وتوجد، إذًا هي تامة، تفتقر إلى فاعل فقط. [تَكُونُ] هي، فتكون: فعل مضارع تام مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. وليس لها اسم ولا خبر، لأنها تامة. بل ترفع فاعلا، وفاعلها ضمير مستتر تقديره هي. فَارْفَعْ بِضَمٍّ مُفْرَدَ الأَسْمَاءِ ... كَجَاءَ زَيْدٌ صَاحِبُ العَلاَءِ [فَارْفَعْ بِضَمٍّ] الفاء فاء الفصيحة، كأنه قال: فإذا أردت أن تعرف مواضع الضم فأقول لك: ارفع بضم. [ارْفَعْ] فعل أمر، وهو دال على الوجوب لغة وشرعًا، فحينئذٍ إذا أثبت دلالة (افعل) على الوجوب لغةً فاستعماله هنا من باب اللغة على وجهه، يعني (ارفع) وجوبًا، ولا يجوز أن يحُلَّ محل الرفع غيره. [فَارْفَعْ] أيها النحوي [بِضَمٍّ] الباء هذه للتصوير أي ارفع رفعًا مصورًا بضم على القول بأنه لفظي، لأن الرفع هو عين الضم؛ فحينئذٍ صوَّرت

وجعلت وشكّلت هذا الرفع على هيئة ضمة. وعلى مذهب الكوفيين بعضهم يجعل هذه الباء بمعنى مع أي ارفع رفعًا مع ضم، فحينئذٍ تكون ثَمَّ مغايرة بين الرفع والضمة. [فَارْفَعْ بِضَمٍّ] الضم له مواضع - الضمة التي هي الأصل لها مواضع- عددها بالاستقراء أربعة: الاسم المفرد، والجمع المكسر، وجمع المؤنث السالم، والفعل المضارع الذي لم يتصل بآخره شيء مما يوجب بناءه أو ينقل إعرابه، ولم يتقدم عليه ناصب ولا جازم. [فَارْفَعْ بِضَمٍّ مُفْرَدَ الأَسْمَاءِ] هذا هو الموضع الأول [مُفْرَدَ الأَسْمَاءِ] أي الأسماء المفردة، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. هل يوصف الفعل بالإفراد؟ نقول: نعم، يوصف الفعل بالإفراد، مثاله: زيد يضرب، فالفعل يضرب أي هو: مفرد، من حيث المعنى وذلك إذا أسند إلى فاعل مفرد، بخلاف ما إذا أسند إلى فاعلٍ مثنى-وهو ألف الاثنين-نحو: الزيدان يضربان، فإنه مثنى في المعنى، أو إذا أسند إلى فاعلٍ جمعٍ - وهو واو الجماعة - نحو: الزيدون يضربون فإنه جمع في المعنى. فحينئذٍ نقول: مراده هنا [فَارْفَعْ بِضَمٍّ مُفْرَدَ الأَسْمَاءِ] أي الأسماء المفردة. فنحو: الزيدان يضربان لا يرفع بالضمة، لأنه مثنى معنىً لا اصطلاحًا، لأنه أسند إلى ألف الاثنين فكانت دلالته على الاثنين. وكذلك يضربون نقول: لا يرفع بالضمة؛ لأنه جمع معنىً لا اصطلاحًا، لأنه أسند إلى واو الجماعة فتدل على الجماعة. والحاصل أن مراده بـ[مُفْرَدَ الأَسْمَاءِ] الأسماء المفردة، وضابطه في باب الإعراب- لأن المفرد له اصطلاحات

تختلف باختلاف الأبواب -:هو ما ليس مثنى ولا مجموعًا ولا ملحقًا بهما ولا من الأسماء الستة. وهذه قيود عدمية، أوتقول: هوما دل على واحد أو واحدة وليس من الأسماء الستة. والتفصيل أحسن. ما ليس مثنى: خرج المثنى كالزيدان. فلا يرفع بالضمة لأنه ليس مفردًا. ولا مجموعًا: خرج جمع المذكر السالم كالزيدون، فلا يرفع بالضمة لأنه ليس بمفرد. ولا ملحقًا بهما: أي بالمثنى كـ (كلا وكلتا واثنان واثنتان) فخرج الملحق بالمثنى. فلا يرفع بالضمة لأنه ليس بمفرد، وخرج الملحق بجمع المذكر السالم كعشرون وبابه، فلا يرفع بالضمة لأنه ليس بمفرد. ولا من الأسماء الستة: وهي أخوك وأبوك وحموك وفوك وذو مال وهنوك، فهذه الأسماء مفردة- باعتبار آخر- لأنها دلت على واحد. فأبوك: دل على واحد، ولكن لا يعرب بالضمة رفعًا، وإن كان من الأسماء المفردة لكنه في باب الإعراب اصطلاحًا: ليس من الأسماء المفردة، لأن ضابط المفرد هنا: هو الذي يعرب بالضمة رفعًا، وأبوك وأخوك .. إلخ لا تعرب بالضمة رفعًا. وإنما تعرب بالواو نيابة عن الضمة. إذا وجدت هذه القيود تعين أن يكون الاسم المفرد في حالة الرفع مرفوعًا بالضمة. [مُفْرَدَ الأَسْمَاءِ] [أل] تفيد العموم هنا؛ لأنه جمع محلى بأل. قال العمريطي في نظم الورقات: الْجَمعُ وَالْفَردُ المُعَرَّفَانِ ... بِالَّلامِ كَالكَافِرِ والِإنْسَانِ فيعم مفرد الأسماء-هنا- المذكر والمؤنث والمنصرف وغير المنصرف، كزيد، وهند، وأحمد.

[كَجَاءَ زَيْدٌ صَاحِبُ العَلاءِ] جاء: فعل ماض، والكاف حرف جر، وهو مختص بالأسماء فلا يدخل على الأفعال، وهنا دخل على الفعل! والجواب عن هذا الاعتراض بأحد أمرين: الأول: أن يقال إن الكاف هنا ليست بحرف، وإنما هي اسم، وقد تستعمل الكاف اسمًا، كما قال ابن مالك: وَاسْتُعمل اسْمًا وَكَذَا عَنْ وَعَلَى ... ....................... (واستعمل اسمًا) أي الكاف فالضمير يعود على الكاف، لأنه قال: (شَبِِّه بِكَافٍ) - ثم قال: (وَاسْتُعِمل اسْمًا).إذًا قد يستعمل بعض الحروف أسماءا، وذكر السيوطي في الأشباه والنظائر: أن بعض الألفاظ تكون أسماءا وحروفًا، وبعضها تكون أسماء وحروفًا وأفعالاً-وليس في وقت واحد وإنما باعتبار الاستعمال- فقد تكون الكاف في استعمال حرف جر، وقد تكون في استعمال آخر اسما، وهذا إنما هو تشابه في اللفظ فقط وأما في الحقيقة فليس الكاف الحرفية كالكاف الاسمية إلا في النطق فقط. ولذلك يعطف عليها-أي الكاف الاسمية- بالرفع إن جاءت في موضع رفع، ومنه {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة:74) أَوْ أَشَدُّ بالرفع معطوف على محل الكاف، والكاف هنا كاف مثلية، أي بمعنى مثل، وهي اسم، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ} فهي: مبتدأ، والكاف خبر وهو مضاف، الحجارة: مضاف إليه. أو أشدُّ: هذا معطوف على محل الكاف التي بمعنى مثل. وعليه نحمل الكلام هنا [كَجَاءَ زَيْدٌ] أي مثل جاء زيد. فليس عندنا حرف جر

داخل على الفعل، وإنما صارت الجملة الفعلية في محل جر مضاف إليه، وهذا جائز في لغة العرب، أن تقع الجملة الفعلية أو الاسمية في موضع جر مضاف إليه. الجواب الثاني: أن تجعل الكاف على بابها، أنها الكاف الحرفية، وحينئذٍ لابد من التقدير [كَجَاءَ زَيْدٌ] أي كقولك: جاء زيد. إذًا الكاف لم تدخل على الفعل في الحقيقة، وإنما دخلت على القول المقدر، فاتصال الكاف بالفعل إنما هو في اللفظ فقط، نظير قول الشاعر: وَاللهِ مَا لَيِلي بِنَامَ صَاحِبُهْ ... وَلَا مُخَالِطَ اللَّيَانِ جَانِبُهْ فنام: فعل ماض بالإجماع، والباء-هنا- دخلت على الفعل في اللفظ، فهل نقول: (نام) اسم لدخول الباء؟ الجواب: لا، فلابد حينئذٍ من التقدير؛ لأن الباء لا تكون اسمية كالكاف. فتقدر: والله ما ليلي بمقول فيه نام صاحبه، (بمقول) الباء دخلت على مقول محذوف وهو اسم، وجملة (نام صاحبه): في موضع رفع لـ (مقول) ومقول: اسم مفعول يرفع نائب فاعل. وهنا تقدير [كَجَاءَ زَيْدٌ] أي كقولك [جَاءَ زَيْدٌ] وجملة جَاءَ زَيْدٌ في موضع نصب للقول المحذوف؛ لأن القول ينصب الجملة وما في معناها، نحو: قلت قصيدةً. [كَجَاءَ زَيْدٌ] زيد: فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. فهذا مثال للمفرد المرفوع بالضمة، [صَاحِبُ العَلاَءِ] صاحب: نعت، ونعت المرفوع مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. والعلاء كسماء، أي الرفعة، صاحب مضاف، والعلاء مضاف إليه مجرور، وجره كسرة ظاهرة على آخره. إذًا [فَارْفَعْ بِضَمٍّ] ظاهرٍ

كالمثال المذكور. وقد يكون الرفع بضمٍّ مقدرٍ نحو: جاء الفتى والقاضي. فالفتى: فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر. والقاضي: معطوف على الفتى، والمعطوف على المرفوع مرفوع، ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الثقل. هذا هو الموضع الأول الذي يكون رفعه بالضمة على الأصل. وَارْفَعْ بِهِ الجَمْعَ المُكَسَّرَ .... ... .................. [وَارْفَعْ بِهِ] الضمير يعود على الضم أي بالضم ظاهرًا أو مقدرًا. و [ارْفَعْ] أمر والأمر يقتضي الوجوب. [وَارْفَعْ بِهِ الجَمْعَ المُكَسَّرَ] هذا الموضع الثاني، الجمع المكسر كما هي عبارة المتقدمين، أو جمع التكسير كما هي عبارة المتأخرين. يقولون: جمع التكسير. والتكسير تفعيل-وهو مصدر- من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، فيكون كالمكسر، إذًا رجعنا إلى عبارة المتقدمين. [وَارْفَعْ بِهِ الجَمْعَ المُكَسَّرَ] ويقال: جمع التكسير، والإضافة حينئذ من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الجمع المكسر. قالوا: إذا قيل: جمع التكسير فليس المراد به هنا المعنى المصدري للجَمْع وهو ما دل على أكثر من اثنين، فهذا معنىً من المعاني فلا يرفع. وإنما المراد المجموع، والمجموع هو اللفظ، فحينئذ قوله: [الجَمْعَ] هذا من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول أي: ارفع به المجموع، والذي وقع عليه الجمع هو اللفظ، وليس هو عين الجمع الذي يرفع بالضم، فتنبه. وضابط جمع التكسير: هو ما تغير عن بناء مفرده. ولذلك قيل: مكسر، لأن

المفرد لا يسلم في الجمع. قوله: ما تغير فما اسم موصول بمعنى الذي، يصدق على جمعٍ أي جمعٌ وصفه أنه تغير ولم يبق على أصله في مفرده، عن بناء مفرده: المقصود به الصيغة-صيغة المفرد-والصيغة يعبرون بها عن الوزن، وهي الحروف والحركات والسكنات. وعند الصرفيين: أن الوزن هو ما ألف من الفاء والعين واللام فتقول: خَرَجَ على وزن فَعَلَ، وعَلِمَ على وزن فَعِلَ، وشَرُفَ على وزن فَعُلَ، واسْتَغْفَرَ على وزن اسْتَفْعَلَ، وأكرم على وزن أَفْعل، ففَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ ونحوها هذه تسمى وزنًا، وصيغة، وبنية، وبناءا. قال النيساري في نظم الشافية: وَتُوزَنُ الأُصُولُ فِي الكَلَامِ ... بِالفَاءِ ثُمَّ العَينِ ثُمَّ اللَّامِ ولذلك يقال: فاء الكلمة، وعين الكلمة، ولام الكلمة. فنحو: (خرج) الخاء: فاء الكلمة، والراء: عين الكلمة، والجيم: لام الكلمة، لأنها تقابَل بالأصل. وتشكل بما شكلت به الحروف التي في الأصل الموزون. إذًا قوله: عن بناء مفرده أي عن زنة مفرده وهو الحروف والحركات والسكنات، فإذا قلت: رَجُلٌ وجمعتَه على رِجَالٍ فرَجُل: على وزن فَعُل بفتح الفاء- التي هي الراء- وبضم العين-التي هي الجيم-واللام بحسب حركة الإعراب -التي هي اللام- وجمعه رجال فالراء موجودة كما هي، والجيم موجودة كما هي، واللام موجودة كما هي، هل بقيت هذه الأصول على حالتها في الجمع كما هي في المفرد أم تغيرت؟ لا شك أنها تغيرت. إذًا لم يبق على بنية

مفرده -رجل بفتح الراء، ورجال بكسر الراء. رجل بضم الجيم، ورجال بفتح الجيم - إذًا تغير عن بناء مفرده. فحينئذ نقول: رجال جمع مكسر؛ لأنه لم يسلم فيه واحده بل تغير، بخلاف نحو: مسلمون جمع مُسْلِم- على وزن مُفْعِل-بقي المفرد في الجمع كما هو بحركاته وسكناته. فـ (مُسْلِمون) جمع تصحيح، لأن مفرده (مُسْلِم) صحَّ وسَلِم فلم يحذف منه حرف، ولم تتغير حركاته ولا سكناته، فسمي جمع تصحيح لأن المفرد صح في الجمع، يعني إذا قورن الجمع بالمفرد. وليس المراد أن المفرد في داخل الجمع، وإنما بالمقارنة الاعتبارية فقط. من أجل ضبط القواعد وإلا فالمفرد مستقل، والجمع مستقل. فحينئذ مسلم ومسلمون، ليس كرجل ورجال، فرجل مفرد ورجال جمعه ولم يسلم المفرد في الجمع. ومسلم مفرد ومسلمون جمعه وقد سلم المفرد في الجمع. ما تغير عن بناء مفرده أي عن صيغته، زاد بعضهم: من غير إعلال ولا إلحاق علامة جمع أو تثنية. أراد أن يستثني نوعًا من أنواع جمع التصحيح، حصل فيه تغيير ولكنه ليس بجمع تكسير بل هو جمع مذكر سالم، ذكرنا أن جمع المذكر السالم يصح فيه مفرده ولا يتغير، لكن إذا حصل له نوع تغيير فإنه لا يدخل في هذا الحد؛ لأن تغير جمع التكسير عن مفرده تغير استقلالي ابتدائي وليس لعلة تصريفية، يعني هكذا أول ما وضع (رجل) كما هو مفردٌ ووضع (رجال) كما هو جمع. وأما (قاضون) جمع (قاضي) بالياء - على الأصل- إذا أردنا جمعه بواو ونون نُلحقه بآخره واوًا ونونًا، فصار قاضيْوْن فحينئذٍ صار

عندنا إشكال وهو أن الواو والياء ساكنتان، الياء من (قاضي) ساكنة، والواو ساكنة- وهي حرف إعراب وحرف جمع- فماذا نصنع؟ والقاعدة عند الصرفيين في التقاء الساكنين: أنه يحرك الساكن الأول للتخلص منه، كما قلنا في (قمِ الليل) حرك الأول بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين هذا هو الأصل. ولكن هنا يتعذر تحريك الياء بالكسر أو بالفتح أو بالضم، والعلة في الحكم بتعذر تحريك الياء هنا أننا ذكرنا أن إعراب (قاضي) مقدر، دفعًا للثقل. إذًا سلبناه حركة الإعراب طلبًا للخفة. فلم يُحرَّك الياء من (قاضي) بحركةِ إعراب. فلا يجوز لنا أن نحركه بحركةٍ عارضة، فإذا سُلب حركة الإعراب وهي الأصل وهي الأَولى التي تدل على معنىً فمن بابٍ أولى وأحرى ألا يحرك بحركة عارضة للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأن قولك: (جاء القاضيُ) هذه الضمة أقوى من الكسرة التي للتخلص من التقاء الساكنين لأنها اقتضاها عامل، وتلك اقتضاها التخلص من التقاء الساكنين وهو أضعف. فإذا لم يمكن تحريك الياء بحركة التخلص من التقاء الساكنين نعدل إلى المرحلة الثانية عند الصرفيين: وهي أنه يحذف الحرف الأول- وهو الياء - لكن بشرطين: الأول: أن يكون حرف علة. والثاني: أن يدل عليه دليل أي بعد الحذف. فإن كان ياءا يكسر ما قبلها، وإن كان واوًا يضم ما قبلها، وإن كان ألفًا يفتح ما قبلها -هذا يسمى دليل الحرف المحذوف-. هنا الياء حرف علة، وقد كُسر ما قبلها، فقد وجد شرطا الحذفِ، فحذفت الياء فصار (قاضِوْ) بكسر الضاد،

وسكون الواو. فحينئذٍ ورد إشكال آخر: وهو أن هذه الواو بعد حذف الياء ساكنة، وكُسر ما قبلها، والقاعدة الصرفية: أن الواو إذا سكنت وانكسر ما قبلها وجب قلبها ياءًا. فحينئذ يجب أن تقلب هذه الواو ياءًا. فتقول: (قاضين) فيلتبس الرفع بالجر والنصب، وهذا إشكال آخر. قالوا: إذًا يجب إبقاء هذه الواو. ونبطل القاعدة بقلب الكسرة ضمة، فصارت واوا ساكنة ضم ما قبلها. إذًا لا قلب عندنا، بل الواو يناسبها أن يكون ما قبلها مضمومًا، حينئذٍ سقطت القاعدة. والحاصل: أن (قاضُون) حصل فيه تغيير -انتقال الكسر إلى الضم، وحذف منه حرف- عن بناء مفرده، وليس بجمع تكسير، لأن التغيير حصل لإعلال، فحينئذٍ يبقى على أصله أنه جمع مذكر سالم. كذلك (مصطفون) الأصل فيه (مصطفاون) فالتقى ساكنان الألف والواو، ولا يمكن تحريك الألف مطلقًا، لأنها لا تقبل الحركة، فنحذفها لتحقق شرطي الحذف: حرف علة، ومفتوح ما قبله. إذًا (مصطفون) تغير عن بناء مفرده بحذف الألف، نقول: هذا التغيير لإعلالٍ فهو طارئ وليس لذات الجمع. ولذلك قال: ما تغير عن بناء مفرده من غير إعلال. ولا إلحاق علامة جمع ولا تثنية نحو: (زيد زيدان) زيد على وزن فَعْل وزيدان على وزن فَعْلان، فقد تغير بزيادة حرفين لكن لذات التثنية، فلا نحكم عليه بأنه جمع تكسير لأن الزيادة هذه لاحقة. ومثله (زيدون) مفرده (زيد) ولم يبق على أصله وإنما حصل التغير هنا بزيادة حرفين، وبضم الدال في حالة الرفع، وبكسرها في حالتي النصب والجر. والمثنى بفتح الدال في

الرفع والنصب والجر. نقول: هذا حاصل لكونه ألحق به علامة تثنية أو جمع. والحاصل: أن جمع التكسير: هو ما تغير عن بناء مفرده. ووجوه التغيير التي يحكم عليها بأنها جمع تكسير لا تخرج عن ستة أنواع بالاستقراء والتتبع: الأول: بالزيادة فقط. كـ صنو وصنوان. فحصل تغير بزيادة الألف والنون. الثاني: بالنقص فقط. كـ تُخَمة- بضم التاء وفتح الخاء - وهذا مفرد، يُجمع على تُخَم. حذفت التاء فقط. وتُهَمَة وتُهَم. الثالث: بالشكل فقط. كـ أَسَد وأُسُد، ونَمِر ونُمُر. الرابع: بالزيادة والشكل معًا: كـ رَجُل ورِجَال، تغيرت حركة الراء من الفتح إلى الكسر، والجيم من الضم إلى الفتح، وزيدت الألف. ومثله: سَبَب وأسباب، وبَطَل وأبطَال، وهند هنود. الخامس: بالنقص والشكل معًا: كـ رَسُول ورُسُل ضمت الراء وحذفت الواو. السادس: بالثلاثة معًا: بالشكل والنقص والزيادة. كـ غُلَام وغِلْمان ف (غُلام) الغين مضمومة، واللام مفتوحة، فقلت: غِلْمان، إذًا تغير بالشكل. (غلام) حذفت الألف التي بعد اللام، فقلت: غلمان وهذا حذف. والزيادة: الألف والنون. ومثله: كريم وكرماء، وكاتب وكُتَّاب، وأمير وأمراء.

[وَارْفَعْ بِهِ الجَمْعَ المُكَسَّرَ] أي جمع التكسير. [وَارْفَعْ بِهِ] أي ارفع رفعًا مصورًا بالضم [الجَمْعَ المُكَسَّرَ] مطلقًا سواء كان مذكرًا نحو: جاء الزيود. أو مؤنثًا نحو: جاءت الهنود. وسواء كان إعرابه ظاهرًا كما مثلنا، أو مقدرًا كجاءت الأُسارى والعذارى، الأسارى: جمع أسرى مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره وهو جمع تكسير. والعذارى: معطوف عليه وله حكمه. وسواء كان منصرفًا نحو: جاءت زيود وهنود، أو غير منصرفة نحو: هذه شياطين وبساتين. هذا النوع الثاني الذي يرفع بالضمة على الأصل. ..... وَمَا ... جُمِعَ مِنْ مُؤَنَّثٍ فَسَلِمَا [وَمَا جُمِعَ مِنْ مُؤَنَّثٍ فَسَلِمَا] أي النوع الثالث مما يرفع بالضمة: جمع المؤنث السالم. وبعضهم يعبر عنه بما جمع بألف وتاء مزيدتين، ولذلك قال ابن مالك: وَمَا بِتَا وَأَلِفٍ قَد جُمِعَا لأنهم يقولون بأنه جمع مؤنث، و (مؤنث) صفة لموصوف محذوف؛ لأن المؤنث مأخوذ من التأنيث، والتأنيث أمر معنوي، والمعنى لا يُجمع، فحينئذ لابد من التقدير: جمع المفرد المؤنث. (السالم) الذي سلم فيه مفرده، فهو صفة للجمع لا للمؤنث، ولذلك تقول: هذا جمعُ مؤنثٍ سالمٌ بالرفع؛ لأنه نعت لجمع. نقول: اعترض على هذا اللفظ بأن بعض مفرداته مما جمع بألف وتاء ليس بمؤنث كـ (حمام وحمامات، واصطبل واصطبلات) هذه جمعت

بألف وتاء وليست بمؤنث، (سالم) أي سلم مفرده وهو نعت للجمع. أيضًا اعترض عليه بأن بعض الجموع لم يسلم فيه مفرده كـ (سجْدة وسَجَدَات) تحركت الجيم، و (حبلى وحبليات) قلبت الألف ياءا، و (صحراء وصحراوات) قلبت الهمزة واوًا. فانتقد قيد (المؤنث)،وانتقد قيد (السلامة). فحينئذٍ عدل ابن مالك وتبعه ابن هشام إلى قولهم: ما جمع بألف وتاء. وأجاب الكثيرون عن الاعتراضين: بأنه صار علمًا ولقبًا فحينئذ صار جامدا، فلا مفهوم لقيد (مؤنث)،ولا مفهوم لقيد (سالم)،يعني لا مفهوم لهما فلا يحترز بهما. أما حقيقة هذا الجمع: فهو ما جُمع بألف وتاء مزيدتين. (ما) اسم موصول بمعنى الذي، يصدق على جمع، أي جَمْعٌ جُمِع بألف وتاء، وليس المراد أن يجمع الجمع بألف وتاء مرة أخرى! بل المراد: ما تحققت جمعيته وحصلت بألف وتاء، أي بسبب الألف والتاء المزيدتين على مفرده، فحينئذ نحكم عليه بأنه جمع بألف وتاء. (بألف وتاء) الباء للسببية، أي الجمع تحقق وحصل بسبب الألف والتاء، فلا داعي لقوله: (مزيدتين). ويحتمل أنها للملابسة فحينئذ لابد من قيد (مزيدتن). (بألف وتاء مزيدتين) احترازًا مما لو كانت الألف أو التاء أصلية في الجمع. فنحو: (أموات) ليس جمع مؤنث سالم، لأن التاء أصلية، وشرط جمع المؤنث السالم: أن تكون الألف والتاء مزيدتين. أما إذا كانت الألف أصلية والتاء زائدة أو العكس فلا يحكم بكونه جمع مؤنث سالم، ولو جمع فيكون حينئذٍ جمع تكسير. فـ (مَيْتٌ وأموات، وصوت وأصوات، وبيت وأبيات)

الألف زائدة والتاء أصلية. و (قضاة وغزاةٌ) التاء زائدة والألف أصلية، بمعنى أنها منقلبة عن أصل، لأن أصل قضاة: قُضَيَةٌ -على وزن فُعَلَةٌ- تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت الياء ألفًا. إذًا الألف أصلية؛ لأنها منقلبة عن أصل. وغزاةٌ أصلها غُزَوَةٌ تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت الواو ألفًا. إذًا (قضاة وغزاة) ليسا جمع مؤنث سالمًا؛ لأنه وإن كانت التاء زائدة إلا أن الألف أصلية؛ لأنها منقلبة عن أصل. جمع المؤنث السالم يكون قياسيًا وسماعيًا. والقياسي مطرد في ستة أشياء: نظمها الشاطبي بقوله: وَقِسهُ فِي ذِي التَّا وَنَحوِ ذِكرَى ... وَدِرهَمٍ مُصَغَّرٍ وَصَحَرا وَزَيَنبٍ وَوَصْفِ غَيرِ العَاقِلِ ... وُغَيرُ ذَا مُسَلَّمٌ لِلنَّاقِلِ (وَقِسهُ) أي ما جمع بالألف والتاء يكون مقيسًا (فِي ذِي التَّا) ء يعني في صاحب التاء أي اللفظ الذي أُنث بالتاء؛ لأن المؤنث على ثلاثة أنحاء: الأول: أن يكون مؤنثًا بالتاء فقط، نحو: فاطمة، ومسلمة، وطلحة. الثاني: أن يكون مؤنثًا بالألف فقط، نحو: حُبلى، وصحراء. الثالث: أن يكون مؤنثًا بالمعنى فقط، نحو: زينب وهند.

(وَقِسهُ فِي ذِي التَّا) أي ما كان مؤنثًا بالتاء سواء كان مسماه مؤنثا علما كفاطمة، أوصفة لمؤنث كمسلمة، أو مسماه مذكرا كطلحة. فتقول: فاطمة وفاطمات، ومسلمة ومسلمات، وطلحة وطلحات. وحذفت التاء التي كانت في الأصل- أي في المفرد- لأنها زائدة في تقدير الانفصال وإلا الأصل فاطمتات، ولئلا يجتمع في لفظ واحد علامتا تأنيث. إذًا قوله: (وَقِسهُ فِي ذِي التَّا) أن ما كان مختومًا بالتاء يكون جمعه بألف وتاء. (وَنَحوِ ذِكرَى) أي ما كان مختومًا بألف التأنيث. قال ابن مالك: عَلَامَةُ التَّأنِيثِ تَاءٌ أَو أَلِفْ ... وَفِي أَسَامٍ قَدَّرُوا التَّا كَالكَتِفْ (علامة التأنيث تاء) هذا سبق (أو ألف) يشمل نوعين: الألف المقصورة، والألف الممدودة. (وَنَحوِ ذِكرَى) يعني ما كان مختوما بألف مقصورة. فذكرى يجمع على ذكريات بألف وتاء. (وَدِرهَمٍ مُصَغَّرٍ) أي مصغر مذكر ما لا يعقل، فما لا يعقل إذا صغّر يجمع بألف وتاء. فدرهم يجمع على دراهم جمع تكسير، لكن إذا صُغّر (درهم) على دريهم جاز جمعه بألف وتاء، فيقال: دريهمات. (وَصَحَرا) ء أي ما كان مختومًا بألف ممدودة، فيقال فيه: صحراوات بألف وتاء. أما سماء وسماوات، فليست من هذا القبيل كما قد يظنه البعض، فسماء ليس كصحراء وإن جمع بألف وتاء فيقال: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ).فنقول: السماوات ليس جمع مؤنث سالما قياسيًا، وإنما هو سماعي. لأن صحراء الهمزة فيه للتأنيث. وسماء: اسم جنس

وليس اللفظ بمؤنث، لأن هذه الهمزة ليست أصلية، وإنما هي منقلبة عن واو، أصلها سماوٌ. والقاعدة: إذا وقعت الواو أو الياء بعد ألف متطرفة - يعني في آخر الكلمة - وجب قلب الواو أو الياء همزة. ولذلك تقول: (بناء) أصلها بنايٌ، وقعت الياء متطرفة بعد ألف زائدة فقلبت الياء همزة. و (سماء) أصلها (سماوٌ)، وقعت الواو متطرفة بعد ألف زائدة فقلبت الواو همزة، والدليل على هذا أنها ليست كصحراء قوله تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} (فصلت:12) بصرفها، ولو كانت مثل صحراء لوجب منعها من الصرف؛ لأن صحراء ممنوع من الصرف لعلة واحدة تقوم مقام علتين، وسماء منصرفة؛ لأن الهمزة هذه ليست همزة تأنيث، وإنما هي منقلبة عن واو. (وَزَيَنبٍ) أي العلم المؤنث بلا تاء، كزينب يجمع على زينبات، وهند على هندات. (وَوَصْفِ غَيرِ العَاقِلِ) يعني وصف المذكر غير العاقل نحو: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} (البقرة:184) فمعدودات جمع بألف وتاء؛ لأنه وُصِف به جمع ما لا يعقل وهو أيامًا. إذًا وَصْفُ الجمع الذي لا يعقل يجمع بألف وتاء. (وُغَيرُ ذَا) المذكور من الستة الأنواع (مُسَلَّمٌ لِلنَّاقِلِ) يعني مُفَوَّضٌ أمرُه للناقل عن العرب فيحكم عليه بأنه سماعي، كـ (حمّام وحمّامات، واصطبل واصطبلات، وسماء، وسموات) فالسماعي لا ينحصر، وضبطه لا يمكن، وإنما يرجع فيه إلى القواميس والمعاجم التي تذكر هذه الجموع. إذًا قوله: [وَمَا جُمِعَ مِنْ مُؤَنَّثٍ فَسَلِمَا] فـ[مَا] اسم موصول يصدق على جمع، في محل نصب معطوف على الجمع

المكسر. [جُمِعَ] ليس المراد به الجمع الحقيقي، وإنما المراد به جمع تحققت جمعيتة وحصلت [مِنْ مُؤَنَّثٍ] أي من مفرد مؤنث، فهو صفة لموصوف محذوف، لأن التأنيث معنى، والمعنى لا يجمع، [فَسَلِمَا] الفاء زائدة، والألف للإطلاق، والجملة صفة للجمع، أي سلم عن تغير بنائه-وفيه ما سبق بيانه-.إذًا عرفنا أن جمع المؤنث السالم يرفع بالضمة الظاهرة على الأصل، ولا تكون الضمة مقدرة في جمع المؤنث السالم إلا عند إضافته لياء المتكلم نحو: هذه شجراتي وبقراتي. والموضع الرابع الذي يكون رفعه بالضمة أشار إليه بقوله: كَذَا المُضَارِعُ الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ شَيءٌ بِهِ كَيَهْتَدِي وَكَيَصِلْ [كَذَا المُضَارِعُ] بالرفع مبتدأ مؤخر، وكَذَا خبرٌ مقدم، [المُضَارِعُ] أي الفعل المضارع، والفعل المضارع له حالان: الأولى: أن يكون مبنيًا. والثانية: أن يكون معربًا. أما الحال الأولى: فهو أن يكون مبنيًا، ويبنى على السكون وذلك إذا اتصل به نون الإناث، نحو: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (البقرة228) فيَتَرَبَّصْنَ: فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. ويبنى على الفتح إذا اتصلت به نون التوكيد، نحو: {كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} (الهمزة:4) فلَيُنْبَذَنَّ: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. ومثله {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف:32) مبني على الفتح في الموضعين، فالأول: (لَيُسْجَنَنَّ) مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والثاني (لِيَكُوناً) مبني

على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة. إذًا في هذين الموضعين نقول: الفعل المضارع مبني، إما على السكون وإما على الفتح على قول جمهور النحاة وهو الأرجح وإن قيل بخلافه. الحال الثانية: أن يكون معربًا. وسبق أن الفعل المضارع يدخله من الإعراب: الرفع والنصب والجزم، فإذا تقدم عليه ناصب نصب، وإذا تقدم عليه جازم جُزم، وإذا لم يتقدم عليه ناصب ولا جازم رفع -وهذه الحالة هي التي معنا هنا- ثم إذا رفع إما أن يرفع بالضمة على الأصل، وإما أن يرفع بثبوت النون وهي فرع. ويرفع بالضمة على الأصل إذا لم يتصل به ألف اثنين ولا واو جماعة ولا ياء المؤنثة المخاطبة أي لم يكن من الأمثلة الخمسة، فإذا لم يكن من الأمثلة الخمسة فحينئذٍ يتعيّن رفعه بالضمة. [كَذَا المُضَارِعُ] أي يرفع المضارع بضم سواء كان ظاهرًا أو مقدرًا، كما رفع الاسم المفرد وما عطف عليه، فهو المشار إليه بذا. [الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ شَيءٌ بِهِ] يتصل أصلها: يَوْتصل، قلبت الواو تاء فأدغمت في التاء، لأنه مثال واوي من الوصول. [بِهِ] جار ومجرور متعلق بقوله يتصل، [شَيءٌ] مما يوجب بناءه، أو ينقل إعرابه، لأنه إذا اتصل به شيء يوجب بناءَه كنون الإناث أو نوني التوكيد لم يكن مرفوعًا، أو ينقل إعرابه كألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة. فإذا اتصل به شيء ينقل إعرابه لم يكن مرفوعًا بالضمة. ولا بد من قيد ثالث: ولم يتقدم عليه ناصب ولا جازم. فإذا [لَمْ يَتَّصِلْ شَيءٌ بِهِ] فهو مرفوع بالضمة [شَيءٌ] سواء مما يوجب بناءه أو يوجب نقل إعرابه من الأصل إلى الفرع، لكن يبقى قيد ثالث لابد منه (ولم يتقدم عليه

ناصب ولا جازم)، لأنه إذا لم يتصل بالفعل المضارع نون الإناث ولا نون التوكيد ولا ألف الاثنين، ولا واو الجماعة، ولا ياء المؤنثة المخاطبة هل معنى ذلك أنه يرفع بالضمة؟ الجواب: لا، لأنه إذا لم يتصل به شيء قد يتقدم عليه جازم فيكون مجزومًا، أو في محل جزم، أو يتقدم عليه ناصب فيكون منصوبًا أو في محل نصب إذًا لابد من القيد. [كَيَهْتَدِي] زيدٌ، فهو فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة مقدرة منع من ظهورها الثقل، ويكون في الفعل المضارع المعتل الآخر مطلقًا [وَكَيَصِلْ] زيد والديه، فهو فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره لأنه صحيح الآخر. هذا هو الموطن الرابع والأخير مما يرفع بالضمة على الأصل. ثم شرع في بيان فروع الضمة، فبدأ بالواو وثنّى بها بعد الضمة؛ لأنها تنشأ عنها أي تتولد منها، ولذلك قيل: هي بنت الضمة. والواو تكون علامة للرفع نيابة عن الضمة في موضعين اثنين: -بالاستقراء والتتبع- الأول: الأسماء الستة. والثاني: جمع المذكر السالم. قال رحمه الله: وَارْفَعْ بِوَاوٍ خَمْسَةً أَبُوْكَ ... أَخُوكَ ذُو مَالٍ حَمُوكِ فُوكَ هذا هو الباب الأول الذي بدأ به الناظم من أبواب النيابة، وهو الأسماء الستة المعتلة المضافة. ويقال: الأسماء الخمسة، وعليه الجمهور لكن المحفوظ أنها ستة كما سيأتي. الأسماء الستة هذا علم بالغلبة؛ لأن الأسماء الستة معناها الأسماء المعدودة بالستة. يعني تقول: (أبوك أخوك حموك ذو مال فوك هنوك) هذه ستة أسماء، وتقول: (بيت مسجدٌ قلم كتاب

أرض سماء) هذه ستة أسماء، لكن هل كلما أطلق هذا اللفظ الأسماء الستة يصدق على أيِّ أسماء ستة أو المراد به أسماء معينة؟ نقول: بل المراد أسماء معينة، إذًا صار علمًا. لأن ما عيّن مسماه عند الإطلاق هو حقيقة العلم، فحينئذٍ إذا قيل للنحوي أو لطالب علم النحو: الأسماء الستة انصرف ذهنه لهذا المسمَّى أبٌ أخٌ حمٌ ... الخ دون غيرها من الأسماء. إذًا نقول الأسماء الستة ليس فيها إجمال ولا إبهام بل هي معينة. الأسماء الستة بعضهم يقيدها بالمعتلة، وهذا له نظران: إما لكون إعرابها بالواو رفعًا وبالألف نصبًا وبالياء جرًا، وهذه حروف علة كما قال في الملحة: وَالوَاوُ وَاليَاءُ جَمِيعًا وَالأَلِفْ ... هُنَّ حُرُوفُ الاعْتِلالِ المُكْتَنِفْ وإما لكون لاماتها أحرف علة. فأبٌ هذا ثنائي، والقاعدة أن الاسم إذا كان على حرفين ولم يكن مبنيًّا فلا بد من حرف محذوف، وهنا نقول: حذفت اللام منه اعتباطًا، أبٌ أصله أبَوٌ، وأخٌ أخَوٌ، وحمٌ حمَوٌ، وفوك فَوْهٌ. إذًا أبٌ أخ حم ذو هذه لاماتها واو، إلا فوك فلامها هاء، وليست حرف علة. إذًا نقول هي معتلة لأن لاماتها حرف علة، وهذا مطّرد في الخمسة فقط والسادس فوك ليست لامه حرف علة وإنما هي هاء، ولذلك يجمع على أفواه. وذو لامها واو أو ياء على خلافٍ، ذَوَوٌ أو ذَوَيٌ، فحينئذٍ يكون تسمية هذه الأسماء الستة بالمعتلة من باب التغليب. الأسماء الستة المعتلة المضافة بمعنى أنها لا تعرب هذا الإعراب إلا إذا أضيفت، وهذا القيد باعتبار ذو لبيان الواقع، وما عداها فإنه

للاحتراز؛ لأن أبًا , وأخًا، وحمًا، وفمًا لا تعرب هذا الإعراب إلا بشرط إضافتها، فحينئذٍ لها استعمالان: مفردة غير مضافة كأبٍ. ومضافة كأبوك، مضاف إلى الكاف- وهي ضمير- فهذه قد تضاف، وقد تنفك عن الإضافة، لكن لا تعرب هذا الإعراب إلا بشرط الإضافة. أما ذو فالشرط فيها لبيان الواقع لأنها لا تنفك عن الإضافة. هذه الأسماء الستة المعتلة المضافة بدأ بها الناظم لأنها مفردة -باعتبار المثنى والجمع- وليست مفردة باعتبار باب الإعراب لأن المفرد فيه يعرب بالضمة وهي أصلية وهنا يعرب بالواو وهي فرعية قال: وَارْفَعْ بِوَاوٍ خَمْسَةً أَبُوْكَ ... أَخُوكَ ذُو مَالٍ حَمُوكِ فُوكَ [وَارْفَعْ] فعل أمر، وسبق أن افعل في لغة العرب تدل على الوجوب،- هذا الأصل فيها- فدلالة افعل على الوجوب مأخوذة من اللغة ومن الشرع على أصح أقوال الأصوليين مالم توجد قرينة تصرفه عن ظاهره. وهنا قال: [وَارْفَعْ] فالأصل أن نحمله على الوجوب، لكن وجدت قرينة تصرف هذا الأمر عن ظاهره. وهو أنه لا يجب الرفع -مع الشروط التي سنذكرها- وإنما الأشهر في لغة العرب أنها ترفع بالواو إذا أضيفت؛ وإلا فقد سمع عدم إعرابها بواو مع إضافتها، كما قال القائل: بِأَبِهِ اقْتَدَي عَدِيٌّ فِي الكَرَمْ ... وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ

ولم يقل بأبيه، ومن يشابه أباه. إذًا هذه قرينة تجعلنا نصرف الأمر هنا من الوجوب إلى الاستحباب الصناعي. لأن موافقة الأشهر والأكثر أولى، وهو الأفصح؛ ولذلك لا يجوز حمل القرآن في الإعراب على النادر والقليل، وأولى من ذلك على الشاذ استعمالاً، أما الشاذ قياسًا فهو وارد في القرآن. إذًا نقول: [وَارْفَعْ] المراد به الاستحباب، لأن بعض العرب استعمل هذه الأسماء الستة مضافةً مع وجود الشروط معربة بالحركات على الأصل كما ذكرنا في الشاهد السابق. وهي لغة قوم، فحينئذ نقول: [وَارْفَعْ بِوَاوٍ] في إحدى لغات هذه الأسماء الستة. [وَارْفَعْ بِوَاوٍ] هنا لابد من التقدير أي وارفع رفعًا مصورًا بمسمى الواو، فهذا الرفع مصوّر بمسمى الواو؛ لأن نطقك بمسمى الواو هو عين الرفع، على مذهب البصريين. وأما على مذهب الكوفيين فالتقدير: وارفع رفعًا مع مسمى الواو. وقدرنا لفظ مسمى لأنه ليس المراد الاسم وإنما المراد المسمى لأن الرفع يكون بالمسمى لا بالاسم. [وَارْفَعْ بِوَاوٍ] ظاهرةً أو مقدَّرة، نحو: جاء أبوك، جاء فعل ماض. وأبوك فاعل مرفوع ورفعه الواو الظاهرة نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة. وجاء أبو الحسن. جاء فعل ماض. وأبو الحسن فاعل مرفوع ورفعه الواو المقدرة حذفت للتخلص من التقاء الساكنين. لأن الواو ساكنة، وهمزة الوصل تسقط في درج الكلام واللام ساكنة، فحينئذٍ التقى ساكنان= اللام والواو، وتعذّر تحريك الأول- وهو الواو- فوجب حذفها. إذًا الإعراب هنا يكون بالواو المقدّرة، ولو كتبتها لأن

الإعراب يتبع الملفوظات لا المرسومات. [خَمْسَةً] أي الأسماء المعدودة بالخمسة. وترك الناظم (هنوك) تبعًا للفراء والزجّاجي. وعدَّها غيره قال في الملحة: ثُمَّ هَنُوكَ سَادِسُ الأَسْمَاءِ ... فَاحْفَظْ مَقَالِي حِفْظَ ذِي الذَّكَاءِ وهنا تبع الفراء والزجاجي فأسقطه، لأن هنًا هذه ليست كالأسماء الخمسة الأخرى، فالأكثر في لغة العرب أنها تعرب بالواو رفعًا وبالألف نصبًا وبالياء جرًا هو ما ذكره الناظم من الخمسة الأسماء-بشرطها-. وأما هنُك-إذا أُضيف- فالأفصح أن يعرب بالحركات على الأصل، هذا هو الكثير في لغة العرب. ولذلك سمع الفراء والزجاجي (هنُك) ولم يسمعا (هنوك) لقلته، ولكن سيبويه حكى هنوك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فأثبت سيبويه هنوك، وأيضًا لقلته لم يعدّه بعض النحاة حتى مع علمه به، لأنه قليل، والقليل لا حكم له. والأصح أن تعد ستة. [وَارْفَعْ بِوَاوٍ خَمْسَةً أَبُوْكَ] [خَمْسَةً] مفعول به [بِوَاوٍ] جار ومجرور متعلق بارفع [أَبُوْكَ] هذا بدل مفصّل من مجمل من خمسة، لأن لفظ الخمسة مبهم ومجمل يحتاج إلى تفصيل، وإلى ما يزيل الإبهام ويرفع الإجمال، فقال: أبوك، فهو بدل مفصّل من مجمل، وبدل المنصوب منصوب، وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، إذًا أبوك في النظم ليست مرفوعة، وإعرابها بالحركات لا بالحروف، لأن هذا اللفظ عَلَمٌ على أبوك في التركيب، فأبوك -هنا- علم، ومسماه هو الذي ترفعه بالواو. [وَارْفَعْ بِوَاوٍ خَمْسَةً أَبُوْكَ] أي مسمى أبوك، وترفعه إذا رُكِّب في جملة مفيدة ووضع في موضع رفع. نحو:

{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصص:23) فإذا أريد به معناه يكون إعرابه بالحروف، وإذا أريد به لفظه صار علمًا مفردًا، فأبوك علمًا مسماه أبوك، وهو حكاية لما يذكر في الجملة، معرب بحركات مقدرة. [أَخُوكَ] أي وأخوك على حذف حرف العطف و [ذُو مَالٍ] على حذف حرف العطف، و [حَمُوكِ] على حذف حرف العطف أيضا، وهو أقارب زوج المرأة، فيضاف حينئذٍ إلى ضمير المرأة فيقال: حموها وحموكِ -بكسر الكاف- هذا هو الغالب والأشهر. وقد يراد به أقارب الزوجة، فيضاف للمذكر فيقال: حموه وحموكَ -بفتح الكاف- و [فُوكَ] أيضًا على حذف حرف العطف. هذه الأسماء الخمسة تعرب بالواو رفعًا، إذا وقعت في موضع رفعٍ يعني كأن تكون مبتدأ أو فاعلاً أو نائب فاعل. لكن لا تعرب هذا الإعراب عند جمهور النحاة إلا بأربعة شروط عامة ويشترط في ذو وفي فم بعض الشروط التي تختص بها. أما الشروط العامة فهي: الشرط الأول: أن تكون مفردة أي دالة على واحد، نحو: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ومنه: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ} (يوسف:8) أما لو ثنيت أو جمعت أعربت إعراب ما نُقلت إليه من التثنية أو الجمع، فحينئذٍ لو ثنيت أعربت إعراب المثنى، نحو: جاء أبوان، فأبوان فاعل مرفوع ورفعه الألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، لأن شرط إعراب أبوك بالواو رفعًا أن يكون مفردًا، أما إذا ثني فحينئذٍ يأخذ حكم المثنى فيرفع بالألف وينصب ويجر بالياء. ومنه {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}

(يوسف:100) فأبويه مفعول به منصوب، ونصبه الياء نيابة عن الفتحة. {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ} (يوسف:6) (أبويك) أيضًا يعرب إعراب المثنى. وإن كانت مجموعة جمع تكسير أعربت إعراب جمع التكسير بالحركات على الأصل. نحو: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ} (النساء:11) آباؤُكم مبتدأ مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. ومنه {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} (التوبة:24) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10) أيضًا كما قيل في الأول. وإن كانت مجموعة جمع تصحيح أيضًا أُعربت إعرابه، وجمع المذكر السالم يرفع بالواو ويجر وينصب بالياء. وذكر ابن هشام وغيره أنه لم يجمع منها إلا الأبُ والأخُ والحمُ. قال الشاعر: فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالأَبِينَا فأبينا مجرور بالباء، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. وقال الشاعر: وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ قَوْمٍ ... وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الأَخِينَا بني مضاف، والأخينا مضاف إليه مجرور وجره الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. زاد بعضهم ذَوُو وذَوِي. الشرط الثاني: أن تكون مكبرة، يعني ألاّ تكون مصغرة؛ فإن صُغرت أعربت بالحركات على الأصل. نحو: هذا أُبَيٌّ وأخَيٌّ ووذُويٌّ وحُميٌّ وفُميٌّ.

الشرط الثالث: أن تكون مضافة. فلو قطعت عن الإضافة أعربت بالحركات على الأصل. نحو: {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} (يوسف:78) فأبًا اسم إن منصوب بها ونصبه الفتحة الظاهرة على آخره. ومنه {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ} (يوسف:77) فأَخٌ فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. وهذا الشرط لبيان الواقع بالنظر لذو للزومها الإضافة. إذًا هذا الشرط -أن تكون مضافة في غير ذو- لأن الشرط إنما يقع على ما يمكن أن يوجد بدون الشرط، فإذا قيل: يشترط كذا في كذا، إنما يشترط إذا كان المشروط فيه قد يقع مع الشرط وبدون الشرط، نقول: يشترط في الصلاة الطهارة، فتوجد الصلاة حسًا بدون طهارة، وتوجد بطهارة، فالأولى لم تنعقد، والثانية صحيحة بشرطها. الرابع: أن تكون إضافتها لغير ياء المتكلم؛ فإن أضيفت إلى ياء المتكلم أعربت بالحركات المقدرة، لأن ياء المتكلم يجب أن يكون ما قبلها مكسورًا. نحو: {إِنَّ هَذَا أَخِي} (ص:23) فأخي خبر إنَّ مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. ويزاد على هذه الشروط الأربعة شروط خاصة منها أن فوك يجب أن تفصل منه الميم، كما قال ابن مالك: وَالفَمُ حَيْثُ المِيمُ مِنْهُ بَانَا أي انفصل، فإن وجدت الميم أعربت بالحركات على الأصل، فتقول: هذا فمٌ، ورأيت فمًا، ونظرت إلى فمٍ. ويشترط في ذو

شرطان: أن تكون ذو بمعنى صاحب. مِنْ ذَاكَ ذُو إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا يعني أفهم صحبة، نحو: زيد ذو مال، أي صاحب مال، وزيد ذو علم، أي صاحب علم. وفسر ذو بمعنى صاحب احترازًا من ذو الطائية، فإنها اسم موصول. قال ابن مالك: وَمَنْ وَمَا وَأَلْ تُسَاوِي مَا ذُكِرْ ... وَهَكَذَا ذُو عِنْدَ طَيِّءٍ شُهِرْ إذًا ذو تكون موصولة، فحينئذٍ تكون ملازمة للواو، مبنية على السكون، وهذا هو حقيقة البناء: الذي يلزم حالة واحدة. تقول: جاء ذو قام أبوه. أي الذي قام أبوه، فجاء فعل ماض، وذو فاعل مبني على السكون في محل رفع. ولك أن تقول: اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل رفع. ومثله رأيت ذو قام، ومررت بذو قام. قال الشاعر: فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ ... فَحَسْبِيَ مِنْ ذُو عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا من ذو: من حرف جر، فلو كانت ذو الطائية التي بمعنى صاحب فحينئذٍ يقول: من ذي هذا هو الأصل. الثاني: أن تضاف ذو إلى اسم جنس ظاهر غير صفة، والمراد باسم الجنس: ما دل على معنى كلي- وهذا المعنى الكلي وجوده في الذهن- ولو كان معرَّفًا بأل كالعلم والمال والفضل والجاه، وإن شئت قل: ما يصدق على القليل والكثير، أي يصدق في الخارج على القليل والكثير، فالعلم مثلا يصدق على المسألة الواحدة فتقول: هذا علم، وعلى المسألتين

فتقول: هذا علم، وعلى المائة فتقول: هذا علم، وعلى الألف وغير ذلك، إذًا يصدق على القليل والكثير. فاسم جنس ما دل على معنى كلي ولو كان معرفًا بأل، فلا يشترط التنكير، تقول: جاء ذو العلم، وجاء ذو علم، وجاء ذو فضل، وجاء ذو الفضل، فلا يشترط فيه التنكير، بل جُعل من الفوارق بين ذو الطائية، وذو التي بمعنى صاحب أن ذو الطائية لا يوصف بها إلا المعرفة، تقول: جاء زيدٌ ذو قام أبوه، ولا يصح أن تقول: جاء رجل ذو قام أبوه، لأن ذو الطائية موصولة بمعنى الذي فهي معرفة، وشرط الصفة والموصوف الاتحاد في التعريف والتنكير. أما ذو التي بمعنى صاحب ففيها تفصيل: يجوز أن يوصف بها النكرة إذا أضيفت إلى نكرة، نحو: مررت برجل ذي علم، ولا يصح مررت برجل ذي العلم، لأنك وصفت النكرة بالمعرفة والشرط التطابق، كما لا يصح مررت بزيد ذي علم، لأن ذي نكرة وزيد معرفة، والشرط التطابق تعريفًا وتنكيرًا. إذًا من الفوارق بين ذو التي بمعنى صاحب، وذو الطائية= أن ذو الطائية لا يوصف بها إلا المعرفة؛ لأنها معرفة ولا تكون نكرة. وذو التي بمعنى صاحب قد يوصف بها المعرفة إذا أضيفت إلى معرفة، ويوصف بها النكرة إذا أضيفت إلى نكرة. وشرط اسم الجنس أن يكون ظاهرا احترازًا من المضمر، فالضمير لا تضاف إليه ذو، ولو سمع فهو شاذ. كقوله: إِنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الفَضْلِ مِنَ النَّاسِ ذَوُوهُ

فهذا شاذ من وجهين: جمعه جمع تصحيح، ومن حيث إضافته إلى الضمير. فقوله: ذووه جمع تصحيح حكمي، يعني ملحق بجمع المذكر السالم، وكل الملحقات شاذة، فحينئذٍ نحكم أن ذووه شاذ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وكونه أضيف إلى ضمير فهذا شذوذ فوق الشذوذ السابق. وشرط اسم الجنس أيضًا أن يكون ظاهرًا غير صفة، فلا يصح أن يقال: مررت برجل ذي قائم، ولا مررت برجل ذي صائم؛ لأنه أضيف إلى صفة، والسر في ذلك= أن ذو يُتوصل بها إلى نعت ما قبلها بما بعدها، فالعرب نظرت في بعض الأسماء، فإذا بها لا يمكن أن يوصف بها مباشرة، فحينئذٍ جاءت بوصلة -وهي ذو- يتوصل بها إلى وصف ما قبلها بما بعدها، فحينئذٍ ما يمتنع النعت به مباشرة امتنع إضافته إلى ذو، وما جاز أن يوصف به مباشرة امتنع إضافته إلى ذو. فما يمتنع أن يوصف به مباشرة أمران: وهما الضمير والعلم، هذان يمتنع أن يوصف بهما مباشرة، وسمع: أنا الله ذو بكة، قالوا: هذا شاذ، وقيل: قليل فلا يقاس عليه، وما جاز أن يوصف به مباشرة امتنع إضافته إلى ذو، وهو أمران: المشتق والجملة، وهما يقعان نعتًا مباشرة، تقول: مررت بزيد القائم، فحينئذٍ لا يصح أن تقول مررت بزيد ذي القائم، لأنه حشوٌ، فيمتنع إضافة ذو إلى المشتق بل ينعت به مباشرة. وتقول: مررت برجل يضحك، لأن الجمل بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات، فلا يصح أن تقول: مررت برجل ذي يضحك. والحاصل أن ذو ملازمة للإضافة ولا تضاف إلا إلى

اسم جنس ظاهر غير صفة، ويمتنع أن تضاف إلى العلم، والضمير، والمشتق، والجملة. [وَارْفَعْ بِوَاوٍ خَمْسَةً] نقول: الصواب أنها ستة بزيادة الهن، والمراد بالهن قيل: اسم يكنى به عما يستقبح التصريح به، وقيل: كناية عن الفرج خاصة. [أَبُوْكَ أَخُوكَ ذُو مَالٍ حَمُوكِ فُوكَ] هنوك، ذكرها الناظم كما هي، فحينئذٍ يمكن أخذ الشروط من لفظها-كما هي عادة النحاة-[أَبُوْكَ أَخُوكَ ذُو مَالٍ حَمُوكِ فُوكَ] فذكرها مفردة، مكبَّرة، مضافة، لغير ياء المتكلم، و [ذُو مَالٍ] فمال اسم جنس ظاهر، بيَّن لك أن ذو إنما تكون إضافته لمثل هذا الذي ذكره، فلا تقس عليه وإنما تأتي بمثله. قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) (يوسف: من الآية68)).و [فُوكَ] ذكرها منفصلة عن الميم كما هو شرطها. هذا هو الباب الأول من أبواب النيابة وهو باب الأسماء الستة المضافة المعتلة. ثم قال الناظم: وَهَكَذَا الجَمْعُ الصَّحِيحُ فَاعْرِفِ ...................... [وَهَكَذَا] أي ومثل ذا، والمشار إليه هنا الأسماء الستة، أي مثل ذا المذكور سابقًا، وهو الأسماء الستة في كونه يرفع بالواو نيابة عن الضمة [الجَمْعُ الصَّحِيحُ فَاعْرِفِ] أي فاعلم- أيها الطالب- تتميم للبيت. إذًا الجمع الصحيح مثل الأسماء الستة في كونه يرفع بالواو أيضًا وبمسمى الواو لا بالواو نفسها، ظاهرة أو مقدرة، فظاهرةً نحو: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون:1) {الْمُؤْمِنُونَ} فاعل ورفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع تصحيح. ومقدرةً نحو: جاء المؤدوا الزكاةِ، أصلها المؤدون، أضيف وحذفت النون للإضافة، ثم حذفت الواو للتخلص من التقاء الساكنين. جاء

المقيموا الصلاة، أصلها المقيمون الصلاة فأضيف المقيمون إلى الصلاة فحذفت النون للإضافة ثم التقى الساكنان الواو واللام فحذفت الواو. فتقول: جاء المقيموا الصلاة، فالمقيموا فاعل مرفوع ورفعه الواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين نيابة عن الضمة، فهي واو مقدرة. قال [الجَمْعُ الصَّحِيحُ] ويسمى جمع السلامة، والجمع على حد المثنى، وسمي جمعًا صحيحًا لصحة مفرده فيه، وهذا مقابل لجمع التكسير، وجمع التكسير كما سبق: ما تغير عن بناء مفرده، وهذا ما صحَّ فيه واحده، فلم يتغير عن بناء مفرده. وسمي جمع السلامة لسلامة مفرده فيه لأنه سلم فيه بناء واحده. وسمي الجمع على حدّ المثنى، أي على سبيل وطريقة المثنى، لأن المثنى يعرب بحرفين، والجمع الصحيح أيضًا يعرب بحرفين، فالمثنى يعرب بحرفين الألف والياء، والجمع الصحيح أيضًا يعرب بحرفين الواو والياء. وهذا من جهة التوسع والتجوز وإلا المثنى يعرب بثلاث، والجمع يعرب بثلاث، لأن ياءَ النصب غيرُ ياء الجرّ، وإن كانت في الصورة واللفظ واحدة، إلا أنهما في الحقيقة متغايرتان؛ لأن ياء النصب نائبة عن الفتحة، وياء الجر نائبة عن الكسرة، فحينئذٍ لا يسوَّى بينهما، وإن كانا في اللفظ شيئًا واحدًا وإلا في الحقيقة هما متغايران. ويسمى جمع المذكر السالم وهو المشهور. [الجَمْعُ الصَّحِيحُ] الجمع مصدر، والمعنى المصدري للجمع هو ضمُ شيء إلى شيء آخر، فحينئذٍ لابد من التقدير والتأويل؛ لأن

الذي يرفع بالواو هل هو المعنى المصدري أو ما وجد فيه المعنى المصدري؟ لا شك الثاني، فحينئذٍ نقول: [وَهَكَذَا الجَمْعُ] الجمع هنا مصدر أريد به اسم المفعول أي المجموع وهو اللفظ [الصَّحِيحُ] أي المصحح على وزن فعيل صفة مشبهة أي السليم ضد المريض، إذًا [الجَمْعُ الصَّحِيحُ] أي المجموع المصحح مفرده، فحينئذٍ يكون الصحيح نعت لمفرد مقدر، فجمع المذكر السالم: جمع أي مجموع، المذكر صفة لموصوف محذوف أي جمع المفرد المذكر، لأن التذكير معنىً، والمعاني لا تجمع إنما تجمع الألفاظ، السالم نعت للجمع، يتبعه في إعرابه تقول: هذا جمعُ المذكرِ السالمُ، وأَعربْ جمعَ المذكر السالمَ. وحُكي جواز جره بالمجاورة لمذكر، لكن الصواب أن الجرّ بالمجاورة ضعيف، ولا يعوَّل عليه وإن نصره بعض أهل العلم. وحقيقة جمع المذكر السالم: هوما دلّ على أكثر من اثنين بزيادة في آخره صالح للتجريد عن هذه الزيادة وعطف مثله عليه. فما جنس اسم موصول بمعنى الذي، دل على أكثر من اثنين خرج به الواحد، والجمع المسمى به فإن مدلوله واحد، فالزيدون علمًا مدلوله واحد، وخرج المثنى، وجمع المؤنث السالم؛ لأنه يدلّ على أكثر من اثنتين، ودخل جمع التكسير، بزيادة في آخره أخرج جمع التكسير، لأن جمع التكسير يدل على الجمع بذاته وبصيغته المستقلة ليس ثمَّ زيادة. كالزيدون والمسلمون، فالزيدون دلّ على الجمعية بالواو، ولذلك الواو التي يرفع بها جمع المذكر السالم لها جهتان: جهة باعتبار المعنى، وجهة باعتبار الإعراب. فهي حرفُ جمعٍ، يعني دلت

على الجمعية، فالذي دلّ على الجمعية في جمع المذكر السالم هو الواو. وهي أيضًا حرف إعراب. ولذلك المسلمون مثلا قبل إدخاله في جملة، نقول: جمع مذكر سالم، هل هو مرفوع؟ نقول: لا، لأن الكلمة قبل إدخالها في جملة لا حكم لها، فإذا قلت: المسلمون، والزيدان، وأبوك قبل تسليط عامل عليها لا حكم لها من جهة الإعراب والبناء. فإذا قلنا المسلمون قبل تسليط العامل فهذه الواو علامة جمع فقط، وليست بعلامة رفع، ثم لمَّا دخل عليها العامل وقلت: قام المسلمون، صارَ لها جهتان: فهي علامة تدل على الجمعية، وأيضًا هي في نفس الوقت علامة رفع. فحينئذٍ نقول: رجال دلّ بالصيغة وبوزنه على الجمعية، ومسلمون دلّ على الجمعية بزيادة الواو، وبينهما فرقٌ، فما دلّ بالصيغة مغايرٌ لما دلّ بالزيادة، ولذلك نقول: ما دل على أكثر من اثنين: دخل جمع التكسير، بزيادة: الباء للسببية أي بسبب زيادة في آخره، بهذه الزيادة فارق بها جمعُ التصحيح جمعَ التكسير. وقولنا: بزيادة في آخره: المراد بالزيادة هنا حقيقة عرفية عند النحاة، أي بواو ونون في حالة الرفع، وبياء ونون في حالتي النصب والجر، ولكن زيادة النون في هذا الموضع فيها نظر. فليس في الحدّ لفظ مبهم. صالح للتجريد عن هذه الزيادة، يعني يصلح أن ينفك عنها، فتحذف الواو، وعطفِ مثله عليه بمعنى أنك تحذف الواو وتعطف عليه مثله، فتحذف الواو من مسلمون وتقول: مسلمٌ ومسلمٌ ومسلمٌ عطفت عليه مثله، لكن عشرون هل هو صالح للتجريد وعطف مثله عليه؟ نقول: لا يصلح، ولو كان مرفوعا

بالواو نيابة عن الضمة، لأنه ملحق بجمع التصحيح، فهو من الشواذ، لأنه لا يصلح أن يقال عِشرٌ بحذف الواو والنون، فهو غير قابل للتجريد وعطف مثله عليه. هذا حدّ جمع المذكر السالم وقيل في حده اختصاراً: ما سلم فيه بناء المفرد. وهذا واضح وأخصر وهو مطرد فيه. إلا أنه يرد عليه الملحقات، ويمكن أن يجاب: بأنها لا مفرد لها، وقد يوجد في بعض الشواذ أن لها مفردًا، فيجاب أن الحدَّ هنا للجمع المذكر السالم الحقيقي ولا يشمل الشواذ. أما حكمه فهو أنه يرفع بالواو المضموم ما قبلها لفظًا كالزيدُون أو تقديرًا كالمصطفَون ظاهرة أو مقدرة. ما يجمع هذا الجمع قسمان: جامد وصفة، فالجامد عند النحاة: ما دل على ذات فقط كزيد، أو معنى فقط كعلم. والصفة: ما دلّ على ذات وصفة معًا كاسم الفاعل واسم المفعول وسائر المشتقات، كضارب فإنه يدل على ذات متصفة بصفة الضرب وهكذا. لكن ليس كل جامد يجمع بواو ونون، وليس كل صفة تجمع بواو ونون، بل يشترط في الجامد: أن يكون علمًا لمذكر عاقل خاليًا من تاء التأنيث ومن التركيب، فإن لم يكن علما لا يصح جمعه بواو ونون، كرجل اسم جامد يدل على ذات، فلا يقال: رجلون لتخلف شرط العلمية. لكن الجامد إذا صُغِّر جاز جمعه بواو ونون، فإذا قيل: رُجَيل، صحَّ أن تجمعه فتقول: رُجيلون، لأنه صار صفة فهو في قوة: رجل صغير. قال الشاعر: زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خَلَّتِي

فابن اسم جامد وليس بعلم فلا يجمع بواو ونون، لكن لمّا صُغِّر على أُبين جُمع بواو ونون، فقيل: أبينوها. أن يكون علمًا لمذكر، فإذا كان علما لمؤنث لا يجمع بواو ونون فلا يقال في زينب: زينبون. ولو سميت رجلاً بزينب صحّ جمعه بواو ونون- وكانوا أكثر من اثنين- تقول: جاء الزينبون بواو ونون لأنه علم لمذكر. أن يكون علمًا لمذكر عاقل، فخرج ما كان علمًا لمذكر غير عاقل مثل لاحق: اسم فرس. وواشق اسم كلب، فلا يقال: واشقون ولا لاحقون. خاليًا من تاء التأنيث احترازًا من نحو طلحة، فهو علم لمذكر عاقل إلا أنه اتصلت به تاء التأنيث، فلا يجمع على مذهب البصريين بواو ونون، فلا يقال في طلحة: طلحون، ولا يقال في حمزة: حمزون. وجوَّز الكوفيون جمعه بواو ونون فيقال فيه طلحون وحمزون، وهذا أرجح -أن يجمع بواو ونون- وله أدلة، أولها: أن العبرة بالمعنى لا باللفظ، فمعناه مذكر فحينئذٍ ينظر إلى المعنى ولو خالف اللفظ من جهة التذكير والتأنيث، ولذلك انتُقد مذهب البصريين بأنهم راعوا اللفظ- طلحة ونحوه- في هذا الباب، وراعوا المعنى في باب العدد. قالوا: هناك ثلاثة طلحات باعتبار المعنى. الثاني: أن هذه التاء على نية الانفصال، فتسقط إذا جُمع بألف وتاء، فلا عبرة بها، لأنها ليست أصلية، فيقال: طلحات بدون تاء-وهذا متفق عليه- ويجوز أن يكون اللفظ له جمعان متغايران. الثالث: أنهم أجمعوا - أي البصريون والكوفيون- على صحة جمع ما سمي به من الألفاظ المؤنثة المختومة بألف ممدودة أو مقصورة، فلو سمي رجل بحبلى

اتفق البصريون والكوفيون على أنه يجمع بواو ونون فقيل: حُبْلَوْنَ -التقت الواو الساكنة مع الألف فحذفت الألف-مثل مصطفون، فحُبْلى علم لمذكر عاقل، ولم يخل من علامة التأنيث مثل طلحة، وأيهما أشد تمكنًا في باب التأنيث، الألف المقصورة أم تاء التأنيث؟ لا شك أنها الألف المقصورة، فإذا جاز جمع الأشد فمن باب أولى أن يجوز ما هو أدنى. كذلك لو سمي رجل بصحراء قيل في جمعه: صحراوون، جاز مع كونه مختومًا بألف ممدودة، وهي أشدّ في باب التأنيث من التاء، فإذا جاز الأعلى فمن باب أولى أن يجوز الأدنى، ولذلك هذا الشرط وهو أن يكون خاليًا من تاء التأنيث يجب إسقاطه. أن يكون خاليًا من التركيب فما كان مركبًا تركيبًا إضافيًا أو مزجيًا أو توصيفيًا لا يجمع بواو ونون، فلا يقال في سيبويه: سيبويهون وجوّزه بعضهم. وأما الصفة فيشترط فيها أن تكون صفة لمذكر عاقل خالية من تاء التأنيث، ليست من باب أفعل فعلاء، ولا من باب فعلان فعلى، ولا مما يستوي فيه المذكر والمؤنث. أن تكون صفة لمذكر، فلو كانت صفة لمؤنث لا تجمع بواو ونون فلا يقال في حائض: حائضون، أن يكون صفة لمذكر عاقل فلا يقال في سابق صفة فرس: سابقون، لكن لو كان سابق صفة لرجل جاز أن يقال سابقون. خالية من تاء التأنيث، فلا يقال في علاّمة: علاّمتون، قالوا: لا يجمع بواو ونون لئلا يجتمع فيه علامة تأنيث، وعلامة تذكير. ليست من باب أفعل فعلاء أي ليست من باب أفعل الذي مؤنثه فعلاء كأحمر فإن مؤنثه

حمراء، وأعور عوراء، فلا يقال: أحمرون ولا أعورون. ولا من باب فعلان فعلى يعني ليست مما وزنه فعلان كسكران الذي مؤنثه سكرى فلا يقال: سكرانون، ولا مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، بعض الأوزان والألفاظ والمشتقات يستوي فيه المذكر والمؤنث بمعنى أنه لا يحتاج إلى علامة تميز المذكر عن المؤنث، فنحو: مسلمٌ ومسلمة، وقائم وقائمة، لابد من علامة تميز المؤنث عن المذكر، ولذلك نقول: التأنيث فرع التذكير، فمسلمٌ لا يحتاج إلى علامة لأن الأصل التذكير، ومسلمة زدناه علامة تأنيث وهي التاء لأنه فرع، وبعض المشتقات يستعمل في المذكر والمؤنث بلفظ واحد، فيقال: زيد قتيل، وهند قتيل، ولا نقول: قتيلة لأن فعيلا مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، ومثله زيد جريح، وهند جريح، فإذا كان على هذه الزنة لا يجمع بواو ونون لأنه لا يميز بين المذكر والمؤنث، وهذا فيما إذا جرت الصفة على موصوفها بمعنى أنه إذا قيل: هذا زيد جريح، كانت الصفة متأخرة عن الموصوف أما إذا تقدمت فحينئذٍ تتصل بالتاء فتقول: هذه قتيلة زيد. وهذه الشروط والقيود في الجامد والصفة دليلها الاستقراء والتتبع، فحينئذٍ يجوز الإقدام على الجامد أو الصفة فيجمع بواو ونون، كزيد يجمع بواو ونون فيقال: الزيدون، ومذنب تجمع بواو ونون فيقال: مذنبون. [وَهَكَذَا الجَمْعُ الصَّحِيحُ فَاعْرِفِ] أي مثل الأسماء الستة في رفعها بالواو نيابة عن الضمة الجمع الصحيح الذي صح واحده فاعرف ذلك الحكم واتبعه.

ثم انتقل إلى بيان محل الفرع الثاني وهو الألف فقال: .............. ... وَرَفْعُ مَا ثَنَّيْتَهُ بِالأَلِفِ [وَرَفْعُ مَا ثَنَّيْتَهُ بِالأَلِفِ] [رَفْعُ مَا] أي ورفعك أيها النحوي [رَفْعُ] مبتدأ [مَا ثَنَّيْتَهُ] أي الذي ثنيته [بِالأَلِفِ] جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، ورفعك ما ثنيته [مَا] اسم موصول بمعنى الذي، وجملة ثنيته صلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب، والموصول مع صلته عند البيانيين في قوة المشتق كاسم الفاعل واسم المفعول، فحينئذٍ يصح أن تأتي بالمشتق في محل جملة الصلة، ورفع ما ثنيته بالألف في قوة قولك: ورفع المثنى بالألف، فحينئذٍ نقول الموصول الذي هو مَا مع صلته في قوة المشتق [وَرَفْعُ مَا] [مَا] بمعنى الذي في محل جرّ، إلا أنها أيضًا في موضع نصب لأن [رَفْعُ] مصدر يرفع فاعلاً وينصبُ مفعولاً، والتقدير ورفعك المثنى، فالمثنى في الأصل مفعول به، فحينئذٍ يكون من إضافة المصدر إلى مفعوله، والمصدر قد يضاف لمفعوله-كما في النظم- وقد يضاف إلى فاعله نحو قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} (البقرة:251) والتقدير ولولا أن يدفع اللهُ الناسَ. [وَرَفْعُ مَا ثَنَّيْتَهُ بِالأَلِفِ] أي بمسمى الألف ظاهرة أو مقدرة، قد تكون الألف ظاهرة كقولك: جاء الزيدان، فالزيدان فاعل مرفوع ورفعه الألف الظاهرة نيابة عن الضمة، وتقول: جاء عبدَا الله - بفتح الدال إذ لو كان مفردًا لقال: جاء عبدُ الله بالضمة، والأصل جاء عبدَا الله، فالتقى ساكنان: الألف -التي هي علامة التثنية وهي علامة الإعراب- واللام الساكنة فحذفت الألف- وإعرابه: عبدَا

الله فاعل مرفوع ورفعه الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنان نيابة عن الضمة لأنه مثنى. [مَا ثَنَّيْتَهُ] التثنية عند النحاة أمرٌ معنوي وحقيقتها: جعلُ الاسمِ الواحد دليلاً على اثنين بزيادة في آخره. جعل الاسم أي جعل الفاعل، إذًا هي فعل الفاعل وليست هي الملفوظ الذي يدخله الألف. أما المثنى الذي هو الملفوظ به فهو: ما دلَّ على اثنين أو اثنتين بزيادة في آخره صالحٍ للتجريد وعطف مثله عليه. ما اسم موصول بمعنى الذي وهو جنس، دلّ على اثنين أو اثنتين خرج به ما دلَّ على واحد كزيد وسكران ورمان، والمثنى المسمى به، لأن الزيدان علمًا مدلوله مفرد، وما دل على أكثر من اثنين كغلمان وصنوان، ودخل فيه كل لفظ من الأسماء الموضوعة للدلالة على اثنين كشفع وزوج، ودخل المثنى الحقيقي كالزيدان، والمثنى الحكمي كاثنين واثنتين وكلا وكلتا، فهذه ألفاظ كلها دالة على اثنين. بزيادة الباء سببية، فالدلالة على الاثنين حصلت لا بذات الكلمة كشفع وزوج وكلا وكلتا واثنين واثنتين، فهذه الألفاظ لم تدل على الاثنين بزيادة في آخرها، وإنما دلت على ذلك بأصل الوضع. إذًا ما دلّ على اثنين أو اثنتين بزيادة في آخره أخرج ما دلّ على اثنين لا بزيادة ومنه كلا وكلتا، وبقي بعض الملحق بالمثنى كاثنين واثنتين، صالحٍ للتجريد خرج نحو اثنين واثنتين، لأنه لا يقال: اثنٌ. وعطف مثله عليه أخرج الملحق بالمثنى الذي ثُنِّي من باب التغليب كالقمرين، فإنه يدل على اثنين فهو مثنى من جهة اللغة، إلا أنه ليس مثنى حقيقة، لأنه دال على اثنين بزيادة في آخره

وأيضًا صالح للتجريد، لكنه لا يعطف عليه مثله فتقول: قمر وشمس عطفت مغايرًا عليه، وشرط المثنى الحقيقي أنه إذا جُرِّد عن الزيادة تعطف مثله عليه، فتقول في نحو: الزيدان، زيد وزيد عطفت مثله عليه، كما هو الشأن في جمع السلامة. إذًا عرفنا حقيقة المثنى، وأما حكمه فيرفع في حالة الرفع بالألف أي بمسمى الألف، وهذا هو الباب الوحيد الذي تنوب فيه الألف عن الضمة ليس لها إلا موضع واحد. تقول: جاء الزيدان، فالزيدان فاعل مرفوع ورفعه الألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى. ومثله قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} (المائدة:23) والنون التي في المثنى والتي في الجمع زائدة، ولا تكون علامة للتثنية، ولا علامة للجمع، ولذلك إذا قيل: بزيادة في آخره يقال: بواو وياء، هذا هو الأولى، وإذا ذكرت النون فهو لبيان الواقع، لأن هذه النون لا تدل على التثنية ولا على الجمع، وإنما هي عوض عن التنوين تنوين التمكين الدال على تمكن الاسم في باب الاسمية والإعراب بحيث لم يشبه الحرف فيبنى، ولا الفعل فيمنع من الصرف. فمدخوله الاسم الخالص من الشبهين إذًا هو أعلى الدرجات، فحينئذٍ إذا حذف منه التنوين نزلت درجته، فقالوا: إذًا لابد من تعويضه عن هذا النقص فعوِّض بهذه النون. فهذه النون عوض عن التنوين فقط عند الكثيرين. وبعضهم يرى أنها عوض عن التنوين والحركة معًا وهذا أجود من سابقه لأنه إذا كانت النون عوضًا عن التنوين، فالتنوين لا يجامع أل، تقول: مسلمٌ، ولا يصح أن تقول: المسلمٌ،

ولك أن تقول: المسلمان، والنون عوض عن التنوين وقد جامع أل، قالوا: لا، وإنما جامع التنوين أل بالنظر لكون النون عوضًا عن الحركة، فلمّا نظر إلى أن هذه النون عوض عن الحركة جاز دخول أل، والحركة تجامع أل، وأل لا تجامع التنوين، والنون عوض عنهما. وأعلى من ذلك أن يقال: إن النون زيدت لدفع توهم إضافة أو إفراد. زيدت لدفع توهم نحو: جاء خليلان موسى وعيسى، فلو حذفت النون ولم تذكر أصالة لقلت: جاء خليلا موسى وعيسى، فهل موسى بدل أو أن خليلا مضاف وموسى مضاف إليه؟ هذا محتمل لهما، لكن لما زيدت النون دفعت هذا التوهم، فقيل: خليلان. كذلك في باب الجمع نحو: مررت ببنين كرامٍ، لو لم تذكر النون لقلت: مررت ببني كرام، فهل المراد الإضافة أم الوصف؟ هذا محتمل لهما، فلما أريد الوصف أصالة زيدت النون لتدفع توهم الإضافة، أما في الإفراد فنحو: جاء المهتدين فلو قيل: المهتدي، ولم تزد النون، وقيل جاء المهتدي فهل هو مفرد أو جمع؟ هذا محتمل لهما، إذًا زيدت هذه النون في باب الجمع والتثنية دفعًا لتوهم الإضافة ودفعًا لتوهم الإفراد. وأما القول بأنها عوض عن التنوين في الاسم المفرد، فهو مع شهرته إلا أنه ينتقد بعدة أوجه قد ذكرتها في شرح الملحة فليرجع إليه. الباب الرابع قال: وَارْفَعْ بِنُونٍ يَفْعَلاَنِ يَفْعَلُونْ ... وَتَفْعَلاَنِ تَفْعَلِينَ تَفْعَلُونْ هذا هو الفرع الرابع وهو النون أي مسمى النون، وهذا هو الباب الأول من بابي الأفعال - لأن أبواب النيابة سبعة = خمسة في

الأسماء، واثنان في الأفعال- وهو ما يعنون له بالأمثلة الخمسة، وهذا أولى من أن يقال: الأفعال الخمسة؛ لأن الأفعال جمع فِعْلٍ وهو الحدث، فحينئذٍ إذا قيل: الأفعال الخمسة، أي المعدودة بالخمسة، قد يفهم انحصارها في أحداث خمسة، وأما الأمثلة بمعنى الأوزان فهي محصورة إلا أن الموزون لا ينحصر، [وَارْفَعْ] أيها النحوي رفعًا مصورًا [بِنُونٍ] أي بمسمى نون لا بالنون ذاتها وإنما بمسماها، ارفع [يَفْعَلاَنِ] فيفعلان مفعول به، كيف جاء مفعولا به وهو فعل؟ نقول: قصد لفظه فصار علمًا [يَفْعَلاَنِ يَفْعَلُونْ وَتَفْعَلاَنِ تَفْعَلِينَ تَفْعَلُونْ] وهذه كلها أمثلة أي أوزان، ضابطها أن الذي يرفع بثبوت النون هو كل فعل مضارع اتصل به ألف الاثنين، أو واو الجماعة، أو ياء المؤنثة المخاطبة، سواء كان ما اتصل به ألف الاثنين للمخاطب أو الغائب، وما اتصل به واو الجماعة للمخاطب أو للغائب، أما الياء فلا تكون إلا للمخاطبة. [وَارْفَعْ بِنُونٍ] يعني بثبوت مسمى نون [يَفْعَلاَنِ] فعل مضارع اتصل به ضمير تثنية مذكرًا كان أو مؤنثًا، غائبًا أو مخاطبًا، ومثاله للغائب: الزيدان يضربان، فالزيدان: مبتدأ، ويضربان: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون نيابة عن الضمة لأنه أسند إلى ألف الاثنين، وألف الاثنين ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة خبر المبتدا [يَفْعَلُونْ] فعل مضارع اتصل به ضمير جمع مذكرًا كان أو مؤنثًا، غائبًا أو مخاطبًا، ومثاله للغائب: الزيدون يضربون فيضربون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون نيابة عن الضمة

لاتصاله بواو الجماعة، والواو: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، [وَتَفْعَلاَنِ] بالتاء للمخاطب، نحو: أنتما تكتبان، فتكتبان: فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون نيابة عن الضمة، والألف ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، [تَفْعَلِينَ] فعل مضارع اتصل به ضمير المؤنثة المخاطبة، ولا يكون إلا للمخاطبة نحو: أنت يا هند تكتبين، فتكتبين: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأمثلة الخمسة لإسناده إلى ياء الفاعلة، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، [تَفْعَلُونْ] بالتاء للمخاطبين، نحو: أنتم أيها الزيدون تضربون، فتضربون: فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون نيابة عن الضمة، لأنه من الأمثلة الخمسة، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. إذًا ما ينوب عن الضمة ثلاثة أشياء: الواو وتكون علامة للرفع في الأسماء الستة وجمع المذكر السالم. والألف وتكون علامة للرفع في المثنى، والنون وتكون علامة للرفع في الأمثلة الخمسة.

باب علامات النصب

بَابُ عَلاَمَاتِ النَّصْبِ لما تكلم عن علامات الرفع شرع في بيان علامات النصب؛ فقدم الرفع لكونه مختصا بالعُمَد، وثنى بالنصب لكونه مختصا بالفضلات. والعُمَد المراد بها: ما لا يُتَصوَّر خُلُوُّ الكلام منها، قلنا: الكلام لابد له من إسناد، والإسناد يقتضي: مسندًا ومسندًا إليه، والمسند إليه يكون مبتدأ أو فاعلاً أو نائب فاعل، والمسند يكون خبرًا أو فعلاً. وإذا قلنا: أقل ما يتألف منه الكلام اسمان أو اسم وفعل، فهل يتصور خلو جملة اسمية أو جملة فعلية عن مرفوع؟ هل يوجد كلام اصطلاحي ولا يوجد فيه لفظ مرفوع؟ الجواب: لا، لا يمكن؛ لأن أقل ما يتركب منه الكلام اسمان، أو اسم وفعل. فقولك: زيدٌ قائم، زيد: مبتدأ مرفوع. وقائم: خبر مرفوع. قام زيد، زيدٌ فاعل مرفوع. وقام: فعل. ضُرب زيدٌ، زيدٌ: نائب فاعل، إذًا لا يتصور أن يوجد كلام ولا مرفوع فيه أبدا، فحينئذٍ صار المرفوع عمدة، وإذا صار عمدة حينئذٍ هو أولى بالمراعاة والتقديم ورِفعة شأنه. أما المنصوب، فيمكن أن يخلو الكلام من منصوب بل هو فضلة يعني ليس بعمدة، ولا نقول الفضلة: ما يستغنى عنه كما اشتهر عند كثير من المتأخرين، بل الفضلة: ما ليس بعمدة، لأنه إذا قيل: ما يستغنى عنه يعني ما يصح حذفه ويصح التركيب بدونه، نحو: ضربت زيدًا. يصح أن تقول: ضربت، وتحذف المفعول به، ويصح الإخبار بإحداث الضرب ونسبته إليه، فتُغفِل جانب المفعول

به إذا عُلم ولذلك قال ابن مالك: وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ ... كَحَذْفِ مَا سِيْقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ لكن قوله جل وعلا {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} (الإسراء:37) باتفاق النحاة أن الحال فضلة، وإذا قيل: إنه فضلة، فعلى هذا التعريف يجوز الاستغناء عنه، فحينئذٍ هل يصح التركيب أن يقال (ولا تمش في الأرض)؟ الجواب: لا، لأن {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} نهي عن مشي خاص، وإذا حذفت هذه الفضلة وقلت: (ولا تمش في الأرض) صار النهي عن عموم المشي. إذًا فسد المعنى فحينئذٍ لا يجوز الاستغناء عن هذه الحال. ومثله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} (النساء:93) فمتعمدًا: حال. ولا يجوز الاستغناء عنها، إذًا الفضلة: ما ليس بعمدة، يعني: ما ليس بمبتدأ ولا خبر ولا فاعل ولا نائب فاعل. ولذلك يقدم باب المرفوعات على باب المنصوبات؛ لأن المرفوعات عُمَد، والرفع هو إعراب العُمَد وهي المبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل، والمنصوبات وكذلك المخفوضات من الفضلات وضابطها: أنها ما ليست بعمدة ولا نقول: ما يستغنى عنه. ثم النصب قد يكون عامله فعلا بخلاف الخفض فعامله إما حرف وإما اسم، فحينئذٍ ما كان من عوامله ما هو أقوى كالفعل أولى بالتقديم على ما لا يعمل الفعل ذلك الأثر كالخفض والجزم. [بَابُ عَلاَمَاتِ النَّصْبِ] أي هذا باب بيان علامات النصب، وسبق معنى العلامة، والنصب لغة:

الاستواء والاستقامة. وفي الاصطلاح على مذهب البصريين أن الإعراب لفظي: الفتحة وما ناب عنها، فنفس الفتحة ونطقك بها وما ناب عنها هو النصب، وعلى مذهب الكوفيين أن الإعراب معنوي تقول: هو تغيير مخصوص علامته الفتحة وما ناب عنها. وتغيير هذا هو الإعراب، مخصوص هذا هو النصب، علامته الفتحة وما ناب عنها فحينئذٍ فرق بين أن يقال: نفس الفتحة هو النصب، أو بأن يقال: التغيير المخصوص هو النصب وله علامة تدل عليه. عوامل النصب ثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف، فإذا قيل: الاسم منصوب، أو الفعل منصوب؛ فحينئذٍ يرد السؤال: ما الذي عمل النصب في الاسم؟ وما الذي عمل النصب في الفعل؟ فنقول: عامل النصب قد يكون فعلاً نحو: ضربت زيدًا، فزيدًا مفعول به منصوب والعامل فيه: ضرب، فالذي أحدث النصب هو الفعل، فالفعل يَنصب. وقد يكون عامل النصب اسما نحو: أنا ضاربٌ زيدًا، فأنا: مبتدأ وضارب: خبر والفاعل ضمير مستتر، وزيدًا مفعول به، والعامل فيه: ضارب، ونوعه اسم فاعل وهو اسم، فالاسم يَنصب. وقد يكون عامل النصب حرفا، نحو: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} (طه:91) فلن حرف نصب ونفي واستقبال، نبرح: فعل مضارع ناقص منصوب بلن ونصبه فتحة ظاهرة على آخره. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} (الطلاق:3) إن الله: نقول: إن: حرف توكيد ونصب، ولفظ الجلالة منصوب بإن وهو اسمها. إذًا الحرف يعمل النصب في الفعل وفي الاسم، والاسم

لا ينصب الفعل. أما التبعية فالصواب أنها ليست من عوامل النصب. عَلاَمَةُ النَّصْبِ لَهَا كُنْ مُحْصِيَا ... الفَتْحُ وَالأَلِفُ وَالْكَسْرُ وَيَا وَحَذْفُ نُونٍ فَالَّذِي الفَتْحُ بِهِ ... عَلاَمَةٌ يَا ذَا النُّهَى لِنَصْبِهِ [عَلاَمَةُ النَّصْبِ] [عَلاَمَةُ] مبتدأ، وخبره: [الفَتْحُ] وهذا أولى مع جواز العكس، لأنه إذا كان عندنا معرفتان وجاز أن يُجعل كلٌّ من المعرفتين مبتدأ والآخر خبر، جاز التقديم والتأخير مطلقًا هذا هو الصواب، فنحو: زيد أخوك، زيد: مبتدأ، وأخوك: خبر، ويصح أن يكون زيد: خبرًا مقدمًا. وأخوك: مبتدأً مؤخرًا، هذا هو الصحيح، وفيه مذاهب وابن مالك يرى وجوب تأخير الخبر على المبتدأ في مثل هذا الموضع، لكن مع جواز الوجهين يُراعى فيه المعنى، نقول: الأولى أن يجعل [عَلاَمَةُ النَّصْبِ] هو المبتدأ؛ لأن المبتدأ محكوم عليه في المعنى، فزيد قائم: حكمت على زيد بثبوت القيام، ويرد السؤال هنا: هل يريد أن يحكم على علامة النصب بأنها الفتح؟ أو يحكم على الفتح بأنه علامة النصب؟ أيهما أولى؟ لا شك أن الأولى أن يحكم على علامة النصب بأنها الفتحة لأنه عَنْوَنَ لذلك فقال: [بَابُ عَلاَمَاتِ النَّصْبِ].كذلك لما بيَّن لك أن الإعراب أقسام: رفع وله علامات، ونصب وله علامات، فحينئذٍ إذا عرفت أن النصب له علامات يرد السؤال: ما هي علامة النصب؟ فيقول لك: علامة النصب التي صارت عندك في الذهن مألوفة ومعهودة: الفتحة وما عطف عليها، ولذلك قوله: [عَلاَمَةُ النَّصْبِ] هو أولى أن يكون

مبتدأ و [الفَتْحُ] خبره، والمراد به: الفتحة، وإن كان الأشهر: أن الفتح لقب من ألقاب البناء، والفتحة علامة إعراب، وبعضهم يسوي بينهما ويجعل اللقبين بمعنى واحد، ولا مشاحة في الاصطلاح في مثل هذه المواضع. قوله: [عَلاَمَةُ النَّصْبِ] مضاف ومضاف إليه، والنصب له علامات لا علامة واحدة، فحينئذٍ نقول: هذا التركيب يفيد العموم، لأن من صيغ العموم إضافة النكرة -اسم الجنس- إلى المعرفة كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (النحل:18) نعمة الله: أريد به العموم، وإن تعدوا نِعَمَ الله لا تحصوها، وعلامة النصب ليست شيئًا واحدًا وإنما هي أربع فحينئذٍ نقول: [عَلاَمَةُ النَّصْبِ] أفاد العموم، وهو مبتدأ، والفتح وما عطف عليه خبر، لأنه لابد من أن يكون المبتدأ والخبر متطابقين إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، وهنا قال: [عَلاَمَةُ النَّصْبِ] عرفنا أن المراد به علامات النصب [الفَتْحُ] هذا شيء واحد وليست بمتعدد، فكيف يكون التطابق هنا؟ فلابد أن نقدر أن الناظم قد راعى العطف قبل الحَمْل، يعني عطف أولاً، نوى أنه سيرتب أمورًا متعاطفة بعضها على بعض فجعل الأول (الذي هو الفتحة) مفتتَحًا للخبر، فقال: [عَلاَمَةُ النَّصْبِ] قبل أن يقول الفتحة نوى معها الألف والكسرة والياء وحذف النون، فحينئذٍ نقول: إنه راعى العطف قبل الحمل، والحمل هو الإخبار. فتقول: الفَتْحُ وما عطف عليه خبر مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. ثم تعرب الباقي كما هو على أصله. [وَالأَلِفُ] الواو حرف عطف والألف معطوف على

[الفَتْحُ] والمعطوف على المرفوع مرفوع، لأن هذا التقدير مرادٌ به إصلاح المعنى فحينئذٍ مراعاة العطف قبل الحمل أمر معنوي لا لفظي، لأننا نقول: راعى، والمراعاة تكون في الذهن لا في اللفظ، والذي يُعرب هو الملفوظات؛ لا الأمور المعقولة التي تكون في الذهن، فالإعراب إنما يكون تابعًا للملفوظات لا للمرسومات ولا للمعقولات، قوله: [لَهَا كُنْ مُحْصِيَا] هذه جملة معترضة؛ يعني: كن عادًّا لها. وهذا أمرٌ يستوي فيه علامات الرفع، وعلامات الخفض، وعلامات الجزم، وقوله [لَهَا] جار ومجرور متعلق بقوله: [مُحْصِيَا] لأنه اسم فاعل من أحصى الشيء فهو محصٍ بمعنى: عَدَّه. [كُنْ] فعل أمر ناسخ يقتضي اسمًا وخبرًا [كُنْ] أنت أيها الطالب لعلم النحو، فاسمها ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، و [مُحْصِيَا] خبرها، أي كن أيها الطالب عادًّا لها بالخمس. [الفَتْحُ] أي الفتحة وهي الأصل، بمعنى أنها الأكثر والأغلب، لأنه لا يُعدَل عنها إلى غيرها إلا عند تعذر ظهور الفتحة أو تقديرها. [الفَتْحُ] أي مسمى الفتح، وليس هو عين الفتح، فالفتحة ليست هي المسمى. [وَالأَلِفُ] أي ومسمى الألف، إلا أن الألف ليست أصلاً كالفتحة، وإنما هي فرع؛ ولذلك نقول: علامات النصب نوعان: علامة أصلية، وعلامة فرعية. فالعلامة الأصلية: الفتحة وهي علامة واحدة. والعلامات الفرعية أربع وهي: الألف والكسرة والياء وحذف النون، فللنصب خمس علامات: علامة واحدة أصلية. وأربع علامات فروع. [وَالأَلِفُ] ثنّى بها لأنها تنشأ عن الفتحة، إذا مُدَّت الفتحة تنشأ عنها

الألف. [وَالْكَسْرُ] أي الكسرة، وثلّث بها لأنها تنوب عن الفتحة في جمع المؤنث السالم في حالة النصب، كما أن الفتحة تنوب عن الكسرة في الاسم الذي لا ينصرف في حالة الجر، فكلٌ منهما ينوب عن الآخر، [وَيَا] أي ومسمى [يَا] ربَّع بها؛ لأنها تنوب عن الكسرة في جمع المذكر السالم والمثنى في حالة الجر، وهنا الياء نابت عن الفتحة، كلٌّ منهما ينوب عن الآخر في موضعٍ قد ناب عنه ذاك في موضعٍ آخر، وبعضهم يرى أنه ربَّع بالياء هنا لأنها كسرة بإشباع، كأنها عبارة عن كسرتين، ولذلك يقال: إنها بنت الكسرة، [وَحَذْفُ نُونٍ] أي مسمى نون، وخمَّس بها لأنه لم يبق لها رتبة إلا التأخير، وإن شئت قل: لأن متعلق الحذف هو الفعل، فحذف النون لا يكون إلا في الفعل المضارع الذي هو الأمثلة الخمسة، والألف والكسرة والياء تكون في الأسماء، وما كان متعلّقًا بالأشرف -وهو الاسم- أولى بالتقديم مما تعلَّق بما هو دونه- وهو الفعل-. ثم لما ذكر لك هذا الترتيب على جهة الإجمال أراد أن يفصّل لك كل موضعٍ تكون فيه الفتحة أو الألف أو الكسرة أو الياء أو حذف النون، كأن سائلاً قال له: قد عرفنا أن علامات النصب خمسة، لكن ما هي مواضع كلٍّ منها؟ فقال: ...... فَالَّذِي الفَتْحُ بِهِ ... عَلاَمَةٌ يَا ذَا النُّهَى لِنَصْبِهِ مُكَسَّرُ الجُمُوعِ ثُمَّ المُفْرَدُ ... ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي كَتَسْعَدُ [فَالَّذِي] الفاء فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، كأنه قال: إذا أردت معرفة كلٍّ من مواضع تلك العلامات

الأصلية والفرعية فأقول لك الذي [الَّذِي] مبتدأ أول، وخبره قوله: مكسر الجموع -في البيت الذي يليه-[الفَتْحُ] مبتدأ ثانٍ [عَلاَمَةٌ] خبر المبتدأ الثاني، [بِهِ] جار ومجرور متعلق بقوله: [الفَتْحُ] لأنه مصدر، وإن شئت قل متعلق بمحذوف حال من الفتح، أي الفتح حالة كونه فيه، والباء هنا بمعنى: في أي للظرفية، والضمير يعود على الذي، [لِنَصْبِهِ] جار ومجرور متعلق بعلامة [يَا ذَا النُّهَى] يا حرف نداء، [ذَا النُّهَى] منادى مضاف، و [ذَا] بمعنى صاحب، فهو من الأسماء الستة [يَا ذَا النُّهَى] أي يا أصحاب النهى، و [النُّهَى] جمع نُهية والمراد به العقل، يعني يا أصحاب العقول. [ذَا النُّهَى] [ذَا] منادى مضاف منصوب ونصبه الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين- الألف، والنون الأولى المدغمة في النون المتحركة - نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الستة. [ذَا] مضاف [النُّهَى] مضاف إليه مجرور، وجره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب، أراد أن يتلطف مع الطالب فقال: [يَا ذَا النُّهَى] يعني: يا صاحب العقل، كأن فيه مِدْحة للقارئ، وهذا فيه تشجيع له، إذا قيل له: يا صاحب العقل، وصاحب العقل لابد أن يفهم ففيه تفاؤل. [مُكَسَّرُ الجُمُوعِ] هذا خبر الذي وجملة [الفَتْحُ بِهِ عَلاَمَةٌ لِنَصْبِهِ] لا محل لها من الإعراب صلة الموصول. إذًا [الَّذِي] مبتدأ، والإعراب دائمًا يكون للاسم الموصول لا له مع الجملة، يعني ليست الجملة كلها: الموصول مع صلته يكون مبتدأً، لا، وإنما الموصول فقط [الَّذِي] هو الذي يكون

مبتدأً، والجملة التي تكون صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، كما هو معلوم في موضعه. والحاصل: أن الفتحة تكون علامة للنصب في ثلاثة مواضع باستقراء وتتبع كلام العرب: الموضع الأول: الاسم المفرد، والموضع الثاني: جمع التكسير، والموضع الثالث: الفعل المضارع إذا دخل عليه ناصب ولم يتصل بآخره شيء. هذه ثلاثة مواضع إذا نُصبت تكون علامتها الفتحة بالإجماع. [مُكَسَّرُ الجُمُوعِ] الأصل أن يقدم المفرد على مكسر الجموع، لأن الجمع فرع المفرد، والمفرد أولى بالتقديم، ولعله قدّم وأخّر لضيق النظم عليه، وهذا شأن أرباب المنظومات، قد يقدمون ما حقه التأخير، ويؤخرون ما حقه التقديم مراعاةً لضيق النظم، وهنا الأولى أن يقدم المفرد. [مُكَسَّرُ الجُمُوعِ] أي الجموع المكسرة، من إضافة الصفة إلى الموصوف، لأن الجموع موصوف، والمكسر هذا صفة، وهنا قد بيّن لك ما ذكرناه سابقًا حيث قال: [وَارْفَعْ بِهِ الجَمْعَ] قلنا: الجمع: مصدر، وليس المراد أن الجمع- الذي هو معنىً - هو الذي يكون مرفوعًا أو منصوبًا أو مجرورًا، لأن المعنى لا يُرفع، وإنما يُرفع الملفوظ، فنقول: الجمع مصدر أريد به اسم المفعول، يؤكد هذا قوله هنا بالتصريح بقوله: الجُمُوعِ. [مُكَسَّرُ الجُمُوعِ] لأن الجموع هذا وصف للألفاظ، وليس وصفًا للمعاني، لأن المعنى شيء واحد، وهو ضم شيء إلى شيء آخر، وهذا لا يُجمع، وإنما وجود هذا المعنى في ضمن آحاده وأفراده كما هو وجود المعنى الكلي في ضمن أفراده، كرجال، ومساجد .... إلخ، تقول: هذه

الأفراد والآحاد هي المجموعة، وكونها دلت على جمع بضم شيء إلى شيء آخر، أو استفيد منه هذا المعنى فهو أمر ذهني في العقل ولا وجود له في الخارج، وهذا حكم عام لسائر الكليات، فوجودها وجود ذهني، ولا وجود لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها، فحينئذٍ الذي يعرب بالفتحة هو المجموع لا الجمع، إذًا [مُكَسَّرُ الجُمُوعِ] هذا هو الموضع الأول الذي ذكره الناظم بأنه يعرب بالفتحة على الأصل، وقد سبق بيانه، وأنه يُرفع بالضمة على الأصل، وهنا ذكر أنه ينصب بالفتحة على الأصل، سواء كانت الفتحة ظاهرة أم مقدرة، تقول: رأيت الطلابَ والأُسارى، والجواري وغلماني. وإعرابه: رأيت: فعل وفاعل. والطلاب: مفعول به منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، ولِمَ نصب بالفتحة؟ تقول: لأنه جمع مكسر، وهل الفتحة ظاهرة أم مقدرة؟ تقول: ظاهرة، ولِمَ كانت ظاهرة؟ لأنه لا يمنع من النطق بها مانع، وليس من المواضع التي تقدر فيها الفتحة، والأسارى معطوف على المنصوب، والمعطوف على المنصوب منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره لأنه جمع مكسر، منع من ظهورها التعذر، وضابط التعذر: هو ما لو تكلف المتكلم به لم يُظهره، وهو تعذر أصلي لا عرضي، لأن الحرف لا يقبل الحركة البتة، يمتنع تحريكه لذاته، لا لسبب خارج، والجواري معطوف على الطلاب والمعطوف على المنصوب منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، لأنه جمع تكسير، وكانت الفتحة ظاهرة لأن المنقوص تقدر عليه الضمة والكسرة للثقل، وأما الفتحة فتظهر

لخفتها، وغلماني معطوف على الطلاب، والمعطوف على المنصوب منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره. وقُدِّرت الفتحة هنا لاشتغال المحل بحركة المناسبة، وهي الكسرة، لمناسبة الياء، لأن الياء لا يناسبها ما قبلها إلا أن يكون مكسورًا، وهذا التعذر يسمى تعذرًا عرضيًا بمعنى أن التقدير هنا عارض، لا لذات الحرف. [ثُمَّ المُفْرَدُ] ثُمَّ هنا للترتيب الذكري، أي الموضع الثاني الذي ينصب بالفتحة على الأصل: المفرد، وقد سبق بيانه، وأنه يُرفع بالضمة على الأصل، وهنا ذكر أنه ينصب بالفتحة على الأصل، سواءٌ كان مذكرًا أو مؤنثًا، منصرفًا أو لا، وسواء كانت الفتحة ظاهرة أو مقدرة. نحو: رأيت زيدًا والفتى والقاضيَ وغلامي، رأيت: فعل وفاعل. وزيدًا: مفعول به منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، لأنه مفرد، والاسم المفرد الذي ليس معتل الآخر ينصب بالفتحة الظاهرة، والفتى: معطوف على زيدًا، والمعطوف على المنصوب منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، والقاضي: معطوف على زيدًا، والمعطوف على المنصوب منصوب، ونصبه فتحة ظاهرة على آخره مع كونه منقوصًا لأن المنقوص تظهر عليه الفتحة للخفة. وغلامي: معطوف على زيدًا والمعطوف على المنصوب منصوب، ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وهو مضاف والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه. [ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي كَتَسْعَدُ] أي ثم الموضع الثالث الذي ينصب بالفتحة على الأصل:

الفعل المضارع [الَّذِي كَتَسْعَدُ] قيده لك بالمثال لتأخذ القيود منه [كَتَسْعَدُ] والكاف تمثيلية لا استقصائية [تَسْعَدُ] حيث لم يتقدمه ناصب ولا جازم، ولم يتصل به شيء، إذًا [تَسْعَدُ] لا يصح أن يكون مثالاً للمنصوب، لأنه مرفوع، إذًا لابد أن يقال: [كَتَسْعَدُ] مراده به الشرط الثاني وهو: أنه لم يتصل بآخره شيء مما يوجب بناءه أو ينقل إعرابه، ولابد حينئذٍ أن يتقدم عليه ناصب، أما [كَتَسْعَدُ] كمثل تسعد هذا لم يتقدمه ناصب، وإنما ينصب الفعل المضارع إذا تقدم عليه أداة من أدوات النصب، حينئذٍ يكون التمثيل هنا لأحد الشرطين فقط، وليس المراد به: الشرطين معًا. إذًا ثم الفعل المضارع ينصب بالفتحة بشرطين: الأول وقد ذكره الناظم: أن لا يتصل بآخره شيء والمراد بـ (شيء) هنا: نون الإناث، أو نوني التوكيد، أو ألف الاثنين أو واو الجماعة، أو ياء المؤنثة المخاطبة. الثاني ولم يذكره الناظم: أن يتقدم عليه ناصب، نحو: {لَنْ نَبْرَحَ} (طه:91) نبرح: فعل مضارع ناقص منصوب بلن، ولن هذه أداة نصب كما سيأتي ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، {لَنْ نَدْعُوَ} (الكهف:14) ندعو: فعل مضارع منصوب بلن ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، ونحو: لن يخشى زيد عمرًا، فيخشى: فعل مضارع منصوب بلن ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، لأنه فعل مضارع معتل الآخر، إذًا [ثُمَّ المُضَارِعُ] أي ثم الموضع الثالث الذي ينصب بالفتحة -مطلقًا- ظاهرة كانت أو مقدرة المضارع الذي كـ[تَسْعَدُ] بأن لم يتصل بآخره شيء ونقيده

بأن تقدم عليه ناصب، سواء كان المضارع صحيح الآخر أو معتلا، وتقدر الفتحة في الفعل المضارع المعتل الآخر فيما إذا كان مختومًا بالألف، وتظهر فيما إلى كان مختوماً بالواو أو بالياء، (لن يرميَ، لن ندعوَ، لن يخشى). إذًا هذه ثلاثة مواضع تكون للفتحة على الأصل. ثم قال: بِالأَلِفِ الخَمْسَةَ نَصْبَهَا التَزِمْ ... وَانْصِبْ بِكَسْرٍ جَمْعَ تَأْنِيثٍ سَلِمْ [بِالأَلِف] جار ومجرور متعلق بقوله: [نَصْبَهَا] لأنه مصدر، والمصدر من متعلَّقات الجار والمجرور، فيكون معمولاً له، وأصل التركيب: الخمسة التزم نصبها بالألف، فقدم ما حقه التأخير لإفادة الحصر أي بالألف لا بغيرها. [التَزِمْ] فعل أمر مبني على السكون، والفاعل: ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت [نَصْبَهَا] منصوب على أنه مفعول به مقدم لـ[التَزِمْ] [الخَمْسَةَ] مفعول به لفعل محذوف وجوبًا منصوب على الاشتغال، تقديره انصب [الخَمْسَةَ] التزم نصبها. [بِالأَلِفِ] وهي علامة للنصب في الأسماء الستة - خاصَّةً - لأن الناظم ترك (هنوك) كما سبق بيانه. قال الحريري: ثُمَّ هَنُوكَ سَادِسُ الأَسْمَاءِ ... فَاحْفَظْ مَقَالِي حِفْظَ ذِي الذَّكَاءِ إذًا تنصب الأسماء الستة بالألف، أي بمسمى الألف، نيابة عن الفتحة، نحو: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (يوسف:8) إن: حرف توكيد ونصب. أبانا أبا: اسم إن منصوب بها ونصبه الألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الستة، إذًا [بِالأَلِفِ الخَمْسَةَ

نَصْبَهَا التَزِمْ] أي انصب الأسماء الستة بالألف لكن بشروطها السابقة. [وَانْصِبْ بِكَسْرٍ جَمْعَ تَأْنِيثٍ سَلِمْ] الكسرة تكون علامة نصب نائبةً عن الفتحة في موضع واحد فقط، وهو جمع المؤنث السالم، وسبق بيان حقيقة جمع المؤنث السالم وأنه يرفع بالضمة على الأصل، وهنا بين أنه ينصب بالكسرة، سواءٌ كانت الكسرة ظاهرة أو مقدرة، نحو: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} (العنكبوت:44) خلق: فعل ماضٍ. الله: فاعل. السماوات: على رأي الجمهور مفعول به منصوب ونصبه كسرة ظاهرة على آخره نائبةً عن الفتحة، لأنه جمع مؤنث سالم، وذهب ابن الحاجب والزمخشري والجرجاني، وصححه ابن هشام أنه مفعول مطلق، ولهم تعليل ذكره في المغني. [وَانْصِبْ بِكَسْرٍ] أي بكسرة أي مسمى كسرة [جَمْعَ تَأْنِيثٍ سَلِمْ] بمعنى سالم، [جَمْعَ تَأْنِيثٍ سَلِمْ] أي سلم الجمع و [سَلِمْ] هنا في تأويل المفرد بمعنى سالم، فتُؤَوَّلُ الجملة بالمفرد. [وَانْصِبْ بِكَسْرٍ جَمْعَ تَأْنِيثٍ سَلِمْ] قالوا: حملاً للنصب على الجر، جمعُ المذكر السالم يجر بالياء، وينصب بالياء، والياء في الأصل أن تكون علامة للجر لأنها إشباع للكسرة، فحينئذٍ حُمِلَ النصب -نصب جمع المذكر السالم- على جره، فجُعِلَ الجر أصلاً بالياء وجعل النصب بالياء فرعًا فصار محمولاً على حالة الجر. وهنا: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} منصوب بالكسرة، حُملَ النصب على الجر، إذًا حصل التعادل والتسوية، لما حمل نصب جمع المذكر السالم على جره فنصب بالياء، كما جُرَّ بالياء، كذلك هنا جمع المؤنث السالم نصب بالكسرة كما جُرَّ بالكسرة، وهذا من باب التعادل. ثم قال:

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الجَمْعَ وَالمُثَنَّى ... نَصْبُهُمَا بِاليَاءِ حَيْثُ عَنَّى [وَاعْلَمْ] هذه كلمة يؤتى بها للاهتمام بما بعدها، وأراد بها هنا تتميم النظم، [بِأَنَّ الجَمْعَ] والمراد بالجمع هنا: جمع المذكر السالم، لأن الضابط عندهم: إذا أطلق الجمع ولم يقيد بجمع مذكر سالم أو جمع مؤنث سالم أو جمع مكسر وكان في مقابلة التثنية فحينئذٍ يحمل على جمع المذكر السالم، لأن جمع المذكر السالم يسمى الجمع على حد المثنى، لأنه يعرب بحرفين كما أن المثنى يعرب بحرفين، فحينئذٍ يقيد الجمع بجمع المذكر السالم، [بِأَنَّ الجَمْعَ] [بِأَنَّ] حرف توكيد ونصب [الجَمْعَ] اسمها، [نَصْبُهُمَا بِاليَاءِ] مبتدأ وخبر، والجملة في محل رفع خبر أن. [نَصْبُهُمَا] أي نصب الجمع والمثنى كائن وثابت بالياء أي بمسمى الياء، وضابط الفرق بين ياء الجمع وياء المثنى: أن ياء الجمع يكون ما قبلها مكسورًا وما بعدها مفتوحًا، وياء المثنى يكون ما قبلها مفتوحًا وما بعدها مكسورًا [حَيْثُ عَنَّى] يعني حيث عرض واعترض، عنَّ له كذا يَعِنُّ، ويَعُنُّ -بالضم والكسر- عَنَنًا أي عَرَضَ واعترض، مثال الجمع: إن المسلمين قادمون، فالمسلمين: اسم إن منصوب بها وعلامة نصبه الياء المكسور ما قبلها المفتوح ما بعدها نيابة عن الفتحة، لأنه جمع مذكر سالم. ومثال المثنى: قوله {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (يوسف:100) أبويه: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها نيابة عن الفتحة لأنه مثنى. ثم قال رحمه الله: وَالخَمْسَةُ الأَفْعَالُ نَصْبُهَا ثَبَتْ ... بِحَذْفِ نُونِهَا إِذَا مَا نُصِبَتْ

هذا هو الموضع الخامس وهو: حذف النون، وهو ثابت في الخمسة الأفعال، قال [وَالخَمْسَةُ الأَفْعَالُ] [وَالخَمْسَةُ] مبتدأ أول، و [الأَفْعَالُ] صفة له و [نَصْبُهَا] مبتدأ ثان وهو مضاف، والهاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه، و [ثَبَتْ] فعل ماض مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون الوقف، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هو، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول. [بِحَذْفِ نُونِهَا] [بِحَذْفِ] جار ومجرور متعلق بقوله: ثَبَتْ. قوله: [وَالخَمْسَةُ الأَفْعَالُ] قلنا: هذا علم بالغلبة، والأولى أن يعبر بالأمثلة الخمسة. [وَالخَمْسَةُ الأَفْعَالُ نَصْبُهَا ثَبَتْ] أي ثابت [بِحَذْفِ نُونِهَا] أي بحذف نونها التي تكون علامة للرفع، لأنه كما سبق أن الأمثلة الخمسة ترفع بثبوت النون، ونصبها يكون بإسقاط هذه النون، فصار الحذف علامة على كونها منصوبة إذا تقدم عليها ناصب. [وَالخَمْسَةُ الأَفْعَالُ نَصْبُهَا ثَبَتْ بِحَذْفِ نُونِهَا] قيده بقوله: [إِذَا مَا نُصِبَتْ] [إِذَا] ظرف زمان مضمن معنى الشرط، و [مَا] زائدة يَا طَالِبًا خُذْ فَائِدَهْ ... مَا بَعْدَ إِذَا زَائِدَهْ ومنه {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37) أي إذا نصبت هذه الخمسة الأفعال، وذلك إذا دخل عليها ناصب، فحينئذٍ تحذف النون ويجعل الحذف علامة على النصب نيابة عن

الفتحة، نحو قوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} (البقرة:24) لن: حرف نفي ونصب واستقبال. تفعلوا: فعل مضارع منصوب بلن ونصبه حذف النون نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأمثلة الخمسة. والواو: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. وحاصل الباب: أن علامات النصب خمسة: الفتحة، والألف، والكسرة، والياء، وحذف النون، والعلامة الأصلية هي: الفتحة، ولها ثلاثة مواضع بالاستقراء: الاسم المفرد، وجمع التكسير، والفعل المضارع الذي لم يتصل بآخره شيء، ودخل عليه ناصب. والألف تكون نائبة عن الفتحة في موضع واحد وهو الأسماء الستة. والكسرة تكون نائبة عن الفتحة في موضع واحد وهو: جمع المؤنث السالم. والياء تكون نائبة عن الفتحة في موضعين: جمع المذكر السالم، والمثنى. وحذف النون يكون علامة للنصب في موضع واحد وهو: الأمثلة الخمسة.

باب علامات الخفض

بَابُ عَلاَمَاتِ الخَفْضِ أي هذا باب بيان ومعرفة علامات الخفض، وثلَّث به لأنه مختص بالاسم، وهو أشرف من الجزم، يعني لِمَ ذكر الخفض ثالثًا ولم يقدم عليه الجزم؟ لأنه قد يرد أن الرفع قدمه لأنه مشترك بين الاسم والفعل، والنصب أيضًا ثنى به لأنه مشترك بينهما، وحَقُّ المشترك في الرفع والنصب مقدَّم على ما اختص بواحد منهما، والخفض مختص بالأسماء، والجزم مختص بالأفعال، إذًا كل منهما مختص، لم قدم ما اختص به الاسم على ما اختص به الفعل؟ نقول: قدمه لأنه مختص بالاسم، والاسم أشرف من الفعل، فقُدِّم ما يتعلق بالأشرف على غيره وهو الفعل، وحينئذٍ يرد السؤال: لماذا اختص الخفض بالاسم؟ قالوا: لأن الخفض بالكسرة ثقيل، والاسم خفيف، والجزم خفيف، والفعل ثقيل، فأعطي الخفيفُ الثقيلَ, والثقيلُ الخفيفَ، طردًا لقاعدة التعادل والتناسب، هكذا قيل: فالاسم خفيف لأنه بسيط يعني مدلوله شيء واحد إما ذات وإما معنى، والفعل مدلوله مركب من زمن وحدث، إذًا الفعل ثقيل، والكسر ثقيل لأنه حركة، والجزم خفيف لأنه عدم حركة، وأيهما أنسب: أن نعطي الخفيف الخفيف، الاسم الخفيف نعطيه الجزم فيزداد خفة؟ أو نعطي الخفيف الثقيل ليتعادل، ونعطي الثقيل -الذي هو الفعل- الخفيفَ ليتعادل؟ لا شك أن الثاني هو الأولى، فحينئذٍ أعطي الاسمُ الخفيفُ الثقيلَ وهو الكسرة أي الخفض، لأن الكسرة حركة وهي

ثقيلة، ليزداد الاسم ثقلا بالحركة فيتزن، وأعطي الفعلُ الثقيلُ الخفيفَ وهو الجزم ليصير خفيفًا فصار تعادلٌ بينهما طردًا لقاعدة التعادل والتناسب. إذًا قدم ما يختص بالاسم على ما يختص بالفعل لأن الاسم أشرف من الفعل. وشرفه في كونه يقع مسندًا إليه، بخلاف الفعل. [بَابُ عَلاَمَاتِ الخَفْضِ] أي هذا باب بيان علامات الخفض. والخفض لغة: الخضوع والتذلل. واصطلاحًا على مذهب البصريين: الكسرة وما ناب عنها. وعلى مذهب الكوفيين: تغيير مخصوص علامته الكسرة وما ناب عنها. وعامل الخفض اثنان لا ثالث لهما: إما حرف, وإما اسم. الحرف مثل قولك: مررت بزيدٍ، زيد: اسم مجرور بالباء وعلامة جره كسرة ظاهرة على آخره، فالذي أحدث الكسرة في زيد هو الباء وهي حرف جر، لأنها تُحْدِثُ الكسرة فقُيِّد اللفظ بعمله فقيل: حرف الجر، لأنه يعمل الجر، كما قيل حرف نصب، لأنه يعمل النصب، وأداة جزم لأنها تعمل الجزم، وهذا من جهة العمل، وإما لأنها تجر معاني الأفعال إلى الأسماء. الثاني: الاسم. وهو المضاف على الصحيح، إذا قلت: جاء غلامُ زيدٍ، فغلام: فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وهو مضاف، وزيد مضاف إليه مجرور، وكل مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة أو المقدرة، أو ما ناب عنها. والعامل فيه قيل: الإضافة، وقيل: حرف الجر المقدر، وقيل: المضاف، ثلاثة أقوال: وأصحها أنه المضاف يعني نفس اللفظ غلام هو الذي عمل في المضاف إليه الجر، كما قيل: إن المبتدأ هو عينه عامل الرفع في الخبر على الصحيح، ولا مانع أن

يكون الاسم جامدًا ويعمل فيما بعده إذا كان مقتضيًا له اقتضاءً تامًّا، كذلك هنا غلام زيد، غلام: هذا مضاف ولا يُتمِّمُ معناه إلا المضاف إليه، فحينئذٍ لاقتضاء وافتقار المضاف إلى المضاف إليه عمل فيه، لأن علة العمل في الأفعال وفي الأسماء وفي الحروف هي: الافتقار، وهنا المضاف مفتقر للمضاف إليه، لا يتمم معناه إلا هو، فحينئذٍ نقول: غلام زيد، زيد: مضاف إليه مجرور بالمضاف، وجره كسرة ظاهرة على آخره. زاد بعضهم من عوامل الخفض: الجر بالتوهم، وقيل: الجر بالتبعية، وقيل: الجر بالمجاورة، وكلها ضعيفة وقد يأتي بيانها في باب المخفوضات. عَلاَمَةُ الخَفْضِ الَّتِي بِهَا يَفِي ... كَسْرٌ وَيَاءٌ ثُمَّ فَتْحٌ فَاقْتَفِ [عَلاَمَةُ الخَفْضِ] أي علامات الخفض، يقال فيها ما قيل في علامة النصب، وعلامة الرفع، [عَلاَمَةُ الخَفْضِ] مبتدأ، وكسرٌ وما عطف عليه خبر، [عَلاَمَةُ الخَفْضِ الَّتِي بِهَا يَفِي] يفي أي الخفض، الضمير هنا عائد على الخفض وهو فاعل، ويَفِي أي يتم ويكمل ما للاسم من أنواع الإعراب، فعل مضارع، و [بِهَا] جار ومجرور متعلق بيَفِي، والجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول الَّتِي، [كَسْرٌ] أي الكسرة، لأن ثم فرقًا بينهما فالكسر لقب من ألقاب البناء ولذا تقول: مبني على الكسر. والكسرة من أنواع الإعراب تقول: مجرور وعلامة جره الكسرة، وهذا أحسن، [كَسْرٌ] أي مسمى الكسر، وقدمها لأصالتها، لأنها الأصل أي الكثير والغالب في المجرورات أنه يجر بالكسرة، ولذلك لا يعدل عنها إلا عند تعذرها، متى ما

أمكن أن يلفظ بها أو أن تقدر لا يُعدل إلى غيرها البتة، [وَيَاءٌ] أي مسمى الياء، عطف على [كَسْرٌ] وهو فرع عنه، لأن الكسرة إذا أشبعت تولدت عنها الياء, [ثُمَّ فَتْحٌ] ثُمَّ للترتيب الذكري. [فَتْحٌ] أي مسمى الفتحة، أي الفتحة تكون نائبة عن الكسرة، كما أن الياء تكون نائبة عن الكسرة، وثلَّث بالفتحة لأنها تنوب عن الكسرة في الاسم الذي لا ينصرف. [فَاقْتَفِ] يعني فاتَّبِع، أمر بالاقتفاء وهو الإتباع. إذًا للخفض ثلاث علامات: الأولى: الكسرة وهي الأصل، واثنتان فرعيتان: الياء، والفتحة، ثم قال: فَالخَفْضُ بِالكَسْرِ لِمُفْرَدٍ وَفَا ... وَجَمْعِ تَكْسِيرٍ إِذَا مَا انْصَرَفَا وَجَمْعِ تَأْنِيثٍ سَلِيمِ المَبْنَى ... .......................... [فَالخَفْضُ] الفاء فاء الفصيحة، [بِالكَسْرِ] أي بالكسرة ظاهرة كانت أو مقدرة، [لِمُفْرَدٍ] منصرفٍ سواء كان مذكرًا أو مؤنثًا [وَفَا] أي المفرد وفا بمعنى تَمَّ وكمَّله. [وَجَمْعِ تَكْسِيرٍ إِذَا مَا انْصَرَفَا] [وَجَمْعِ تَأْنِيثٍ سَلِيمِ المَبْنَى] فهذه ثلاثة مواضع تكون للكسرة على الأصل، إذًا المواضع التي تكون الكسرة فيها علامة للخفض ثلاثة: الأول: الاسم المفرد، نحو: مررت بزيدٍ والفتى والقاضي وغلامِي. مررت: فعل وفاعل. بزيد: الباء حرف جر، زيدٍ: اسم مجرور بالباء وجره كسرة ظاهرة على آخره، لماذا جرَّ بالكسرة؟ لأنه اسم مفرد، والاسم المفرد يجر بالكسرة على الأصل، والفتى، الواو: حرف عطف، الفتى: معطوف على زيد، والمعطوف على المجرور مجرور، وجره كسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها التعذر، وإذا قلت

فتىً: حينئذٍ تكون الكسرة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين. وفتىً: بدون ألف، لأن الألف والتنوين لا يجتمعان، إذا قلت الفتى: بأل، فحينئذٍ لُفظ بالألف لأن علة حذف الألف هو التنوين، فإذا حذف التنوين حينئذٍ رجعت الألف، فتكون الكسرة مقدرة على الألف الملفوظ بها، وإذا حذفت أل رجع التنوين، فتقول مررت بزيد وفتىً، إذًا التقى ساكنان: الألف والتنوين، فتحذف الألف، وتقدر الكسرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، والقاضي: معطوف على زيد، والمعطوف على المجرور مجرور، وجره كسرة مقدرة على آخره- الياء الملفوظ بها - منع من ظهورها الثقل لأنه اسم منقوص، لكن لو حذفت أل وجئت بالتنوين: التقى ساكنان: الياء والتنوين فتحذف الياء وجوبًا، فحينئذٍ محل تقدير الحركة صار محذوفًا فتقول: وقاضٍ، معطوف على زيد والمعطوف على المجرور مجرور، وجره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين. وغلامي: مضاف ومضاف إليه. غلامي: معطوف على زيد، والمعطوف على المجرور مجرور، وجره كسرة مقدرة على آخره. غلامي: هو مكسور آخره في اللفظ، ولذلك اتفقوا في المضاف إلى ياء المتكلم أنه إذا رفع أو نصب كانت الضمة والفتحة مقدرة باتفاق، فنحو: جاء غلامي: الضمة مقدرة باتفاق - عند من قال بإعرابه وبعضهم يرى أنه مبنى وليس بصواب - ورأيت غلامي: الفتحة مقدرة باتفاق، عند من قال بإعرابه، أما نحو: مررت بغلامي، أو كما في

مثالنا معطوف على اسم مجرور، فهذا فيه خلاف هل هذه الكسرة كسرة المناسبة أو كسرة أحدثها العامل؟ الأصح أنها كسرة المناسبة، لأن تسليط العامل إنما يكون بعد التركيب الإضافي، فلم يسلط العامل أوَّلا ثم رُكِّب تركيبًا إضافيًا، وإنما أضمر المركب الإضافي فهو سابق على العامل فحينئذٍ وجدت الكسرة أولاً ثم سلط عليه عامل يقتضي الكسرة، فأين تظهر والمحل قد شُغِلْ؟ حينئذٍ يتعين أن نقول: هذه كسرةٌ مقدرةٌ. غلامي معطوف على زيد والمعطوف على المجرور مجرور، وجره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة وهو مضاف، والياء: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه. هذا هو الموضع الأول التي تكون الكسرة فيه علامة للخفض. [وَجَمْعِ تَكْسِيرٍ] أي المجموع المكسر، وهو نوعان: قد يكون مصروفًا، وقد يكون ممنوعًا من الصرف، [إِذَا مَا انْصَرَفَا] هذا قيد عامٌّ للمفرد وجمع التكسير، [فَالخَفْضُ بِالكَسْرِ لِمُفْرَدٍ] [إِذَا مَا انْصَرَفَا] يعني: إذا كان منصرفًا، إذًا نأخذ من هذا أن المفرد قسمان: مصروف، وممنوع من الصرف. والكسرة تكون علامة للخفض في الاسم المفرد المنصرف، والمنصرف مأخوذ من الصرف، والصرف هو التنوين كما قال ابن مالك: الصَّرْفُ تَنْوِينٌ أَتَى مُبَيِّنَا ... مَعْنىً بِهِ يَكُونُ الاسْمُ أَمْكَنَا أنواع التنوين التي تكون في الاسم أربعة، أولها وأشهرها وهو الذي إذا أطلق التنوين انصرف إليه: تنوين التمكين، وتنوين

التمكن، وتنوين الأمكنية، وتنوين الصرف، هذه أربعة أسماء لمسمى واحد. وهو اللاحق للأسماء المعربة دالاً على تمكنها في باب الاسمية، بحيث لم تشبه الحرف فتبنى ولا الفعل فتمنع من الصرف، هذا التنوين يسمى الصرف، فإذا أطلق انصرف إليه هنا قال: [لِمُفْرَدٍ] [إِذَا مَا انْصَرَفَا] أي لمفرد منصرف: يعني لمفرد دخله تنوين الصرف الدال على تمكنه في باب الاسمية، فحينئذٍ استوفى الأنواع الثلاثة: الرفع بالضمة، والنصب بالفتحة، والخفض بالكسرة، أما الذي أشبه الحرف فقد سُلب عنه الرفع والنصب والخفض لأنه انتقل إلى البناء، وأما الذي أشبه الفعل، فقد سُلِبَ عنه نوعٌ واحدٌ وهو الجر بالكسرة، فحينئذٍ رُفع بالضمة، ونُصب بالفتحة، ولم يُكسر على الأصل وإنما أُعطي الفتحة نيابة على الكسرة - وهذا هو الاسم المفرد الممنوع من الصرف - فإذا قيل: اسم ممنوع من الصرف أي: ممنوع من التنوين، والمشهور أن الممنوع من الصرف هو الممنوع من التنوين والكسرة معًا- وسيأتي تفصيله في موضعه-[وَجَمْعِ تَكْسِيرٍ] منصرف [إِذَا مَا انْصَرَفَا] الألف فاعل، لأنه يرجع إلى المفرد وجمع التكسير، ومَا زائدة. يَا طَالِبًا خُذْ فَائِدَهْ ... مَا بَعْدَ إِذَا زَائِدَهْ [وَجَمْعِ تَأْنِيثٍ سَلِيمِ المَبْنَى] أي والثالث الذي يخفض بالكسرة على الأصل: جمع المؤنث السالم، و [سَلِيمِ المَبْنَى] أي سَلِمَ مبناه، أي سلم مبنى واحده، كمسلمة ومسلمات، وضخمة وضخمات، جُمع بألف وتاء وسلم فيه واحده، لكن هذا القيد لا للاحتراز، لأنه قد

يسلم كالمثال السابق، وقد لا يسلم، كسجْدة وسجَدات، وحبلى وحبليات، وصحراء وصحراوات، كما أن قوله: [جَمْعِ تَأْنِيثٍ] لا للاحتراز؛ لأنه قد يكون جمع مذكر، كطلحة وطلحات، وحمام وحمامات، واصطبل واصطبلات، فأجيب: بأن كلاً من القيدين لا للاحتراز وإنما صار علمًا ولقبًا، كالأعلام الجامدة. لأنه لو سمي رجل بصالح، وصالح: اسم فاعل يدل على ذات متصفة بالصلاح، فإذا قيل: فلان اسمه صالح. هل كل من اسمه صالح فالاسم وقع على مسمّاه كما هو؟ الجواب: لا، وإنما يقال: هذا جامد، يعني سُلب المعنى الذي دل عليه قبل العلمية، إذًا لا يُفهم من هذا العلَم أنه صالح بمعنى الصلاح، بل قد يكون فاسقًا واسمه صالح، حينئذٍ نجيب بأن هذا علم جامد لا دلالة له على معنى، فجمع المؤنث السالم صار لقبًا وعلمًا، فحينئذٍ لا تأتي وتقول: يعترض عليه بالمذكر أو يعترض عليه بكون بعضه لم يسلم واحده في الجمع. قوله: [وَجَمْعِ تَأْنِيثٍ سَلِيمِ المَبْنَى] لم يقيده بالمنصرف كما قيد المفرد وجمع التكسير؛ لأن جمع المؤنث السالم كله منصرف، فلا يكون إلا منصرفًا ما لم يكن علمًا، أما العلم فيجوز فيه الوجهان الصرف والمنع. إذًا هذه ثلاثة مواضع تكون الكسرة فيها علامة للخفض. ........................... ... وَاخْفِضْ بِيَاءٍ يَا أَخِي المُثَنَّى وَالجَمْعَ وَالخَمْسَةَ فَاعْرِفْ وَاعْتَرِفْ ... .........................

[وَاخْفِضْ بِيَاءٍ يَا أَخِي المُثَنَّى] وَاخْفِضْ فعل أمر أي واخفض خفضًا مصورًا بياء، أي بمسمى ياء، نيابة عن الكسرة في ثلاثة مواضع: المثنى، والجمع، والخمسة. [يَا أَخِي] فيه تلطف للطالب، ويَا حرف نداء، وأَخِي منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. [المُثَنَّى] سواء كان مذكرًا أو مؤنثًا نحو: مررت بالزيدَين والهنديَن، مررت: فعل وفاعل، بالزيدين: الباء: حرف جر، والزيدين: اسم مجرور بالباء، وجره الياء المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها نيابة عن الكسرة لأنه مثنى، والنون: عوض عن التنوين في الاسم المفرد. والهندين الواو: حرف عطف، والهندين: معطوف على الزيدين، والمعطوف على المجرور مجرور، وجره الياء المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها نيابة عن الكسرة لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. [وَالجَمْعَ] أي جمع المذكر السالم، لأنه يقابل المثنى، فجمع بينهما في سياق واحد، فإذا جمع بينهما في سياق واحد وأطلق الجمع، حُمِلَ على جمع المذكر السالم، لأنه يعرب بحرفين كالمثنى، ولذلك من أسمائه: الجمع على حد المثنى، يعني على طريقة وسبيل المثنى، لأنه يعرب بحرفين: الألف والياء، والجمع يعرب بحرفين: الواو والياء، هذا عند الاختصار وإلا عند التفصيل: أن ياء النصب ليست هي عين ياء الجر، فحينئذٍ لما كان جمع المذكر السالم يجري مجرى المثنى، إذا أُطلق حمل عليه، وتكون أل فيه للعهد الذكري، [وَالجَمْعَ] أي جمع المذكر السالم يجر بالياء تقول:

مررت بالزيدِينَ، الزيدين: اسم مجرور بالباء وجره الياء المكسور ما قبلها المفتوح ما بعدها نيابة عن الكسرة لأنه جمع مذكر سالم، وقد تكون هذه الياء مقدرة، لو قيل: مررت بالمقيمي الصلاة، فالمقيمي: مجرور بالباء، وجره الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، لأن النون حذفت للإضافة، ثم التقى ساكنان الياء واللام فحذفت الياء، فحينئذٍ تكون الياء مقدرة. [وَالخَمْسَةَ] أي والخمسة الأسماء، يكون الجر فيها بالياء نيابة عن الكسرة، نحو: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} (يوسف:81) أبيكم: اسم مجرور بإلى وجره الياء نيابة عن الكسرة، لأنه من الأسماء الخمسة، [وَالخَمْسَةَ] أي بشروطها السابقة, [فَاعْرِفْ وَاعْتَرِفْ] أي فاعلم ما قد ذُكر لك أولاً، وأنه من القواعد العامة، واعترف به يعني لأهله وأصحابه، واشكر النحاة على ما قد يسروا لك هذا العلم بالتقعيد والتأصيل والتتبع والاستقراء. ................... ... وَاخْفِضْ بِفَتْحٍ كُلَّ مَالاَ يَنْصَرِفْ عرفنا أن علامة الخفض تكون بالكسرة وبالياء وبالفتحة، والكسرة تكون في ثلاثة مواضع: في الاسم المفرد المنصرف، وجمع التكسير المنصرف، وجمع المؤنث السالم. والياء تكون في ثلاثة مواضع: في المثنى، وجمع المذكر السالم، والأسماء الخمسة أو الستة. وأما الفتحة فتكون نائبة عن الكسرة في موضع واحد: وهو الاسم الممنوع من الصرف، أي الممنوع من التنوين والجر معا، قال ابن مالك: وَجُرَّ بِالفَتْحَةِ مَا لاَ يَنْصَرفْ ... ......................

الأصل في الاسم المعرب بالحركات أن يكون مصروفًا أي منونًا، والأصل فيه أن يجر بالكسرة، ولذلك قال في الملحة: هَذَا وَفِي الأَسْمَاءِ مَا لاَ يَنْصَرِفْ ... فَجَرُّهُ كَنَصْبِهِ لاَ يَخْتَلِفْ هذا: المشار إليه الذي ذَكر لك أولاً، وفي الأسماء ما لا ينصرف: يعني ليس هو الكثير، وإنما الكثير الذي يكون مصروفًا، فنصبه: الذي هو الاسم المفرد وجمع التكسير يكون بالفتحة، فجره أيضًا يكون بالفتحة كنصبه، إذًا استوى الجر والنصب من حيث اللفظ، فيكونان بالفتحة، وَلَيسَ للتَّنْوِينِ فِيهِ مَدْخَلُ ... لِشَبَهِ الفِعْلِ الَّذِي يُسْتَثقَلُ لأنه لما أشبه الفعل في وجود علتين: إحداهما ترجع إلى اللفظ، والأخرى ترجع إلى المعنى، أو علة تقوم مقام علتين، مُنع الاسم من الجر بالكسرة ومن التنوين كما أن الفعل لا يدخله جر ولا تنوين، [وَاخْفِضْ بِفَتْحٍ] وَاخْفِضْ هذا أمر، والأمر للوجوب، [بِفَتْحٍ] أي بمسمى فتح، والمراد به الفتحة ظاهرةً أو مقدرةً، لأن الباب باب إعراب لا بناء، فالفتح من ألقاب البناء، والفتحة من ألقاب الإعراب. [كُلَّ مَا لاَ يَنْصَرِفْ] [كُلَّ] هذا ضابط، فحينئذٍ يكون كلية، قال في السلم: وَحَيثُمَا لِكُلِّ فَرْدٍ حُكِمَا ... فَإِنَّهُ كُلِيَّةٌ قَدْ عُلِمَا كلية أي أن مدخولها كل فرد منه يصدق عليه الحكم فإذا قيل: كل طالب مجتهد، فحينئذ يصدق الحكم وهو الاجتهاد على

جميع أفراد الطلاب، لا يخرج عن الحكم أيُّ فرد كان. و [كُلَّ] مفعول به منصوب بـ[اخْفِضْ] وهو مضاف و [مَا] اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه، وهو للعموم، وكل أيضًا للعموم، فمَا اسم موصول بمعنى الذي يصدق على الاسم المفرد، وجمع التكسير؛ لأن الذي يوصف بكونه منصرفًا أو غير منصرف هو المفرد وجمع التكسير فقط، فالاسم المفرد نوعان: منصرف وغير منصرف -كما ذكرناه في باب الإعراب - وجمع التكسير نوعان: منصرف، وغير منصرف، فحينئذٍ [مَا] يصدق على المفرد غير المنصرف، وجمع التكسير غير المنصرف، و [يَنْصَرِفْ] هذا فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف، [كُلَّ مَا لاَ يَنْصَرِفْ] يعني ما لا يقبل التنوين والجر، تقول: مررت بأحمدَ، بأحمدَ: ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، والباء حرف جر، أحمدَ: ممنوع من الصرف اسم مجرور بالباء وجره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف، ولِمَ مُنع من الصرف؟ لأنه أشبه الفعل في وجود علتين اثنتين: إحداهما ترجع إلى اللفظ والأخرى ترجع إلى المعنى وأحمد فيه علتان: كونه على وزن الفعل، هذه علة ترجع إلى اللفظ، وكونه علمًا هذه ترجع إلى المعنى فحينئذٍ وجد في الاسم المفرد علتان: فأشبه الفعل فأخذ حكمه، وهو أن الفعل لا يدخله تنوين ولا كسر، كذلك جمع التكسير تقول: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ} (الحج:40) لا يشترط في الاسم الممنوع من الصرف أن لا يمثل له إلا بحالة الجر، وإنما يمثَّل بحالة الجر لمناسبة المقام فقط،

وإلا تقول: مررت بمساجدَ كثيرة، الباء: حرف جر، ومساجد: اسم مجرور بالباء، وجره الفتحة نيابة عن الكسرة، لأنه ممنوع من الصرف وهو جمع تكسير على صيغة منتهى الجموع. وقد ذكرنا أن الصرف هو تنوين التمكين، وهو اللاحق للأسماء المعربة دالا على تمكنها في باب الاسمية بحيث لم يشبه الحرف فيبنى ولا الفعل فيمنع من الصرف، إذًا الاسم نوعان: إما مبني وهو غير المتمكن, وإما معرب وهو المتمكن وهذا نوعان: متمكن أمكن وهو المعرب المنصرف الذي يدخله الجر والتنوين، ومتمكن غير أمكن وهو المعرب الممنوع من الصرف يعني الذي لا يدخله تنوين الصرف فقط، وقيل: الممنوع من الصرف ممنوع من شيئين: من التنوين ومن الجر بالكسرة معًا. ومحل الخلاف يظهر في نحو قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة:187) فمساجد: ممنوع من الصرف، ولذلك لم ينون في قوله: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج:40) ومحل الخلاف إذا قلنا: مساجد ممنوع من الصرف حينئذٍ لو دخلت عليه أل كقوله: {فِي الْمَسَاجِدِ} المساجد: هل هو ممنوع من الصرف أو لا؟ من جعل الممنوع من الصرف ممنوعًا من التنوين والجر معًا فعنده أنه رجع إلى أصله فهو مصروف. ومن قال: إنه ممنوع من الصرف فقط، جعله ممنوعا من الصرف حكمًا، لأنه ممنوع من الصرف الذي هو التنوين، والتنوين غير موجود، ووجود الكسرة لا يستلزم صرفه، والأصح أنه ممنوع

من الصرف والكسرة معًا. وأما قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فهذه الكسرة هي إعراب على الأصل، ومُنع التنوين لعارضٍ، وهو أن التنوين - تنوين الصرف - لا يجامع أل، فإذا دخلت أل على الاسم الممنوع من الصرف أو أضيف رجع إلى أصله وهو الجر بالكسرة ودخول التنوين، كما قال ابن مالك: وَجُرَّ بِالفَتْحَةِ مَا لاَ يَنْصَرفْ ... مَا لَمْ يُضَفْ أَوْ يَكُ بَعْدَ أَلْ رَدِفْ يقال: مررت بمساجدَ، ثم يقال في المساجد والفرق بينهما: بمساجد هذا أشبه الفعل -لما سيأتي- والفعل لا تدخل عليه أل، فلما أشبه مساجد الفعل ولم تدخل عليه أل كان الشبه قويًا، ولما دخلت عليه أل وأل من خصائص الأسماء ضَعُف الشبه؛ لأن الممنوع من الصرف إنما منع من الصرف لكونه أشبه الفعل ما لم يدخل عليه ما يبعد شبهه من الفعل فحينئذٍ يعود إلى أصله، كذلك الإضافة من خصائص الأسماء، فإذا أضيف الاسم الممنوع من الصرف بعُد شبهه بالفعل المضارع، فحينئذٍ رجع إلى أصله. إذًا قوله: [وَاخْفِضْ بِفَتْحٍ كُلَّ مَا لاَ يَنْصَرِفْ] ليس على إطلاقه وإنما يقال ما لم تدخل عليه أل، أو يضف، فإن دخلت عليه أل كما في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} نقول: رجع إلى أصله فحينئذٍ يخفض بالكسرة على الأصل، كذلك ما لم يضف، فإن أضيف كما في قول تعالى: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4) نقول: رجع إلى أصله فحينئذٍ يخفض بالكسرة على الأصل.

نقول: الأصل في الاسم المعرب الإعراب بالحركات والصرف، وهذا هو الغالب في الأسماء أنها مصروفة، وإن كان المنع من الصرف قليلاً، فإن النحاة قد وضعوا له قواعد وضوابط يمكن بواسطتها معرفة الممنوع من الصرف، أولاً: عرفنا أن الممنوع من الصرف هو الذي لا يُنوَّن ولا تدخله الكسرة وإنما يجر بالفتحة. ثانيًا: ما هي علة الممنوع من الصرف؟ نقول: عرَّف بعض النحاة الممنوع من الصرف فقال: الاسم الممنوع من الصرف هو الذي أشبه الفعل في وجود علتين فرعيتين، إحداهما ترجع إلى اللفظ والأخرى ترجع إلى المعنى أو وجد فيه علة واحدة تقوم مقام العلتين. وإذا أردنا فلسفة هذا الكلام وذكر العلل والحكمة نقول باختصار: الاسم -كما سبق- على ثلاثة أنحاء: الأول: اسم أشبه الحرف، وهذا الذي عنون له النحاة بالمبني، وعلة البناء عند ابن مالك شبه الاسم بالحرف شبه قويًا إما في الوضع، أو في المعنى، أو في الاستعمال، أو في الافتقار. إذا أشبه الاسم الحرف في واحد من هذه الأسباب فقاعدة العرب أن المشبَّه يُعطى حكم المشبَّه به، والاسم معرب بالأصالة، والحرف مبني بالأصالة، فحينئذٍ لما أشبه الاسمُ الحرفَ أخذ حكمه وهو البناء. الثاني: اسم أشبه الفعل في وجود علتين فرعيتين - في الفعل- إحدى هاتين العلتين ترجع إلى اللفظ، والأخرى ترجع إلى المعنى، فلما أشبه الاسم الفعل شبه قويًا أَعطى العرب المشبه حكم المشبه به، والفعل لا ينون ولا يدخله الكسر، فحينئذٍ نُقل هذا الحكم -حكم الفعل- إلى الاسم فصار الاسم غير

منون وغير مجرور بالكسرة، فنقول: أُعطي المشبَّهُ -الذي هو الاسم- حكمَ المشبه به -وهو الفعل- وهذا الحكم أمران: الأول: المنع من الصرف، لأن الفعل لا يدخله التنوين، ولذلك جعل التنوين من علامات الأسماء. الثاني: المنع من الخفض لأن الفعل لا يدخله الخفض، ولذلك جعل من علامات الأسماء، فحينئذٍ نُقل هذا الحكم - وهو عدم قبول الفعل للتنوين والكسر- إلى الاسم فجعل الاسم كالفعل لا يقبل التنوين ولا الكسر، فأخذ الاسم حكم المشبه به وهو الفعل، وهذا الذي يسمى بالممنوع من الصرف. وحينئذٍ يرد السؤال: ما هاتان العلتان الفرعيتان اللتان تكونان في الفعل إحداهما ترجع إلى اللفظ، والأخرى ترجع إلى المعنى؟ قال النحاة: الفعل مشتق من المصدر على مذهب البصريين، كما قال الحريري: وَالمَصْدَرُ الأَصْلُ وَأَيُّ أَصْلِ ... وَمِنْهُ يَا صَاحِ اشْتِقَاقُ الفِعْلِ فالمصدر الأصل، والفعل مطلقًا سواء كان ماضيًا أو مضارعًا أو أمرًا مشتق من المصدر فهو فرع، وهذه العلة ترجع إلى اللفظ فهي علة لفظية، لأن ضَرَبَ مشتق من الضرب، فالفعل مشتق من المصدر، والمصدر الذي هو الاسم مشتَق منه، ومعلوم قطعًا أن ما كان مشتقا فرع عما هو مشتق منه، فثبت أن الفعل فرع عن الاسم من حيث اللفظ على مذهب البصريين القائلين بأن الفعل مشتق من المصدر. وأما على مذهب الكوفيين القائلين أن المصدر مشتق من الفعل، فالعلة اللفظية عندهم أن الفعل مركب من شيئين: الحدث،

والزمن. والمصدر بسيط لأنه يدل على الحدث فقط، وهو شيء واحد، وما لا تركيب فيه - الذي هو المصدر - فرع عما هو مركب - الذي هو الفعل- فإذا قيل: ضرب فعل ماض يدل على شيئين: الضرب، والزمن أي كونه واقعًا في زمن مضى وانقطع، ويضرب فعل مضارع يدل على شيئين: الضرب الذي هو المصدر وكونه واقعًا في الحال أو الاستقبال، واضرب فعل أمر يدل على شيئين: طلب حصول الحدث وإيقاعه في الزمن المستقبل، فأما المصدر فهو دال على الحدث فقط، وهو أحد جزئي الفعل، وحينئذٍ يكون المصدر أصلاً باعتبار دلالته على الحدث فقط، والفعل يكون مركبًا فهو فرع لأن ما لا تركيب فيه أصل لما هو مركب. فهذه علة ترجع إلى اللفظ كون الاسم أصلاً للفعل؛ لأنه مصدر، والمصدر هو أصل الاشتقاق، والفعل مشتق والمصدر مشتق منه. أما العلة التي تكون في الفعل - وهي فرع عن الاسم - وهي راجعة إلى المعنى، فهي أن الفعل متضمن للحدث، وكل حدث لابد له من محدث من فاعل له، لأن الحدث لا يمكن أن يوجد بلا فاعل بدلالة العقل، فالفعل يدل على الفاعل بدلالة الالتزام وهي دلالة عقلية، فنحو: قام، هذا فعل ولابد له من فاعل، لأن قام يدل على القيام، ولا يمكن أن يوجد قيام بلا قائم، وهذا هو الفاعل، والفاعل من علامات الأسماء، فحينئذٍ كل فعل يفتقر إلى فاعل، والفاعل لا يكون إلا اسمًا، فصار الفعل مفتقرًا إلى الاسم، والمفتقَر إليه أصل للمفتقِر. حينئذٍ نقول: الفعل وُجِد فيه علتان فرعيتان عن الاسم

إحداهما ترجع إلى اللفظ، وهي كونه مشتقا من المصدر، والأخرى ترجع إلى المعنى، وهي كونه مفتقرًا إلى فاعل. فإذا كان في الاسم علتان فرعيتان إحداهما ترجع إلى اللفظ والأخرى ترجع إلى المعنى، حينئذٍ وقع الشبه بين الاسم وبين الفعل، لكن هل يشترط في كون الاسم يشبه الفعل أن يكون الشبه في عين العلتين أو في مطلق العلتين؟ نقول: يتعذر أن يكون الشبه في عين العلتين لأن العلتين الموجودتين في الفعل هي كونه مشتقًا من المصدر، والاسم لا يمكن أن يكون مشتقًا من المصدر، وكون الفعل مفتقرًا إلى الفاعل، ولا يمكن أن يكون الاسم مفتقرًا إلى الفاعل، فليست المشابهة هنا في عين العلتين، بل في مطلق علتين فرعيتين مع قطع النظر عن العلتين الفرعيتين الموجودتين في الفعل، فتوجد علتان فرعيتان في الاسم لكنهما مغايرتان لهاتين العلتين، فحينئذٍ نقول: وجه الشبه بين الاسم والفعل هو مطلق المشابهة، والفعل لا يدخله التنوين ولا الخفض بالكسر، فلما أشبه الاسم الفعل أخذ حكمه فمُنع من التنوين ومنع من الكسر. والعلل التي توجد في الاسم وهي فرعية، وإذا وجدت قلنا: يوجد في الاسم علتان فرعيتان فنحكم على الاسم بأنه أشبه الفعل، مجموعها تسعة، سبعة لفظية، واثنتان معنوية. فالعلمية والوصفية معنوية، وما عداها فهي لفظية، مجموعة في قول الناظم: اجْمَعْ وَزِنْ عَادِلاً أَنِّثْ بِمَعَرِفَةٍ ... رَكِّبْ وَزِدْ عُجْمَةً فَالوَصْفُ قَدْ كَمُلاَ

هذه العلل التسع فرعية لا أصلية، وبيان ذلك قوله: اجمع، هذه علة فرعية لأن الجمع فرع المفرد، فإذا كان الاسم مفردًا نقول: جاء على أصله لأنه هو الأصل فيه، وإذا جاء جمعًا - أي أنواع الجمع- نقول: هذا فرعٌ في الاسم لأن الأصل في الاسم أن يكون مفردًا، فحينئذٍ وجدت في الاسم علة فرعية وهي الجمع. قوله: وزِنْ المراد به وزن الفعل، الاسم له وزن خاص به، والفعل له وزن خاص به، وثَّم أوزانٌ مشترَكة بين الاسم والفعل، فإذا جاء الاسم على وزنه الخاص، فقد جاء على الأصل فيه، وإذا جاء الاسم على وزن خاص بالفعل فقد وجد في الاسم علة فرعية، مثلاً نقول: قَتَّل على وزن فَعَّل وهذا وزنٌ خاص بالفعل، فإذا سمي به رجل فصار اسمه قَتَّل نقول: هذا وزن خاص بالفعل، والأصل في الاسم أن يأتي على وزنه الخاص به. إذًا العلة الثانية الفرعية التي تكون في الاسم هي وزن الفعل؛ لأن الأوزان باعتبار الأسماء والأفعال ثلاثة أقسام: وزن خاص بالاسم، ووزن خاص بالفعل، وثمة أوزان مشتركة بينهما. إذا جاء الاسم على وزنه الخاص فلا إشكال، وإذا جاء الاسم على وزن خاص بالفعل نقول: جاء الاسم على غير أصله. فنحكم عليه بأنه وجد فيه علة فرعية. قوله: عادلاً، بمعنى العدل: وهو تحويل الاسم من حالة إلى حالة أخرى، فالمعدول فرع المعدول عنه فإذا قيل: عامر عُدِل به إلى عمر صار عمر فرعًا وعامر أصلاً، فحينئذٍ نقول: الاسم المعدول فرع عن الاسم المعدول عنه سواءٌ كان العدل حقيقيًا أو تقديريًّا، فالعدل علة فرعية لأن الأصل في الاسم أن لا

يكون معدولاً. قوله: أنّث، الأصل في الأسماء التذكير، والتأنيث فرع التذكير، بدليل أن التأنيث لابد أن يكون بعلامة تدل عليه بخلاف التذكير، وما لا يفتقر إلى علامة أصل لما افتقر إلى علامة، لذا قال ابن مالك: عَلاَمَةُ التَّأْنِيثِ تَاءٌ أَوْ أَلِفْ ... وَفِي أَسَامٍ قَدَّرُوا التَّا كَالكَتِفْ إذًا التأنيث فرع التذكير، فإذا وجد الاسم مؤنثًا فقد وجدت فيه علة فرعية. قوله: بمعرفة، المعرفة المراد بها هنا العلمية، الأصل في الاسم التنكير، والمعرفة فرع عنه. لأن المعرفة لابد لها من علامة تدل عليها بخلاف النكرة، وما افتقر إلى علامة فرعٌ عما لا يفتقر إلى علامة. فإذا وجدت العلمية في الاسم قلنا: هذا فرعٌ بدليل أن الأصل في الاسم أن يكون نكرة. قوله: ركب، التركيب فرع ما لا تركيب فيه، فالأصل في الاسم عدم التركيب، فإذا جاء الاسم مركبًا نحو: عبد الله، وتأبط شرًا، وامرؤ القيس، وسيبويه، وبعلبك، وحضرموت، هذه كلها مركبات، فقد وجدت فيه علة فرعية وهي كونه مركبًا. قوله: وزد، المراد به زيادة الألف والنون، لاشك أن المزيد فيه فرع ما لا زيادة فيه، والاسم يكون ثلاثيا أو رباعيا أو خماسيًا وحينئذٍ يكون أصلاً، فإذا زيد على أصله ألف ونون فقد وجدت فيه علة فرعية. قوله: عجمةً، والمراد بها أن تكون الكلمة على الأوضاع العجمية، أي كلمة أعجمية دخلت على اللسان العربي، والمتكلم العربي الأصل فيه أن يتكلم بلسانه هو، لا بلسان غيره، فإذا جاءت الكلمة عربية نقول: هذا أصلها، وإذا جاءت أجنبية نقول: استعمَل

ذو اللسان العربي كلمةً ليس عليها لسانه وهذا فرع، والكلمة الأعجمية كإبراهيم ونحوه، فهذه مشتملة على علة فرعية وهي كونها أعجمية. قوله: فالوصف قد كملا، وكملا مثلث الميم، والوصف المراد به الصفة، والاسم المشتمل على الصفة فرعُ ما لا صفة فيه، لأن لأصل في الاسم أنه مجرد إما أن يدل على معنى فقط أو يدل على ذات فقط. هذه علل تسع، منها اثنتان معنويتان، وهما العلمية والوصفية، وست علل منها راجعة إلى اللفظ وهي: التأنيث بغير ألف، والعجمة، والتركيب، وزيادة الألف والنون، ووزن الفعل، والعدل. هذه ست ولابد من وجود إحدى هذه العلل الستة مع العلمية أو الوصفية، فمثلا تقول: زينب ممنوع من الصرف لأنه أشبه الفعل في وجود علتين فرعيتين إحداهما ترجع إلى اللفظ والأخرى ترجع إلى المعنى، وهاتان العلتان هما: التأنيث، والعلمية. فالتأنيث هذه علة فرعية ترجع إلى اللفظ، لأن الأصل في اللفظ أن يكون مذكرا، والعلمية هذه علة معنوية لأن الأصل في الاسم التنكير، فوجد في الاسم علتان: الأولى: التأنيث بغير ألف، والثانية: العلمية، إذًا أشبه الفعل في وجود علتين فرعيتين، فمنع من الصرف. إذًا عرفنا حقيقة الممنوع من الصرف إجمالا، ونأتي الآن على شرح تلك العلل. اجْمَعْ وَزِنْ عَادِلاً أَنِّثْ بِمَعَرِفَةٍ رَكِّبْ وَزِدْ عُجْمَةً فَالوَصْفُ قَدْ كَمُلاَ

(اجمع) المراد بالجمع هنا ما يسمى بالجمع المتناهي، أو بصيغة منتهى الجموعِ بإضافة الصفة إلى الموصوف أي الجمع المتناهي يعني الذي بلغ النهاية، ويسمى بالجمع الأقصى أي الجمع الذي تناهى في الجمع فلا يجمع مرة أخرى، فالمفرد كمسجد يجمع على مساجد، فهل مساجد يجمع مرة أخرى بعد جمعه؟ نقول: لا، فمساجد هو الجمع الأقصى، لأنه وقف عنده جمع مسجد، وهو صيغة منتهى الجموع - مساجد على وزن مفاعل - وهذه الصيغة انتهى ووقف عندها الجمع فلا يجمع مرة أخرى؛ لأن من أساليب العرب أن اللفظ المفرد قد يجمع، ثم الجمع قد يجمع مرة أخرى، فالجمع الأول الذي هو جمع للمفرد لا يمنع من الصرف لأنه ليس صيغة منتهى الجموع، أما الجمع الثاني إن لم يكن قد جمع مرة أخرى فحينئذٍ يكون صيغة منتهى الجموع قد وقف عنده الجمع فيكون ممنوعا من الصرف، فنحو: كلب يجمع على أكلب. وأكلب ليس ممنوعا من الصرف لأن أكلبا يجمع على أكالب. وأكالب جمع الجمع وليس جمع المفرد الذي هو كلب وإنما جمع الجمع، فحينئذٍ نقول: وقف الجمع عند أكالب فيمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع. كذلك أَصيل يجمع على أُصُل، وأُصُل يجمع على آصال، وآصال يجمع على أصايل، هذه جموع ثلاثة، الممنوع من الصرف أصايل فقط لأنه وقف عنده الجمع، أما أُصُل وآصال فليست ممنوعة من الصرف لأنها لم يقف عندها الجمع بل بقي لها جمع آخر. هذه العلة - وهي صيغة منتهى الجموع- مما يمنع اللفظ الصرف لعلة واحدة، فهذه العلة

تقوم مقام علتين، لأن هذه العلل منها ما يستقل بالمنع بنفسه دون اشتراط ضميمة علة أخرى، يعني علة واحدة كصيغة منتهى الجموع إذا وجدت حكمنا على اللفظ بأنه ممنوع من الصرف، لكن النحاة تكلفوا قالوا: لابد أن نجعل هذه العلة التي قامت مقام علتين أن تكون في حكم العلتين طردًا للباب، لأن الممنوع من الصرف إنما منع لكونه أشبه الفعل في وجود علتين، وما مُنع لعلة كيف يقال بأنه أشبه الفعل في وجود علتين فرعيتين؟ قالوا: بدلاً من أن ننقض هذا فتقول: قد يشبه الاسم الممنوع من الصرف الفعل في علة واحدة، لأن الحكم إنما انتقل من الفعل إلى الاسم لوجود علتين فإذا نقص عنها بَعُد عن المشابهة وحينئذٍ لا يمنع من الصرف قالوا: إذًا لابد من التكلف، فنجعل للعلة الواحدة جهتين: جهة ترجع إلى اللفظ، وجهة ترجع إلى المعنى، فلذا حكموا عليها بأنها علة تقوم مقام العلتين. فقالوا: في مثل صيغ الجموع، لابد أن توجد علة ترجع إلى اللفظ، وعلة أخرى ترجع إلى المعنى، فتكون هذه العلة قامت مقام علتين من جهتين مختلفتين, فاختلفوا في تحديد هاتين الجهتين، فالبعض يرى أن كونه أقصى بمنزلة علة، وهي من جهة اللفظ فهذه علة فرعية لفظية، لكونه خرج عن صيغ الآحاد آحاد الألفاظ العربية لأنه لا يوجد مفرد على هذا الوزن مفاعل ومفاعيل، ولذلك ضبطه بعضهم بالوزن فيقول: هو نوعان: مفاعل، ومفاعيل، ولكن مفاعل ومفاعيل لا ينضبط وإنما يقال: كل جمع بعد ألف تكسيره حرفان، أو ثلاثة أحرف وسطها ساكن،

فحينئذٍ مساجد ودراهم بعد ألف تكسيره حرفان فهو خماسي كما قال في الملحة: وَكُلُّ جَمْعٍ بَعْدَ ثَانِيهِ أَلِفْ ... وَهْوَ خُمَاسِيٌّ فَلَيسَ يَنْصَرِفْ وَهَكَذَا إِنْ زَادَ فِي المِثَالِ ... نَحْوُ دَنَانِيرَ بِلاَ إَشْكَالِ ومصابيح وطواويس وجد بعد ألف تكسيره ثلاثة أحرف وسطها ساكن، لكن هل لهذه الأوزان مفاعل ومفاعيل نظير في الآحاد في اللفظ المفرد؟ لا يوجد لها نظير، هذه ننزلها منزلة علة ترجع إلى اللفظ، وكونه جمعًا علة ترجع إلى المعنى، إذًا صيغة منتهى الجموع علة تقوم مقام علتين إحداهما ترجع إلى اللفظ وهي كونه أقصى ولا نظير له، وأخرى ترجع إلى المعنى وهي كونه جمعًا. قوله: وزن المراد به وزن الفعل وهو كون الاسم على وزن خاص بالفعل أو يكون في الاسم زيادة لا تكون إلا في الفعل، وبهذه الزيادة يصير الاسم مساويًا للفعل، أن يكون الاسم على وزن خاص بالفعل، والأوزان الخاصة بالفعل نحو: قَتَّل وانطلق، وزنه فعَّل وانفعل، وكل ما كان على وزن فعَّل فهو فعل في الأصل، وكذلك كل ما كان مغير الصيغة كضُرِب، وكل فعل ماضٍ مبدوءٍ بهمزة وصل فهو خاص بالفعل. فحينئذٍ إذا جاء الاسم على وزن خاص بالفعل -كأن يكون هذا الفعل نُقل من الفعلية إلى العلمية- إذا قيل هذا وزن خاص بالفعل كفعّل وانطلق وضُرِب هل يتصور أن يوجد اسم على وزن فعل؟ لا. لأنه إذا وجد اسم على وزن الفعل لما كان الوزن خاصا بالفعل، ففعَّل هذا خاص بالفعل، فلو جاء الاسم في الأصل على وزن فعّل هل صار فعَّل خاصا

بالفعل؟ الجواب: لا، وليس عندنا إلا أن يُنقل الفعل إلى العلمية. إذًا ضُرِب وقتَّل مثلا نُقل وجُعل علمًا على رجل، فلو سَمَّى رجل ولده قتَّل، نقول: قتّل علم ممنوع من الصرف فتقول: جاء قتَّلُ، ورأيت قتلَ، ومررت بقتلَ، تمنعه من الصرف لأن هذا الفعل صار علمًا يعني اسمًا، وهل يوجد في الاسم ما هو على وزن فعَّل؟ تقول: لا، وهذا جاء على وزن خاص بالفعل لأنه منقول عن الفعل، فحينئذٍ يمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل. هذا مما جاء على وزن خاص بالفعل، أيضًا أن يكون في أول الاسم زيادة خاصة بالفعل، وبهذه الزيادة يكون قد ساوى الاسمُ الفعلَ، مثل: الحمد هذا مصدر حَمِدَ على وزن فَعِل، وفَعِل ليس وزنا خاصا بالفعل، لكن لو زيد في أوله همزة، فصار بهذه الهمزة موازيًا للفعل المضارع، لأنه هو الذي تزاد في أوله الهمزة فقيل: أَفْعَل فلو قال من الحمد: أحمد، فالهمزة زائدة والأصل هي الحاء والميم والدال، إذًا زيد على الاسم حرف أو زيادة في أوله صار بهذه الزيادة مشابهًا للفعل، وليس هو وزنًا خاصًّا بالفعل، وإنما كونه بهذه الزيادة صار مساويًا للفعل حينئذٍ أخذ حكمه، كذلك يزيد وتغلب وتشكر، نقول: هذه في الأصل كلها أسماء زِيد في أولها حرف خاص بالفعل وهو التاء، وهو حرف المضارعة فبهذه الزيادة صار الاسم موازيًا ومساويًا للفعل فأخذ حكمه. قوله: عادلاً المراد بالعدل هنا: تحويل الاسم الواحد من حالة إلى حالة أخرى، وكثير من النحاة يرون أن هذا القسم على نوعين: تقديري، وتحقيقي. والتقديري هذا متكلف،

قالوا: لابد من إيجاد علة ولو متكلفة من أجل طرد الباب على وتيرة واحدة، لأنهم وجدوا أن عُمَرَ ممنوع من الصرف، وما هي العلة؟ قالوا: وجدت فيه العلة المعنوية وهي العلمية، وما هي العلة الأخرى؟ جاء النحاة بعلة متكلفة قالوا: عمر هذا معدول عن عامر، قالوا: طردا للباب من أجل أن نوجد علة أخرى فرعية؛ لأن المعدول إليه فرع عن المعدول عنه، وعمر فرع عامر، إذًا وجدت علة لفظية فرعية، والعلمية معنوية، إذًا وجد في عمر علتان لذا منعناه من الصرف. العدل هو تحويل الاسم من حالة إلى حالة أخرى مع بقاء المعنى الأصلي. وهذا يقع في المعارف في الأعلام خاصة، ويقع في الصفات. أما في المعارف فيأتي على وزنين اثنين لا ثالث لهما: الأول: فُعَل علم للمذكر معدولا عن فاعل، كعمر, وزحل, وهبل, وقثم, هذه كلها ممنوعة من الصرف لأنها أعلام لمذكر على وزن فُعَل، وهي معدولة عن فاعل. الوزن الثاني: فَعَالِ علما لمؤنث، معدولا عن فاعلة كحذامِ، ورقاشِ، وحضارِ، قالوا: حذامِ معدول عن حاذمة، هذا عند بني تميم خاصة - في غير المختوم براء - أن حذامِ وبابه ممنوع من الصرف. أما عند الحجازيين فهو مبني على الكسر مطلقًا سواء كان مختومًا براءٍ أولا، كما قال الشاعر: إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا ... فَإِنَّ القَولَ مَا قَالَتْ حَذَامِ

وقعت حذام في البيت مرتين فاعلا ولم يرفع، فهو مبني على الكسر؛ لأنه لغة أهل الحجاز. وأما بنو تميم فأكثرهم يفصل بين ما كان مختومًا براء، وما لم يكن كذلك، فأما ما كان مختومًا براء فهو كالحجازيين كوبار وسفار يبنى على الكسر. والواقع في الصفات أيضًا أمران: الأول: أن يكون في العدد. والثاني: في غيره. فأما الواقع في العدد فهو وزنان اثنان لا ثالث لهما، وهما فُعَال، ومَفْعَل، وهذان واقعان باتفاق في العدد من الواحد إلى الأربعة، وما عداه إلى العشرة فمختلف فيه. فتقول: أُحاد وموحد، وثُناء ومثنى، وثُلاث ومثلث، ورُباع ومربع. وهذا باتفاق وبعضهم أوقفها هنا وقال لا يجوز أن يقال: خماس إلى عشار. قال تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (فاطر:1) أولي أجنحة مثنى -هذا غير ظاهر الإعراب- وثلاثَ مجرور، صفة لأجنحة، وصفة المجرور مجرور وجره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف، للوصفية والعدل، لأنه معدول، فمثنى معدول عن اثنين اثنين أي أولى أجنحة اثنين اثنين، وثلاث معدول عن ثلاثة ثلاثة، ورباع معدول عن أربعة أربعة. والواقع في الصفات نحو: أخر ومنه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة:184) فأخر مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف، وعلة المنع عندهم قالوا: أُخَر جمع أخرى، وأخرى أُنثى آخر، فآخر وصف للمذكر، وأخرى وصف للمؤنث، تقول: مررت برجلٍ آخرَ وامرأةٍ أخرى،

والقاعدة عندهم: أن كل فُعْلَى مؤنث أفعل لا تستعمل هي ولا جمعها إلا بأل أو بالإضافة، فيقال: الصغرى ولا يقال: صغرى، ويقال: الكبرى ولا يقال: كبرى، ويقال: الصُّغَر ولا يقال: صُغَر، قال تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} (المدثر:35) والكبر جمعٌ. وعندنا هنا أُخر أصلها الأخر بأل، فعُدِل به إلى أُخر. إذًا اجتمع فيه علتان العدل والوصف. ولماذا حكمت بأنه معدول عن الأخر؟ تقول: لأن أُخر جمع أخرى، وأخرى فعلى هي وجمعها لا تستعمل إلا بأل أو بالإضافة، وهنا جاءت في أفصح الكلام مجردة عن أل معدولة عن الآخر. قوله: أنث التأنيث أنواع، فقد يكون تأنيثًا بألفٍ مقصورة كحبلى أو ممدودة كصحراء. وهذا النوع يستقل بنفسه في المنع من الصرف كصيغة منتهى الجموع نحو: مررت بحبلى، ممنوع من الصرف لكونه مؤنثًا بالألف المقصورة، وهي علة واحدة تقوم مقام علتين إحداهما ترجع إلى اللفظ والأخرى ترجع إلى المعنى. قالوا: كونه مؤنثًا بمنزلة علة ترجع إلى المعنى، وكون التأنيث لازمًا -لأن الأصل فيه أن يكون منفكًا- بمنزلة علة أخرى ترجع إلى اللفظ. وقد يكون التأنيث بالتاء كطلحة وحمزة، وهذا النوع لا يكون مانعًا من الصرف إلا مع العلمية، تقول: مررت بطلحةَ، مُنع من الصرف لاجتماع علتين فرعيتين إحداهما ترجع إلى اللفظ، وهي كونه مؤنثًا بالتاء، والأخرى كونه علمًا. وقد يكون التأنيث معنويا كزينب وسعاد، هذا مؤنث من غير علامة لا بالتاء، ولا بالألف الممدودة، ولا الألف المقصورة، وهذا النوع فيه تفصيل لأنه تارة يوجب المنع من الصرف، وتارة يجوزه أي المنع

وعدمه. ويكون واجبًا إذا وجد فيه واحد من ثلاثة أمور: أولاً: أن يكون أكثر من ثلاثة أحرف، أي أربع فأكثر كزينب فهو واجب المنع من الصرف لكونه أكثر من ثلاثة أحرف. الثاني: أن يكون ثلاثيا محرك الوسط، كسقر ولظى، فهذا مؤنث، فهل نمنعه من الصرف؟ لو نظرنا إلى النوع الأول وهو كونه أكثر من ثلاثة، تقول: هو مصروف، لكنه ممنوع من الصرف، قالوا: ننزل الحركة -حركة العين- منزلة الحرف الرابع، إذًا الثلاثي محرك الوسط ممنوع من الصرف. الثالث: أن يكون ثلاثيا أعجميًا كحمص وبلخ، هذه ثلاثية وهي ممنوعة من الصرف مع كونه غير محرك الوسط، قالوا: كونها أعجمية زادها ثقلاً، فنزل هذا الثقل منزلة الحرف الرابع، هذه ثلاثة شروط إذا وجد واحد منها وجب منع الاسم من الصرف. ما عدا ذلك كهند ودعد ليست محركة الوسط، وليست أعجمية يجوز صرفه وعدمه، تقول: جاءت هندٌ وجاءت هندُ. واختلف في أيهما أرجح وأولى. قوله: بمعرفة المراد بها العلمية. قوله: ركب المراد بالتركيب هنا التركيب المزجي، والمعارف ستة، ولا يتأتى الضمير هنا، ولا اسم الإشارة، ولا الاسم الموصول، لأنها كلها مبنية، وهذا الباب باب إعراب لا بناء، لا يمكن أن يكون الضمير ممنوعًا من الصرف، ولا الاسم الموصول ممنوعًا من الصرف، ولا اسم الإشارة ممنوعًا من

الصرف. بقي من المعارف المحلى بأل، والمضاف. وهل يمكن أن يكون ممنوعًا من الصرف؟ لا يمكن، لأن الاسم الممنوع من الصرف إذا دخلت عليه أل أو أضيف صُرف وجُرَّ بالكسرة، فحينئذٍ كيف يكون مقتضيًا للفتحة مع اقتضائه للكسرة؟! فهذا تناقض، لأن كل ما لا ينصرف إنما يجر بالفتحة نيابة عن الكسرة ما لم تدخل عليه أل وما لم يضف، لأنه إذا دخلت عليه أل أبعدت الشبه فرجع إلى أصله وإذا أضيف كذلك لأن الإضافة وأل من خصائص الأسماء فحينئذٍ يرجع إلى أصله. إذًا المراد بالتركيب هنا التركيب المزجي: وهو كل كلمتين أو اسمين نزل ثانيهما منزلة التاء - تاء التأنيث - لما قبلها. وهذا نوعان: ما كان مختومًا بويه، وما ليس مختومًا بويه. فما كان مختومًا بويه كسيبويه، وعمرويه، ونفطويه، وخالويه، ومسكويه، فهو مبني على الأصح، وهذا هو المشهور كما قال ابن مالك: وَجُمْلَةٌ وَمَا بِمَزْجٍ رُكِّبَا ... ذَا إِنْ بِغَيْرِ وَيْهِ تَمَّ أُعْرِبَا إذًا نقول: المراد بالمركب في باب الممنوع من الصرف المركب المزجي غير مختوم بويه، كبعلبك. وأما المزجي المختوم بويه فهذا مبني ولا يرد هنا. كما لا يرد التركيب الإسنادي لأنه من قبيل المحكيات نحو: تأبط شرًّا، فهذا علم هل يدخله الصرف, نقول: لا، لأنه يُحكى كما هو، إيراد اللفظ المسموع على حالته هذا هو ضابط الحكاية، فتأبط شرًا فعل وفاعل ومفعول به نُقل فصار علمًا منقولاً، إذًا الجملة تكون علمًا منقولاً، قد تكون جملة فعلية، وقد تكون جملة

اسمية. لكن المسموع من لغة العرب هو نقل الجملة الفعلية وقيس عليها الجملة الاسمية. نقول: جاء تأبط شرا، ورأيت تأبط شرا، ومررت بتأبط شرا. وإعرابه جاء: فعل ماض، تأبط شرا: فاعل، الجملة كلها فاعل مثل زيد، تأبط شرا فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الحكاية، إذا وقفت بالألف أو تقول: حركة الحكاية، وكذلك في النصب تقول: رأيت تأبط شرا، تأبط شرا مفعول به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية. وأما المركب الإضافي كامريء القيس، وعبد الله فهذا لا يمكن أن يكون ممنوعًا من الصرف؛ لأن الإضافة تقتضي الجر بالكسرة، فلا تكون مقتضية للجر بالفتحة، فلذلك يمتنع أن يؤثر عامل واحد أثرين مختلفين في محل واحد، كجاء زيد فزيد هذا فاعل، لا يمكن أن يكون في نفس الوقت مفعولا به، ويجوز مع تعدد المحل نحو: ضرب زيد عمرًا، زيد: هذا متعلق بضرب لأنه فاعل، وعمرًا متعلق بضرب لأنه مفعول، إذًا العامل واحد -وهو ضرب- أثر في زيد فأحدث الضمة التي هي دليل الفاعل، وأثر في عمرًا فأحدث الفتحة التي هي دليل المفعول به. إذًا عمل عملين لكن في محلين مختلفين، فحينئذٍ تقول: وعبد الله كذلك لا يمكن أن يكون مقتضيًا للجر بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه يقتضي الانجرار بالكسرة، وعليه لا يمكن أن يؤثر أثرين الكسرة والفتحة في محل واحد. قوله: وزد والمراد زيادة الألف والنون كعثمان وسكران، فالألف والنون

زائدتان، والمزيد فيه فرع عما لا زيادة فيه. قوله: عجمة المراد بها أن تكون الكلمة على الأوضاع الأعجمية كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فهذه الكلمات أصلها من لغة العجم، وليس كل اسم أعجميٍّ يمنع من الصرف، بل لابد أن يتحقق فيه شرطان: أولاً: أن يكون أكثر من ثلاثة أحرف، أربعة فأكثر، ولذلك انصرف نوح ولوط على القول بأنهما اسمان أعجميان، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً} (نوح:1) {إِلَّا آلَ لُوطٍ} (الحجر:59) لكونهما على ثلاثة أحرف. الثاني: أن تكون الكلمة علمًا في لغة العجم، فإذا كانت عندهم نكرة أو اسم جنس كلجام وديباج ونحوها أسماء أجناس، لو نقلت إلى لغتنا العربية فجعلت علما صرفت، تقول: مررت بلجامٍ بالصرف مع أنها أعجمية لأنها ليست علمًا في لغة العجم. قوله: فالوصف قد كملا هذه هي العلة التاسعة والأخيرة أن تكون الكلمة مشتملة على وصف كأحمر وأفضل وسكران وغضبان، ولابد من شرطين اثنين لتكون الصفة معتبرة في كونها علة مانعة من الصرف مع علة أخرى: الأول: الأصالة أن تكون الكلمة في أصل وضعها وضعت صفة، فلو طرأت بأن كانت علما مجردًا أو اسمًا مجردًا ثم عرضت عليها الوصفية، لا تكون ممنوعة من الصرف ولو وجدت معها علة أخرى لأن شرط الوصفية أن تكون الصفة أصلية. قالوا: صفوانٌ وهو الحجر الأملس، وأرنب وهو الحيوان المعروف، قد يجعل صفوان وصفًا فتطرأ عليه الوصفية يعني يلاحظ فيه القسوة لأن مسماه الحجر، والحجر قاس، فتقول:

هذا قلب صفوانٌ بالصرف؛ لأن الوصفية يشترط فيها الأصالة وهنا صفوان ليس أصلاً وإنما هو الحجر الأملس. وكذلك أرنب تقول: هذا رجل أرنبٌ بمعنى ذليل أو ضعيف فهو صفة، لكنها طارئة فلذلك صرف. الثاني: أن لا تكون الكلمة قابلة لتاء التأنيث، تقول: مررت برجل عُريانٍ، فالألف والنون زائدتان وهي صفة مصروفة؛ لأنها وإن كانت وصفًا وكانت الألف والنون زائدتين إلا أن من شرط الوصفية أن لا تقبل الكلمة تاء التأنيث، لأنه يقال: عريانة وصف للمؤنث بالتاء فلا يكون ممنوعا من الصرف. ومثله أرمل، لأنه يقال: أرملة، فحينئذٍ أرمل على وزن أفعل -وزن الفعل- ووجد فيه الوصف، والوصف بالأصالة لكن فقد الشرط الثاني للوصفية: أن لا تكون الكلمة قابلة لتاء التأنيث. ومثال الذي يمنع للوصف وعلة أخرى نحو: سكران، وأحمر. هذه العلل منها ستة تمنع مع العلمية، وهي التأنيث بغير الألف مطلقًا، وهو التأنيث المعنوي كزينب وطلحة. أما نحو: حبلى وصحراء فهذا لا يشترط فيه علمية ولا وصفية. العجمة، والتركيب، وزيادة الألف والنون، ووزن الفعل، والعدل التقديري، هنا لابد من وجود واحدة من هذه العلل الست مع العلمية. وأما مع الوصفية فلا يوجد منها إلا واحدة من ثلاث وهي زيادة الألف والنون، أو وزن الفعل، أو العدل التحقيقي كمَثنى.

باب علامات الجزم

بَابُ عَلاَمَاتِ الجَزْمِ أي هذا باب بيان علامات الجزم، وعلامات جمع علامة، وهو مضاف والجزم مضاف إليه، وعلى رأي الكوفيين الإضافة لامية، أي علامات للجزم، لأن العلامة غير الجزم عندهم، الجزم هو الإعراب وهو معنوي، والعلامة دليل الإعراب. وعلى رأي البصريين الإضافة بيانية، أي علاماتٌ هي الجزم، وفرق بين الإضافة البيانية والإضافة اللامية، فالإضافة البيانية ضابطها أن يصح جعل المضاف إليه خبراً عن المضاف، فيصح أن تقول: علامات هي الجزم، والإضافة اللامية تكون الإضافة على تقدير اللام، علامات للجزم. وربَّع الناظم بالجزم لأنه النوع الرابع من أنواع الإعراب، وذكرنا أن الإعراب جنس تحته أنواع أربعة بالاستقراء والتتبع لكلام العرب وهي: الرفع والنصب والخفض والجزم، فالرفع والنصب يشترك فيه الاسم والفعل، وما كان مشتركا بين الاسم والفعل فحقه التقديم، ثم الخفض وهو مختص بالاسم قدمه على الجزم مع كون الجزم مختصاً بالفعل؛ لأن الجر متعلقه الاسم، وهو أشرف من الفعل، لأنه يكون مسنداً ومسنداً إليه، والفعل لا يكون إلا مسندا، فحينئذ صار الاسم لكونه يقع في طرفي الإسناد صار مرتفعاً على الفعل، إذاً ما اختص بالاسم وهو أشرف من الفعل

تقديمه أولى على ما اختص بالفعل، وعلة اختصاص الجر بالاسم دون العكس وهو أن يدخل على الفعل، واختصاص الجزم بالفعل دون دخوله على الاسم؛ لأن الاسم بسيط يعني مدلوله شيء واحد، لأن مدلول الاسم شيء واحد إما ذات كزيد، وإما معنى كعلم، فهو خفيف، والفعل ثقيل لأن مدلوله مركب من الحدث والزمن، والحركة التي هي الكسرة ثقيلة، والسكون الذي هو عدم الحركة خفيف، فطرداً لقاعدة التناسب والتعادل بين الأشياء = أُعطي الخفيفُ الثقيلَ فأعطي الاسم الذي هو خفيف الثقيل الذي هو الكسرة، وأعطي الثقيلُ الخفيفَ فأعطي الفعل الذي هو ثقيل الخفيف الذي هو الجزم وهو عدم الحركة. إذًا ربّع بباب علامات الجزم لأنه مختص بالأفعال، ورتبة الفعل متأخرة عن رتبة الاسم، أيضاً لا يوجد له مرتبة إلا التأخير فتعين حينئذ تأخيره. [بَابُ عَلاَمَاتِ الجَزْمِ] سيذكر أن للجزم علامتين وهما: السكون والحذف، علامتان لا ثالث لهما، وقد قال: باب علامات الجزم، وعلامات الجزم جمع، فلمَ جمع مع كون الجزم له علامتان فقط، وجوابه: أن الإضافة جنسية فحينئذ تبطل معنى الجمعية، وجوابٌ آخر: أنه من باب إطلاق الجمع على المثنى، فأقل الجمع ثلاثة، قال السيوطي في الكوكب الساطع: وَفِي أَقَلِّ الجَمْعِ مَذْهَبَانِ ... أَقْوَاهُمَا ثَلاَثَةٌ لاَ اثْنَانِ

أقواهما ثلاثة لا اثنان، هذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور أن أقل الجمع ثلاثة، ومذهب مالك - عند المتأخرين- وإن نسب بعضهم إلى أن مالكًا يوافق الجمهور، قال في مراقي السعود: أَقَلُّ مَعْنَى الجَمْعِ فِي المُشْتَهَرِ ... الِاثْنَانِ فِي رَأْيِ الإمَامِ الحِمْيَرِي فإذا قيل: أقل معنى الجمع اثنان، فعلامات هنا جمع، وأقله اثنان، فحينئذ لا إشكال في الترجمة مع قوله للجزم علامتان، أما إذا قلنا: أقل الجمع ثلاثة، فحينئذ يرد الإشكال أن الجزم له علامتان فكيف تقول: باب علامات الجزم؟ فإما أن تجعل الإضافة جنسية، فحينئذ تبطل معنى الجمعية، أي علامات الجزم الصادق بالواحد والاثنين فلا تعارض، وإما أن يقال: يتوسع في الجمع فيطلق على اثنين فصاعداً، فيكون إطلاق الجمع هنا على اثنين مجازاً وليس حقيقة. [بَابُ عَلاَمَاتِ الجَزْمِ] الجزم في اللغة: القطع، يقال: جزمت الحبل أي قطعته، وفي الاصطلاح: قطع الحركة أو الحرف من الفعل المستقبل. وإن شئت قل على مذهب الكوفيين: تغيير مخصوص علامته السكون وما ناب عنه، وعلى مذهب البصريين: نفس السكون وما ناب عنها، وهو الحذف، وعامل الجزم اثنان لفظيان لا ثالث لهما: الأول: الحرف، والثاني: الاسم على الأصح، فالحرف يجزم وذلك كلم نحو: ((لَمْيَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3))) [الإخلاص:3]

لم يلد: لم حرف جزم ونفي وقلب، ويلد فعل مضارع مجزوم بلم، وهي حرف، وجزمه السكون الظاهر على آخره، ومثله ولم يولد، والاسم يجزم وذلك كأسماء الشرط: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2))) [الطلاق:2] من اسم شرط يجزم فعلين، ويتق فعل مضارع مجزوم بمن، وهي اسم، وجزمه حذف حرف العلة لأنه معتل الآخر. وقلنا: إن عامل الجزم هو الحرف والاسم على الصحيح؛ لأن بعضهم يرى أن الفعل قد يجزم، وهو في مثل هذا التركيب (ومن يتق الله يجعل) فيجعل فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، هناك قول بأنه مجزوم بفعل الشرط، وهذا ضعيف، يعني العامل فيه يتق فحينئذ يتق هو مجزوم بمن وهو أيضاً عامل الجزم في يجعل، فحينئذ يكون الفعل جازماً ولكن هذا ليس بصحيح بل الصواب أن عوامل الجزم محصورة في اثنين لفظية الحرف والاسم، وأما الفعل فلا حظ له في الجزم، وأثبت بعضهم عاملا معنويا، وهو الطلب، فالطلب يكون جازماً وهذا قولٌ من قال به فلا إشكال فحينئذ يَثبت عامل معنوي، وذلك نحو: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ (151)) [الأنعام:151] أتل: فعل مضارع مجزوم، وجزمه حذف حرف العلة، وأصله أتلوا مثل أدعو، فحذف حرف العلة، وليس عندنا حرف، ولا اسم إذا جعلنا الجزم محصوراً في الحرف والاسم، فيرد السؤال (أتل) مجزوم ولا إشكال فأين عامله؟ قالوا: هذا واقع في جواب الطلب، (تعالوا) هذا أمر، وإذا وقع الفعل المضارع في جواب الطلب كالأمر أو النهي أو الدعاء -كما سيأتي- كان الطلب

عاملاً فيه الجزم، فحينئذ نقول: أتل فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الطلب، والجازم له هو الطلب وهو عامل معنوي، وهذا أثبته ابن هشام - رحمه الله - في شرح قطر الندى بأن الطلب يكون عاملاً الجزم فحينئذ لا إشكال في إثباته بخلاف القول بأن الفعل يجزم لقوة هذا القول، إذاً عامل الجزم اثنان لفظيان: الاسم والحرف، ولا بأس بزيادة عاملٍ معنوي وهو الطلب، وأما من لم يثبت الطلب في مثل: (قُلْ تَعَالَوْا) يقول: هو مجزوم بإن الشرطية مقدرة: ((قُلْتَعَالَوْا (((((()) تقديره: إن تأتوا أتل، إذاً وقع في جواب إن الشرطية، لكن يرد إشكال أن الحرف لا يعمل محذوفاً كحرف الجر، وإنما يعمل ملفوظاً به، ولهذا الإشكال نقول من زاد الطلب فلا بأس. قال الناظم - رحمه الله - إِنَّ السُّكَونَ يَا ذَوِي الأَذْهَانِ ... وَالحَذْفَ لِلجَزْمِ عَلاَمَتَانِ [إِنَّ السُّكَونَ] يقال فيه ما قيل في قوله: [إِنَّ الكَلاَمَ عِنْدَنَا فَلْتَسْتَمِعْ] لأن إن إنما يؤتى بها لتوكيد الكلام، وتوكيد الكلام إنما يكون لمن كان متردداً في الخبر أو شاكاً فيه أو منزلاً منزلة من هو متردد أو شاك في الخبر، أما خالي الذهن الذي هو لم يسبق له علم بالخبر فحينئذ لا نحتاج إلى توكيد الخبر وإلا صار في الكلام حشوٌ، والحشو هو الذي حذفه أولى من ذكره، ولذلك لا يدَّعى الحشو في أي كلام هكذا، وإنما يقال: حشو إذا ثبت بدليل بأن يكون خالف قاعدة واضحة بينة، وأما إذا لم يكن كذلك فحينئذ لا بد من الاعتذار، وهنا لما كان الكتاب للمبتدئ صعُب الاعتذار لأنه

مبتدئ ولا يعرف حد الكلام، هل هناك اضطراب عنده في الذهن في حد الكلام حتى يؤكد له الخبر، كذلك ليس عنده اضطراب في علامات الجزم، لو قيل في حد الكلام ثَمَّ اضطراب سابق على العلم بحده فقد يؤول، لكن علامة الجزم اثنتان لا ثالث لهما وهذا متفق عليه فأين الاضطراب؟! فلا اضطراب حينئذ ولا نحتاج إلى زيادة إنّ لأنها توكيد والتوكيد إنما يكون بمقتض ولا اقتضاء هنا. قوله: [إِنَّ السُّكَونَ] السكون مصدر سَكَنَ يَسْكُنُ سكوناً، وأما التسكين فهو مصدر سكَّن على وزن فعََّلَ؛ لأن فعَّل يأتي مصدره على التفعيل، والسكون مصدر سكن، وأل هنا للعهد الذهني أي السكون الذي عُهد عند النحاة، وهو ما كان مقتضى عامل الجزم، لأنه ليس كل سكون يكون علامة جزم، فنحو: جاء زيدْ، فهذا سكون لكنه سكون وقف، إذاً [إِنَّ السُّكَونَ] لا بد أن يكون مقيداً، وحينئذ تقييده يكون بالموقِّف وهو المدرس، فحينئذ تكون أل للعهد الذهني أي السكون الذي اقتضاه عامل الجزم، وأما السكون الذي اقتضاه الوقف مثلاً فهذا ليس داخلاً هنا، فلا يشمله قوله: [إِنَّ السُّكَونَ] لأن نحو قولك: زيد يقومْ لو قلنا: كل سكون علامة للجزم، معناه أن الفعل هنا مجزوم، فحينئذ يقومْ صار الفعل مجزوماً وليس كذلك بل هو فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. [إِنَّ السُّكَونَ] أي مسمى السكون، وليس لفظ السكون هو الذي يكون علامة للجزم. وقدمه لأنه علامة أصلية، السكون لغة: ضد الحركة،

واصطلاحاً: حذف الحركة. ولذلك يتساهل بعضهم فيقول: إن الحركات أربعة أنواع: الضمة والفتحة والكسرة والسكون، نقول: السكون هو عدم الحركة وحذف الحركة، فكيف عُبر عنه بأنه حركة؟! نقول: هذا من باب التوسع فقط في الألفاظ، وإلا السكون ليس بحركة، والحركات ثلاثة فقط، وليست بأربعة، وهي الضمة والفتحة والكسرة، وما عداها لا يقال إنه حركة. [يَا ذَوِي الأَذْهَانِ] هذه جملة معترضة، يا حرف ندا، وذوي منادى منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه ملحقٌ بجمع المذكر السالم، والياء التي هي علامة النصب محذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، إذاً الإعراب بالياء هنا إعراب مقدر، وليس ظاهراً؛ لأن الإعراب التقديري يكون في الحركات، ويكون في الحروف، وليس مختصاً بالحركات. وذوي مضاف والأذهان مضاف إليه، والأذهان جمع ذهن، وهو قوة النفس المستعدة لاكتساب العلوم والآراء. [وَالحَذْفَ] معطوف على السكون، والحذف لغة: الإسقاط والقطع، واصطلاحاً: سقوط حرف العلة أو النون للجازم، لا بد أن يكون السقوط هنا لا للتخلص من التقاء الساكنين، ولا لكراهة توالي الأمثال؛ لأن حرف العلة في الفعل المضارع قد يسقط للتخلص من التقاء الساكنين نحو قوله تعالى: ((* سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18))) [العلق:18] سندعوا بالواو، وهو فعل مضارع مرفوع، ورفعه ضمة مقدرة على آخره وهو الواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، تحذف في النطق وحذفت في القرآن خطاً، والرسم

العثماني سنة متبعة. فحذف الواو هنا ليس دليلاً على أن الفعل مجزوم، لأنه لا يلزم من حذف حرف العلة أن يكون دائماً مجزوماً بل قد يكون حذف حرف العلة للجازم وهو المراد هنا، وقد يكون لأمر آخر كالتخلص من التقاء الساكنين، كذلك حذف النون قد يكون لكراهة توالي الأمثال نحو: لتبلون هذا فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون المحذوفة لكراهة توالي الأمثال، اتصلت به نون التوكيد ولم يُبن؛ لأنه لا بد أن تكون نون التوكيد مباشرة، وهذه ليست مباشرة لفصلها بالواو، ولذلك قيده ابن مالك بالمباشرة: ............. ... وَأَعْرَبُوا مُضَارِعًا إِنْ عَرِيَا مِنْ نُوْنِ تَوْكِيدٍ مُبَاشِرٍ ... ....................... أما إذا لم تكن مباشرة فلا يبنى الفعل المضارع معها، فحذفت النون - نون الرفع- من لتبلون، والحذف لا للجازم، لأنه لا يلزم من حذف النون أن يكون دائماً للجازم بل قد يكون للجازم وقد يكون لغيره. [إِنَّ السُّكَونَ] إن حرف توكيد ونصب، والسكون اسمها، والحذف معطوف على المنصوب، والمعطوف على المنصوب منصوب، و [لِلجَزْمِ عَلاَمَتَانِ] للجزم جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، وعلامتان مبتدأ مؤخر مرفوع بالألف لأنه مثنى، والجملة من المبتدأ المؤخر والخبر المقدم في محل رفع خبر إنّ. فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ مُضَارِعًا أَتَى صَحِيحَ الآخِرِ كَلَمْ يَقُمْ فَتَى

[فَاجْزِمْ] الفاء فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وفصيحة فعيلة بمعنى مُفْعِلة أي بمعنى اسم الفاعل، مأخوذة من الإفصاح وهو البيان والإيضاح والإظهار؛ لأنه لما ذكر لك أن علامتي الجزم السكون والحذف كأنّ سائلاً قال له: فأين مواضع هاتين العلامتين؟ أو أنه قدّر هو سائلا كأنه قال: إذا أردت معرفة محل هاتين العلامتين فأقول لك اجزم، [فَاجْزِمْ] أيها النحوي، وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، [فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ] قال في الأول: إن السكون، ثم قال هنا: بتسكين، وهذا مصدر، وهل المراد المصدر أو أثر المصدر؟ أولاً: المصدر هو فعل الفاعل، يعبر عنه بأنه المعنى المصدري كالتكلم، والتكلم هو فعل الفاعل لإظهار الكلام، هذا هو المعنى المصدري، والكلام هو اللفظ، فالكلام الذي تسمعه هو أثر التكلم، وضبط هذا أن يقال الكلام يُدرك بالسمع، ولا يدرك بالبصر، وأنت ترى الإنسان يتحرك فمه لسانه وشفتيه لإخراج الحروف من مخارجها، وتأليف وتركيب الكلمات فالذي تراه بعينك ليس بكلام، وإنما هو تكلم، لأن الكلام لا يُدرك بالبصر، ولو كان الكلام يدرك بالبصر فما احتجنا أن نقول: الكلام هو اللفظ ... واللفظ هو الصوت ... والصوت يدرك بالسمع لا بالبصر، فحينئذ نقول: فرق بين التكلم والكلام، وكذلك التلفظ واللفظ، والتسكين والسكون، فالتسكين هو فعل الفاعل كونك لا تحرك الحرف الأخير فينتج عنه السكون، وهذا فعل الفاعل، وأثره السكون، فحينئذ [فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ] أي بسكون، والتسكين هذا مصدر فحينئذ نقول:

قد ارتكب مجازاً مرسلا لأن عندهم إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول أو أثره مجاز مرسل، كقوله تعالى: ((هَذَاخَلْقُ اللَّهِ (11))) [لقمان:11] أي مخلوقات الله، فحينئذ أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول، وقد يطلق المصدر ويراد به أثره، وكلاهما مجاز مرسل. [مُضَارِعًا] أي فعلاً مضارعاً، فخص الفعل المضارع هنا بكونه يجزم؛ لأنه لا جزم إلا للفعل المضارع، لأن الجزم إعراب، والمعرب من الأفعال هو الفعل المضارع، وأما الفعل الماضي فمبني باتفاق، وفعل الأمر مبني على الراجح وهو مذهب البصريين، فحينئذ الذي يكون محلاًّ لظهور الجزم وهو إعراب هو الفعل المضارع فلذلك خصه هنا [فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ مُضَارِعًا] أي فعلا مضارعا، سمي مضارعًا لأنه ضارع الاسم كما سيأتي، والمضارعة هي المشابهة، [مُضَارِعًا أَتَى] أتى فعل ماضٍ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على مضارعاً، والجملة من الفعل والفاعل في محل نصب صفة لمضارعاً، [أَتَى صَحِيحَ الآخِرِ] صَحِيحَ منصوب على أنه حال من فاعل أتى، أي حالة كون الفعل المضارع صحيح الآخر، والحال قيد لعاملها وصف لصاحبها، فلها مفهوم وهو مفهوم المخالفة عند الأصوليين، فحينئذ إذا لم يكن صحيح الآخر فلا تجزمه بتسكين، أي بالسكون وإنما تجزمه بما سيأتي ذكره. [صَحِيحَ الآخِرِ] صحيح فعيل صفة مشبهة، وهو لغة: السليم ضد المريض، وفي الاصطلاح يختلف حد الصحيح عند النحاة عنه عند الصرفيين، والأصل في الصحة والإعلال أنهما من مباحث

الصرفيين، والصحيح عند النحاة: ما ليست لامه واواً ولا ألفاً ولا ياءًا، يعني ما لم تكن لامه حرفاً من حروف العلة، أما الفاء والعين فلا نظر للنحوي فيها، فحينئذ يحكم بصحة الفعل ولو كانت فاؤه حرف علة، أو كانت عينه حرف علة، وإنما النظر يكون في اللام فقط، وحروف العلة ثلاثة، قال الحريري: وَالوَاوُ وَاليَاءُ جَمِيعًا وَالأَلِفْ ... هُنَّ حُرُوفُ الاِعْتِلاَلِ المُكْتَنِفْ فإن وقعت الواو مثلا لاماً للفعل سمي معتلا لا صحيحاً، فإن سلمت لامه من الواو والألف والياء سمي صحيحاً لا معتلاً، كيخشى، ويدعو، ويرمي، فهذه لاماتها حروف علة فليست صحيحة. ويضرب، ويعد، ويقوم هذه صحيحة لسلامة لامها من حروف العلة. والمعتل عندهم ما كانت لامه حرفاً من حروف العلة الثلاثة، إذاً الصحة والاعتلال عند النحاة باعتبار حرف واحد وهو اللام إن كانت اللام حرفاً من حروف العلة فحينئذ حكمنا عليه بأنه معتل، وإذا سلمت اللام من حروف العلة حكمنا عليه بأنه صحيح. وأما عند الصرفيين فيعممون الحكم، لأن نظرهم إلى الأوائل والأواسط والأواخر، فإذا سلمت فاء الفعل، وعينه، ولامه من حروف العلة فهو صحيح كيضرب، وإذا كانت فاؤه أو عينه أو لامه حرفًا من حروف العلة فهو معتل، قال النيساري في نظم الشافية: مُعْتَلُّهُمْ مَا فِيهِ حَرْفُ عِلَّهْ ... صَحِيحُهُمْ خِلَافُهُ مَحِلَّهْ

معتلهم أي الصرفيين: ما فيه حرف علة سواء كانت في مقابلة الفاء أو العين أو اللام، صحيحهم خلافه محله يعني ما سلمت فاؤه وعينه ولامه من حروف العلة. فالفعل وَعَدَ هل هو صحيح أو معتل؟ هذا فيه تفصيل: أما عند الصرفيين فهو معتل لأن فاءه واو، وعند النحاة صحيح لأن لامه دال وليست من حروف العلة، والفعل قال عند الصرفيين معتل لأن عينه ألف منقلبة عن واو، وعند النحاة صحيح لأن لامه حرف صحيح، ويخشى ويدعو ويرمي معتلة عند الجميع، اتفقت كلمة الصرفيين والنحاة هنا، فكلُّ معتلٍ عند النحاة فهو معتلٌّ عند الصرفيين من غير عكس. إذا عرفنا أنّ الصحيح عند النحاة والمعتل هو باعتبار الآخر، فلا نظر لهم للأوائل ولا للأواسط، فحينئذٍ لماذا يقيدونه فيقولون: معتل الآخر، وصحيح الآخر؟ إذا كان الصحيح عند النحاة متعلقه الحرف الأخير فقط، ولا نظر لهم للفاء ولا للعين، فإذا عبروا عن الصحيح قيدوه قالوا: صحيح الآخر، جوابه: أن القيد هنا لبيان الواقع لا للاحتراز، لأن الصحيح عند النحاة لا يختص إلا بالآخر، فمبحث النحاة آخر الكلمة، ولا يبحثون عن الأوائل ولا الأواسط فإذا أُطلق الصحيح عندهم مرادهم به ما سلمت لامه من أحرف العلة وهو آخر، فحينئذ إذا قيل: صحيح الآخر نقول القيد ليس للاحتراز، وإنما هو لبيان الواقع، وكذلك إذا قيل: معتل الآخر نقول المعتل عندهم لا يختص إلا بما كانت لامه حرفاً من حروف العلة، فحينئذ تقييدهم معتل الآخر لا للاحتراز

وإنما هو لبيان الواقع. [صَحِيحَ الآخِرِ] الآخر: صفة لموصوف محذوف أي صحيح الحرف الآخر، [كَلَمْ يَقُمْ فَتَى] قيود النحاة دائماً في الأمثلة، فإذا لهم شروط وقيود قد لا يستطيعون أن ينصوا عليها وإنما يُذكر مثال مشتمل على هذا القيد أو القيود، فمثال الناظم: كلم يقم، هولم يقل إذا دخل عليه جازم، وإنما قال: فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ مُضَارِعًا أَتَى ... صَحِيحَ الآخِرِ ... لكن ما كان صحيح الآخر فجزمه بتسكين مطلقا نقول: لا، بل مقيَّد بما إذا دخل عليه جازم بدليل المثال، وقد يقال: إن هذا القيد معلوم من الباب أي من الترجمة لأن بحثنا في علامات الجزم، ومعلوم أن الجزم إنما يختص بالفعل المضارع، وذكرنا أن عوامل الجزم اثنان، إذاً لو ترك القيد هنا حينئذ يؤخذ من الترجمة، قال: [كَلَمْ يَقُمْ فَتَى] إذاً فعل مضارع صحيح الآخر دخل عليه حرف جزم وهو لم فجُزم بتسكين آخره، وإعرابه: لم: حرف جزم ونفي وقلب، حرف جزم لأنها تجزم الفعل المضارع وتختص به، ونفي لأنها تنفي وقوع الحدث، وقلب لأنها تقلب زمن المضارع من الحال إلى المضي، لم يقم في الماضي، فحينئذلم يقم هذا مدلوله نفي الحدث في الزمن الماضي، ويقم: فعل مضارع مجزوم بلم، وجزمه سكون آخره لأنه صحيح الآخر، كلم يقم: أصلها كلم يقومْ التقى ساكنان الواو والميم، ولا يمكن تحريك الأول، فحذف الساكن الأول، وذلك بعد تحقق الشرطين: كونه حرف علة، ووجود دليل يدل عليه من جنسه، وهو الضمة، هنا يقُم القاف مضمومة فهي دليل على أن ثم

حرفاً محذوفًا وهو الواو، وفتى: فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها التعذر، وفتًى الألف محذوفة للتخلص من التقاء الساكنين وهذا في الوصل، وعند الوقف نقول: فتى هذه الألف هل هي الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، أو الألف التي تكون بدلا عن التنوين في الوقف؟ لأنه إذا حذف التنوين يعود الحرف الذي حذف لأجله، إذا قيل لم يقم فتىً بالتنوين نقول فتى هنا الألف محذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، ولذلك تُكتب الفتحتان على التاء فتىً لأن الألف هذه محذوفة، فحينئذ تقول فتىً فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، لكن لو حذف التنوين رجعت الألف في الوقف، قال بعضهم هذه الألف ليست الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين بل هي الألف المنقلبة عن التنوين، لكن هذا ليس بصحيح لأن الألف تكون منقلبة عن التنوين في حالة النصب فقط، وأما في حالة الرفع كالذي معنا فحينئذ تكون هذه الألف هي المحذوفة، قال في الملحة: وَقِفْ عَلَى المَنْصُوبِ مِنْهُ بِالأَلِفْ كَمِثْلِ مَا تَكْتُبُهُ لاَ يَخْتَلِفْ تَقُولُ عَمْرٌو قَدْ أَضَافَ زَيدَا ... وَخَالِدٌ صَادَ الغَدَاةَ صَيدَا تقول: عمرو قد أضاف زيدا، زيداً مفعول به فإذا وقفت عليه حينئذ تقف عليه بالألف، كمثل ما تكتبه لا يختلف لأنك تكتب ألفًا في آخره، رأيت زيدا تقف عليه بالألف هذه الألف بدل عن التنوين، وهذا في لغة جمهور العرب بخلاف لغة ربيعة فإنها تُسوِّي

بين الرفع والجر والنصب، فيقال: جاء زيدْ، ومررت بزيدْ، واتفق العرب على هاتين الحالتين أنه يوقف بالسكون على المرفوع والمخفوض، أما رأيت زيدا فالجمهور على قلب التنوين ألفاً، والحجة السماع والنقل، ولغة ربيعة تلحق المنصوب بالمرفوع والمخفوض، فيقال: رأيت زيدْ في الوقف عليه بالسكون، ويختلف الإعراب فرأيت زيداً يكون مفعولاً به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، ورأيت زيدْ يكون مفعولاً به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف، هذه العلامة الأولى للجزم وهي السكون ومحله أنه يكون في الفعل المضارع صحيح الآخر. ثم قال في بيان العلامة الثانية للجزم: واجْزِمْ بِحََذْفٍ مَا اكْتَسَى اعْتِلاَلاَ ... آخِرُهُ وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالاَ [واجْزِمْ] أيها النحوي [بِحََذْفٍ] أي بحذف نون، أو بحذف حرف علة، فالحذف هنا يكون شاملاً للنوعين؛ لأن الفعل المضارع المعرب إما أن يكون صحيح الآخر، وإما أن يكون معتل الآخر، وإما أن يكون من الأمثلة الخمسة، فإن كان صحيح الآخر قال: فاجزم بتسكينٍ صحيح الآخر، وإن كان معتل الآخر أو من الأمثلة الخمسة فحينئذٍ جزمه بحذف حرف العلة في المعتل الآخر، وبحذف النون في الأمثلة الخمسة، فذكر النوعين تحت قوله: [واجْزِمْ بِحََذْفٍ] التنوين نائب عن المضاف إليه، والتقدير واجزم بحذفِ نونٍ وحرف اعتلال، [مَا] أي فعلاً مضارعاً، [اكْتَسَى اعْتِلاَلاَ] اكتسى افتعل،

يقال: كسوتُه ثوباً كِسوة بالكسر فاكتسى، والكِساء واحد الأكسية، وتكسَّى بالكساء لبسه، وكسِيَ العُريان أي اكتسى. كأنه شبَّه الفعل المضارع بمن يلبس الرداء فكأنه قد ارتدى ولبس واكتسى حرف العلة، [اعْتِلاَلاَ] اعتَلَّ أي مرض فهو عليل، والمراد هنا أنه قد وجدت في لامه حرف من حروف العلة، [آخِرُهُ] فاعل اكتسى، أي إذا كان فعلاً مضارعاً معتل الآخر إما أن يكون مختوماً بالواو أو بالياء أو بالألف، فحينئذ يكون جزمه بحذف حرف العلة، نحو: لم يدع، ولم يخش، ولم يرم، فيدعو: فعل مضارع لامه واو، وهو حرف من حروف العلة، إذا سُلط عليه جازم حينئذ يجزم الفعل لدخول الجازم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة فيقال: لم يدعُ والضمة دليل على المحذوف، كذلك لم يخشَ لم حرف جزم، ويخش فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه حذف الألف والفتحة دليل عليها، ولم يرم فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه حذف حرف العلة وهو الياء والكسرة دليل عليها. هذا في الفعل المضارع معتل الآخر. ثم قال: [وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالاَ] الألف للإطلاق، أي واجزم بحذف ما أي فعلا مضارعاً، والخمسة معطوف على ما، وهي اسم موصول في محل نصب مفعول به، والمعطوف على المنصوب منصوب، [وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالاَ] والخمسة أل للعهد الذكري أي الأفعال الخمسة ففيه تقديم وتأخير، والمراد الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون، إذاً الأمثلة الخمسة تجزم بحذف النون، والناظم لم يبين هنا لكن قدرناه عند قوله: واجزم بحذفٍ أي حرف العلة، وحذف النون، فبين

الأول بقوله: [مَا اكْتَسَى اعْتِلاَلاَ آخِرُهُ] فهذا تبيين لبعض الحذف، وبين الثاني بقوله: [وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالاَ] وهذا تبيين للحذف الآخر، لأن الحذف حذف حرف أو حذف حركة، ولذلك بعضهم يقول: علامة الجزم واحدة وهي الحذف، ثم الحذف نوعان: حذف حركة وهو السكون، وحذف حرف، وهو نوعان: حذف حرف علة، وحذف النون. [وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالاَ] أي واجزم بحذف النون في الأمثلة الخمسة، وهي كل فعل مضارع اتصل به ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة، وذلك كقوله تعالى: ((فَإِنْلَمْ تَفْعَلُوا (24))) [البقرة:24] تفعلوا أصله تفعلون من الأمثلة الخمسة فعل مضارع أُسند إلى واو الجماعة، فحينئذ يكون رفعه بثبوت النون وجزمه بحذف النون، فَإِنْلَمْ تَفْعَلُوا تفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه حذف النون نيابة عن السكون لأنه من الأمثلة الخمسة التي رفعها بثبات النون وجزمها ونصبها بحذف النون، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، لأن الأصل السكون، وهو علامة أصلية، ولذلك قدمه ثم ثنى بالحذف لأنه علامة فرعية. وبهذا الباب تكمل علامات أنواع الإعراب كلها، فيكون قد ذكر أربع علامات أصلية، وعشر علامات نائبة، والمجموع أربع عشرة علامة، أربعة أصلية وهي الضمة والفتحة والكسرة والسكون، وما عدا ذلك فهي فروع.

باب قسمة الأفعال وأحكامها

بَابُ قِسْمَةِ الأَفْعَالِ وَأَحْكَامِهَا أي هذا باب بيان قسمة الأفعال وأحكامها، هنا ذكر بعد الإعراب باب الأفعال، وبعض النحاة يقدم المبتدأ والخبر والنعت والحال والتميز، ثم يذكر في آخر الأبواب باب الأفعال كما صنع ابن مالك في الألفية وابن الحاجب في الكافية، ذكروا الأسماء ومتعلقات الأسماء أوَّلا، لأن الاسم أشرف، فحينئذ يُذكر الاسم، ويُذكر كل متعلقات الاسم، المبتدأ والخبر، واسم كان وخبرها، والحال، والتمييز، والظرف، والمفعول لأجله، والمفعول به، والمفعول معه، فقدموا هذه الأبواب لتعلقها بالاسم وهو أَشرف، ثم ذكروا الفعل لأنه يلي الاسم في الرتبة، وبعضهم يقدم باب الأفعال على ما يتعلق بالاسم من باب تقديم العامل على المعمول، لأنه سيأتي أن بعضاً من تلك المذكورات أن العامل فيها قد يكون فعلاً، فإذا علم الطالب العامل تيسر له حينئذ معرفة المعمول، فحينئذ يكون تقديم باب الأفعال على سائر أبواب الأسماء من باب تقديم العامل على المعمول، ورتبة العامل مقدَّمة على رتبة المعمول طبعاً فقدمت وضعاً ليوافق الوضع الطبع، ثم أيضا الكلام على الأفعال يسير ومحصور، وأما الكلام على أبواب الأسماء فهذا طويل فيحتاج إلى بسط، وما كان يسيراً فهو مقدَّم على ما يحتاج إلى بسط، كذلك الفعل كالوسيلة للاسم، لأنه كما سبق أن الأفعال كلَّها صفاتٌ في المعنى، فحينئذ يكون موصوفاتها الاسم، إذاً الفعل كالوسيلة والعلم بالوسائل

مقدَّم على العلم بالمقاصد، على كلٍّ هذه نكات وهي لا تتزاحم. [بَابُ قِسْمَةِ الأَفْعَالِ] المراد بالأفعال هنا الأفعال الاصطلاحية، لأن الفعل قد يكون المراد به الفعل الاصطلاحي الذي هو الفعل الماضي والمضارع والأمر، وقد يكون المراد به الفعل اللغوي، والأفعال اللغوية لا تنحصر، لأن الأفعال جمع فِعْل - بكسر الفاء وإسكان العين - احترازاً من الفَعْل - بفتح الفاء وإسكان العين - والفِعْل لغة: الحدث، نفس الحدث الذي يُحدثه الفاعل من قيام أو قعود أو نوم إلى آخره، كل ما يصدر عن الإنسان من حدثٍ فهو فِعْل، ولذلك المصدر مدلوله الفِعلُ اللغوي نفس القيام، ونفس الأكل، ونفس الشرب، ونفس الجلوس، فنفس الأكل هذا حدث اسمه الأكل، فالأكل فعل الإنسان يأخذ الطعام ويُوصله إلى فمه ويمضغه، الفعل نفسه أخذ الطعام وإيصاله إلى الفم هذا حدث اسمه الأكل، فالأكل مصدر مسماه عين الحدث، ففرْق بين المصدر والحدث، المصدر اسم مسماه الحدث، فالفعل اللغوي هو عين الحدث نفس الحدث، والأفعال اللغوية لا يمكن حصرها، أما الاصطلاحية فهذه محصورة. [بَابُ قِسْمَةِ الأَفْعَالِ] أي باب معرفة أقسام الأفعال، أي مطلق الفعل، وقيل: أل جنسية فتبطل معنى الجمعية أي باب معرفة أقسام الفعل، وقد تكون أل للعهد الذهني لأن الأفعال هنا المراد بها الفعل الاصطلاحي، فخرج بذلك الأفعال اللغوية وهي مطلق الحدث فإنها لا تنحصر. قال: [وَأَحْكَامِهَا] معطوف على قوله قسمة، وهو

مجرور، والمعطوف على المجرور مجرور، [وَأَحْكَامِهَا] جمع حكم، والحكم في الاصطلاح: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، والمراد بها هنا من حيث الإعراب والبناء، إذاً باب معرفة أقسام الفعل الاصطلاحي وأحكامها من حيث الإعراب والبناء، وأما حد الفعل اصطلاحًا من حيث هو بقطع النظر عن كونه ماضياً أو مضارعاً أو أمراً: فهو كلمة دلت على معنى في نفسها واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة. كلمة جنس يشمل الاسم والفعل والحرف، دلت على معنى في نفسها يعني بنفسها في ذاتها دون ضميمة كلمة أخرى، فخرج الحرف لأنه لا يدل على معنى في نفسه، وبقي الاسم والفعل، واقترن بأحد الأزمنة الثلاثة خرج الاسم، لأن الاسم يدل على معنى في نفسه، ولم يقترن بزمن معين، ولا تقل ولم يقترن بزمنٍ فهو خطأ، لأن الاسم الذي يُسلَب عنه الزمن لكون الزمن مختصاً بالفعل هو الزمن المعين، وهي الأزمنة الثلاثة: الماضي، والحال، والمستقبل، إذاً مطلق الزمن لا ينافي الاسمية، لأنه قد يكون معناه الزمن كأمس، وقد يقترن بمعناه مطلق زمن كصباحٍ ومساءٍ، نقول: مساء دل على كون الزمن آخر اليوم، وصباح دل على كون الزمن أول اليوم، فحينئذ دل على معنى واقترن بزمن لكنه أيُّ صباحٍ هو؟ من حيث اللفظ لا يدل على صباح قد مضى أو حال أو مستقبل، فحينئذ صباح يدل على زمن لكنه مطلقُ زمنٍ، وأما الذي يُنفى عن الاسم هو الزمن المعين، ولذلك نقول: واقترن أي الفعل بأحد الأزمنة الثلاثة، فشملت هذه العبارة الماضي والمضارع والأمر، قوله: بأحد،

لأنه لا يمكن أن يدل على زمنين في وقت واحد حقيقة، ولا يمكن أن يدل على الأزمنة الثلاثة من باب أولى، وإنما يكون مدلول الفعل زمناً واحداً فقط. قال رحمه الله: وَهْيَ ثَلاَثَةٌ مُضِيٌّ قَدْ خَلاَ ... وَفِعْلُ أَمْرٍ وَمُضَارِعٌ عَلاَ [وَهْيَ ثَلاَثَةٌ] الواو حرف عطف وهي لمطلق الجمع، وهنا المعطوف هي ثلاثة، وأين المعطوف عليه؟ نقول: اتفق النحاة على أن الواو لا تقع استئنافية، لكن إذا جاءت الواو في أول الكلام، قالوا: هي استئنافية، ثم الاستئناف نوعان: استئناف نحوي، واستئناف بياني، والاستئناف البياني: ما كان واقعاً في جواب سؤال مقدر، إذا قَدَّر المصنف سؤالاً في نفسه ثم بدأ الجملة بالواو فتكون معطوفة على ذلك السؤال المقدر، فحينئذ يكون ثَمَّ سؤال محذوف، لما قال المصنف: قسمة الأفعال وأحكامها، كأن سائلا سأل: ما هي أقسام الأفعال؟ قال الناظم: وهي ثلاثة، فحينئذ يكون العطف على السؤال المقدر، فحصل العطف بجملة على جملة. والاستئناف النحوي: هوما ليس واقعاً في جواب سؤال مقدر. والواو هنا للاستئناف البياني. [وَهْيَ ثَلاَثَةٌ] أي الأفعال الاصطلاحية ثلاثة لا رابع لها، ووجه تقسيم الفعل هنا من حيث الزمن، لأن الفعل له اعتبارات يعني يقسم باعتبارات: يقسم من حيث الزمن، ويقسم من حيث الجمود والتصرف، ومن حيث التمام والنقصان، ومن حيث الزيادة والتجرد إلى آخره، فله تقسيمات عدة، والمراد هنا أن تقسيم الفعل من حيث الزمن

يعني من حيث دلالة الفعل على الزمن الذي وقع فيه الحدث، فقال: [وَهْيَ ثَلاَثَةٌ] أي باعتبار أنواعها لا صيغها، لأن الصيغ كثيرة، فالفعل الماضي له صيغ، فالماضي المجرَّد يأتي على ثلاثة أوزان: فَعَل وفَعِل وفَعُل، والمزيد يأتي على خمس وعشرين وزنا، منها انفعل وتفعَّل إلى آخره، والمضارع له ست صيغ، إذًا ليس التقسيم هنا باعتبار صيغ الماضي، ولا صيغ المضارع، ولا الأمر -وإن كان الأمر له صيغة واحدة- وإنما باعتبار دلالته على الزمن. [وَهْيَ ثَلاَثَةٌ] لا رابع لها، والدليل على أن القسمة ثلاثية الاستقراء والتتبع، وهو حجة قال في السلم المنورق: وَإِنْ بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّي اسْتُدِلْ ... فَذَا بِالِاسْتِقْرَاءِ عِنْدَهُمْ عُقِلْ تتبعوا كلام العرب فوجدو أن الأفعال ثلاثة من حيث اعتبار الزمن، وأيضاً الزمن ثلاثة أنواع، ماض وحال والاستقبال، بدليل قوله تعالى: ((لَهُمَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ (64))) [مريم:64] قالوا: هذه الآية تشير إلى أن الأزمنة ثلاثة: (له ما بين أيدينا) هذا المستقبل (وما خلفنا) وهذا الماضي (وما بين ذلك) وهذا الحال، فإذا تقرَّر أن الأزمنة ثلاثة، فالمتكلم والمخبر بالحدث إما أن يخبر عن حدث وقع في زمن قبل زمن التكلم، وإما أن يخبر عن حدث يقع في زمن التكلم، وإما أن يخبر عن حدث يقع في الزمن المستقبل، فالأول الماضي، والثاني المضارع، والثالث الأمر. ويستأنس لهذا بالآية السابقة، وبقول الشاعر زهير: وَأَعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي

[وَهْيَ ثَلاَثَةٌ مُضِيٌّ] مضي بدل مفصل من مجمل، لأن لفظ ثلاثة مجمل، ثم قال: مضي، فحينئذ يكون مضي بدل من ثلاثة يسمى بدل مفصل من مجمل، وإن شئت قل: بدل بعض من كل، أو مبتدأٌ لخبر محذوف، أو خبرٌ لمبتدأ محذوف. [مُضِيٌّ] ومعنى مضيه أنه وقع وانقطع، فهو مضي من حيث اللفظ، فحينئذ لا يلزم منه أن يكون اسمه ماضياً أو مضياً من حيث اللفظ دون دلالة معناه على ذلك المضي، ولذلك أكد هذا المعنى بقوله: [قَدْ خَلاَ] أي قد مضى، فهذا تأكيد لمعنى مضي؛ وإلا لو جعل للفظ فالمضي هو الذي قد خلا. الفعل بأنواعه الثلاثة قد يعرَّف بحد جامع وقد سبق بيانه، وقد يخص كل نوع بحد يختص به، وإذا أردنا أن نحد الفعل الماضي وهو نوع من أنواع الفعل فنقول هو: ما دل على حدث وقع في الزمان الذي قبل زمان التكلم، فقوله: ما أي فعل، ولا نفسره بالكلمة، وإنما نقول: فعل ليشمل الفعل الماضي والمضارع والمستقبل الذي هو الأمر، وقوله: دل على حدث وقع في الزمان الذي قبل زمان التكلم خرج به المضارع والأمر؛ لأن المضارع يدل على حدث يقع في زمن التكلم أي في أثناء زمن التكلم، والأمر يدل على حدث يقع في الزمن المستقبل، لذلك هو من نوع الإنشاء لا من الخبر. هذا حده، وأما علامته فهي قبول تاء التأنيث الساكنة كما سبق بيانه. [وَهْيَ ثَلاَثَةٌ مُضِيٌّ قَدْ خَلاَ] أي علة تسميته ماضياً لمضي معناه حالة التكلم بحسب الوضع، وعبارة بعضهم أوضح من هذا أنه يقال:

سمي ماضياً باعتبار زمانه المستفاد منه، هكذا قال الفاكهي في شرح قطر الندى. وقدم الفعل الماضي على فعل الأمر والمضارع؛ لأنه مبني باتفاق، وأما فعل الأمر فهو مبني على الأرجح، وأما المضارع فهو معرب، وإن كان الأصل فيه أنه مبني، لكن يبنى في حالتين كما سيأتي، ويبقى الأصل أنه معرب. ثم قال: [وَفِعْلُ أَمْرٍ] ثنى بفعل الأمر لكونه مبنياً على الأرجح، [وَفِعْلُ أَمْرٍ] فعل مضاف، وأمر مضاف إليه، وهذه الإضافة من إضافة الدال إلى المدلول يعني فعل يدل على الأمر، وحدُّ فعل الأمر: هو ما دل على حدث يُطلب حصوله بعد زمان التكلم. قوله: ما اسم موصول، وهو جنس يعم الأفعال الثلاثة، قوله: دل على حدث يطلب حصوله خرج المضارع والماضي؛ لأن المضارع والماضي لا يدل على حدث يطلب حصوله، وإنما يدل المضارع على حدث يقع في الزمن الحال، ويدل الماضي على حدث قد وقع وانقطع، ولذلك قالوا: فعل الأمر مستقبل أبدا؛ لأنه يطلب به حصول مالم يحصل، نحو: قم أنت، إذا أمرت من لم يقم، إذاً طُلب بفعل الأمر حصول قيام لم يحصل، أو دوام ما حصل، يعني لا يشترط في فعل الأمر أن يكون حدثه معدوما، بل يطلب به حصول مالم يحصل وهذا لا إشكال فيه أنه معدوم، أو دوام ما قد حصل، فهذا باعتبار أصل الفعل موجود، لكن الطلب هنا باعتبار المداومة، وهي معدومة كقوله: ((يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1))) [الأحزاب:1] اتق: فعل أمر، وليس المراد به تحصيل التقوى وإيجادها بعد أن لم تكن،

بل دُم على التقوى، ومثله: ((يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ)) [النساء:136] قوله: يأيها الذين آمنوا إذاً أثبت لهم صفة الإيمان، ثم قال: آمنوا أي طلب المداومة على الإيمان أي حافظوا ودوموا على إيمانكم، فحينئذ يطلب بفعل الأمر حصول ما لم يحصل، أو دوام ما قد حصل، والأصل فيه أن يكون معدوماً، فحينئذ إذا ورد الإشكال في نحو: ((يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1))) تقول: المطلوب المداومة، والأصل أنها معدومة فلم يخرج عن الأصل. ثم قال: [وَمُضَارِعٌ عَلاَ] بمعنى ارتفع عن أخويه الماضي وفعل الأمر، وذلك بكونه معرباً، والإعراب أشرف من البناء، ولذلك الأًصل في الأسماء الإعراب، والأصل في الأفعال البناء، فهما أصلان متضادان، لأن الإعراب والبناء ضدان، فإذا جاء اسم مبني تقول: لِمَ بني؟ فيسأل عنه، لأنه قد خرج عن أصله، وإذا جاء فعل معرب كالمضارع تقول: جاء على خلاف أصله، فحينئذ لا بد من السؤال لِمَ أعرب الفعل المضارع؟ إذاً الأصل في الأسماء الإعراب، وضابط الاسم المعرب: هو الذي لم يشبه الحرف، فإن أشبه الحرف فهو مبني، فالأول أصل والثاني فرع. والأًصل في الفعل البناء، والإعراب فيه فرع، ولذلك جاء نوعان من الفعل مبنيان: وهما الفعل الماضي، وفعل الأمر، فالفعل الماضي هذا متفق عليه بين البصريين والكوفيين، وفعل الأمر على الأصح على مذهب البصريين، وسيأتي مذهب الكوفيين. وأما الفعل المضارع ففيه تفصيل: الأصل فيه عند التجرد من نون الإناث

ونوني التوكيد الإعراب، فهو معرب، وإذا اتصلت به إحدى النونين نون الإناث ونون التوكيد فهو مبني ويختلف بناؤه كما سيأتي. [وَمُضَارِعٌ عَلاَ] أي وفعل مضارع علا وسما وارتفع على قسيميه الفعل الماضي وفعل الأمر بكونه معرباً، والمضارع مشتق من المضارعة، والمضارعة في اللغة المشابهة، فسمي الفعل المضارع مضارعاً لمشابهته الاسم، قيل مأخوذة من الضرع، كأنَّ كلا من المشتبهين الاسم والفعل المضارع ارتضعا من ثدي واحد، فهما أخوان رضاعًا، لذلك سمي الفعل المضارع بالمضارع لوجود مشابهة الفعل المضارع بالاسم. ووجه المشابهة التي جعلت الفعل المضارع قد وجدت فيه علة إعراب الاسم فأعرب حملا على الاسم، كما سبق أن القاعدة العامة عند العرب أن الشيء إذا أشبه شيئًا آخر أخذ حكمه، فإذا أشبه الاسم الحرف أخذ حكمه وهو البناء، وإذا أشبه الاسم الفعل بوجوه الشبه السابقة أخذ حكمه وهو المنع من الصرف، ووجه الشبه بين الفعل المضارع والاسم كما قال جمهور النحاة أنه إذا وُجد الفعل المضارع على واحد من أمور أربعة: الأول والثاني: أن يكون الفعل المضارع أشبه الاسم في الإبهام والتخصيص، فالاسم يكون مبهماً ثم يخص تقول: جاءني رجل، هذا مبهم، ثم تقول: جاءني رجل صالح فتخصص، كذلك الفعل المضارع يكون مبهماً ويقبل التخصيص، وإبهام الفعل المضارع من حيث دلالته على الزمن، فجمهور النحاة على أن زمن الفعل المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، فإذا قلت: زيد يصلي،

يحتمل أنه يصلي الآن، ويحتمل أنه في المستقبل، إذاً فيه إبهام، ويتخصص الفعل المضارع بالقيد تقول: يضرب زيد عمرًا الآن في الحال، أو غدًا في المستقبل، أو بحرف يدل على الاستقبال، فإذا قلت: زيد سيصلي أو سوف يصلي تخصص بالزمن المستقبل، إذاً أشبه الفعلُ المضارعُ الاسمَ في الإبهام والتخصيص، الاسم يكون مبهماً كرجل فيتخصص بالوصف أو بأل، والفعل المضارع يكون مبهماً من حيث الزمن محتملا للحال أو الاستقبال، فيتخصص بلفظ آخر فيحمل على الاستقبال أو على الحال. والثالث: قبوله لام الابتداء، نحو: إنَّ زيداً لضارب عمراً، إذاً الاسم تدخله لام الابتداء - على تفصيل فيه- وتقول: إن زيداً ليضرب عمراً، وقع المضارع في موضع يقع فيه الاسم، إذاً أشبهَ الفعلُ المضارعُ الاسمَ في كونه يقبل لام الابتداء. الرابع: أن الفعل المضارع قد أشبه الاسم - اسم الفاعل - في الحركات والسكنات، فضَارِبٌ حركة فسكون فحركة، ويَضْرِبْ حركة فسكون فحركة، والمراد مطلق الحركة، كون الحرف محركا ولا ينظر إلى شخصها وعينها، إذاً أشبه الفعل المضارع الاسم في مطلق الحركات والسكنات. لهذه العلل الأربع قال جمهور النحاة: إن الفعل المضارع قد أشبه الاسم فأخذ حكمه وهو الإعراب، إذاً علة إعراب الفعل المضارع هي هذه الأوجه الأربعة، وابن مالك - رحمه الله -لم يرتض هذه العلة، بل قال: إن علة إعراب الفعل المضارع هي مشابهته

للاسم في اعتوار معاني مختلفة على صيغة واحدة لا يميزها إلا الإعراب، لأن الإعراب كما ذكرنا في اللغة أنه بمعنى البيان والإظهار، فالإعراب في الاسم إنما جيء به لتمييز المعاني بعضها عن بعض، والاسم أي الاسم الواحد والصيغة الواحدة قد يعتوره معانٍ مختلفة، يعني يطرأ على الاسم الواحد معانٍ مختلفة، هذه المعاني لا يميز بعضها عن بعض إلا الإعراب، حينئذ صار الإعراب أصلاً في الاسم، وهذه المعاني المعتورة تكون في مثال واحد، وذلك إذا قلت: ما أحسن زيد، في مثل هذا التركيب -هكذا دون إعراب- فيحتمل أن يكون زيد مرداً به الفاعل وما نافية، ويحتمل أن يكون زيد مراداً به أنه مفعول وما تعجبية، ويحتمل أن يكون زيد مضافاً إليه وما استفهامية، إذاً لفظ زيد صيغة واحدة قد توارد وتعاقب عليها معانٍ مختلفة وهي الفاعلية والمفعولية والإضافة، وهي في الأصل تكون في الاسم، فحينئذ لا يميز الفاعل عن المفعول ولا عن المضاف إليه إلا الإعراب، فإذا أردت الفاعل تقول: ما أحسنَ زيدٌ، فحينئذ يكون الكلام نفيا، فما نافية، وأحسنَ فعل ماض، وزيد فاعل، وإذا أردت أنه مفعول به فحينئذ تقول: ما أحسنَ زيداً! فتكون ما تعجبية، وزيدًا مفعولا به، وإذا أردت الإضافة فحينئذ تقول: ما أحسنُ زيدٍ؟ أَيْ أيُّ شيء أو أي أجزاء زيد حسن فصار استفهاماً. إذاً التركيب واحد ما أحسن وزيد يحتمل أن ما تعجبية أو نافية أو استفهامية، والذي ميز لنا هذا عن ذاك هو الإعراب، إذاً جيء بالإعراب في الاسم لكشف وتمييز المعاني المختلفة على صيغة واحدة، وهذه المعاني لا يميز بعضها عن

بعض إلا الإعراب، هذه علة الإعراب في الاسم فإذا وجدت هذه العلة في الفعل المضارع فالقاعدة العامة: أنه إذا أشبه الشيءُ الشيءَ الآخر أخذ حكمه، فحينئذ إذا وُجدت هذه العلة وهي اعتوار المعاني المختلفة على صيغة واحدة في الفعل المضارع فحينئذ نقول: الفعل المضارع قد أشبه الاسم فأخذ حكمه وهو الإعراب، كما أن الاسم إذا أشبه الفعل أخذ حكمه وهو المنع من الصرف، فما هي الصيغة التي يمكن أن يكون عليها الفعل المضارع وتعتوره المعاني المختلفة ولا يميزها إلا الإعراب؟ قالوا المثال المشهور: لا تأكلِ السمكَ وتشرب اللبن، لا ناهية، وتأكل فعل مضارع مجزوم بلا وجزمه السكون المقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، والسمك مفعول به منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره لأنه اسم مفرد، إلى هنا لا إشكال فيه، ولكن قوله: وتشرب اللبن هذا فعل مضارع تتوارد عليه المعاني المختلفة التي لا يميزها إلا الإعراب، وهذه المعاني المختلفة لصحة أن يقال: وتشربِ اللبن بالجزم، وتشربَ اللبن بالنصب، وتشربُ اللبن بالرفع، ثلاثة أوجه، وليست هذه المعاني متحدة؛ لأن الإعراب فيها متغير، وإنما جيء بالإعراب لتغير المعاني، فحينئذ لا بد أن يكون كل وجه منها مغايرًا للآخر، فإذا قلت: لا تأكل السمك وتشربِ اللبن، صار كلٌّ من أَكْلِ السمك وشرب اللبن منهياً عنه لذاته، إذا جزمت حينئذ تقول: وتشربِ اللبن بالجزم: الواو حرف عطف، وتشربِ فعل مضارع معطوف

على تأكل، والمعطوف على المجزوم مجزوم وجزمه سكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، واللبن مفعول به، إذاً عطف تشرب على لا تأكل، وإذا عطف عليه صار كل واحد منهياً عنه على حِدة، يعني لا تأكل السمك مطلقاً، ولا تشرب اللبن مطلقاً. وتشربَ بالنصب: الواو واو المعية، وتشربَ فعل مضارع منصوب بأن وجوباً بعد واو المعية، وهي تدل على المصاحبة إذاً لا تأكل السمك مع شرب اللبن، لا تجمع بينهما لكن كُلِ السمك مفردا، واشْربِ اللبن مفردا، فالنهي هنا مسلط على الجمع بينهما فقط دون إفراد كل واحد منهما على حدة. وتشربُ اللبن: الواو للاستئناف، وتشرب فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، والمعنى لا تأكل السمك ولك شرب اللبن مطلقاً، فالمنهي عنه شيء واحد، إذاً اختلفت المعاني باختلاف الإعراب، فحينئذٍ صار الفعل المضارع في نحو: تشرب مفتقراً للإعراب، فأشبه الفعل المضارع الاسمَ في اعتوار وطرو معان مختلفة على صيغة واحدة وهي تشرب، كما هو في الاسم في قولك: ما أحسن زيد صيغة واحدة طرأت المعاني المختلفة عليها لا يميزها إلا الإعراب، حينئذ أعرب الفعل المضارع فدخل في حيز الإعراب فارتفع وعلا وسما على الفعل الماضي وفعل الأمر، ولذلك قال: [وَمُضَارِعٌ عَلاَ] لكن يرد السؤال هنا إذا كان الأصل في الأسماء الإعراب، وعلة الإعراب هي اعتوار المعاني، وهذه العلة

موجودة في الفعل المضارع، فلمَ كان الإعراب فرعاً في الفعل ولم يكن أصلاً مع وجود العلة؟ الجواب: أنه لما كان الإعراب أصلاً في الأسماء لاعتوار هذه المعاني، وجدوا أن هذه المعاني لا يمكن أن يميزها إلا الإعراب فقط، وأما الفعل المضارع قالوا: يميزها الإعراب، ويميزها غير الإعراب، فلما وُجد سبيل غير الإعراب جُعل فرعاً في الفعل المضارع، ولما لم يكن في الاسم إلا الإعراب جعل أصلاً فيه، ويمكن أن تميز هذه المعاني بعضها عن بعض في الفعل المضارع دون إعراب، قالوا: لك أن تفصح تقول: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن، فتظهر لا الناهية، إذاً نهيت عنهما مطلقا، وتقول: لا تأكل السمك شارباً اللبن، نهيت عن الجمع بينهما، وتقول: لا تأكل السمك ولك شرب اللبن، فصار استئنافا، ولك خبر مقدم، وشرب اللبن مبتدأ مؤخر. إذاً وجد سبيل لفصل المعاني بعضها عن بعض غير الإعراب، فلذلك جعل فرعاً في الفعل ولم يجعل أًصلاً. لما قسَّم لك الأفعال ووفَّى لك بما قال في الترجمة باب قسمة الأفعال قال: وهي ثلاثة، ثم قال: وأحكامها بدأ في بيان أحكام الأفعال من حيث الإعراب والبناء، فقال: [فَالمَاضِي] الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، إذا عرفت القسمة الثلاثية وأردت معرفة أحوال الماضي من جهة الإعراب والبناء فأقول لك الماضي، [فَالمَاضِي] أل هذه للعهد الذكري، لأنه ذكر الماضي أولاً نكرة ثم أعاده معرفة، وذِكْرُ الاسم نكرة ثم إعادته

معرفة دال على أنه عين الأول كما هو القاعدة، [فَالمَاضِي مَفْتُوحُ الأَخِيرِ أَبَدَا] سبق بيان حد الماضي، وعرفنا علامته، وهنا بين حكمه فالماضي مبني، وقد جاء على الأصل في الأفعال، والقاعدة أن ما جاء على أصله لا يسأل عن علته، فلا يقال حينئذ لماذا هو مبني؟ لأنه جاء على الأصل وما جاء على الأصل لا يسأل عن علته. ثم يرد السؤال على أي شيء بُني الفعل الماضي؟ نقول: فيه ثلاثة مذاهب للنحاة: جمهور النحاة المتأخرين على التفصيل، لأن الفعل الماضي له أحوال: إما أن يتصل بآخره شيء أولا، فإن لم يتصل بآخره شيء فهو مبني على الفتح سواء كان الفتح ظاهراً أو مقدراً، فإن اتصل بآخره شيء إما أن يكون واواً أو ضمير رفع متحرك، فإن كان واواً ضم آخره لمناسبة الواو فيبنى على الضم، وإن كان ضمير رفع متحرك بني معه على السكون، فحينئذ له ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون مبنياً على الفتح كما قال الحريري: وَحُكْمُهُ فَتْحُ الأَخِيرِ مِنْهُ ... كَقَوْلِهِمْ سَارَ وَبَانَ عَنْهُ تقول: جاء زيد، فجاء: فعل ماضٍ مبني على الفتح الظاهر، ونحو: (وعصى آَدَمُ رَبَّهُ (121)) [طه:121] عصى: فعل ماض مبني على فتح مقدر، كما قال هنا: [مَفْتُوحُ الأَخِيرِ] أي مفتوح الحرف الأخير فتح بناء، [أَبَدَا] سواء كان ظاهراً أو مقدراً، وهذا إذا لم يتصل به شيء، أو اتصل به ألف الاثنين التي هي فاعل، نحو: الزيدان ضربا، فالزيدان مبتدأ، وضربا فعل ماض مبني على الفتح مع كونه اتصل به ألف الاثنين، فيبقى على أصله على قول الجمهور

أن هذا الفتح فتح بناء وليس لمناسبة الألف، وقال بعضهم: إن هذه الفتحة لمناسبة الألف، فحينئذٍ يكون البناء هنا على الفتح المقدر، وهذا ليس بصحيح بل الصواب أنه فتح ظاهر، فالحالة الأولى: أن يبنى الفعل الماضي على الفتح ظاهراً كضرب، أو اتصل به ألف الاثنين فلا يخرجه عن أصل البناء على الفتح بل يكون فتحاً ظاهراً. أو مقدراً فيما إذا كان معتل الآخر كعصى. الحالة الثانية: أن يكون مبنياً على الضم، وذلك إذا اتصل بالفعل الماضي واو الجماعة كضربوا، وواو الجماعة لا يناسبها ما قبلها إلا أن يكون مضموماً، فحينئذ بُني الفعل الماضي على الضم، فيقال في إعرابه ضربوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، وواو الجماعة ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. الحالة الثالثة: أن يكون مبنياً على السكون، وذلك إذا اتصل بالفعل الماضي ضمير رفع متحرك، ضمير إذاً لا اسم ظاهر، لأنه لو اتصل به اسم ظاهر يعني تلاه اسم ظاهر صار مبنياً على الفتح الظاهر أو المقدر، تقول: ضرب زيدٌ، اتصل به اسم ظاهر لأنه الفاعل، فحينئذ بقي على أصله، وعصى آدم، اتصل به اسم ظاهر فحينئذ بقي على أصله، وهو أنه مبني على الفتح المقدر، ضمير رفع لا ضمير نصب، لأنه لو اتصل به ضمير نصب بقى على الأصل وهو البناء على الفتح، مثل: نا الدالة على المفعولين إذا وقعت في محل نصب مفعولاً به، كقولك: ضربَنا الزيدان، فضرب فعل ماضٍ مبني على الفتح الظاهر،

والزيدان فاعل، ونا مفعول به، إذاً اتصال نا الدالة على المفعولين بالفعل الماضي لا يخرجه عن أصله وهو البناء على الفتح. ويرد السؤال هنا لماذا لم نعد هذه الحالة في الحالة الأولى وهي ما لم يتصل بآخره شيء أو اتصل به ألف الاثنين؟ نقول: هنا ضربَنا الاتصال في اللفظ فقط لا في الحقيقة، لأن ضربنا هذا ثلاث كلمات: ضرب، ثم فصل بالفاعل، لأن مرتبة الفاعل مقدَّمة على مرتبة المفعول به، ثم جاء المفعول به وهو نا، فلذلك يقال في نا التي اتصلت بضربنا، أنها في نية الانفصال، لأن حق نا وهي مفعول به الانفصال لا الاتصال بالفعل كما قال ابن مالك: وَالأَصْلُ فِي الفَاعِلِ أَنْ يَتَّصِلاَ وَالأَصْلُ فِي المَفْعُولِ أَنْ يَنْفَصِلاَ الأصل في الفاعل أن يتصل بعامله، نحو: ضربْنا ضرب فعل ماضٍ، ونا دالة على الفاعلين، وضربا ضرب فعل ماضٍ، والألف فاعل، والأصل في المفعول أن ينفصل عن العامل بالفاعل هذه هي القاعدة، فحينئذ قوله: ضربَنا نا الدالة على المفعولين لم تتصل في الحقيقة بالفعل، وإن اتصلت به في اللفظ. ضمير رفع متحرك لا ضمير رفع ساكن، وهو الواو نحو: ضربوا - التي هي الحالة الثانية - فالفعل معها مبني على الضم، وأيضاً الألف نحو: ضربا فالفعل معها مبني على الفتح، وضمير الرفع المتحرك مثل: تاء الفاعل، نحو: ضربتَُِ هذا يبنى على السكون، وإعرابه: ضربت: فعل ماض مبني على السكون، لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل، وضربْنا: فعل

ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفعٍ متحرك، ونا الدالة على الفاعلين هل هي ضمير رفع متحرك أولا؟ قيل: متحرك باعتبار النون ولا إشكال، وقيل: ساكن باعتبار الألف، فحينئذ يرد الإشكال وهو أن الماضي يبنى على السكون إذا اتصل به ضمير رفع متحرك، وهذا ليس بضمير رفع متحرك بل ساكن، قالوا: القاعدة أنه إذا اتصل بضمير رفع متحرك بنفسه كالتاء والنون، أو ببعضه المتصل بالفعل، وضربنا النون اتصلت بالفعل وهي متحركة، فحينئذ بني الفعل على السكون. وتقول: النسوة ضربن، فضربنَ: فعل ماضٍ مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، وهو ضمير رفع متحرك، والنون ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل. هذا هو المشهور أنه يبنى على الفتح ظاهراً أو مقدراً كما سبق، ويبنى على الضم إذا اتصل به واو الجماعة، ويبنى على السكون إذا اتصل به ضمير رفع متحرك، والأصح أن الفعل الماضي مبني على الفتح مطلقاً ظاهرًا كان أو مقدرًا، فضربوا نقول في إعرابه: فعل ماض مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأن الواو لا يناسبها إلا ضم ما قبلها، وحركة المناسبة هذه لا تمنع أن يكون الفعل مبنيا على الأصل وهو الفتح، فتقدر عليه الفتحة. وضربْت: فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون دفع كراهة توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، لأن القاعدة عند العرب أن الكلمة إذا كانت مؤلفة من أربعة أحرف لا تكون كلها متحركة، لا بد أن يكون

حرف منها حرف ساكن، قالوا: ضَرَبْتُ أصله ضَرَبَتُ على الأصل ضَرَبَ ثم اتصل به ضمير رفع متحرك فصار أربعة أحرف ضَرَبَتُ، هذا الأصل فيه، فيكون مبنياً على فتح ظاهر، لكن لما كان الفتح الظاهر قد سبب ثقلاً في الكلمة وهو توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، لكن يرد سؤال هنا ليس عندنا كلمة واحدة وإنما هو فعل وفاعل؟ قالوا: فيما هو كالكلمة الواحدة لتنزيل الفاعل منَزلة الجزء من فعله، وهذا هو الدليل أن العرب سلبت الفعل الماضي الحركة، وجلبت له السكون دفعاً لتوالي أربع متحركات فيما هو كلمة واحدة، ولكن لوجود الكلمتين هنا -الجملة الفعلية- قالوا: كالكلمة الواحدة، لأن القاعدة أنه لا توجد أربع متحركات في الكلمة الواحدة. والدليل على أن الفاعل جزء من فعله هو ما ذكرناه الآن، ثم أيضًا الأمثلة الخمسة، وهذا أظهر دليل على أن العرب تنزل وتعامل الفاعل منزلة الجزء من فعله، فقد تقرر عندنا في باب الإعراب أن الإعراب: أثرٌ ظاهر أو مقدر يجلبه العامل في آخر الكلمة. فمحل الإعراب هو آخر الكلمة، ثم تأمل الأمثلة الخمسة، فيقومون مثلا: فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون. إذاً ثبوت النون هذا في آخر الكلمة لأنه محل للإعراب، والفاعل هو الواو، إذاً جُعل الإعراب تالياً للفاعل، لتنزيل الفاعل منزلة الجزء من الكلمة، هذا مثال واضح بيِّن أن الفعل المضارع الذي هو من الأمثلة الخمسة يكون رفعه بثبوت النون، وهذه النون تكون بعد الواو أو الألف أو الياء، فمثلا يفعلو هذه جملة مركبة من

فعل وفاعل ثم تذكر النون، وهذه النون إعراب، والإعراب محله آخر الكلمة، هذا دليل على أن العرب نزلت الواو منزلة الجزء من الكلمة، فكأنهما كلمة واحدة. والحاصل أن الفعل الماضي يكون مبنياً على الفتح مطلقاً ظاهرًا أو مقدرًا. والظاهر في ثلاثة مواضع: الأول: أن يكون فاعله اسمًا ظاهرًا، نحو: قام زيد. والثاني: أن يكون فاعله ضميرًا مستترًا، نحو: زيد قام. والثالث: أن يكون فاعله ألف تثنية، نحو: الزيدان قاما. والمقدر في أربعة مواضع: الأول: أن يكون الفعل معتل الآخر بالألف مع كون فاعله اسمًا ظاهرًا، نحو: رمى زيد. وأما المعتل الياء أو الواو فالفتح فيه ظاهر لا مقدر، نحو: شَقِيَ ورَضِيَ، وبَذُوَ وسَرُوَ. والثاني: أن يكون الفعل معتل الآخر بالألف مع كون فاعله ضميرًا مستترًا، نحو: زيد رمى. والثالث: أن يكون فاعله واو الجماعة، نحو: قاموا. والرابع: أن يكون فاعله ضمير رفع متحرك كتاء الفاعل ونون النسوة. ويمكن أن يحمل هذا القول الراجح على ظاهر كلام الناظم [فَالمَاضِي مَفْتُوحُ الأَخِيرِ أَبَدَا] لأنه قال: أبداً سواء كان مختوماً بحرف يقبل الحركة كضرب، أو مختوماً بحرف لا يقبل الحركة بذاته كعصى، وسواء كان ثلاثياً كذهب، أو رباعياً كدحرج وأكرم، أو خماسياً كانطلق وتعلَّم، أو سداسياً كاستخرج واستغفر، وسواءٌ اتصل به واو الجمع، أو اتصل به ضمير رفع متحرك، لأن أبداً هذه ظرف بمعنى أنه مستصحب

للحكم مدة وقت وجود الفعل الماضي. ثم قال: [وَالأَمْرُ بِالجَزْمِ لَدَى البَعْضِ ارْتَدَى] والأمر مبتدأ، وعرفنا حده وعلامته، وأل في الأمر للعهد الذكري، لأنه ذكره نكرة أوَّلا عند قوله: فعل أمر ثم أعاده معرفة، و [بِالجَزْمِ لَدَى] متعلقان بارتدى، و [ارْتَدَى] فعل ماض، أي لبس الرداء، فكأنَّ فعل الأمر قد ارتدى الجزم، وكأن الجزم صار له رداءاً، حينئذ يعرف ويميز بالجزم، وتكون علامته الجزم، [لَدَى البَعْضِ] لدى بمعنى عند، والبعض بإدخال أل على كلمة بعض، وهذا ينكره كثير من النحاة، لأن بعضًا وكلا من الكلمات الملازمة للإضافة لفظاً ومعنى، وقد يحذف المضاف وهو مفرد في اللفظ وينوب عنه التنوين، فحينئذ يكون التنوين عوضاً عن كلمة، فلا يجوز إدخال أل على المضاف، هذه القاعدة العامة في باب الإضافة لا يجوز إدخال أل على المضاف، وبعض هنا مضاف والمضاف إليه منْويٌّ مثل: كل فلا يقال: الكل بأل لأنها ملازمة للإضافة كقوله: ((وَكُلَّإِنْسَانٍ ((13))) [الإسراء:13] ((قُلْكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (84))) [الإسراء:84] فكل: مضاف لكنه في المعنى والتقدير، بدليل وجود التنوين الذي هو عوض عن المضاف إليه، وحينئذ لا يجوز أن يجامع المضاف أل إلا ما استثنيَ في بابه. [وَالأَمْرُ بِالجَزْمِ لَدَى البَعْضِ ارْتَدَى] ظاهره أن فعل الأمر - كما هو ظاهر كلام ابن آجروم - مجزوم، وعليه فقسمة الأفعال ثنائية، وحينئذ يرد الإشكال، وهو أنه قد ذكر قسمة الأفعال ثلاثة،

ثم ذكر هنا أن الأمر مجزوم وهذا على مذهب الكوفيين أن القسمة ثنائية، لأن القسمة ثلاثية على مذهب البصريين، وثنائية على مذهب الكوفيين، البصريون على أنها ثلاثة: ماضٍ، وفعل أمر، ومضارع. ومرادهم بهذه الأقسام الثلاثة أن الماضي قسم مستقل برأسه، وفعل الأمر قسم مستقل برأسه ليس مقتطعاً من شيء آخر بل وضع ابتداءاً، والفعل المضارع قسم مستقل برأسه، والكوفيون لا ينكرون وجود فعل الأمر، بل عندهم الأفعال ثلاثة، لكن باعتبار الواقع هي ثلاثة، لأنه موجود في لغة العرب كم وكم من الأفعال الماضية أو المضارع أو الأمر في القرآن والسنة، إذاً يثبتون فعل الأمر لكن يقولون: الأمر ليس فعلا مستقلاً بذاته، لم تضع العرب القسمة ثلاثية ابتداءًا بل وضعت القسمة ثنائية: الماضي، والمضارع، وفعل الأمر مقتطع ومشتق ومأخوذ من الفعل المضارع المجزوم الذي دخلت عليه لام الأمر، فهو عندهم معربٌ بلام الأمر مقدرة، فأصل افعل لتفعل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، ولَمَّا كان أمر المخاطب أكثر على ألسنتهم استثقلوا مجيء اللام فيه فحذفت اللام طلبًا للتخفيف مع كثرة الاستعمال وبقي عملها -وهذا محل إشكال عندهم وهو دليلُ ردِّ هذا القول- فاشتبه فعل الأمر بالفعل المضارع، فأسقط حرف المضارعة، فحينئذ صار الحرف الذي بعد حرف المضارعة ساكناً، فاجتلب همزة الوصل للتمكن من الابتداء بالساكن، فالتقى ساكنان الهمزة وما بعده، فكسرت الهمزة على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، فقيل: افعل، إذاً افعل ليس مستقلاً وإنما مقتطع من لتفعل، والأصل لتفعل، مأخوذ من ليفعل

لأن الغالب أن لام الأمر تدخل على الفعل المضارع الغائب ((* لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ (7))) [الطلاق:7] وأقل منه أن تدخل على الفعل المضارع المخاطب، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: لتأخذوا مصافكم، وقوله تعالى: ((((((((((((((فَلْيَفْرَحُوا (58))) [يونس:58] وقرئ فلتفرحوا بالتاء، وإن كان الأكثر والأشهر ليفعل، لكن لا يستطيعون أن يقولوا: إن أصل الأمر ليفعل ويقتطع منه، لأن افعل فاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، وليفعل هذا لا يمكن أن يكون الفاعل فيه ضمير مستتر تقديره أنت، فقالوا إذاً هو مقتطع من لتفعل. والأرجح أيضاً - استطراداً - أنه يصح أن يأمر نفسه، فيقول: لأفعل ولنفعل ومنه حديث: قوموا فلأصل لكم، ومنه ((وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ (12))) [العنكبوت:12] وكثير من النحاة ينكرون دخول لام الأمر على الفعل المضارع المبدوء بحرف دالٍ على المتكلم وهو الهمزة أو النون، والصحيح جوازه لثبوته في القرآن. إذاً دخلت لام الأمر على الفعل المضارع حينئذٍ حكموا بأن فعل الأمر مجزوم، فهو معرب، فحينئذٍ يكون مجزوماً على ما يجزم به مضارعه، والأصح أن فعل الأمر مبني؛ لأن الأصل في الأفعال البناء، وإذا كانت العلة مشكوكًا فيها، فحينئذ نقول: اليقين لا يزول بالشك فيبقى الأصل أنه مبني، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يرد دليل ناقل، فالصحيح كما ذكرنا أن فعل الأمر مبني، والقول بأنه مجزوم بلام الأمر ضعيف، لأن إعمال حرف الجزم محذوفاً كإعمال حرف الجر محذوفًا، وسبق أن الكوفيين

يتساهلون في إعمال الحروف، ولذلك يجوزون إعمالها محذوفة، والأصح أنه لا يصح أن يَعمل الحرف محذوفاً لأنه ضعيف، لأن العمل أَصل في الأفعال، وإعمال الحرف فرعٌ، فهو ضعيف فلا يعمل إلا ظاهراً، وكذلك لام الأمر هي حرف يعمل الجزم، فحينئذ نقول: تعمل ظاهرة لأن إعمالها وهي ظاهرة ضعيف، لأنها حرف، والأصل في الحرف أن لا يعمل، فكيف إذا حذفت؟! فمن باب أولى أنه أشد ضعفًا. هذا وجه إبطال مذهب الكوفيين. وابن هشام - رحمه الله - في مغني اللبيب اختار مذهب الكوفيين قال: وبقولهم أقول - لكنه في الأوضح والشذور وسائر كتبه رد مذهب الكوفيين، إذاً عرفنا أنه مبني فله أحوال أربعة: أولاً: البناء على السكون، وذلك إذا كان صحيح الآخر، ولم يتصل به ألف الاثنين ولا واو الجماعة ولا ياء المؤنثة المخاطبة يعني ليس من الأمثلة الخمسة، ولو اتصل به نون الإناث؛ لأن نون الإناث يبنى معها على السكون، فتقول: اضرب يا زيد، فاضرب: فعل أمر مبني على السكون، لأنه صحيح الآخر، وبني لأنه الأَصل، وما جاء على الأصل لا يسأل عنه، سواء كان هذا البناء على السكون ظاهراً أو مقدراً، نحو قوله تعالى: ((* قُمِ اللَّيْلَ (2))) [المزمل:2] فقم: فعل أمر مبني على سكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت. ونحو: يا هندات اضربن أولادكن، فاضربْنَ: اضرب فعل أمر مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث

- ولا تقل نون النسوة بل نون الإناث، ولذلك ابن مالك يعبر بنون الإناث لأنها أعم، نون النسوة تختص بالعقلاء، ونون الإناث تعم العقلاء وغير العقلاء، تقول: النوق يسرحْنَ، يسرحن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث لا يصح أن تقول هنا نون النسوة؛ لأن مرجع الضمير النوق وهي ليست بنسوة حينئذٍ تقول: نون الإناث. ثانيًا: البناء على الفتح، وذلك إذا اتصل بفعل الأمر نون التوكيد خفيفة كانت أو ثقيلة، نحو: اضربنَّ: فهو فعل أمر مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ثالثًا: البناء على حذف حرف العلة، وذلك إذا كان معتل الآخر، تقول: اخشَ يا زيد، اخشَ: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الألف، وارم يا زيد، ارم: فعل أمرٍ مبني على حذف حرف العلة، وهو الياء، لأنه معتل الآخر، وادعُ يا زيد، ادعُ فعل أمرٍ مبني على حذف حرف العلة، وهو الواو، قال في ملحة الإعراب: وَإِنْ أَمَرْتَ مِنْ سَعَى وَمِنْ غَدَا ... فَأَسْقِطِ الحَرْفَ الأَخِيرَ أَبَدَا تَقُولُ يَا زَيْدُ اغْدُ فِي يَوْمِ الأَحَدْ ... وَاسْعَ إِلَى الخَيْرَاتِ لُقِّيتَ الرَّشَدْ وَهَكَذَا قَوْلُكَ فِي ارْمِ مِنْ رَمَى ... فَاحْذُ ... عَلَى ذَلِكَ فِي مَا اسْتَبْهَمَا

رابعًا: البناء على حذف النون، وذلك إذا كان الفعل مسنداً إلى ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة، نحو: اضربا يا زيدان، اضربا: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والألف ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، واضربوا يا زيدون، اضربوا: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، واضربي يا هند، اضربي: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. إذاً أربعة أحوال لفعل الأمر: 1 - أن يكون مبنياً على السكون. 2 - أن يكون مبنياً على الفتح. 3 - أن يكون مبنياً على حذف حرف العلة. 4 - أن يكون مبنياً على حذف النون. وبعض النحاة يقول: الأمر مبني على ما يجزم به مضارعه، فالعبرة بالفعل المضارع فتنظر إليه فحينئذ يكون الأمر مبنياً على ما يجزم به مضارعه، لكن هذه قاعدة مع شهرتها مدخولة، وقد بينت ذلك في شرح الملحة فليرجع إليه. ثم قال: ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ ... إِحْدَى زَوَائِدِ نَأَيْتُ فَادْرِهِ شرع في بيان النوع الثالث من أنواع الفعل فقال: [ثُمَّ المُضَارِعُ] ثم للترتيب الذكري، وليست على بابها يعني ليس ثَمَّ تراخٍ بين الفعل المضارع وغيره، إذ كيف يقول ومضارع علا ثم بعد ذلك

يذكر أنه متراخٍ عن الفعل الماضي والأمر؟! [ثُمَّ المُضَارِعُ] أي ثم الفعل المضارع وهو ما دل على حدث مقترن بأحد زماني الحال والاستقبال، وإن شئت قل: ما دل على حدث يقع في زمان التكلم أو بعده، على قول الجمهور أن مدلول الزمن في الفعل المضارع الحال والاستقبال معاً، إذاً يدل على زمنين الحال والاستقبال حقيقة، ولكن الصواب أنه يدل على الحال حقيقة، وعلى المستقبل مجازاً كما نصَّ على ذلك الرضي ورجحه السيوطي في همع الهوامع، لأن الاستقبال لا يُعدل إليه إلا بقرينة كسوف أو السين أو غداً ونحو ذلك، تقول: زيدٌ يصلي غداً أو يسافر غداً، غداً هو اللفظ الذي صرف الفعل عن دلالته من الحال إلى الاستقبال، وحينئذٍ ما احتاج إلى قرينة فرعٌ عما لا يحتاج إلى قرينة، وهذا ضابط المجاز، حينئذٍ نقول: هو حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال. ثم بعد أن عرفنا حد المضارع، أراد أن يميز لك المضارع بعلامة، وإن كان قد ذكر له علامة فيما سبق وهي السين وسوف وهاتان علامتان خاصتان بالمضارع، وابن مالك يخصه بلم كما قال: فِعْلٌ مُضَارِعٌ يَلِي لَمْ كَيَشَمْ لأنه لا ينفك عن لم، لا يوجد مضارع إلا وهو صالح لدخول لم عليه، لكن هنا ميَّزه بعلامة أخرى، وهي كون صدره أي أوله مشتملاً على أحد الحروف المجموعة في قولك: نأيت، فإذا وجد في أول الفعل الهمزة أو النون أو الياء أو التاء، حكمنا عليه بأنه مضارع. واختلف النحاة

هل هذه الأحرف الأربعة تصلح أن تكون علامة للفعل المضارع أولا؟ وسبب الخلاف وجودها في الفعل الماضي، نحو: أكل وأخذ وأمر ونفع ونقم ونعس وينع ويفع ويئس وتجر وتبع وتخذ ويرْنأ وتعلم، فوجدت هذه الحروف في الفعل الماضي، فحينئذ كيف تكون هذه الأحرف الأربعة علامة على الفعل المضارع؟! والجواب: أنه ليس مطلق هذه الحروف علامة على الفعل المضارع، وإنما صارت علماً بالغلبة على أحرفٍ زيدت على الفعل المضارع لمعانٍ خاصة بها، إذاً ليس مطلق الهمزة تكون علامة على الفعل المضارع بل همزة مقيدة بكونها زائدة، ودالة على معنى - كما سيأتي- إذاً يصحُّ أن يجعل من علامات الفعل المضارع دخول حرف من حروف نأيت، وابن هشام ذكر هذه الأحرف في شرح قطر الندى ثم قال: لم أذكر هذه الأحرف لأميز الفعل المضارع وإنما لأذكر حكمها، وهذا خلاف الصواب بل الصواب أنها مما يميز الفعل المضارع بها، بل هي أولى من لم، فتمييز الفعل المضارع بالهمزة أو النون أو الياء أو التاء أولى من تمييزه بما ميز به ابن مالك وتبعه ابن هشام في قطر الندى وغيره، حيث قال: فعل مضارع يلي لم كيشم، لأنه قد يوجد الفعل المضارع دون لم، نحو: يضرب زيدٌ عمراً وُجد الفعل المضارع دون لم، إذاً ينفك الفعل المضارع عن لم، لكن لا يمكن أن ينفك عن هذه الأحرف، إذاً تمييز الفعل المضارع بما لا ينفك عنه مطلقاً أولى من تمييزه بما ينفك في بعض الأحوال، لأن الفعل المضارع ليس دائماً مجزوماً بلم، فقد يدخل عليه بعض أدوات

النصب، وقد يكون عارياً عن النوعين مع اتصال إحدى الحروف الزائدة به، فحينئذ نقول: لاتصالها بالفعل وعدم انفكاكها عنه مطلقاً، فالتمييز بها أولى مما ميز به ابن مالك وابن هشام الفعل المضارع، وأيضاً لم غير متصلة بالفعل، تقول: لم يقم، فهاتان كلمتان، أما الفعل يقوم فقد صار كالكلمة الواحدة بدليل تخطي العامل لحرف المضارعة، لأن أحرف نأيت من حروف المعاني، لا من حروف المباني، وحرف المعنى كلمة مستقلة، وإذا كان حرف معنى فيقوم ويضرب مؤلف من كلمتين - الكلمة الأولى هي حرف المضارعة، والكلمة الثانية هي الفعل - وإذا قلت: لم يقم، دخلت لم على الكلمة الثانية بدليل الجزم، لأن الفعل مجزوم بلم، وجزمه الذي هو السكون ظهر في آخره، والحرف لا يدخل على الحرف، وإنما يدخل على الاسم حرف مختص بالاسم، ويدخل على الفعل حرف مختص بالفعل، وقد يكون الحرف مشتركا بينهما، وهنا الحرف لم دخل على فعل، وأما الياء حرف المضارعة قالوا: نزلت منزلة الجزء من الكلمة، كأنها حرف مبنى، بدليل تخطي العامل لها فجزم الفعل المضارع. [ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ] الظرفية هنا غير مرادة، ولذلك قال العشماوي: إن حذف الحرف في أولى؛ إذ لا معنى للظرفية هنا، [ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ] أي في أوله، والضمير يعود إلى المضارع أي أول حرف من الفعل المضارع [إِحْدَى زَوَائِدِ نَأَيْتُ فَادْرِهِ] يعني فاعلمه، فالدراية هنا بمعنى العلم، لأن درى يأتي

بمعنى علم، وزوائد جمع زائدة، سميت زوائد لأن حروف المضارعة تزاد على الفعل الماضي، يقال: ضرب هذا فعل ماضٍ، إذا أردت المضارع تأتي بحرف من أحرف أنيت، فتزيده على الفعل الماضي، فتقول: أَضربُ، أو يضرب أو نضرب أو تضرب، إذاً سميت زوائد لكونها تزاد في أول الفعل الماضي، لأن الفعل المضارع وإن كان مستقلاً برأسه أصلاً؛ إلا أنه عند الاشتقاق يؤخذ من الماضي، فيزاد عليه حرف من أحرف أنيت، قوله: [إِحْدَى زَوَائِدِ نَأَيْتُ] حكم عليها بأنها زائدة، إذاً لو كانت أصلية حينئذٍ لا يكون الفعل مضارعاً، نحو: أكل في أوله حرف من أحرف أنيت، وأكل فعل ماض لا مضارع لأن الهمزة أصلية، وإنما نحكم عليه بأنه فعل مضارع إذا كانت زائدة بشرطها، ومثله أخذ وأمر فالهمزة أصلية، ونفع ونقم ونعس فالنون أصلية، ويفع وينع ويئس فالياء أصلية، وتبع وتجر وتخذ فالتاء أصلية، فهذه كلها مبدؤة بأحرف نأيت إلا أنها أصلية، فهي جزء من الكلمة أي حرف مبنى، وهي فاء الكلمة، حينئذٍ لا نحكم عليه بأنه فعل مضارع، لأن الشرط الأول في كون هذه الحروف علامة على مضارعية الفعل كونها زائدة وهذه أصلية. والشرط الثاني الذي يتحقق به كون هذه الأحرف علامة على المضارع كونها دالةً على معانٍ خاصة، فالهمزة تدل على المتكلم سواء كان مذكراً أو مؤنثًا، نحو: أضربُ يكون الفاعل مذكراً، وأضربُ ويكون الفاعل مؤنثاً. والنون للمتكلم ومعه غيره أو المعظم نفسه

حقيقة أو ادعاءاً، نحو: نضرب، فالنون للمتكلم ومعه غيره فليست للمتكلم وحده، أو تكون معظِّماً لنفسك فتقول: نكتب، ونفعل، ونأمر ونحو ذلك، ويكون الكاتب والفاعل والآمر واحدًا، وقد يكون حقيقة كأن يصدر من كبير يقول: نكتب ونفتى ونحو ذلك. وقد يكون ادعاءاً، مثلوا لذلك بقول فرعون: ((أَلَمْنُرَبِّكَ فِينَا (18))) [الشعراء:18] فنربك بالنون وهو يعظم نفسه، لكنه حقير، فلذلك نقول هنا التعظيم ادعاءاً يعني لا واقع له. والياء للغائب مطلقاً يعني سواء كان مفرداً أو مثنى أو جمعاً وكذا الغائبات، نحو: زيدٌ يضرب، والزيدان يضربان، والزيدون يضربون، والهندات يضربن. والتاء للمخاطب سواء كان مفرداً أو مثنىً أو جمعاً، أو غائبة، أو غائبتين، نحو: أنت تضرب يا زيدُ، وأنتما يا هندان تضربان، وأنتما يا زيدان تضربان، وأنتم يا زيدون تضربون، وهند تضرب، والهندان تكتبان، إذاً لا بد من شرط الزيادة، ولا بد من شرط الدلالة على معنى خاص، ولذلك نأيت صارت علماً بالغلبة على ما جمع شيئين اثنين: الزيادة مع الدلالة على المعاني الخاصة، فإذا أطلق اللفظ انصرف إلى المعنى الخاص فصار حقيقة عرفية. و [نَأَيْتُ] بمعنى بَعُدْت، وتجمع أيضاً على أنيت، ونأتي، وأتينا، أربع كلمات، وأنيت بمعنى أدركت وهذا مرجح عندهم، لأن فيه تفاؤلا بمعنى أنك أدركت العلم، [فَادْرِهِ] أي فادر هذا الحكم، وهو أن المضارع يميز عن قسميه بإحدى زوائد نأيت مع الشرط الذي ذكرناه، فإن لم تكن هذه الحروف زائدة بل كانت من أصل الفعل فهو فعل ماضٍ،

أو كانت زائدة ولكنها لا تدل على معنىً خاص كأكرم فالهمزة فيه زائدة لكنه ليس بفعل مضارع لأن شرط الهمزة مع كونها زائدة أن تدل على معنى خاص، وهو التكلم ذكراً كان أو أنثى، وأكرم تدل على معنى التعدية، فلها معنى؛ لكنه ليس هو المعنى الخاص الذي وضع له أنيت. ثم لما بيَّن الفعل المضارع من حيث تمييزه عن أخويه الماضي والأمر، شرع في بيان حكمه فقال: وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ إِذَا يُجَرَّدُ ... مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسْعَدُ [وَحُكْمُهُ] والحكم هنا يترتب على أحرف أنيت، وعلى آخره، فله حكمان: حكم باعتبار أوله، وحكم باعتبار آخره، أما الحكم الأول: فقد عرفنا أن هذه الأحرف حروف معنى، وأنها زوائد، والأصل فيه أنه مبني، والأصل في المبني أنه ساكن، والابتداء بالساكن متعذر، فحينئذٍ لا بد من تحريكه ليبتدأ به، فقالوا: له ضابط باستقراء كلام العرب، وهو أن النظر إلى الفعل الماضي فإن كان رباعياً أصولاً أو بالزيادة فحينئذ الحرف الذي يزاد عليه ليكون مضارعاً يُضم، وما عداه يفتح، فتقول: أُكرِمُ ونُكرم ويُكرم وتُكرم، لأن أصله أَكرَمَ - على أربعة أحرف ولو كان أحد الحروف زائداً - فإذا جئت بالمضارع وزدت عليه حرفًا من أحرف نأيت تضمه مطلقاً سواء كان همزة أو نوناً أو ياءاً أو تاءاً. ودحرج ماضٍ رباعي، وكلها أصول، فتقول: أُدحرج ونُدحرج ويُدحرج وتُدحرج بضم حرف المضارعة مطلقا، وما عدا الرباعي فحكمه فتح حرف

المضارعة منه، فتقول: ذهب - وهذا ثلاثي - أََذهبُ ونَذهب ويَذهب وتَذهب بفتح حرف المضارعة، وانطلق -وهذا خماسي- أَنطلِقُ ويَنطلق وتَنطلق ويَنطلق بفتح حرف المضارعة، واستخرج -وهذا سداسي- أَستخرِجُ ويَستخرج وتَستخرج ونَستخرج بفتح حرف المضارعة. نظم هذه القاعدة الحريري في الملحة فقال: وَضُمَّهَا مِنْ أَصْلِهَا الرُّبَاعِي مِثْلُ يُجِيبُ مِنْ أَجَابَ الدَّاعِي وَمَا سِوَاهُ فَهِيَ مِنْهُ تُفْتَتَحْ ... وَلاَ تُبَلْ أَخَفَّ وَزْنًا أَمْ رَجَحْ مِثَالُهُ يَذْهَبُ زَيْدٌ وَيَجِي ... وَيَسْتَجِيشٌ تَارَةً وَيَلْتَجِي أما حكمه باعتبار آخره فقال: وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ إِذَا يُجَرَّدُ مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسْعَدُ [وَحُكْمُهُ] أي حكم الفعل المضارع [الرَّفْعُ] لأن الأًصل في الفعل المضارع الإعراب، فهو معرب، وقد ذكرنا علة إعرابه فيما سبق، [وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ] يعني يكون مرفوعاً بحركة أو حرفٍ، نحو: يقوم زيدٌ، يقوم: فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة، رُفع بحركة، والزيدان يقومان، يقومان: فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون، رُفع بحرف، والحركة ظاهرة أو مقدرة، فالظاهرة كالمثال السابق، والمقدرة كيخشى، ويدعو، ويرمي، والحرف قد يكون ظاهرًا أو مقدرًا، فالظاهر كالمثال السابق، والمقدر نحو: لتبلونَّ، فعلامة الرفع النون وهي حرف، لكنها مقدرة لأنها حذفت لكراهة توالي الأمثال، توالت ثلاث نونات فحذفت نون الرفع،

لتبلونَّ هذه نون التوكيد الثقيلة وهي عبارة عن نونين مع نون الرفع اجتمع عندنا ثلاث نونات، فحذفت نون الرفع دفعاً لتوالي ثلاث نونات، والعرب تكره توالي الأمثال. وتقول في إعرابه: لتبلونَّ فعل مضارع مرفوع ورفعه النون المحذوفة لدفع توالي الأمثال. قال: [إِذَا يُجَرَّدُ مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ] أي إذا يعرَّى من ناصب وجازم، فإذا لم يتقدم عليه ناصب أو جازم فهو مرفوع، والعامل فيه على الأصح عامل معنوي، وهو تجرده عن الناصب والجازم، نحو: يقوم زيد، يقوم فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، لأن الفعل المعرَب إما أن يتقدم عليه جازم فيقتضي جزمه، وإما أن يتقدم عليه ناصب فيقتضي نصبه، وإما أن لا يتقدم عليه جازم ولا ناصب فيقتضي رفعه، وهذا هو العامل، وهو عامل معنوي لأنه لاحظ للسان فيه، وهذا هو الأصح وفيه أقوالٌ أخرى. [كَتَسْعَدُ] أي وذلك كتسعد، أي كقولك تسعد، أو مثل تسعد هند، أو تسعد أنت يا زيد، فتسعدُ: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. الفعل المضارع له حالان: حال يعرب فيها وسبق بيانها، وحال يبنى فيها، وذلك إذا اتصل به نون الإناث، فيبنى حينئذ على السكون، كقوله تعالى: ((وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ) [البقرة:233] يرضعن: فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل، ولم يكن معرباً مع اتصاله بنون الإناث لأن المشابهة في باب الإعراب

وفي البناء وفي المنع من الصرف، مقيدة بأن لا يقترن بالفعل ما يبعده ويضعف شبهه بالمشبه به، لأن نون الإناث هذه تختص بالفعل، ولما أشبه الفعل المضارع الاسم فيما ذكرناه من وجه الشبه نقيده بما لم يتصل به ما هو من خصائص الأفعال، فإن اتصل به ما هو من خصائص الأفعال كنون الإناث - فإنها خاصة بالفعل - حينئذ نقول: ضعُف الشبه، فلما ضعف الشبه عاد إلى أصله وهو البناء. ويبنى على الفتح فيما إذا اتصل بالفعل المضارع نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة: ((* كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ (4))) [الهمزة:4] لينبذن: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. إذاً الفعل المضارع له حالان: حال يبنى فيها: إما على السكون وذلك إذا اتصل به نون الإناث، وإما على الفتح وذلك إذا اتصل به نون التوكيد المباشرة، وحال يعرب فيها وإعرابه إما أن يكون بالنصب إذا تقدمه ناصب، أو بالجزم إذا تقدمه جازم، أو بالرفع إذا لم يتقدم عليه ناصب ولا جازم. وإنما لم يذكر الناظم حالة البناء؛ لأنه لم يذكر البناء أصلاً، لأنه عنون للإعراب فقط، ومعلوم أن مبحث النحاة في البناء والإعراب، لأننا نبحث في الكلمات العربية من حيث الإعراب والبناء، أو تركه تبعًا للأصل، أو اختصارًا واكتفاءً، أو لأن البناء فيه نوع صعوبة على المبتدئ، أو لأن الأصل والأكثر الإعراب، والبناء قليل باعتبار الإعراب، وهو الذي تتبين به المعاني المختلفة، بخلاف البناء فإن أعرب يكون إعرابه محليًا، والإعراب المحلي لا يميز

باب نواصب المضارع

الكلمة من حيث هي، وإنما ينظر إليها من حيث متعلقاتها فإذا قيل: قالت حذامِ، تعرف أن حذامِ فاعل، ولا وجود للضمة التي هي الإعراب، فليست هي مثل جاء زيدٌ، فهذا فاعل والضمة هي الإعراب، لكن قالت حذامِ تعرف من حيث إسناد الفعل إلى ما بعده وأنه يطلب فاعلاً، فتحكم على حذامِ بأنه فاعل. ولما قال الناظم [مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ] أبهم الناصب والجازم، والطالب النحوي المبتدئ لا يحكم على الفعل المضارع أنه مجرد من ناصب وهو لا يعلم النواصب، فحينئذٍ يرد السؤال ما هي النواصب؟ ومتى نحكم على الفعل المضارع بأنه منصوب؟ إذًا يكون قوله: باب نواصب المضارع جوابًا لسؤال لأنه أبهم في الأول، قال: [مِنْ نَاصِبٍ] فما هي النواصب التي إذا انتفت مع الجوازم حكمنا على الفعل المضارع أنه معرب لتجرده عن الناصب والجازم. ثم الحالة الثانية التي يكون الفعل معربًا فيها هي النصب، فيرفع وينصب ويجزم لأن المعرب من الأفعال هو الفعل مضارع وله أحوال ثلاثة: الرفع والنصب والجزم عرفنا الرفع، ويرد السؤال متى نحكم عليه بأنه منصوب؟ قال الناظم رحمه الله: بَابُ نَوَاصِبِ المُضَارِعِ أي هذا باب بيان نواصب المضارع، والنواصب جمع ناصب، وحينئذٍ يؤول بمعنى لفظ ناصب، أو جمع ناصبة بمعنى كلمة ناصبة، فيجوز الوجهان؛ خلافًا للعشماوي حيث جوَّز الأول ومنع الثاني. وقوله: [المُضَارِعِ] ليس للاحتراز، لأنه ليس هناك فعل يُنصب غير الفعل

المضارع، حينئذٍ يكون القيد لبيان الواقع. [بَابُ نَوَاصِبِ المُضَارِعِ] هذا الباب سيذكر فيه المصنف النواصب التي إذا وُجِد واحد منها حكمنا على الفعل المضارع بأنه منصوب، ونصبه يكون بحركة أو حذف حرف. مثاله: لن ندعوَ، أن يغفرَ لي فهذا منصوب بحركة، وقد يكون منصوبًا بحذف النون وهذا فيما إذا كان من الأمثلة الخمسة، نحو: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} (البقرة:24) تفعلوا: فعل مضارع منصوب بلن ونصبه حذف النون، لأنه من الأمثلة الخمسة. وَنَصْبُهُ بِأَنْ وَلَنْ إِذَنْ وَكَيْ ... وَلاَمِ كَيْ لاَمِ الجُحُودِ يَا أُخَيْ كَذَاكَ حَتَّى وَالجَوَابُ بِالفَا ... وَالوَاوِ ثُمَّ أَوْ رُزِقْتَ اللُّطْفَا هذه النواصب عند المصنف ذكرها متتابعة، ولم يفصل بينها؛ لأنه تَبَعٌ لابن آجروم وهو كوفي؛ وعند الكوفيين أن النواصب تنصب بنفسها فأن ولن وإذن وكي ولام الجحود ولام كي وحتى والجواب بالفاء والواو وأو، كل أداة من هذه الأدوات المذكورة إذا دخلت على الفعل المضارع نصبته بنفسها على مذهب الكوفيين، وعلى مذهب البصريين أن النواصب التي تنصب بنفسها لا بواسطة أربعة فقط، وهي المذكورة في قوله: [بِأَنْ وَلَنْ إِذَنْ وَكَيْ] وما عدا ذلك فالنصب يكون بأن مضمرة إما وجوبًا وإما جوازًا. وكل ما ذكر من النواصب عند الكوفيين ما عدا تلك الأربعة فالنصب يكون بأن مقدرة بعدها. [وَنَصْبُهُ] أي الفعل المضارع [نَصْبُ] هذا مصدر أضيف إلى الضمير، ومرجع الضمير هو الفعل المضارع،

والفعل المضارع مضاف إليه لأن باب مضاف، ونواصب مضاف إليه، ونواصب مضاف والمضارع مضاف إليه، إذًا عاد الضمير على المضاف إليه وهذا جائز على الصحيح، وإن منع كثير من النحاة عود الضمير على المضاف إليه، لأن المضاف والمضاف إليه كالجزء الواحد أو كالكلمة الواحدة حينئذٍ لا يجوز عود الضمير على بعض الكلمة كما أنه لا يجوز عود الضمير على دال زيد، كذلك ما نُزِّل منزلة الكلمة لا يجوز أن يعود الضمير على بعضها دونها كلها فقالوا: يجب عود الضمير إلى المضاف ولا يجوز عوده إلى المضاف إليه، والصواب جوازه، فيجوز عود الضمير إلى المضاف إليه وقد ورد في القرآن في غير ما موضع. [وَنَصْبُهُ بِأَنْ] [بِأَنْ] جار ومجرور متعلق بقوله: [وَنَصْبُهُ] أي الفعل المضارع [بِأَنْ] الباء حرف جر، وأن في الأصل حرف، فدخل عليها حرف الجر، وحروف الجر من علامات الأسماء، وأن حرف، فكيف دخل الحرف على الحرف؟ نقول: قُصِد لفظها فصارت علمًا، فهي حرف في موضعها يعني فيما إذا أُدِّي بها معنى، وذلك إذا رُكِّبت في جملة مفيدة، أما في مثل هذه المواضع كالإخبار عنها أو الإخبار بها حينئذٍ تكون علمًا. وحينئذٍ لا إشكال. كذلك نقول: زيد فاعل مرفوع بضرب، وضرب فعل ماض، والباء حرف جر وهو من علامات الأسماء، نقول: ضرب هنا في هذا التركيب صار علمًا على ضرب الذي يكون في الجملة مرادا به معناه. والقاعدة العامة نقول: نحكم على الفعل أو الحرف بأنها أفعال وليست بأسماء أو حروف إذا ما استعملت في جملة مفيدة

حينئذٍ أريد بها معناها. وإذا أخبر عنها أو بها حينئذٍ قصد لفظها لا معناها. ولذلك قال ابن مالك رحمه الله في الكافية: وَإِنْ نَسَبْتَ لِأَدَاةٍ حُكْمَا ... فَاحْكِ أَوِ اعْرِبْ وَاجْعَلَنْهَا اسْمَا نقول في إعراب جملة ضرب فعلٌ ماضٍ: ضرب مبتدأ، ويجوز فيه ثلاثة أوجه: ضربَ على الحكاية، وضربُ معربًا مع المنع من الصرف، وضربٌ معربًا مع الصرف. ونقول أيضًا: مِنْ حرف جر، فمن مبتدأ، ويجوز فيها ثلاثة أوجه: مِنْ على الحكاية، ومِنُ معربةً مع المنع من الصرف، ومِنٌ معربة مع الصرف. [بِأَنْ] المصدرية مفتوحة الهمزة ساكنة النون، فخرجت إنْ النافية، والزائدة، وأنْ المخففة من الثقيلة. وتسمى المصدرية أم الباب، لأنها تعمل ظاهرة ومضمرة، وما عداها لا تعمل إلا ظاهرة. وهكذا كل حرف يُتصرف فيه في بابه، يقال فيه: أم الباب. وسميت مصدرية لأنها تؤول مع ما بعدها بمصدر، تؤول أي تفسر، والتأويل هو التفسير، فيصح أن تأتي بمصدر محل أنْ ومدخولها الفعل المضارع، نحو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} (الحديد:16) نقول: أَنْ تَخْشَعَ أن حرفٌ مصدريٌّ لأنها تؤول مع ما بعدها بمصدر، وهو تخشع، فحينئذٍ يحل محلها مصدر تخشع وهو الخشوع، فيقدر: ألم يأن للذين آمنوا خشوع قلوبهم، وهو فاعل يأن، وقد يكون مبتدأ كما في نحو: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة:184) وقد يكون مفعولا به كما في نحو: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}

(النساء:28).إذًا أُوِّلت بمصدر، وما بعدها يكون منصوبًا بها، ومتى نحكم على أَنْ بأنها مصدرية؟ يقول النحاة: يشترط في أن لأن تكون مصدرية ألا يسبقها علم ولا ظن، سواء كان العلم من مادة العلم ونحوه، أو الظن كان من مادة الظن ونحوه، فلا يشترط لفظ العلم بل كل ما دل على اليقين، ولا يشترط لفظ الظن بل كل ما دل على الظن، فحينئذٍ إذا لم تُسبق بعلم ولا ظن تعيَّن أن تكون مصدرية مثل قوله: {أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} (الشعراء:82) يغفر: فعل مضارع منصوب بأن، وأن مصدرية قطعًا لأنها لم تسبق بعلم ولا بظن، يعني لم يسبقها في السياق الذي قبلها ما يدل على اليقين أو الظن، فتعين أن تكون ناصبة بنفسها والفعل بعدها منصوب بها. ونحو: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} (يوسف:13) تذهبوا: فعل مضارع منصوب بأن، وأن هذه مصدرية قطعًا لأنها لم تسبق بعلم ولا بظن. فإن سبقت بعلم نحو: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (المزمل:20) تعين أن تكون مخففة من الثقيلة، إنَّ، وأنَّ الناصبتان قد تحذف إحدى النونين للتخفيف فيقال إنْ وأنْ، قال ابن مالك: وَإِنْ تُخَفَّْف أَنَّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ ... وَالخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ أَنْ فحينئذٍ نحكم قطعًا بأنها ليست المصدرية، ويجب رفع الفعل المضارع بعدها. وأما إذا سبقت بظن أو ما يدل على الظن فوجهان: يجوز النصب، ويجوز الرفع. فإذا رفعت الفعل المضارع فأنْ حينئذٍ

تكون مخففة من الثقيلة، وإذا نصبت المضارع فأن حينئذٍ تكون مصدرية. إذًا نخلص من هذا أن أنْ باعتبار ما قبلها لها ثلاثة أحوال: إما أن يُقطع بأنها مصدرية، وليست مخففة من الثقيلة، وإما يُقطع بأنها ليست مصدرية بل مخففة من الثقيلة، وإما أن نجوز الوجهين فتكون محتملة للوجهين. وقرئ بالوجهين {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (المائدة:71) وحسبوا بمعنى ظن، فيجوز في المضارع بعدها الوجهان: الرفع على أنَّ أنْ مخففة من الثقيلة, والنصب على أنَّ أن مصدرية. ولكن الأرجح فيما إذا سبقت بظن النصب؛ لأنه موافق للقياس، ولأنه الأكثر في كلام العرب، لذلك قال ابن هشام: أجمعوا على النصب في قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} (العنكبوت:1 - 2) أجمع القراء على النصب مع أنها سبقت بما يدل على الظن، واختلفوا في قوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فما أجمعوا عليه أولى وأرجح مما اختلفوا فيه، فحينئذٍ ما وقع فيه الخلاف يرجح بما أجمعوا عليه، ولكن القراءة سنة متبعة. فيقرأ بهذا، ويقرأ بهذا، ولا يُنكر هذا على ذاك. أما في الكلام فالأفصح أن تأتي به منصوبًا لأنه الأكثر في كلام العرب، والموافق للقياس. [وَلَنْ] هذا هو الحرف الثاني الذي ينصب الفعل المضارع بنفسه، وهي تعمل ظاهرة. [وَلَنْ] بفتح اللام وسكون النون، وهي بسيطة، وقيل: مركبة وأصلها لا أَنْ -كما هو مذهب الخليل - حُذفت الهمزة تخفيفًا للتخلص من التقاء الساكنين. وقيل: أصلها لا فقلبت الألف نونًا وهو مذهب الفرَّاء.

والأصح الأول أنها بسيطة وليست مركبة. وهي حرف نفي، ونصب واستقبال مثل أنَّ حرف نصب واستقبال، فلن حرف نفي لأنه يدل على نفي وقوع الحدث في الزمن المستقبل، لأن لن تدل على انتفاء الحدث الذي يدل عليه الفعل بعدها، في الزمن المستقبل، فإذا قلت: لن يقوم زيد، دلت لن على نفي القيام عن زيد في الزمن المستقبل، فصرفت الفعل المضارع عن الحال إلى الاستقبال. ومذهب الزمخشري أن لن تفيد التأبيد. والصواب أنها لا تفيد التأبيد ولكن تحتمله، وزاد عليه أنها تأتي للتأكيد. والجواب أنها لا تتعين للتأبيد وإنما محتملة له ولغيره. فإذا قيل: لن أقوم، فهو مثل قولك: لا أقوم، ولا أقوم هذه لا تدل على التأبيد، كذلك لن هي محتملة لئلا يقوم أبدًا، أو لن يحصل منه قيام في الزمن المستقبل، ولذلك رَدَّ بعضهم على الزمخشري بأن لن لو كانت تفيد التأبيد لما صح أن يجمع بينها وبين لفظ أبدًا، كما في قوله: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95) وقوله تعالى: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف:20] فلو كانت لن موضوعة للنفي على جهة التأبيد لما صح الجمع بينها وبين لفظ أبدًا، لأنه يصير من باب التكرار. وأما التأبيد المفهوم من قوله تعالى: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} (الحج:73) فهذا من دليل خارجي، وهو أنهم يعجزون عن الخلق مطلقًا، لا ذبابًا، ولا دونها ولا ما هو فوقها. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) (الحج: من الآية47) فلن هنا للتأبيد لكن ليس من ذات لن، بل من دليل خارج عنها، فإذا قيل: لن لا تقتضي تأبيدًا، لا يُفهم من هذا أنها لا تحتمل التأبيد، بل تحتمله

ضمنا إذا قيل: لن أقوم، وقصد به لن أقوم أبدًا. فلا إشكال حينئذٍ، ولذلك قد يؤكد هذا المعنى إذا جئت بلفظ أبدًا بعد لن حينئذٍ إذا قيل: لن أقوم أبدًا صارت أبدًا معينة للاحتمال الذي تحتمله لن وهو التأبيد. وإعمال لن نحو قوله تعالى: (لَنْ نَبْرَحَ) [طه:91] لن حرف نفي ونصب واستقبال، ونبرح فعل مضارع ناقص منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، واسمه ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن. وقوله تعالى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) [البقرة:55] لن حرف نفي ونصب واستقبال، ونؤمن فعل مضارع منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره. وقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ) [آل عمران:92] تنالوا فعل مضارع منصوب بلن ونصبه حذف النون لأنه من الأمثلة الخمسة. [إِذَنْ] بكسر الهمزة وفتح الذال، وهذا هو الحرف الثالث الذي ينصب الفعل المضارع بنفسه، وهي تعمل ظاهرة. واختلف في إذن هل تكتب النون نونًا أم تكتب ألفًا؟ فيها ثلاثة أقوال: الأول: وهو المشهور أنها تُكتب نونًا فيما إذا أُعملت، وأما إذا أُهملت وأُلغيت كتبت ألفًا. الثاني: أنها تُرسم بالنون مطلقًا وهو قول المبرد. والثالث: أنها ترسم بالألف مطلقًا وهو قول الفراء. والقول الأول وهو التفصيل أحسن وقد رجحه صاحب النحو الوافي. [إِذَنْ] تفيد الجزاء والجواب عند سيبويه، فهي حرف جواب لأنها تقع جوابًا لكلام سابق عليها، فحينئذٍ لا تقع ابتداءً في أول الكلام، لا يأتي إنسان ويبتدئ كلامه ويقول: إذن اليوم كذا، هكذا دون أن تقع في

جواب، هذا خطأ، بل الصواب أنها تقع في جواب، يقول لك قائل: سأزورك غدًا، فتجيبه: إذن أكرمَك، وقعت في جواب كلام سابق عليها، وما بعدها يعتبر جزاءًا، لأنه في مقابلة الكلام السابق لأنه قال سأزورك تقول: إذن - هذه وقعت في الجواب - أكرمَك وهذا هو الجزاء، كأنه في قوة قولك: إن جئتني أَكرمتك، ففيه معنى الجزاء المرتب على إن الشرطية. إذا تقرر أنَّ إذن حرف جزاء وجواب عند سيبويه فهل هي في كل موضع حرف جواب وجزاء أو أنها في الأكثر؟ الظاهر أنها في الأكثر، يعني قد تتمحض للجواب ولا يكون ثَمَّ جزاء. إذا قال قائل: إني أحبُّك فقلت له: إذن أظنُّك صادقًا، هذه للجواب فقط، وليس عندنا جزاء لأن التصديق في الحال، والجزاء في المستقبل، وحينئذٍ فهي تدل على الجواب والجزاء في الأكثر. قال الشلوبين: في كل موضع. وقال الفارسي: في الأكثر، وقد تتمحض للجواب يعني لا يكون ما بعدها جزاءًا لما قبلها بل هي للجواب فقط. [إِذَنْ] لا تعمل مطلقًا، وإنما تتقيد بشروط ثلاثة، إذا وجدت هذه الشروط جاز إعمالها، فحينئذٍ تكون هذه الشروط لجواز إعمالها لا لوجوبه. فأن، ولن يجب إعمالهما ولا يجوز إلغاؤهما، أما إذن فالمعتبر عند البصريين أنه لابد من شروط ثلاثة لكن هل هذه الشروط موجبة للعمل؟ الجواب: لا، لأن عيسى بن عمر حكى أن بعض العرب يُهمِل إذن يعني يرفع الفعل بعدها مع استيفاء الشروط. وشروط نصبها ثلاثة: الأول: أن تكون في صدر الجملة أي في صدر جملة الجواب، فلو تأخرت وجب رفع الفعل الذي يليها، إذا قيل: إني سأزورك غدًا فقال: يا زيد إذن أكرمُك،

وجب رفع الفعل لأنها لم تقع في صدر الكلام. إذن لا تعمل حتى تكون مصدرة. هل يجوز أن تكون إذن تالية لأول الجملة لا في أول الجملة؟ تقول: نعم، يجوز من جهة اللغة أن نقول: يا زيد إذن أكرمُك، لكن لا تنصب الفعل، فالمنع هنا لا من جهة سياق الكلام، وإنما المنع من جهة النصب بها. فإذا قال: يا زيد إذن أكرمُك لا بأس لكن إذا نصب بها تقول أخطأت لأن شرط النصب بإذن أن تكون في صدر الجملة وقد جئت بها ثانيًا، وحينئذٍ وجب إهمالها ولا يجوز نصب المضارع بعدها، فلما نصبت أخطأت لكن لو رفعت أصبت. الشرط الثاني: أن يكون الفعل بعدها مستقبلاً أي دالاً على الاستقبال، فلو كان الفعل الذي يليها بمعنى الحال وجب الرفع، فلو حدثك شخص بحديث، فقلت: إذن تصدقُ وجب الرفع لأن المراد به الحال وليس المستقبل. الشرط الثالث: ألا يفصل بين إذن والفعل فاصل غير القسم. فإن فصل بينهما نحو: إذن يا زيد أكرمُك. إذن يومَ الجمعة أكرمُك وجب الرفع، لكن لو فصل بين إذن ومدخولها بالقسم فلا يؤثر في إعمالها، إذن والله أكرمَك بالنصب. قال الشاعر: إِذَنْ وَاللهِ نَرْمِيَهُمْ بِحَرْبِ ... تُشِيبُ الطِّفْلَ مِنْ قَبْلِ المَشِيبِ سُمِع الفصل بالقسم بين إذن ومدخولها الفعل المضارع مع نصبه، فحينئذٍ يُستثنى القسم لوروده في الشعر. ما عدا ذلك نص ابن هشام في شرح القطر وغيره أنه لا يجوز الفصل به، وإن كان الفصل بالنداء أو بالظرف محل خلاف فأجازه بعضهم ومنعه آخرون.

[وَكَيْ] المصدرية، وهي الحرف الرابع الذي ينصب بنفسه، وهي حرف مصدري، يُؤول مع ما بعده بمصدر، لكن هل كل كي تكون مصدرية؟ الجواب: لا، ومتى تكون كي ناصبة بنفسها؟ نقول: إذا تقدمت عليها اللام لفظًا أو تقديرًا, حينئذٍ تكون كي ناصبة بنفسها، وحرفًا مصدريًا، وإنما تكون كذلك إذا دخلت عليها اللام لفظا نحو قوله جل وعلا: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب:37) لكي لا يكون: فعل مضارع منصوب بكي -وكي نفسها هي التي أحدثت النصب- وهي حرف مصدر ونصب دخلت عليها اللام في اللفظ، فحينئذٍ يتعين أن تكون كي هي عاملة النصب في الفعل المضارع، والفعل المضارع إذا دخل عليه الناصب لا يضر أن يفصل بين المضارع وبين الناصب بحرف نفي، لأن النفي - الذي هو مدلول حرف النفي- صار كالجزء من الفعل، فيتوسع فيه فيكون الناصب قد دخل على الفعل مباشرة ولو وجد بينهما حرف نفي. وقد تكون اللام مقدرة، نحو: جئتك كي تكرمني، فاللام مقدرة، وذلك إذا قدَّر المتكلم أن الأصل جئتك لكي تكرمني، ثم حذف اللام استغناء عنها بنيتها، فحينئذٍ نقول: الناصب كي واللام مقدرة قبل كي، فإذا نوى اللام نقول: صارت كي مصدرية ناصبة بنفسها. وإذا لم يقدر اللام وكان أصل التركيب جئتك كي تكرمني نقول: كي حرف جر، تعليلية بمنزلة لام التعليل، وتكرمني منصوب، والناصب له أن مضمرة بعد كي، فلابد من التقدير؛ لأن كي هنا ليست ناصبة، لأنها حرف جر،

والناصب للفعل أن مضمرة وجوبًا بعد كي. إذن كي تكون مصدرية بالشرط السابق أن تكون اللام ملفوظًا بها أو مقدرة قبل كي، والتقدير يكون بالنية، فالذي يفصل بين هذا وذاك هو النية. وإذا تأخرت اللام نحو: جئتك كي لتكرمني، أو وقع بعدها أن المصدرية، نحو: جئتك كي أن تكرمني، فحينئذٍ يتعين كون كي تعليلية. والحاصل: أن كي لها ثلاثة أحوال: إما أن يتعين أنها ناصبة بنفسها، وإما أن يتعين أنها تعليلية بمنزلة لام التعليل حرف جر، وإما أن تكون محتملة لهما. [وَنَصْبُهُ بِأَنْ وَلَنْ إِذَنْ وَكَيْ] هذه أربعة أدوات متفق على أنها تنصب بنفسها بين البصريين والكوفيين. ثم شرع في بيان ما اختُلف فيه بين البصريين والكوفيين فقال: [وَلاَمِ كَيْ] بالخفض عطفًا على قوله: [بِأَنْ]، قوله: [وَلاَمِ كَيْ] أي لام التعليل، وإنما أضيفت إلى كي لأن كي تخلفها في التعليل، ولأن كلا منهما ينوب عن الآخر، فلام كي هي لام التعليل يعني اللام التي تدل على التعليل، على أن ما قبلها علة لما بعدها، وما بعدها معلول لما قبلها. إذن نقول: لام كي المراد بها لام الجر، سواء كانت للتعليل أو الصيرورة التي هي لام العاقبة، أو زائدة، فالإضافة هنا ليست للتخصيص، وإنما لذكر أشهر ما تكون عليه اللام وهو التعليل، فحينئذٍ يُنصب الفعل المضارع بعد لام كي سواء كانت للتعليل كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل:44) تُبَيِّنَ: فعل مضارع منصوب، دخلت عليه لام كي وهي لام التعليل تدل أن ما

قبلها علة لما بعدها، وإعرابه على مذهب الكوفيين: اللام حرف نصب، تبين: فعل مضارع منصوب باللام لام كي، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة على آخره، لأن هذه الأدوات المذكورة تنصب عند الكوفيين بنفسها. وعند البصريين لا يمكن أن تكون ناصبة بنفسها، لأن هذه اللام تدخل على الاسم فتحدث الجر، ويمتنع حينئذٍ أن تكون داخلة على الفعل فتحدث النصب، لأن كل ما اختص به الاسم من حرفٍ أو غيره يمتنع دخوله على الفعل. فلابد حينئذٍ من التقدير فنقول: تبين: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل. وقد تكون للصيرورة والعاقبة كما في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} (القصص:8) هل التقطوه ليكون لهم عدوًا؟ لا شك لا، لم يكن كذلك. فلم يكن ما بعد اللام معلولاً لما قبل اللام، وإنما التقطوه ليتخذوه ولدًا، لكن ماذا كانت العاقبة أنه صار لهم عدوًا وحزنًا، فحينئذٍ وقع ما بعد اللام اتفاقًا ولم يكن عن قصد وعلة لما قبل اللام، هذه تسمى لام الصيرورة، فالتقطه آل فرعون ليكون: يكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام الصيرورة، وعند الكوفيين منصوب باللام نفسها. والصواب مذهب البصريين. وقد تكون اللام زائدة نحو: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} (الأحزاب:33) لِيُذْهِبَ اللام هذه زائدة، وإن شئت قل: صلة، أو قل: توكيد. قال بعضهم: وَسَمِّ مَا يُزَادُ لَغْوًا اوْ صِلَهْ ... أَوْ قُلْ مُؤَكِّدًا وَكُلٌّ قِيلَ لَهْ

وبعض العلماء لا يجوِّز أن يقال: في القرآن حرف زائد، ومراد من أثبت الزيادة في القرآن أن الحرف الزائد لم يدل على المعنى الذي وضع له في لغة العرب، وإنما استعمل في معنى آخر وهو التوكيد، ولذلك كل حرف حُكم عليه في لغة العرب بالزيادة وأنه لا معنى له أي لا معنى له سوى التوكيد. إذًا اللام مطلقا ينصب الفعل المضارع بها عند الكوفيين، وعند البصريين بأن مضمرة جوازا بعدها. [لاَمِ الجُحُودِ] معطوف على قوله: بأن مع إسقاط العاطف، والجحود مصدر جحد يجحد جحودًا وجحدًا، فله مصدران، والمراد بالجحد أو الجحود النفي مطلقًا، لا خصوص المادة اللغوية لأن الجحد في لغة العرب ليس مطلق النفي، وإنما هو إنكار مع علمٍ، ومنه قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} (النمل:14) عبر بالجحد هنا لأنه إنكار ونفي مع علم بدليل قوله: واستيقنتها أنفسهم، وإن لم يكن كذلك فيعبر عنه بالنفي، وليس المراد هنا بالجحود معناه اللغوي بل المراد بلام الجحود هنا لام النفي، وضابطها أنها المسبوقة بما كان أولم يكن. هذا أحسن ما يقال فيها حتى نحكم على أن هذه اللام لام الجحود، إذا سُبقت بكونٍ ماضٍ منفيٍ يعني ما كان كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (الأنفال:33) ليعذبهم: فعل مضارع دخلت عليه اللام، وهي لام الجحود لأنها سبقت بما كان. وكل لام سبقت بما كان فهي لام الجحود، يعذبهم: فعل مضارع منصوب باللام، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، وهذا على مذهب الكوفيين، لأن اللام ناصبة بنفسها عندهم،

والصحيح أن يقال: يعذبهم: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، كذلك إذا سبقت بما لم يكن قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (النساء:137) ليغفر: فعل مضارع دخلت عليه اللام، وهي لام الجحود لأنها سبقت بلم يكن، وكل لام سبقت بلم يكن فهي لام الجحود. إذًا ينصب الفعل المضارع بعد لام الجحود بأن مضمرة وجوبًا يعني لا يجوز إظهارها، بخلاف ما نصب بأن مضمرة جوازًا فإنه يجوز إضمارها وإظهارها، وإضمارها يعني إخفاؤها لا يُنطق بها. تقول: جئتك لأبين لك فتضمرها، ويصح أن تقول: لأن أبين لك فتظهرها. و [لاَمِ الجُحُودِ] المسبوقة بما كان ولم يكن [يَا أُخَيْ] يا حرف نداء، وأُخي مصغر أخ، منادى منصوب، لأنه مضاف، ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه. [يَا أُخَيْ] أراد به التلطف للطالب. والحاصل أنَّ لأن المصدرية بعد اللام ثلاث حالات: الأولى: وجوب الإضمار، وذلك بعد لام الجحود. والثانية: وجوب الإظهار، وذلك إذا اقترن الفعل بلا. فإذا كان الفعل الذي دخلت عليه اللام مقرونا بلا وجب إظهار أن بعد اللام سواء كانت لا النافية، نحو قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه) [النساء:165] أو زائدة، نحو قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) [الحديد:29] أي ليعلم أهل الكتاب. والثالثة:

جواز الوجهين، نحو قوله تعالى: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:71] ونحو: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) [الزمر:12] [كَذَاكَ حَتَّى] حتى مبتدأ، وهي حرف، ولكن قُصد لفظها فصارت علمًا، كذاك حتى أي مثل ما سبق من لام كي ولام الجحود، حتى ناصبة للفعل المضارع بنفسها على مذهب الكوفيين، وبأن مضمرة بعدها وجوبًا عند البصريين، ومثاله: {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا} (طه:91) يرجع: فعل مضارع منصوب بحتى على مذهب الكوفيين، ولكن الكوفيين أشبه ما يكونون بالظاهرية في مثل هذه المواضع لأنه ليس كل عامل- في الأصل - سُلِّط على فعل- في الظاهر - فظهر النصب عليه أن يعلق النصب بهذا العامل، لأن حتى حرف جر {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر:5) {حَتَّى حِينٍ} (الذاريات:43) فحينٍ ومطلعِ الفجر اسمان مجروران بحتى، فكيف يقال: حتى حرف جر، وتختص بالأسماء فتعمل فيها الجر، ثم تدخل على الفعل المضارع فتنصبه؟! هذا محل إشكال على مذهب الكوفيين. إذن حتى تكون ناصبة بنفسها عند الكوفيين، وبأن مضمرة وجوبًا عند البصريين، لكن يشترط في النصب بحتى أن يكون الفعل بعدها مستقبلاً بالنسبة إلى ما قبلها، سواء كان مستقبلا بالنسبة إلى زمن التكلم أو لا، فإذا لم يكن كذلك تعيَّن رفع الفعل بعدها. فالأول نحو قوله تعالى: (لََنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) [طه:91] فإن رجوع موسى عليه الصلاة والسلام مستقبلٌ بالنسبة إلى الأمرين جميعًا. والثاني نحو: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (البقرة:214) بالنصب بناءا على أن القول قول الرسول مستقبلٌ بالنسبة إلى زلزالهم، وإن كان ماضيًا بالنسبة إلى الإخبار والتكلم. وقرئ بالرفع أيضًا يقولُ بناء على أن الزلزال والقول قد مضيا. وإذا دخلت حتى على الفعل المضارع ونصبته، حينئذٍ تفسر حتى بأحد معنيين: إما بمعنى كي التعليلية، وإما بمعنى إلى. إما بمعنى كي وذلك إذا كان ما قبلها علة لما بعدها، نحو: أسلم حتى تدخل الجنة، فدخول الجنة علته الإسلام إذًا الإسلام علة وسبب، أسلمْ حتى تدخل الجنة، كأنه قال أسلم كي تدخل الجنة. وإما بمعنى إلى وذلك إذا كان ما بعدها غاية لما قبلها، كما في الآية السابقة {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا

مُوسَى} (طه:91) فإن رجوع موسى غاية لما قبله، يعني سنبقى على ما نحن عليه من العكوف إلى أن يرجع إلينا موسى فهي بمعنى إلى، ومنه قولك: لأسيرن حتى تطلعَ الشمس، بمعنى إلى، ولا يصحُّ جعله بمعنى كي، لأن السير ليس علة لطلوع الشمس. ونحو: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات:9) بمعنى كي تفيء أو إلى أن تفيء يجوز الوجهان. ثم قال الناظم: وَالجَوَابُ بِالفَا ... وَالوَاوِ ثُمَّ أَوْ رُزِقْتَ اللُّطْفَا هذا الكلام فيه قلب، فهذه العبارة مقلوبة والأصل أن يقال: والفاء

والواو الواقعتان في الجواب، لأن الناصب عند الكوفيين هو الواو نفسها لا الجواب، وهنا قال: والجواب بالفاء يعني أن الجواب بالفاء هو الناصب، نقول: لا، ليس الجواب هو الناصب على مذهب الكوفيين، وإنما الفاء والواو الواقعتان في الجواب، إذًا في الجملة تقديم وتأخير يعني فيها قلب. والفاء هنا يشترط أن تكون للسببية، بأن يكون ما بعدها مسبَّبا عما قبلها، وما قبلها سبب في حصول ما بعدها، ويشترط أيضًا أن تكون مسبوقة بنفي محض خالص من الإثبات، أو طلب بالفعل لا باسم الفعل، سواء كان فيه معناه دون حروفه أو حروفه ومعناه. فالنفي مثل قوله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (فاطر:36) فلا نافية، ويقضى: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة مقدرة على آخره، فيموتوا: الفاء للسببية وقعت في جواب النفي بمعنى أن النفي قد سبقها، ويموتوا فعل مضارع منصوب بالفاء - لأن الفاء هي الناصبة بنفسها عند الكوفيين- ونصبه حذف النون، لأنه من الأمثلة الخمسة، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. وعند البصريين - وهو الأصح - منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء. وتقول أيضًا: ما تأتينا فتحدثَنا، فما نافية، وتأتينا تأتي: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة مقدرة على آخره، وما هذه نافية لا تعمل، والشاهد في قوله: فتحدثنا، الفاء فاء السببية، وتحدث: فعل مضارع منصوب بالفاء السببية عند الكوفيين، وبأن مضمرة وجوبًا بعد

الفاء عند البصريين وهو الأصح؛ لأن الأصل في الفاء أنها تكون عاطفة، وحينئذٍ الحرف الذي يكون للعطف الأصل فيه أنه لا يعمل. ولذلك ضُعِّف في باب التبعية القولُ برفع أو نصب أو جر المعطوف على المعطوف عليه أن يكون العامل هو الواو. نحو: جاء زيد وعمرو، فعمرو مرفوع، والرافع له عند بعضهم الواو وهذا ضعيف جدًا. فإذا لم يكن النفي محضًا، تعين الرفع، نحو: ما تزال تأتينا فتحدثُنا، بالرفع لأن زال للنفي، وما للنفي أيضًا، ونفي النفي إثبات، حينئذٍ لا يصح أن يكون المضارع منصوبًا بعد فاء السببية، لأن الشرط قد تخلف، ولو اعتبرت الفاء أنها سببية فقد وُجِد أحد الشرطين، وانتفى الآخر، لأن الشرطين: أن تكون الفاء للسببية، وأن تكون مسبوقة بنفي محض. وهنا لو اعتبرت سببية لكنها لم تسبق بنفي محض وإنما سبقت بإثبات. كذلك قولك: ما تأتينا إلا فتحدثُنا، بالرفع لأن ما حرف نفي، وإلا إثبات، فما بعد إلا مثبت، وحينئذٍ انتقض النفي بإلا، فانتفى أحد شرطي نصب الفعل المضارع بعد فاء السببية. وأما الطلب بالفعل، فهو ما يسمى بالأجوبة الثمانية وهي المجموعة في قول القائل: مُرْ وَانْهَ وَادْعُ وَسَلْ وَاعْرِضْ لِحَضِّهِمُ ... تَمَنَّ وَارْجُ كَذَاكَ النَّفْيُ قَدْ كَمُلاَ مر: أي إذا وقعت الفاء أو الواو في جواب الأمر، وانه أي النهي إذا وقعت الفاء أو الواو في جواب النهي، فإذا وقعت الفاء في جواب الأمر نصب المضارع بعد الواو أو الفاء لوقوعه في جواب الطلب. ونوع هذا الطلب أمر، كذلك النهي إذا وقعت الفاء أو

الواو في جواب النهي نصب الفعل المضارع بأن مضمرة بعد فاء السببية أو واو المعية لوقوعه في جواب الطلب وهو النهي. وادع أي الدعاء، وسل أي الاستفهام، واعرض أي العرض، لحضهم أي التحضيض، تمنَّ أي التمني، وارج أي الترجي، كذاك النفي قد كملا وقد سبق. فالأمر نحو قول الشاعر: يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا سيري: هذا فعل أمر، فنستريحا: الفاء فاء السببية، وقعت في جواب الطلب ونوعه أنه أمر، نستريحا: فعل مضارع منصوب بالفاء عند الكوفيين، وبأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية عند البصريين، لوقوعه في جواب الأمر والألف للإطلاق. والنهي نحو قوله تعالى: {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (طه:81) فيحل: فعل مضارع منصوب لوقوعه بعد فاء السببية الواقعة في جواب النهي، والناصب له الفاء نفسها على مذهب الكوفيين، وبأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية على مذهب البصريين وهو الأصح. والتحضيض نحو قوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} (المنافقون:10) فأصدق: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في جواب التحضيض، ولولا حرف تحضيض. والتمني نحو قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} (النساء:73) فأفوز: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة

وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في جواب الطلب وهو التمني، وحرفه ليت. والترجي نحو قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} (غافر:37) فأطلع: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء الواقعة في جواب الطلب ونوعه هنا الترجي، وحرفه لعل. والدعاء نحو قول الشاعر: رَبِّ وَفِّقْنِي فَلاَ أَعْدِلَ عَنْ ... سَنَنِ السَّاعِينَ فِي خَيْرِ سَنَنْ رّبِّ أي يا رَبِّ، وفقني فلا أعدل الفاء فاء السببية، أعدل: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في جواب الطلب ونوعه هنا الدعاء. والاستفهام نحو قول الشاعر: هَلْ تَعْرِفُونَ لُبَانَاتِي فَأَرْجُوَ أَنْ ... تُقْضَى فَيَرْتَدَّ بَعْضُ الرُّوحِ لِلجَسَدِ فأرجو: فعل مضارع منصوب بعد فاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام، أما قوله فيرتد فهذا معطوف عليه. والعرض نحو قول الشاعر: يَا ابْنَ الكِرَامِ أَلاَ تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا ... قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا ألا: حرف عرض، ألا تدنو فتبصر: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في جواب الطلب ونوعه هنا العرض. وكفاء السببية واو المعية وكل ما قيل في الفاء السببية يقال في واو المعية يعني لابد أن تكون للمعية، ولابد أن تكون مسبوقة بنفي محض أو طلب بالفعل. فبعد النفي كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ

الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142) ويعلمَ: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبَا بعد واو المعية الواقعة في جواب النفي. والتمني نحو قوله تعالى: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنعام:27) ونكذب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد واو المعية الواقعة في جواب التمني. ونكون هذا معطوف على نكذب. والنهي نحو قول الشاعر: لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وتأتي: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد واو المعية الواقعة في جواب النهي وهو لا تنه: فلا ناهية. إذًا كل ما قيل في فاء السببية يقال في واو المعية. فلابد أن تكون مسبوقة بنفي محض، وكذلك أن تكون مسبوقة بطلبٍ بالفعل أي الفعل نفسه، ويكون هذا في الأمر، أما لو قال: صه فنحدثك، فصه ليس بأمر بل هو اسم فعل أمر، هو أمر من جهة اللغة لكن من جهة الاصطلاح ليس بفعل أمر، حينئذٍ فنحدثك فعل مضارع وقع بعد فاء السببية وسبق بطلب لكن هذا الطلب ليس بفعل وإنما باسم فعل. والظاهر أن مرادهم هنا نفس فعل الأمر وما عداه ليس بداخل. ونزال اسم فعل أمر، والفرق بين صه ونزال أن صه اسم فعل أمر، فيه معنى الأمر دون حروفه، لأنه بمعنى اسكت. فليس فيه حروف اسكت، لكن نزال بمعنى انزل ففيه حروف الفعل، إذًا اسم فعل الأمر على مرتبتين: قد يكون فيه معنى الفعل دون حروفه كصه، وقد يكون

فيه معنى الفعل وحروفه، وكلا النوعين لا يصح نصب الفعل المضارع بعد فاء السببية أو واو المعية إذا وقع في جواب اسم الفعل مطلقا. إذًا عرفنا على مذهب الكوفيين أن الفاء والواو تكونان ناصبتين بنفسهما، وعلى مذهب البصريين يكون النصب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء أو الواو. [ثُمَّ أَوْ] يعني الناصب الأخير الذي ذكره لك المصنف هنا هو أو، وثم ليست على بابها، وإنما المراد بها الترتيب الذكري. [ثُمَّ أَوْ] يعني أو التي بمعنى إلى أو بمعنى إلا، فليست مطلقة، والنصب بها عند الكوفيين، وعلى مذهب البصريين تكون أو دليلاً على إضمار أن بعدها فيكون الفعل منصوبًا بأن مضمرة وجوبًا. كقولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، تقضي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد أو، وأو بمعنى إلى. وقولهم: لأقتلن الكافر أو يسلم. يسلم: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد أو، وأو هنا بمعنى إلا، أي إلا أن يسلم ومنه قول الشاعر: لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ المُنَى ... فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلا لِصَابِرِ أو أدرك: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد أو التي بمعنى إلى. وقول الشاعر: وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا

تستقيما: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد أو التي بمعنى إلا. [رُزِقْتَ اللُّطْفَا] هذا دعاء من الناظم للطالب وتلطف منه له، واللطف هو التوفيق والعصمة. إذًا هذه النواصب كلها - ولا تقول كلها إلا على مذهب الكوفيين- تنصب بنفسها على مذهب الكوفيين. والصواب أن الناصب بنفسه أربعة فقط: أن ولن وإذن وكي، وأن وهي أم الباب وتعمل ظاهرة ومقدرة. وما عدا هذه الأربعة يكون النصب بأن مضمرة بعدها، ولام كي تكون أن مضمرة بعدها جوازًا، وما عداها تكون أن مضمرة وجوبًا بعدها.

باب جوازم المضارع

بَابُ جَوَازِمِ المُضَارِعِ قال الناظم رحمه الله: [بَابُ جَوَازِمِ المُضَارِعِ] أي هذا باب بيان الأدوات التي تجزم المضارع. لما أنهى الكلام المتعلق بنواصب المضارع، انتقل إلى بيان الجوازم وهي الحالة الثالثة لإعراب الفعل المضارع لأن الفعل المضارع له ثلاثة أحوال: إما أن يكون مرفوعًا، وإما أن يكون منصوبًا، وإما أن يكون مجزومًا. فالرفع سبق ذكره عند قوله: وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ إِذَا يُجَرَّدُ ... مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسْعَدُ وقدمه لأنه الأصل، ولأن الرفع علامة العمد، ثم ثنى بالنواصب لأن الفعل المنصوب أعلى درجة من الفعل المجزوم، لأن النصب يكون بحركة، وهي شيء موجود ينطق به، وأما الجزم فهو حذف حركة أو حرف، وهو عدم، والموجود أشرف من المعدوم، إذا كان النصب علامته الفتحة وهي موجودة، والجزم علامته السكون وهو عدم الحركة حينئذٍ كان النصب أشرف من الجزم. [بَابُ جَوَازِمِ المُضَارِعِ] أي هذا باب بيان جوازم المضارع، ويقال فيه من جهة الإعراب ما قيل في باب الكلام على ما ذكرناه أولاً فلا عود ولا إعادة. [جَوَازِمِ] جمع جازم على وزن فواعل أي هذا لفظ جازم، أو جمع جازمة أي كلمة جازمة. وكلاهما يصدق على الجوازم سواءٌ كانت حروفًا أو أسماء، فإنْ مثلا حرف شرط وهو جازم، وهي

كلمة جازمة أيضًا ولا إشكال. [جَوَازِمِ المُضَارِعِ] هنا التقييد بالإضافة ليس للاحتراز لأن الجزم لا يدخل الاسم. وأما قوله: [نَوَاصِبِ المُضَارِعِ] فالتقييد بالإضافة للاحتراز، لأن النصب يدخل الأسماء، والأسماء لها أحرف تنصبها، كذلك الفعل له أحرف تنصبه. وأما الجزم فهو خاص بالأفعال، فحينئذٍ يقال في مثل هذه الإضافة إنها لبيان الواقع يعني لا للاحتراز بخلاف ما سبق في [بَابُ نَوَاصِبِ المُضَارِعِ] احترازًا من نواصب الأسماء فلها باب خاص سيأتي وهو باب إنّ وأخواتها. [بَابُ جَوَازِمِ المُضَارِعِ] الجازم باستقراء كلام العرب -يعني الأداة التي تجزم- ينحصر في نوعين لا ثالث لهما إما أن يجزم فعلاً واحدًا، وإما أن يجزم فعلين، إذًا نقول: الجوازم المراد بها ما يشمل النوعين لأنه ذكر ما يجزم فعلاً واحدًا، وذكر ما يجزم فعلين. فقال: وَجَزْمُهُ إِذَا أَرَدْتَ الجَزْمَا ... بِلَمْ وَلَمَّا وَأَلَمْ أَلَمَّا الجزم المراد به القطع، يقال: جزمت الحبل إذا قطعته، وهنا المراد به قطع الحركة، وعبَّر بعضهم بقوله: علامة الجزم الحذف، فيشمل الحذف حذف الحركة، وحذف الحرف، لأن العلامة الأصلية للجزم هي السكون، والحذف نائب عنه، والسكون هو حذف أيضًا لأنه حذف حركة، فاختصر بعض النحاة علامتي الجزم في الحذف فقط ولم يذكر علامة أخرى. [بَابُ جَوَازِمِ المُضَارِعِ] الجوازم نوعان: ما يجزم فعلاً واحدًا، وما يجزم فعلين. إذًا لا يمكن أن يتصور أن يوجد فعل مضارع مجزوم لا بجازم، وما ورد من لغة العرب وهو مجزوم

ولم يسبقه جازم فهذا إما أن يقال: إنه ضرورة، وإما أن يؤول، ومنه قول الشاعر: مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ أَمْرٍ تَبَالاَ تفد: والأصل تفدي بالياء، فحذفت وهي لا تحذف إلا للجازم ولم يسبقها جازم قالوا: إما أن يقال: ضرورة، وإما أن يقال: ثَمَّ حرف مقدر، وهو لام الأمر، والفعل المضارع مجزوم بها. وعلى كلٍّ لا بد من تخريجه على وجه صحيح. فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقَبِ ... إثِْمًا مِنَ اللهِ وَلاَ وَاغِلِ أشربْ: بالسكون ولم يتقدمه جازم. قالوا: هذا ضرورة، بل قيل: البيت خطأ والأصل فاليوم أُسقى، وأسقى فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره, فلا إشكال حينئذٍ. فإذا وجد الجزم الذي هو السكون أو حذف الحرف الذي هو النون أو أحرف العلة، وُجِد أثر الجازم ولا جازم، فلابد من الحكم بأنه ضرورة أو مؤول. كذلك في النواصب إذا وجد النصب فلا بد من ناصب ظاهر أو مقدر، وإذا وجد ناصب ولا نصب فهذا أيضًا يحكم بأنه شاذ، ومنه {أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233) قرئ بالضم قالوا: هذا شاذ لأن أنْ يجب إعمالها فإذا لم تعمل حينئذٍ حكم بشذوذه. وَجَزْمُهُ إِذَا أَرَدْتَ الجَزْمَا ... بِلَمْ وَلَمَّا وَأَلَمْ ... أَلَمَّا وَلاَمِ الأَمْرِ وَالدُّعَاءِ ثُمَّ لاَ ... فِي النَّهْيِ وَالدُّعَاءِ نِلْتَ الأَمَلاَ

هذا شروع منه في بيان ما يجزم فعلاً واحدًا وهو على ما ذكره الناظم أربعة أحرف باستقراء كلام العرب، [وَجَزْمُهُ] هذا مبتدأ كائن [بِلَمْ] خبر المبتدأ، هذا أحسن ما يقال. وإن قلت: جزمه مبتدأ، وجملة إذا من فعلها وجوابها المحذوف في محل رفع خبر المبتدأ فهو جائز. [وَجَزْمُهُ] أي جزم الفعل المضارع، وجزمه بحذف الحركة أو بحذف الحرف، [إِذَا أَرَدْتَ الجَزْمَا] هذا تقييد، إذًا الجزم لا يكون بغير إرادة، فحينئذٍ العامل يؤثر مع إرادة المتكلم، وابن مضاء ألف رسالة في الرد على النحاة في فلسفة العوامل. قال تقولون: العامل يؤثر فيرفع وينصب ويجزم، لو كان رافعًا وناصبًا وجازمًا بنفسه لامتنع أن يوجد غير أثره معه, فمثلا إنَّ تنصب الاسم وترفع الخبر، إذًا إذا قلت: إن زيدًا قائم، إن: حرف توكيد ونصب، وزيدًا: اسمها، والعامل في زيد إنّ عملت النصب، ويمكن أن نقول: إنَّ زيدٌ قائمٍ، وإنّ زيدٍ قائمٌ، فكيف نقول هي تعمل النصب؟! نقول: تعمل النصب مع إرادة المتكلم، يعني حيث وجد هذا الحرف نطق المتكلم بعده بالنصب فلك تأثير، والعامل ليس مستقلاً بذاته، هو يقول: كأن النحاة يرون أن العوامل مؤثرة بنفسها، نقول: لا ليست مؤثرة بنفسها، وإنما أنت الذي تنطق بالنصب، لسانك يتكلم بما تكلمتْ به العرب بعد أن تنطق به منصوبًا، فالعامل أثر من حيث وجوده فحينئذٍ إذا وجدت إنَّ، قعد لك العرب: إذا وجدت إن ونطقت بها فحينئذٍ تنطق بالاسم بعدها منصوبًا. وإلا يمكن أن يقول: إنَّ زيدٍ، أو إنَّ زيدٌ، فقد وجد العمل

غير الذي يطلبه إنّ مع وجود إنّ، نقول: العامل ليس مستقلاً في إحداث العمل بمجرده بل لابد من إرادة المتكلم، لابد من اجتماع إرادة المتكلم مع النطق بالعامل، لذلك قال: [إِذَا أَرَدْتَ الجَزْمَا] فاجزمه [بِلَمْ] حينئذٍ أنت الذي تريد الجزم فتحذف حركة الفعل المضارع فيكون سكونًا، وذلك إذا سلط عليه حرف من حروف الجزم وهولم. [بِلَمْ] حرف نفي وقلب وجزم باتفاق، حرف نفي لأنها تنفي وقوع الحدث الذي دل عليه الفعل، نحو: لم يقم زيدٌ، هذا فيه نفي لوقوع القيام. وقلب لأنها تقلب زمن الفعل المضارع من الحال والاستقبال إلى الزمن الماضي، لم يقم زيد يعني في الزمن الماضي. وجزم، لأنها تحدث الجزم في الفعل المضارع، فتسقط حركته مع إرادتك أنت. [لَمْ] نقول مثل: {لَمْ يَلِدْ} (الإخلاص:3) لم: حرف نفي وقلب وجزم مبني على السكون لا محل له من الإعراب، يلد: فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه السكون. [لَمَّا] أختها بمعنى أنها مثلها في كونها حرف نفي وقلب وجزم، مثل: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس:23).إذًا هي مثل لم مثلها من حيث الجملة في كونها جازمة، لكن يذكر النحاة كابن هشام وغيره أن لم ولما يتفقان ويفترقان، يتفقان في أمور: الأول: في النفي. الثاني: في القلب أي قلب زمانه إلى المضي. الثالث: في الجزم. الرابع: في الاختصاص بالفعل المضارع. الخامس: في قبول همزة الاستفهام وهي همزة التقرير، فيقال: ألم وألما. السادس: في حرفيتهما. هذه ستة أمور يشتركان فيها لم ولما.

ويفترقان في أربعة أمور كما ذكر ذلك ابن هشام رحمه الله تعالى: الأول: المنفي بلما مستمر الانتفاء إلى زمن الحال، بخلاف لم فالمنفي بها قد يكون مستمرًا، وقد يكون منقطعًا. نقول: المنفي بلما مستمر الانتفاء إلى زمن الحال يعني إلى زمن التكلم، إذا قلت: لما يقم زيد، القيام منفي عن زيد إلى زمن النطق بالجملة، بخلاف لم فلا يشترط فيها ذلك قد يكون الحدث منفيا إلى وقت التكلم، وقد يكون منقطعًا قبل وقت التكلم، ونحو: {لَمْ يَلِدْ} نقول: هذا مستمر الانتفاء بدليل خارج عن النص. نحو: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} (الإنسان:1) لم يكن شيئًا مذكورًا ثم كان، إذًا لا يشترط في المنفي بلم أن يكون مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم، بل قد يكون مستمرًا وقد يكون منقطعًا. أما لما فلا، ولذلك لا يقال: لما يقم زيد ثم قام، هذا فاسد، ويصح لم يقم زيد ثم قام، وفرق بين الجملتين، لما يقم زيد ثم قام، هذا تناقض لأنك نفيت القيام إلى زمن التكلم بالجملة بقولك: لما يقم، فكيف تقول: ثم قام؟! فتثبت ما نفيته أوَّلا. ويصح لم يقم زيد ثم قام، لأن لم لا يشترط فيها أن يكون النفي مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم. الثاني: أن لما تؤذن كثيرًا بتوقع ثبوت ما بعدها. فنحو: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص:8) يعني إلى زمن التكلم فالعذاب منفي عنهم، ولكن فيه إشارة إلى أنهم سيذوقون العذاب فسيقع

مدخول لما، وذلك للتعبير بلما دون لم. لأن النفي بها مستمر إلى زمن التكلم، وما بعد زمن التكلم فهي تدل وتشير إلى أنه سيقع، بخلاف لم فلذلك ذكر الزمخشري في قوله تعالى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} أي إلى الآن لم يذوقوه وسوف يذوقونه إذ إنَّ لما تؤذن كثيرًا بتوقع ثبوت ما بعدها بخلاف لم. الثالث: أن الفعل يحذف بعد لما يقال: هل دخلت البلد؟ تقول: قاربتها ولما. يعني ولما أدخلها. فيجوز حذف الفعل بعد لما بخلاف لم، فلا يصح أن يقال: هل قام زيد؟ وتقول: لم ... وتنوي أنه لم يقم. الرابع: أن لما لا تقترن بحرف الشرط، فلا يصح أن يقال: إِنْ لما يقم أقم، بخلاف لم فيجوز أن تقول: إن لم تقم أقم. والحجة في هذه الأربعة الأمور السماع والنقل، والنحاة وأهل اللغة ومن لهم عناية بالحروف إنما يستنبطون فقط، ولا دخل لهم في الاستعمالات والتفرقة بين لم ولما إنما يعرف من جهة اللغة. [وَلَمَّا] نحو: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} لما: حرف نفي وقلب وجزم مبني على السكون لا محل له من الإعراب، ويقض: فعل مضارع مجزوم بلما وجزمه حذف حرف العلة، الذي هو الياء والكسرة دليل عليها. ونحو: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا} لما: حرف نفي وقلب وجزم مبني على السكون لا محل له من الإعراب، يذوقوا: فعل مضارع مجزوم بلما وجزمه حذف النون لأنه من الأمثلة الخمسة،

والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل إذًا جزمت لم فعلاً واحدًا وجزمت لما فعلاً واحدًا. [وَأَلَمْ أَلَمَّا] هذه ليست مستقلة بذاتها فـ[أَلَمْ] هي عين لم وإنما دخلت عليها همزة التقرير، نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح:1) يعني قد شرحنا لك صدرك [أَلَمْ] تقول: الهمزة حرف استفهام وتقرير مبني على الفتح لا محل له من الإعراب [لَمْ] حرف نفي وقلب وجزم مبني على السكون لا محل له من الإعراب نشرح: فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه سكون آخره، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره نحن. ونحو: ألما يقم زيدٌ، الهمزة أيضًا للتقرير، ولما يقال فيها ما قيل في السابقة. إذًا لا نقول الجوازم أربعة لم، ولما، وألم، وألما. لا؛ بل هي اثنان فقط. [وَلاَمِ الأَمْرِ وَالدُّعَاءِ] أي والثالث مما يجزم الفعل المضارع، ويطلب فعلاً واحدًا هو لام الأمر والدعاء، وهذه أيضًا شيء واحد وإنما فرق بينهما باعتبار الآمر والمأمور، ولام الأمر أي لام تدل على الأمر، من باب إضافة الدال إلى المدلول. نحو: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} (الطلاق:7) لينفق: اللام لام أمر، حرف مبني على الكسر لا محل له من الإعراب، ينفق: فعل مضارع مجزوم باللام وجزمه سكون آخره. ولام الدعاء، ومنه {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (الزخرف:77) إذا كان الطلب من الأعلى إلى الأدنى سميت اللام لام الأمر، وإذا كان من الأدنى إلى الأعلى سمي دعاء، واللام هي اللام عينها، ولكن يقال إنها لام الدعاء تأدبًا مع الرب جل وعلا، وإلا هي شئ واحد، وأما تفرقة من فرق بين الالتماس

والدعاء والأمر فهذا لا أصل له في اللغة. [وَلاَمِ الأَمْرِ وَالدُّعَاءِ] وأكثر ما تدخل لام الأمر على الفعل المضارع للغائب، نحو: لينفق: هذا هو الأكثر؛ وقد تدخل على الفعل المضارع للمتكلم لكنه قليل، نحو: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (العنكبوت:12). فحينئذٍ نرد بهذه الآية على من نفى دخول اللام على الفعل المضارع المقرون بالهمزة أو النون الدالة على المتكلم، وفي الحديث «قوموا فلأصلِ لكم» فلأصل: فعل مضارع للمتكلم دخلت عليه لام الأمر، فيأمر نفسه، ينزل نفسه منزلة الغير فيأمر ولا بأس بهذا. [ثُمَّ لاَ فِي النَّهْيِ وَالدُّعَاءِ] أي [ثُمَّ لاَ] حالة كونها مستعملة في النهي، فقوله: [فِي النَّهْيِ] جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من لا. [لاَ فِي النَّهْيِ] يعني إذا استعملت لا مقصودًا بها النهي كقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة:40) لا تحزن: لا حرف نهي مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وتحزن: فعل مضارع مجزوم بلا وجزمه سكون آخره، فلا هذه ناهية لأنها من أعلى إلى أدنى، إذا كان النهي موجهًا من أعلى إلى أدنى سمي نهيًا، وإذا كان من أدنى إلى أعلى سمي دعاءً، نحو: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} (البقرة:286) لا تؤاخذنا: لا، الأصل فيها أنها لا الناهية، ولكن تأدبًا مع الله يقال فيها: لا الدعائية، {لا تُؤَاخِذْنَا} لا حرف دعاء - أو تقول: لا الدعائية - مبني على السكون لا محل له من الإعراب، تؤاخذنا: تؤاخذ، فعل مضارع مجزوم بلا وجزمه السكون، ونا: ضمير متصل مبني على السكون في

محل نصب مفعول به. ودخول لا على فعل الغائب والمخاطب كثير، فتدخل على المخاطب كما في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} وقوله: {لاَ تَحْزَنْ} وتدخل على الغائب كما في قوله: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (الإسراء:33) وقد تدخل على المتكلم، نحو قول الشاعر: لاَ أَعرفَنْ رَبْرَبًا حُورًا مدامِعُها لا أعرفن: أي أنا كأنه ينهى نفسه. [نِلْتَ الأَمَلاَ] يعني أُعطيت الأمل أي ما تؤمله وترجوه. إذًا النوع الأول من الجوازم ما يجزم فعلاً واحدًا وهو باستقراء كلام العرب أربعة: لم، ولما، ولام الأمر، ولا الناهية. إذا وجدت واحدة من هذه الأنواع الأربعة فاعلم أن الفعل المضارع مجزوم بعدها. ثم قال: وَإِنْ وَمَا وَمَنْ وَأَنَّى مَهْمَا ... أيٍّ مَتَى أَيَّانَ أَيْنَ إِذْمَا وَحَيْثُمَا وَكَيْفَمَا ثُمَّ إِذَا ... فِي الشِّعْرِ لاَ فِي النَّثْرِ فَادْرِ المَأْخَذَا شرع في بيان النوع الثاني وهو ما يجزم فعلين. وذكر الناظم هنا خمس عشرة أداة مما يجزم فعلين، وهي على الصحيح إحدى عشرة أداة. وهي قسمان: حرف، واسم. وكل منهما إما متفق عليه، أو مختلف فيه، وعليه تكون أربعة أقسام من حيث الحرفية والاسمية أي باعتبار الترجيح وعدمه أربعة أقسام: الأول: ما هو حرف باتفاق وهو إنْ فقط. والثاني: ما هو مختلف فيه هل هو حرف أو اسم؟ والأرجح أنه حرف وهو إذما فقط. والثالث: ما هو مختلف

فيه هل هو حرف أو اسم؟ والأرجح أنه اسم وهو مهما فقط. والرابع: ما عدا المذكور فكلها أسماء باتفاق. هذه كلها تدخل على الفعل المضارع فتطلب فعلين اثنين، الأول يسمى فعل الشرط ويجزم بها، والثاني يسمى جواب الشرط والأصح أنه مجزوم بها. [إِنْ] حرف باتفاق، وضعت لتعليق الجواب على الشرط، لأنها لا تدل على معنى في نفسها، ولذلك هي أم الباب، فهي الأصل في الأدوات، ومتى ما ضُمن الاسم معنى إن الشرطية بُني. [إِنْ] تفيد التعليق, تعليق الجواب على الشرط، ومثاله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} (النساء:133) الإذهاب متوقف على المشيئة، إن وجدت المشيئة وجد الإذهاب، وإلا فلا. فإنْ: حرف شرط، يشأ: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بإن وجزمه السكون، يذهبكم: فعل مضارع جواب الشرط مجزوم بإن وجزمه سكون آخره. [وَمَا] وهي اسم باتفاق، وضعت في الأصل للدلالة على ما لا يعقل، وقد يستعمل فيما يعقل لكنه قليل. ثم ضمن معنى الشرط، مثالها قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (البقرة:197) تفعلوا: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بما وجزمه حذف النون، يعلمه: فعل مضارع جواب الشرط مجزوم بما وجزمه السكون. [وَمَنْ] وهي اسم باتفاق، وضعت في الأصل للدلالة على من يعقل هكذا يقول النحاة، والأحسن أن يقال: من يعلم؛ لأنها قد تطلق على الرب جل وعلا، ثم ضمنت معنى الشرط، مثالها قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء:123) يعمل:

فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمن لأنها شرطية تجزم فعلين وجزمه سكون آخره، ويجز: فعل مضارع جواب الشرط مجزوم بمن وجزمه حذف حرف العلة. [وَأَنَّى] وهي اسم باتفاق, وضعت للدلالة على المكان، ثم ضمنت معنى الشرط، ومثالها قول الشاعر: فَأَصْبَحْتَ أنَّى تَأْتِهَا تَلْتَبِسْ بِهَا فتأتها: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بأنّى، وجزمه حذف حرف العلة، وتلتبس: فعل مضارع جواب الشرط مجزوم بأنّى وجزمه السكون. [مَهْمَا] أي ومهما بإسقاط حرف العطف، وهو جائز وقل مثله في كل ما سيأتي. [مَهْمَا] وهي اسم على الأرجح، وضعت في الأصل للدلالة على ما لا يعقل، وقد تستعمل فيما يعقل لكنه قليل. ثم ضمنت معنى الشرط، مثالها قوله تعالى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:132) تأتنا: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمهما وجزمه حذف حرف العلة، فما نحن: الجملة من المبتدأ والخبر في محل جزم جواب الشرط. [أيٍّ] وهي اسم باتفاق، ومعناها بحسب ما تضاف إليه، وقد ضمنت معنى الشرط، ومثالها قوله تعالى: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الإسراء:110) أَيّاً هذه أداة شرط، وهي هنا مفعول به مقدم واجب التقديم، وتدعوا: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بأي وجزمه حذف النون، {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الجملة من المبتدأ والخبر في محل جزم جواب الشرط. [مَتَى] وهي اسم باتفاق،

موضوعة للدلالة على الزمان، ثم ضمنت معنى الشرط، ومثالها قول الشاعر: مَتَى أَضَعِ العِمَامَةَ تَعْرِفُونِي متى أداة شرط تجزم فعلين الأول يسمى فعل الشرط، والثاني يسمى جواب الشرط، أضعِ: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمتى، وجزمه سكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين. تعرفوني: فعل مضارع مجزوم بمتى، وجزمه حذف النون لأنه من الأمثلة الخمسة، وتعرفوني: النون هذه نون الوقاية، والأصل تعرفونني حذفت النون التي هي نون الرفع، وهذه النون المذكورة ليست بنون الرفع وإنما هي نون الوقاية، جيء بها لتقي الفعل من الكسر، قال ابن مالك رحمه الله تعالى: وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الفِعْلِ التُزِمْ ... نُونُ وِقَايَةٍ وَلَيْسِي قَدْ نُظِمْ لأن الفعل ممنوع من الكسر، فإذا اتصلت به ياء النفس وهي ياء المتكلم يستلزم أن ما قبلها يكون مكسورًا، والفعل لا يدخله الكسر، إذًا لابد من حرف يتحمل تلك الكسرة فزادوا هذه النون، واللغة محكمة. [أَيَّانَ] وهي اسم باتفاق، موضوعة للدلالة على الزمان، ثم ضمنت معنى الشرط، مثالها قول الشاعر: فَأَيَّانَ مَا تَعْدِلْ بِهِ الرِّيحُ تَنْزِلِ فأيان: أداة جزم تجزم فعلين، تعدل: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بأيان، وجزمه سكون آخره. تنزل: فعل مضارع جواب الشرط مجزوم بأيان، وجزمه سكون آخره، لكنه سكون مقدر منع

من ظهوره اشتغال المحل بحركة الروي. [أَيْنَ] وهي اسم باتفاق، مثل أَنَّى تدل على المكان، ثم ضمنت معنى الشرط، مثالها: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (النساء:78) تكونوا: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بأينما، وجزمه حذف النون لأنه من الأمثلة الخمسة، يدرككم: فعل مضارع جواب الشرط مجزوم بأينما وجزمه سكون آخره. [إِذْمَا] وهي حرف على الأرجح، وهي مثل إن للتعليق، مثاله قول الشاعر: وَإِنَّكَ إِذْمَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ ... بِهِ تُلْفِ مَنْ إِيَّاهُ تَأْمُرُ آتِيَا تأت: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بإذما، وجزمه حذف حرف العلة. تلف: جواب الشرط مجزوم بإذما وجزمه حذف حرف العلة أيضًا. [حَيْثُمَا] وهي اسم باتفاق، مثل أين للزمان، ثم ضمنت معنى الشرط، مثالها قول الشاعر: حَيثُمَا تَسْتَقِمْ يُقَدِّرْ لَكَ اللهُ ... نَجَاحًا فِي غَابِرِ الأَزْمَانِ تستقم: فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بحيثما، وجزمه سكون آخره، يقدر: هذا جواب الشرط. [وَكَيْفَمَا] هذه زادها الكوفيون، وليست جازمة على مذهب البصريين، نحو: كيفما تجلسْ أجلسْ. وزادوا أيضًا إذا في الشعر خاصة لذلك قال: [ثُمَّ إِذَا فِي الشِّعْرِ لاَ فِي النَّثْرِ] لقول الشاعر: وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ

وإذا تصبك: هنا جزم، وعند كثير من النحاة التسكين هنا للضرورة وليس للجزم، لأن إذا لا تجزم، وإن جزمت فهي في الشعر خاصة، وما كان مقيدًا في الشعر فحينئذٍ يكون من باب الضرورات، فلما كانت إذا أدنى رتبة من غيرها لأنها تعمل في الشعر لا في النثر، وما قبلها يعمل مطلقًا أتى بثم الدالة على التراخي. هذه ثلاث عشرة أداة ذكرها الناظم رحمه الله ثُم قال: [فَادْرِ المَأْخَذَا] يعني فاعلم المأخذ محل الأخذ وهو أنه منقول ومسموع من لغة العرب. هذه الأدوات تجزم فعلين مضارعين، وهذا هو الأصل، لكن لا يلزم أن يكونا مضارعين مطلقًا بل الأحوال أربعة: قد يكونان مضارعين وهذا هو الأصل، وهو الأقوى، وقد يكونان ماضيين، وقد يكونان مختلفين الأول ماض والثاني مضارع، أو بالعكس الأول مضارع والثاني ماضٍ، والأمثلة: قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} (الإسراء:7) إن أحسنتم أحسنتم: إذًا وقعا ماضيين، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} (الأنفال:19) وقعا مضارعين، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر» الأول مضارع والثاني ماض، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} (الشورى:20) فالأول فعل ماض وهو كان، ونزد له: فعل مضارع. فإذا جاء ماضيًا فحينئذٍ يكون الجزم للمحل، لأننا قررنا أن القاعدة العامة أن هذه الأدوات تجزم،

فإذا جزمت كان الأصل أن تدخل على الفعل المضارع، ولذلك قيل إذا كانا مضارعين هذا هو الأصل، لأن الأثر أَثَرَ الجزمِ يلفظ به، فإذا كانا ماضيين أو كان أحدهما ماضيًا فحينئذٍ أين يظهر الجزم؟ نقول: الجزم يسلط على المحل لا على اللفظ. أما حيثما وإذما فهذه واجبة الاتصال بما. هذا ما يتعلق بالجوازم التي ذكرها المصنف باختصار.

المرفوعات من الأسماء

المَرْفُوعَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ أي هذا بيان ما يتعلق بالمرفوعات من الأسماء، لأنه ذكر لك الفعل بأنواعه الثلاثة، وقدَّم الفعل كما سبق على الأسماء المبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل وغيرها؛ لأن الأفعال عاملة، والأسماء معمولة، ورتبة العامل مقدمة على رتبة المعمول. [المَرْفُوعَاتُ] جمع مرفوع بمعنى لفظ مرفوع، أو جمع مرفوعة بمعنى كلمة مرفوعة، [مِنَ الأَسْمَاءِ] هذا قيد لإخراج الفعل لأنه ذكره فيما سبق في قوله: [وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ إِذَا يُجَرَّدُ] والمرفوعات من الأسماء - باستقراء كلام العرب - سبعة: الأول: الفاعل. والثاني: المفعول الذي لم يسم فاعله. والثالث والرابع: المبتدأ والخبر. والخامس: اسم كان وأخواتها. والسادس: خبر إن وأخواتها. والسابع: التابع للمرفوع، وهو أربعة أشياء: النعت والعطف والتوكيد والبدل. وهذه سيذكرها الناظم متوالية. والمرفوع: هو ما اشتمل على علم الرفع من الضمة وما ناب عنها. فنحكم على الكلمة بأنها مرفوعة إذا وجد علم الرفع وهو الضمة وما ناب عنها وهو الألف أو الواو أو النون. ومتى تكون مرفوعة؟ نقول: إذا وقعت في محل من المحال السبعة التي ذكرناها. إما أن يكون فاعلاً أو مبتدءً أو خبرًا إلى آخر ما ذكرنا. قال الناظم:

باب الفاعل

بَابُ الفاعِلِ هذا هو الباب الأول الذي يكون الاسم مرفوعًا فيه، وهو محل الفاعل، والمراد بالفاعل هنا مرتبة إذا وجد الاسم فيها حكمنا عليه بأنه مرفوع، فكل فاعل مرفوع من غير عكس، أي وليس كل مرفوع فاعلاً. [بَابُ الفاعِلِ] قدمه على المبتدأ والخبر؛ لأنه أصل المرفوعات عند الجمهور، وبعضهم قدم المبتدأ على أنه أصل المرفوعات، وبعضهم جعل كلا منهما أصلاً برأسه، فالأقوال ثلاثة والجمهور على أن الفاعل هو أصل المرفوعات، وينبني على هذا الخلاف فائدة وهو أنه إذا جاز أن يجعل اللفظ مبتدأ أو فاعلاً فأيهما أولى؟ مَن رجَّح أن الفاعل هو الأصل أعربه فاعلا، ومَن رجَّح أن الأصل هو المبتدأ أعربه مبتدأ، نحو: النووي أجمع من يعتد به، فالنووي مرفوع، هل تقول: قال النووي أو النووي قائل؟ يعني يجوز أن يعرب النووي فاعلاً، ويجوز أن يعرب مبتدأ، لكن أيهما أولى وأرجح؟ ينبني على هذا الأصل من رجح أن الأصل في المرفوعات هو الفاعل، قال: الأرجح أن يقال: قال النووي، فتعرب النووي فاعلا لفعل محذوف، ومن رجح أن المبتدأ هو الأصل قال: النووي مبتدأ، وخبره محذوف تقديره النووي قائل، هذا الذي ينبني على هذه المسألة. [بَابُ الفاعِلِ] الفاعل له معنيان، معنىً لغوي، ومعنىً اصطلاحي. أما معناه اللغوي فهو من أوجد الفعل أي الحدث. فكل من أوجد الفعل في اللغة فهو فاعل، فحينئذٍ يشمل المبتدأ، فنحو: زيد قائم، زيد في اللغة فاعل، وفي الاصطلاح مبتدأ،

والمبتدأ والفاعل لا يجتمعان، فزيد فاعل، ومبتدأ، فاعل لغةً، ومبتدأ اصطلاحًا، كيف صار فاعلا في اللغة؟ نقول: لأن الفاعل في اللغة من أوجد الحدث، والقيام حدث، والذي أوجده هو زيد. فحينئذٍ نقول: زيد هذا فاعل لماذا؛ لأنه أوجد القيام، أما الفاعل في الاصطلاح فقال: الفَاعِلَ ارْفَعْ وَهْوَ مَا قَدْ أُسْنِدَا ... إِلَيْهِ فِعْلٌ قَبْلَهُ قَدْ وُجِدَا قوله: [الفَاعِلَ ارْفَعْ] بين حكمه قبل بيان حده، وهذا على خلاف الأصل؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولكنه أولى من صنع صاحب الأصل لابن آجروم حيث ذكر الحكم - وهو قوله المرفوع - في الحد فقال: هو الاسم المرفوع، والناظم هنا أخرجه عن الحد فقال: الفاعل ارفع؛ لأن الرفع حكم، والفاعل محكوم عليه، والتعريف إنما يكون لمعرفة الحقائق، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. فحينئذٍ لا بد من التعريف أولاً ثم بعد ذلك يذكر الحكم، ولذلك عند المناطقة من شرط صحة الحد أنه لا تدخل فيه الأحكام. قال في السلم المنورق: وَعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ المَرْدُودِ ... أَنْ تَدْخُلَ الأَحْكَامُ فِي الحُدُودِ وعندهم أي المناطقة من قواعدهم المنطقية: أنه من جملة الأمور المردودة عندهم ولا تقبل أن تدخل الأحكام في الحدود؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره فلا بد أن تتصور أولاً ما هو الفاعل ثم بعد ذلك تذكر حكمه. [الفَاعِلَ ارْفَعْ] أي ارفع

الفاعل [الفَاعِلَ] مفعول به منصوب مقدم و [ارْفَعْ] فعل أمر مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، أي ارفع أنت أيها النحوي الفاعلَ، و [ارْفَعـ]ـه إما بحركة أو بحرف، سواءٌ كانت ضمة ظاهرة أو مقدرة، فيعم أنواع الإعراب كلها، إما أن يكون ظاهرًا، وإما أن يكون مقدرًا، وإما أن يكون محليًا. نحو: قام زيد, فزيد: فاعل، وتحكم عليه أنه فاعل بتطبيق الحد عليه، فزيد من قولك: قام زيد فاعل، حكمت عليه بأنه فاعل أولا، ثم تقول: [الفَاعِلَ ارْفَعْ] ارفعه بضمة ظاهرة على آخره فتقول: زيد فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. وجاء الفتى، الفتى: فاعل و [الفَاعِلَ ارْفَعْ] حينئذٍ تقول الفتى: فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر. وجاء سيبويه، سيبويه: فاعل و [الفَاعِلَ ارْفَعْ] حينئذٍ تقول: سيبويه اسم مبني على الكسر في محل رفع فاعل، وإن شئت قل: فاعل مبني على الكسر في محل رفع. إذًا يكون الفاعل مرفوعًا لفظًا كزيد، ويكون مرفوعًا تقديرا كالفتى أو القاضي أو غلامي، ويكون محليًا كسيبويه. وإذا قيل [الفَاعِلَ ارْفَعْ] لا ينقض هذه القاعدة فيما لو جر بحرف جر زائد، كقوله تعالى: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} (المائدة:19) بشيرٍ: فاعل، والفاعل مرفوع، وفي الآية مجرور، وجوابه: أن الإعراب هنا تقديري، وأثر حرف الجر الزائد في اللفظ فقط، وإعرابه: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} ما نافية، وجاء فعل ماض، ونا: ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به، ومن: حرف جر زائد أو قل صلة أو قل

تأكيد، وبشير: فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والصحيح أن إعرابه تقديري لا محلي، وهكذا كل مجرور بحرف جر زائد. وكذلك نحو: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} (البقرة:251) لولا دفع الله: لفظ الجلالة فاعل، فهو في اللفظ مضاف إليه، وفي المحل فاعل، لأن الأصل لولا أن يدفع الله الناس. والناس مفعول به، والعامل فيه هو المبتدأ وهو دفع، والخبر محذوف وجوبا، فلفظ الجلالة مجرور لفظًا مرفوع محلاً لأنه فاعل. فالفاعل مرفوع، هذه هي القاعدة العامة وقد أشار إليها بقوله: [الفَاعِلَ ارْفَعْ] لفظًا أو تقديرًا أو محلاً بحركة أو حرف. ثم قال [وَهْوَ] أي حده [مَا قَدْ أُسْنِدَا إِلَيْهِ فِعْلٌ قَبْلَهُ قَدْ وُجِدَا] أي هو ما قد أسند إليه فعل قد وجد قبله. [مَا قَدْ أُسْنِدَا إِلَيْهِ فِعْلٌ] يعني ما قد أسند إليه أي إلى الاسم المحكوم عليه بكونه فاعلاً، أسند إليه فعلٌ، لكن هذا الفعل يكون مقدمًا لذلك قال: فعل قد وجد قبله [قَبْلَهُ] هذا منصوب على الظرفية متعلق بقوله: [وُجِدَا] والألف للإطلاق، و [قَدْ] للتحقيق، والجملة الفعلية في محل رفع صفة لفعل، والتقدير ما قد أسند إلى فعل موجود قبله يعني مذكور قبله، لأن عبارة ابن آجروم في الأصل قال: الفاعل هو الاسم المرفوع المذكور قبله فعله. قوله: [مَا قَدْ أُسْنِدَا] [مَا] اسم موصول بمعنى الذي، يصدق على الاسم بنوعيه يعني سواءٌ كان الاسم صريحًا أو مؤولاً بالصريح؛ لأن الفاعل نوعان: الأول: فاعل صريح: وهو ما لا يحتاج في جعله فاعلاً إلى تأويل. إذا كان ملفوظًا

به مباشرة فهو اسم صريح، كجاء زيد، فزيد فاعل وهو اسم صريح لأننا حكمنا عليه بكونه فاعلاً دون تأويل. والثاني: فاعل مؤول بالصريح، وهو ما يحتاج في جعله فاعلاً إلى تأويل. فلابد حينئذٍ أن يكون عندنا حرف مصدري يؤول مع ما بعده بمصدر فيكون فاعلا، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ} (الحديد:16) فيأن: فعل، وفاعله أن تخشع، وليس هو باسم صريح، إذًا كيف جعلته فاعلاً؟ نقول: نؤوله بمصدر، فأن تخشع: أن حرف مصدر ونصب واستقبال، وتخشع فعل مضارع منصوب بأن، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر وهوالخشوع، وتقدير الآية ألم يأن للذين آمنوا خشوع قلوبهم، إذًا نقول: خشوع فاعل، وهو اسم مؤول بالصريح وليس بالصريح. فقوله: [مَا] يشمل الاسم الصريح، والاسم غير الصريح الذي هو مؤول بالصريح. إذًا كل ما لم يكن مؤولا بالصريح فهو اسم صريح، وحينئذٍ الضمير المستتر وجوبًا أو جوازًا والضمير البارز الذي يقع فاعلاً من الاسم الصريح، فنحو: اضرب زيدًا، فاضرب: فعل وفاعله ضمير مستتر وجوبًا، وهو اسم صريح - وهذا مجرد اصطلاح - وهند تكتب: أي هي فالفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هي، وهو اسم صريح، وما قام إلا أنا، فأنا فاعل وهو ضمير بارز، وهو اسم صريح، وهذا لا إشكال في جعله اسما صريحا كما سيذكره الناظم. والحاصل أن الاسم الصريح يشمل أربعة أشياء: الاسم الظاهر كزيد، والضمير المستتر وجوبًا، والضمير المستتر جوازًا، والضمير البارز. ويقابله

الاسم المؤول بالصريح. قوله: [مَا] أي اسم، لأن الفاعل لا يكون إلا اسمًا، فخرج به الفعل، والحرف. فالفعل لا يكون فاعلاً، والحرف لا يكون فاعلاً؛ لأننا قررنا قاعدة: أن الفعل لا يكون مسندًا إليه، والفاعل هو مسند إليه، وحينئذٍ يمتنع أن يكون الفعل مسندًا إليه، فيمتنع أن يكون فاعلاً. ومن باب أولى يمتنع أن يكون حرفًا لأنه لا يكون مسندًا إليه. إذًا كل فاعل فهو اسم، لذلك عد السيوطي في الأشباه والنظائر من علامات الأسماء كونه فاعلاً؛ لأن كل فاعل اسم، وهذه القاعدة مأخوذة مما سبق وهو أن المسند إليه لا يكون إلا اسمًا، والفعل لا يقع مسندًا إليه وكذلك الحرف. إذًا قوله: [مَا] أي اسم [قَدْ أُسْنِدَا] الألف للإطلاق [أُسْنِدَا إِلَيْهِ فِعْلٌ] كأنه قال: أُخبر عنه بفعل، نحو: قام زيد، فزيد مسند إليه وهو المحكوم عليه، وقام مسند، وهو المحكوم به، فصار الفعل في المعنى هو المحكوم به كما أن الخبر يحكم به على المبتدأ، كذلك الفعل يحكم به على الفاعل، فالفاعل محكوم عليه لذلك قال: اسم قد أسند إليه فعل أي أخبر عنه بفعل، [فِعْلٌ] لابد أن يقيَّد بكونه تامًا، احترازًا من الفعل الناقص، فإن كان فعلا ناقصا فإنه يحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تدخل على المبتدأ والخبر، فترفع المبتدأ على أنه اسم لها، وتنصب الخبر خبر المبتدأ على أنه خبر لها. وقوله: [فِعْلٌ] أخرج به كل المرفوعات، لأن قوله: [مَا قَدْ أُسْنِدَا إِلَيْهِ] دخل فيه المرفوعات كلها، وهو يريد أن يُعرِّف الفاعل، فلابد من الإدخال والإخراج، فقوله: فعل مخرج لما عدا الفاعل من المرفوعات، لكن يبقى معنا نائب

الفاعل لأنه ذُكِر قبله فعل، وليس هو في الحقيقة فعله؛ لأن قولك: ضُرِبَ زيدٌ فزيدٌ ليس فاعلاً للضرب، وإنما ذُكر معه فعل لأنه في الأصل هو مضروب لا ضارب، والأصل: ضرب عمرو زيداً، فحذف الفاعل وأقيم المفعول به مُقامه فارتفع ارتفاعه، هذا التغيير لا يسلب إيقاع الضرب من عمرو الذي هو الفاعل في الأصل إلى إيقاعه من زيد الذي هو مفعول به في الأصل، لأن الفاعل هو مَن أوجد وأحدث الفعل، والمفعول به هو من وقع عليه الفعل، فحينئذٍ إذا قيل: ضُرب زيدٌ فزيدٌ لم يخرج عن كونه قد وقع عليه الضرب سواء كان في التركيب الأول أو الثاني. إذًا لم يُذكر قبله فعله وإن سبقه فعل وذُكر قبله، لكنه ليس هو فعله الذي أوجده، وإنما ذكر معه الفعل، لأنه مفعول به، والمفعول به يقع عليه الفعل ولا يقوم به الفعل ولا يقع منه الفعل، كما هو نوعا الفاعل. [فِعْلٌ قَبْلَهُ قَدْ وُجِدَا] هذا احتراز من المبتدأ، فيما إذا أسند إلى المبتدأ فعل، نحو: زيد قام، على مذهب البصريين يتعيَّن أن يكون زيد مبتدأ، وقام الجملة خبر، فيجب الترتيب بأن يتقدم الفعل أوَّلا ثم يليه الفاعل، ولا يجوز أن يتقدم الفاعل على الفعل. وعند الكوفيين يجوز أن يكون زيد فاعلا مقدما، وعامله الفعل المتأخر قام، وليس فيه ضمير مستتر، وحينئذٍ إذا قيل: زيد قام، يُشترط في الفاعل أن يُذكر قبله فعله، فلو ذُكر بعده الفعل خرج عن كونه فاعلاً، فصار مبتدأً، لأن المبتدأ يذكر الفعل بعده لا قبله فيما إذا أخبر عن المبتدأ بالجملة الفعلية. [فِعْلٌ قَبْلَهُ قَدْ وُجِدَا] والمذكور قبله فعله

قد يكون الفعل ملفوظًا به، وقد يكون مقدرًا. فالملفوظ به نحو: قام زيد، والمقدر نحو قولك: زيدٌ، في جواب من جاء؟ فزيد فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة في آخره، والعامل فيه مقدر تقديره جاء زيد، وهذا الحذف جائز لكن لا بد من قرينة تدل على المحذوف كما إذا وقع جوابًا لسؤال، وقد يكون الحذف واجبًا كما إذا وقع الاسم المرفوع بعد أداة الشرط وهما إن وإذا، وذلك لاختصاص أداة الشرط بالجملة الفعلية، لإفادتها التعليق تعليق شئ على شئ آخر، والأحداث هي التي تقبل التعليق دون الذوات كقولك: إن جاء زيد أكرمتك، أفاد تعليق إيقاع الإكرام على مجئ زيد لا على ذاته، فالأصل أن الذات لا تقبل التعليق. قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} (التوبة:6) فأحد فاعل لفعل محذوف لأن إن الشرطية لا يتلوها إلا فعل، وجوبًا لأننا أقمنا دليلاً على المحذوف، ولأنه لا يجمع بين المفسِّر والمفسَّر، فالمفسَّر هو المحذوف، والمفسِّر هو المذكور، وتقديره هنا وإن استجارك أحد من المشركين. قال ابن مالك: وَيَرْفَعُ الفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا ... كَمِثْلِ زَيْدٌ فِي جَوَابِ مَنْ قَرَا ومثله: {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (الانشقاق:1) و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (الانفطار:1) كل ما وقع من اسم مرفوع بعد إذا أو إن الشرطيتين فهو فاعل لفعل محذوف وجوبًا على الأصح وهذه قاعدة عامة.

[فِعْلٌ قَبْلَهُ قَدْ وُجِدَا] سواءٌ كان الفعل واقعًا منه، أو قائمًا به، فالأول: مثل قولك: ضرب زيد عمرًا، زيد هنا فاعل، والضرب الذي هو مدلول عامله قد وقع من زيد فهو أثر زيد. والثاني: مثل قولك: مات زيد، زيد هنا فاعل، والموت الذي هو مدلول عامله قائم به لا واقعا منه. ثم قال: وَظَاهِرًا يَأْتِي وَيَأْتِي مُضْمَرَا ... كَاصْطَادَ زَيْدٌ وَاشْتَرَيْتُ أَعْفُرَا الفاعل لا بد أن يكون مذكوراً؛ لأنه عمدة، والعمدة لا يستغنى عنه، ولأنه مسند إليه فهو أحد ركني الإسناد، فحينئذٍ لا يجوز حذفه إلا بما ورد في لغة العرب وهي مواضع معدودة ذكرها ابن هشام وغيره سماعا، ولكن الأصل أنه لا يجوز حذفه ولذلك قال ابن مالك: وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ فَإن ظَهَر ... فَهوَ وإِلاَّ فَضَمِيرٌ اسْتَتَر وإذا لم يظهر الفاعل فلابدَّ من تقديره ضميرا مستترا؛ لأن كل فعل لابد له من فاعل، ودلالة الفعل على فاعله دلالة عقلية لزومية، لأن العقل يُدرك أن كل حدث لا بد له من محدِث، فالقيام حدث لا بد له عند إيجاده من محدث، فلا يمكن أن يوجد قيام ولم يحدثه شخصٌ ما، والفعل بأنواعه الثلاثة يستلزم عقلاً فاعلاً، لأن كل فعل متضمن لحدث، وكل حدث لا بد له من محدِث عقلا، والمحدث هو الفاعل. إذًا دلالة قام على زيد الفاعل دلالة لزومية، وإذا كانت دلالة لزومية بمعنى أنه لا يمكن أن يوجد اللازم الذي

هو الفعل ولا يوجد ملزومه الذي هو الفاعل، بخلاف اسم الفاعل فإنه يدل على الفاعل بالوضع فهي دلالة وضعية. لأن الواضع وضع زنة فاعل للدلالة على اسم الفاعل، فقائم اسم فاعل لأنه يدل على ذات متصفة بحدث والذات هي الفاعل. والحاصل: أن الفاعل لا بد من ذكره، ثم الفاعل نوعان: قد يكون اسمًا ظاهرًا، وقد يكون اسمًا مضمرًا أي مستتراً سواءٌ كان استتاره واجباً أو جائزاً، فالظاهر ما دل على مسماه بلا قيد، يعني بلا قيد تكلم أو خطاب أو غيبة. قال الناظم: [وَظَاهِرًا يَأْتِي] يعني يأتي الفاعل حالة كونه اسمًا ظاهرًا. [وَيَأْتِي مُضْمَرَا] يعني ويأتي الفاعل حالة كونه اسمًا مضمرًا وهو ما دل على مسماه بقيد تكلم ونحوه. والمضمر قسمه صاحب الأصل إلى اثني عشر نوعًا وهي: اثنان للمتكلم، وخمسة للمخاطب، وخمسة للغائب. [وَظَاهِرًا يَأْتِي] يعني يأتي الفاعل حالة كونه ظاهرًا مطلقًا سواء كان مذكرًا أو مؤنثًا، وسواء كان مفردًا أو مثنى أو مجموعًا مع فعلٍ ماضٍ أو مضارع. فالفاعل قد يكون مذكرًا، نحو: جاء زيد. وقد يكون مؤنثًا، نحو: جاءت هند. وقد يكون مثنى، نحو: جاء الزيدان، أو مجموعًا نحو: جاء الزيدون، وجاء الزيود إلى آخره هذه كلها أنواع للفاعل، وقد ذكرها في الأصل. ثم مثل لكلٍّ منهما على سبيل اللف والنشر المرتب فقال: [كَاصْطَادَ زَيْدٌ] [اصْطَادَ] فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. و [زَيْدٌ] فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. هذا مثال للقسم الأول وهو الظاهر. [وَاشْتَرَيْتُ أَعْفُرَا]

[اشْتَرَيْتُ] اشترى فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون المجلوب لدفع توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، والتاء ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل، و [أَعْفُرَا] مفعول به، وهو من الضباء ما يعلو بياضه حمرة، والألف فيه للإطلاق. ومن أحكام الفاعل تجريد الفعل له إن كان الفاعل مثنىً أو مجموعًا، لأن الفاعل قد يكون مفرداً، وقد يكون مثنى، وقد يكون مجموعاً، وكل منها قد يكون مذكراً وقد يكون مؤنثاً، وحينئذٍ إذا كان الفاعل مفرداً مذكراً كان أو مؤنثاً وجب تجريد الفعل من علامة تدل على أنه مفرد - وهذا لا إشكال فيه - تقول: قام زيد، وقامت هند. وإذا كان الفاعل مثنى أو مجموعاً بأي أنواع الجمع وجب أيضًا تجريد الفعل من علامة تدل على أنه مثنى أو جمعٌ، نقول: قام الزيدان، وقام الزيدون، فالفعل قام كما هو لو أسند إلى فاعل مفرد لم تلحقه علامة تثنية أو علامة جمع، وهذا هو غالب لغة العرب وهو اللغة الفصحى. وبعض قبائل العرب وهم بنو الحارث بن كعب: إذا كان الفاعل مثنى أُلحق بالفعل علامة تدل على أن الفاعل مثنى، وألحق به علامة تدل على أن الفاعل جمع، كما أنه إذا كان الفاعل مؤنثاً ألحق بالفعل علامة تدل على أنه مؤنث نحو: قامت هند، إذًا اتصل بالفعل علامة تدل على أن الفاعل مؤنث - ويعنون النحاة لهذه اللغة بلغة أكلوني البراغيث - فألحقوا بالفعل علامة تدل على أن

الفاعل مثنى أو جمعٌ فقالوا: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون. وإعرابه على هذه اللغة: قاما الزيدان، قاما فعل ماضٍ، والألف حرف - وليس بضمير- دالٌ على تثنية الفاعل مبنى على السكون لا محل له من الإعراب، والزيدان فاعل مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى. قاموا الزيدون، قاموا فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدر لاتصاله بحرف دالٍ على كون الفاعل جمعاً، والواو حرف دالٌ على الجمع مبني على السكون لا محل له من الإعراب، والزيدون فاعل. وهذه اللغة لغة مرجوحة، ولذلك جماهير أهل اللغة على أنه لا يجوز حمل القرآن عليها. واعلم أن المرجوح - وإن شئت قل الممنوع - إنما هو جعل الألف حرفاً، وجعل الواو حرفاً، أما إذا جعلت الألف ضميراً فاعلا، والواو ضميراً فاعلا فلا إشكال بل هي لغة فصيحة، فإذا جاء في القرآن ما ظاهره أنه على لغة أكلوني البراغيث وجب تخريجه على هذا، فحينئذٍ لو قيل: قاما الزيدان على اللغة الجائزة = قاما قام فعل ماضٍ، والألف ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر مقدم، والزيدان مبتدأ مؤخر. ولك وجه آخر جوزه بعضهم وهو أن تجعل الألف فاعلا، والزيدان بدلا من الألف بدل بعض من كل. وقاموا الزيدون، قاموا فعل ماضٍ، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر مقدم، والزيدون مبتدأ مؤخر. وهذا جائز فحينئذٍ إذا جاء في القرآن ما ظاهره أنه على لغة أكلوني البراغيث وجب

تخريجه على أحد هذين الوجهين ولا يجوز تخريجه على تلك اللغة الضعيفة، لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين فما كان شائعاً في لغة العرب جاز حمل القرآن عليه، وما لم يكن كذلك فلا. ومن ذلك قوله تعالى: (وََأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء:3] ظاهره مثل قوله: قاموا الزيدون، ولكن نخرجه على اللغة المشهورة، فنقول: وأسروا أسر فعل ماضٍ، والواو ضمير متصل فاعل، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر مقدم، والذين ظلموا مبتدأ مؤخر. وقوله تعالى: (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ) [المائدة:71] عموا أصله عَمِيَ وصمَّ كثيرٌ، فنقول: عموا فعل وفاعل، والجملة في محل رفع خبر مقدم، وكثير مبتدأ مؤخر، وهو نكرة وسوغ الابتداء به تقدم الخبر. إذًا يجب تجريد الفعل من علامة تدل على الفاعل المثنى أو المجموع. قال ابن مالك: وَجَرِّدِ الفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا ... لِاثنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَفَازَ الشُّهَدَا ومن أحكام الفاعل أنه يؤنث له الفعل، إذا كان الفاعل مؤنثًا، ولا إشكال في تجريد الفعل من علامة تدل على تذكيره، لأنه جاء على الأصل في الأسماء، لأن الأصل فيها التذكير وما جاء على أصله لا يحتاج إلى علامة، بخلاف ما إذا جاء على الفرع وهو كونه مؤنثاً، والمؤنث قد يلتبس بغيره، كما لو قيل: قام هند، وهند علم مشترك بين الذكور والإناث، فلا بد حينئذ من علامة تميز كون الفاعل مؤنثاً لئلا يحمل على الأصل وهو التذكير، فاتصل بالفعل تاء التأنيث فقيل: قامت هند، فتعلم أن الفاعل مؤنث، وإذا قلت: قام هندٌ

ـ وهند يسمى الرجل به قديما ـ حمل على أنه مذكر. إذًا لا بد من علامة فيما إذا وقع الفاعل مؤنثا لئلا يلتبس بغيره، ومن قواعد لغة العرب الإيضاح وكشف اللبس، فحينئذٍ اتصل بالفعل علامة تدل على أن الفاعل مؤنث. ولا يرد ما سبق من لغة أكلوني البراغيث لأن قام الزيدان، وقام الزيدون يدل بلفظه على أن الفاعل مثنى أو أنه جمع، فلا يلتبس بغيره فلا نحتاج إلى علامة تدل على التثنية ولا إلى علامة تدل على الجمع كما احتجنا إلى علامة تدل على أن الفاعل مؤنث. فحينئذٍ نقول: تأنيث الفعل باعتبار الفاعل على نوعين: قد يكون جائزاً. وقد يكون واجباً. والتأنيث الجائز في أربعة مواضع: الأول: أن يكون الفاعل اسماً ظاهراً مؤنثاً تأنيثا مجازيا، والنحاة يفرقون بين المؤنث المجازي والمؤنث الحقيقي، فالمؤنث الحقيقي: هو ماله فرج، والمؤنث المجازي: هو ما لا فرج له. فإذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مجازي التأنيث جاز الوجهان: التأنيث، وترك التأنيث، فتقول: طلعت الشمس بتأنيث الفعل، وطلع الشمس بترك التأنيث، والشمس مؤنثة لذلك قال تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) [الشمس:1] فأعاد الضمير عليها مؤنثا، ومثله: (وََالشَّمْسُ تَجْرِي) [يس:38] والتأنيث أرجح لأنه هو الأصل، فالأصل أن الفاعل إذا كان مؤنثاً أن تلحق الفعل علامة تدل على التأنيث لكن لما كان مجازي التأنيث جاز تركه.

الثاني: أن يكون الفاعل اسماً ظاهراً حقيقي التأنيث، لكنه فُصل عن العامل بغير إلا، حينئذٍ جاز الوجهان: التأنيث، وترك التأنيث، تقول: حضرت القاضيَ امرأةٌ، فامرأة فاعل مؤنث، وتأنيثه حقيقي لكنه فصل عن العامل بغير إلا بالمفعول به، فالمفعول فصل بين الفاعل والعامل، فحينئذٍ جاز الوجهان: التأنيث وتركه فتقول: حضرت القاضي امرأة بتأنيث الفعل؛ وحضر القاضي امرأة بترك التأنيث، وجاز لوجود الفاصل بين العامل والفاعل، والتأنيث أرجح لما سبق. الثالث: إذا كان الفاعل فاعل نعم وبئس، يقال: نعمت المرأة هند بتأنيث الفعل، ونعم المرأة هند بترك التأنيث؛ لأن أل الداخلة على فاعل نعم للجنس، والجنس مذكر، فحينئذٍ إذا أريد الجنس جنس المرأة فهذا مذكر تُرك التأنيث، وإذا روعي اللفظ أنث الفعل. الرابع: أن يكون الفاعل جمعاً، حينئذٍ يجوز الوجهان: التأنيث، وتركه، لكن يستثنى من أنواع الجمع جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم، فيعاملان معاملة المفرد، فتقول: قام الزيدون، كما تقول: قام زيد. ولا يصح أن تقول: قامت الزيدون، كما لا يصح أن تقول: قامت زيد، فيجب التذكير وترك التأنيث مع المفرد كذلك يجب ترك التأنيث مع جمعه وكذلك مع مثناه. وهذا هو الأرجح فيه. وتقول: قامت الهندات، كما تقول: قامت هند بالتأنيث وجوباً، فيجب التأنيث مع المفرد كذلك يجب مع جمعه ومثناه.

وأما جمع التكسير سواء كان مذكراً أو مؤنثاً، فيجوز فيه الوجهان: التأنيث، وترك التأنيث، تقول: قام الزيود، وقامت الزيود، وقام الهنود، وقامت الهنود، وقال الصحابة، وقالت الصحابة، فمن أنث فقد أوله على معنى الجماعة، قالت الصحابة يعني قالت جماعة الصحابة، وجماعة هذا مؤنث، ومن ترك التأنيث فقد أوله على معنى الجمع، قال الصحابة يعني قال جمع الصحابة، وجمع هذا مذكر. والتأنيث الواجب في مسألتين: الأولى: أن يكون الفاعل مؤنثًا تأنيثًا حقيقيًّا، وليس فاعل نعم وبئس، وليس مفصولاً عن عامله، بهذه القيود الثلاثة نقول: يجب أن يؤنث الفعل، نحو: قامت هند. الثانية: أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً على مؤنث مطلقاً سواء كان المؤنث حقيقي التأنيث أو مجازي التأنيث، نحو: الشمس طلعت، فطلع فعل ماضٍ أسند إلى ضمير مستتر- وهو فاعل- يعود على الشمس، وهي مؤنث مجازي، فوجب تأنيث الفعل. ونحو: هندٌ كتبت، فكتب فعل ماضٍ أسند إلى ضمير مستتر -وهو فاعل- يعود على هند، وهي مؤنث حقيقي، فوجب تأنيث الفعل. وانظر هنا إلى أن الفعل الذي يجب تأنيثه بتاء التأنيث هو فعل ماضٍ، وأما الفعل المضارع فقد يسند إلى فاعلٍ مؤنث، نحو: تقوم هند، وحكم تأنيث الفعل هنا واجب، وتأنيثه بحرف المضارعة وهو التاء، استغناءاً عن تاء التأنيث الساكنة بتاء المضارعة، لذلك تاء التأنيث

باب النائب عن الفاعل

الساكنة تختص بالفعل الماضي، وأما الفعل المضارع فإذا أسند إلى مؤنث فحينئذٍ لا بد مما يدل على أن الفاعل مؤنث، ولكن استغني بتاء المخاطبة -هي للتأنيث وأيضاً للخطاب- عن تاءٍ تلحق بآخره؛ لأنه لو ألحقت به تاء التأنيث الساكنة لاجتمع عليه علامتا تأنيث، وهذا ممتنع = أن يشتمل اللفظ الواحد على علامتي تأنيث؛ لأن التاء من الفعل تقوم قررنا أنها حرف معنى كتاء التأنيث الساكنة، فإذا قلت: تقومتْ اجتمع فيه حرفان، كل منهما يدل على التأنيث، وهذا فيه قبح وبشاعة. فحينئذٍ اختصت تاء التأنيث الساكنة بالفعل الماضي؛ لأن المضارع فيه حرف يدل على التأنيث، فتقول: تقوم هند، وهند تقوم، ولا يصح أن تقول: يقوم هند، ولا هند يقوم. ومن أحكام الفاعل أنه قد يحذف ولكن ينوب عنه المفعول به وهذا ما يسمى بباب النائب عن الفاعل لذلك عقبه به فقال الناظم رحمه الله: بَابُ النَّائِبِ عَنِ الفَاعِلِ أي الذي ينوب عن الفاعل بعد حذفه، يجوز حذف الفاعل لغرض من الأغراض قد يكون الغرض لفظيًا، وقد يكون معنويًا. فاللفظي كالحذف من أجل استقامة السجعة كما قيل: مَن طابتْ سريرته حُمِدتْ سيرته، الأصل حَمِدَ الناس سيرته، فلو صرح بالفاعل لاختلت السجعة. والمعنوي كالعلم به بأن يكون معلومًا عند المخاطب نحو: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} (النساء:28) فأصل التركيب -والله أعلم- خلقَ اللهُ الإنسانَ ضعيفًا، فحذف

الفاعل وهو لفظ الجلالة للعلم به. ولكن من الخطأ عند إعراب هذه الآية ونحوها أن يقال: خُلِقَ فعل ماض مبني للمجهول، وإنما يقال فعلٌ ماضٍ مغير الصيغة، ولذلك هذه العبارة -مبني للمجهول- مدخولة أصلاً حتى في غير مثل هذه المواضع، لأنه إذا قيل: مبني للمجهول حينئذٍ عين الغرض من حذف الفاعل وهو أنه حذف للجهل به، وهل كلما حذف الفاعل يكون حذفه للجهل به؟! الجواب: لا، ولذلك فالأحسن أن يقال: فعل ماضٍ مغير الصيغة، لأن الفعل إما أن يكون على أصل صيغته وهو المبني للمعلوم، وإما أن يكون مغير الصيغة وهو فيما إذا أسند إلى المفعول به، وأقيم المفعول مُقام الفاعل. قال: [بَابُ النَّائِبِ عَنِ الفَاعِلِ] وفي الأصل لابن آجروم قال: باب المفعول الذي لم يسم فاعله. ولكن هذا العنوان منتقد، وقد بينت وجه النقد وما أجيب به في شرح الملحة فليرجع إليه. لكن نقول: قوله [بَابُ النَّائِبِ عَنِ الفَاعِلِ] أشمل وأخصر من قوله: باب المفعول الذي لم يسم فاعله، وهذه العبارة النائب عن الفاعل؛ قيل: أول من استعملها هو ابن مالك رحمه الله في الألفية: يَنُوبُ مَفْعُولٌ بِهِ عَنْ فَاعِلِ ... فِيمَا لَهُ .............. بوب لذلك فقال: النائب عن الفاعل. والمتقدمون قبله يعبرون بباب المفعول الذي لم يسم فاعله، وبعضهم يقول: الاسم الذي لم يذكر معه فاعله. قال: إِذَا حَذَفْتَ فِي الكَلاَمِ فَاعِلاَ ... مُخْتَصِرًا أَوْ مُبْهِمًا أَوْ جَاهِلاَ فَأَوْجِبِ التَّأْخِيرَ لِلمَفْعُولِ بِهْ ... وَالرَّفْعَ حَيْثُ نَابَ عَنْهُ فَانْتَبِهْ

هذا ما يسمى بأغراض حذف الفاعل، ومحل بحثها في علم البيان قال السيوطي في عقود الجمان: قُلْتُ وَلِلْمَفْعُولِ إِنَّمَا بُنِي ... لِكَونِهِ فِي الذُّكْرِ نُصْبَ الأَعيُنِ أَوِ السِّيَاقُ دَلَّ أَوْ لاَ يَصْدُرُ ... عَنْ غَيرِهِ أَوْ كَونُهُ يُحَقَّرُ كَذَاكَ لِلجَهْلِ وَالاِخْتِصَارِ ... وَالسَّجَعِ وَالرَّويِ وَالإِيثَارِ [إِذَا حَذَفْتَ] أيها النحوي [فِي الكَلاَمِ] أي من الكلام [فَاعِلاَ] حالة كونك [مُخْتَصِرًا] أراد أن يختصر الكلام، فمثلا بدلا من أن يقول: روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا جائز. [أَوْ] تحذف الفاعل حالة كونك [مُبْهِمًا] على السامع يعني رغبة المتكلم في الإبهام، نحو: تُصُدِّق بألف دينار، لم يُرد أن يفصح بمن تصدق فقال: تُصُدِّق بألف دينار، ونحو: سُرق المتاع، وهو يعرف السارق لكن قال: سُرق المتاع قاصدا الإبهام على السامع. [أَوْ] تحذف الفاعل حالة كونك [جَاهِلاَ] به، كقولك أيضًا: سُرق المتاع إذا كان يجهل السارق، أو رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرف الراوي. ولكن هل الجهل بالفاعل يعتبر غرضا من أغراض حذف الفاعل؟ هذا محل نزاع، فابن مالك رحمه الله عدَّ الجهل غرضاً معنوياً، وبعضهم لا يرى ذلك لأن المجهول قد يعبر عنه باسم فاعل مشتق من مادة الفعل، فإذا قيل: سُرِق المتاع، حذفت الفاعل للجهل به، ولك أن تقول: سَرق السارقُ المتاع، فصار السارق فاعلاً لكن لم نستفد شيئا من ذكر الفاعل، وهو السارق لعدم تعيينه، لذلك قيل: لا يكون الجهل غرضاً من الأغراض، لأنه

يمكن أن يعدل عن الحذف إلى ذكر اسم الفاعل. [إِذَا حَذَفْتَ فِي الكَلاَمِ فَاعِلاَ] [إِذَا] شرطية [حَذَفْتَ] فعل الشرط [فَأَوْجِبِ] الفاء واقعة في جواب الشرط لأنه فعل أمر، فحينئذٍ يجب أن تتصل به الفاء. [فَأَوْجِبِ التَّأْخِيرَ لِلمَفْعُولِ بِهْ] لأنك أقمت المفعول مُقام الفاعل، إذا حذفت الفاعل فلابد من إقامة شيء مُقامه، فلا يجوز أن تحذف الفاعل دون إقامة شئ مقامه، فيقام المفعول به إن كان موجودًا مقام الفاعل فحينئذٍ [فَأَوْجِبِ التَّأْخِيرَ لِلمَفْعُولِ بِهْ] بعد أن كان جائز التقديم، لأن المفعول به يجوز تقديمه على الفاعل، بل ويجوز تقديمه على العامل نحو: {فَرِيقاً هَدَى} (الأعراف:30) لكن إذا حذفت الفاعل وأقمت المفعول مقام الفاعل نقول: أخره وجوبًا، فلا يجوز أن يتقدم، فلا يصح أن تقول: زيدٌ ضُرِبَ على أن زيد نائب فاعل، كما أنه لا يجوز أن يتقدم الفاعل على عامله كذلك لا يجوز أن يتقدم نائب الفاعل على عامله فيما إذا كان في الأصل مفعولاً به، لأنه أخذ حكم الفاعل، والفاعل لا يجوز تقديمه على عامله لذلك قال: [فَأَوْجِبِ التَّأْخِيرَ] أيها النحوي [لِلمَفْعُولِ بِهْ] بعد أن كان جائز التقديم، والعلة في ذلك أنه أقيم مقام الفاعل، والفاعل كما سبق لا يتقدم على عامله كذلك ما أقيم مقامه. [وَالرَّفْعَ] أي فأوجب التأخير، وأوجب الرفع لفظًا أو تقديرًا أو محلاً بعد أن كان منصوبًا، حيث كان منصوبًا فأقيم مقام الفاعل، والفاعل مرفوع، فأخذ حكمه، كما أخذ حكمه في عدم جواز تقديمه على العامل، أخذ حكمه في كونه مرفوعًا سواء كان

الرفع ظاهرًا أو مقدرًا أو محلاً تقول: ضُرب زيد، زيد: نائب فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، ضُرب الفتى، الفتى: نائب فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، ضُرب هذا ذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل. [فَأَوْجِبِ التَّأْخِيرَ لِلمَفْعُولِ بِهْ وَالرَّفْعَ حَيْثُ] هذا للتقييد [حَيْثُ نَابَ عَنْهُ فَانْتَبِهْ] لهذه الفائدة، أن النائب يأخذ حكم المناب عنه، فإذا أنيب المفعول به عن الفاعل أخذ حكمه فلذلك قال: [حَيْثُ نَابَ عَنْهُ] ويحتمل أن [حَيْثُ] هذه للتعليل، يعني لماذا حكمت بوجوب التأخير؟ ولماذا حكمت بوجوب الرفع؟ قال: حيث ناب المفعول به عنه أي عن الفاعل. [فَانْتَبِهْ] لا تجري الأصل وهو جواز التقديم والتأخير، وأنه منصوب وإنما تنقل أحكام المفعول به إلى أحكام الفاعل، فيتعين تأخيره، ويتعين رفعه، لأنه قام مقام الفاعل. ويصير عمدة بعد أن كان فضلة، لأن المفعول به فضلة يجوز الاستغناء عنه، لكن إذا رُفع على أنه نائب فاعل صار عمدة، لأن الرفع خاص بالعمد، وصار مسندًا إليه بعد أن كان لا دخل له في الإسناد؛ لأن المفعول به ليس مسندًا ولا مسندًا إليه بخلاف النائب عن الفاعل فإنه مسند إليه. فَأَوَّلَ الفِعْلِ اضْمُمَنْ وَكَسْرُ مَا ... قُبَيْلَ آخِرِ المُضِيِّ حُتِمَا وَمَا قُبَيْلَ ... آخِرِ ... المُضَارِعِ ... يَجِبُ فَتْحُهُ بِلاَ مُنَازِعِ لما أقيم المفعول به مقام الفاعل قد يلتبس الفاعل بنائب الفاعل، إذا قلت مثلا: ضَرَبَ زيدٌ عمرًا، فحذفت الفاعل وهو زيد، فقلت: ضَرَبَ عمرًا، ثم تقيم عمرًا مقام زيد فترفعه، فتقول: ضَرَبَ عمرٌو،

حينئذٍ التبس بالفاعل فقالوا: لابد أن نجعل في الفعل قرينة منذ أن ينطق بها المتكلم يعلم السامع أن ما بعده نائب فاعل وليس بفاعل قالوا: إذًا يجب تغيير صيغة الفعل للدلالة على أن ما بعده نائب فاعل وليس بفاعل حتى إذا قيل: ضَرب مباشرة تعرف أن ما بعده فاعل، وإذا قيل: ضُرب مباشرة تعرف أن ما بعده نائب فاعل. إذًا وجوب تغيير الصيغة لئلا يلتبس الفاعل بنائب الفاعل فقال: [فَأَوَّلَ الفِعْلِ اضْمُمَنْ] الفاء فاء الفصيحة يعني إذا أردت تمييز المبني للمفعول من المبني للفاعل، فإن كان الفعل ماضيًا أو مضارعًا فاضممن أول الفعل وجوبًا، لأن اضممن فعل أمر مؤكد بنون التوكيد الخفيفة، ومطلق الأمر يقتضي الوجوب، و [أَوَّلَ] منصوب على أنه مفعول به مقدم لـ[اضْمُمَنْ] وهذا يستعمل في الشعر خاصة، لأن القاعدة أن الفعل سواء كان مضارعًا أو أمرًا إذا أكد بنون التوكيد لا يجوز أن يتقدم عليه معموله فحينئذٍ [فَأَوَّلَ الفِعْلِ اضْمُمَنْ] هذا مخالف للقواعد النحوية، والأصل أن يقال: فاضممن أول الفعل. [فَأَوَّلَ الفِعْلِ اضْمُمَنْ] مطلقًا سواء كان ماضيًا أو مضارعًا، فتضم أول الفعل، ضَرب ضُرب، ويَضرب يُضرب، يعني اجعل حركة أوَّل الفعل الماضي ضمًا سواء كان الحرف أصليًّا كضرب، أو زائدًا كأكرم، واجعل حركة حرف المضارعة ضمًا. [اضْمُمَنْ] أول الفعل تحقيقًا أو تقديرًا، فنحو: ضُرب هذا ضمٌّ تحقيقًا يعني تلفظ به، وتقديرًا فيما إذا كان وسط الفعل الماضي الثلاثي حرف علة كقال وباع، فقال تقول فيه: قِيل

هكذا الفعل المغير الصيغة، فحينئذٍ يضم أوله لكن تقديرا لا تحقيقا بمعنى أنه يُنوى ضم أوله وإلا فهو في اللفظ مكسور، لكنها كسرة عارضة لا أصلية، وإنما هي حركة العين نُقلت إليها لأن أصله قُوِلَ على وزن فُعِلَ كضُرِبَ، إذًا أوله مضموم وأنت تنطق به بالكسر قِيل، إذًا أصله قُوِلَ على وزن فُعِلَ - بضم الأول وكسر ما قبل الآخر- استثقلت الكسرة على الواو، فوجب نقلها إلى ما قبلها، وما قبلها وهو القاف مضموم فأُسقطت الضمة، فصار بعد سلب حركتها ساكنًا فقيل قِوْل سكنت الواو بعد كسرة والقاعدة: أن الواو إذا سكنت وانكسر ما قبلها وجب قلبها ياءً، فصار قِيْلَ. وباع أصله: بُيِعَ على وزن فُعِلَ استثقلت الكسرة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركتها أي حركة الياء وهي الضمة، وهذا يسمى إعلالاً بالنقل، فسكنت الياء وانكسر ما قبلها ليس عندنا إعلال بالقلب، فصار بِيْعَ. في نحو قيل قلبت الواو ياءًا لوجود العلة، والياء هنا في بيع صحت لم تقلب واوًا لعدم وجود العلة. إذًا [فَأَوَّلَ الفِعْلِ اضْمُمَنْ] تحقيقًا كما في ضُرب أو تقديرًا كما في قِيل وبيع، وإذا كان الفعل الماضي مفتتحًا بتاء المطاوعة أو التاء مطلقًا يُضم ثانيه مع أوله نحو: تُعُلِّم هذا مبدوء بالتاء وتسمى تاء المطاوعة، فحينئذٍ يضم أوله ويكسر ما قبل آخره، ويزاد عليه أنه يضم مع أوله ثانيه فتقول: تُعُلمت المسألة، وإذا كان مبدوءًا بهمزة الوصل يضم أوله ويكسر ما قبل آخره، ويزاد مع ضم أوله ضم ثالثه فيقال اُنطُلق بزيد. [وَكَسْرُ مَا قُبَيْلَ آخِرِ المُضِيِّ حُتِمَا] إذا ضُمَّ الأول، تنظر فيما قبل آخره فإن كان

ماضيًا فاكسره نحو: ضُرِب كسر ما قبل الآخر وهو الراء، فتقول: ضُرِب على وزن فُعِلَ [وَكَسْرُ مَا قُبَيْلَ آخِرِ المُضِيِّ حُتِمَا] الألف للإطلاق، يعني وجب كسر ما قبل آخره تحقيقًا أو تقديرًا. تحقيقًا نحو ضُرِب أصله ضَرَبَ فالراء مفتوحة فلمَّا غُيرت صيغته كُسرت، وعَلِم تقول: عُلِمَ، فما قبل الميم لم يغير في اللفظ، ولكن الكسرة مقدرة قبل آخره. إذًا عُلِم ضم أوله وكسر ما قبل آخره لكنها مقدرة، وأما المضارع فقد بين حكم ما قبل آخره بقوله: [وَمَا قُبَيْلَ آخِرِ المُضَارِعِ يَجِبُ فَتْحُهُ بِلاَ مُنَازِعِ] إذًا قوله: [فَأَوَّلَ الفِعْلِ اضْمُمَنْ] هذا عام يشمل الماضي والمضارع، وما قبل آخر الماضي يجب كسره، وما قبل آخر المضارع يجب فتحه [وَمَا قُبَيْلَ آخِرِ المُضَارِعِ يَجِبُ فَتْحُهُ] تحقيقًا أو تقديرًا، والأول نحو: يُضرَب: نقول ضم أوله وفتح ما قبل آخره. والثاني نحو: يُقال ويُباع فُتح ما قبل آخره تقديرًا يقال أصله يُقْوَلُ تحركت الواو ولم ينفتح ما قبلها لكن نقول هنا اكتفاء بجزء العلة صح قلبها ألفًا، ومثلها يباع. [بِلاَ مُنَازِعِ] في هذه القاعدة العامة وهي أن الفعل مغير الصيغة يضم أوله مطلقًا سواء كان ماضيًا أو مضارعًا، ويكسر ما قبل آخره في الماضي، ويفتح ما قبل آخره في المضارع. ثم قال: وَظَاهِرًا وَمُضْمَرًا أَيْضًا ثَبَتْ ... كَأُكْرِمَتْ هِنْدٌ وَهِنْدٌ ضُرِبَتْ يعني ينقسم النائب عن الفاعل كما انقسم الفاعل إلى ظاهر وإلى مضمر، لذلك قال [أَيْضًا] هذه اللفظة منصوبة على أنها مفعول مطلق، مصدر آض يئيض أيضًا أي نرجع رجوعًا كما قسمنا لك

الفاعل إلى قسمين: ظاهرٍ، ومضمرٍ، نرجع ونعود مرة أخرى ونقسم لك نائب الفاعل إلى قسمين: ظاهرٍ، ومضمرٍ، [كَأُكْرِمَتْ هِنْدٌ] أصل التركيب أَكرم زيدٌ هنداً فحذف الفاعل لغرضٍ ما، ثم أقيم المفعول به وهو هنداً مقام الفاعل فارتفع ارتفاعه فصار هندٌ، فغيرت صيغة الفعل فقيل: أُكرِمت ضم أوله وكسر ما قبل آخره، والأصل أَكرم زيدٌ فلما أسند الفعل إلى المفعول به وهو مؤنث حقيقي وجب التأنيث، لأنه أقيم مقام الفاعل والفاعل إذا كان مؤنثاً حقيقياً واتصل بعامله، ولم يكن العامل نعم وبئس وجب تأنيث الفعل، وبذا المثال أُكرمت هند أشار إلى هذا الحكم. والأصل أَكرَمت فغيرت صيغته فقيل: أُكرِمت ضُمَّ أوله وكُسر ما قبل آخره. وإعراب المثال [كَأُكْرِمَتْ هِنْدٌ] أكرمت فعل ماضٍ مغير الصيغة مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. وهند نائب فاعل - وهو اسم ظاهر- مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره. [وَهِنْدٌ ضُرِبَتْ] أي هي، فهند مبتدأ و [ضُرِبَتْ] فعل ماضٍ مغير الصيغة ضم أوله وكسر ما قبل آخره، ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هي يعود على هند. والتأنيث واجب هنا لأن الفاعل ضمير مستتر عاد إلى حقيقي التأنيث. والجملة في محل رفع خبر المبتدا.

باب المبتدا والخبر

بَابُ المُبْتَدَا وَالخَبَرِ لما أنهى الكلام على الفاعل وهو الأصل في المرفوعات، كان أقرب ما يذكر بعده هو ما اختلف فيه هل هو أصل المرفوعات أم لا؟ [بَابُ المُبْتَدَا وَالخَبَرِ] أي هذا باب بيان حقيقة المبتدا وحقيقة الخبر. وجمع بينهما في بابٍ واحدٍ لتلازمهما غالباً؛ لأن المبتدأ يلزمه الخبر، فكل مبتدأ لا نقول لا بد له من خبر وإنما يلزمه الخبر في الأعم، ومن غير الأعم أن يسد الفاعل مسد الخبر. هل كل مبتدأ له خبر؟ نقول: في الأغلب الأعم، كل مبتدأ له خبر لكن يستثنى حالة واحدة وهي فيما إذا كان المبتدأ وصفاً اعتمد على نفي أو استفهام ورفع اسماً ظاهراً، فحينئذٍ لا يكون الاسم الظاهر خبراً وإنما يكون فاعلاً سد مسد الخبر، فمثلاً إذا قيل: أقائم الزيدان، نقول: الهمزة للاستفهام، وقائم مبتدأ، إذًا وُجد المبتدأ فهل لا بد أن يكون الزيدان خبرًا؟ الجواب: لا، وإنما الزيدان فاعل سد مسد الخبر بمعنى أنه أغنى عن الخبر في الفائدة، وقد وجدت الفائدة به كما لو وجدت بالخبر، وامتناع أن يكون الزيدان خبرًا عن المبتدأ في مثل هذا التركيب لعلة ولحكمة وهي أن قائم وصفٌ، والمشتقات عند النحاة في قوة الفعل، أقائم في قوة قولك: أيقوم، فلما كان قائم في قوة الفعل، والفعل لا يصح الإخبار عنه، عُدل عن كون الزيدان خبراً

إلى كونه فاعلاً، فلما حصلت الفائدة التامة بالزيدان أغنى عن الخبر، إذًا وجد المبتدأ ولم يوجد له خبر. ومثله: أقلُّ رجلٍ يقول ذلك، وهذا مما يحفظ ولا يقاس عليه بخلاف الأول، أقل رجل يقول ذلك: أقل مبتدأ، وهو مضاف ورجل مضاف إليه، يقول ذلك فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل جر صفة لرجل، وأين الخبر؟ نقول: لا خبر له، وليس عندنا ما ينوب مناب الخبر لكن هذا لا نظير له يحفظ ولا يقاس عليه. فأقل رجل نكرة، ولماذا لا يعرب جملة يقول ذلك خبرًا عن المبتدإ؟ نقول: لأن النكرة أشدُّ افتقاراً إلى الصفة من افتقار المبتدأ إلى الخبر، لأن المبتدأ كما سبق في نحو: أقائم الزيدان يستغني عن الخبر، أما النكرة فلا تستغني عن الصفة بعدها إذا وجدت فهي مفتقرة افتقارا شديداً إلى الصفة. قال الناظم في حد المبتدأ: المُبْتَدَا اسْمٌ مِنْ عَوَامِلٍ سَلِم ... لَفْظِيَّةٍ وَهْوَ بِرَفْعٍ قَدْ وُسِمْ المبتدأ أصله المبتدأ به؛ لأنه مأخوذ من ابتدأ يبتدأ فهو مبتدأ به حُذف الجار والمجرور وهو به وهذا يسمى الحذف والإيصال، حُذف حرف الجر الباء أولا اختصاراً فاتصل الضمير بعامله، لأن المبتدأ اسم مفعول، واسم المفعول يرفع نائب فاعل فحينئذٍ الضمير المنفصل البارز (به) صار ضميراً مستتراً مرفوعاً بمبتدأ على أنه نائب فاعل. والمبتدأ في اللغة مأخوذ من الابتداء وهو الافتتاح، وهو مناسب هنا للتسمية فزيد مثلاً من قولك: زيدٌ قائمٌ سمي مبتدأ لأنه افتتح به أول الجملة.

المُبْتَدَا اسْمٌ مِنْ عَوَامِلٍ سَلِم ... لَفْظِيَّةٍ يعني اسم عارٍ أو مجردٌ من عوامل سلم، أي المبتدأ اسم سلم من عوامل يعني جرد من عوامل، فقوله: [اسْمٌ] خرج به الفعل والحرف فلا يكون الحرف مبتدأ، ولا يكون الفعل مبتدأ، لأن المبتدأ مسند إليه، وهو محكوم عليه، ولا يحكم إلا على الأسماء. أما الفعل فلا يكون محكوماً عليه وإنما يكون محكوماً به، وأما الحرف فلا يكون محكوماً عليه ولا محكوماً به. وهذا فيما إذا قُصد معناه، أما إذا قُصد لفظه فحينئذٍ يصح أن يكون مبتدأ نحو: ضرب فعلٌ ماضٍ، فعلٌ هذا خبرٌ، والمحكوم عليه ضرب قُصد اللفظ فقط أي الحروف دون المعنى فهو مبتدأ هنا، وكذلك قولك: مِن حرفُ جر، حرفُ جر خبر، والمبتدأ مِن وهو حرف، لأنه قصد اللفظ فقط وليس المعنى، إذًا إذا قصد لفظ الفعل أو لفظ الحرف جاز حينئذٍ أن يكون مبتدأ. [اسْمٌ] يشمل الاسم الصريح وهو الذي لا يحتاج في جعله مبتدأ إلى تأويل، والاسم غير الصريح وهو ما يحتاج في جعله مبتدأ إلى تأويل، فقولك: زيدٌ قائم، زيدٌ مبتدأ وهو اسم صريح، وأنا قائم، أنا مبتدأ وهو اسم صريح، وأما قوله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة:184] خيرٌ خبرٌ فهو مخبر به، ولا يخبر عن الفعل، ولا عن الحرف، وإنما يخبر عن الاسم، فحينئذٍ يتعين أن يكون أن تصوموا مبتدأ، ثم بعد ذلك نقول: كيف جاء مبتدأ وهو جملة؟ تقول: لأنه مؤول بالاسم، وأن تصوموا مؤول بصيامكم أو صومكم، لأن أن حرف مصدري، وتصوموا فعل مضارع منصوبٌ

بأن، ونصبه حذف النون، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر وهو صومكم إذًا صار مبتدأ، ولكنه ليس باسم صريح. [اسْمٌ مِنْ عَوَامِلٍ سَلِم] سَلِم فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على الاسم، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع صفة لاسم، ومن عوامل متعلق بسلم، أي اسم سلم من عوامل بمعنى أنه تجرد عن العوامل أي لم يسبقه عامل، فحينئذٍ خرجت كل المرفوعات بهذا القيد وهو التجرد عن العامل، فنحو: كان زيدٌ قائما، فزيدٌ اسم صريح وليس بمبتدأ، لأنه لم يتجرد عن العامل، إذًا هذه قاعدة = كل اسم مرفوع سبقه عامل لفظي أصلي فليس بمبتدأ قطعاً. [مِنْ عَوَامِلٍ] جمع عامل، والعامل قيل: هو ما أثر في آخر الكلمة من اسم أو فعل أو حرف، تفسير العامل بهذا التعريف فيه نظر، لأن ما اسم موصول بمعنى الذي فسره بقوله: من فعل أو اسم أو حرف فمن هنا بيانية فسر بها ما، فحينئذٍ حصر العامل في الفعل والاسم والحرف، فيختص هذا الحد - على شهرته- بالعامل اللفظي، والعامل ليس محصورا في هذه العوامل اللفظية فقط لأن العامل نوعان: عامل لفظي أي يلفظ به، وحدُّه: ماله حظ في اللسان، مثل: كان وإنَّ ولم. وعامل معنوي وهو ينوى في القلب ويُقدَّر، وحدُّه: ما لا حظ له في اللسان، أي ليس له حروف يلفظ بها. وقولهم: ما أثر في آخر الكلمة من اسم أو فعل أو حرف اختص بالأول وهو العامل اللفظي، ولا يشمل هذا التعريف العامل المعنوي، لكن لو قيل: العامل ما أوجب كون آخر الكلمة على وجه مخصوص من رفع أو

نصب أو خفض أو جزم لكان أولى، فما في التعريف اسم موصول مبهم يفسر بشيء سواء لفظ به أولم يلفظ، أوجب كون آخر الكلمة على وجه مخصوص، فلم يقيده بالفعل ولا بالاسم ولا بالحرف فيكون شاملاً للنوعين: العامل اللفظي، والعامل المعنوي. المبتدأ [اسْمٌ مِنْ عَوَامِلٍ سَلِم لَفْظِيَّةٍ] بمعنى جُرِّد من عواملٍ، لما كانت العوامل لفظية، ومعنوية، والمبتدأ قد جُرِّد عن عواملٍ لفظية، ولم يُجرد عن العوامل المعنوية لأنه لا بُدَّ له من عامل، فإذا قيل: المبتدأ مرفوع ورفعه الضمة، فالضمة هذه لا يمكن أن توجد بلا عامل، إذًا لا بُدَّ من عامل فإما أن يكون عاملا لفظياً، وإما أن يكون عاملا معنوياً، فإذا انتفت العوامل اللفظية عن كونها مؤثرة في المبتدأ تعين قطعاً أن يكون العامل فيه معنوياً، لذلك قال: لفظية وهذا نعت للعوامل، والنعت هنا صفة احترز بها عن العوامل المعنوية، والعوامل المعنوية - على الأصح- محصورة في اثنين لا ثالث لهما: وهما الابتداء، والتجرد، والابتداء: هو كون الاسم معرىً - أي مجرداً - عن العوامل اللفظية، وبعضهم قال: هو جعلك الاسم أولاً لتخبر عنه ثانياً، لأن الابتداء لغة: هو الافتتاح فلا بُدَّ أن يكون المعنى اللغوي ملاحظا في التعريف. وأما التجرد فهو ما سبق في الفعل المضارع في حالة الرفع أن يكون مجرداً عن الجازم والناصب، إذا جُرِّد عن الجازم والناصب حينئذٍ نقول: هذا عامل والعامل هنا معنوي، فإذا قيل: يضربُ زيدٌ، فيضرب فعل مضارع مرفوع ورفعه الضمة، ما الذي أحدث هذه الضمة؟ وما الذي أوجب كون آخر

يضرب مرفوعا؟ نقول: تجرده عن الناصب والجازم. وزيدٌ قائمٌ فزيد مبتدأ مرفوع ورفعه الضمة، ما الذي أحدث هذه الضمة؟ وما الذي أوجب كون آخر زيد مرفوعا؟ نقول: الابتداء، فالعامل فيه معنوي، إذًا قوله: من عوامل لفظية احترز به عن العوامل المعنوية، فالمبتدأ تجرد عن العوامل اللفظية لا المعنوية، والعوامل المعنوية اثنان، والذي معنا هنا الابتداء، فكيف نخرج التجرد من التعريف - والتجرد خاص بالفعل المضارع-؟ نقول: قوله: اسمٌ في أول التعريف حيث قال: [المُبْتَدَا اسْمٌ] إذًا ليس بفعلٍ، فالعامل المعنوي هنا مختص بالاسم، وليس عندنا عامل معنوي مختص بالاسم إلا الابتداء. قوله: [اسْمٌ مِنْ عَوَامِلٍ سَلِم لَفْظِيَّةٍ] أي سلم من عوامل لفظية أي غير الزائدة، والمراد بكونه مجرداً عن العوامل اللفظية أي الأصلية غير الزائدة، أما إذا دخل عليه عامل لفظي زائد فلا يخرجه عن كونه مبتدأ، نحو قوله جل وعلا: (هََلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه)) [فاطر:3] هل: حرف استفهام، من خالقٍ من حرف جر زائد، خالقٍ مبتدأ، كيف هو مبتدأ وقد سبقه عامل لفظي؟! نقول: هذا العامل حرفٌ زائد، وإن شئت قل: صلة أو تأكيد، وخالقٍ مبتدأ مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. ونحو: بحسبك درهم، بحسبك مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وقد دخل عليه حرف جر زائد وهو عامل لفظي، ودرهم خبر المبتدأ، ومرادهم

بحرف الجر الزائد الذي لم يقصد معناه الذي وضع له في لغة العرب، قال الخضري في حاشيته على ابن عقيل: قول النحاة إن الحرف الزائد لا معنى له أي لا معنى له سوى التأكيد، إذاً له معنى، ولكنه التأكيد، والمعنى الذي نفاه النحاة هو المعنى الذي وضع له في لغة العرب. هذا هو حد المبتدأ: الاسم المجرد عن العوامل اللفظية غير الزائدة. وأما حكمه فقد بينه بقوله: [وَهْوَ] أي المبتدأ [بِرَفْعٍ قَدْ وُسِمْ] برفع جار ومجرور متعلق بقوله: وسم، وقد: حرف تحقيق، ووُسم أي عُلِّم مأخوذ من السمة، وهي العلامة، [قَدْ وُسِمْ] أي قد عُلِّم برفعٍ فصار مرفوعاً، فالمبتدأ مرفوع، والمرفوع هو ما اشتمل على علامة الرفع، وهي الضمة وما ناب عنها، وإذا كان مرفوعاً فحينئذٍ لا بد له من عامل يقتضي الرفع، وعامله هو الابتداء على الصحيح، وهذا هو المشهور عند المتأخرين: وَرَفَعُوا مُبْتَدَأً بِالِابْتِدَا ... .................... والابتداء عامل معنوي وهو جعلك الاسم أولاً لتخبر عنه ثانياً. فافتتاح الكلام بالاسم هو جعلك الاسم أولاً، [بِرَفْعٍ] سواء كان لفظاً أو تقديراً أو محلاً، لفظاً مثل قولك: زيدٌ قائم، فزيدٌ اسم مجرد عن العوامل اللفظية غير الزائدة، مرفوع بالابتداء يعني العامل فيه هو الابتداء ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وقائم خبره، وتقديراً مثل قولك: الفتى يقوم، فالفتى مبتدأ مرفوع بالابتداء ورفعه ضمة مقدرة على آخره، وجملة يقوم خبره، ومحلاً مثل قولك: حذامِ امرأة، فحذامِ مبتدأ مبني على الكسر في محل رفع،

وامرأة خبره، والإعراب المحلي خاص بالمبنيات على المشهور، ويلحق به المؤول بالمصدر، وأما في نحو قوله [مِنْ خَالِقٍ] فهذا إعرابه تقديري. [بِرَفْعٍ] الرفع قد يكون بحركة أو بحرف، والحركة ظاهرة أو مقدرة، وهذا يكون في المفرد، أو حرفٍ كما في الأسماء الستة، والمثنى، وجمع المذكر السالم أيضًا ظاهرًا أو مقدرًا. وَظَاهِرًا يَأْتِي وَيَأْتِي مُضْمَرَا كَالقَوْلُ يُسْتَقْبَحُ وَهْوَ مُفْتَرَى بيَّن لك هنا أن المبتدأ يكون ظاهراً وهو ما دل على مسماه بلا قيد، ويكون مضمراً وهو ما دل على مسماه بقيد. وسيأتي بيان الظاهر والمضمر في باب المعرفة والنكرة مفصلاً. [وَظَاهِرًا يَأْتِي] هو أي المبتدأ، وظاهراً حال مقدمة من الضمير المستتر في يأتي وهو فاعل، يعني ويأتي المبتدأ حال كونه اسماً ظاهراً، [وَيَأْتِي مُضْمَرَا] أي ويأتي المبتدأ حال كونه مضمراً أي ضميراً، [كَالقَوْلُ يُسْتَقْبَحُ وَهْوَ مُفْتَرَى] كالقولُ: الكاف بمعنى مثل فهي اسم، فحينئذٍ تكون مضافة إلى الجملة الاسمية، أو يجعل الكاف حرف جر، ويكون مدخولها مقدرا تقديره: كقولك: القولُ يستقبح وهو مفترى، فالقول مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، ويستقبح فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو، والجملة من الفعل ونائب الفاعل في محل رفع خبر المبتدأ، والقول اسم ظاهر، وهو مفترى هو ضمير للمفرد المذكر الغائب مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وإن شئت قل: مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع،

ومفترى خبر، مفترى لو وصلت قلت: مفترًى فحذفت الألف، وإذا وقفت رجعت الألف فقلت مفترى، فحينئذٍ يكون خبراً مرفوعاً ورفعه ضمة مقدرة على آخره، إذًا مثل لك بالجملتين للمبتدأ الظاهر والمبتدأ المضمر. ثم لما أنهى الكلام عن بالمبتدأ شرع في بيان حقيقة لازمه وهو الخبر فقال: وَالخَبَرُ الإِسْمُ الَّذِي قَدْ أُسْنِدَا ... إلَيْهِ وَارْتِفَاعَهُ الزَمْ أَبَدَا [وَالخَبَرُ الإِسْمُ] وهذا فيه قصور؛ لأن الخبر لا يتقيد بالاسم، لأنه مسند، وإذا قيل: مسندٌ فحينئذٍ يشترك فيه الاسم والفعل، لأن الفعل يكون مسنداً ولا يكون مسنداً إليه، والفعل يقع خبراً، لأنه محكوم به، أما إذا خصص الخبر بالاسم فحينئذٍ أخرج الفعل، فهل المراد هنا إخراج الفعل؟ الجواب: لا، لأن الفعل يصح الإخبار به، ولذلك لو قال كما قال ابن هشام في القطر: الخبر المسند ... لكان أولى، لأن الاسم نوع من أنواع الخبر، نحو: زيدٌ قائم، فقائم هذا خبر وهو اسمٌ، لكن زيد قام أبوه هل يشمله التعريف؟ الجواب: لا، لا يشمله التعريف، إذاً لو قال الخبر هو المسند لدخل الاسم والفعل، وخرج الحرف؛ لأن الحرف لا يكون مسنداً. وفي نسخة والخبر الجزء وهي أولى. [وَالخَبَرُ الإِسْمُ] ولو مؤولاً قد يقع الخبر مؤولاً بالصريح، نحو: الخير أن تحسن إلى الغير ـ هكذا قيل ـ الخير مبتدأ، وأن تحسن: أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر عن المبتدأ كأنه قال الخير إحسانك إلى الغير، إذًا يقع اسماً صريحاً وهذا هو الأكثر والأشهر وقد يقع اسماً مؤولاً بالصريح. [الَّذِي قَدْ أُسْنِدَا

إلَيْهِ] ألف أسندا للإطلاق، وضمير إليه يعود إلى المبتدأ، إذًا الخبر هو الاسم الذي قد أسند إلى المبتدأ، فحينئذٍ صار الخبر مسنداً والمبتدأ مسندًا إليه، ولكن هذا التعريف فيه قصور، والأصح أن يعرف الخبر بأنه: المسند الذي تتم به مع المبتدأ فائدة - هذا تعريف ابن هشام وهو أولى من تعريف الناظم هنا- قوله: المسند يشمل ما إذا وقع الخبر جملة فعلية، أو جملة اسمية، وما إذا وقع ظرفاً أو جاراً ومجرورًا أو اسماً، يشمل أنواع الخبر الأربعة، كلها داخلة في قوله: المسند، وخرج بالمسند الزيدان من قولك: أقائم الزيدان، فإنه فاعل وليس بخبر، لأن الخبر مسند والزيدان في هذا التركيب مسند إليه. وقوله: الذي تتم به مع المبتدأ فائدة: أخرج الفعل فإنه مسند وتتم به الفائدة ولكن مع الفاعل لا مع المبتدأ، نحو: قام زيدٌ، فقام مسند وزيدٌ مسند إليه، فكل من الخبر والفعل مسند، لكن الخبر مسند تتم الفائدة به مع المبتدأ، والفعل مسند تتم به الفائدة مع الفاعل لا مع المبتدأ. إذًا الخبر هو المسند الذي تتم به مع المبتدأ فائدة، فخرج بالمسند الفاعل في نحو قولك: أقائم الزيدان، وخرج بقوله: مع المبتدأ الفعل لأنه مسند وتمت به الفائدة مع الفاعل. لكن قوله: [وَالخَبَرُ الإِسْمُ] يؤوله بعض النحاة بأن الأصل في الخبر كونه مفرداً، وكل خبرٍ وقع جملة فعلية أو اسمية فهي مؤولة بالمفرد، فحينئذٍ قوله: الإسم سواء كان صريحاً أو مؤولاً عن جملة فعلية أو جملة اسمية، وأما الظرف والجار والمجرور فهو على الخلاف إما أن يكون متعلقاً بمفردٍ فحينئذٍ يكون داخلاً في المفرد،

وإما أن يكون متعلقاً بفعل فيؤول أيضاً إلى مفرد، لكن أحسن من هذا أن يصرح فيقال: الخبر المسند، لأن دلالة الالتزام مهجورة في التعاريف، وقد نص على ذلك الغزالي في معيار المنطق، وهذا أصح؛ لأن التعريف المقصود به إيضاح وبيان الماهيات والحقائق، فإذا قيل هنا: الاسم المراد به الاسم ولو كان بتأويل الجملة الفعلية والاسمية إلى المفرد، متى يدرك الطالب أن الجملة الفعلية والاسمية تؤول بالمفرد؟! ولو أدرك فلن يستطيع أن يؤول لأنه لا بد أن يأتي بالمصادر وكيف يأتي بالمصادر؟! إذًا لا بد أن يكون متمكناً نوعاً ما، فقوله: [وَالخَبَرُ الإِسْمُ] على هذا التأويل صار التعريف صحيحاً ولا بأس به. ثم لما بين حقيقة الخبر ذكر لك حكمه فقال: [وَارْتِفَاعَهُ الزَمْ أَبَدَا] يعني الخبر من المرفوعات، لأنه عمدة وحق العمدة الرفع، [وَارْتِفَاعَهُ] أي الخبر مطلقاً فالضمير يعود على الخبر، وهو مفعول به مقدم والعامل فيه الزم المتأخر، [الزَمْ] فعل أمر، والأمر يقتضي الوجوب، [أَبَدَا] المراد به التأييد، أي أنه لا يخرج عن كونه مرفوعاً، فخرج المنصوب والمجرور فلا يكون خبرًا، وأما إذا وقع الخبر جارًا ومجرورًا كقولك: زيد في الدار، فليس هو الخبر بل متعلقه هو الخبر، ومتعلقه مرفوع، إذًا لا يكون الخبر مجروراً، وإذا وقع الخبر ظرفًا منصوبًا كقولك: زيدٌ عندَك، ومنه قوله تعالى: (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الأنفال:42] فليس أَسْفَلَ هو الخبر بل متعلقه هو الخبر وهو المرفوع. [وَارْتِفَاعَهُ الزَمْ أَبَدَا] سواء كان رفعه ظاهراً أو مقدراً أو محلياً، وسواء كان بحركة أو حرفٍ،

والعامل فيه على الأصح هو المبتدأ، فحينئذٍ يكون العامل لفظياً، قال ابن مالك: وَرَفَعُوا مُبْتَدَأً بِالِابْتِدَا ... كَذَاكَ رَفْعُ خَبَرٍ بِالمُبْتَدَا فالعامل في الخبر لفظي وهو عين المبتدأ، ولو كان جامداً، نحو: زيد قائم، فزيدٌ مبتدأ وهو الذي أحدث الرفع في الخبر، وزيدٌ عَلَم فكيف يرفع وهو علم ليس بفعل ولا فيه معنى الفعل؟! نقول: لكونه مستلزماً للخبر نزل منزلة العامل الفعل في الاقتضاء، لأن الفعل إنما عمل لكونه مقتضياً وطالبًا للفاعل وغيره، لأنه حدث لا بد له من محدِث ومحلٍّ يقع عليه الحدث والأثر فهذا هو الاقتضاء والطلب. كذلك زيد مبتدأ، والمبتدأ يلزم منه أن يكون له خبر؛ لأنه محكوم عليه وكل محكوم عليه لا بد له من محكوم به، فهذا الاقتضاء والطلب هو الذي سوغ للمبتدأ ولو كان جامداً أن يكون عاملاً في الخبر الرفع. ثم قسم لك الخبر فقال: وَمُفْرَدًا يَأْتِي وَغَيْرَ مُفْرَدِ فَأَوَّلٌ نَحْوُ سَعِيْدٌ مُهْتَدِي [وَمُفْرَدًا يَأْتِي] يأتي فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الخبر، ومفردًا حال منه تقدمت على عاملها، أي يأتي الخبر حال كونه مفرداً، والمفرد يختلف حده باختلاف الأبواب، فهو في باب الإعراب على ما سبق بيانه أنه ما ليس مثنىً ولا مجموعاً ولا ملحقاً بهما ولا من الأسماء الستة، والمفرد هنا في باب الخبر له معنى آخر مغاير للمفرد في باب الإعراب، وهو

ما ليس جملة ولا شبيهاً بالجملة. وما ليس جملة أي بنوعيها وهو الجملة الاسمية والجملة الفعلية، ولا شبيهاً بالجملة والمراد به الجار والمجرور والظرف، والشأن هنا كالشأن في الحرف: وَالحَرْفُ مَا لَيْسَ لَهُ عَلاَمَهْ ... فَقِسْ عَلَى قَوْلِي تَكُنْ عَلاَّمَهْ هنا بالاستقراء نظروا فإذا الخبر يأتي على أربعة أنواع: الأول: يأتي جملة فعلية. والثاني: يأتي جملة اسمية. والثالث: يأتي شبيهاً بالجملة وهو كونه ظرفاً أو جاراً ومجرورًا. والرابع: ما عدا ذلك، وهذا على أنواع: الأول: يأتي مفرداً، فيعم المفرد في باب الإعراب كزيد وغيره كأبوك، تقول: زيد أبوك، وزيد قائم. والثاني: يأتي مثنى، كقولك: الزيدان قائمان. والثالث: يأتي جمعاً بأنواعه، كقولك: الزيدون قائمون، وهذه مساجد، والهندات قائمات، قالوا: من باب الاصطلاح نجعل هذه الأنواع الثلاثة في مقابلة الجملة والشبيه بالجملة، فوضعوا له اصطلاحًا وهو أنه مفرد يعني ليس جملة اسمية ولا جملة فعلية وليس شبيهاً بالجملة أي ليس جاراً ومجروراً ولا ظرفًا، فحينئذٍ إذا جاء قوله: زيد قائم، تقول: قائم ليس بجملة ولا شبيه بالجملة فهو مفرد، وهو أيضًا مفرد في باب الإعراب فاتحد الاصطلاحان، وافترقا في نحو: زيدٌ أبوك، فهو مفرد هنا لا في باب الإعراب، والزيدان قائمان، فالزيدان مبتدأ وقائمان خبر، وهو مفرد، والزيدون قائمون، فالزيدون مبتدأ وقائمون خبر، وهو مفرد، والهندات قائمات، فالهندات مبتدأ وقائمات خبر، وهو مفرد، إذاً المفرد في باب الإعراب لا يشمل المثنى ولا الملحق به ولا الجمع ولا

الملحق به، وهنا المفرد يشمل المثنى وما عطف عليه. [وَغَيْرَ مُفْرَدِ] بالنصب معطوفٌ على مفردًا، أي ويأتي الخبر حال كونه غيرَ مفرد، والمراد به الجملة سواء كانت الجملة فعلية أو اسمية، وشبه الجملة سواء كان جاراً ومجرواً أو ظرفاً، [فَأَوَّلٌ] الفاء فاء الفصيحة، فأولٌ أي الأسبق في الذكر وهو المفرد [نَحْوُ سَعِيْدٌ مُهْتَدِي] وعادة النحاة أنهم يقررون الشروط بالأمثلة، نحو أي مثل قولك: سعيدٌ وهو مبتدأ مرفوع بالابتداء ورفعه ضمة ظاهرة في آخره، ومهتدي بإثبات الياء، والأصل أنها تحذف في الوصل فتقول: مهتدٍ، فمهتدي خبر مرفوع ورفعه ضمة مقدرة إما أن تجعلها على الياء التي رجعت بعد حذف التنوين فحينئذٍ يكون الحرف مذكوراً، وإما أن تجعلها على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين عند الوصل، إذًا مهتدي خبر، ونوعه أنه مفرد. ودل بالمثال - مهتدي - أن ضابط المفرد ما ليس جملة ولا شبيهاً بالجملة، لأنه سيذكر غير المفرد مع التمثيل لهما، فقال: وَالثَّانِي قُلْ أَرْبَعَةٌ مَجْرُورُ نَحْوُ العُقُوبَةُ لِمَنْ يَجُورُ وَالظَّرْفُ نَحْوُ الخَيْرُ عِنْدَ أَهْلِنَا وَالفِعْلُ معْ فَاعلِهِ كَقوْلِنَا زَيدٌ أَتَى وَالمُبْتَدَا مَعَ الخَبَرْ كَقَوْلِهِمْ زَيدٌ أَبُوهُ ذُو بَطَرْ [وَالثَّانِي قُلْ أَرْبَعَةٌ مَجْرُورُ] [وَالثَّانِي] الذي هو غير المفرد الذي يقابل المفرد [قُلْ] في عدِّه [أَرْبَعَةٌ] أي أربعة أشياء على التفصيل، وإلا الجملة بقسميها تدخل في قسم واحد سواء كانت جملة فعلية أو جملة إسمية وهو قد جعلهما قسمين، و [أربعةٌ] أي أربعة أشياء،

والتنوين فيه نائب عن المضاف إليه، والتنوين إذا لحق أسماء العدد يكون ككل وبعض من تنوين العوض عن الكلمة، [مَجْرُورُ] إذًا يكون مجروراً والمراد به حرف الجر ومدخوله، [نَحْوُ العُقُوبَةُ لِمَنْ يَجُورُ] ويشترط فيه أن يكون تاماً لا ناقصاً، وكذلك الظرف إذا وقع خبراً، يشترط فيهما أن يكونا تامين، والمراد بالتمام: ما يُفهم معناه بدون متعلقه، بمعنى أنه إذا رُكِّب مع جملة أفاد السامع فائدة تامة كما لو قال: زيدٌ في الدار، ففي الدار، فهمت المراد به من اللفظ أنه كائن وموجود في الدار، زيد عندك فهمت أن المراد بعندك أنه كائن وموجود ومستقر عندك، لكن لو قال: زيد بك لم تحصل به الفائدة، إذًا لا يمكن أن يُفهم الجار والمجرور بك إلا إذا ذكرت المتعلَّق فتقول: زيدٌ راغب أو واثق بك، فراغب أو واثق المحذوف هو متعلق الجار، إذًا ما فُهم معناه دون متعلَّقه فهو جار ومجرور تام، وظرف تام، وإذا لم يفهم إلا بمتعلقه لا بد حينئذٍ من شيء يتمم معناه، فنقول هذا ظرف وجار ومجرور ناقص فلا يصح إيقاع الناقص من النوعين: الظرف والجار والمجرور خبراً عن المبتدأ، [نَحْوُ العُقُوبَةُ لِمَنْ يَجُورُ] نحو أي مثل على تقدير محذوف أي نحو قولك: العقوبة لمن يجور من الجور وهو الظلم، فالعقوبة مبتدأ مرفوع بالابتداء ورفعه ضمة ظاهرة في آخره، لمن يجور: اللام حرف جر، ومن اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل جر، وإذا وقع الجار والمجرور خبراً، فهل عين الجار والمجرور هو الخبر أو لا؟ قال ابن السراج: الجار والمجرور نفسه هو الخبر، وذهب

أكثر النحاة إلى أنه ليس بخبر بل لا بد من تقدير متعلَّق يتعلق به الجار والمجرور - وفلسفة هذه المسألة قد بينتها في شرح الملحة فمن أرادها فليرجع إليها - لمن يجور: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، إذًا عندنا متعلِق بكسر اللام، ومتعلَق بفتح اللام، المتعلَق محذوف واجب الحذف في مثل هذا التركيب، والمتعلِق بكسر اللام هو الجار والمجرور، ومثله الظرف، فنحو: زيدٌ عندك، فالخبر ليس هو عين الظرف، ولا عين الجار والمجرور، بل هو متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف يجب حذفه إذا كان عاماً - وأيضاً هذه فُصلت في شرح الملحة - وهذا المحذوف قيل: يقدر اسمًا، وقيل: يقدر فعلاً، يقدر اسماً فنقول: مستقر أوكائن أو ثابت، زيدٌ عندك أي زيدٌ كائن عندك، زيد مستقر عندك، زيد ثابت عندك، زيدٌ حاصل عندك من هذه الألفاظ التي تدل على العموم وعلى الوجود والاستقرار والكينونة، وقيل: بل يقدر فعلاً زيدٌ استقر عندك، زيدٌ كان عندك، زيدٌ ثبت عندك، زيدٌ حصل عندك، وأيهما أولى؟ فيه خلاف بين النحاة، وابن مالك جوز الوجهين ولذلك قال: وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ اوْ بِحَرْفِ جَرْ ... نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أَوِ اسْتَقِرْ وأخبروا: يعني أوقعوا وليس هو عين الخبر، ولذلك قال: ناوين معنى كائن وهو اسم فاعل، أو استقر وهو فعل، وبعضهم رجح أن يكون اسم فاعل، وبعضهم رجح أن يكون فعلاً. وابن هشام قال في المغنى: والحق أنه يجوز الوجهان؛ لتعارض أصلين، لأن عندنا أصلا وهو أن الأصل في الخبر أن يكون مفرداً، والجار

والمجرور والظرف منصوبان، والناصب له، هو المتعلَّق، في الدار هذا منصوب في المحل كما أن الظرف قد ينصب لفظًا أو محلا، فحينئذٍ المحذوف المتعلَّق قد أحدث النصب، والأصل في العمل هو الفعل، فحصل عندنا تعارض، تعارضَ أصلان كما يقول الفقهاء، بعضهم رجح الأصل أن يكون مفرداً لقرائن ومرجحات، وبعضهم رجح أن يكون فعلا لقرائن ومرجحات، وذكرت هذه المسألة مفصلة أيضاً في شرح الملحة. ثم قال: [وَالظَّرْفُ نَحْوُ الخَيْرُ عِنْدَ أَهْلِنَا] والثاني من أنواع الخبر الظرف، وذلك نحو قولك: الخير عند أهلنا، وإعرابه: الخير مبتدأ مرفوع بالابتداء ورفعه ضمة ظاهرة في آخره، وعندَ منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف واجب الحذف، إذًا هل عند هو الخبر؟ نقول: لا بل هو المتعلِّق، وبعضهم يجعله المتعلَّق مع المتعلِّق، فإذا قيل: التقدير الخير كائن عندك، كائن عندك كله الخبر أم كائن فقط؟ فيه قولان: والأصح أنه المتعلَّق فقط، بدليل أن المتعلَّق الخاص -سواء ذكر أو حذف للعلم به- هو الخبر، لو قال قائل زيدٌ واثق بك، زيدٌ مبتدأ واثق: خبر، بك: جار ومجرور، متعلق بواثق، وأيهما الخبر؟ بلا خلاف أن واثق هو الخبر، وليس واثق بك كله الخبر، فحينئذٍ لماذا نفرق بين متماثلين؟! فنقول: زيد كائن عندك كلها الخبر، وزيد واثق بك واثق هو الخبر! نقول: لا فرق، فطرداً للباب نقول: المتعلَّق المحذوف - سواء كان واجب الحذف كما إذا كان عاماً أو جائز الحذف فيما إذا دل عليه قرينة - المتعلَّق وحده هو

الخبر، وأن المذكور المتعلِّق متمم لمعناه، فعند: منصوب على الظرفية، والعامل فيه محذوف، والعامل المحذوف هو عينه الخبر وعند مضاف وأهلنا مضاف إليه. ثم قال: [وَالفِعْلُ مَعْ فَاعِلِهِ] هذا هو النوع الثالث من أنواع الخبر، الخبر يقع جملة سواء كانت جملة فعلية أو جملة اسمية، وهذه الجملة التي تقع خبراً عن المبتدأ إما أن تكون هي نفس المبتدأ في المعنى أو لا، فإن كانت هي نفس المبتدأ في المعنى فلا تحتاج إلى رابط يربطها بالمبتدأ، وإن لم تكن هي نفس المبتدأ في المعنى، فحينئذٍ تكون أجنبية منفصلة، فإذا كانت أجنبية منفصلة فلا بد من رابط يربطها بالمبتدأ؛ لأن جملة الخبر هي جزء من جملة المبتدأ؛ لأن عندنا جملتين: الأولى: زيدٌ قام أبوه، وهذه كلها تسمى جملة كبرى وهي التي وقع خبرها جملة، والجملة الأخرى: قام أبوه التي وقعت خبرا عن زيد، وهذه تسمى جملة صغرى لأنها وقعت خبراً عن المبتدأ، وحينئذٍ إذا أردت أن تصل بين جملتين وتجعلهما في سياق واحد، لا يصح أن تكون الجملة التي أوقعتها خبراً عن المبتدأ أن تكون أجنبية عنها، إذًا لا بد من رابط يربط بينهما بين المبتدأ والجملة التي وقعت خبراً سواء كانت الجملة فعلية أو اسمية، والرابط هنا واحد من أربعة أمور: الأول: أن يكون ضميراً سواء كان ظاهراً أو مقدراً. الثاني: أن يكون اسم إشارة. الثالث: إعادة المبتدأ بلفظه.

الرابع: أن يكون داخلاً في عموم الجملة التي وقعت خبراً. أما الضمير فهو الرابط الأول الذي يربط بين الجملة الفعلية، والجملة الاسمية بالمبتدأ سواء كان ملفوظاً به أو مقدراً، وهو أصل الروابط، نحو قولك: زيد قام أبوه، زيدٌ مبتدأ أول، وقام فعل ماضٍ، وأبوه فاعل، والجملة الفعلية من الفعل وفاعله في محل رفع خبر المبتدأ، والرابط الضمير في أبوه، فإنه يعود على زيد، فحصل الربط بين المبتدأ وجملة الخبر، كأنك قلت: زيدٌ قام أبوزيدٍ فأعدت المبتدأ بإرجاع الضمير إليه، ونحو: السَّمنُ منوانِ بدرهم، السمن مبتدأ أول، ومنوان مبتدأ ثانٍ، وبدرهم جار ومجرور متعلق بمحذوف واجب الحذف خبر عن المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والرابط ضمير محذوف، وتقديره السمن منوان منه أي من السمن، وقيل: عليه يحمل قوله جل وعلا: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [النساء:95] بالرفع قراءة سبعية، وكلٌ مبتدأ، ووعد: فعل ماضٍ، ولفظ الجلالة فاعل، والحسنى مفعول به، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ، والرابط محذوف، وتقديره وكل وعده الله الحسنى. وأما اسم الإشارة فهو الرابط الثاني الذي يربط بين الجملة الاسمية بالمبتدأ، نحو قوله تعالى: (وََلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر) [الأعراف:26] على أحد الوجوه، فلا يتعين هذا الإعراب لكنه مثال ويصح الإعراب على ما ذكره الكثير، ولباس مبتدأ أول، وهو

مضاف والتقوى مضاف إليه، وذلك مبتدأ ثانٍ، وخير خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والرابط بين الجملة الاسمية التي وقعت خبرًا والمبتدأ هو اسم الإشارة ذا، لأنه في نية التكرار لأن ذا اسم إشارة، والمشار إليه لباس، إذًا هو داخلٌ في الجملة الخبرية، والمراد بالرابط أن يكون المبتدأ موجوداً معنىً في الجملة الفعلية أو الجملة الاسمية التي وقعت خبراً، وهنا قال: ذلك خير، والمشار إليه هو اللباس، فحينئذٍ أعيد بالمعنى فصار المبتدأ داخلاً في الجملة الاسمية فحصل الربط بينهما. وأما إعادة المبتدأ بلفظه فهو الرابط الثالث الذي يربط بين الجملة الاسمية بالمبتدأ، نحو قوله تعالى: (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) [القارعة] فالقارعة مبتدأ أول، ما القارعة: ما اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ ثانٍ، والقارعة خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والرابط هو إعادة المبتدأ بلفظه، ومثله قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة]. وأما كونه داخلاً في عموم الجملة التي وقعت خبراً، فهو الرابط الرابع الذي يربط بين الجملة الاسمية بالمبتدأ، وهذا في نحو: زيدٌ نعم الرجل - على قولٍ- فزيدٌ مبتدأ، ونعم فعل ماضٍ، والرجل فاعل، والجملة من الفعل وفاعله في محل رفع خبر المبتدأ، والرابط

هو العموم، لأن أل في فاعل نِعْمَ -كما ذكرناه في نعم المرأة- للجنس، فحينئذٍ يكون زيد داخلاً في الجنس، إذا قيل: زيد نعم الرجل، فزيدٌ رجل، إذًا هو داخل في مفهوم قوله الرجل فأعيد مرة أخرى بالمعنى. وحصل الربط بالعموم لأن زيدًا فرد من أفراد الرجل، فدخل في قوله الرجل وصار جزءاً من مفهوم الجملة الفعلية التي وقعت خبراً عن المبتدأ وهذا هو حقيقة الربط. إذًا لا بد من رابط يربط الجملة الفعلية والجملة الاسمية بالمبتدأ، وهذا فيما إذا كانت الجملة أجنبية عن المبتدأ، أما إذا كانت الجملة هي عين المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى رابط، وذلك نحو قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1] هو ضمير الشأن مبتدأ، ولفظ الجلالة مبتدأ ثانٍ، وأحدٌ خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، ولا يوجد رابط لا ضمير ولا اسم إشارة ولا إعادة المبتدأ بلفظه ولا عموم، لأن الجملة جملة الخبر هي عين المبتدأ في المعنى فلا تحتاج إلى رابط. ومثله: كلمةُ التوحيد لا إله إلا الله، فكلمة التوحيد مبتدأ، ولا إله إلا الله بعد إعرابها تفصيلاً تقول: في محل رفع خبر المبتدأ، ولا يوجد رابط لأننا لا نفتقر إلى جعل المبتدأ جزءاً وفرداً من أفراد الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ؛ لأنها عينها في المعنى، فكلمة التوحيد هي نفسها لا إله إلا الله، حينئذٍ لا نحتاج إلى رابط يربطها بالمبتدأ. قال الناظم: [وَالفِعْلُ مَعْ فَاعِلِهِ كَقَوْلِنَا زَيدٌ أَتَى] زيدٌ مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، لأنه اسم ظاهر

وهو مفرد فيرفع بالضمة على الأصل، وأتى فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدر، لأنه غير صحيح الآخر، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو يعود على زيد، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ، وهي أجنبية عنه فلا بد من رابط، وهو الضمير المستتر في الفعل. ثم قال: [وَالمُبْتَدَا مَعَ الخَبَرْ] يعني الجملة الاسمية المؤلفة من المبتدأ والخبر تقع خبراً عن المبتدأ، [كَقَوْلِهِمْ زَيدٌ أَبُوهُ ذُو بَطَرْ] كقولهم مثالا للجملة الاسمية التي تقع خبراً عن المبتدأ: زيدٌ أبوه ذوبطر، زيدٌ مبتدأ أول، وأبوه مبتدأ ثانٍ، وذو بطر ذو بمعنى صاحب أي صاحب بطرٍ، وهي من الأسماء الستة حينئذٍ يكون خبراً للمبتدأ الثاني مرفوعاً، ورفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة، وأبوه ذو بطر الجملة المؤلفة من المبتدأ والخبر في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وهي أجنبية، والرابط هو الضمير في أبوه. والحاصل أن الخبر هو المسند الذي تتم به مع المبتدأ فائدة، ثم ينقسم إلى مفرد، وغير مفرد، والمفرد هو ما ليس جملة ولا شبيهاً بالجملة، وغير المفرد قسَّمه الناظم هنا تبعاً للأصل إلى أربعة أشياء فالأول: الجار والمجرور، والثاني: الظرف، والثالث: الفعل مع فاعله، والرابع: المبتدأ مع خبره، ولا بد من متعلَّق للجار والمجرور، فالجار والمجرور متعلِّق بمحذوف، والمحذوف هو الخبر. ثم الجملة بنوعيها لا بد من رابط يربطها بالمبتدأ إن كانت أجنبية عنه، وإن كانت هي عين المبتدأ فلا تحتاج إلى رابط.

عرفنا أن المبتدأ والخبر مرفوعان، وقد يسلبان هذا الحكم، فيدخل على المبتدأ ما يسلبه حكمه وهو الرفع، ويدخل على الخبر ما يسلبه حكمه وهو الرفع، فحينئذٍ المسلوب هو حكم المبتدأ والخبر، فالناسخ داخلٌ على الجملة لا على عين المبتدأ فقط، ولا على عين الخبر فقط، ولذلك يقال: نواسخ الجملة الاسمية، بمعنى أنَّ كان وأخواتها، أو إن وأخواتها، أو ظن وأخواتها، هذه تدخل على الجملة فلذلك تؤثر أثرين، وإلا لو كانت داخلة على المبتدأ فقط لما أثرت في الخبر. هذا ما يسمى بأبواب النواسخ، والنواسخ جمع ناسخ، وهو مأخوذ من النسخ، وهو في اللغة بمعنى الرفع والإزالة. وهذا مناسب للمعنى الاصطلاحي عند النحاة، يقال: نسخت الشمس الظل بمعنى أزالته، واصطلاحاً: ما يرفع حكم المبتدأ والخبر. ما اسم موصول بمعنى الذي يصدق على الفعل والحرف، أي فعل أو حرف يرفع حكم المبتدأ والخبر، إذًا دخوله على الجملة الاسمية، لا على المبتدأ فقط، هذه النواسخ منها ما يرفع المبتدأ وينصب الخبر وهو كان وأخواتها، ومنها ما ينصب المبتدأ ويرفع الخبر وهو باب إن وأخواتها، ومنها ما ينصب المبتدأ والخبر وهو باب ظن وأخواتها، وكلها تسمى أبواب النواسخ، والرفع الذي تحدثه كان بعد دخولها على المبتدأ ليس هو عين الرفع الذي كان قبل دخول كان، تقول: كان زيدٌ قائماً، أصل التركيب زيدٌ قائم دخلت كان على المبتدأ والخبر، فقيل: كان زيدٌ قائماً، فحصل النسخ للجزأين، نُسخ الرفع الذي وُجد بالابتداء، ثم جُلب إلى الاسم رفعٌ جديدٌ بكان، لأن زيدٌ قائم زيدٌ مرفوع بالابتداء وهو مبتدأ، والعامل فيه عامل

معنوي، فإذا قيل: كان زيدٌ قائماً، حينئذٍ نقول: دخول كان على المبتدأ سلبه حكم الرفع الذي أحدث بالابتداء فأتى برفع جديد أحدثه عامل لفظي وهو كان، وقائماً هذا منصوب بكان، واتفق النحاة البصريون والكوفيون على أن كان نصبت الخبر، واختلفوا في اسمها هل هو مرفوع برفعه السابق أم أن كان أحدثت فيه رفعًا جديدًا؟ والثاني هو الصواب، كذلك إنَّ تدخل على المبتدأ والخبر، فتنصب المبتدأ وهذا باتفاق البصريين والكوفيين، وترفع الخبر، وهذا الرفع ليس هو عين الرفع الذي أحدثه المبتدأ في الخبر، لأن زيدٌ قائمٌ، قائمٌ خبر وهو مرفوع بالمبتدأ، إذا قيل: إن زيداً قائمٌ حدث النسخ والإزالة عند البصريين لأن الرفع الذي كان قبل دخول إن محدث بالمبتدأ، لأن العامل يؤثر في المعنى، فالضمة ولو اشتركت في مواضع فحينئذٍ يتعين أن تحمل على معنىً اقتضاها العامل، فزيدٌ قائمٌ الضمة في قائمٌ اقتضاها المبتدأ، وهنا إن زيداً قائمٌ هذه الضمة ليست هي عين الضمة التي قبل دخول إن وهذا مذهب البصريين، والكوفيون على أن الرفع على ما هو عليه قبل دخول العامل، فحينئذٍ تكون إنَّ قد نصبت ولم ترفع، وأما ظن وأخواتها فالنسخ قد حصل من رفع الجزأين إلى نصبهما، تقول: ظننت زيداً قائماً دخلت ظن بعد استيفاء فاعلها فنصبت الجزأين. ويسمى الأول في باب إن وأخواتها اسم إن والثاني خبر إن، ويسمى الأول في باب كان اسم كان والثاني خبر كان، ويسمى الأول أيضاً فاعلاً مجازاً والثاني مفعولاً مجازاً، ويسمى الأول في باب ظن مفعولاً أولا والثاني مفعولاً ثانيا باتفاق.

باب كان وأخواتها

بَابُ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا هذا شروع من الناظم رحمه الله تعالى في أبواب النواسخ، والنواسخ: جمع ناسخ، مشتق من النسخ وهو لغة: الرفع والإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته، وهذا المعنى مناسب للنواسخ التي تكون في هذا الموضع وهي نواسخ المبتدأ والخبر، واصطلاحاً الناسخ هنا: ما يرفع حكم المبتدأ والخبر، وهو على ثلاثة أنواع كما سبق بيانه، وهذه النواسخ قسمان: أفعال، وحروف، يعني منها ما هو فعل، ومنها ما هو حرف. باب كَانَ وَأَخَوَاتِهَا كلها أفعال باتفاق إلا ليس، فالجمهور على أنها فعل، وقيل: حرف، وهو مذهب أبي على الفارسي، والصواب: أنها فعل بدليل دخول تاء الفاعل عليها، قال تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية:22] لست: فالتاء تاء الفاعل، ولا تتصل إلا بالفعل، فحينئذٍ نحكم على أن ليس فعل على الصحيح. قدَّم المصنف هنا باب كان وأخواتها لأنها أفعال كما ذكرنا، ثم ثنى بإن وأخواتها لأنها أبقت أحد ركني الإسناد وهو الخبر كما في نحو: إن زيداً قائمٌ، فقائم في اللفظ كأنه خبر قبل دخول إن، وأما ظن وأخواتها فهي قد رفعت حكم المبتدأ والخبر من الرفع إلى النصب، نحو: ظننت زيداً قائماً فيعربان مفعولين كما سيأتي. قال: باب كَانَ: أصلها كَوَنَ، فالألف منقلبة عن واو، ووزنه فَعَلَ على الصحيح.

لأن مضارعه يَكْوُن على وزن يَفعُل، فحينئذٍ إذا كان يَفْعُل لا بد أن يكون ماضيه إما من باب فَعَل أو فَعُل، ويمتنع أن يكون من باب فَعُل فيتعين أن يكون من باب فَعَل، وهكذا إذا أشكل عليك معرفة الصيغة أو الباب، تنظر إلى المضارع فنقول: يكون أصله يَكْوُن على وزن يَفْعُل، ويَفْعُل في لغة العرب لا يأتي إلا من باب فَعَل يعني ماضيه فَعَل بفتح العين أو فَعُل بضم العين، ويكون من باب فَعُل إذا كان من الطبائِع والغرائز ويكون لازماً، وهنا كان ليست من الطبائع ولا من الغرائز، فتعين أن تكون من باب فَعَل. إذًا أصل كان كَوَنَ، والألف منقلبة عن الواو، بدليل المصدر قال الشاعر: بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الفَتَى ... وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيكَ يَسِيرُ فصرح بالمصدر، وأيضًا الفعل المضارع يكون، هذه الواو هي الألف المنقبلة في كان. بَابَ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا: جمع أخت، والمراد به النظائر، يعني: باب كان ونظائرها في العمل، وإنما خص كان دون غيرها لأن كان أم الباب، وسبق أن الشيء إذا قيل: بأنه أم الباب معناه أنه اختص بأحكام ينفرد بها عن غيره، فحينئذٍ كان تنفرد بأحكام لا يشاركها غيرها من أخواتها، كحذفها مع اسمها بعد إِنْ ولو كثيراً، كذلك تزاد في حشو، وتحذف نونها من مضارعها بشرطه، إذًا لها أحكام تختص بها كان دون أخواتها.

باب كَانَ أي الناقصة، وكذلك أخواتها نواقص، ونقصانها عند الجمهور لسلبها دلالتها على الحدث، فهي فعل ناقص لأنها تدل على الزمن فقط دون الحدث، وتكون تامة وعند الجمهور أن التمام دلالتها على الحدث والزمن كقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة:280] أي وإن وجد وحصل ذو عسرة، فكان هذه تامة لأنها دلت على حدث وزمن، إذا سُلبت الحدث واختصت بالزمن فهي الناقصة، نحو: كان زيد قائماً، فكان هنا فعل ناقص بمعنى أنه سلب دلالته على الحدث، والأصل في الفعل أنه يدل على الحدث، بل لم يكن فعلاً إلا لدلالته على الحدث والزمن. فكان الناقصة المراد بها في أصل ضعها أنها دالة على اتصاف الاسم بمضمون الخبر في الزمن الماضي فقط، والصحيح أن النقصان والتمام باعتبار احتياجها وافتقارها إلى المنصوب، إذا اكتفت بمرفوعها ولم تطلب منصوباً فهي تامة، قال ابن مالك: وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي وكان التامة إنما كانت تامة لاكتفائها بالمرفوع يعنى تطلب مرفوعاً فقط، كقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة:280] ولا خبر لها لأنها لم تطلب منصوباً، ونفسرها بمعنى وجد وحصل ونحو ذلك، أي وإن وجد ذو عسرة أو حصل أو ثبت ذو عسرة، فحينئذٍ اكتفت بالمرفوع ولم تطلب منصوباً, أما كان الناقصة نحو: كان زيد قائماً لم تكتفِ بمرفوعها بل طلبت منصوباً، وإذا

أُطلقت كان فالمراد بها الناقصة، إذًا باب كَانَ أي كان الناقصة لأنها هي التي تدخل على المبتدأ والخبر، وهي من النواسخ بخلاف التامة، والنوع الثالث من أنواع كان: كان الزائدة وهذه لا تحتاج إلى مرفوع ولا إلى منصوب. فحينئذٍ تكون كان باعتبار المرفوع والمنصوب على ثلاثة أقسام: تامة وهذه تفتقر إلى مرفوع فقط، وناقصة وهذه تفتقر إلى مرفوع ومنصوب، وزائدة وهذه لا تحتاج لا إلى مرفوع ولا إلى منصوب. وزيادة كان خلاف القياس لأن القياس المطرد عند أهل اللغة أن الذي يزاد هو الحرف، وأما الفعل والاسم فالأصل عدم الزيادة؛ إلا ما ثبت باستقراءٍ وكان مطرداً في لغة العرب مثل كان الزائدة، ولكن زيادتها مقيَّدة بأن تزاد في حشو يعني في أثناء الكلام، ولا تزاد أولاً ولا آخراً فلا يقال في مثل: كان زيد قائمًا، أنَّ كان هذه زائدة. أو زيد قائم كان، أنها زائدة بل لا بد أن تكون في أثناء الكلام، ولا تزاد إلا بلفظ الماضي، وأن تزاد بين شيئين متلازمين، ليسا جاراً ولا مجروراً، كالصفة مع الموصوف تقول: جاء زيدٌ كان العالمُ، وقعت كان زائدةً بين الموصوف وصفته وهذا مسموع، وسُمع أيضًا: لم يوجد كان مثلُك، زيدت بين الفعل والفاعل، وبين المبتدأ والخبر: زيد كان قائم، وبين الفعل ومفعوله، إلا أنه لا يقاس إلا في موضع واحد وهو صيغة التعجب كما مثل ابن مالك رحمه الله بذلك: وَقَدْ تُزَادُ كَانَ فِي حَشْوٍكَمَا ... كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا

ما كان أحسن زيداً فأصل التركيب: ما أحسن زيداً، فزيدت كان بين ما التعجبية وفعل التعجب وهذا قياس مطرد، وما عداه فهو مسموع، يعني ليس لك أن تزيد كان إلا في هذا الموضع فقط، وما عداه إنما يكون مبناه على السماع والنقل عن لغة العرب، كذلك زيادتها بصيغة الفعل المضارع. قال الناظم رحمه الله: وَرَفْعُكَ الاِسْمَ وَنَصْبُكَ الخَبَرْ ... بِهَذِهِ الأَفْعَالِ حُكْمٌ مُعْتَبَرْ [وَرَفْعُكَ الاِسْمَ] الواو للاستئناف البياني، ورفع مبتدأ، والاسم مفعولٌ به، والناصب له المبتدأ لكونه مصدراً؛ بعد ما أضيف للذي يحتاجه وهو الفاعل نصب المفعول به، ورفعك أنت، فالكاف في محل رفع فاعل وهو مضاف، فله إعرابان من جهتين، من جهة كونه مضافاً إليه فهو في محل جر، ومن جهة كونه فاعلاً فهو في محل رفع، فله محلان جرٌّ ورفعٌ، جرٌّ لأنه مضاف إليه، ورفع لأنه فاعل. [وَنَصْبُكَ الخَبَرْ] يقال فيه ما قيل في الأول، والخبر مفعول به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. [بِهَذِهِ الأَفْعَالِ] الجار والمجرور متعلق بالمبتدأ، [حُكْمٌ مُعْتَبَرْ] عند النحاة، لأنه وافق ما جاء به اللسان العربي، أما رفع الاسم فهو باتفاق البصريين والكوفيين، وأما نصب الخبر فهو الصحيح من مذهب البصريين، لأن قولك: كان زيد قائماً، كان دخلت على المبتدأ وهو مرفوع، وقائمٌ بالرفع على أنه خبر، دخلت كان ما الذي أحدثته؟ قال الناظم: [وَرَفْعُكَ الاِسْمَ] الاسم الذي كان مبتدأ قبل دخول

كان وهو مرفوع، نقول: دخلت كان فجددت له رفعاً، فالرفع الذي بعد دخول كان ليس هو عين الرفع الذي قبل دخولها، بدليل أن قولك: زيدٌ قائمٌ، زيد مرفوع بالابتداء وهو عامل معنوي، ثم دخلت كان فقلت: كان زيد قائمًا، فزيد اسم كان مرفوع بكان، وفرق بين أن يكون الرفع أُحدث بعامل معنوي وهو الابتداء، وأن يكون بعامل لفظي كالفعل وهو كان، حينئذٍ نقول: كان زيدٌ .. زيدٌ مرفوع بالضمة والضمة ليست هي عين الضمة التي قبل دخول كان، لأنهما وإن اشتبها في اللفظ والنطق إلا أن الفرق بينهما في الحقيقة. لأن الضمة التي يحدثها الفعل على كون الاسم فاعلاً ليست هي عين الضمة التي يحدثها الفعل على أنه نائب فاعل، فنحو: ضَرَب زيدٌ، وضُرِب زيدٌ، زيدٌ مرفوع في الموضعين = وليست الضمة واحدة، لأن التي أحدثها العامل على أنه فاعل مغايرة عن التي أحدثها على أنه نائب فاعل، إذًا الضمة بعد دخول كان غير التي كانت قبل دخولها. والكوفيون أبوا ذلك، وقالوا: بل هو باقٍ على أصله قبل دخول كان. وأما الخبر فاتفقوا على أنه منصوب بكان، ويلزم على مذهب الكوفيين أن يوجد عامل ينصب ولا يرفع، وهذا لا نظير له، فإذا جعلت كان ناصبة لا رافعة أوقعنا في محظور، ونقول: حمل الشيء على ماله نظيرٌ أولى من حمله على ما لا نظير له، وحمل كان وهي رافعة وناصبة على غيرها كـ (ضرب) مثلاً أولى من حملها على أنها عامل ينصب ولا يرفع، الحاصل: أن قوله: [وَرَفْعُكَ الاِسْمَ] هذا على مذهب البصريين، [وَنَصْبُكَ

الخَبَرْ] هذا باتفاق بين النحاة. ثم قال رحمه الله: كَانَ وَأَمْسَى ظَلَّ بَاتَ أَصْبَحَا ... أَضْحَى وَصَارَ لَيْسَ مَعْ مَابَرِحَا مَازَالَ مَا انْفَكَّ وَمَا فَتِئَ مَا ... دَامَ وَمَا مِنْهَا ... تَصَرَّفَ احْكُمَا لَهُ بِمَا لَهَا كَكَانَ قَائِمَا ... زَيدٌ وَكُنْ بَرًّا وَأَصْبِحْ ... صَائِمَا شرع في بيان هذه الأفعال التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، وهذه الأفعال باستقراء كلام العرب ثلاثة عشرة فعلا - هذا المشهور منها وقد زيد عليها- وكلها ذكرها الناظم هنا. وهي كان وأمسى وظل وبات وأصبح وأضحى وليس وبرح وزال وانفك وفتيء ودام، فهذه ثلاثة عشر فعلا، كلها ترفع المبتدأ على أنه اسم لها، ويسمى فاعلا مجازاً، وتنصب الخبر -خبر المبتدأ- على أنه خبر لها، ويسمى مفعولاً به مجازاً، فيصح أن يقال: كان زيد قائماً، زيد: اسم كان، أو فاعل لكان، وقائما: خبر كان أو مفعول به لكان، لكنه مجاز، تشبيهاً لكان بـ (ضرب زيد عمراً). هذه الأفعال الثلاث عشرة من حيث العمل ثلاثة أقسام: الأول: يرفع المبتدأ وينصب الخبر بلا شرط، وهذه ثمانية أفعال وهي: كان وأمسى وظل وبات وأصبح وأضحى وصار وليس. الثاني: ما يعمل بشرط أن يتقدم عليه نفي أو شبه النفي، والمراد بشبه النفي هنا النهي، والدعاء، ولا يدخل معنا الاستفهام، إذًا لا بد من أن يتقدم هذا الفعل الخاص - من أجل أن يرفع المبتدأ وينصب الخبر- نفي أو شبه النفي، وهذه أربعة أفعال وهي: برح،

وزال، وانفك، وفتئ، هذه الأربعة لا تعمل عمل كان إلا بشرط أن يتقدمها نفي أو شبه النفي، فالنفي: نحو قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود:118] يزالون مضارع زال، ويعمل عمل زال التي بصيغة الماضي - كما سيأتي - وَلا يَزَالُونَ: لا حرف نفي، يزالون: فعل مضارع ناقص، لأنه مضارع زال، وزال من أخوات كان الناقصة - ولا بد من كلمة ناقص، لتبين أن يزال يطلب اسماً لا فاعلاً، ويطلب خبراً لا مفعولاً - مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، ورفعه ثبوت النون لأنه من الأمثلة الخمسة، والواو: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع اسم يزالون، ومُخْتَلِفِينَ: خبر يزالون، منصوب ونصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، وهنا دخل على المبتدأ والخبر فرفع المبتدأ ونصب الخبر مع سبق النفي، إذًا تحقق الشرط في إعمال يزالون وهو كونها معتمدة على نفي. وقوله: (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ) [طه:91] لن حرف نفي ونصب واستقبال، نبرح: فعل مضارع ناقص منصوب بلن ونصبه الفتحة الظاهرة على آخره لأنه صحيح الآخر، واسمها ضمير مستتر وجوباً تقديره نحن، عليه جار ومجرور متعلق بعاكفين؛ لأنه اسم فاعل، وعاكفين خبر نبرح، منصوب به، ونصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، إذًا تحقق الشرط فقد سبقها نفي فرفعت ونصبت.

والنهي كقول الشاعر: صَاحِ شَمِّرْ وَلاَ تَزَلْ ذَاكِرَ المَو ... تِ فَنِسْيَانُهُ ضَلاَلٌ مُبِينُ قوله: صاح أصله يا صاحبي فحذف يا النداء، ثم رُخم على غير قياس كما قال الحريري: وَقَولُهُمْ فِي صَاحِبٍ يَا صَاحِ ... شَذَّ لِمَعْنًى فِيهِ بِاصْطِلاَحِ شاع عند الشعراء أنهم يرخمون صاحب وهذا شاذ لمعنى فيه وهو كثرة استعماله عومل معاملة العلم، لأنه لا يرخم إلا العَلَم، وصاحب ليس علما، وحينئذٍ ترخيمه شاذ، والشاهد من البيت قوله: ولا تزل ذاكر الموت، لا ناهية تجزم الفعل المضارع، وتزل: فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية، وجزمه سكون آخره، وتزل أصلها تزال التقى ساكنان، فحذفت الألف للتخلص من التقاء الساكنين، واسمها ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، وذاكرَ الموت خبر تزل منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره. والدعاء كقول الشاعر: أَلاَ يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى البِلَى ... وَلاَ زَالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ لا زال منهلاً هذا دعاء، ولا دعائية، كما لو قال: لا زال زيد محسناً، كأنه يدعو له بدوام الإحسان، وزال: فعل ماض ناقص، والقطر اسم زال، ومنهلاً خبرها، وبجرعائك جار ومجرور متعلق بقوله منهلاً.

النوع الثالث: ما يعمل بشرط أن يتقدم عليه ما المصدرية الظرفية، وهي دام فقط. كقوله تعالى: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم:31] دام فعل ماضٍ ناقص مبني على السكون، لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء: ضمير رفع متحرك مبني على الضم في محل رفع اسم دام، وحيا خبرها. وما مصدرية لأنها تؤول مع ما بعدها بمصدر، وظرفية لأنها تضاف إلى الظرف وهو مدة. كأنه قال: وأوصاني بالصلاة والزكاة مدة دوامي حيا، فدوامي مصدر لأن ما مصدرية، وأضافها لمدة لأنها ظرفية. كَانَ وَأَمْسَى ظَلَّ بَاتَ أَصْبَحَا ... أَضْحَى وَصَارَ لَيْسَ مَعْ مَابَرِحَا مَازَالَ مَا انْفَكَّ وَمَا فَتِئَ ... مَا ... دَامَ ........................... [كَانَ] تأتي ناقصة، وتأتي تامة، فالتامة كقوله تعالى: ((وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ)) [البقرة:280] كان فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وذو فاعل مرفوع ورفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة، ذو مضاف وعسرة مضاف إليه، هكذا تعربها، وأما كان الناقصة فنحو قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح:4] كان: فعل ماض ناقص، مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، ولفظ الجلالة اسم كان مرفوع بها، ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وعَلِيماً خبر كان منصوب بها ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، حَكِيماً خبر بعد خبر لأن الخبر يتعدد، وكان الناقصة لها مصدر على الصحيح قال الشاعر:

وَكَونُكَ إِيَّاهُ عَلَيكَ يَسِيرُ وتأتي كان بمعنى صار كقوله تعالى: (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا) [الواقعة:7] يعني صرتم أزواجاً. و [كَانَ] موضوعة للدلالة على اتصاف اسمها بمضمون خبرها، وهي داخلة على الجملة لا على المفرد، فلذلك هي من نواسخ المبتدأ والخبر معاً، فحينئذٍ دخولها يكون على الجملة لا على المبتدأ فقط دون الخبر، ولا على الخبر فقط دون المبتدأ، وفائدة كان في التركيب كمثل: كان زيد قائماً، ففي الجملة مخبر عنه وهو زيد، وخبر مخبر به وهو قائم، وليس عين قائم وإنما هو مضمون قائم، لأن اتصاف زيد بما دل عليه قائم لا بذات قائم، فزيد يتصف بما تضمنه قائماً لا بلفظ قائماً، فإذا تقرر ذلك فكان وُضعت في لغة العرب للدلالة على اتصاف اسمها الذي هو زيد بمضمون خبرها في الزمن الماضي إما مع الدوام أو مع الانقطاع، وكونها للدوام يكون بقرينة خارجية لأن الأصل في وضع كان للانقطاع، تقول: زيد قائم، هذه الجملة تدل على اتصاف زيد بالقيام، لكنها لم تعين وقت القيام، فإذا أُدخلت عليها كان دلت على أن زيداً اتصف بمضمون قائم وهو القيام في الزمن الماضي، والآن فقد تدل على الاستمرار والدوام لكن لا بد من قرينة، وتدل على الانقطاع وهو الأصل فيها، لأن الأصل في وضع الفعل الماضي أنه دال على الانقطاع، لذلك نقول في حد الفعل الماضي: كلمة دلت على معنى في نفسها واقترنت بزمن قد مضى، أي انتهى وانقطع، لأن الماضي

إنما سمي ماضياً باعتبار زمنه المستفاد منه كما ذكرناه أولاً، حينئذ نقول: الأصل في وضعها للدلالة على الانقطاع، فإذا سمعت كان زيد قائماً، فالأصل أنه قام في الزمن الماضي، والآن لا يثبت له شيء البتة، لكن نحو: كان الله غفوراً رحيما، فهنا تدل على الاستمرار، وذلك من دليل خارجي، ففي مثل التراكيب المتعلقة بذات الرب جل وعلا كلها للدلالة على الاستمرار والدوام. وما عدا ذلك فالأصل فيها الانقطاع. إذًا كان قيَّدت الخبر وهو القيام بأنه واقع في الزمن الماضي، وليس الخبر قائماً هو الذي قيد كان، يقول السيوطي في عقود الجمان: وَنَحْوُ كُنْتُ قَائِمًا كَانَ الَّذِي ... قَيَّدَتِ المَنْصُوبَ لاَ العَكْسُ احْتُذِي لا العكس أي ليس قائماً هو الذي قيد كان، وإنما كان هي التي قيدت قائماً، لأن أصل وضعها في لغة العرب أنها دالة على اتصاف اسمها بمضمون خبرها. [وَأَمْسَى] الناقصة وهي موضوعة للدلالة على اتصاف اسمها بمضمون الخبر في وقت المساء، نحو: أمسى زيد فقيهاً، دلت على اتصاف زيد بالفقه وقت المساء، وقبله لم يكن فقيها. وتأتي أمسى تامة، نحو: أمسى زيد، إذا دخل في المساء، فحينئذٍ تكون تامة لا تحتاج إلى منصوب، وإنما هي فعل وفاعل كـ (قام زيد).

[ظَلَّ] الناقصة أي وظل على حذف الواو، وهي موضوعة للدلالة على اتصاف اسمها بمضمون خبرها في جميع النهار، فظل حينئذٍ تطلق ويراد بها النهار كله، نحو: ظل زيد صائماً، وتكون تامة، نحو: ظل زيد، بمعنى أنه دخل في النهار، وتأتي بمعنى صار نحو: ظل وجهه مسودًا، أي صار. [بَاتَ] الناقصة أي وبات على حذف حرف العطف، وهي موضوعة للدلالة على اتصاف الاسم بمضمون الخبر في البيات أي في جميع الليل، نحو: بات زيد ساهراً. وتكون تامة، نحو: بات زيد أي دخل في البيات. [أَصْبَحَا] الناقصة، أي وأصبح على حذف حرف العطف، والألف للإطلاق، وهي موضوعة للدلالة على اتصاف اسمها بمضمون خبرها في الصباح، نحو: أصبح البرد شديداً، وتستعمل تامة كقوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم:17] أي تدخلون في الصباح. تقول: أمسى زيد، أي دخل في المساء، وأصبح زيد، أي دخل في الصباح. فهي تامة يعني لا تحتاج إلى خبر، بل اكتفت بمرفوعها. [أَضْحَى] الناقصة، أي وأضحى على حذف حرف العطف، وهي موضوعة للدلالة على اتصاف اسمها بمضمون خبرها في وقت الضحى، نحو: أضحى زيد فقيها، وتأتي تامة، نحو: أضحى زيد، إذا دخل في وقت الضحى.

[وَصَارَ] وهي موضوعة للدلالة على التحول من شيء إلى شيء آخر، فتدل على التحول والانتقال إما من حقيقة إلى حقيقة أو من صفة إلى صفة، فالأول: كأن تقول: صار الطين إبريقاً، فحقيقة الطين تحولت وانتقلت من طين إلى حقيقة أخرى وهي كونه إبريقاً، والثاني نحو: صار زيد غنياً، فالتحول هنا ليس في حقيقة زيد بل هو زيد، ولكن الذي تحول هو صفة زيد. [لَيْسَ] وهي موضوعة لنفي الحال عند التجرد عن القرينة، نحو: ليس زيدٌ قائماً، أي الآن فالنفي للحال، وإذا أريد غير الدلالة على نفي الحال فلا بد من التقييد، نحو: ليس زيد قائماً غداًً، أما إذا أطلقت عن القرينة وجردت فهي لنفي الحال، ولا تستعمل تامة. هذه الثمانية ترفع وتنصب بلا شرط. ثم قال: [مَعْ مَابَرِحَا] الألف للإطلاق، يعني ما ذكر من الثمانية يضاف إليه ويصحبه برحا، ومع هنا للمصاحبة والمعية، و [مَابَرِحَا مَازَالَ مَا انْفَكَّ وَمَا فَتِئَ] هذه الأربعة لا ترفع ولا تنصب إلا إذا سبقها نفي أو شبهه، وهي ملازمة للنقص، فلا تستعمل تامة، ومعانيها متفقة بلا خلاف، وهي موضوعة لاستمرار ثبوت خبرها لفاعلها منذ قبله أي كان للفاعل قابلية الاتصاف بالخبر عرفاً، تقول: ما زال زيد عالماً، هنا وصف زيد بكونه عالمًا، وهذا الوصف مستمر لا ينفك عنه أبداً، ولذلك هذه الأفعال الأربعة تفسر بمعنى ما انفك، وبمعنى مابرح لأن معانيها واحدة، موضوعة للدلالة على استمرار ثبوت مضمون الخبر لاسمها ويطلق عليه أنه فاعل مجازاً.

إذًا هذه موضوعة للدلالة على ملازمة الخبر للاسم على حسب ما يقتضيه الحال، فنحو: ما انفك عمرو جالساً على حسب ما يقتضيه الحال أي مدة بقائه جالساً، ولا يلزم أنه لا ينفك جالساً يبقى حياته كلها جالساً، بل المراد على حسب ما يقتضيه الحال الذي هو عليه، ولا زال زيد منفقاً، بحسب ما يقتضيه الحال وهو مدة وجود المال في يده، فإذا افتقر حينئذٍ زال الوصف، وهكذا فكل حدث له حال يقتضيه من الاستمرار والانقطاع، فقولك: لا زال زيد جالساً، ليس كقولك: لا زال زيد عالماً، فالأصل الاستمرار في العلم أكثر من الاستمرار في الجلوس. و [مَادَامَ] ذكرها بشرطها وهو تقدم ما المصدرية الظرفية، وقد سبق بيان ذلك. ..................... ... وَمَا مِنْهَا تَصَرَّفَ احْكُمَا لَهُ بِمَا لَهَا كَكَانَ قَائِمَا ... زَيدٌ وَكُنْ بَرًّا وَأَصْبِحْ صَائِمَا [وَمَا مِنْهَا تَصَرَّفَ احْكُمَا لَهُ بِمَا لَهَا] هذا كقول ابن مالك رحمه الله: وَغَيرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلاَ ... إِنْ كَانَ غَيْرُ المَاضِ مِنهُ اسْتُعْمِلاَ هذه الأفعال على قسمين: منها ما هو متصرف، ومنها ما هو غير متصرف، والتصرف بمعنى تحول اللفظ الواحد إلى أمثلة مختلفة وهذا منه، فالتصريف والصرف هو التغير، ولذلك سمي الصرف صرفاً لذلك، ومنه قوله تعالى: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) [البقرة:164] أي تقلباتها من حال إلى حال، كذلك الصرف المراد به تحويل الأصل

الواحد إلى أمثلة مختلفة لمعان مقصودة لا تحصل إلا بها، نحو: كان، يكون، كن، كائن، مكون إلى آخره، فهذه الأفعال من حيث التصرف وعدمه على قسمين: الأول: ما لا يتصرف وهو ليس ودام. ودام الأكثر على أنها لا تتصرف وليس لها مصدر, وهذا من غرائب النحاة لأنهم يقولون: شرط إعمال دام أن تسبقها ما المصدرية لأنها تؤول بمصدر، وباتفاق يؤولون الآية: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم:31] أي مدة دوامي، ودوامي هذا مصدر، ذكر هذا الصبان في حاشيته على الأشموني، وهو يثبت أن لها مصدرًا، والجمهور على أنه لا مصدر لها، ويقولون في قوله: مادمت حيا أي مدة دوامي حياً، ودوامي هذا مصدر، وما مصدرية أولت مع ما بعدها بمصدر، فكيف يقال لا مصدر لها؟! إذًا ليس ودام لا تتصرف، وعلى رأي الصبان وهو الأصح أن دام لها مصدر، فحينئذٍ لها نوع تصرف وليس تصرفاً تاماً. والثاني: ما يتصرف، وهو ما عدا ليس ودام، وزال وأخواتها لا يستعمل منه أمر ولا مصدر. [وَمَا مِنْهَا تَصَرَّفَ احْكُمَا] يعني والذي تصرف أي تحول إلى أمثلة مختلفة تصاغ منها يعني من بعضها فمن للتبعيض، [احْكُمَا] الألف يحتمل أنها للإطلاق، ويحتمل أنها نون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفاً وقفًا، أي احكمَن وقف عليها بالألف، احكمن [لَهُ]

أي لهذا المتصرف، [بِمَا لَهَا] أي بالذي أي بالحكم الذي [لَهَا] أي في الأصل وهو كان. .. كَكَانَ قَائِمَا ... زَيدٌ وَكُنْ بَرًّا وَأَصْبِحْ صَائِمَا [كَكَانَ قَائِمَا] يعني إذا تصرف من كان وجيء بيكون وكن وكائن وكون ومَكُون يثبت الحكم لها كما ثبت لكان. فما جاء من الأفعال الناقصة - والأصل أنَّ النحاة يذكرونها بصيغها الماضية - وكل ما تصرف من الماضي فله حكم الماضي، فحينئذٍ كان ترفع المبتدأ على أنه اسم لها، وتنصب الخبر على أنه خبر لها، ويكون كذلك ومنه قوله تعالى: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143] فالرسول اسم يكون لأن يكون متصرف من كان، وكان لها الحكم الثابت المستقر فمثلها الفعل المضارع منها، فيكون فعل مضارع ناقص منصوب ونصبه الفتحة الظاهرة على آخره، والرسول اسم يكون مرفوع بها ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وشهيداً خبر يكون منصوب بها، وعليكم متعلق بالخبر. وقوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ) [النساء:135] كونوا: فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع اسم كونوا، قوامين: خبر كونوا منصوب ونصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم. وقوله: ((وََكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47] هذا من باب التقديم والتأخير.

وقول الشاعر: ... وَكَونُكَ إِيَّاهُ عَلَيكَ يَسِيرُ كون: مبتدأ مرفوع، ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وحينئذٍ يحتاج إلى خبر من جهتين: من حيث هو مبتدأ، وكل مبتدأ لا بد له من خبر. وهو أيضًا مصدر كان فيحتاج إلى اسم وإلى خبر، إذًا له خبران من حيث هو مبتدأ فخبره جملة يسير، ومن حيث إنه يعمل عمل كان لأنه مصدرها فخبره إياه. وكونك هذه الكاف لها إعرابان من جهتين يعني لها محلان مضاف إليه، واسم الكون، إذًا اسم الكون هو الكاف، وخبرها إياه، والكون مبتدأ وخبره جملة يسير لأنه فعل مضارع والفاعل مستتر والجملة في محل رفع خبر المبتدأ، والشاهد أن الكون مصدر كان وعمل عملها فحينئذٍ يحتاج إلى اسم وإلى خبر. وَمَا كُلُّ مَنْ يُبْدِي البَشَاشَةَ كَائِنًا ... أَخَاكَ إِذَا لَمْ تُلْفِهِ لَكَ مُنْجِدَا كائناً اسم فاعل، مشتق من الكون وإذا كان مشتقاً من الكون فحينئذٍ لا بد له من اسم وخبر، واسم كائن ضمير مستتر تقديره هو، وخبره أخاك، كائناً هو أخاك: إذًا كائناً اسم فاعل واسم الفاعل يعمل عمل فعله، وكان تقتضي اسماً وخبراً، فحينئذٍ نقول: لا بد من الاسم وهو الضمير المستتر، وأخاك هذا خبرها منصوب بالألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الستة.

قوله: [كَكَانَ قَائِمَا زَيدٌ] نأخذ من هذا المثال جواز تقدم الخبر على الاسم أي توسط الخبر بين كان واسمها. والخبر باعتبار كان له ثلاثة أحوال: إما أن يتأخر عنها وعن اسمها، وهو الأصل، نحو قوله تعالى: (وََكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) [الفرقان:54] فقد جاء على الترتيب، فكان فعل ماض ناقص، وربك اسمها، وقديراً خبرها. ولكونها فعلاً - لهذه العلة - تُصرف في معموليها ما لا يتصرف في غيرها، ولذلك من فوائد كون العامل فعلاً أنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره من الاسم والحرف، ولذلك في باب إنَّ -كما سيأتي- لا يجوز العمل إلا مع الترتيب: وَرَاعِ ذَا التَّرْتِيبَ إِلاَّ فِي الَّذِي ... كَلَيتَ فِيهَا أَوْ هُنَا غَيرَ البَذِي لا بد أن يتقدم الاسم ثم يتلوه الخبر، لأنه حرف، والأصل في الحرف أنه لا يعمل، فإذا أُعمل حينئذٍ كان عمله ضعيفاً، وإذا كان عمله ضعيفاً لا يتصرف في معموليه فلا يتقدم ولا يتأخر، يعني المعمولان لا يتوسع فيهما مع العامل كما إذا كان فعلاً، بخلاف كان لأنها فعل والأصل في العمل للأفعال قال هنا: [كَكَانَ قَائِمَا زَيدٌ] ومنه قوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47] فحقاً خبر كان، ونصر المؤمنين اسمها. إذًا توسط الخبر بين العامل والاسم، وهذا جائز، إما أن يتقدم الخبر على كان، نحو: قائماً كان زيد، لأنه كقوله زيداً ضربت، كما جاز زيداً ضربت، جاز قائماً كان زيد. وإما أن يتوسط بين كان واسمها ومنه قوله: [كَكَانَ قَائِمَا زَيدٌ] فقائماً هنا توسط بين العامل والاسم. [وَكُنْ بَرًّا] أراد بهذا المثال

الإشارة إلى أن كان تعمل ولو كانت فعل أمر، فكن فعل أمر ناقص، مبني على السكون لا محل له من الإعراب، واسم كن ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، وبراً خبره. [وَأَصْبِحْ صَائِمَا] أصبح فعل أمر ناقص، مبني على السكون لا محل له من الإعراب، واسمه ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، وصائماً خبر أصبح.

باب إن وأخواتها

بَابَ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا هذا هو الباب الثاني من أبواب النواسخ، وهو باب إن وأخواتها، وقدَّم كان على إن لأن كان وأخواتها أفعال، والأصل في العمل هو للأفعال، وإن وأخواتها حروف، والأصل في الحروف والأسماء أن لا تعمل، وإنما تعمل الحروف والأسماء حملاً لها على الأفعال، إذًا الأصل في العمل للأفعال، والحرف الأصل فيه أن لا يعمل، ولذلك إِنْ عمل الحرف فلا بد من سؤال لِمَ عمل؟ والأصل في الاسم أن لا يعمل، فإذا عمل الاسم لا بد من سؤال لِمَ عمل؟ ولذلك بابُ اسم الفاعل، واسم المفعول ونحوها من كل ما يعمل من المشتقات، تجد أن النحاة يذكرون شروطًا لإعمال اسم الفاعل، وشروطًا لإعمال اسم المفعول، وشروطًا لإعمال المصدر، لأن الأصل أن الاسم لا يعمل، فإذا عمل فحينئذٍ لا بد من شروط المراد بها أن يَقْرُب هذا الاسم من الفعل، فكل ما عمل بشرط فحينئذٍ نقول: الأصل فيه أنه لا يعمل، لأن الأصل في العمل هو الفعل، والفعل يعمل بلا شرط، لذلك قُدم باب كان وأخواتها على إن وأخواتها. بَابَ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا أي هذا باب بيان عمل إن وأخواتها، وهو النوع الثاني من النواسخ وهو ما ينصب الاسم ويرفع الخبر، فينصب المبتدأ على أنه اسم لإنَّ، وهذا متفق عليه بين البصريين

والكوفيين، على أن إن تدخل على المبتدأ فتنصبه على أنه اسم لها، فالأصل مثلا زيدٌ قائمٌ، فتدخل إنَّ فتقول: إن زيداً قائمٌ، صار المبتدأ منصوباً بعد أن كان مرفوعاً، وكان مرفوعاً بعامل معنوي، ثم صار منصوبًا بعامل لفظي، والعامل اللفظي عندهم أقوى من المعنوي، وقائمٌ خبر إن مرفوعٌ وعلى مذهب البصريين مرفوعٌ بإنَّ، فحينئذٍ إنَّ عاملٌ واحد أحدث النصب في المبتدأ، وأحدث الرفع في الخبر، وأما عند الكوفيين فلا، إنما إنَّ نصبت الاسم فقط، ولم ترفع الخبر، وقائمٌ مرفوع على ما رُفع به قبل دخول إن، فهو حينئذٍ مرفوع بالمبتدأ، وقائمٌ ليس مرفوعاً بإنَّ، وإنما هو مرفوعٌ بزيد، فهو قبل دخول إن كان خبراً ولا زال خبراً، والخبر مرفوع بالمبتدأ، فكذلك بعد دخول إنّ وهذا على مذهب الكوفيين، وهو مذهب ضعيف، لأنه يلزم عليه، أنَّ ثّمَّ عاملاً ينصب ولا يرفع وهذا لا نظير له، وحمل الشيء أو المختلف فيه على ماله نظير، أولى من حمله على ما لا نظير له، وهذه قاعدة قعَّدها السيوطي في الأشباه والنظائر أن حمل الشيء على ماله نظير أولى من حمله على ما لا نظير له، فحينئذٍ نقول كون إن عاملةً النصب، وعاملةً الرفع هذا أولى من القول بأن إنَّ عاملةٌ النصب دون الرفع، فإنَّ تنصب وترفع. سُمع من لغة العرب إنَّ حُراسَنا أُسدا بنصب الجزأين، ومعلوم أن إن ترفع وتنصب، نقول: هذا يُحفظ ولا يقاس عليه، فهو شاذ، وخرَّجه البصريون على أن الخبر محذوف، إن حُراسَنا اسم إن، وأُسدا ليس هو الخبر، وإنما الخبر مُقَدَّر وتقديره: إن حُراسنا يُشبهون أُسدا، فأَسداً هذا معمولٌ للخبر

المحذوف وليس هو عين الخبر. ... بَابَ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا أي نظائرها في العمل، وهي ستة أحرف، وكلها حروف باتفاق، وعملها نصب المبتدأ على أنه اسم لها، ورفع الخبر على أنه خبر لها، فالرفع الذي أُحدث بعد دخول إن ليس هو عين الرفع قبل دخول إن، فالرفع إذا وجد في موضع ووجد في موضع آخر، فليس هو عين الأول، وإنما هو مغايرٌ له، فرفع الخبر من قولك: زيدٌ قائمٌ، ليس هو عين الرفع بعد دخول إنَّ. قال رحمه الله: عَمَلُ كَانَ عَكْسُهُ لإِنَّ أَنْ ... لَكِنَّ ... لَيْتَ وَلَعَلَّ ... وَكَأَنْ تَقُولُ إِنَّ مَالِكًا لَعَالِمُ ... وَمِثْلُهُ لَيْتَ الحَبِيبَ قَادِمُ [عَمَلُ كَانَ] وهو رفع المبتدأ على أنه اسم لها، ونصب الخبر على أنه خبر لها، [عَكْسُهُ] أي خلافه، وهو نصب المبتدأ ورفع الخبر، فحينئذٍ قوله [عَكْسُهُ] المراد به العكس اللغوي لا الاصطلاحي المنطقي، والعكس اللغوي بمعنى خلاف الشئ، والمعنى عمل كان عكسه وخلافه ثابتٌ [لإِنَّ] وعملُ كان مضاف ومضاف إليه، وهو مبتدأ أول، وعكسه مبتدأ ثان، لإن جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول. فهذه الجملة جملة كبرى، خبرها جملة اسمية مؤلفة من مبتدأ وخبر، وهي عكسُه لإنَّ مبتدأ وخبر. هذا أحسن ما يُقَال في البيت. ومعنى البيت عمل كان وهو أنها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، عكسه

وهو كونها تنصب المبتدأ وترفع الخبر ثابتٌ لإن، والدليل هو النقل عن العرب، فالعرب نصبت بإن ورفعت بها، والقاعدة إنما تبنى على ما يُنقَل عن العرب، فإن نصبوا بإن ورفعوا بها نصبنا ورفعنا بها، وكل قاعدة مستنبطة عند النحاة فهي موضوعة وضعاً نوعياً لا باعتبار الآحاد، فالعرب نطقت: إن زيداً قائمٌ، فحينئذٍ إذا أردت أن تقول: إن بكراً عالمٌ، لا يشترط أن يكون منقولا عن لغة العرب، بل وضعت العرب إنَّ وأرادت بها التأكيد وتقرير الخبر والنسبة ثم نصبت الاسم ورفعت الخبر بها، فنقول: إذا أدرت أن تتكلم وتؤكد الخبر فتأتي به على هذا النمط، فقد وضعوا لك قاعدة عامة تسير عليها، وكل الذي يدرس تحت هذا الباب إنما هو دراسة للتقعيد والتأصيل، وهذا التقعيد والتأصيل منقول عن لغة العرب، لكن النقل يكون من جهة النوع لا الآحاد. إذًا نقول: إن وأخواتها هذه نصب بها العرب ورفعوا ووضعوها وضعاً نوعياً فنقيس عليه. قوله: [لإِنَّ] اللام حرف جر، وإن ليست بحرف هنا، وإنما قصد لفظها فهي علم، حينئذٍ نقول الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر. [أَنْ] أي وأنْ على حذف حرف العطف لضرورة الوزن، أي وأنَّ بالتشديد وخففها من أجل الوزن، ولو قيل: أن بالتخفيف أيضاً جاز لأنَّ أنَّ وكذلك إنَّ تعملُ سواء كانت مثقلة أو مخففة بإسقاط إحدى النونين، فتصير على حرفين بعد أن كانت على ثلاثة، والمخففة تعمل لكن بشروط ذِكُرها في المطولات. [لَكِنَّ] أي ولكن يعني ينصب بلكن كما ينصب بإن، و [لَيْتَ] أسقط حرف العطف

للضرورة، [وَلَعَلَّ وَكَأَنْ] هذه ستة أحرف، يكون النصب والرفع بها، فهذه حروف والأصل في الحرف أن لا يعمل، فإذا أعمل لا بد من سؤال لِمَ أُعملت هذه الأحرف؟ والجواب: أنها أشبهت الفعل لفظاً ومعنىً، أما من جهة اللفظ فإن أقل ما يوضع عليه الفعل ثلاثة أحرف، وكذلك الاسم، الواضع فرق بين الحرف والاسم والفعل من حيث الوضع، فوضع الحرف على حرفٍ واحد كباء الجر ولامه أو على حرفين كمن وعن، وما زاد على ذلك فهو خلاف الأصل. وأقل ما يوضع عليه الاسم والفعل معاً ثلاثة أحرف، وما زاد فهو على حسب ما يكون هل هو أصل أو لا؟ فيختلف الاسم عن الفعل ومبحثه فنّ الصرف. إذًا الأصل في الحرف أن يوضع على حرف أو حرفين فإذا وُجد في الحرف أنه موضوع على ثلاثة أحرف مثلُ إن وليت، أو على أربعة مثلُ كأن ولعل، أو على خمسة مثلُ لكن، نقول: قد أشبه الحرف الفعل من جهة اللفظ. وأما من جهة المعنى فعلى ما سيذكره المصنف من معاني هذه الحروف، وهي إن وأن بمعنى الفعل أُأَكِّد، ولكنّ بمعنى أستدرك، وليت بمعنى أتمنى، ولعل بمعنى أترجى، وكأن بمعنى أُشبه، فحينئذٍ هي من جهة المعنى تدل على ما دلت عليه الأفعال، فلهاتين العلتين اللفظية والمعنوية عملت هذه الأحرف، وجدت المشابهة فحُملت على الفعل وهذا هو السر في كون هذه الأحرف مع اختصاصها بالأسماء خرجت عن الجر، لأن الحرف نوعان: مختص، وغير مختص، ما كان مختصاً بالفعل فالأصل فيه أن يعمل، وإذا عمل هل يعمل مطلق

العمل أو العمل الذي يختص به مدخوله؟ هذا فيه نزاع، فإذا اختص الحرف بالفعل المضارع مثلاً، هل الأصل أنه يعمل مطلق العمل، فينصب ويرفع أو نقول: لا، ما دام أن هذا الحرف اختص بالفعل فحينئذٍ يعمل ما اختص به الفعل من أنواع الإعراب وهو الجزم، فحينئذٍ ننظر في الفعل، الفعل اشترك مع الاسم في الرفع والنصب واختص بنوعٍ وهو الجزم، إذًا الأصل أن يعمل الحرف المختص بالفعل المضارع أن يعمل ما اختص به الفعل من أنواع الإعراب هذا هو المشهور، فإذا اختص حرفٌ بالفعل المضارع وعَمِلَ النصب فهذا خرج عن الأصل، وكذلك الأصل في ما اختص بالأسماء أن يعمل ما اختص الاسم به من أنواع الإعراب وهو الجر، كحروف الجر، هنا هذه الأحرف مختصة بالأسماء وخرجت عن الأصل وهو الجر لكونها أشبهت الفعل لفظاً ومعنىً، والفعل لا يجر، إذًا خرجت هذه الأحرف إلى الرفع والنصب للمشابهة المذكورة، والفعل يرفع وينصب ولا يجر. لكن يُشترط لإعمال هذه الحروف شرطان: الأول: أن لا تقترن بهنَّ ما الحرفية، وتسمى ما الزائدة، وما الكافة، وما المهيئة وكلُّها أسماء لمسمى واحد، فإن اقترنت بهنَّ بطل عملها على المشهور في خمسة منها، ويبقى في ليت فقط، فإذا اتصلت ما الزائدة بإنَّ بطل عملها، تقول: إنَّ اللهَ غفورٌ، فإذا دخلت ما الزائدة تقول: إنما اللهُ غفور بالرفع لأن شرط إعمال إنَّ أن لا تتصل بها ما الحرفية، وتُسمى ما الكافة لأنها كفت إن عن النصب والرفع، ومنه

((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) [النساء:171] اتصلت بها ما الحرفية فبطل عملها. لأن هذه الحروف إنما أُعملت لاختصاصها بالجملة الاسمية فإذا دخلت عليها ما الحرفية، رأينا العرب وكذلك هو في القرآن وهو أفصح، رأينا هذه الحروف قد دخلت على الجملة الفعلية، كقوله تعالى: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) [الأنفال:6] ويساقون هذه جملة فعلية ودخلت عليها إن ولمَّا دخلت ما على إنَّ أزالت اختصاصها بالجملة الاسمية وهيأتها للدخول على الجملة الفعلية، فلما زال اختصاصها بطل عملها، وكذلك قوله: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الأنبياء:108] وأما ليت، فيجوز فيها الإعمال والإهمال وهو الإبطال، يعني يجوز أن تقول: ليتما زيداً قائمٌ، كما تقول: ليت زيداً قائمٌ، ويجوز أن تقول: ليتما زيدٌ قائمٌ بالإهمال، وهذا مذهب الجمهور، والمسألة فيها خلاف. وحجة الجمهور قالوا: باستقراء كلام العرب أن ليت إذا دخلت عليها ما الحرفية بقي اختصاصها بالجملة الاسمية، إذًا لم تُزِل ما الحرفية اختصاص ليت بالجملة الاسمية، فلما بقي الاختصاص، بقي العمل فالإعمال على الأصل، وأهملت حملاً على أخواتها، فالإهمال من باب القياس، ليكون الباب مطرداً، ولذلك لا يصح أن يقال: ليتما قام زيد، يعني إذا دخلت ما الحرفية على ليت ولو بطل إعمالها لا يجوز دخولها على الجملة الفعلية، لا تقول زال اختصاصها، لا بل بقي اختصاصها. قال الشاعر:

قَالَتْ أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامَُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفَهُ فَقَدِ روي بالوجهين. قالت ألا ليتما ليت اقترنت بها ما الحرفية، هذا الحمامَ فهذا اسم ليت، وهو في محل نصب بدليل نصب ما بعده الحمام وهو نعت أو عطف أو بدل، ونصبه دليل على أن هذا وهو مبني في محل نصب، وهذا دليل أن ليتما قد أُعملت مع اقتران ما بها. وروي قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا بالرفع على الإهمال، ولذلك جاز فيه الوجهان. [تَقُولُ إِنَّ مَالِكًا لَعَالِمُ] تقول في مثال إعمال إن وأخواتها: إنَّ مالكاً لعالمُ، فإنَّ: حرف توكيد ونصب مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، ومالكاً: اسمها منصوبٌ بها ونصبه فتحة ظاهرة على آخره لأنه اسم مفرد، لعالم: اللام هذه لام الابتداء وهي اللام المزحلقة المؤكدة، وعالمُ خبر إن، وهذا فيه تجوز وهو أن يقال: خبر إنَّ، لأنه إذا قيل: خبر إن كما لو قيل خبر المبتدأ، معناه أن ثم محكوما به ومحكوماً عليه، والمحكوم عليه لا يكون إلاّ اسما، وإذا قُلت خبر إن معناه إنّ مالكاً اسم إنَّ وقد كان مبتدأ في الأصل، وحينئذٍ عالمُ لا شك أنه خبر اسمها، لا خبر إن فإذا قلت: خبرُ إن فالمراد به خبر اسم إن وليس خبراً لإن، لأن إن ليست اسما محكوماً عليه، لأن المحكوم عليه لا يكون إلاّ اسما، بل هي حرف، فهذا فيه تجوز وتسامح فحينئذٍ يكون الكلام على حذف مضاف، وقوله: لَعالمُ هذه اللام تسمى لام الابتداء، وهي اللام المزحلقة، وفائدتها توكيد نسبة الخبر إلى المبتدأ. يَعدُّها أهل البيان من المؤكدات، وأصل التركيب لإن مالكًا عالم لأنها لها صدر الكلام يعني لا تقع إلاّ في

أول الكلام, فاجتمع مؤكدان، لأن إن للتوكيد واللام للتوكيد، وكلُّ منهما له الصدارة في الكلام، فزحلقوا اللام إلى الخبر، لأنهم لو أدخلوا اللام على الاسم، فقيل: إن لمالكاً اجتمعا أيضًا سواءٌ تقدمت اللام أم تأخرت، لأن اجتماع حرفين بمعنى واحد في مكان واحد لا نظير له، فحينئذٍ قالوا: لابد من زَحْلَقَةِ هذه اللام, فلذلك سُميت المزحلقة، زحلقوها من لإن إلى الخبر، هذه تُسمى لام ابتداء وهي تختص بإن، لذلك قال ابن مالك: وَبَعْدَ ذَاتِ الكَسْرِ تَصْحَبُ الخَبَرْ ... لاَمُ ابْتِدَاءٍ نَحْوُ إِنَّي لَوَزَرْ إذًا لابد أن تكون بعد ذاتِ الكسر، ثم قد تدخل على الخبر المتأخر، كما في مثال الناظم، وقد تدخل على معمول الخبر نحو: إن زيداً لَطعامَكَ آكلٌ، فآكلٌ خبرُ إن، وطعامَك مفعولٌ به منصوب بالخبر، يجوز دخول اللام على معمول الخبر إذا توسط بين الاسم والخبر. وقد تدخل على ضمير الفصل إذا توسط بين المبتدأ والخبر، نحو قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) [آل عمران:62] هذا اسم إن، والقصصُ خبرها, ودخلت اللام على ضمير الفصل الذي وقع بين اسم إن وخبرها، وقد تدخل اللام على الاسم المُتأخر، نحو قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً) [آل عمران:13] فعبرةً اسم إن مؤخر، وفي ذلك خبر مقدم، فدخلت اللام على الاسم بشرط أن يكون متأخرًا، أما لوكان متقدماً فلا يجوز. وإذا كان الخبر ظرفاً أو جارًا ومجروراً جاز توسطه، فإذا جاز توسطه حينئذٍ يتأخرُ الاسم، فإذا تأخر الاسم، جاز أن تدخل عليه لام الابتداء.

والحاصل: أن لام الابتداء تدخل على واحد من أربعة أمور: الخبر المتأخر، والاسم المتأخر، هذان اثنان متأخران، ومعمول الخبر إذا توسط، وضمير الفصل إذا توسط أيضًا. والأمثلة كما سبق بيانه. [تَقُولُ إِنَّ مَالِكًا لَعَالِمُ] نأخذ منه أيضاً أنه لابد من الترتيب، وهذا هو الشرط الثاني لإعمال إن وأخواتها أن يتقدم الاسم على الخبر، ولا يجوز أن يقال: إن قائمٌ زيدًا، وإن جاز في باب كان، كما في قوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47] وقوله: قائماً كان زيدٌ، فجاز أن يتقدم الخبر على الاسم بل على كان نفسها، لأن العامل إذا كان فعلاً فمعمولاته يتوسع فيها من جهة التقديم والتأخير لقوة العامل، أما إذا كان حرفاً فحينئذٍ إعماله ضعيف، كل حرف إذا أُعمل ففيه ضعف، ووجه ضعفه أن الأصل فيه ألاّ يعمل. فحينئذٍ يبقى الترتيب كما هو، إن زيداً عالمُ، لا يُقال: زيداً إن عالمٌ، ولا يقال: إنَّ عالمٌ زيداً، واستثنى الظرف والجار والمجرور إذا وقعا خبرا، كما قال ابن مالك: وَرَاعِ ذَا التَّرْتِيبَ إِلاَّ فِي الَّذِي كَلَيتَ فِيهَا أَوْ هُنَا غَيرَ البَذِي ومنه قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً) [آل عمران:13] إن حرف توكيد ونصب, وفي ذلك جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، ولعبرةً اسم إن منصوب بها وهو متأخر، والذي جوز هنا تقديم الخبر على المبتدأ، كون الخبر جاراً ومجروراً، لأنهم يتوسعون في المجرورات والظروف ما لا يتوسعون في غيرها. ومنه

قوله تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا) [المزمل:12] أنكالاً اسم إن منصوب بها متأخر، ولدينا متعلق بمحذوف خبر إن، وهو ظرف, ولدى بمعنى عند. فحينئذٍ نقول: لدى منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف خبر مقدم، والذي جوَّز الفصل بين العامل واسمه بلدينا كونه ظرفاً، وهم يتوسعون في الظروف ما لا يتوسعون في غيرها. إذًا القاعدة العامة يجب التزام الترتيب في معمولي إن، كما مثل الناظم: إن مالكاً لعالمُ، فالترتيب واجب. قال رحمه الله: [وَمِثْلُهُ لَيْتَ الحَبِيبَ قَادِمُ] ومثله في الحكم على ما سبق من كونه ينصب ويرفع، مع لزوم الترتيب، ليت الحبيب قادم, ليت حرف تمنى ونصب مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، والحبيبَ اسم ليت منصوب بها ونصبه فتحه ظاهره على آخرة، وقادمُ خبر ليت. أَكِّدْ بِإِنَّ أَنَّ شَبِّهْ بِكَأَنْ ... لَكِنَّ يَا صَاحِ لِلاِسْتِدْرَاكِ عَنْ وَلِلتَّمَنِّي لَيْتَ عِنْدَهُمْ حَصَلْ ... وَلِلتَّرَجِّي ... وَالتَّوَقُّعِ ... لَعَلْ شرع في بيان معاني هذه الحروف، فقال: [أَكِّدْ بِإِنَّ أَنَّ] أي لتأكيد الخبر وتقريره، إذا أردت أن تؤكد الخبر فأكده بإن وأن ولم يتعرض لغيرها من المؤكدات لأن المقام مقام بحث في باب إن، فحينئذٍ ذكر إن من المؤكدات مع كثرة المؤكدات، فإن وأن للتأكيد أي تأكيد النسبة، لأن إن لتأكيد الجمل وليست لتأكيد المفردات، فحينئذٍ إذا قيل: إن زيداً عالمُ، فإن ليست لتأكيد زيد الذي هو اسم فقط, ولا لتأكيد عالمُ الذي هو خبر فقط، بل لتأكيد النسبة التي هي

ثبوت العلم لزيد، لأن عندنا في الجملة أربعة أشياء - قبل دخول إن - إذا قيل: زيدٌ قائم, الأول: تصور الموضوع الذي هو زيد المبتدأ أي إدراك معناه، لأنه محكوم عليه، والحُكم على الشيء فرع عن تصوره. والثاني: تصور المحمول الذي هو قائمٌ الخبر أي إدراك معناه، إذ كيف تحكم بشيء وأنت لا تعرفه؟!. والثالث: تصور النسبة بين الموضوع والمحمول الذي هو مضمون الجملة، هل يمكن أن يتصف زيد بالقيام أولا؟ أي ارتباط القيام بزيد يسمى تصور النسبة الحُكمية. والرابع: تصور الوقوع واللاوقوع، وهذه النسبة الحكمية هل هي واقعة بالفعل أو ليست بواقعة؟ يعني هل زيد قائم بالفعل أولم يقم؟. هذه أربعة أشياء، ثم التصور الرابع هو الذي تدخل عليه إن لتوكيده بمعنى ثبوت القيام لزيد في الخارج هو المؤَكد، وليس زيداً فقط، ولا قائماً فقط، ولا النسبة الحكمية، وإنما التصور الرابع الذي يُعبر عنه المناطقة بالتصديق. قال في السلم: إِدْرَاكُ مُفْرَدٍ تَصَوُّرًا عُلِمْ ... وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْدِيقٍ وُسِمْ [أَكِّدْ بِإِنَّ أَنَّ] إن وأن يتفقان في أنهما موضوعان لتأكيد الحكم المقترن بأحدهما ونفي الشك عنه، والانكار له، ولذلك اتفق البيانيون على أن خالي الذهن لا يؤكد له الحكم ولو بمؤكد واحد، قال في عقود الجمان: فَإِنْ تُخَاطِبْ خَالِيَ الذِّهْنِ مِنِ ... حُكْمٍ وَمِنْ تَرَدُّدٍ فَلْتَغْتَنِ عَنِ المُؤَكِّدَاتِ ............... ... ....................

حينئذٍ إن وأنّ من العبث أن يؤتى بهما في كلام تخاطب به من لا إنكار ولا شك عنده ولا تردد، وإنما يؤتى بمؤكد واحد فأكثر استحسانا أو وجوباً إذا كان المخاطب عنده نوع إنكاركما هو موضح في محله. إذًا يتفقان في أنهما موضوعان لتأكيد النسبة، ويفترقان أنّ إنّ تأتي في أول الكلام، وأنّ لا تأتي في أول الكلام بل لا بد من كلامٍ يسبقها، تقول: أعجبني أنّ زيداً قائمٌ، ولا يصح أن تقول: أن زيداً قائمٌ، لأن أن بالفتح تعد من الحروف المصدرية، يعني التي تسبك مع ما بعدها بمصدر, فحينئذٍ أن مع مدخولها في قوة المفرد لأنه يؤول بمصدر، فإذا أُوِّل بمصدر فحينئذٍ لا بد له من عامل يقتضيه. ولذلك أنَّ وما بعدها تأتي فاعلا ونائب فاعل، وتُجرُّ بحرف الجر وتضاف, لأنها في قوة المفرد فامتنع أن يؤتى بها هو أول الكلام بل لا بد من أن تسبق بكلام، فتقول: أعجبني أنك قائمٌ أي قيامك، ومنه قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا) [العنكبوت:51] الآية أي أولم يكفهم إنزالنا فهي فاعل هنا, وقوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) [الجن:1] الآية أي قل أُوحي إلي استماع نفر، فهي هنا نائب فاعل. إذًا إن وأن للتوكيد، والتوكيد عندهم كأنك كررت الجملة مرتين على أقل تقدير، فإذا قلت: إن زيداً عالمٌ أصل التركيب: زيدٌ عالمٌ, زيدٌ عالمٌ فالتأكيد هنا حصل بتكرار الجملة، قيل: مرتين أو ثلاث مرات على الخلاف, زيدٌ عالمٌ , زيدٌ عالمٌ فَحذفت الجملة الثانية أو الثالثة وجئت بإنّ , فهي قائمة مقام جملة أُخرى أو جملتين،

ولذلك يقول المفسرون في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11] كمثله الكاف هنا على الأصح أنها صلة، زائدة فحينئذٍ ليس كمثله شيء في قوة قوله: ليس مثلهَ شيءُ، ليس مثله شيء, ليس مثله شيء, فالجملة مؤكدة ثلاث مرات بتكرارها، فحذفت الجملة الثانية والثالثة أو الثانية فقط فجيء بالكاف صلة. إذًا الجملة المؤكدة بحرفٍ سواء كانت إنّ أو غيرها في قوة تكرار الجملة مرتين أو ثلاث. [شَبِّهْ بِكَأَنْ] أي كأن للتشبيه، والتشبيه: مشاركة أمر لأمر في المعنى سواءٌ كان شريفاً أو خسيساً، فالأول نحو: ليلى كالبدر، والثاني نحو: زيدٌ كالحمار، [شَبِّهْ بِكَأَنْ] فتقول: كأن زيداً أسد، وتأتي للظن كأن زيداً كاتبٌ، ويُفرَّق بين التشبيه والظن في باب كأنَّ بأن تنظر للخبر فإن كان الخبر جامداً كأسد في قولك: كأن زيداً أسدٌ فهي للتشبيه، وإن كان مشتقاً أو فعلا ككاتب في قولك: كأن زيداً كاتبٌ، فهي للظن. [لَكِنَّ يَا صَاحِ لِلاِسْتِدْرَاكِ عَنْ] ياصاح قد سبق بيانه، [لِلاِسْتِدْرَاكِ] الاستدراك هو تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه, وتعقيب الكلام أي أن يعقب الكلام بمعنى يُردف الكلام, تأخذ من هذا أن لكن لا تقع في أول الكلام مثل أن، فلا يصح أن يقال: لكنَّ زيداً قائمٌ, هكذا ابتداءًا بل لابد أن تكون مسبوقةً بكلام، برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه فمثلا تقول: زيدٌ عالمٌ, فيتوهم السامع أنه عامل، وليس كل عالم عاملا فتقول: زيدٌ عالمٌ لكنه فاسق, فرفعت ما يُتوهم ثبوته وهو العمل بالعلم. وتقول: ما زيدٌ شجاعٌ فيتوهم أنه بخيل أو كريم. فتقول: لكنه كريمٌ، يعني نفي

الشجاعة لا يلزم منه نفي الكرم, فتثبت له الكرم, [لَكِنَّ يَا صَاحِ لِلاِسْتِدْرَاكِ عَنْ] بتخفيف النون وأصله عنَّ أي ظهر كون لكن للاستدراك. [وَلِلتَّمَنِّي لَيْتَ عِنْدَهُمْ حَصَلْ] وللتمني جار ومجرور متعلق بقوله حصل، وعندهم عند منصوب على الظرفية، والعامل فيه حصل، أي وليت حصل عندهم للتمني، فليت مبتدأ قُصد لفظه، وحصل بمعنى ثبت للتمني عندهم، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ، [عِنْدَهُمْ] أي في حكمهم أي النحاة، فعند هنا بمعنى حُكم لأن الأصل في عند أنها ظرف إما زماني أو مكاني، وفي مثل هذا التركيب -كما سبق ذكره - لا يمكن أن تكون ظرفية لا زمانية ولا مكانية، ولكن ذكر صاحب مختار الصحاح أن التركيب الذي تكون فيه عند ولا يمكن حمله على الظرفية الزمانية أو المكانية تكون بمعنى حكم، فإذا قال: زيدٌ عندي أفضلُ من عمرو, فحينئذٍ زيدٌ عندي يعني في حكمي, [وَلِلتَّمَنِّي لَيْتَ عِنْدَهُمْ حَصَلْ] والأصل: ليت حصل عندهم يعني في حكم النحاة حكموا على ليت بأنها للتمني، و [لِلتَّمَنِّي] جار ومجرور متعلق بـ[حَصَلْ] بمعنى وُجد وثبت، و [لَيْتَ] قُصد لفظها مبتدأ، وجملة حصل من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ. والتمني طلب ما لا طمع فيه أو ما فيه عُسر. فالأول نحو قول الشاعر: أَلاَ لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَومًا ... فَأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ قوله: ليت الشبابَ طلب ما لا طمع فيه في الدنيا. والثاني نحو قول الفقير المُعدِم: ليت لي قنطاراً من ذهب، إذًا التمني طلب ما لا

طمع فيه فهذا غير ممكن أو يكون ممكنا لكن فيه عُسرٌ. [وَلِلتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ لَعَلْ] يعني لعل تكون للترجي والتوقع, ولَعلَ مبتدأ مؤخر، قُصد لفظها، وللترجي متعلق بمحذوف خبر مقدم، والتوقع معطوف عليه، وفيها أربع لغات: لعلَّ وعلَّ بإثبات اللام الأولى وفتح اللام الثانية، ولعلِّ بإثبات اللام الأولى وكسر اللام الثانية، وعلِّ بحذف اللام الأولى وكسر اللام الثانية، فهذه أربع لغات، واللغة المشهورة الفُصحى لعلَّ. تأتي لعل للترجي وللتوقع، والترجي: هو طلب المحبوب المُستقرَب حصوله. تقول: لعل الله يرحمني، والتوقع المراد به هنا الإشفاق وهو توقع المكروه. تقول: لعل زيداً هالكٌ. وتأتي أيضاً للتعليل كقوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) [طه:44] أي لكي يتذكر. والفرق بين التمني والترجي أن التمني يكون في الممكن وفي غيره، بخلاف الترجي فإنه لا يكون إلاَّ في الممكن. لذلك نقول: هو طلب المحبوب المُستقرب حصوله، إذن لابد أن يكون ممكناً. والتمني يكون في الممكن فيشارك الترجي، وفي غير الممكن الذي هو المستحيل فيفارق الترجي.

باب ظن وأخواتها

بَابُ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا هذا هو النوع الثالث من أبواب النواسخ التي ذكرها الناظم رحمه الله تعالى، وهو ظن وأخواتها وكلها أفعال باتفاق، وأخرها عن باب إنَّ مع كون إنَّ وأخواتها حروفا، لكون إنَّ بقي معها أحد ركني الإسناد وهو الرفع للخبر، كقولك: إنَّ زيداً قائمٌ، فقائمٌ مرفوع، والرفع إعراب العمد، وأما نحو: ظننت زيداً قائماً، هذا منصوب، والنصب في الأصل إعراب للفضلات، إذاً لما بقي أحد ركني الإسناد في باب إنَّ وهو أولى بالاعتبار من كون العامل فعلاً أو حرفاً، قدَّم باب إنَّ على باب ظن وأخواتها. وظن وأخواتها من النواسخ التي تدخل على المبتدأ والخبر فتنصبهما على أنهما مفعولان لظن وأخواتها، والأصل: زيدٌ قائمٌ، فدخلت ظنَّ فنصبت المبتدأ على أنه مفعول أول لظن، ونصبت الخبر على أنه مفعول ثان لظن. والأصل في العوامل التي تدخل على الجُمَل أنها لا تعمل ولا تؤثر، هذا هو الأصل لكن قيل: نصبت ظن وأخواتها مفعولين على التشبيه بأعطيت؛ لأن أعطى وكسى تنصب مفعولين، والفرق بين البابين أن باب كسى وأعطى لا يختص بجملة المبتدأ والخبر يعني لا يكون المفعول الأول مبتدأ في الأصل، ولا المفعول الثاني خبراً في الأصل، نحو قولك: أعطيت زيداً ديناراً، فزيداً مفعول أول، وديناراً مفعول ثان، إذا حذفت العامل أعطيت هل يصح رفع الجزئيين على أنهما مبتدأ وخبر فتقول: زيدٌ دينارٌ؟ نقول: لا يصح ذلك أبدا. إذًا أعطى

تنصب مفعولين لكن ليس أصلهما المبتدأ والخبر، لكن قولك: ظننت زيداً قائماً، إذا حذفت العامل ظن تقول: زيدٌ قائمٌ، إذًا أصل المفعولين في باب ظن المبتدأ والخبر، شُبهت ظن بأعطى، والأصل في أعطى أنها تنصب مفعولين لأنها لم تدخل على الجملة، كما مثلنا بنحو: أعطيت زيداً ديناراً، فحينئذٍ نصبت مفعولين شُبهت بها ظن فنصبت مفعولين أيضًا. إذاً تفتقر ظن إلى مفعولين المفعول الأول وهو المبتدأ في الأصل، والمفعول الثاني وهو الخبر في الأصل، ولذلك سميت ناسخاً لأنها نسخت حكم المبتدأ والخبر من الرفع إلى النصب، والعامل ظن. قد تسدُّ أنَّ الثقيلة مقام المفعولين، نحو: ظنت أنَّ زيداً قائم، فظننت فعل وفاعل، وهي تدخل على المبتدأ والخبر في الأصل، ولكن ليس عندنا هنا مبتدأ ولا خبر، نقول: أنَّ في قوة المفرد لأنها تؤول مع ما بعدها بمفرد، فأقيم أنّ ومدخولها مُقام المفعولين، فحينئذٍ تقول: أنَّ وما دخلت عليه من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سدَّ مسدَّ مفعولي ظن، وفي الحقيقة ليس عندنا مفعولان بل هو مفعول واحد لأنها كلمة واحدة وهي مصدر، تقديره: ظننت قيام زيد، وهذا ليس بمفعولين إنما هو مفعول واحد. كذلك أنِ المصدرية التي تدخل على الفعل المضارع نحو قوله تعالى: ((الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا (2))) [العنكبوت:1، 2] فالناس فاعل، وأن يتركوا أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر, سدَّ مسد مفعولي حسب. إذاً ظن وأخواتها تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وقد يسُدُّ مسد المفعولين أنَّ المثقلة، وأنْ المصدرية التي تدخل على الفعل المضارع، فيكون معها في تأويل مصدر سد مسد مفعولي ظن.

ظن وأخواتها بالاستقراء قسمان أي من حيث المعنى، أما من حيث العمل فإنها تنصب المبتدأ والخبر على أنهما مفعولان لها، فهي قسمان: أفعال القلوب، وأفعال التحويل والتصيير، فأفعال القلوب سميت أفعال القلوب لأن معانيها قائمة بالقلب، كالعلم والظن والحسبان، فهذه محلها القلب. وأفعال التحويل والتصيير سميت بذلك لأنها تُفهِم تحولاً وانتقالاً من صفة إلى صفة أخرى. وأفعال القلوب أيضا بالاستقراء قسمان: الأول: منها ما يدل على اليقين بمعنى أنها تفيد في الخبر يقينا، وذَكَرَ الناظم منها ثلاثة أفعال فقط، وهي وجد ورأى وعلم. والثاني: أفعال الرجحان والشك بمعنى أنها تفيد في الخبر شكًا، وذكر الناظم منها خمسة أفعال فقط، وهي ظن وحسب وجعل وزعم وخال. وأما أفعال التصيير والتحويل فذكر منها اتخذ فقط، وقد تأتي جعل أيضًا بمعنى صيَّر، كما تأتي بمعنى علم. قال الناظم - رحمه الله تعالى -: اِنْصِبْ بِأَفْعَالِ القُلُوبِ مُبْتَدَا ... وَخَبَرًا وَهْيَ ظَنَنْتُ وَجَدَا رَأَى حَسِبْتُ وَجَعَلْتُ زَعَمَا ... كَذَاكَ خِلْتُ وَاتَّخَذْتُ ... عَلِمَا تَقُولُ قَدْ ظَنَنْتُ زَيدًا صَادِقَا ... فِي قَوْلِهِ وَخِلْتُ عَمْرًا ... حَاذِقَا قوله: [اِنْصِبْ] هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، لكن هنا يحتمل أنه للوجوب في حال، وأنه لغير الوجوب في حال أخرى، وإذا أردنا تخصيصه بالوجوب فلا بد من تقييده فنقول: [اِنْصِبْ بِأَفْعَالِ القُلُوبِ] إذا لم تلغ أو تعلق - وسيأتي معنى الإلغاء والتعليق- لأنه إذا تقدم العامل وتأخر المفعولان نحو: ظننت زيداً

قائماً، فمذهب البصريين وجوب الإعمال حينئذٍ، وأما إذا توسطت ظن بين المعمولين فقلت: زيداً ظننت قائماً، فيجوز الإعمال والإهمال ولا يجب نصب المعمولين، فنحمل قوله: [اِنْصِبْ بِأَفْعَالِ القُلُوبِ] على الوجوب إذا تقدم العامل على المعمولين، وأما إذا توسط فيستحب الإعمال وهو النصب، ويجوز الإهمال، وإذا تأخر جاز الوجهان: الإعمال والإهمال، والوجوب والاستحباب المراد بهما الصناعي وليس الشرعي. [اِنْصِبْ بِأَفْعَالِ القُلُوبِ] أي بواحد منها لا كلها، لأنه قال بأفعال القلوب، وأفعال جمع فعل، وأقل الجمع ثلاثة، إذًا لا تنصب المبتدأ والخبر إلا إذا دخلت على الجملة الاسمية أقل ما يصدق عليه أنه أفعال القلوب وهو ثلاثة، فإذا دخل عامل واحد فلا تنصب، وإذا دخل عاملان فلا تنصب، وإذا دخل ثلاثة عوامل نصبت، والجواب أن الإضافة جنسية، والإضافة الجنسية تُبطل معنى الجمعية، فحينئذٍ قوله أفعال القلوب أي بجنس أفعال القلوب الصادق بالواحد. [اِنْصِبْ بِأَفْعَالِ القُلُوبِ مُبْتَدَا وَخَبَرًا] إذاً هذه الأفعال تختص بالدخول على الجملة الاسمية المكونة من المبتدأ والخبر، لكن لا بد من استيفاء الفاعل لما تقرر أن كل فعل لا بد له من فاعل، إذاً [اِنْصِبْ بِأَفْعَالِ القُلُوبِ مُبْتَدَا وَخَبَرًا] بعد استيفاء فاعلها فتعطيها أولاً الفاعل ثم تمكنها من نصب المبتدأ والخبر.

ثم شرع في بيان هذه الأفعال، ومثل لها بمثالين فقط، فقال: [وَهْيَ ظَنَنْتُ] الواو واقعة في جواب سؤال مقدر، كأن سائلاً قال: ما هي أفعال القلوب، خبِّرنا بها؟ قال: وهي ظننت، فحينئذ تكون الواو للاستئناف البياني، وهو ما كان واقعاً في جواب سؤال مقدر، لأنه قال أولا [اِنْصِبْ بِأَفْعَالِ القُلُوبِ] هذا إجمال ثم يأتي بعد ذلك ما هي هذه الأفعال؟ فيأتي التفصيل. [وَهْيَ ظَنَنْتُ] وهي أي أفعال القلوب، مبتدأ، وظننت خبر مفرد قصد لفظه، راعى العطف قبل الحمل أي ظننت وما عطف عليه خبر، لئلا يرد أن الضمير يعود على أفعال القلوب، وعدَّ الناظم منها ثمانية، فحينئذ يصدق قوله: أفعال القلوب على الثمانية الأفعال، وأخبر عنها بظننت وهو واحد فلم يوجد التطابق بين المبتدأ والخبر. [ظَنَنْتُ] الأصل في ظن أنها تدل على الرجحان أي رجحان الخبر في الأصل، فهي موضوعة للدلالة على ترجيح وقوع المفعول الثاني، تقول: ظننت زيداً قائماً، يعني أدركت إدراكاً راجحاً قيام زيدٍ. فالإدراك هنا للخبر الذي اتصف به المبتدأ؛ لأن الأصل في المفعول الأول أنه مبتدأ والأصل في المفعول الثاني أنه خبر. والأصل في الجملة الاسمية الدلالة على اتصاف المبتدأ بمضمون الخبر، فالأصل في ظن أنها تدل على الرجحان، والمراد بالرجحان: إدراك الشيء إدراكًا غير جازم، ثم غير الجازم قد يكون مرجوحا وهو الوهم، وقد يكون راجحا وهو الظن، قال العمريطي في نظم الورقات:

وَالظَّنُّ تَجْوِيزُ امْرِئٍ أَمْرَينِ ... مُرَجِّحًا ... لأَحَدِ ... الأَمْرَينِ فَالرَّاجِحُ المَذْكُورُ ظَنًّا يُسْمَى ... وَالطَّرَفُ المَرْجُوحُ يُسْمَى وَهْمَا وقال في المراقي: وَالوَهْمُ وَالظَّنُّ وَشَكٌّ مَا احْتَمَلْ ... لِرَاجِحٍ أَوْ ضِدِّهِ أَوْ مَا اعْتَدَلْ وقد تأتي ظن لليقين، يعني تستعمل في اليقين، لكنه ليس هو الأصل فيها، نحو: ((* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20))) [الحاقة:20] وظننت هنا بمعنى اليقين، ولا يجوز حمله على الرجحان. ومنه ((وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ (118))) [التوبة:118] يعني وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه. [وَجَدَا] الألف للإطلاق، وهي موضوعة للدلالة على اليقين كقوله تعالى: ((تَجِدُوهُعِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ((20))) [المزمل:20] تجدوه الضمير هو المفعول الأول، وخيرًا هو المفعول الثاني، وتجد فعل مضارع لأن هذه الأفعال كما سيأتي تعمل مطلقا سواء كانت بصيغة الماضي وما تصرف منها, ولكن يذكرون الماضي لأنه هو الأصل في الأفعال أن يكون ماضياً ثم يكون مضارعاً ثم يكون أمراً. قال تعالى: ((وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102))) [الأعراف:102] فأكثر هو المفعول الأول، وفاسقين هو المفعول الثاني، وإن وجدنا: إن مخففة من الثقيلة، فإذا أعملت لا تحتاج إلى علامة ظاهرة، فتقول: إنْ زيداً عالم، وإن أهملت وجب دخول اللام على خبرها، فقيل: لام الابتداء، وقيل: لام زائدة للتأكيد، وقيل:

لام الفرق فرقاً بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية، لأن قولك: إن زيدٌ قائم هل هو إثبات أو نفي؟ لأن إن تأتي نافية بمعنى ما كقوله: ((إِنِالْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ (40))) [يوسف:40] فإن هنا بمعنى ما النافية بدليل وقوع إلا في جوابها، لكن إن زيدٌ قائمٌ هل هو نفي أو إثبات؟ نقول: نفي وإن هذه نافيه وليست هي المخففة من الثقيلة، لأن إن المخففة من الثقيلة إذا أهملت وجب دخول اللام على خبرها، فتقول: إن زيد لقائم، فاللام هي التي فرقت بين كون إن نافية أو مخففه من الثقيلة وهنا قال: ((وَإِنْوَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)) فأكثر هو المفعول الأول، وفاسقين هو المفعول الثاني لوجد. وجملة وجدنا أكثرهم لفاسقين في محل رفع خبر إن المخففة من الثقيلة؛ بدليل دخول اللام على الخبر، واسمها ضمير الشأن. أما إذا كانت وجد من الوجد وهو الحزن أو الحقد فهذه لا تنصب بل تكون لازمة تقول: وجد زيد في نفسه. [رَأَى] أي ورأى على حذف حرف العطف، ورأى الأصل فيها أنها تدل على اليقين، فهي قلبية بمعنى علم، قال الشاعر: رَأَيْتُ اللهَ أَكْبَرَ كُلِّ شَيءٍ مُحَاوَلَةً وَأَكْثَرَهُمْ جُنُودًا رأيت فعل وفاعل، ولفظ الجلالة منصوب على أنه مفعول أول، وأكبرَ بالنصب على أنه مفعول ثان، فرأى هنا بمعنى اليقين. وقد

تأتي بمعنى الظن نحو قوله تعالى: ((* إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6))) [المعارج:6] قيل: يظنونه بعيداً. ((* وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))) [المعارج:7] هذه بمعنى اليقين، أي نعلمه قريباً، إذاً اجتمعت في الآيتين (رأى) بمعنى اليقين، ورأى بمعنى الظن. [حَسِبْتُ] أي وحسبت على حذف حرف العطف، وحسب الأصل فيها أنها تدل على الرجحان كظن، ومنه ((لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ (11))) [النور:11] تحسبوه الضمير مفعول أول، وشرا مفعول ثان أي لا تظنونه شرا لكم. وتقول: حسبت زيداً تقياً، أي أدركت تقوى زيدٍ إدراكاً راجحاً، وهذا من باب الحسبان، وهو الرجحان وقد تأتي بمعنى اليقين، ومنه قول الشاعر: حَسِبْتُ التُّقَى وَالجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحًا إِذَا مَا المَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ حسبت التقى أي أيقنت أن التقوى والجود خير تجارة. وهذا مما لا شك فيه. [وَجَعَلْتُ] جعلَ تأتي بمعنى اعتقد، ومنه (وجعلوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا (19))) [الزخرف:19] وجعلوا الواو فاعل، والملائكة منصوب على أنه مفعول أول، وإناثاً مفعول ثان، يعني اعتقدوا أن الملائكة إناثاً. وقد تأتي جعل بمعنى صيّر، فتكون من أفعال التحويل، ومنه قوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان:23] أي صيّرناه هباءً منثوراً. فحينئذ جعل تضم إلى أفعال التحويل والتصيير، وإن كان الأصل فيها أنها من أفعال القلوب.

[زَعَمَا] أي وزعم على حذف حرف العطف، والألف للإطلاق، والأكثر في زعم أنها من باب ظن، حينئذ تدل على الرجحان، ويطلق على الحق والباطل يعني يقال على الحق أنه زعم، ولذلك قال أبو طالب: وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا زعم هنا بمعنى الحق والصدق مقابل الباطل، وقد تطلق على القول الذي شُك فيه، ولم يقم عليه دليل، لكن مراد الناظم هنا والنحاة أن الأكثر فيها أن تكون بمعنى الظن، وهو الرجحان، والأكثر في زعم أن تتعدى إلى معموليها بواسطة أنَّ المؤكدة سواء كانت مخففة من الثقيلة أو الثقيلة، فالأول نحو: ((* زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا (7))) [التغابن:7]. والثاني نحو قول الشاعر: وَقَدْ زَعَمَتْ أَّنِّي تَغَيَّرْتُ بَعْدَهَا وَمَنْ ذَا الَّذِي يَا عَزَّ لاَ يَتَغَيَّرُ هذا هو الغالب والأكثر أن يفصل بين زعم ومعموليها بأنّ مخففة كانت أو ثقيلة. وقد تتعدى إلى معموليها بنفسها بلا واسطة، كقول الشاعر: زَعَمَتْنِي شَيْخًا وَلَسْتُ بِشَيْخٍ ... إِنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبِيبَا زعمتني الياء هي المفعول الأول، وشيخاً هو المفعول الثاني، وتعدت زعم بنفسها. [كَذَاكَ خِلْتُ] خلت مبتدأ مؤخر، وكذاك خبر مقدم، أي مثل ذاك والمشار إليه ظننت وجد رأى حسبت وجعلت زعما في كونها

تنصب مفعولين خلت، والأصل في خلت أنها تدل على الرجحان فهي من أخوات ظن، يعني تدل على رجحان اتصاف الاسم الذي هو المفعول الأول بمضمون الخبر الذي هو المفعول الثاني. نحو: خلت زيداً أخاك، وقال في النظم: خلت زيداً حاذقاً أي ماهراً. وقد تدل على اليقين، قال الشاعر: دَعَانِي الغَوَانِي عَمَّهُنَّ وَخِلْتُنِي ... لِيَ اسْمٌ فَلاَ أُدْعَى بِهِ وَهْوَ أَوَّلُ ولا شك أن الإنسان على يقين من اسمه، وخلتني الياء هي المفعول الأول، واسم مبتدأ مؤخر، ولي خبر مقدم، والجملة في محل نصب المفعول الثاني. [وَاتَّخَذْتُ] اتخذ بمعنى صير، وهي من أفعال التحويل والتصيير، ومنه (((((((((((((اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125))) [النساء:125] فلفظ الجلالة فاعل، وإبراهيم مفعول أول، وخليلا مفعول ثان. [عَلِمَا] على حذف حرف العطف، والألف للإطلاق، والأصل في علم أنها لليقين، ومنه (((عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ (235))) [البقرة:235]، ((*قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ (((((((((((((((((لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا (18))) [الأحزاب:18] وقد تأتي بمعنى الظن، ومنه ((* فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ (10))) [الممتحنة:10] أي ظننتموهن مؤمنات؛ لأن الإيمان لا يقطع به، فالإيمان أصله في القلب والاطلاع عليه لا يمكن الوصول إليه بيقين وإنما هو ظن.

تَقُولُ قَدْ ظَنَنْتُ زَيدًا صَادِقَا ... فِي قَوْلِهِ وَخِلْتُ عَمْرًا حَاذِقَا [تَقُولُ قَدْ ظَنَنْتُ زَيدًا صَادِقَا فِي قَوْلِهِ] أي تقول في المثال لبعض ما سبق، وتقيس عليه ما بقي، تقول في التمثيل لظن: ظننت زيداً صادقاً في قوله، ظننت فعل وفاعل، وزيداً مفعول أول لظن، وصادقاً المفعول الثاني. وظننت هذا فعل ماض، ونقول: غير الماضي مثله، تقول: أظن زيداً صادقاً، أظن فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنا، وزيداً مفعول أول، وصادقا مفعول ثان. وتقول: ظُن زيداً قائماً، وأنا ظآنٌ زيداً قائماً، وزيد مظنون أبوه قائماً، رُفع المفعول الأول وهوأبوه على أنه نائب فاعل، ونُصب الثاني على أنه مفعول ثان، فأقيم المفعول الأول مقام الفاعل، وبقي الثاني على حاله، وعجبت من ظنِّك زيداً قائماً، ظن مصدر، والكاف لها حالان: باعتبار كونها مضافاً إليه فهي في محل جر، وباعتبار كونها فاعلاً فهي في محل رفع، وزيداً قائماً مفعولان للمصدر. الحاصل أن غير الماضي من باب ظن وأخواتها يعمل عمل الماضي، كما هو الحال في باب كان، فكل ما تصرَّف من ظن وعلم وحسب ووجد وغيرها يعمل عمل الفعل الماضي. [فِي قَوْلِهِ] جار ومجرور متعلق بقوله: صادقا، [وَخِلْتُ عَمْرًا حَاذِقَا] خلت فعل وفاعل، وعمراً بالنصب على أنه مفعول أول لخال، وحاذقاً أي ماهراً من الحِذْق، وهو مفعول ثان لخال. فهذه الأفعال تدخل على المبتدأ والخبر بعد استيفاء فاعلها فتنصبهما.

من أحكام هذه الأفعال أفعال القلوب الإلغاء والتعليق، فهما حكمان: والإلغاء من حيث المعنى يخالف التعليق من حيث المعنى، ويختلفان من حيث الحكم أيضاً، لأن الإلغاء جائز، والتعليق واجب. أما من حيث المعنى فالإلغاء هو: إبطال عملها في اللفظ والمعنى، إبطال عمل هذه الأفعال كلها في اللفظ والمعنى، إذاً لا يجب إعمال أفعال القلوب مطلقاً. ويجوز الإلغاء فيما إذا توسطت هذه الأفعال بين معموليها، ويجب فيما إذا تأخرت. وأحوال هذه الأفعال مع معموليها ثلاثة: إما أن تقول: ظننت زيداً قائماً، وإما أن تقول: زيداً ظننت قائماً، وإما أن تقول: زيداً قائماً ظننت. ولا رابع لها. إذا تقدمت ظن على معموليها وجب إعمالها عند البصريين، ولا يجوز الإلغاء، تقول: ظننت زيداً قائماً، إذاً تقدم العامل ثم المعمول الأول ثم الثاني، فعند البصريين لا يجوز الإلغاء، كما قال ابن مالك: وَجَوِّزِ الإِلْغَاءَ لاَ فِي الاِبْتِدَا ... ..................... فاستثنى حالة الابتداء، وأما حالة التوسط، كما إذا قلت: زيداً ظننت قائماً، جاز الإعمال وجاز الإلغاء، الإعمال أي نصب مفعولي ظن بها، فتقول: زيداً ظننت قائماً، زيداً مفعول أول مقدم على عامله، وظننت فعل وفاعل، وقائما مفعول ثان. ويجوز الإلغاء، فتقول: زيدٌ ظننت قائمٌ، فزيد مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وظننت فعل وفاعل، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب، وقائم خبر المبتدأ مرفوع بالمبتدأ، ورفعه ضمة ظاهرة

على آخره. إذاً جاز الوجهان فيما إذا توسطت بين معموليها، وأيهما أرجح: الإعمال وهو النصب بها، أو الإهمال وهو ترك النصب بها؟ جمهور النحاة على استواء الوجهين بدون ترجيح، وذهب بعضهم ومال إليه ابن هشام في أوضح المسالك إلى أن الإعمال أرجح إذا توسطت هذه الأفعال بين معموليها، فالإعمال أرجح، وهذا هو الأظهر لسببين: أولاً: أن الإعمال هو الأصل، لأن الأصل في هذه الأفعال أنها تنصب، وليس الإهمال هو الأصل، وإذا اختُلف في الشيء فحمله على الأصل أولى من حمله على خلافه وهو الإهمال، فإعمالاً للأصل تقول: الأرجح الإعمال. ثانيا: عند إعمالها تكون قد أعملت عاملاً لفظياً وهو ظن، وهو فعل، وعند الإهمال تكون قد قدمتَ العامل المعنوي على اللفظي، لأنك لو رفعته فهو مبتدأ مرفوع بالابتداء، والابتداء عامل معنوي، ومعلوم أن العامل المعنوي أضعف من العامل اللفظي، والعامل اللفظي أقوى من العامل المعنوي، فحينئذ ترجح الإعمال فيما إذا توسطت هذه الأفعال بين معموليها. الحالة الثالثة: وهي إذا تأخرت، نحو: زيداً قائماً ظننت، فيجوز الإعمال ويجوز الإهمال، فتقول: زيداً قائماً ظننت، فزيداً مفعول به أول لظن مقدم عليه، وقائماً مفعول ثان مقدم وظننت فعل وفاعل. وتقول: زيدٌ قائمٌ ظننت، فزيد مبتدأ، وقائم خبر، وظننت فعل وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب. وأيهما أولى؟ قالوا:

الإهمال أرجح من الإعمال؛ لأن القاعدة عندهم في الفعل أنه وإن كان أقوى في العمل، بل هو الأصل في العمل، لكن قوته تكون فيما إذا تقدم على المعمول، وأما إذا تأخر فإنه يضعف، ولذلك لما توسط العامل بين معموليه استوى الأمران عند الجمهور، ولم يترجح النصب مع كون العامل فعلاً، لأنه لم يتقدم على معموليه، بل توسط فحينئذ ضعف، فلما تأخر ازداد ضعفاً، فصار الإهمال أولى. ولذلك قوله تعالى: (إن كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43))) [يوسف:43] الأصل: تعبرون الرؤيا، لكن لما تقدم المعمول على عامله زيدت اللام، وهذه اللام تسمى لام التقوية، زيدت اللام لأن العامل لما تأخر عن معموله ضعف تسلطه عليه، فلا بد من واسطة تقوي عمله، ولذلك قولك: ضربت زيداً، فعل وفاعل ومفعول به، ولا يصح أن يقال: ضربت لزيد، على أن اللام هذه تقوية للعامل ليصل إلى المعمول، هذا وإن سمع في لغة العرب لكنه ليس بقياس، فيحفظ ولا يقاس عليه. أما إذا تقدم المفعول به على العامل يجوز حينئذٍ زيادة اللام، وهذا جائز قياساً مطرداً، فتقول: لزيد ضربت، وإعرابه: لزيد اللام حرف جر زائد وصلة وتوكيد، وزيدٍ مفعول به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وزِيد الحرفُ تقويةً للعامل، لأنه لما تقدم عليه معموله، وتأخر هو ضعف تأثيره، فحينئذ لا بد من واسطة، فليس هو كما لو تأخر المعمول في نحو: ضربت زيداً فلا

يحتاج إلى واسطة، زيداً ضربت لا بأس بالإتيان بالواسطة. ولذلك جاء في القرآن: ((إِنْكُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43))) [يوسف:43] للرؤيا اللام صلة زائدة، والرؤيا مفعول به، وتعبرون فعل مضارع. ومثله الوصف ((* فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16))) [البروج:16] الأصل فعال ما يريد، لكن لما أعمل اسم الفاعل، والأصل في الاسم أنه لا يعمل، فحينئذ لما أُعمل عمِل بضعف فاحتاج إلى تقوية. وهنا زيدٌ قائمٌ ظننت، الإهمال أرجح من الإعمال. إذاً هذا ما يسمى بالإلغاء، لا عمل لها لا في اللفظ ولا في المحل. فإذا تقدمت وجب الإعمال على مذهب البصريين؛ ولذلك لو سمع من لغة العرب ما ظاهره تقدم العامل ثم عدم الأثر وهو نصب المعمولين قالوا: وجب تقدير شيء يجعل الموضع موضع تعليق لا إلغاء، قال ابن مالك: وَجَوِّزِ الإِلْغَاءَ لاَ فِي الاِبْتِدَا ... وَانْوِ ضَمِيرَ الشَّانِ أَوْ لاَمَ ابْتِدَا فِي مُوهِمٍ إِلْغَاءَ مَا تَقَدَّمَا ... ......................... يعني إذا سمع من لغة العرب: ظننت زيدٌ قائمٌ، قالوا: نجعل التركيب من التعليق لا من الإلغاء، لأن الإلغاء هنا لا يجوز. هذا هو الحكم الأول وهو الإلغاء، وهو جائز. وكل موضع جاز فيه الإلغاء جاز الإعمال. وإنما يجوز الإلغاء في التوسط والتأخير.

وأما التعليق فهو: إبطال عملها لفظاً لا محلاً، يعني في اللفظ لا تنصب، وإنما يكون النصب في المحل، وذلك فيما إذا توسط بين العامل والمعمول ماله حق الصدارة في الكلام، لأن بعض الحروف والأسماء لها الصدارة في الكلام، فلا يتقدم عليها شيء أبداً، كالاستفهام، ولام الابتداء، وما النافية، وإن النافية كما سيأتي، فهذه لها صدر الكلام فإذا وقعت بين العامل والمعمولين ألغي العمل في اللفظ، وبقي العمل في المحل، وهذا هو حقيقة التعليق إبطال عملها لفظاً لا محلا. إذاً التعليق ليس كالإلغاء، الإلغاء عدم العمل مطلقاً، لا في اللفظ ولا في المحل، وهنا عدم العمل في اللفظ فقط، وأما في المحل فهي عاملة النصب؛ وذلك لاعتراض ماله صدر الكلام بينها وبين معموليها، والمراد بما له صدر الكلام هو ما النافية، نحو: ظننت ما زيدٌ قائمٌ الأصل ظننت زيداً قائماً، فلما توسط بين العامل والمعمولين ما النافية وهي لها صدر الكلام لم يستطع العامل أن يؤثر في لفظ المعمولين، فلم يستطع أن يتجاوز ما النافية فينصب المبتدأ على أنه مفعول أول، وينصب الخبر على أنه مفعول ثان لفظًا، وإنما عمل في المحل دون اللفظ، لكون ما النافية لها صدر الكلام، وإعراب ظننت ما زيدٌ قائمٌ، ظننت فعل وفاعل، وما حرف نفي، وزيد قائم: مبتدأ وخبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب مفعولي ظننت، فأثر العامل في المحل، ولم يؤثر في اللفظ، لأنه وجد أمامه عَقَبَةً لم يستطع أن يتجاوزها، وإنما استطاع أن يتسلل إلى المحل فقط. ومنه قوله تعالى: (لقد عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)

[الأنبياء:65] ما نافية، وهؤلاء ينطقون هؤلاء مبتدأ، وينطقون الجملة خبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب معمولي علمت. كذلك لا النافية، نحو: علمت لا زيدٌ قائمٌ ولا عمرو. فلا النافية لها حق الصدارة، وإعرابه علمت فعل وفاعل، ولا نافية، وزيدٌ قائمٌ مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب مفعولي علم. وإن النافية، نحو: (وتظنون إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52))) [الإسراء:52] وتظنون فعل مضارع، وإن حرف نفي، وجملة لبثتم إلا قليلا في محل نصب معمولي تظنون. ولام الابتداء، نحو: علمت لزيد قائمٌ، لزيد اللام لام الابتداء ولها حق الصدارة في الكلام، زيد قائم مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب معمولي علمت. ولام القسم، مما له صدر الكلام، قال الشاعر: وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي ... إِنَّ المَنَايَا لاَ تَطِيشُ سِهَامُهَا قوله: لتأتينَّ منيتي اللام لام قسم، وجملة تأتينَّ منيتي في محل نصب معمولي علمت. والاستفهام، نحو: علمت أزيد قائم، علمت فعل وفاعل، والهمزة للاستفهام، زيد قائم مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب معمولي علمت.

هذه المذكورات تعد مما له صدر الكلام، يعني لا تقع إلا في أول الكلام، فإذا وقعت بعد أفعال القلوب أبطلت عملها في اللفظ، وبقي عملها في المحل، وهي: ما النافية، وإن النافية، ولا النافية، ولام الابتداء، ولام القسم، وهمزة الاستفهام. والدليل على أنها عملت في المحل لا في اللفظ، قول الشاعر: وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ مَا البُكَى ... وَلاَ مُوجِعَاتِ القَلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ والذي ينبني عليه أنك إذا عطفت عليه يجوز أن تعطف عليه بالنصب مراعاة للمحل، فإذا قلت: علمت لزيدٌ قائمٌ وعمراً منطلقاً، يجوز العطف بالنصب، ويجوز وعمروٌ منطلق بالرفع، فلك أن تراعي اللفظ، ولك أن تراعي المحل. فحينئذ لما ظهر أثر المحل في العطف علمنا أن الفعل قد عمل في المحل. وتقرير الدليل أن يقال: أدري من أفعال القلوب، ما البكى ما استفهامية، وما البكى مبتدأ وخبر، فوقع المبتدأ استفهاماً، وهو مما له صدر الكلام، ثم قال: ولا موجعاتِ هذا معطوف على قوله: ما البكى، وموجعاتِ منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة، لأنه جمع مؤنث سالم، وهو معطوف على محل جملة ما البكى، والعامل في محل ما البكى هو العامل في موجعاتِ. إذًا لما عطف على محل ما البكى بالنصب علمنا أن أدري قد عُلِّق عن العمل في لفظ المفعولين، ولم يعلق عن العمل في المحل؛ ولذلك سمي تعليقاً، قيل:

كالمرأة المعلقة لأن العاملَ عاملٌ وليس بعاملٍ، عامل في المحل، وليس بعامل في اللفظ، يعني كالمرأة المعلقة لا مزوجة ولا مطلقة فلذلك سمي تعليقاً. إذاً الفرق بين الإلغاء والتعليق من حيث الحقيقة، ومن حيث الحكم. فمن حيث الحقيقة الإلغاء: هو إبطال عملها لفظاً ومحلاً. ومن حيث الحكم: الإلغاء جائز وليس بواجب. والتعليق: هو إبطال عملها لفظاً لا محلاً. والحكم: أنه واجب.

التوابع

التَّوَابِعُ جمع تابع، وهذا هو النوع السابع من مرفوعات الأسماء، وهي عند التفصيل خمسة وهي: النعت، والتوكيد، وعطف البيان، وعطف النسق، والبدل. وبعضهم جمع عطف البيان وعطف النسق في واحد فقال: التوابع أربعة، كما هو مذهب الزجاج أن التوابع أربعة قال: النعت والتوكيد والعطف والبدل. ثم يأتي إلى العطف فيفصل فيقول: نوعان: عطف بيان، وعطف النسق. والتابع: هو المشارك لما قبله في إعرابه مطلقاً. قوله: في إعرابه يعني إذا كان مرفوعاً فهو مرفوع، وإذا كان منصوباً فهو منصوب، وإذا كان مجروراً فهو مجرور، وإذا كان مجزوماً فهو مجزوم. فحينئذ شمل التوابع الخمسة كلها. وقوله: مطلقا أراد به إخراج خبر المبتدأ، من نحو: زيد قائم، فقائم خبر وهو مشارك لما قبله في إعرابه، لأن قائمٌ مرفوع، وزيد مرفوع، إذًا شارك ما قبله في إعرابه، لكن ليس على جهة الإطلاق، وإنما في بعض أحواله، لأنك لو أدخلت على المبتدأ ما يقتضي نصبه نُصب المبتدأ ولم يشاركه الخبر، فتقول: إن زيداً قائمٌ، ففارقه، شاركه قبل دخول إنَّ، وفارقه بعد دخول إنّ، بخلاف التابع فإنه يكون مشاركاً لما قبله مطلقاً، فتقول: جاء زيدٌ العالمُ، ورأيت زيداً العالمَ، ومررت بزيدٍ العالمِ، شاركه مطلقاً، ولو تغيرت الأحوال كما لو تغير من رفع إلى نصب، ومن نصب إلى جر،

نقول: النعت معه يدور بدوران المتبوع. إذاً قوله: مطلقاً، لإخراج خبر المبتدأ، كذلك أخرج الحال من المنصوب، نحو: رأيت زيداً راكباً، فراكباً: حال وهو مشارك لما قبله في الإعراب، لكن ليس على جهة الإطلاق، وإنما في بعض أحواله، لأن الحال دائماً يكون منصوباً، وصاحب الحال قد يكون منصوباً، فإذا وافقت الحال صاحب الحال وهو منصوب فلا يطرد ذلك مع رفع صاحب الحال أو جره، فتقول: رأيت زيداً ضاحكاً، فضاحكاً حال، وقد شارك صاحبه في إعرابه وهو النصب، وتقول: جاء زيدٌ ضاحكاً، ومررت بزيد ضاحكاً، فارقه ولم يشاركه. فحينئذ قوله: المشارك لما قبله في إعرابه مطلقاً، يعني لا في بعض الأحوال دون بعض. فقوله: المشارك لما قبله في إعرابه، شمل الأنواع الخمسة، ودخل معنا خبر المبتدأ، والحال من المنصوب، قوله: مطلقًا أي المشاركة تكون في جميع الوجوه، لا في بعض الوجوه دون بعض، ولا في بعض التراكيب دون بعض، وإنما مطلقاً، كلما وُجد المتبوع على حال من رفع أو نصب أو خفضٍ كان التابع كذلك. هذا هو حقيقة التابع. لكن بقي حالة واحدة لم يخرجها الحد، وهي: الخبر الثاني فيما إذا تعدد الخبر، نحو قولك: هذا حلو حامض، هذا مبتدأ، وحلو خبر أول، وحامض خبر ثان، وتقول: إن هذا حلو حامض، وكان هذا حلواً حامضاً، فحينئذ دار الخبر الثاني مع الخبر الأول وشاركه في إعرابه مطلقًا فلم يخرج بقوله: مطلقاً، ولذلك بعضهم لم يرتض هذا الحد وحده بقوله: الاسم المشارك لما قبله في إعرابه

المتجدد والحاصل غير خبر. فلا بد من إضافة كلمة غير خبر لإخراج الخبر الثاني فيما إذا تعدد الخبر؛ لأن الخبر يجوز تعدده كما قال ابن مالك: وَأَخْبَرُوا بِاثْنَينِ أَوْ بِأَكْثَرَا ... عَنْ وَاحِدٍ كَهُمْ سَرَاةٌ شُعَرَا إذا تعدد الخبر فالخبر الثاني يكون مشاركاً للخبر الأول دائماً، فإذا رُفع رفع، وإذا نصب نصب، إذاً لا بد أن يُزاد قوله: مطلقاً ليس خبراً، لإخراج الخبر الثاني وهذا أحسن. أو نعرفه بأنه المشارك لما قبله في إعرابه الحاصل والمتجدد ليس خبراً، والحاصل والمتجدد الحاصل يعني الآن في التركيب، والمتجدد في تركيب آخر.

باب النعت

بَابُ النَّعْتِ هذا هو النوع الأول من أنواع التوابع الخمسة، باب النعت، وبدأ بالنعت لأن هذه الخمسة إذا اجتمعت قُدِّم النعت، إذا اجتمعت في تركيب واحد قدم النعت، ويقال: باب الوصف والصفة، وأكثر النحاة على أنهما مترادفان، وابن القيم له كلام في بدائع الفوائد في التفريق بين النعت والصفة. النعت في اللغة: بمعنى الصفة أو الوصف، والوصف والصفة مترادفان. وفي اصطلاح النحاة: هو التابع المشتق أو المؤول به المباين للفظ متبوعه. هذا أحسن ما يقال في حد النعت. قوله: التابع هذا جنس، والعلاقة بينه وبين المحدود العموم والخصوص المطلق، فكل نعت تابع ولا عكس، لأن النعت واحد التوابع، والتوابع خمسة ومنها النعت. إذاً التابع جنس يشمل التوابع الخمسة: النعت والتوكيد وعطف البيان وعطف النسق والبدل, فنحتاج إلى قيود لإخراج الأربعة ليبقى النعت. قال: المشتق أو المؤول به فخرجت كل التوابع: التوكيد والبدل وعطف البيان وعطف النسق والتوكيد اللفظي الجامد لأنها ليست بمشتقات، وبقي نوع واحد، وهو التوكيد اللفظي المشتق. إذاً قوله: المشتق أو المؤول به -وسيأتي معنى المشتق والمؤول بالمشتق- فصلٌ مخرج لبقية التوابع، فإنها لا تكون مشتقة ولا مؤولة بالمشتق. إذاً التوكيد والبدل والعطف لا تكون

مشتقة، فإذا جاءك التابع مشتقاً فاحكم عليه بأنه نعت، إذاً كون اللفظة مشتقة علامة على أنه نعت، فإذا وجد الاشتقاق فثم النعت، وإذا لم يوجد الاشتقاق حينئذ ارتفع النعت. فمثلا تقول في التوكيد: جاء القومُ أجمعون، فأجمعون توكيد وليس بمشتق، حينئذ تقول: أجمعون ليس بنعت. وتقول: جاء زيدٌ زيد، فزيد الأول فاعل، والثاني توكيد جامد، فليس بمشتق فلا يكون نعتًا، وتقول في البدل: جاء زيد أخوك، فأخوك بدل وليس بمشتق، فلا يكون نعتًا، وعطف البيان لا يكون مشتقاً، والمثال السابق صالح له، وتقول في عطف النسق: جاء زيد وعمرو، فعمرو معطوف على زيد وليس بمشتق؛ لأنه عطف نسق. فإن قيل: يردُ على أن سائر التوابع ليست بمشتقات ما إذا قلتَ: قال: أبو بكر الصديق، وقال: عمر الفاروق، ورأيت شاعراً وكاتباً. فالصديق مشتق صيغة مبالغة على وزن فعيل، والفاروق أيضًا مشتق صيغة مبالغة على وزن فاعول، وهما عطف بيان أو بدل، فكيف نقول: إن التابع المشتق لا يكون إلا نعتاً، فقد وجد البدل وعطف البيان كما في الصديق والفاروق مشتقين؟! الجواب: أن الصديق والفاروق هما في الأصل مشتقان ثم عوملا معاملة الألقاب، فجُعلا كالعلمين، بحيث إذا أطلقا انصرفا إلى الخليفتين الراشدين - رضي الله عنهما - فصارا كالعلم كزيد، فهما جامدان؛ لأن الأصل في العلم أنه جامد، والأصل فيما إذا كان دالاً على صفة ثم صار علمًا أنه يسلب دلالته على الصفة، فلا يدل على شيء حينئذٍ، كما لو سمي رجل بصالح، لا يلزم أنه صالح

بالفعل، وإنما الوصف بكونه صالحاً قبل جعل اللفظ علماً، فلما جعل اللفظ علماً سلب منه المعنى وهو الصلاح، كذلك محمود لا يدل على أنه متصف بالصفات الحميدة. أما رأيت شاعراً وكاتباً، كاتباً عطف نسق وهو مشتق، فكيف يقال: عطف النسق لا يكون مشتقاً وقد وجد الاشتقاق في عطف النسق؟! الجواب: أنّ كاتباً ليس هو المعطوف، وإنما المعطوف محذوف كذلك رأيت شاعراً، شاعراً ليس هو المفعول، وإنما التقدير: رأيت رجلاً شاعراً، ورجلاً كاتباً، فرجلاً هو المعطوف، وكاتباً وشاعراً هذان نعتان في الموضعين، رأيت شاعراً ليس هو المفعول به في الحقيقة، وإنما هو صفة لموصوف محذوف، رأيت رجلاً شاعراً وكاتباً، أي ورجلاً كاتباً حينئذ لم يعطف المشتق، وإنما عطف المنعوت، وهو جامد. قال: المباين للفظ متبوعه هذا فصل لإخراج نوع واحد من أنواع التوكيد اللفظي، وهو فيما إذا وقع التوكيد بمكرر وهو مشتق، نحو: جاء زيد الفاضلُ الفاضلُ، زيدٌ: فاعل، والفاضل الأول نعت، والثاني توكيد لفظي، إذاً وجد الاشتقاق، وصار التوكيد اللفظي مشتقاً؛ لأنه اسم فاعل، والجواب: أن النعت لا بد أن يكون مبايناً أي مغايراً لمتبوعه، زيد الفاضل، ليس الفاضل في اللفظ عين زيد، بل هو مباين ومخالف له، أما الفاضل الثاني فهي عين الأول، فحينئذ لا يكون نعتاً، وإنما هو توكيد، وشرط النعت أن يكون مبايناً لمتبوعه، وهنا الفاضل الفاضل، الفاضل الثاني لم تغاير

الفاضل الأول، بل هو عينه، حينئذ لا يقال: إنه نعت، بل هو توكيد لفظي. عرفنا أن شرط النعت: أن يكون مشتقاً بصيغته، أو مؤولا بالمشتق بأن يكون جامداً ليس بمشتق، لكنه يقوم مقام المشتق للدلالة على ما دل عليه اللفظ المشتق. قال ابن مالك: وَانْعَتْ بِمُشْتَقٍّ كَصَعْبٍ وَذَرِبْ ... وَشِبْهِهِ كَذَا وَذِي وَالمُنْتَسِبْ والمراد بالمشتق هنا: ما دل على حدث وصاحبه. قولنا: ما أي لفظ دل على حدث وصاحبه كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل، أربعة لا خامس لها في هذا الموضع، وإلا فالمشتقات عشرة عند الصرفيين، ولكن المراد به في باب النعت أربعة، إذا أُطلق المشتق حمل عليها، لأنها تدل على ذات وصفة، والمعنى ظاهر في اسم الفاعل إذا قيل: ضارب وفاضل وعالم وقاتل، فنقول: هذه أسماء فاعلين تدل على ذات أي على شخص، هذا الشخص قد اتصف بصفة، فإذا قيل: زيد، نقول: هذا دل على ذات فقط، ولم يدل على حدث، وإذا قيل: قَتْلٌ وضرْبٌ وأَكْلٌ وشرْبٌ دلت على حدث فقط، ولم تدل على ذات. ثم وضعت العرب لفظاً مشتركاً دالاً على ذات وحدث معًا، فقالت: قاتل وضارب مثلا، كأنه قال: زيد اتصف بحدث وهو القتل أو الضرب. فقاتل وضارب اسم فاعل، دل على ذات وصفة.

وأما المؤول بالمشتق، يعني ما يؤول ويرجع إلى المشتق فهو ما يقوم مقام الاسم المشتق في دلالته على معنى المشتق، منها الأول: اسم الإشارة، فاسم الإشارة يصح أن يقع نعتاً ويؤول بالمشتق، تقول: مررت بزيد هذا، مررت فعل وفاعل، وبزيد جار ومجرور، وهذا نعت لزيد، وقد وقع نعتًا وليس بمشتق بل هو جامد، ولكن نؤوله بالمشتق أي بزيد المشار إليه، أرجعته إلى اسم المفعول؛ لأن المشار اسم مفعول. فحينئذ فسرت اسم الإشارة باسم المفعول وهو مشتق. إذاً اسم الإشارة يقع نعتاً، وليس هو عينه بمشتق، وإنما يقوم مقام المشتق في الدلالة على ما دل عليه المشتق، وهو المشار إليه. الثاني: ذو التي بمعنى صاحب، تقول: جاء رجل ذو علم، جاء فعل ماض، ورجل فاعل، وذو نعت، وهو جامد ليس بمشتق لكنها في قوة المشتق؛ لأنها بمعنى صاحب، والصاحب اسم فاعل وهو مشتق، إذاً هو في قوة المشتق. الثالث: الاسم المنسوب، تقول: جاء رجل مكيٌّ أو قرشيٌّ، جاء فعل ماض، ورجل فاعل، وقرشي نعت، وهو جامد ليس بمشتق، لكنه في قوة المشتق أي المنسوب إلى قريش، والمنسوب اسم مفعول. الرابع: الجملة الخبرية، فالجملة الخبرية تقع نعتاً، تقول: جاءني رجل أبوه عالم، رجل فاعل، وأبوه عالم مبتدأ وخبر، والجملة في محل رفع نعت لرجل، لأن الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، ويشترط هنا في الجملة أن تكون مشتملة على رابط

-كجملة الخبر- يربط بين الجملة والمنعوت، وأن تكون جملة خبرية لا إنشائية، كما قال ابن مالك: وَامْنَعْ هُنَا إِيقَاعَ ذَاتِ الطَّلَبِ ... ................... الخامس: المصدر، تقول: جاءني رجل عدل، فرجل فاعل، وعدل نعت؛ لأنه مؤول عند الكوفيين باسم الفاعل جاءني رجل عادل، أو على حذف المضاف ذو عدل أي صاحب عدل عند البصريين. السادس: شبْه الجملة، تقول: مررت برجل في الدار، في الدار جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لرجل، ومررت برجل عندك، عند ظرف متعلق بمحذوف صفة لرجل. إذاً الجار والمجرور والظرف إذا وقعا بعد النكرة يعربان صفة، وإذا وقعا بعد المعرفة يعربان حالا. السابع: الاسم الموصول، تقول: جاء زيد الذي قام، فزيد فاعل، والذي نعت لأن الموصول مع صلته في قوة المشتق، أي جاء زيد القائم، حينئذ أحللت محله اسم فاعل وهو مشتق. الثامن: أيُّ الوصفية، تقول: جاء رجل أيُّ رجل، يعني بلغ الكمال في الرجولة، فأيّ نعت؛ لأنها بمعنى كاملة. وفائدة النعت أنه مخصص للنكرات، موضح للمعارف، يعني إذا وقع بعد النكرة فهو مخصص لها، والمراد بالتخصيص: تقليل الاشتراك، نحو: مررت برجل عالم، فلفظ رجل نكرة، ويحتمل أنه

عالم أو جاهل، فإذا قلت: عالم، خصصته، يعني أخرجت الجاهل، ثم بقي نوع اشتراك، هل الرجل هذا زيد أو عمرو أو خالد ... إلخ. فالصفة هنا خصصت النكرة بأن قللت الاشتراك، ولم ترفعه. وإذا وقع بعد المعارف فهو للتوضيح، والمراد بالتوضيح هنا: رفع الاشتراك، تقول: جاء زيد، وأنت تعرف أن زيدًا علَمٌ مشترك، قد يكون زيدًا العالم، زيدًا الفاضل، زيدًا البخيل، زيدًا الكريم وهكذا، فإذا قلت: جاء زيد الكريم، تعيَّن. إذاً الفرق بين التخصيص والتوضيح: أن التخصيص تقليل للاشتراك، والتوضيح رفع للاشتراك بالكلية، كذلك يقع النعت توكيداً، كقوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) [البقرة:196]، وقد يقع للمدح، (بسم الله الرحمن الرحيم) الرحمن الرحيم نعتان المراد بهما المدح، وقد يقع ويراد به الذم، (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) (الرجيم) المراد به الذم. قال في عقود الجمان: وَوَصْفُهُ لِلْكَشْفِ وَالتَّخْصِيصِ أَوْ ... تَأَكُّدٍ وَالمَدْحِ وَالذَّمِ رَأَوْا قال الناظم - رحمه الله تعالى-: النَّعْتُ قَدْ قَالَ ذَوُو الأَلبَابِ ... يَتْبَعُ لِلمَنْعُوتِ فِي الإِعْرَابِ كَذَاكَ فِي التَّعْرِيفِ وِالتَّنْكِيرِ ... كَجَاءَ زَيدٌ صَاحِبُ الأَمِيرِ

النعت يتبع المنعوت في حكمه، فإن كان منعوته مرفوعاً كان النعت مرفوعاً، وإن كان المنعوت منصوباً كان النعت منصوباً، وإن كان المنعوت مجروراً كان النعت مجروراً، والعامل في المتبوع هو العامل في النعت، وهذا مذهب الجمهور ونسب إلى سيبويه. وذهب الخليل والأخفش إلى أن العامل في النعت هو التبعية وهذا أمر معنوي، فإذا قيل مثلاً: جاء زيد الفاضل، جاء فعل ماض، وزيد فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، والذي أحدث الضمة في زيد هو الفعل جاء، والفاضل مرفوع لأنه نعت لزيد، والنعت يتبع المنعوت في حكمه الإعرابي، إذا كان المنعوت مرفوعاً كان النعت مرفوعاً، وهنا النعت مرفوع لكون المنعوت مرفوعاً، إذًا طابقه في الإعراب، فهو مرفوع ورفعه الضمة الظاهرة على آخره، والذي أحدث الضمة في النعت الفاضل فيه قولان: الجمهور على أن العامل في المتبوع هو العامل في التابع، فحينئذ العامل في زيد هو عينه العامل في الفاضل، فيكون الفاضل مرفوعًا بالفعل جاء، فيكون الفعل جاء قد رفع اسمين: رفع الأول على أنه فاعل، ورفع الثاني على أنه نعت له، فيكون العامل لفظيا، وهذا مذهب الجمهور وهو أصح. وذهب الخليل والأخفش أن العامل هو التبعية، وهي كونك قد أتبعت زيدًا بالفاضل، وألحقتَ زيدًا الموصوفَ بالفاضل أي وصفته به، وهذا أمر معنوي وهو فعل الفاعل، وهذا محتمل أن تكون التبعية هي العامل، لكن إذا وجد في التركيب ما هو عامل لفظي وأمكن إسناد العمل إليه دون أن يقدر عامل معنوي فهو

أرجح، لأن الأصل في العوامل أن تكون لفظية، والعامل المعنوي ضعيف، حينئذٍ الأولى أن يعلق العمل باللفظي لأنه أرجح وأقوى من أن يعلق بأمر معنوي. [النَّعْتُ قَدْ قَالَ ذَوُو الأَلبَابِ] النعت مبتدأ، وقد حرف تحقيق، وذووا فاعل مرفوع ورفعه الواو المحذوف للتخلص من التقاء الساكنين، لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وذوو الألباب أي أصحاب الألباب، جمع لب والمراد به العقل، [يَتْبَعُ] أي النعت [لِلمَنْعُوتِ] أي المنعوتَ، فاللام زائدة، دخلت على المفعول به، وهذا شاذ، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ، [فِي الإِعْرَابِ] أي في واحد من أوجه الإعراب، ولابد من التقدير لأنه لا يتبع المنعوت في الإعراب مطلقاً، لأن الإعراب جنس تحته أنواع، والاسم حيث كان تابعاً حينئذٍ قد يكون مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، فإذا قيل يتبعه في الإعراب: رفعاً أو نصباً أو جراً، إذاً لا يمكن أن يتبعه في اثنين لأن الاسم لا يمكن أن يكون مرفوعاً منصوباً، أو منصوباً مجروراً، أو مرفوعاً مجروراً في وقت واحد، ولذلك نقول الاسم له باعتبار الإعراب ثلاثة أحوال: إما أن يكون مرفوعاً، وإما أن يكون منصوباً، وإما أن يكون مجروراً. كذلك باعتبار التعريف والتنكير الاسم له حالان: إما أن يكون معرفة، وإما أن يكون نكرة. وباعتبار الإفراد والتثنية والجمع له ثلاثة أحوال: إما أن يكون مفرداً، وإما أن يكون مثنى، وإما أن يكون جمعاً. وباعتبار التذكير والتأنيث له حالان: إما أن يكون مذكراً، وإما أن يكون مؤنثاً. هذه

عشرة أحوال للاسم: ثلاثة في الإعراب، وثلاثة في الإفراد والتثنية والجمع، واثنان في التعريف والتنكير، واثنان في التذكير والتأنيث، هذه أربعة أقسام تحتها عشرة أنواع. وكل اسم له أربعة أمور من هذه العشرة، ولا يمكن أن تجتمع كلها في اسم واحد، فحينئذ يأخذ من كل قسم نوعا واحدا، القسم الأول الذي هو الإعراب له ثلاثة أحوال: إما أن يكو مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، الاسم له حالة واحدة منها فإذا كان مرفوعاً انتفى النصب والجر، وإذا كان منصوباً انتفى الرفع والجر، وإذا كان مجروراً انتفى الرفع والنصب، فله حالة واحدة. وباعتبار الإفراد له حالة واحدة: إما أن يكون مفرداً أو مثنى أو جمعاً، فإذا كان جمعاً ارتفع الإفراد والتثنية، وإذا كان مثنى ارتفع الإفراد والجمع، وإذا كان مفرداً ارتفعت التثنية والجمع. وباعتبار التنكير والتعريف: إذا كان معرفة فحينئذٍ لا يمكن أن يكون نكرة، وإذا كان نكرة لا يمكن أن يكون معرفة، إذاً له حالة واحدة من التعريف والتنكير. وباعتبار التذكير والتأنيث له حالة واحدة إما أن يكون مذكراً، وإما أن يكون مؤنثاً. إذا قلت: جاء زيد، زيد له الرفع، والتذكير، والإفراد، والتعريف، أربعة أحوال، وإذا قلت: جاءت هند ارتفع التذكير، وحل محله التأنيث مع بقية الأوجه، وإذا قلت: جاء الزيدان، ارتفع الإفراد وحل محله التثنية مع بقية الأوجه، وهكذا في سائر الأنواع، لا يمكن أن تكون إلا أربعة منها. النعت إما أن يكون حقيقياً، وإما أن يكون سببياً، فالحقيقي هو الذي رفع ضميرًا مستتراً، لأن النعت لا بد أن يكون مشتقاً، فإذا

كان مشتقاً لا بد أن يكون عاملاً، وذكرنا أن المشتق هنا المراد به اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل، وهذه ترفع ضميرًا مستترًا، فإذا قلت: جاء زيد العاقل، العاقل نعت تنظر بعد لفظ العاقل، هل هناك اسم ظاهر؟ فإذا لم يكن بعده اسم ظاهر تحكم عليه بأنه رفع ضميراً مستتراً، يعود على المنعوت، هذا ضابط النعت الحقيقي. والنعت السببي هو الذي رفع اسماً ظاهراً، فإذا قلت: جاء زيد العاقل أبوه، فالعاقل نعت ثم تنظر في النعت هل رفع ضميراً مستتراً؟ الجواب لا، وإنما رفع اسماً ظاهراً وهو أبوه وهو فاعل. وهذا يسمى نعتاً سببياًَ، وعلة التسمية قالوا: لأنه جرى على غير ما هو له، فقولك: جاء زيد العاقل أبوه، جاء فعل ماضٍ، وزيد فاعل، وهو المنعوت، والعاقل نعت لزيد، وأبوه فاعل للنعت، هذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فمَن الذي وصف بالعقل؟ هل هو زيد أو أبو زيد؟ الجواب: الموصوف بالعقل هو أبو زيد، إذاً هل جرى النعت والصفة التي تضمنها اللفظ المشتق على الموصوف أو على غيره؟ لاشك أنه على غيره، هذا يسمى نعتاً سببياً، فحينئذٍ العاقل أبوه ليس وصفاً لزيد، وإنما هو وصف لأبي زيد، فتقول هذا الوصف جرى على غير من هو له في الأصل، لأنه في الأصل لزيد ولذلك نعربه نعتا له، لكنه لما رفع اسماً ظاهراً انتقل في المعنى من جهة كونه صفة لزيد إلى كونه صفة لأبي زيد.

قال الناظم: النعت [يَتْبَعُ لِلمَنْعُوتِ فِي الإِعْرَابِ] أي في واحد من أوجه الإعراب رفعاً أو نصباً أوجراً، [كَذَاكَ فِي التَّعْرِيفِ وِالتَّنْكِيرِ] كذاك أي مثل ذاك والمشار إليه كون النعت يتبع المنعوت في واحد من أوجه الإعراب يتبعه في واحد من التعريف والتنكير، إذًا ذكر خمسة من العشرة، فيتبع النعت المنعوت في اثنين من خمسة، لأنه قال: يتبع للمنعوت في واحد من أوجه الإعراب الثلاثة، وفي واحد من التعريف والتنكير، إذاً في اثنين من خمسة. النعت مطلقاً سواء كان النعت حقيقياً أو سببياً يتبع المنعوت في اثنين من خمسة، وهي التي ذكرها الناظم، فحينئذٍ إذا كان النعت حقيقياً أو سببياً وجب أن يكون رفعه أو نصبه أو جره على حسب المنعوت ولا ينفك عنه مطلقاً، كذاك في التعريف والتنكير، إذا كان المنعوت نكرة وجب أن يكون النعت نكرة مطلقاً سواء كان النعت حقيقياً أو سببياً، وإذا كان المنعوت معرفة وجب أن يكون النعت معرفة مطلقاً سواء كان النعت حقيقياً أو سببياً، ولذلك نقدر عند قوله يتبع للمنعوت في اثنين من خمسة سواء كان حقيقياً أو سببياً، ولا يجوز في شيء من النعوت مطلقاً الحقيقي والسببي أن يخالف منعوته في الإعراب، ولا أن يخالفه في التعريف والتنكير، وهذا أمر لازم للنوعين فتقول: جاء زيدٌ العاقلُ، تبعه في الرفع والتعريف، ولا يصح أن يقال: جاء زيد عاقل، ولا جاء رجل العاقل، ولا جاء زيدٌ العاقلَ إلا إذا قطع فحينئذٍ صار جملة مستقلة فيكون الكلام مركباً من جملتين جاء زيد أعني العاقلَ، أما الكلام في الجملة

الواحدة وعلى الأصل دون القطع فنقول جاء زيدٌ العاقلُ ولا يجوز أن يقال العاقلَ دون أن تقطع النعت، هذا في النعت الحقيقي والسببي. وأما الأحوال الأخرى التي تختص بالاسم من حيث الإفراد والتثنية والجمع، ومن حيث التذكير والتأنيث، فحينئذٍ نقول: إن كان النعت حقيقياً أيضاً يتبع المنعوت في اثنين من خمسة: في واحد من الإفراد والتثنية والجمع، وفي واحد من التأنيث والتذكير، فحينئذٍ إذا نظرنا للأحوال العشرة نقول: النعت الحقيقي يتبع منعوته في أربعة من عشرة، واحد من أوجه الإعراب، وواحد من أوجه الإفراد وفرعيه، وواحد من التذكير والتأنيث، وواحد من التعريف والتنكير، تقول: مررت برجلٍ قائمٍ، ومررت برجلين قائمين، ومررت برجال قائمين، تبع منعوته في الجر هنا، قال برجالٍ بالكسر، وقائمين بالياء، ولا يشترط أن يكون تابعاً لما قبله في شخص الحركة، بل في مطلق الإعراب، يعني لو كان المنعوت مرفوعاً تبعه النعت في مطلق الرفع لا في عين الحركة، ولذلك تقول: مررت برجال قائمين كل منهما مجرور، إذاً يكون تابعاً له في مطلق الخفض وليس في عين الحركة. وتقول: مررت بامرأة قائمة، ومررت بامرأتين قائمتين، ومررت بنساء قائمات، إذاً الخلاصة: النعت الحقيقي يتبع منعوته في أربعة من عشرة واحد من أوجه الإعراب وواحد من الإفراد والتثنية والجمع، وواحد من التذكير والتأنيث، وواحد من التعريف والتنكير، ولا يجوز أن يخالف المنعوت واحدًا من هذه الأربعة.

أما النعت السببي فإنه يلزم حالة واحدة وهي الإفراد، ولا يكون مثنى ولا جمعاً إلا على لغة أكلوني البراغيث، وهي لغة ضعيفة لا يعول عليها. ومن حيث التذكير والتأنيث يتبع الاسم الظاهر الذي رفعه، ولا يتبع المنعوت، تقول: مررت برجل قائمٍ أبوه، قائم نعت لرجل تبعه في اثنين من خمسة، وهما الخفض والتنكير، ويلزم الإفراد مطلقًا، وباعتبار التذكير والتأنيث نقول: الاسم الظاهر قد وقع مذكراً وهو أبوه، فذُكِّر النعت لا لكون المنعوت مذكراً وإنما لكون الاسم الظاهر مذكراً، ولذلك لو قيل: مررت برجلٍ قائمةٍ أمُه، قائمة هذا نعت لرجل تبعه في اثنين من خمسة، وهما الخفض والتنكير، ويلزم الإفراد مطلقًا، وباعتبار التذكير والتأنيث هنا وقع المنعوت مذكراً والنعت مؤنثاً، لأنه نعت سببي رفع اسماً ظاهراً والنعت السببي في باب التأنيث والتذكير يتبع ما بعده لا ما قبله، والفاعل وهو أمه مؤنث حقيقي، حينئذٍ يجب تأنيثه لأنه كما سبق أن الفعل إذا كان فاعله مؤنثاً وجب التأنيث، وكذلك الوصف الذي هو اسم الفاعل إذا رفع اسماً ظاهراً وكان فاعله مؤنثاً بشرطه وجب التأنيث، إذا قلت: قامت أم زيد، حكم التأنيث أنه واجب، كذلك الوصف إذا أقيم مقام الفعل أخذ حكمه، حينئذٍ إذا رفع الوصف اسماً ظاهراً وكان مؤنثاً تأنيثاً حقيقياً وجب تأنيث الوصف، لأن الوصف في قوة الفعل يعامل معاملة الفعل، وإذا وجب في الفعل تجريده عن علامة تدل على تثنية الفاعل أو جمع الفاعل وجب تجريد الوصف عن علامة تدل على تثنية الفاعل أو جمعه، وحينئذٍ: مررت

برجل قائمة أمه، قائمة هذا في قوة قامت فيجب التأنيث، ولذلك سبق في المبتدأ من نحو: أقائم الزيدان، قائم مبتدأ، والزيدان فاعل سد مسد الخبر، لِمَ قالوا فاعل ولم يقولوا خبر؟ قلنا: لأن قائم في معنى الفعل، والفعل لا يرفع خبراً، وإنما يرفع فاعلاً، لأن النظر في المعنى فقائم الزيدان في قوة قولك: يقوم الزيدان، فإذا جاء الزيدان بعد الفعل يقوم رُفع على أنه فاعل، وإذا جاء تالياً لما هو في قوة الفعل يقوم كذلك يجب أن يكون مرفوعاً على أنه فاعل، ولا يكون خبراً، لأن الفعل لا يخبر عنه، وإنما يرفع ما بعده على أنه فاعل، كذلك هنا: مررت برجل قائمة أمه، قالوا: هذا في قوة الفعل فحينئذٍ يجب أن يعامل معاملة الفعل؛ لأنه رفع اسماً ظاهراً فإذا كان الاسم الظاهر مؤنثا واجب التأنيث - بشرطه - وجب تأنيث الوصف، وإذا كان الاسم الظاهر مثنى أو جمعاً وجب إفراد الوصف، لأن الفاعل لا يُلحَق بعامله علامة تدل على أن الفاعل مثنى أو جمع، تقول: مررت بامرأة قائمٍ أبوها، فامرأة هذا منعوت وهو مؤنث، وقائم نعت وهو مذكر، لأنك تقول: مررت بامرأةٍ قام أبوها ولا تقول: قامت أبوها، فذكر النعت مع كون المنعوت مؤنثًا باعتبار الاسم الظاهر، وتقول: مررت برجلين قائم أبواهما، برجلين هو الموصوف، وقائم رفع اسماً ظاهراً وهو فاعل مثنى، كما تقول: مررت برجلين قام أبواهما - أتيت بفعل ماض في مقام قائم - إذاً كذلك تقول: مررت برجلين قائمٍ بالإفراد؛ لأنه في معنى الفعل وقد رفع فاعلاً أبواهما وهو مثنى، والفعل إذا رفع فاعلا مثنى لا

تلحقه علامة تدل على أن الفاعل مثنى، كذلك الوصف الذي أُقيم مُقام الفعل يجب تجريده من علامة تدل على أن الفاعل مثنى، ومثله قولك: مررت برجالٍ قائمٍ آباؤهم. كأنك قلت: قام آباؤهم، فيلزم الإفراد لأنه نعت سببي. ومن حيث التأنيث والتذكير يتبع ما بعده، جاء في القرآن: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) [النساء:75] الظالم نعت للقرية، وكل منهما معرفة ومجرور، وباعتبار التذكير والتأنيث قال: الظالم ولم يقل الظالمة، لأنه تَبَعٌ لما بعده وهو أهلها، وهو مذكر، أيضًا قال: الظالم ولم يقل: الظالمين لأنه واجب الإفراد، فالنعت السببي يلزم الإفراد مطلقاً سواء كان الاسم الظاهر مفرداً أو مثنى أو جمعاً. [كَجَاءَ زَيدٌ صَاحِبُ الأَمِيرِ] هذا مثال للنعت الحقيقي، أي كقولك أو مثل جاء زيد صاحب الأمير، جاء فعل ماضٍ، وزيد فاعل، وصاحب نعت لزيد تبعه في الرفع، والعامل في النعت صاحب هو الفعل جاء، لأن العامل في النعت هو العامل في المنعوت على الصحيح، وتبعه في الإفراد، وفي التعريف، وفي التذكير، أيضاً زيد معرفة وصاحب الأمير معرفة، وزيد علَمٌ فهو أعرف من صاحب الأمير لأنه نكرة أضيفت إلى محلى بأل فهو في رتبة المعرَّف بأل، نأخذ من هذا أن الأصل في الصفة والنعت أن تكون أدنى من الموصوف في التعريف أو مساوية له، ولا يجوز أن تكون الصفة أعرف وأعلى درجة من الموصوف، ولذلك لم يجوزوا: مررت بزيد صاحبك على أنه نعت بل بدل، لأن المضاف إلى الضمير في رتبه العلم، والنعت إنما يؤتى به في الأصل للإيضاح، فإذا كان هو أعرف من المنعوت إذاً لا نحتاج إلى الصفة من أصلها، وإنما

يكون موضحا إذا كان مساوياً أو أدنى أما أعلى فلا، ولذلك مررت بزيد صاحبك، صاحب نكرة أضيفت إلى الضمير، وكل نكرة أضيفت إلى معرفة فهي في رتبة ما أضيفت إليه، إلا ما أضيف إلى الضمير فإنه في رتبة العلم، احترازًا مما لو نعت العلم بالنكرة المضافة إلى الضمير، فيكون النعت أرفع، ولذلك قالوا: لا يجوز أن تكون الصفة أرفع من الموصف، فإذا أضيفت النكرة إلى الضمير جعل في مرتبة العلم.

المعرفة والنكرة

المَعْرِفَةُ وَالنَّكِرَةُ لما ذكر التعريف والتنكير أراد أن يبين لك حقيقة التعريف وحقيقة التنكير، ومتى تحكم على الكلمة أنها معرفة أو نكرة، فقال: المعرفة والنكرة أي هذا باب بيان حقيقة المعرفة وحقيقة النكرة، والاسم ينقسم باعتبار التنكير والتعريف إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما على الأصح: إما أن يكون معرفة، وإما أن يكون نكرة، ولا واسطة بينهما، وبعض النحاة أثبت الواسطة فقال: من الأسماء ما ليس معرفة ولا نكرة، وهو كل اسم لا يقبل التنوين ولا أل فهو واسطة، لا يوصف بكونه معرفة ولا نكرة، مثاله: من الشرطية وما الاستفهامية والموصولية فهذه لا تقبل التنوين، ولا أل فليست معرفة ولا نكرة، وهذا مردود، بدليل أن الضمير وهو من المعارف بل ومن أعرف المعارف بعد لفظ الجلالة لا يقبل أل ولا التنوين، وهو بالإجماع معرفة، فالقول بالواسطة قول ضعيف، لذلك قلَّ من يذكره من النحاة، لشدة ضعفه. المَعْرِفَةُ وَالنَّكِرَةُ قوله: المعرفة اختلف فيها هل هي مصدر أو اسم مصدر؟ ونقول: الأصح فيها التفصيل، فإن كانت مأخوذة من عرَّف بالتضعيف فهي اسم مصدر، لأن عرَّف يأتي المصدر منه على التفعيل نحو: كلَّم تكليماً، وخرَّج تخريجاً، فمصدر عرَّف التعريف لا المعرفة، وإن كانت مأخوذة من عرَف بالتخفيف فهي مصدر،

وكذلك النكرة هل هي مصدر أو اسم مصدر؟ نقول: الأصح فيها التفصيل كالمعرفة، فإن كانت مأخوذة من نكَّر بالتضعيف فهي اسم مصدر، لأن نكَّر يأتي المصدر منه على التفعيل كما سبق، فمصدره التنكير لا النكرة، فحينئذٍ تكون نكرة باعتبار نكَّر اسم مصدر، وإن كانت مأخوذة من نكِر فهي مصدر، إذاً هذان اللفظان المعرفة والنكرة مصدران إن أخذا من عرَف ونكِر، واسما مصدر إن أخذا من عرَّف ونكَّر. المعرفة في اللغة: مطلق الإدراك، وفي الاصطلاح عند النحاة: هي ما وضع ليستعمل في معين، ما أي اسم ولا تقل كلمة، لأن الاسم أخص من الكلمة، ولأن بحث المعرفة والنكرة بحث داخل تحت الاسم، لأنك تحكم على الكلمة أولاً بأنها اسم وليست فعلا ولا حرفا، ثم تنظر في الأخص الذي يندرج تحت الاسم، فيكون الاسم أعم، وكونه معرفة، أو نكرة هذا أخص، فتثبت أولاً بالعلامات السابقة اسمية الكلمة، فتحكم بأنها اسم ثم تنظر نظراً آخر هل هي معرفة أو نكرة؟ لكن علامات الاسم السابقة التي ذكرناها في الخفض والتنوين وغيرها لا تصلح أن تميز المعرفة من النكرة، وإنما تُثبت تلك العلامات مطلق الاسم، ثم نحتاج إلى علامة أخرى تميز المعرفة عن النكرة، فتعرف بالحد وبالعلامات، فحد المعرفة: ما وضع ليستعمل في معين، فما اسم كما ذكرنا، وما جنس يصدق على المعرفة وعلى النكرة، أردنا أن نخرج النكرة فقال: وضع ليستعمل في معين ووضع من الوضع، والمراد بالوضع جعل اللفظ دليلا على المعنى، النكرة والمعرفة يشتركان في

أن كلا منهما موضوعان بالوضع العربي، وهو جعل اللفظ دليلاً على المعنى، وضعوا اللفظ دالاً على معنى خاص فمتى ما أطلق هذا اللفظ انصرف إلى ذلك المعنى الخاص، ليستعمل الاستعمال هو إطلاق اللفظ وإرادة المعنى، إذاً قد يكون اللفظ موضوعاً ولا يكون مستعملا هكذا قال بعضهم، فإذا وضع أولاً جعل بإزاء معنى خاص ثم بعد ذلك يطلقه اللافظ ويريد به المعنى الذي وضع له في لغة العرب مطلقاً سواء كان حقيقة أو مجازًا. ما وضع ليستعمل شمل المعرفة والنكرة، لأن المعرفة موضوعة بالوضع العربي كما أن النكرة موضوعة بالوضع العربي، فالمعرفة مستعملة فيما وضعت له كما أن النكرة مستعملة فيما وضعت له، لكن قوله: في معين احترزنا بهذا عن النكرة، فإنها اسم شائع في أفراد جنسه لا تخص واحداً دون آخر كما سيأتي بيانه، حينئذٍ اختص هذا التعريف بالمعرفة. عرفنا معنى الوضع، ومعنى الاستعمال، وبقي الحمل وهو اعتقاد السامع مراد المتكلم بكلامه، فلذلك عندنا باعتبار المفردات والتراكيب ثلاثة أشياء: وضع واستعمال وحمل، وسبقت معانيها، والحمل صفة للسامع، والوضع صفة للواضع، والاستعمال صفة للمتكلم، فالوضع سابق والحمل لاحق والاستعمال متوسط هكذا قال الفتوحي، توضع الألفاظ ثم تستعمل ثم المخاطَب يحملها على ما أراده المتكلم من كلامه. ما وضع ليستعمل في معين شمل أنواع المعارف الستة أو السبعة، والنكرة المقصودة في باب المنادى نحو: يا رجلُ لمعين هي محل

الخلاف هل هي معرفة أو لا؟ والأصح أنها من المعارف لكن نعدها في المعرف بأل، وقيل: في اسم الإشارة، وأعرف المعارف لفظ الجلالة بالإجماع، قيل: رئي سيبويه في المنام، فقيل ما فعل الله بك؟ فقال: خيراً كثيراً أو كلمة نحوها. فقيل له: بماذا؟ فقال: بقولي بأن الله أعرف المعارف، هكذا قيل إذاً أعرف المعارف بعد لفظ الجلالة الضمير ثم العلم ثم اسم الإشارة ثم الموصول ثم ذو الأداة ثم المضاف إلى واحد من هذه المعارف، وهكذا نظمها ابن مالك في الكافية: فَمُضْمَرٌ أَعْرَفُهَا ثُمَّ العَلَمْ فَذُو إِشَارَةٍ فَمَوصُولٌ مُتَمْ فَذُو أَدَاةٍ فَمُنَادَى عُيِّنَا ... فَذُو إِضَافَةٍ بِهَا ... تَبَيَّنَا النكرة المقصودة في باب المنادى معرفة على الأصح، وتخصيص المنادى إنما جعل بالإقبال والقصد -كما سيأتي في مبحث المنادى- أن النكرة تكون مقصودة وتكون غير مقصودة، يا غافلاً أقبل على الله، فغافلا نكرة، فإن عيَّن الشخص فهي مقصودة وإلا فهي غير مقصودة، وهي من المعارف ولكن لم يذكرها الناظم لأنه أراد المعرفة من حيث ما يصح أن ينعت به، فيا رجل هذا لا يقع في باب النعت فلا ينعت ولا ينعت به، لأن المعارف من حيث ما ينعت به وما لا ينعت ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يُنعت ولا يُنعت به، وهو النكرة المقصودة في باب المنادى، والضمير لا ينعت ولا ينعت به، يعني لا يقع موصوفاً ولا صفة.

الثاني: ما ينعت ولا ينعت به، وهو العلم يقع موصوفاً لا صفة، نحو: جاء زيد العاقل، فالعاقل نعت لزيد، لكن لا ينعت به، وهذا هو مأخذ النحاة في كون الرحمن هل هو علم أو ليس بعلم؟ ففي قوله: بسم الله الرحمن، الرحمن هنا وقع صفة للفظ الجلالة، والرحمن علم والعلم لا ينعت به، فاختلف النحاة في هذا، فقيل علم وقيل ليس بعلم، والصواب أنه علم، والقول بأن الأعلام لا ينعت بها لأنها جامدة يعني لا تتضمن صفة، إذا قيل: جاء العاقل زيد، زيد علم جامد لا يدل على صفة فلا يصح أن يقع نعتا هنا. لكن هذه القاعدة لا تطرد في أسماء الله تعالى وصفاته، لأن الرحمن دال على ذات وصفة، فهي أعلام وأوصاف، فمن حيث كونها أوصافاً صح النعت بها حينئذٍ لا تعارض فالرحمن علم، وهو نعت، كيف نقول: علم ونعت والعلم لا ينعت به؟ نقول القاعدة: أن العلم لا ينعت به لأنه جامد لا يتضمن صفة، كيف تصف به وهو جامد يدل على ذات مجردة وليس له معنى، حينئذٍ لا يصح أن تصف به لكن أعلام الرب جل وعلا دالة على الذات وهي أيضاً صفات، فمن حيث كونها صفة صح النعت بها فلا إشكال. الثالث: ما ينعت وينعت به يعني يصح أن يقع موصوفا ويصح أن يقع صفة وهو سائر المعارف. قال رحمه الله: وَاعْلَمْ هُدِيْتَ الرُّشْدَ أَنَّ المَعْرِفَهْ ... خَمْسَةُ أَشْيَا عِنْدَ أَهْلِ المَعْرِفَهْ

[وَاعْلَمْ] هذا أمر من العلم، أي تعلم، وهي كلمة يؤتى بها للإشارة والتنبيه على أن ما بعدها أمر ينبغي العناية به، والواو للاستئناف البياني؛ لأنه لما ذكر في النعت التعريف والتنكير كأن سائلا سأل كيف تحكم على الكلمة بأنها نكرة أو معرفة؟ قال: واعلم إذاً وقع جواباً لسؤال معين فهو استئناف بياني، [هُدِيْتَ الرُّشْدَ] هديت مأخوذ من الهدى، وهو الدلالة والرشاد، تقول: هداه أي أرشده، ويقال: هداه الله الطريق، وهداه الله للطريق، وهداه الله إلى الطريق، فيتعدى بنفسه وباللام وبإلى، [هُدِيْتَ الرُّشْدَ] هُدِي فعل ماضٍ مغير الصيغة، والأصل هداه الله فحذف الفاعل وهو لفظ الجلالة للعلم به، لأن المراد بالهداية هنا هداية التوفيق وهذه خاصة بالله تعالى، وأقيم المفعول به وهو الضمير المتصل، ولما ارتفع جيء بالتاء لأنه يكون في محل رفع نائب فاعل، إذاً هديت هدي فعل ماض مغير الصيغة مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون دفع توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، والتاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل، والرشد ضد الغي، وهو منصوب على نزع الخافض، وأصل هديت الرشد أي للرشد، أو هديت إلى الرشد، والجملة دعائية معترضة لا محل لها من الإعراب، أراد بها التقرب والتودد إلى الطالب، اعلم [أَنَّ المَعْرِفَهْ خَمْسَةُ أَشْيَا عِنْدَ أَهْلِ المَعْرِفَهْ] أنَّ للتوكيد، وسبق أن التوكيد يؤتى به عند الحاجة إليه بأن يكون السامع متردداً في الحكم، أو منكراً وهنا لا تردد ولا إنكار، [أَنَّ المَعْرِفَهْ] أي جنس

المعرفة، لأن المعرفة في اللفظ واحد، وأخبر عنها بخمسة أشياء، حينئذٍ لا بد من جعل أل معرفة مرادًا بها الجنس، وأل الجنسية يصدق مدخولها على الواحد والاثنين والخمسة والعشرة والمائة لا تختص بعدد معين، ولذلك يقولون: الإضافة الجنسية تبطل معنى الجمعية، وكذلك أل الجنسية، اعلم أن المعرفة [خَمْسَةُ أَشْيَا] يعني خمسة أمور، وسيأتي عدها [عِنْدَ أَهْلِ المَعْرِفَهْ] أي عند النحاة، وعند هنا لا يمكن حملها على الظرفية لا الزمانية ولا المكانية، فحينئذٍ لا بد من التأويل عند أهل المعرفة أي في حكم أهل المعرفة، والمراد بالمعرفة هنا بقواعد العربية يعني أهل العربية، لأن كل أصول علم إنما تؤخذ من أصحابها والنحاة هم أهل هذه المعرفة. وَهْيَ الضَّمِيرُ ثُمَّ الاِسْمُ العَلَمُ ... فَذُو الأَدَاةِ ثُمَّ الاِسْمُ المُبْهَمُ [وَهْيَ الضَّمِيرُ] الواو للاستئناف البياني، لأنه قال: خمسة أشياء، فكأن سائلا سأل ما هي هذه الأشياء الخمسة؟ إذًا وقع في جواب سؤال مقدر، [وَهْيَ الضَّمِيرُ] هي مبتدأ، والضمير وما عطف عليه في محل رفع خبر، [الضَّمِيرُ] هذا اسمه عند البصريين، وعند الكوفيين الكناية والمكنية، لأنه يكنى به عن الاسم الظاهر، والضمير فعيل بمعنى اسم المفعول، أي المضمر، والأصل فيه أنه مأخوذ من الاستتار والخفاء، إذا أضمرت الشيء أي أخفيته وسترته عن غيره، فحينئذٍ الأصل في إطلاق الضمير على الضمير المستتر، أما البارز فالأصل فيه أنه ليس بمستتر لأن الضمير معناه الخفاء والاستتار، فالتاء وأنا وهو ضمائر، فليست مستترة ولا مخفية،

فحينئذٍ يكون إطلاق لفظ الضمير على البارز من باب التوسع، فيسمى ضميراً توسعاً لأنه ليس فيه خفاء، فإطلاقه على المستتر حقيقي، وعلى البارز من باب التوسع فيكون مجازاً. وحقيقة الضمير: ما دل على متكلم كأنا، أو مخاطب كأنت، أو غائب كهو. والضمير له أقسام عدة تأتيكم في المطولات. [ثُمَّ الاِسْمُ العَلَمُ] ثم للترتيب مع التراخي، لأنه أراد أن ينزل من الأعلى فيذكر أعلى المعارف إلى أن يصل أدناها، فبدأ بالضمير ثم العلم فرتبة العلم بعد رتبة الضمير، [ثُمَّ الاِسْمُ العَلَمُ] ثم يأتي من المعارف بعد الضمير الاسم العلم. ولو قال العلم لكفى لأن العلم لا يكون إلا اسماً. والعلم لغة: يطلق على معانٍ منها الجبل ومنها الراية ومنها العلامة وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ وأما في الاصطلاح: فهو ما دل على مسماه بلا قيد. فما اسم موصول يصدق على المعرفة والنكرة، لكن نقول: هنا المراد به المعرفة لأنه أراد أن يعرف الأخص، وهو العلم فحينئذٍ لا بد من أخذ المعرفة جنساً في حد العلَم، فكل علَم معرفة وليس كل معرفة علما، على القاعدة المطردة التي نذكرها دائماً هنا، دل على مسماه هذا يشمل كل المعارف، وخرج بقوله: بلا قيد كل المعارف عدا العلم، لأن المعارف الستة التي ذكرناها: إما أن تدل على مسماها بقيد أو بلا قيد، وما دل على مسماه بقيد إما أن يكون القيد لفظياً أو حسياً أو معنوياً، لفظياً كرجل نكرة، والرجل معرفة، والذي دلك على أن الرجل

معرفة القيد اللفظي وهو أل، لأنك تلفظت بأل فهذا قيد لفظي دل على أن مدخوله معرفة، أو حسياً نحو: هذا زيد، هذا معرفة دل على مسماه بقيد حسي لأنه يشير إليه بيده، فإذا قيل: هذا زيد بدون إشارة، لم يحصل التعريف، إذاً لا بد في اسم الإشارة أن تصحبه إشارة حسية، فحينئذٍ نقول: اسم الإشارة معرفة دل على مسماه ولكن بقيد، وهذا القيد قيد حسي، أو معنوياً نحو: أنا زيد، فأنا معرفة دل على مسماه بقيد معنوي، وهو التكلم، أنت زيد، أنت معرفة دل على مسماه بقيد معنوي وهو الخطاب، هو زيد، دل على مسماه ولكن بقيد معنوي وهو الغَيبة، إذاً عرفنا أن المعارف قسمان: ما دل على مسماه بقيد، وما دل على مسماه بلا قيد، فإن دل على مسماه بقيد فلا يخلو عن ثلاثة أحوال: إما أن يكون القيد لفظياً مثل: الرجل، وإما أن يكون حسياً مثل: اسم الإشارة، وإما أن يكون معنوياً مثل التكلم والخطاب والغَيبة، هذه الثلاثة تشمل كل المعارف إلا العلَم فيدخل في القسم الثاني وهو ما دل على مسماه بلا قيد، فحينئذٍ تقول: العلَم ما دل على مسماه بلا قيد لفظي ولا حسي ولا معنوي؛ لأن الأقسام محصورة في ستة فقط، فإذا دل على مسماه وانتفى القيد الحسي واللفظي والمعنوي حكمت عليه بأنه علَم. [فَذُو الأَدَاةِ] الفاء للترتيب، فهي تفيد أن ما بعد الفاء في الرتبة بعد ما قبلها، ذو الأداة يعني المحلى بأل رتبته بعد رتبة العلَم، ونقول: هذا ليس بصحيح، ليس ذو الأداة بعد العلَم، بل اسم الإشارة والموصول أعرف منه، حينئذٍ قد خالف الناظم الأصل

ولعله من أجل النظم، [فَذُو الأَدَاةِ] أي المحلى بأل، ولم يقل: المحلى بأل ليشمل أم الحميرية، وأيضاً قال ابن هشام: فذو الأداة معرف، لأن بعض النحاة لا يرى أن أل كلها معرفة، وإنما اللام فقط، فجمعاً بين هذه الأقوال عبر بقوله: فذو الأداة أي المعرف بأل، أو ما يقوم مقامها. [ثُمَّ الاِسْمُ المُبْهَمُ] ثم على بابها، والمبهم مأخوذ من الإبهام، وهو عدم الإيضاح، ويريد به الناظم هنا أسماء الإشارة والموصولات، وسميت أسماء الإشارة والموصولات مبهمات لأنها تحتاج إلى مفسِّر يفسر ويبين ويعين المراد بها، فاسم الإشارة لا بد له من إشارة حسية ولا يعرف المراد إلا بها، فلو قلت: هذا زيد، وعندك مائة لا تعرف من هو زيد حتى تشير إليه، حينئذٍ صار مبهمًا، حتى تقترن به الإشارة، ولو قلت: جاء الذي .. صار مبهمًا، فإن قلت: جاء الذي قام أبوه، عرفته إذاً يحتاج إلى جملة الصلة تبين المراد من الموصول، فالذي والتي واللذان واللتان والذين ومن وما وأل كلها مبهمات، لا يفهم المراد منها إلا بجملة الصلة وتكون مشتملة على عائد، [ثُمَّ الاِسْمُ المُبْهَمُ] وتحته نوعان: أسماء الإشارة، وأسماء الموصولات، واسم الإشارة هو ما وضع لمسمى وإشارة إليه، مسمى يعني ما دل على مسماه، وإشارة إليه لا بد من إشارة إليه وإلا لحصل الإبهام، كأنه قال: ما دل على مسماه بقيد الإشارة إليه، والمشار إليه قد يكون مفرداً، وقد يكون مثنى، وقد يكون جمعاً، وكل من الثلاثة قد يكون مذكراً، وقد يكون مؤنثاً، وهذه مبسوطة في المطولات، والمقصود هنا الذي نبحث عنه أن اسم الإشارة من

المعارف، فحينئذٍ ينعت به، وينعت. والاسم الموصول وموصول اسم مفعول من وصل الشيء بغيره إذا أتمه، فالموصول هو ما افتقر إلى صلة، وعائد، ما أي اسم، افتقر والافتقار أشد الاحتياج، وهو علة بناء الموصولات، ما افتقر إلى صلة يقصدون بها الجملة أو شبهها، تقول: جاء الذي قام أبوه، جملة قام أبوه هي الصلة وهي جملة فعلية، وجاء الذي أبوه قائم، جملة أبوه قائم هي الصلة وهي جملية اسمية، وجاء الذي عندك، وجاء الذي في الدار، فعندك وفي الدار شبه الجملة وهو الصلة، فجملة الصلة هي التي عينت المراد ورفعت الإبهام عن الذي ونحوه، إذاً كل اسم موصول لا بد له من جملة تبين وتكشف المراد وإلا صار مبهماً، وعائد يقصد به الضمير، فنحو: جاء الذي قام أبوه، كما ذكرناه في الجملة الخبرية، لا بد لها من رابط يربطها بالموصول مطابقٍ له إفرادًا وتثنية وجمعًا، وتذكيرًا وتأنيثًا. والاسم الموصول نوعان مشترك ومختص، وليس المراد هنا البحث في تلك التفصيلات. وَمَا إِلَى أَحَدِ هَذِي الأَرْبَعَهْ ... أُضِيفَ فَافْهَمِ المِثَالَ وَاتْبَعَهْ نَحْوُ أَنَا وَهِنْدُ وَالغُلاَمُ ... وَذَاكَ ... وَابْنُ عَمِّنَا الهُمَامُ [وَمَا إِلَى أَحَدِ هَذِي الأَرْبَعَهْ] أي هو في الأصل نكرة، ثم أضيف إلى الضمير فاكتسب التعريف، تقول: جاء غلامك، غلام هذا مفرد نكرة أضيف إلى الضمير، فصار معرفة، لأنه أضيف إلى المعرفة، وكل نكرة أضيفت إلى معرفة اكتسبت التعريف، وتكون في رتبة ما أضيف إليه، إلا المضاف إلى الضمير فهو في رتبة العلم،

وجاء غلام زيد، غلام نكرة أضيف إلى زيد وهو علم فاكتسب التعريف، فغلام زيد معرفة، لأن الاسم المفرد قبل التركيب ليس هو عينه بعد التركيب، وغلام زيد في رتبة العلَم، كذلك إذا أضيف إلى اسم الإشارة، نحو: جاء غلام هذا، فغلام هذا معرفة، لأنه أضيف إلى اسم الإشارة فاكتسب التعريف، وهو في رتبته، وتقول: جاء غلام الذي أبوه قائم، فغلام الذي أبوه قائم معرفة، لأنه أضيف إلى الموصول فاكتسب التعريف، وهو في رتبة الموصول، [وَمَا إِلَى أَحَدِ هَذِي الأَرْبَعَهْ] أي وما أضيف، وما اسم موصول بمعنى الذي معطوف على قوله الاسم المبهم؛ لأن مراده الترتيب، وأضيف جملة الصلة، [أُضِيفَ] هو أي الاسم النكرة إلى أحد هذه الأربعة المذكورة سابقاً، [فَافْهَمِ المِثَالَ وَاتْبَعَهْ] الفهم إدراك معنى الكلام، والمراد بالكلام هنا المثال، والمثال جزئيٌّ يذكر لإيضاح القاعدة، لإيضاح القاعدة أي لشرحها تقول: الفاعل مرفوع، مثاله: جاء زيد، فجاء زيد هذا مثال، والشاهد جزئيٌّ يذكر لإثبات القاعدة، لكن إذا أردت أن تثبت قاعدة الفاعل مرفوع لا بد أن يكون الشاهد مما يعتمد عليه في نقل اللغة العربية، ويحتج بأهله في إثبات الأحكام، فلذلك لا يشترط في المثال النقل بخلاف الشاهد، [وَاتْبَعَهْ] لأن الأصل في الحكم أن هذا موصول إنما هو الاتباع للعرب في أحكام المفردات، [نَحْوُ أَنَا] وهو ضمير للمتكلم، [وَهِنْدُ] للعلَم وهو مؤنث، وزيد مذكر، [وَالغُلاَمُ] مثال لذي الأداة، [وَذَاكَ] اسم الإشارة، [وَابْنُ عَمِّنَا الهُمَامُ] وابن عمنا أضيف إلى واحد منها، وعمنا

هذا معرفة مضاف إلى معرفة، فابن نكرة، وعم نكرة، ونا معرفة، إذاً الأصل عمنا، وهو معرفة أصله نكرة ثم أضيف إلى الضمير نا فاكتسب التعريف، ثم أضيف إليه ابن، فاكتسب ابن التعريف لأنه أضيف إلى معرفة، وما أضيف إلى معرفة ليس المراد المضاف إليه، ولو أرادوا المضاف إليه لما صح المثال السابق، فعمنا ليس المراد نا الدالة على الفاعلين، وإلا لما احتيج إلى قسم مستقل لأن نا داخلة في قسم الضمير. وغلام زيد، ليس المراد زيد لأنه علم داخل في قسم العلَم، وغلام هذا، وغلام الذي .. ليس المراد المضاف إليه إنما الحكم لكونه معرفة، للمضاف وهو غلام نكرة، متى نحكم عليه بأنه معرفة؟ إذا دخلت عليه أل أو أضيف إلى معرفة فتقول: غلام زيد، وغلامي فهو معرفة لأنه أضيف إلى معرفة، وابن معرفة لأنه أضيف إلى معرفة، وابن عمنا معرفة لأنه أضيف إلى معرفة، و [الهُمَامُ] المراد به في الأصل الملك العظيم الهمة. هذا ما يتعلق بالمعرفة، وقدَّمها على النكرة وإن كانت النكرة هي الأصل لأن الأصل في الاسم أن يكون نكرة والمعرفة فرع عنها، وإنما كانت النكرة أصلا لسببين: الأول: لاندراج كل معرفة تحتها ولا عكس، فرجل والرجل، رجل نكرة، والرجل معرفة وأيهما أخص؟ نقول: رجل أعم، والرجل أخص، وأيهما يدخل تحت الآخر؟ الرجل يدخل تحت الأعم وهو رجل، إذًا صارت النكرة أصلا لدخول كل معرفة تحتها، فالرجل هذا معين، وما وضع ليستعمل في معين هو المعرفة،

ورجل هذا شائع لا يختص بواحد دون آخر. والثاني: أن المعرفة لا يحكم عليها بكونها معرفة إلا لسبب، فتحتاج إلى سبب، لا بد أن ننظر فيه هل هو ضمير أو لا، علم أو لا، اسم إشارة أو لا، إذاً لا بد له من سبب، بخلاف النكرة فلا تحتاج إلى سبب في الحكم عليها بكونها نكرة، فحينئذٍ لعدم احتياجها إلى سبب في الحكم عليها في كونها نكرة جعلت أصلاً، لأن ما احتاج فرعٌ لما لا يحتاج إلى سبب، إذًا صارت النكرة أصلا، والأصل هنا أن تقدم المعارف ثم يقال: وما عدا ذلك فهو نكرة، تعد المعارف أوَّلا، فيقال المعرفة ستة أو سبعة، وهي الضمير والعلم .. إلى آخره، وما عدا ذلك فهو نكرة، ومن عكس عيب عليه، كما عيب على ابن مالك رحمه الله حيث قال: نَكِرَةٌ قَابِلُ أَلْ مُؤَثِّرَا ... أَوْ وَاقِعٌ مَوْقِعَ مَا قَدْ ذُكِرَا وَغَيْرُهُ مَعْرِفَةٌ ....... ... ....................... قالوا: لو قدم المعرفة وقال: وغيرها نكرة لكان أصوب وأدق؛ لأنها تنضبط بالعدد فنقول: هذا معرفة وما عدا ذلك فهو نكرة. وَإِنْ تَرَى اسْمًا شَائِعًا فِي جِنْسِهِ ... وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ فَهْوَ المُنَكَّرُ وَمَهْمَا تُرِدِ ... تَقْرِيبَ حَدِّهِ لِفَهْمِ المُبْتَدِي فَكُلُّ مَا ِلأَلِفٍ وَاللاَّمِ ... يَصْلُحُ كَالفَرَسِ ... وَالغُلاَمِ

حد النكرة: ما شاع في جنس موجود أو مقدر، ما شاع أي انتشر وذاع، وليس له حدود، مأخوذ من الشيوع وهو الانتشار، شاع في جنس يعني في أفراد جنس، والمراد بالجنس هنا المعنى الكلي، والمعنى الكلي له وجود ذهني، ولا وجود له في الخارج، إلا في ضمن أفراده، وإذا كان الجنس معنى في الذهن حينئذٍ قالوا: هذا شاع وله أفراد، وُجد هذا المعنى في الذهن، وأما في الخارج فلا وجود له استقلالا بل وجوده في ضمن أفراده وآحاده، لكن دلالة الحقيقة الذهنية على الفرد الخارجي بدلالة اللزوم، لأن اللفظ وضع للمعنى الذهني مع مراعاة فرد خارجيٍّ، فلا بد حينئذٍ أن يجعل الفرد الخارجي قيداً في المعنى الذهني، هذا هو حقيقة النكرة، أن يكون اللفظ له حقيقة ذهنية أي في الذهن، لكن مع مراعاة الفرد الخارجي، لأن الحقيقة الذهنية قد توجد في الذهن وهي حقيقة ذهنية، من غير اعتبار شيء في الخارج أبداً، بل لا يمكن أن يوجد لها فرد في الخارج، مثل بحر من زئبق، المعنى الكلي وجد في الذهن، وليس له أفراد في الخارج بل يمتنع أن يوجد له أفراد في الخارج، وهنا في النكرة المعنى الكلي له وجود ذهني، وفي الخارج في ضمن أفراده، فمثلا رجل المراد به البالغ من بني آدم، وبعضهم يقول: حيوان ناطق بالغ من بني آدم، وهذا معنى ذهني، وضع له لفظ رجل، ر ج ل هذا لفظ مركب من ثلاثة أحرف، له معنى، هذا المعنى موجود في الذهن، حيوان ناطق بالغ من بني آدم، وليس بزيد ولا عمرو ولا خالد. لكن لا يوجد في خارج الذهن مستقلاً عن الأفراد بل لا بد أن يوجد في ضمن فرد

من أفراده، فزيد رجل بالغ من بني آدم، إذًا وجد المعنى في ضمن أفراده، والمعنى الموجود في ضمن الفرد يكون معنى جزئيا وليس كل المعنى الكلي لأن المعنى قدر مشترك، والقدر المشترك بين زيد وعمرو وخالد وبدر ومحمد ولا ينحصر فيهم، بل كلما وجد فرد صالح للدخول تحت اللفظ شمله اللفظ، وهنا قال: النكرة ما شاع في جنسه، والمراد بالجنس هنا ليس المعنى الكلي، لأن الجنس الذي هو المعنى الكلي لا يتبعض، بل هو شيء واحد، إذا قيل: الإنسان معناه حيوان ناطق، لكنه في الذهن فقط فلا يتعدد، وإنما التعدد يكون في الخارج فقط. فالمعنى الذهني لا يتعدد وإنما الذي يتعدد هو الأفراد، فقوله: ما شاع في جنس يعني في أفراد جنس يعني انتشر في الأفراد، كالرجولة فكونه ذكراً من بني آدم هذا موجود وشائع ومنتشر وذائع في الأفراد، وأما نفس المعنى الذي وجد في عمرو وفي زيد وفي خالد فهذا معنى الجنس، ووجوده في الذهن، لذلك لا بد من التقدير تقول: ما شاع في جنس أي في أفراد جنس، موجود أو مقدر، إذًا الأفراد قد تكون موجودة بالفعل، وقد تكون مقدرة لأن الأصل في المعنى الشائع أن يكون له أفراد إذ لا يكون شائعًا منتشرًا وهو لم يوجد منه إلا فرد واحد، إذًا لابد من جعله مقدرًا فنقول مثلا: رجل هذا له أفراد كثيرة كما سبق، وشمس له معنى ذهني وهو أنه كوكب نهاري ينسخ ظهوره وجود الليل، كلما وجد هذا الشيء في الخارج سمي شمسًا، لكن بالفعل لم توجد إلا شمس واحدة، ولو وجد كوكب نهاري ينسخ ظهوره وجود الليل لسُمِّي شمسًا كذلك، كما

يقال في رجل بالمعنى الذهني كلما وجد ذكر من بني آدم بالغ أطلق عليه أنه رجل، فأفراده لا تنتهي، لذلك قال: في جنس يعنى في أفرادٍ موجودة بالفعل متعددة، أوله فرد واحد، ولكن الثاني مقدر يعني فرد بالقوة لو وجد لكان ذاك الوصف مستحقًا له. وأما جمع شمس على شموس فالجمع باعتبار المطالع، يعني إذا قيل: هذه شموس فهل يصح الجمع أولا؟ نقول: نعم يصح ولكن هل هو كرجال؟ فرجال جمع رجل، وأفراده متعددة ولها وجود، وأما شمس فليس إلا شمس واحدة، وإنما الجمع باعتبار المطالع، فشمس السبت غير شمس الأحد غير شمس الاثنين وهكذا، إذًا جمعت هذه المطالع فقيل شموس، لذلك يصح أن يقال: شمسُ يومنا أحرُّ من شمس أمس، إذًا فوضل بين شمس واحدة لكن باعتبارين، [وَإِنْ تَرَى اسْمًا] من حيث المعنى [شَائِعًا] بمعنى أنه منتشر وذائع [فِي جِنْسِهِ] يعني في أفراد جنسه الموجودة أو المقدرة، والجنس المنطقي الاصطلاحي هو ما لا يمنع تعقله من وقوع الشركة فيه أي في مدلوله، فالشيوع يكون في الأفراد لا في الحقائق، لأن الجنس معنىً كلي قائم بالذهن، فهو لا يتعدد، فالجنس من حيث هو لا يقبل التعدد، لأنه حقيقة واحدة، لا يتفاوت فيها الشيء في نفسه، وإن حصل تفاوت فهو باعتبار الأفراد، إذًا له معنى ذهني والمراد بالمعنى الذهني هو ما يتصوره العقل سواءٌ طابق ما في الخارج أم لا. [وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ] أي لم يختصَّ به واحد من أفراد جنسه دون الآخر، لا يمكن أن يأتي زيد فيقول: رجل هذا خاصٌّ بي ولا

يشاركني فيه أحد، فلا يختص به واحد من أفراد جنسه بل يشاركه غيره، لأن لفظ رجل وضع للقدر المشترك فهو صالح للكل. [فَهْوَ المُنَكَّرُ] الفاء واقعة في جواب الشرط، والجملة من المبتدأ والخبر في محل جزم جواب الشرط، والحاصل أن النكرة هي المعنى الذهني المشترك بين الأفراد بدون قطع النظر عن وجود بعض أفراده الخارجية فيه التي هي محل التعدد. [وَمَهْمَا تُرِدِ تَقْرِيبَ حَدِّهِ لِفَهْمِ المُبْتَدِي] لو قدَّم هذا الضابط لكان أحسن، [وَمَهْمَا] اسم شرط جازم، [تُرِدِ] فعل مضارع فعل الشرط مجزوم وجزمه سكون مقدر على آخر منع من ظهوره اشتغال المحل بكسرة الروي، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، [تَقْرِيبَ] مفعول به أي تسهيل، وتقريب تفعيل بمعنى اسم الفاعل أي مقرِّب أي ومهما ترد مقربَ [حَدِّهِ] يعني ما يقرب لك حد النكرة، وتقريب مضاف وحده مضاف إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله، وتقريب حده يعني حد النكرة، والحد المراد به هنا الرسم، وكثيرًا ما يطلق الحد مرادًا به الرسم لأن الرسم والحد كلاهما معرِّف، [لِفَهْمِ المُبْتَدِي] لفهم جار ومجرور متعلق بقوله تقريب، فالتقريب حاصل لفهم المبتدي في هذا الفن الذي هو النحو، والمبتدي هو من أخذ في أوائل العلم، فحينئذ أراد أن يقرب ذلك الحد السابق إلى فهم المبتدى من أجل أن يدركه على وجهه يعني فإذا أردت تقريب النكرة والتفريق بينها وبين المعرفة، [فَكُلُّ مَا ِلأَلِفٍ وَاللاَّمِ ... يَصْلُحُ كَالفَرَسِ وَالغُلاَمِ] فما كان قابلاً أل نكرة، كما قال ابن مالك نكرة قابل أل ... فكل ما

صلح لغة لا عقلاً وقبل أل بالفعل أو بالقوة فهو نكرة، [فَـ] هو [كُلُّ] خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، والفاء واقعة في جواب الشرط مهما، والجملة من المبتدأ والخبر في محل جزم جواب الشرط، [فَكُلُّ مَا] كل هذا خبر وهو مضاف وما اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه يصدق على الاسم [ِلأَلفٍ وَاللاَّمِ يَصْلُحُ] أي كل ما يصلح لأل، فجملة يصلح لا محل لها صلة الموصول، لألف جار ومجرور ولام معطوف عليه والجار والمجرور متعلق بقوله يصلح، والمراد بالصلاحية هنا القبول، إذًا كل ما يصلح ويقبل الألف واللام لغة لا عقلاً فيصح اللفظ فهو نكرة، [كَالفَرَسِ وَالغُلاَمِ] الأجود أن يقول: "كفرس وغلام" لأنه يقبل أل، وإنما أتى به معرفًا لضيق النظم، كالفرس هذا مثال لما لا يعقل، والغلام هذا مثال لما يعقل، إذًا كل اسم صلح أن يقبل أل بالفعل أو بالقوة فنحكم عليه أنه نكرة، فتقول: غلام، هذا نكرة، لا يشترط أن تقول الغلام تُدخل أل بالفعل حتى نحكم عليه أنه نكرة، بل مجرد القبول يكفي في الحكم عليه أنه نكرة. وهذه قاعدة في كل العلامات، فالمراد بها مجرد القبول، والمراد بالقبول لغةً لا عقلاً، لأن العقل يُجوِّز ما لا تأتي به اللغة، إذًا علامات النكرة التي تميز بها عن المعرفة كثيرة لكن أشهرها ما ذكره الناظم هو دخول أل، ومنها دخول رُبَّ قال في الملحة: فَكُلُّ مَا رُبَّ عَلَيهِ تَدْخُلُ ... فَإِنَّهُ مُنَكَّرٌ يَا رَجُلُ

فرُبَّ من علامات النكرة، ولا نقول من علامات الاسم فحسب، ومنها نصب الاسم على أنه تمييز أو حال دليل على أنه نكرة على مذهب البصريين، لأنه لا يكون التمييز إلا نكرة ولا تكون الحال إلا نكرة، ومنها دخول مِن الاستغراقية دليل على أن مدخولها نكرة"كقوله تعالى: (مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ) (المائدة: من الآية19). لأن من الاستغراقية خاصة بالنكرات، ومنها دخول لا النافية للجنس لأنها تختص بالنكرات لذلك قال ابن مالك: عَمَلَ إِنَّ اجْعَلْ لِلاَ فِي نَكِرَهْ ... مُفْرَدَةً جَاءَتْكَ أَوْ مُكَرَّرَهْ ومنها تنوين التنكير وسبق أنه اللاحق للأسماء المبنية فرقًا بين معرفتها ونكرتها فما دخل عليه تنوين التنكير حكمنا عليه بأنه نكرة كصهٍ، فهذه العلامات إذا وجدت دلت على أن الاسم نكرة.

باب العطف

بَابُ العَطْفِ أي باب حروف العطف، أي هذا باب بيان حقيقة العطف، والعطف في اللغة: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، وأما في الاصطلاح عند النحاة فالعطف نوعان: عطف بيان وعطف نسق. فعطف البيان من اسمه عطف أريد به البيان، وهو - أي البيان - الإيضاح والكشف والتفسير، فحينئذٍ يكون قد عطف بمعنى أنه رجع إلى المتبوع فكشفه وبينه وزاده إيضاحاً إن كان موضحاً، أو تخصيصاً إن كان مخصصاً، فقيل عطف البيان لأنه مبين لما قبله، وفيه معنى الرجوع فإذا قيل: أقسم أبو حفص عمر، عمر هذا عطف بيان، لما قيل: أقسم أبو حفص، لا يفهم منه أنه عمر - رضي الله عنه -، بل يحتمل أنه عمر وغيره، حينئذٍ لما قال: عمر رجع إلى أبي حفص فكشفه ووضحه وفسره وبين المراد به. حقيقة عطف البيان هو: تابع موضِّح أو مخصص جامد غير مؤول. قوله: تابع جنس يشمل التوابع الخمسة، فكل التوابع داخلة في قوله: تابع، موضح أو مخصص أي موضح لمتبوعه إن كان معرفة، ومخصص لمتبوعه إن كان نكرة، بهذا الفصل كونه موضحاً ومخصصاً أخرج به التوكيد، نحو: جاء زيد نفسه، وجاء زيد عينه، فنفسه وعينه لم يؤت بها للتوضيح والتخصيص، لأنه -كما سيأتي- فائدة التوكيد مغايرة لفائدة النعت وعطف البيان، وأخرج أيضاً

عطف النسق لأن عطف النسق ليس موضحاً ولا مخصصاً، وإنما تكون وظيفته بحسب معنى ووظيفة حرف العطف، وأخرج البدل نحو: أكلت الرغيف ثلثه، هذا ليس بتوضيح ولا بتخصيص كما سيأتي في موضعه، إذاً قوله: تابع جنس شمل التوابع الخمسة، موضح أو مخصص. أخرج التوكيد وعطف النسق والبدل، قوله: جامد، أخرج به النعت لأن النعت فائدته التخصيص والتوضيح، إذاً تابع موضح أو مخصص شارك النعتُ عطفَ البيان في هذه الفائدة، وبجامد أخرج النعت لأن النعت تابع مشتق لا بد أن يكون مشتقاً، فإذا لم يكن مشتقاً حينئذٍ ينظر إلى النوع الثاني وهو كونه جامداً، فإن كان جامداً فإما أن يؤول بمشتق، أو لا، فإن أمكن تأويله بمشتق فهو داخل في النعت لأن النعت قسمان: مشتق، وجامد مؤول بالمشتق، قوله: جامد، أخرج النعت المشتق، وقوله: غير مؤول، أخرج النعت الجامد المؤول بالمشتق، فتعين حينئذٍ أن يقال: عطف البيان تابع فائدته التوضيح والتخصيص ثم هو جامد غير مؤول، لأن الجامد نوعان: جامد يؤول بالمشتق، وجامد لا يؤول بالمشتق. والثاني هو عطف البيان. وحكمه أنه يوافق متبوعه في أربعة من العشرة التي ذكرناها في النعت الحقيقي، فهو كالنعت الحقيقي، يوافق متبوعه في واحد من أوجه الإعراب، وواحد في الإفراد وفرعيه، وواحد من التذكير والتأنيث، وواحد من التعريف والتنكير. عطف البيان لما كان مفيداً فائدة النعت في الإيضاح والتخصيص، يلزمه موافقة المتبوع في التذكير والإفراد وفروعهن

والإعراب. نحو: أقسم أبو حفص عمر، أقسم فعل ماض، وأبو حفص فاعل مرفوع ورفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة، وأبو مضاف، وحفص مضاف إليه، وعمر عطف بيان، لأنه تابع موضح جاء بعد معرفة، وهو جامد غير مؤول؛ لأن عمر هذا علم، والأعلام جامدة ولا تؤول بالمشتق. ومثله: هذا خاتمٌ حديدٌ، هذا مبتدأ، وخاتم خبر، وحديد عطف بيان، وفيه أوجه لكن المثال هنا لعطف البيان، حديد نقول: عطف بيان؛ لأنه تابع مخصص جاء بعد النكرة، وهو جامد غير مؤول. ويرد الإشكال في نحو: قال أبو بكر الصديق، وقال عمر الفاروق، والصديق والفاروق كلٌ منهما عطف بيان، وعطف البيان لا يكون مشتقاً، والصدّيق فعّيل، والفاروق فاعول وهما مشتقان، إذاً فكيف نقول: هما عطف بيان وهما مشتقان؟ نقول: هذه صارت أعلاماً سلبت المعنى الذي دلت عليه سابقاً، فهي مسلوبة المعنى، ففاروق لا يدل على شيء وإن كان هو في الأصل سمي فاروقا للفرق بين الحق والباطل، والصدّيق سمي بذلك لكثرة الصدق لكونه صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء وغيره، فحينئذٍ نقول: هذا اللفظ إذا أطلق انصرف إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، صار كالعَلَم كما تقول عمر وعثمان إذا أطلق انصرف إلى مسماه كذلك الصدّيق إذا أطلق انصرف إلى مسماه وهو أبو بكر - رضي الله عنه - حينئذٍ صار علَماً، كذلك الفاروق إذا أطلق انصرف إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، حينئذٍ صار علَماً وهو مشتق في الأصل. لما صار علماً بمعنى أنه إذا أطلق انصرف إلى مسماه مطلقاً بلا قيد عومل معاملة

الأعلام، فحينئذٍ سلب المعنى الذي كان له في الأصل دالاً عليه قبل العلمية، إذاً لا اعتراض على هذا الحد. ومنه قوله تعالى: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة:184] طعام عطف بيان أريد به التخصيص، ومنع كثير من النحاة كون عطف البيان نكرة تابعاً للنكرة، والصواب أنه يصح أن يكون نكرة تابعاً للنكرة. ومنه قوله تعالى: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم:16] صديد عطف بيان، وهو نكرة، وماء هو المتبوع وهو نكرة، إذاً عطف البيان يأخذ حكم متبوعه، إن كان مرفوعاً فهو مرفوع، وإن كان منصوباً فهو منصوب، وإن كان مجروراً فهو مجرور. والقاعدة عندهم: أن كل اسم صح الحكم عليه بأنه عطف بيان صح أن يحكم عليه بأنه بدل كل من كل، مفيدٌ لتقرير معنى الكلام وتوكيده، لكونه على نية تكرار العامل. هذا هو عطف البيان، لكن الناظم قال: بَابُ العَطْفِ وأراد به النوع الثاني، وهو عطف النسق بدليل أنه لم يذكر عطف البيان. باب العطف، أل للعهد الذهني، والذي يوقف الطالب على هذا المعهود وهو أمر ذهني هو الموقف. وإن شئت قل: للعهد الحضوري لأنه ذكر تحت الترجمة عطف النسق فقط، والنسق بفتح السين اسم مصدر بمعنى اسم المفعول أي منسوق، يقال: نسقتُ الكلام إذا عطفت بعضه على بعض، والمصدر بالتسكين نسْق، عطف النسق من باب إطلاق المصدر

وإرادة اسم المفعول أي العطف المنسوق من إضافة الموصوف إلى الصفة، أو المسمى إلى الاسم، والنسْق أو النسَق هو النظم. واصطلاحاً: هو التابع المتوسط بينه وبين متبوعه أحد حروف العطف الآتي ذكرها، العشرة أو التسعة. قوله: التابع هذا جنس يشمل التوابع الخمسة كلها، والمتوسط فصل أخرج به كل التوابع، والمتوسط بينه وبين متبوعه أي الذي وقع وسطاً بينه وبين متبوعه أحد حروف العطف الآتي ذكرها، حينئذٍ أخرج النعت، والتوكيد، وعطف البيان، والبدل هذه كلها متصلة بمتبوعها، إذ ليس ثَمَّ فاصل بحرف بين التابع والمتبوع، حينئذٍ اختص الحد بعطف النسق. قال الناظم: هَذَا وَإِنَّ العَطْفَ أَيْضًا تَابِعُ ... حُرُوفُهُ عَشَرَةٌ يَا سَامِعُ [هَذَا] أي خذ هذا المذكور من أحكام النعت السابقة الذكر أو حكم النعت هذا. حينئذٍ يصح إعرابه مفعولاً به، خذ هذا المذكور، أو خبرًا لمبتدأ محذوف حكم النعت السابق الذكر هذا، أو العكس هذا الذي سبق ذكره حكم النعت، وهذا يسمى عندهم براعة المخلص، لأن الغرض من الجملة التخلص، أي الانتقال من حال إلى حال، ومن كلام إلى كلام، إن كان بينهما مناسبة. فيسمى براعة المخلص، وإن لم يكن بينهما مناسبة فيسمى الاقتضاب، وهنا فيه مناسبة لأنه انتقل من بيان فرد من أفراد التابع إلى بيان تابع آخر. فانتقل من فرد إلى فرد آخر؛ لأن النعت وعطف النسق فردان للتابع، والتابع جنس، حينئذٍ لما انتقل من فرد من أفراد الجنس وهو

النعت إلى بيان عطف النسق نقول: بينهما مناسبة. وقوله: [هَذَا] جملة وليس بمفرد؛ لأنك إما أن تقدره مفعولاً به لفعل محذوف أي خذ هذا، أو خبراً لمبتدأ محذوف أي حكم النعت هذا، أو مبتدأً لخبر محذوف. إذاً صار جملة الغرض منها التخلص. [وَإِنَّ العَطْفَ أَيْضًا تَابِعُ] الواو حرف استئناف، إذاً بدأ كلاماً جديداً. [وَإِنَّ العَطْفَ] إن: يقال فيها ما قيل في إن الكلام وإن السكون، فالكلام هنا لا يناسبه التوكيد، [أَيْضًا] مفعول مطلق، وهو مصدر لآض يئيض أيضاً بمعنى رجعنا رجوعاً لبيان التوابع، وهو حكم عطف النسق، فأيضاً دائماً تكون منصوبة، ونصبها يكون على أنها مفعول مطلق، والعامل فيه محذوف واجب الحذف تقديره آض، [وَإِنَّ العَطْفَ أَيْضًا تَابِعُ] العطف اسم إن، وتابع خبرها، يعني من التوابع، إذاً حَكَمَ عليه بأنه من التوابع، ولكن ليس فيه فائدة جديدة، وإنما ذكره توطئة لما بعده. [حُرُوفُهُ عَشَرَةٌ يَا سَامِعُ] حروفه أي حروف التابع أو حروف العطف عشرة، لما قال: حروفه علمنا أن المراد بقوله: إن العطف عطف النسق؛ لأن الذي له حروف هو عطف النسق، فالضمير في حروفه يعود على العطف، أي حروف العطف، فصار قيداً لقوله العطف؛ فالمراد به عطف النسق. [حُرُوفُهُ عَشَرَةٌ] حروفه مبتدأ، وعشرة خبره، وعشرة بعدِّ إما بكسر الهمزة، لأنها من حروف العطف عند الناظم، والأصحُّ إسقاطها، فحينئذٍ تكون تسعة، [حُرُوفُهُ عَشَرَةٌ] أو تسعة بإسقاط إما؛ لأن إما الأصح أنها ليست حرف عطف، والعاطف هو الواو التي قبلها، فنقول: الواو هي

حرف العطف بدليل أنه لا توجد إما التي يقال فيها: إنها حرف عطف إلا وسبقتها الواو فهي ملازمة لها، وحرف العطف لا يدخل على حرف عطف مثله، فلما دخلت الواو على إما ولازمتها في كل تركيب علمنا أنها ليست حرف عطف. نحو قوله تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) [محمد:4] قالوا: إما هذه حرف عطف. ونقول: لا، بل الصواب أن الواو هي حرف العطف، وإما هذه للتفصيل. [يَا سَامِعُ] يا حرف نداء، وسامع منادى والمراد به تكميل البيت. وحروف العطف عنده عشرة، وهذه تنقسم إلى قسمين: الأول: ما يُشرِّكُ في اللفظ والمعنى وهو ستة على ما ذكره المصنف. والثاني: ما يُشرِّكُ في اللفظ فقط، وهي ثلاثة (بل، ولا، ولكن). وما يشرك في اللفظ المراد به: ما يشرك في الإعراب، والمعنى أي في الحكم، فيكون حكم التابع حكم متبوعه فإن كان المعطوف عليه مرفوعاً كان المعطوف مرفوعاً، وإن كان منصوباً كان منصوباً، وإن كان مجروراً فهو مجرور، وإن كان مجزوماً فهو مجزوم؛ لأن العطف كما سيأتي يدخل في الأفعال أيضًا. إذاً ما يشرك في اللفظ أي الإعراب والمعنى وهو ستة، وما يشرك في اللفظ فقط دون المعنى وهي ثلاثة. الوَاوُ وَالفَا ثُمَّ أَوْ إِمَّا وَبَلْ ... لَكِنْ وَحَتَّى لاَ وَأَمْ فَاجْهَدْ تَنَلْ [الوَاوُ] بدل مفصل من مجمل من قوله عشرة، فالواو بدل من عشرة، وبدل المرفوع مرفوع، ويصح أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره أولها الواو، أو يكون مبتدأ خبره محذوف أي منها

الواو. [الوَاوُ] أي مسمى الواو، لأن مسمى الواو هو الذي يكون حرف عطف وليس لفظ الواو، فالواو اسم ليس بحرف بدليل دخول أل عليه، والتنوين تقول: هذه واوٌ بالتنوين، وإنما مسماه هو الحرف، [الوَاوُ] وهي لمطلق الجمع من غير ترتيب ولا تعقيب ولا معية، فلا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً ولا معية، وهذا مرادهم بمطلق الجمع، نقول: جاء زيد وعمرو، جاء فعل ماض، وزيد فاعل مرفوع، والواو حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وعمرو معطوف على زيد وللمعطوف حكم المعطوف عليه، تبعه في الرفع، لأن العطف هنا عطف نسق حينئذٍ يكون تابعاً، والواو من القِسم الأول الذي يشرك في اللفظ أي في الحكم والمعنى، إذًا ثَمَّ اشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم وهو الرفع، والمعنى وهو إثبات المجيء، فثبت المجيء لزيد كما أنه ثبت المجيء لعمرو، فحينئذٍ جاء زيد وعمرو، وعمرو هذا معطوف على زيد شاركه في الإعراب وهو الرفع، وشاركه في المعنى وهو إثبات المجيء، جاء زيد وعمرو معناه أنهما اشتركا في المجيء، والذي دلنا على اشتراكهما في المجيء هو الواو، إذاً الواو للتشريك دلت على مشاركة عمرو لزيد في إحداث الفعل، ثم يحتمل الكلام بعد ذلك ثلاث احتمالات: جاء زيد وعمرو يحتمل أنهما جاءا معاً، ويحتمل أن زيدًا جاء قبل عمرو، ويحتمل العكس أن عمراً جاء قبل زيد، هذه ثلاث احتمالات على السواء، وإذا وجد مرجح من خارج اللفظ اتُّبع وإلا بقي على الأصل، فإذا سمعت: جاء زيد وعمرو يحتمل أن

زيداً وعمراً جاءا معاً في وقت واحد، ويحتمل أن زيداً قبل عمرو، أو عمراً قبل زيد، ولا ترجيح لأحد الاحتمالات على الآخر، لأن الواو تفيد مطلق الجمع وهو كون زيد مع عمرو فقط اجتمعا في إيجاد الفعل، لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً ولا تنصيصاً على المعية، وإنما تفيد اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه في اللفظ والمعنى. قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [البقرة:127] الواو هنا تدل على المعية، لكنها بدليل خارجي. وقال تعالى: ((إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ 000)) [الزلزلة] هذه الواو تدل على الترتيب ولكن بدليل خارجي. وقال تعالى: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا)) [الجاثية:24] هؤلاء منكرو البعث وهم الدهرية، حينئذٍ نموت ونحيا، أي نحيا ونموت، لأنهم منكرون للبعث حينئذٍ هذه الواو لا تدل على الترتيب بل تدل على أن ما بعدها سابق على ما قبلها يعني عكس الترتيب، ولو كانت للترتيب لكانت اعترافاً بالحياة بعد الموت. والحاصل أن الواو لمطلق الجمع فلا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً ولا معية وإن دلت على الترتيب أو التعقيب فمن دليل خارجي، وأما لذات الواو فلا، ولذلك قال بعضهم: تعطف اللاحق على السابق، وتعطف السابق على اللاحق، وتعطف المصاحب على مصاحبه، وكل منها قد يقع. قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ)

[الحديد:26] عطفت اللاحق على السابق. وقال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) (الزمر: من الآية65) عطفت السابق على اللاحق، وتعطف المصاحب على مصاحبه، وقال: (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت:15] يعني معه، عطفت المصاحب على مصاحبه فصارت حينئذٍ للمعية. [وَالفَا] أي والفاء أي مسمى الفاء، وهي للترتيب والتعقيب، تقول: جاء زيد فعمرو، فتفيد الترتيب، ومعنى الترتيب أن مجيء عمرو وقع وحصل بعد مجيء زيد، إذاً ليست كالواو، وتدل على التعقيب بمعنى أن مجيء عمرو وقع مباشرة بعد مجيء زيد بلا مهلة ولا تراخي، أي بلا مدة زمنية بل مباشرة، جاء زيد فعمرو، تلاه عمرو دون فاصل زمني، إذاً نقول: الفاء للترتيب والتعقيب، والمراد بالتعقيب: وقوع المعطوف على المعطوف عليه بلا مهلة، والمراد بالمهلة المدة الزمنية، بأن يكون ثَمَّ فاصل بين المعطوف والمعطوف عليه في الزمن، فإذا قيل: للتعقيب دل على وقوع المعطوف على المعطوف عليه بلا مهلة بلا فاصل زمني، جاء زيد فعمرو، فمعناه أن مجيء عمرو وقع بعد مجيء زيد من غير مهلة، وتفيد التشريك في الحكم، وهذا حكم عام في جميع الحروف، قد لا نحتاج إلى التنصيص عليه في كل حرف.

فكل حرف من حروف العطف يفيد التشريك في اللفظ يعني في الحكم، فما بعدها يتبع ما قبلها في الإعراب، إن كان مرفوعاً فمرفوع ... إلخ، وتعقيب كل شيء بحسبه، جاء زيد فعمرو، المجيء هنا يقع بعد المجيء ولا إشكال فيه، لكن لو قال مثلاً: دخلت البصرة فبغداد فمصر فالجزائر فالمغرب، تقول: الفاءات هذه للتعقيب، لكن إذا قال: دخلت البصرة فبغداد ثَمَّ فترة ومهلة زمنية بين دخول البصرة وبغداد ولا بد من هذا، وإلا كيف ينتقل مباشرة؟ دخل البصرة فبغداد بلا مهلة زمنية، نقول: هذا لا يمكن، إذاً لا بد من مهلة زمنية فكل تعقيب بحسبه فإن كان يقتضي زمناً فحينئذٍ يصير هذا الزمن مستثنى، ويكون التعقيب على أصله فإن زاد على ذلك انتفى التعقيب، يعني لو كانت الفترة الزمنية في الانتقال من البصرة إلى بغداد ثلاثة أيام فإذا دخل البصرة فبغداد في زمن ثلاثة أيام حصل التعقيب لكن لو جلس عشرة أيام نقول: لا يصح التركيب، وإنما يقول: دخلت البصرة ثم بغداد، لوجود المهلة، فإن كان زمن لا بد منه في الانتقال من المعطوف عليه إلى المعطوف ولا يصح ولا يحصل إلا بهذا الزمن نقول: هذا يستثنى، والمثال المشهور تزوج زيد فولد له، الفاء هذه للتعقيب، تزوج عقد النكاح فولد له، لا بد من مهلة، إذاً تعقيب كل شيء بحسبه. [ثُمَّ] أي وثم على حذف حرف العطف، وثُم بضم الثاء وهي تفيد الترتيب والتراخي، تقول: جاء زيد ثم عمرو، مجيء عمرو وقع بعد مجيء زيد، ولكن بمهلة وزمن، إذاً بين مجيء زيد ومجيء عمرو مهلة زمنية.

[أَوْ] أي وأو من حروف العطف، وهي تكون لأحد الشيئين أو الأشياء، إما أن يخير بين شيئين أو أشياء، تقول: جاء زيد أو عمرو أو خالد، إذاً وقع التخيير بين أشياء، وهذه الأشياء لا نهاية لها، ولها أربعة معان: التخيير، والإباحة، والشك، والتشكيك، فأما التخيير والإباحة إذا وقعت أو بعد طلب، وهذا يشمل الأمر والنهي وكل ما يدل على الطلب، فالتخيير نحو: تزوج هنداً أو أختها، تزوج فعل أمر، وهنداً مفعول به، وأو حرف عطف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وأختها معطوف على هند، والمعطوف على المنصوب منصوب، إذاً شركته في الحكم، ووقعت أو هنا بعد أمر، فتقول حينئذٍ أو للتخيير لأنه لا يجوز الجمع بين هند وأختها، فلو كانت للإباحة لجاز الجمع نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين، وادرس النحو أو الفقه، هذا مثال الإباحة. فإذا جاز الجمع بينهما وأمكن الجمع وليس ثَمَّ مانع عقلاً ولا شرعاً قالوا: هذه للإباحة، فيجوز الجمع بين مجالسة الحسن وابن سيرين، كما يجوز الجمع بين دراسة النحو والفقه، فتقول: أو وقعت هنا بعد طلب وهو الأمر فحينئذٍ نقول: هذه تدل على الإباحة لأنه يمكن الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، وأما تزوج هنداً أو أختها فلا يمكن الجمع بينهما، والحاصل: أن أو للتخيير إذا وقعت بعد طلب ولم يمكن الجمع، وللإباحة إذا وقعت بعد طلب وأمكن الجمع.

والشك والتشكيك: وهذا إذا وقعت أو بعد الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته، نحو: جاء زيد أو عمرو، ولا تدري من الذي جاء عند جارك، فتقول: جاء زيد أو عمرو، شككت أنت في واحد منهما، فقلت: جاء زيد أو عمرو، فالشك من عندك أنت مع عدم العلم، والتشكيك مع العلم بأن واحداً منهما قد جاء وتعرفه فتقول: جاء زيد أو عمرو، لا تريد أن تبين له من الذي جاء، تريد الإبهام والتشكيك، أن تشككه في الخبر، فحينئذٍ أنت تعلم أن الذي جاء زيد ولكنك أبهمت على المخاطب فتقول: جاء زيد أو عمرو. إذاً نقول: أو يعطف بها أحد الشيئين أو تقع بين شيئين، أو بين أشياء، وتدل على الإباحة أو التخيير أو الشك أو التشكيك، الإباحة أو التخيير إذا وقعت بعد طلب، والفرق بينهما أن الإباحة يجوز الجمع بينهما، والتخيير لا يجوز الجمع بينهما، والمانع قد يكون عقلياً وقد يكون شرعياً. وأما الشك والتشكيك فإذا وقعت بعد الخبر وهو ما ليس بطلب، وهو ما احتمل الصدق والكذب لذاته، فحينئذٍ تفيد الشك إذا كان المتكلم غير عالم بمدلول الخبر، وتفيد التشكيك إذا كان المتكلم عالماً بمدلول الخبر. [إِمَّا] أي وإما، فهذه كلها معطوفات بحرف عطف مقدر، لكنهم قد يحذفون حرف العطف في الشعر وهذا جائز اتفاقاً، مختلف فيه في النثر. [إِمَّا] والصحيح أنها ليست بحرف عطف، والعاطف هو الواو الملازمة لها. كقوله تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا

فِدَاءً) [محمد:4] وإما الواو هي التي عطفت وليست إما، بدليل لو كانت إما حرف عطف، فالواو باتفاق أنها حرف عطف، وهي أم حروف العطف، فحينئذٍ لصح دخول حرف العطف على حرف العطف، وهو ممتنع لا يجوز دخول حرف عطف على عطف، بل يدخل على اسم أو جملة. لذلك قال الجرجاني: عدُّها في حروف العطف سهو ظاهر. [وَبَلْ لَكِنْ .. لاَ] هذه ثلاثة أحرف يُجمع بينها في الذكر، لأن بينها اجتماعاً وافتراقاً، تتفرق في أشياء وتجتمع في أشياء، إذاً بينها اجتماع واشتراك، وبينها افتراق أيضاً، فأما اشتراكها كلها فمن وجهين: أولاً: كونها عاطفة، فكلها تعطف ما بعدها على ما قبلها، فيكون آخذاً حكم ما قبلها؛ لأن ما بعدها يكون معطوفاً وما قبلها معطوفاً عليه، فحينئذٍ أخذ حكمه وشركته في اللفظ، وهذه هي التي تشرك في اللفظ فقط دون المعنى، وقد ذكرنا أن حروف العطف قسمان، ما يُشرِّك في اللفظ والمعنى وهذه ستة أو خمسة، ومنها ما يشرك في اللفظ فقط في الإعراب، أما المعنى فلا، وهذه ثلاثة: بل، ولا، ولكن، فهي عاطفة. ثانياً: تفيد رد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب. تقول: ما جاء زيد لكن عمرو، إذاً رددت السامع عن الحكم الذي وقع فيه الخطأ إلى الصواب.

وأما افتراقها فمن وجهين: أولاً: أن لا تكون لقصر القلب، وقصر الإفراد، وبل ولكن لقصر القلب فقط. تقول: جاءني زيد لا بكر، ردًّا على من اعتقد أن بكرًا جاء دون زيد، وهذا قصر قلب، أو أنهما جاءاك معًا، وهذا قصر إفراد، وتقول: ما جاءني زيد لكن بكر أو بل بكر، ردًّا على من اعتقد العكس، فهذا قصر قلب فقط، وحقيقة القصر هي إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه. أقول مثلاًً: جاء زيد، فقد يعتقد الشخص مجيء زيد فحينئذٍ هذا الحكم إن كان صواباً فلا إشكال، وإن كان خطأ فحينئذٍ يحتاج إلى تصحيح، فتقول: ما جاء زيد بل عمرو، نفيت المجيء عن زيد، وأثبته لعمرو فحصل قلب، أي قلب الاعتقاد عند السامع من اعتقاد مجيء زيد إلى اعتقاد مجيء عمرو بلا ونحوها، ومثله: ما جاء زيد لكن عمرو. وقصر الإفراد يكون لمن يعتقد مجيئهما معاً، والواقع أن الذي جاء واحد، فحينئذٍ يريد أن يقصر الحكم على واحد منهما دون الآخر بل ينفيه عنه، فيقول: جاء زيد لا عمرو، إذاً حصل تعيين وإفراد، وهذا يسمى قصر الإفراد. ولزيادة الإيضاح أقول: لا حرف عطف، تكون لقصر القلب وقصر الإفراد معاً، وبل ولكن لقصر القلب فقط، أقول: جاءني زيد لا بكر، فلا تفيد قصر الإفراد وقصر القلب، جاءني زيد لا بكر، أنت تعتقد أن الذي جاءني بكر، والأمر ليس كذلك، أريد أن أقلب لك الاعتقاد فأقول لك: جاءني زيد لا بكر الذي اعتقدته أنت. إذاً قلبت اعتقادك، فحينئذٍ جئت بلا لقصر القلب، فقلبت

الاعتقاد من كون الذي جاء بكر إلى زيد، فأقول: جاءني زيد لا بكر. وإذا اعتقدت أن الذي جاءني زيد وعمرو معاً، والواقع ليس كذلك بل واحد منهما، فأقول لك: جاءني زيد لا عمرو، إذاً مثال واحد في (لا) يصلح لقصر القلب وقصر الإفراد، فتقول: جاءني زيد لا بكر، وقد يكون المعنى مراداً به اثنين، شخصين معاً، هذا يعتقد أن الذي جاءني بكر فقط، وهذا يعتقد أن الذي جاءني زيد وبكر، فأقول: جاءني زيد لا بكر، ردًّا على هذا ليكون قصر قلب، وردًّا على الآخر ليكون قصر إفراد. جاءني زيد لا بكر، رد على من اعتقد أن بكراً جاء دون زيد، أو أنهما جاءا معاً، فحينئذٍ الحكم يشمل النوعين. بل ولكن لا تستعملان إلا في قصر القلب فقط، ولا تستعمل في قلب الإفراد؛ تقول: ما جاءني زيد بل بكر أو لكن بكر، ردًّا على من اعتقد العكس. الفرق الثاني: أن (لا) إنما يعطف بها بعد الإثبات فقط، نحو: جاءني زيد لا بكر، وبل يعطف بها بعد الإثبات وبعد النفي، و (لكن) بعد النفي خاصة. إذا عطف ببل بعد الإثبات فحينئذٍ يكون ما قبل بل في حكم المسكوت عنه، لو قلت: جاء زيد بل عمرو، بل هذه للإضراب، والحكم الذي أثبته لزيد وهو المجيء أثبته لعمرو، بل عمرو أي بل الذي جاءني عمرو، وأما زيد فهو مسكوت عنه، لم تثبت له المجيء

ولم تنفه عنه، فحينئذٍ يكون مسكوتاً عنه إذا عطف بها بعد الإثبات، إذاً بل، ولكن، ولا، هذه حروف عطف تفترق وتشترك. [وَحَتَّى] حرف عطف، لكن في بعض المواضع، لا مطلقاً، وهي تأتي للغاية والتدريج، والغاية معناها: آخر الشيء، والتدريج: وقوع ما بعدها شيئاً فشيئاً، يعني أن ما قبلها ينقضي شيئاً فشيئاً، وحينئذٍ يلزم أن يكون ما بعدها يقع شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ الغاية وهو الاسم المعطوف، ولذلك وجب أن يكون المعطوف بها جزءاً من المعطوف عليه، إما تحقيقاً أو تقديراً. فالأول: نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، الرأس جزء من السمكة حقيقة؛ لأنه متصل بها. والثاني: نحو قول الشاعر: أَلْقَى الصَّحِيفَةَ كَي يُخَفِّفَ رَحْلَهُ ... وَالزَّادَ حَتَّى نَعْلَهُ أَلْقَاهَا قوله: حتى نعله معطوف على الصحيفة، إذاً انقضى ما قبلها شيئاً فشيئاً، والنعل ليست جزءًا من الصحيفة، وإنما هي كالجزء، لأن المراد ألقى ما يثقله حتى نعله، فصار النعل كالجزء تقديراً مما يثقله ولا شك أنه داخل فيه. [وَأَمْ] أيضاً حرف عطف، والمراد بها أَمِ التي لطلب التعيين بعد همزة داخلة على أحد المستويين، وهي أم المتصلة، أما المنقطعة فهذه بمنزلة بل، والمتصلة نحو: أزيدٌ عندك أم عمرو؟ أم حرف عطف، والمراد بها طلب التعيين، وقد وقعت بين شيئين، زيد وعمرو، وهناك شيء محقق، وهناك شيء مشكوك فيه، ولا بد أن يكون عندك

واحد منهما، والمشكوك فيه الذي يطلب تعيينه، زيد أو عمرو، وحينئذٍ جيء بأَمْ لطلب التعيين بعد همزة داخلة على أحد المستويين، ولذلك أم قامت مقام الهمزة؛ لأنها عودلت بالهمزة التي دخلت على زيد فحينئذٍ لا يكون الجواب بنعم أو بلا، وإنما يكون بالتعيين، أزيد عندك أم عمرو؟ تقول: زيد، هو طلب التعيين، هو يعلم أن واحداً منهما عندك قطعاً، لذلك قال: عندك، جَزَمَ أن عندك واحدًا، وهل هو زيد أم عمرو؟ هذا هو المشكوك فيه، مع القطع بأن أحدهما عنده، ولكنك شككت في عينه. وتسمى أم هذه معادلة؛ لأنها عادلت الهمزة في الاستفهام بها، وتسمى أيضاً متصلة لعدم الاستغناء بأحدهما عن الآخر. [فَاجْهَدْ تَنَلْ] يعني فاجتهد: وهو بذل الوسع في الوصول إلى المقصود تنل المطلوب؛ لأنه لا بد من جهد وبذل. كَجَاءَ زَيدٌ وَمُحَمَّدٌ وَقَدْ ... سَقَيْتُ عَمْرًا أَوْ سَعِيْدًا مِنْ ثَمَدْ وَقَوْلُ خَالِدٍ وَعَامِرٍ سَدَدْ ... وَمَنْ يَتُبْ وَيَسْتَقِمْ يَلْقَ الرَّشَدْ [كَجَاءَ زَيدٌ وَمُحَمَّدٌ] أي كقولك أو مثل جاء زيد ومحمد، فالكاف حرف أو اسم كما سبق، وهذا مثال للواو، وقد أفادت مطلق الجمع، هذا من حيث المعنى، ومن حيث اللفظ والحكم شركت المعطوف مع المعطوف عليه في الإعراب، وإعراب المثال: جاء فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وزيد فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، والواو حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وهي لمطلق الجمع، تفيد

التشريك في اللفظ وفي المعنى، حينئذٍ ما بعدها يأخذ حكم ما قبلها في الإعراب، فما قبلها مرفوع إذاً يلزم أن يكون ما بعد الواو مرفوعًا كذلك، ومحمد معطوف على زيد، والمعطوف على المرفوع مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، والعامل في زيد الفعل جاء، والعامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه، وهو الفعل جاء، فعمل فيهما معًا، هذا الصحيح من أقوال النحاة، وقيل: الواو، وقيل: العامل الفعل جاء بواسطة الواو. [وَقَدْ سَقَيْتُ عَمْرًا أَوْ سَعِيْدًا مِنْ ثَمَدْ] وقد حرف تحقيق مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وسقيت فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل، وعمراً مفعول به منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، ويُكتب عمرو بالواو في حالتي الرفع والجر، وتحذف في حالة النصب، فهي واو زائدة للفرق بين عُمَر بضم العين وفتح الميم، وعَمْر بفتح العين وإسكان الميم، فحينئذٍ إذا وجدت الواو دل على أنه عمرو بفتح العين وإسكان الميم، وإذا لم توجد فهو عمر بضم العين وفتح الميم، وأما في حالة النصب فالمنون يكون عَمْراً، وعُمر لا ينون لأنه ممنوع من الصرف، فحينئذٍ حصل التفريق بالتنوين، فلا حاجة للواو. أو سعيداً أو حرف عطف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وهنا للشك أو التشكيك، لأنها وقعت بعد الخبر وهو جملة سقيت، وقد

سقيت سعيداً أو عمراً، هذا فيه شك ويحتمل التشكيك، إن كان هو لا يعلم فحينئذٍ يكون شكاً، وإن كان يعلم ولكن أراد أن يُبهم على غيره صار تشكيكاً. إذاً مثال واحد نستطيع أن نمثل به للمعنيين، مِن ثَمَد بفتح الميم وسكونها، والمراد به الماء القليل الذي لا مادة له، ومن حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وثمد اسم مجرور بمن وجره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. وهذا مثال لعطف منصوب على منصوب، وحرف العطف هو أو. [وَقَوْلُ خَالِدٍ وَعَامِرٍ سَدَدْ] قول مبتدأ وهو مضاف، وخالد مضاف إليه، وعامر، الواو حرف عطف، وعامر معطوف على خالد وهو مجرور، والمعطوف على المجرور مجرور وجره كسرة ظاهرة على آخره، وهذا مثال لعطف مجرور على مجرور، إذاً مثل لعطف المرفوع على المرفوع، والمنصوب على المنصوب، والمجرور على المجرور؛ لأن الكلام في التوابع. [وَمَنْ يَتُبْ وَيَسْتَقِمْ يَلْقَ الرَّشَدْ] هذا مثال لعطف المجزوم على المجزوم؛ لأن الفعل يُعطف على الفعل كما أن الاسم يعطف على الاسم، قال ابن مالك: ................. ... وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الفِعْلِ يَصِحْ ومن يتب فمن اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، ويتب فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمن وجزمه السكون، ويتب أصلها يتوْبْ، التقى ساكنان الواو وسكون الباء للجزم، فوجب

حذف الأول لتعذر تحريكه، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على من، ويستقم الواو حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، ويستقم فعل مضارع معطوف على يتب، والمعطوف على المجزوم مجزوم. كذلك لو كان مرفوعاً نحو: يقومُ زيد ويقعدُ، أو منصوبًا نحو: لن يقومَ زيد ويقعدَ، فهذه كلها معطوفات إما في النصب أو الرفع أو الجزم، وهذا مثال لعطف مجزوم على مجزوم، وإنما يكون في الأفعال لا في الأسماء. يلقَ الرشد يلقَ فعل مضارع جواب الشرط مجزوم بمن وجزمه حذف حرف العلة، وهي الألف، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والرشد ضد الغي، من الرشاد والإصابة، مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الروي أو الوقف. إذاً يقوم زيد ويقعد هذا مثال للرفع، وجاء زيد ورَكِبَ هذا مثال للمبني، واضرب زيداً وقم هذا مثال للمبني في فعل الأمر، ومن يتب ويستقم يلق الرشد هذا مثال للمجزوم.

باب التوكيد

بَابُ التَّوكِيدِ هذا هو الباب الثالث من الأبواب التي عناها الناظم رحمه الله في بيان التوابع؛ لأنه لا زال في باب المرفوعات من الأسماء، وإن شئت قلت: الباب الرابع؛ لأننا زدنا باب عطف البيان؛ لأنه لم يذكره كما سبق بيانه. قال: بَابُ التَّوكِيدِ أي هذا باب بيان حقيقة التوكيد، والتوكيد تفعيل، مصدر بمعنى اسم الفاعل، ويقال فيه: التأكيد بالهمز، وبإبدال الهمزة ألفاً على القياس كما في راس وفاس، إذاً فيه ثلاث لغات: توكيد، وتأكيد بالهمز، وتاكيد بتركه كما يقال رأس وراس، وفأس وفاس، وأفصح هذه اللغات هو التوكيد، لذلك ترجم به الناظم، وقلنا: هي أفصح من التأكيد والتاكيد لورودها في القرآن قال تعالى: (َلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) [النحل:91] إذاً جاء لفظ التوكيد في القرآن حينئذٍ يكون أفصح، فإذا كان ثَمَّ عدة لغات وجاء القرآن بلغة واحدة منها حينئذٍ نقول: هذه أفصح من غيرها. والتوكيد لغة: التقوية، ولذلك نقول: هو يأتي بمعنى التقوية والتشديد، وأما في الاصطلاح فالتوكيد قسمان: توكيد لفظي، وتوكيد معنوي. أما التوكيد اللفظي: فهو إعادة اللفظ الأول بعينه، يعني يكرره مرة أخرى، وهذا يكون في الاسم وفي الفعل وفي الحرف، يعني

الذي يعاد ويكرر فيكون توكيداً لفظياً، قد يكون اسمًا كما في قول القائل: أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لاَ أَخًا لَهُ ... كَسَاعٍ إِلَى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاَحِ أخاك أخاك: أخاك الأول مفعول به لفعل محذوف وجوباً تقديره الزم، منصوب على الإغراء. وأخاك الثاني توكيد، إذاً كررها على أنها توكيد لفظي، وحينئذٍ أعاد اللفظ الأول بعينه مرة أخرى، وأخاك اسم، إذاً أعاد الاسم مرة أخرى فصار توكيداً لفظياً. كذلك يكون التوكيد اللفظي في الفعل كما في قول القائل: فَأَينَ إِلَى أَينَ النَّجَاةُ بِبَغْلَتِي ... أَتَاكِ أَتَاكِ اللاَّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ أتاكِ أتى فعل ماض، وفاعله اللاحقون، والكاف ضمير متصل مبني على الكسر في محل نصب مفعول به، هذه الأولى، وأتاك الثانية توكيد لفظي، أعاد اللفظ الأول بعينه، واللفظ الأول الذي أعيد فعل، فحينئذٍ التوكيد اللفظي كما يكون في الأسماء يكون في الأفعال. واحبسِ احبسِ الجملة الأولى وهي احبسِ فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنتِ، واحبسِ الثانية توكيد للجملة السابقة. وأيضاً يكون التوكيد اللفظي في الحرف كما في قول القائل: لاَ لاَ أَبُوحُ بِحُبِّ بَثْنَةَ إِنَّهَا ... أَخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقًا وَعُهُودَا

فلا حرف نفي، ولا الثانية توكيد لفظي. إذاً حقيقة التوكيد اللفظي إعادة اللفظ الأول بعينه، ولا يختص بالأسماء، بل يدخل الأفعال والحروف. تقول: جاء زيد زيد، فأعدت الفاعل مرة ثانية. وضربت زيداً زيداً، أعدت المفعول به مرة ثانية. ومررت بزيد بزيد، أعدت المجرور مرة ثانية. هذا في الأسماء، وهو توكيد لفظي. وتقول: جاء جاء زيد، وقام قام عمرو، أعدت الفعل مرة ثانية، حينئذٍ صار توكيداً بالفعل. ولا لا لست قادماً، ونعم نعم جاء زيد، إذاً لا لا، ونعم نعم توكيد لفظي. أما القسم الثاني وهو الذي ذكره الناظم وهو التوكيد المعنوي، فيكون بألفاظ محصورة، وهو من خواص الأسماء، التوكيد اللفظي عام، والتوكيد المعنوي خاص بالأسماء؛ لأن له ألفاظًا، وهذه الألفاظ محصورة موقوفة على السماع، لا يجوز القياس عليها، وهذه الألفاظ كلها أسماء كما سيأتي بالنفس والعين ونحوها. وَيَتْبَعُ المُؤَكَّدَ التَّوكِيدُ فِي ... رَفْعٍ وَنَصْبٍ ثُمَّ خَفْضٍ فَاعْرِفِ [وَيَتْبَعُ المُؤَكَّدَ] بفتح الكاف اسم مفعول، وهو مفعول به مقدم، و [التَّوكِيدُ] فاعل، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، يعني المؤكِّد بكسر الكاف اسم فاعل يتبع المؤكَّد بفتح الكاف اسم مفعول، لأن الأصل هو المؤكَّد، تقول: جاء زيدٌ نفسُه، فزيد مؤكَّد بفتح الكاف، إذاً هو الأصل، ونفسه مؤكِّد، والمؤكِّد يتبع المؤكَّد [فِي رَفْعٍ] فإن كان المؤكَّد مرفوعاً فالتوكيد مرفوعٌ، نحو: جاء زيدٌ نفسُه،

وإن كان منصوباً فالتوكيد منصوبٌ، نحو: رأيت زيداً نفسَه، وإن كان مجروراً فالتوكيد مجرورٌ، نحو: مررت بزيدٍ نفسِه، إذاً تبعه رفعاً ونصباً وجراً، لأن هذا شأن التوابع أن التابع ومنه التوكيد يتبع المتبوع. [فِي رَفْعٍ] أي في رفعه فالتنوين عوض عن المضاف إليه، لأنه تابع له في رفع أي رفع المؤكد، [وَنَصْبٍ] أي وفي نصبه، والتنوين عوض عن المضاف إليه، فإن كان المؤكد منصوباً كان المؤكِّد منصوباً، [ثُمَّ خَفْضٍ] ثم بمعنى الواو، يعني إن كان المؤكَد مخفوضاً فالتوكيد مخفوضٌ. [فَاعْرِفِ] يعني فاعلم ذلك، تتمة البيت. كَذَاكَ فِي التَّعْرِيفِ فَاقْفُ الأَثَرَا ... وَهَذِهِ أَلفَاظُهُ كَمَا تَرَى [كَذَاكَ فِي التَّعْرِيفِ] أي مثل ذاك في أن التوكيد يتبع المؤكد في الإعراب، كذاك يتبعه في التعريف، يشترط في التوكيد المعنوي أن يكون المؤكَّد معرفة، فلا يتبع التوكيد النكرة، فلا تؤكد النكرة، وإنما الذي يؤكد المعرفة فقط، وهذا على مذهب البصريين؛ لأن ألفاظ التوكيد المعنوي كلها معارف فحينئذٍ يشترط التطابق بين المؤكَد والمؤكِد، فلما كان التوكيد لازماً للتعريف لزم منه أن يكون المؤكَد معرفة؛ لأنك تقول: جاء زيد نفسه عينه، فعينه ونفسه يلزم الإضافة إلى الضمير فحينئذٍ صار معرفة، إذاً هو ملازم للتعريف لا ينفك عنه، فحينئذٍ لا يجوز أن يؤكد به النكرة؛ لأنه لا بد من التطابق، ولذلك قال [كَذَاكَ فِي التَّعْرِيفِ] وسكت ولم يقل والتنكير، لأن ألفاظ التوكيد كلها معارف فلا تتبع النكرة فلا يقال: جاء رجل نفسه، وهذا مذهب البصريين، سواء كانت النكرة محدودة كيوم

وليلة وشهر وحول، أو غير محدودة كوقت وزمن وحين يعني مطلقاً، سواء كانت محدودة أو غير محدودة، وأما مذهب الكوفيين فهو جواز توكيد النكرة المحدودة لحصول الفائدة بذلك، نحو: صمت شهراً كلَّه، وهذا الذي مال إليه ابن مالك ورجحه فقال: وَإِنْ يُفِدْ تَوكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ ... وعَنَ نُحَاةِ البَصْرةِ المَنْعُ شَمِلْ إن أفاد توكيد النكرة وذلك فيما إذا كانت النكرة محدودة كشهر وأسبوع ويوم، وذلك إذا كانت محدودة صح توكيدها عند ابن مالك رحمه الله، لورود السماع وحصول الفائدة، وإن لم تكن محدودة فالمنع مطلقاً عند البصريين وعند الكوفيين، إذاً محل الخلاف بين المذهبين هو توكيد النكرة المحدودة، وأما غير المحدودة فهي محل اتفاق في عدم توكيدها، لعدم حصول الفائدة، وأما إن أفادت وذلك فيما إذا كانت النكرة محدودة جاز. إذاً المؤكِّد يتبع المؤكَّد في إعرابه وفي تعريفه، فهذان أمران لا بد من وجودهما في المؤكدات، [فَاقْفُ الأَثَرَا] الألف للإطلاق، أي فاتبع الأثر، والأثر هو القول المأثور الذي ينقله خلَفٌ عن سلَفٍ، [وَهَذِهِ أَلفَاظُهُ كَمَا تَرَى] المشار إليه كما هو ظاهر العبارة أنه سيأتي، حينئذٍ يكون قد أشار إلى أمر غير موجود تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود، عامله معاملة المحسوس، والأصل في اسم الإشارة كما سبق أنه لا يصح إلا مع إشارة حسية، فإذا لم يكن إشارة فالأصل عدم استعماله، ولكن يتجوز به في المعاني، ولكن ليست كل المعاني، وإنما بعض المعاني التي صار لها نوع حصر ونوع علم وتمكن

في الذهن، حينئذٍ صحت الإشارة إليه، تنزيلاً لهذا المعدوم منزلة المحسوس ما دام أنه معين ومحصور في الذهن فكأنه معين في الخارج، فإذا أشير إليه وهو في الذهن كأنه أشير إليه وهو في الخارج، [كَمَا تَرَى] أي كما تعلم أو تُبصر، يحتمل أنه بالمعينين، ثم التوكيد المعنوي نوعان: الأول: توكيد يكون لرفع احتمال المجاز وإثبات الحقيقة. والثاني: توكيد يكون لرفع توهم الخصوص بما ظاهره العموم. لذلك يعبر ابن عقيل في هذه فيقول في الأول: لرفع توهم عدم الإضافة، وفي الثاني: لرفع توهم عدم إرادة الشمول. النَّفْسُ وَالعَيْنُ وَكُلٌّ أَجْمَعُ ... وَمَا لِأَجْمَعَ لَدَيْهِمْ يَتْبَعُ [النَّفْسُ] بإسكان الفاء، وهي هنا بمعنى الذات، [وَالعَيْنُ] وإطلاق العين هنا مراد به الذات، وهذا إطلاق مجازي علاقته الجزئية والكلية، لأن أصل العين هي العين الباصرة، أطلقت وأريد بها الذات كلها، كما قيل في الرقبة: اعتق رقبة، والرقبة المراد بها الرقبة المعروفة، أطلقت وأريد بها الذات كلها، إذاً يكون من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل وهذا يسمى مجازاً مرسلاً علاقته الجزئية والكلية، والنفْس والعين معناهما واحد، فمعنى العين هو معنى النفْس، ومعنى النفْس هو معنى العين، وهو الذات، إلا أن إطلاق النفْس على الذات إطلاق حقيقي، وإطلاق العين على الذات إطلاق مجازي؛ [النَّفْسُ وَالعَيْنُ] هذه من ألفاظ التوكيد التي جيء

بها لرفع المجاز عن الذات وإثبات الحقيقة، أو إن شئت عبر برفع توهم عدم الإضافة، يعني بأن يكون المؤكَد بفتح الكاف غير مضاف. تقول: جاء الأمير، فهذا يحتمل أن الأمير جاء بذاته، ويحتمل أنه لم يأت بذاته وإنما تُجوِّز فيه، والأصل جاء كتاب الأمير، أو خبر الأمير، فحينئذٍ تجوز بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فإذا قيل: جاء الأمير يحتمل أنه جاء بذاته، ويحتمل أنه جاء خبره، ويحتمل أنه جاء كتابه، فإذا قلت: جاء الأمير صار محتملاً للمجاز؛ لأن من صيغ المجاز عندهم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مُقامه، فإذا أردت رفع وتضعيف هذا الاحتمال وأن المراد به ذات الأمير، تقول: جاء الأمير نفسه؛ فحينئذٍ رفعت الاحتمال، وأن المراد به جاء الأمير بذاته بنفسه، وعلمنا أن المراد هنا الذات بالتوكيد، لولا هذا التوكيد لصار الكلام محتملاً، محتملاً لأي شيء؟ لأن يكون المراد به الأمير بذاته أو بخبره أو بكتابه، فلما أردت تعيين الذات قلت: جاء الأمير نفسه، أو جاء الأمير عينه، أو جاء الأمير نفسه عينه، تجمع بينهما، يصح إفراد النفس عن العين، وإفراد العين عن النفس، لكن هذا الاحتمال الذي يذكره النحاة ليس متعيناً، بل الأصل حمل الأفعال على فاعليها، هذا هو الأصل، ولو حصل تجوز فحينئذٍ بما يجوز أن يتجوز به، وليس على إطلاقه، لأنهم إذا أطلقوا في هذا المقام، أوَّلُ ما يمثل به عندهم قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) [الفجر:22]، قالوا: هذا محتمل أنه جاء بذاته - عز وجل -، أو جاء أمره، أو جاء مَلَكُه، إذاً يحتمل أنه بذاته، ويحتمل أنه بغير ذاته، فإذا قالوا:

(وَجَاءَ رَبُّكَ)، أي جاء أمر ربك، نقول: هذا التأويل فاسد، لأن الأصل في إطلاق الأفعال التي هي أوصاف في المعنى لفاعليها الحقيقة، وإذا حصل نوع تجوز فإنما يكون فيما يصح التجوز فيه، وأما هذه الألفاظ نفسه وعينه في مقام لا يصح فيه التجوز، لا نقول به، وهذا من باب المغالطات؛ لأنه يمثلون بهذه الآية: (وَجَاءَ رَبُّكَ) أي جاء أمر ربك، لأنها مثل: جاء الأمير، فإذا سلَّمت بأنَّ جاء الأمير محتمل للمجاز فحينئذٍ اللغة واحدة، فمثله وجاء ربك محتمل للمجاز، نقول: لا، وَجَاءَ رَبُّكَ قام الدليل الشرعي على أنه لا احتمال، فحينئذٍ إذا قيل: جاء الأمير، يحتمل هذا فيما بيننا نحن البشر، والناس يتجوزون في مثل هذا، وأما إذا جاء تطبيقه فيما لا يصح تنزيل هذه القواعد، والاحتمالات عليها كنصوص الشرع، نقول: لا، قف (وَجَاءَ رَبُّكَ) لا يحتمل إلا مجيئه بذاته - عز وجل - ثم ننفي المشابهة أو إدراك تلك الحقيقة، إذاً النفس والعين هذان لفظان مؤكِدان، والتوكيد بهما معنوي، والفائدة رفع المجاز عن الذات فيما يقبل المجاز، وأما ما لا يقبل المجاز كقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ) فحينئذٍ لا يصح اعتماد هذه القاعدة في ذاك، أو إن شئت قل: ما يرفع توهم مضاف إلى المؤكد، (جاء الأمير) يحتمل أن ثَم مضافاً محذوفاً، وهو جاء خطاب الأمير، أو رسول الأمير. إذاً عرفنا أنه يؤكَد بالنفس والعين، وإذا أُكد بهما فلا بد من اتصالهما بضمير يعود على المؤكَد، وهذا هو السر في كونهما معرفة، وأنه لا يجوز أن يؤكد بهما النكرة؛ لأنها معارف، وهذا الضمير

باعتبار المؤكَد، قد يكون مفرداً وقد يكون مثنى وقد يكون مجموعاً، يعني يطابق المؤكَد، إن أكدت بالنفس والعين المفرد جئت بالضمير مفرداً، وإن أكدت به المثنى صح في لغة العرب أن يؤتى به مثنى وهو الأصل، وإذا أكدت به الجمع جئت بالضمير جمعاً، ولكن يقال: إذا أكد المفرد فجيء بلفظ النفس والعين مفردين، تقول: جاء زيد نفسه، وجاء الأمير عينه، وجاء خالد نفسه عينه، نفسه أعاد الضمير على زيد، وزيد مفرد، حينئذٍ طابقه في الإفراد، لكن إذا أكد بالنفس والعين المثنى والجمع فالأفصح في لغة العرب أن يؤتى بالنفس والعين مجموعتين على وزن (أَفْعُل) مضافتين إلى ضمير يطابق المؤكَد، فإذا أردت أن تؤكد المثنى فالأفصح أن تأتي بالنفس والعين مجموعة على وزن (أَفْعُل) فتقول: أنفس وأعين، وتضيفها إلى ضمير المثنى ليطابق الضمير المؤكَد فتقول: جاء الزيدان أنفُسهما أعيُنهما، هذا هو الأفصح، وسُمع نفسهما، وسمع أيضًا نفساهما، إلا أن الأول أفصح، وكذلك إذا أردت أن تؤكد الجمع، فالأفصح أن تأتي بالنفس والعين مجموعة على وزن (أَفْعُل) مضافتين إلى ضمير جمع يطابق المؤكَد، فتقول: جاء الزيدون أنفُسهم أعيُنهم، وجاءت الهندات أنفُسهن أعيُنهن. إذاً نقول: القاعدة: أنه إذا أكد بالنفس والعين وجب إضافتها إلى ضمير يعود على المؤكَد مطابقا له، فإن كان المؤكَد مفرداً كان الضمير مفرداً، وإن كان مثنى كان الضمير مثنى، وإن كان جمعا كان الضمير جمعا، ثم ننظر في لفظ النفس والعين، إن كان المؤكَد مفردا حينئذٍ لا بد من المطابقة نحو: جاء زيد

نفسه عينه، وإن كان المؤكَد مثنى فالأفصح أن يؤتى بالنفس والعين مجموعتين، لا تأتي بهما مثنى، تقول: نفساهما أو نفسهما، هذا مسموع لكنه غير فصيح، وإنما تأتي بالنفس جمعاً على وزن أَفْعُل أنفس، تأتي بالعين جمعاً على وزن أَفْعُل أعين، ثم تضيفها إلى ضمير يطابق المؤكد فتقول: جاء الزيدان أنفسهما أعينهما، وإذا كان المؤكد مجموعاً فتقول: جاء الزيدون أنفسهم، وجاءت الهندات أنفسهن، إذاً هذا إذا أكد بالنفس والعين، لكن إذا جمع بينهما قالوا: لا يصح أن نقدم العين على النفس، بل يجب تقديم النفس على العين، فتقول: جاء زيد نفسه، وجاء زيد عينه، وجاء زيد نفسه عينه، جمعت بينهما، وقدمت النفس على العين، ولا يصح أن يقال: جاء زيد عينه نفسه؛ لأنه من باب تقديم الجزء على الكل، وهذا خلاف الأولى. ثم قال: [وَكُلٌّ أَجْمَعُ] هذه كما ذكرنا يؤكد بهما للإحاطة والشمول، يعني للدلالة على العموم على أن اللفظ مراد به العموم، وأن احتمال الخصوص مرتفع بلفظ كل، تقول: جاء القوم، فيحتمل أن المراد كل القوم، أي كل ما يصدق عليه لفظ القوم، ويحتمل أن المراد بعض القوم فحينئذٍ يكون من باب إطلاق الكل مراداً به الجزء فيكون مجازًا، فإذا قلت: جاء القوم كلهم فحينئذٍ ارتفعت إرادة الخصوص، وتعين الشمول، ومنه قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ) [الحجر:30]، إذاً كل وأجمع في الأصل أنه يؤتى بهما للدلالة على الإحاطة والشمول، أي العموم، وإن شئت قل: لرفع توهم إرادة الخصوص بلفظ العموم،

تقول: جاء القوم فيحتمل مجيء جميعهم، أو مجيء بعضهم، فيكون من باب التجوز بإطلاق الكل على البعض، فإذا قلت: جاء القوم كلهم، ارتفع الاحتمال، وبعضهم يقول: ضعف الاحتمال، وهذا ينبني عليه خلاف، إذا قيل: ارتفع الاحتمال فحينئذٍ لا يصح أن يؤتى بمؤكد آخر، فإذا قلت: فسجد الملائكة كلهم، إذاً رفعت احتمال إرادة الخصوص بلفظ الملائكة، إذاً تأكدنا أن المراد بلفظ الملائكة العموم، فقوله بعد ذلك: أجمعون إذاً جاء مؤكد آخر ولأي شيء جيء به؟! جاء زيد نفسه عينه، إذا قيل: نفسه رفعت الاحتمال مطلقاً، ولم تضعف الاحتمال، فعينه لماذا جيء بها؟! وإنما يقال: المؤكد الأول أضعف الاحتمال، وإذا جيء بالمؤكد الآخر ارتفع الاحتمال ليكون للمؤكد الثاني عمل كالأول، لأنه جيء به فأثر في المعنى، والثاني إذا قيل الأول رفع الاحتمال بالكلية، ما وظيفته؟ وماذا عمل؟ لا بد أن يكون له أثر لأننا نقول: هو مؤكد جيء بنفسه وعينه كل منهما مؤكد لكن بعضهم يرى أن التعبير الصحيح الدقيق في نحو: جاء زيد نفسه عينه، أنَّ نفسه أضعفت احتمال عدم إرادة الذات، وعينه أكدت، وإذا لم يؤت بالعين فحينئذٍ لا بأس أن يقال: رفعت الاحتمال باللفظ الأول. وشروط التوكيد بلفظ كل ثلاثة: الأول: أن يكون المؤكَد بها مفرداً أو جمعاً، وأما المثنى فلا يؤكد بكل.

الثاني: أن يكون المؤكَد متجزأ بذاته أو بعامله، فالمؤكَّد وهو اللفظ الذي جيء بالتأكيد بلفظ كل من أجله يشترط فيه أن يكون متجزأ بذاته، يعني يقبل التفرقة، فالملائكة جمع ملَك، وكل ملك مستقل بذاته عن الآخر، إذاً متجزأ بذاته، والقوم يشمل زيد وعمرو وخالد وفاطمة وعائشة وغيرهم، إذاً متجزأ بذاته، أوبعامله كقولك: اشتريت العبد، فالعبد لا يتجزأ بذاته، وإنما بالنظر إلى عامله وهو الشراء يتجزأ، ولذلك عندنا المبعض، يعني الذي بعضه حر وبعضه على أصله في الرق، إذاً هو بِيع واشتُري في جزءٍ وبقي الجزء الآخر، فقولك: اشتريت العبد نقول: العبد هذا متجزأ لكنه بالنظر إلى عامله وهو الشراء، لا بالنظر إلى ذاته، وأما ما لا يتجزأ بذاته ولا بعامله فلا يصح توكيده فلا يقال: جاء زيد كله، أما فسجد الملائكة كلهم، فالملائكة جمع، وقد وجد الشرط، ليس بمثنى وأيضاً يتجزأ بذاته، كذلك جاء القوم كلهم، أو متجزأ بعامله، كاشتريت العبد كله، فلفظ كل توكيد للعبد، أكد وإن كان العبد بذاته لا يتجزأ ولا يتبعض، ولكن بالنظر إلى عامله. الثالث: أن يتصل بها ضمير عائد على المؤكَد مطابق له، إن كان مفرداً فمفرد، وإن كان جمعاً فجمع، نحو: اشتريت العبد كله فالضمير مفرد، وقال تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر:30]، فالضمير جمع، إذاً لا بد من المطابقة. [أَجْمَعُ] أي وأجمع على حذف حرف العطف، وهي مثل كل في المعنى، ولذلك الأكثر أنها تأتي تابعة لكل، يعني في الغالب أنها لا

تستقل، وقد يؤكد بها دون كل، وأجمع في المفرد المذكر، وجمعاء في المفرد المؤنث، وجمعهما وهو أجمعون وجُمع، ولا يثنيان فيقال: جمعاوان، لعدم السماع، وجوز بعضهم ذلك، والأصح لا، لعدم السماع، لأن هذه ألفاظ منقولة، والتوكيد المعنوي هو الحاصل بألفاظ معلومة محصورة، والأصل السماع، فحينئذٍ إذا ورد لفظ يؤكَد به منقولا، لا يزاد عليه، ولا يقاس على ما سمع أجمع وجمعاء وأجمعون وجمع، ولم يسمع جمعاوان، وقاسه بعضهم، والأصل عدم القياس، وهذا اختيار ابن هشام رحمه الله تعالى. يؤكد بها غالباً بعد كل فلذلك استغنت عن الضمير، ومنه قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر:30] لم تضف إلى الضمير لأنه لا يشترط فيها إضافتها إلى الضمير، لأنها في الغالب لا تأتي إلا بعد كل، وكل من شروط التوكيد بها أن تكون متصلة بضمير، فلذلك استغني عن الضمير هنا، تقول: اشتريت العبد كله أجمعَ، والأَمَة كلها جمعاءَ، والعبيد كلهم أجمعين، والإماء كلهم جُمَعَ. إذاً يؤكد بأجمع بعد كل، هذا هو الغالب، ويؤكد بأجمع وأجمعين وجمع دون كل ولكنه ليس بغالب، ولذلك جاء في القرآن: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر:39] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر:43] جاء دون كل هنا، إذاً يصح التوكيد بها دون كل. [وَمَا لِأَجْمَعَ لَدَيْهِمْ يَتْبَعُ] أي والذي، يتبع الجملة صلة الموصول، ولأجمع جار ومجرور متعلق بقوله يتبع، لديهم أي لدى

العرب، ولدى بمعنى عند أي في حكمهم، توابع أجمع هذه لا يؤكد بها إلا بعد التأكيد بأجمع يعني على التسلسل أولاً كل ثم أجمع، ثم هناك توابع لأجمع لذلك قالوا: لا يجوز تقديمها عليها وهي ثلاثة: أبتع، وأكتع، وأبصع، وأكتع مأخوذ من تكتع الجلد إذا اجتمع، وأبتع مأخوذ من البَتْع من قولهم: فلان ذو بتع، أي عنقه طويل، وأبصع وقيل أبضع بالضاد، والمشهور الأول، مأخوذ من البصع وهو اجتماع العرق، هذه الثلاث لا يؤكد بها إلا بعد أجمع، ولا يجوز تقديمها عليها؛ لأنها تابعة لها. كَجَاءَ زَيدٌ نَفْسُهُ يَصُولُ ... وَإِنَّ قَوْمِي كُلَّهُمْ عُدُولُ وَمَرَّ ذَا بِالقَوْمِ أَجْمَعِينَا ... فَاحْفَظْ مِثَالاً حَسَنًا مُبِينَا [كَجَاءَ زَيدٌ نَفْسُهُ يَصُولُ] الكاف بمعنى مثل أي مثل جاء زيد، أو تكون على بابها حرف جر ويكون مدخولها محذوفاً كقولك: جاء زيد نفسه، جاء فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وزيد فاعل مرفوع بجاء ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، ونفسه توكيد لزيد والمؤكِد يتبع المؤكَد، تبعه في الرفع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، نفس مضاف، والضمير مضاف إليه مبني على الضم في محل جر مضاف إليه، ويصول مضارع من صال يصول، إذا وثب، يصول: جملة فعلية متممة تعتبر حالا من زيد. [وَإِنَّ قَوْمِي كُلَّهُمْ عُدُولُ] إن حرف توكيد ونصب مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وقومي اسم إن منصوب بها ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة

المناسبة، وقوم مضاف، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه، وكلهم توكيد، وتوكيد المنصوب منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، وكل مضاف والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل جر مضاف إليه، والميم للجمع حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، وعدول جمع عدل، وهو خبر إنَّ. إذاً جاء زيد نفسه، هذا مثال للتوكيد بالنفس وهو مرفوع. وإن قومي كلهم، هذا مثال للتوكيد بكل وهو منصوب تبعه في النصب. [وَمَرَّ ذَا بِالقَوْمِ أَجْمَعِينَا] مر فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وذا اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع فاعل، وبالقوم جار ومجرور متعلق بقوله مر، أجمعينا الألف للإطلاق، وأجمعين توكيد للقوم، وتوكيد المجرور مجرور وجره الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بالجمع المذكر السالم. [فَاحْفَظْ مِثَالاً حَسَنًا مُبِينَا] فاحفظ، والحفظ بقاء صورة المحفوظ في الذهن، والفاء هذه فصيحة، وتحتمل العطف، وتحتمل أنها زائدة، ومثالاً مفعول به، حسناً صفة لمثالاً، مبيناً، أي موضحاً، احفظ مثالاً، أي هذا ما ذكر لك في الأمثلة فقس عليها. والحاصل أنَّ التوكيد نوعان: توكيد لفظي وتوكيد معنوي؛ التوكيد اللفظي هو إعادة اللفظ الأول بعينه ويقع في الأسماء والأفعال والحروف، التوكيد المعنوي هذا خاص بالأسماء، ويكون بألفاظ محصورة معدودة لا يقاس عليها، ولا يؤكد بها مطلقاً، وإنما بشروط وقد ذكرناها.

باب البدل

بَابُ البَدَلِ هذا هو الباب الأخير من التوابع. والبدل لغة: العِوض ومنه قوله تعالى: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا) [القلم:32] أي يعوضنا خيراً منها. وفي الاصطلاح: تابع مقصود بالحكم بلا واسطة، قوله: تابع جنس يشمل التوابع الخمسة كلها: النعت، والعطف، وعطف البيان، وعطف النسق، والتوكيد، والبدل. قوله: مقصود بالحكم أخرج النعت والتوكيد وعطف البيان، فهذه الثلاثة خرجت بقوله مقصود بالحكم؛ لأن هذه الثلاثة ليست مقصودة بذاتها يعني لم يسق الكلام من أجلها، وإنما هي مكملات للمتبوع المقصود بالحكم، إذا قيل: جاء زيد العاقل، أصل الكلام جاء زيد، لأن المقصود بالكلام هنا الإخبار بمجيء زيد، ثم لما وقع اشتباه في زيد جيء بالنعت وهو العاقل، فهو متمم لزيد، كذلك جاء زيد نفسه، فنفسه متمم وليس مقصوداً بالحكم، ما سيق الكلام من أجل لفظ نفسه، وإنما جيء بنفسه توكيداً، والأصل هو جاء زيد، وجاء أبو عبد الله محمد، الأصل الإخبار بمجيء أبي عبد الله، ومحمد هذا عطف بيان، ليس مقصوداً لذاته بالحكم، وإنما يعتبر مكملاً للمقصود، إذاً النعت وعطف البيان والتوكيد هذه ليست مقصودة بالذات، وإنما مقصودة للتتميم فقط، يعني هي متممات للمقصود، قصدها قصد تكميلي، لا قصد تأسيسي في الكلام. قوله: بلا واسطة أخرج عطف النسق؛ لأنه مقصود بذاته، مقصود بالحكم، جاء زيد وعمرو، فعمرو مقصود

بالحكم، لكن بواسطة. إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ يَنْحَلُ ... إِعْرَابَهُ وَالفِعْلُ أَيْضًا يُبْدَلُ [إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ] إذا أُبدل اسم من اسم [يَنْحَلُ إِعْرَابَهُ] يقال: نَحَلَه القولَ كمنعه نسبه إليه، ومراده ينحل إعرابه يعني يُعطى إعرابه، لأن البدل حكمه في الإعراب حكم المبدل منه؛ لأننا في مقام التوابع، والأصل في التابع أن يكون مشاركاً لما قبله في إعرابه، فإن كان المبدل منه مرفوعاً كان البدل مرفوعاً، وإن كان منصوباً كان منصوباً، وإن كان مجروراً كان مجروراً، وإن كان مجزوماً كان مجزوماً، إذاً يأخذ حكمه مطلقاً، [إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ يَنْحَلُ إِعْرَابَهُ] أي يعطى إعرابه مطلقاً رفعاً ونصباً وخفضاً وجزماً، والدليل على أن المراد بالإعراب ما يشمل الجزم قوله: [وَالفِعْلُ أَيْضًا يُبْدَلُ] من الفعل، فحينئذٍ لا يفهم من قوله: إذا اسم أبدل من اسم أن البدل خاص بالأسماء كما هو الشأن في التوكيد، بل يدخل الأسماء ويدخل الأفعال. وإعراب قوله: [إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ يَنْحَلُ] إذا ظرفٌ لما يستقبل من الزمان مُضَمَّنٌ معنى الشرطِ خافضٌ لشرطه منصوبٌ بجوابه، اسمٌ نائب فاعل لفعل محذوف وجوباً تقديره: إذا أُبدل اسمٌ، لأن إذا وإن الشرطيتين لا يَحُلُّ بعدهما الاسم أبداً على الصحيح وهو مذهب البصريين، حينئذٍ نقول: قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير:1]، وقوله: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) [الانفطار:1]، فالشمس نائب فاعل لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور تقديره إذا كورت الشمس، والسماء فاعل لفعل محذوف

يفسره الفعل المذكور تقديره إذا انفطرت السماء، ومثله قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ) [التوبة:6] إن حرف شرط، وأحدٌ فاعل مرفوع لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور تقديره وإن استجارك أحد، فإن شرطية ولا يليها إلا فعل، كما أن إذا الشرطية لا يليها إلا فعل، فحينئذٍ لو جاء بعدهما اسم مرفوع وجب تقدير فعل محذوف وجوباً، وجوباً لوجود المفسِّر؛ لأنك إذا قدَّرتَ فعلاً فلا بُدَّ أن تفسره، لو قيل: إذا السماء، لا تستطيع أن تقدر فعلا، لا بد من شيء يدل عليه من السياق، فتأتي بفعل مناسب، وحدث مناسب، وليس ثَمَّ قرينة تدل على المحذوف، لكن إذا قيل: إذا السماء انفطرت، تعلم هنا أن المراد انفطار السماء، إذا انفطرت السماء انفطرت، فصار انفطرت هذا هو المفسِّر، والمحذوف وجوباً هو المفسَّر، ولا يجمع بين المفسَر والمفسِر، وإنما يذكران في مقام التعليم فقط، يقال: إذا انفطرتِ السماءُ انفطرت، وأما عند التحقيق فالأصل أنه لا يجمع بينهما فيقال: إذا السماء انفطرت تقدير العامل إذا انفطرت السماء، وانفطرت الثانية لا يجوز جمعه وذكره مع المحذوف. وجملة أبدل لا محل لها من الإعراب مفسرة، ومِن اسم متعلق بقوله أبدل، وينحل فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الاسم، والجملة جواب إذا، وإعرابه مفعول به، والفعل أيضاً يبدل، والفعلُ أيَّ فعل مطلقاً، مبتدأ،

وأيضاً مفعول مطلق مصدر آضَ يئيضُ أيضاً، وجملة يبدل خبر المبتدأ. أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ فَإِنْ تُرِدْ ... إِحْصَاءَهَا فَاسْمَعْ لِقَولِي تَسْتَفِدْ [أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ] أي أقسام البدل على المشهور عند النحاة أربعة أي معدودة بالأربعة، وهي التي ذكرها الناظم، وزاد بعضهم قسمين: بدل الإضراب، وبدل النسيان. وقوله: أقسامه مبتدأ، وأربعة خبره، [فَإِنْ تُرِدْ إِحْصَاءَهَا] فإن الفاء فصيحة، إذا جاء إجمال أو محل سؤال أو تعداد ثم جاءت الفاء فالغالب أنها فصيحة، لأنه لَمَّا قال: أقسامه أربعة، فإن سئلتَ وأردت معرفة هذه الأربعة فأقول لك: إن ترد إحصاءها، إذاً الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، فإن ترد أيها النحوي إحصاءها أي جمعها [فَاسْمَعْ] الفاء واقعه في جواب الشرط، وإنْ شرطية، وترد فعل مضارع فعل الشرط، والجواب اسمع، إذًا وقع فعل أمر فوجب اقترانه بالفاء، [لِقَولِي] الأصل اسمع قولي، واللام زائدة، وزيادتها ليست قياسية، لقوة العامل، لأن اللام إنما تزاد لضعف العامل، وإذا كان العامل متقدماً على معموله وهو فعل فهو قوي لا يحتاج إلى تقوية، فحينئذٍ إذا زيدت اللام فهي على خلاف القياس، لكن لو قال: لقولي فاسمع حينئذٍ تقول: ضَعُفَ العامل؛ لأن العامل يعمل فيما بعده على الأصل، فإذا تقدَّم عليه ضعف فحينئذٍ يحتاج إلى تقوية، وفرق بين أن تقول: ضربت لزيد، ولزيد ضربت، ضربت لزيد مثل فاسمع لقولي، ليس على القياس، وأما لزيدٍ ضربتُ فهذا

على القياس. ومنه قوله تعالى: (إِِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف:43] والأصل تعبرون الرؤيا، فيتعدى بنفسه، وزِيدت اللام في قوله: للرؤيا لضعف العامل، فحينئذٍ نقول: (للرؤيا) الرؤيا مفعول به، واللام زائدة جيء بها لتقوية العامل، وإنما تزاد قياساً في موضعين: إذا تقدم المعمول على عامله؛ لأنه يضعف، أو كان العامل وصفاً يعني اسما مشتقا ولو كان المعمول متأخراً؛ لأن العامل إذا لم يكن فعلاً فهو ضعيف، كل الأسماء إذا عملت فهي ضعيفة، حينئذٍ إذا دخلت اللام على معمولها فهو قياس، كقوله تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [هود:107] ففعال يتعدى بنفسه، وما اسم موصول بمعنى الذي في محل نصب مفعول به، دخلت اللام تقوية للعامل؛ لأن فعال هذا ليس بفعل، وإنما هو وصف، والوصف ضعيف بذاته، حينئذٍ إذا قوي فلا بأس أن يؤتى باللام الزائدة، أما فاسمع لقولي فاللام زائدة، لكنها ليست على القياس، [تَسْتَفِدْ] جواب الطلب وهو اسمع، واسمع هذا جواب الشرط إن، وتستفد فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الطلب. كقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ) (الأنعام: من الآية151) وأتلو فعل مضارع أصله بالواو، وحذفت للجزم لوقوعها في جواب الطلب، وهنا كذلك فاسمع تستفد، إن تسمع تستفد، فتستفد فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الطلب. فَبَدَلُ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ كَجَا ... زَيدٌ أَخُوكَ ذَا سُرُورٍ بَهِجَا وَبَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ كَمَنْ ... يَأْكُلْ رَغِيْفًا نِصْفَهُ يُعْطِ الثَّمَنْ

وَبَدَلُ اشْتِمَالٍ نَحْوُ رَاقَنِي ... مُحَمَّدٌ ... جَمَالُهُ ... فَشَاقَنِي وَبَدَلُ الغَلَطِ نَحْوُ قَدْ رَكِبْ ... زَيدٌ حِمَارًا فَرَسًا يَبْغِي اللَّعِبْ [فَبَدَلُ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ] الفاء فاء الفصيحة، وبدل الشيء من الشيء يعني به بدل الكل من الكل، وهذا تعبير ابن مالك رحمه الله، واشتهر على ألسنة النحاة توسعاً بدل الكل من الكل، هكذا الكل بأل، والأصل أن يقال: بدل كل من كل؛ لأن كلا لا يجوز إدخال أل عليها مطلقاً، لأنها ملازمة للإضافة، وما كان ملازماً للإضافة أو مضافاً ولولم يكن ملازماً للإضافة لا يجوز إدخال أل عليه، كغلام زيد، لا يصح أن يقال: الغلام زيد، كذلك كلٌّ ملازمة للإضافة إلى المفرد، ثم هذا المضاف إليه قد يحذف ويعوض عنه التنوين، ويسمى تنوين العوض عن كلمة، كقوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ) [الإسراء:13] فكل هنا مضاف لفظا، وقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ) [الإسراء:84] كل مضافة لكنها مضافة في المعنى لا في اللفظ، وأما في اللفظ فقد حذف المضاف وعوض عنه التنوين، إذاً إذا قيل: الكل فقد أدخلنا أل على لفظٍ مضاف، وهذا ممتنع، ولكن من باب التوسع يقال: بدل الكل من الكل. وبدل الكل من الكل هو ما كان الثاني فيه عين الأول، أو قل مساوياًَ للأول في المعنى، نحو: جاءني محمد أبو عبد الله، جاء فعل ماض، ومحمد فاعل، وأبو عبد الله بدل كل من كل؛ لأن أبو عبد الله - على الحكاية - هو عين الأول وذاته محمد وهو المكني بأبي

عبد الله، إذاً كان الثاني عين الأول، [كَجَا زَيدٌ] أي كقولك، أو مثل، وجا بالقصر للوزن، أصله جاء بالهمزة، وقصره للوزن، [كَجَا زَيدٌ أَخُوكَ] جاء فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وزيد فاعل، وأخوك بدل كل من كل؛ لأن الأخ هنا هو عين زيد، وزيد هو عين الأخ، وبدل المرفوع مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وكما أعرب بدل الكل من الكل كذلك يصح إعرابه عطف بيان لما ذكرناه سابقاً أن كل ما صح الحكم عليه بأنه عطف بيان جاز إعرابه بدل كل من كل، فحينئذٍ جاءني محمد أبو عبد الله، أبو عبد الله يجوز فيه وجهان: أن يكون بدل كل من كل، وأن يكون عطف بيان، [ذَا سُرُورٍ بَهِجَا] ذا حال من الفاعل، منصوب بالألف لأنه من الأسماء الستة، أي حالة كونه ذا سرور بهجا، وسرور بمعنى الفرح، وبهجا بمعنى الابتهاج، والسرور والفرح، والألف في بهجا للإطلاق، إذاً كل منهما بمعنى الآخر. ومنه قوله تعالى: (مَفَازًا، حَدَائِقَ) [النبأ:32] فحدائق بدل كل من كل من مفازاً، وحينئذٍ نقول: يصح أن يكون البدل نكرة والمبدل منه نكرة، لأن حدائق بدل وهو نكرة، ومفازاً مبدل منه وهو نكرة. جاء محمد أبو عبد الله، فمحمد معرفة، وأبو عبد الله معرفة، إذاً صح أن يبدل المعرفة من المعرفة، ويصح أن يكونا مختلفين كما سيأتي. هذا النوع الأول: بدل كل من كل، أو إن شئت قل بدل الشيء من الشيء، وعدل ابن مالك رحمه الله عن التعبير ببدل الكل من

الكل؛ لأنه قد يأتي في القرآن في حق الرب - عز وجل - فلا يقال فيه: بدل كل من كل لعدم صحة إطلاق الكل على الله - عز وجل -، وأما الشيء فهذا ثابت إطلاقه على الله - عز وجل - قال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ) [الأنعام:19] إذاً صح إطلاق الشيء على الله - عز وجل -، أما بدل كل من كل فلا يصح. النوع الثاني: أشار إليه بقوله: [وَبَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ] أيضاًًًًًًًًً البعض يقال فيه ما قيل في الكل، فهو مثل كل ملازم للإضافة للمفرد معنى، حينئذٍ قد يذكر المضاف لفظاً وقد يحذف ويعوض عنه تنوين يسمى تنوين العوض عن كلمة، وبدل البعض من الكل هو أن يكون الثاني جزءاً من الأول، أو قل: بعضاً من الأول سواء كان مساوياً لنصفه أو أقل أو أكثر، ولذلك لا يُشترط فيه عند الأصوليين ما يشترط في الاستثناء، والاستثناء فيه خلاف، هل يصح إخراج أكثر من النصف أو لا؟ استثناء دون النصف مجمع عليه، والنصف وأكثر من النصف فيه خلاف، وهذا الخلاف في الاستثناء، أما البدل فلا. ويشترط في هذا النوع - بدل البعض من الكل- أن يكون مشتملاً على ضمير يعود على المبدل منه، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97] فمن استطاع هذا بدل بعض من كل، فلا يشترط أن يكون أكثر أو أقل أو نصف، قد يكون وقد لا يكون، يختلف باختلاف الأزمان والأحوال. والناس لفظ عام يشمل المستطيع وغير المستطيع، ومن استطاع من اسم موصول بمعنى الذي، وجملة

استطاع صلة الموصول، وهو في قوة المشتق أي المستطيع، فمن استطاع بدل بعض من كل على الصحيح؛ لأن الناس كل وليس كل الناس مستطيع. [كَمَنْ يَأْكُلْ رَغِيْفًا نِصْفَهُ يُعْطِ الثَّمَنْ] كمن الكاف بمعنى مثل، أو كقولك حينئذٍ تكون داخلة على محذوف، ومن يأكل رغيفاً فمن اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، ويأكل فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمن وجزمه سكون آخره، والفاعل ضمير مستتر تقدير هو يعود على من، رغيفاً مفعول به، ونصفه بدل بعض من كل، الرغيف كل، وهو لم يأكل كل الرغيف، وإنما أكل بعض الرغيف، حينئذٍ نقول: بدل بعض من كل، وقد اشتمل على الضمير هنا، نصفه أي نصف الرغيف، فأكل نصف الرغيف، فوجدت الحقيقة أن يكون الثاني جزءاً من الأول، والنصف جزء أو بعض من الكل ولا إشكال، ويعط الثمن يعط فعل مضارع جواب الشرط مجزوم وجزمه حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على من، والثمن مفعول به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. عرفنا بدل البعض من الكل، وهل يوجد بدل الكل من البعض؟ نقول: هذا فيه خلاف، والأكثر على المنع، وجوَّزه بعضهم وأثبت بدل الكل من البعض. قال الشاعر: رَحِمَ اللهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلَحَةَ الطَّلَحَاتِ

أعظماً بعض من طلحة، وطلحة كل لأنه عظم ولحم، فطلحة بدل من أعظم بدل كل من بعض، وهذا محل خلاف. والنوع الثالث أشار إليه بقوله: [وَبَدَلُ اشْتِمَالٍ] ففيه اشتمال أن يشتمل المبدل على البدل، بأن يكون بين البدل والمبدل منه ملابسة أي علاقة وارتباط، لكن بغير الجزئية والكلية، ليس كلا ولا جزءا، يعني كأنه قال لك: انظر في البدل هل هو بدل كل من كل أو لا؟ فإن لم يكن بدل كل من كل إذاً انتفت العلاقة الكلية، ثم انظر هل هو بعض من المبدل منه أو لا؟ فإن لم يكن بدل بعض من كل إذاً انتفت العلاقة الجزئية، فاحكم عليه بأنه بدل اشتمال، لذلك تكون العلاقة أو الملابسة بين الأول والثاني بغير الجزئية والكلية، يعني ليس بدل كل من كل، ولا بدل بعض من كل. أو قل: أن يكون المبدل منه مشتملا على البدل بأن يكون دالا عليه بحيث إذا ذكر المبدل منه تتشوَّف النفس وتنتظر البدل. [نَحْوُ رَاقَنِي مُحَمَّدٌ جَمَالُهُ فَشَاقَنِي] نحو بمعنى مثل، وراقني بمعنى أعجبني محمد جماله، ومحمد فاعل، وجماله بدل اشتمال من محمد، ما العلاقة بين الجمال ومحمد؟ هل هو كل من محمد بأن يكون بدل كل من كل؟ الجواب: لا، هل هو جزء من ذاته؟ الجواب: لا، وإنما العلاقة بينهما أن محمداً مشتمل على الجمال، إذاً الملابسة والعلاقة بينهما بغير الكلية والجزئية. ومثله: أعجبني زيد علمه، إذاً ثَمَّ ملابسة وارتباط بين زيد وبين العلم، وهي كون العلم قائماً بزيد، كما أن الجمال إنما يكون في محمد لا في غيره، وكذلك العلم يكون في زيد لا في غيره. ومنه قوله تعالى:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيه) [البقرة:217] أي في الشهر الحرام، فقتال بدل اشتمال من الشهر الحرام، ما الملابسة والعلاقة والارتباط؟ نقول: لكون القتال قد وقع في الشهر الحرام، وهنا أبدلت النكرة من المعرفة، ويجوز العكس، وفي قوله: (مَفَازًا، حَدَائِقَ) [النبأ:32] أبدلت النكرة من النكرة، وفي قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97] (الناسِ، من استطاع) أبدلت المعرفة من المعرفة، إذاً لا يشترط في البدل والمبدل منه الاتفاق تعريفاً وتنكيراً. وقوله: [جَمَالُهُ] اشتمل على ضمير يعود على المبدل منه، [فَشَاقَنِي] الفاء عاطفة، وشاقني حبها أي هاجني كشوَّقني. والنوع الرابع أشار إليه بقوله: [وَبَدَلُ الغَلَطِ] أي بدل عن اللفظ الذي ذُكِر غلطاً، لا أنه نفسه هو الغلط، ليس البدل هو الغلط، وإنما هو بدل عن اللفظ الذي ذُكر أولاً غلطاً. [نَحْوُ قَدْ رَكِبْ زَيدٌ حِمَارًا فَرَسًا يَبْغِي اللَّعِبْ] فرساً هو بدل الغلط، لأن الذي ذكر غلطا هو قوله: حمارًا، قال: ركبت حماراً فغلط ليس حماراً فقال: فرساً، إذاً حصل بدل الغلط، الغلط في الأول، والذي يسمى بدل الغلط الثاني، إذاً التركيب يكون: بدل الغلط ليس هو نفسه غلطًا، وإنما بدل عن اللفظ الذي ذكر أولاً غلطاً، وبدل الغلط أن يكون الثاني مقصوداً، والأول غير مقصود، نحو قولك: [نَحْوُ قَدْ رَكِبْ زَيدٌ حِمَارًا فَرَسًا يَبْغِي اللَّعِبْ] أي وذلك نحو، فهو خبر لمبتدأ محذوف،

قد ركب: قد حرف تحقيق مبني على السكون لا محل له من الإعراب، رَكِبَ فعل ماض مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون الوقف، وزيد فاعل، مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، حماراً مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، فرساً بدل الغلط، وبدل المنصوب منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره. بدل الغلط محله اللسان، وليس القلب، أراد أن يخبر أولاً بأنه ركب فرساً فسبق لسانه فقال: حماراً، ثم أتى بالمقصود، إذاً حماراً ليس مقصوداً، وفرساً هو المقصود، [يَبْغِي اللَّعِبْ] يعني ركب، لأنه يبغي ويريد اللعب واللعب هو اللهو. وبدل الغلط مختلف فيه، هل هو موجود في لغة العرب أو لا؟ لذلك لا يُوقف على مثالٍ واحد في الشعر أنه يحكم عليه بأنه بدل غلط، ولذلك أنكره الكثيرون نثراً وشعراً، قالوا: لأنه ليس بفصيح بل هو غلط في اللسان، فحينئذٍ لا يمكن أن يكون في المنثور الفصيح، ولا في الشعر الفصيح، لأنه غلط أراد أن يخبر عن شيء فأخبرك عن شيء آخر فسبق لسانه فذكر شيئاً لم يرد ذكره، فكيف يكون في الفصيح؟! ولذلك اختلف فيه أربعة أقوال: الأول: من أثبته نظماً ونثراً. الثاني: من نفاه نظماً ونثراً. الثالث: من أثبته نثراً لا نظماً.

الرابع: من أثبته نظماً لا نثراً. نظماً أي شعراً، والمسألة فيها خلاف، لكن عزَّ أن يوجد مثال منقول عن العرب وهو بدل غلط، والله أعلم.

المنصوبات من الأسماء

المَنْصُوبَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ لما فرغ من الكلام على المرفوعات وما يتعلق بها شرع في الكلام على المنصوبات، وقدَّم المرفوعات على المنصوبات؛ لأن المرفوعات عُمَدٌ في الأصل، والعمد شأنها التقديم، وثنى بالمنصوبات؛ لأن الفعل قد يكون ناصباً، فالنصب إما أن يكون بحرف أو بفعل أو باسم، حينئذٍ حصل النصب بالفعل وهو أقوى العوامل بخلاف المخفوضات، فإنه لا خفض بالفعل. و [المَنْصُوبَاتُ] جمع منصوب، وهو لغة: المستقيم والمستوي، واصطلاحاً: ما اشتمل على عَلَمِ النصب، يعني علامة النصب من الفتحة وما ناب عنها، تقول: رأيت زيداً، فزيداً منصوب، لكونه اشتمل على علامة النصب، [مِنَ الأَسْمَاءِ] احترازًا عن الأفعال، ويمكن أن يقال: إنه لبيان الواقع، ولا حاجة إلى الاحتراز؛ لأنه ذَكَر أولاً المنصوبات من الأفعال، فحينئذٍ لا يقع الذهن في الوَهَم بأنه قد يريد النواصب من الأفعال، بخلاف ما لولم يسبق ذكر نواصب الأفعال.

باب المفعول به

بَابُ المَفْعُولِ بِهِ المنصوبات خمسة عشر كما سيأتي بيانها، والباب الأول من هذه المنصوبات [بَابُ المَفْعُولِ بِهِ] أي هذا باب بيان حقيقة المفعول به، وأل في المفعول موصولة؛ لأن المفعول على زنة مفعول، وأل الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة موصولية، أي الذي فُعل به، أي باب الذي فُعِل به الفعل، والضمير في به يعود على أل، وهذا من أدلة القائلين بأن أل الموصولية اسم، لأن من علامات الأسماء عود الضمير إليها، ومنه قولهم: قد أفلح المتقي ربه، فالضمير في ربه باتفاق أنه يعود على أل، وأل موصولية، والضمائر لا ترجع إلا إلى الأسماء، فدل على أن أل اسم، وهذا هو الصحيح، إذًا الضمير في [بِهِ] عائد على أل، فحينئذٍ تكون أل الموصولة اسماً، وقيل: بل يعود على موصوف محذوف تقديره باب الشيء الذي فُعِل به، لكن النظر في أل، وفي مرجع الضمير، وهل يعود على موصوف محذوف أولا؟ نقول: هذا قبل جعله علماً، فلما جُعل علماً صار الضمير جزءًا من الكلمة كدال زيد، تقول: المفعول به صار علماً ولقباً على ما سيذكره، بمعنى أنه كالجزء الواحد، فكل كلمة فيه تعتبر في مقابلة حرف من حروف زيد، فحينئذٍ الضمير هنا لا اعتبار له أي لا مرجع له، وكذلك أل لا اعتبار لها، فهو جامد فلا ينظر إليه إلا من جهة كونه لقبًا وعلماً، والنظر في الاشتقاق قبل النقل. قال الناظم:

مَهْمَا تَرَ اسْمًا وَقَعَ الفِعْلُ بِهِ ... فَذَاكَ مَفْعُولٌ فَقُلْ بِنَصْبِهِ [مَهْمَا تَرَ اسْمًا وَقَعَ الفِعْلُ بِهِ] مهما شرطية تجزم فعلين، وترَ فعل مضارع، فعل الشرط، مجزوم وجزمه حذف حرف العلة، وحينئذٍ يحذف من النطق ومن الكتابة أيضاً، قال تعالى: (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) [عبس:23] حُذفت الياء نطقًا وكتابة، وقد يُوجد نطقا وكتابة مع كونه مجزوما، والجازم إذا وُجد ووجد معه الحرف الذي يجب حذفه للجازم، إما أن يُخرَّج على أنه إشباع للحركة، يُشبع الحركة والحرف محذوف، وإما أنه ذكره من باب الضرورة لأجل الوزن. قال الشاعر: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ ألم يأتيك الياء ثابتة مع وجود الجازم، فالفعل مجزوم قطعًا، والأصل في جزمه حذف حرف العلة وهو الياء، وهنا الياء موجودة فقال: يأتيك، فحينئذٍ لا بد من تخريج هذه الياء، فنقول: إما للإشباع، أشبع الكسرة من أجل الوزن حتى تولدت الياء، أو أنه ذكرها ابتداءً من أجل الوزن دون إشباع. هَجَوتَ زَبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَعِ لم تهجو: بإثبات الواو، والأصل حذفها للجازم، نقول: الواو حذفت للجازم، نعم، وهذه الواو الملفوظ بها ليست هي واو الفعل، وإنما هي إشباع للحركة.

إِذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ وَلاَ تَرَضَّاهَا وَلاَ تَمَلَّقِ ولا ترضاها: بالألف، ولا تملق إذاً قد يبقى الحرف الذي يكون علة في الفعل المضارع الذي يجزم، فيحذف حرف العلة، وحينئذٍ نحكم بكون الحرف محذوفًا لا إشكال في هذا، فنقول: الحرف محذوف لكن ذكره ليس هو عين الحرف الذي قد حذف، ويخرج بأحد التخريجين السابقين. [اسْمًا] مفعول به [وَقَعَ الفِعْلُ بِهِ] أي ما وقع عليه فعل الفاعل، هذا هو المفعول به، واسماً خرج به الفعل والحرف، فالفعل لا يكون مفعولاً به ما لم يرد به اللفظ نحو: كتبت قال، أي هذا اللفظ. والحرف لا يكون مفعولاً به ما لم يرد به اللفظ نحو: كتبت في، أي هذا الحرف. وإذا قيل: خرج الفعل والحرف فحينئذٍ يُجعل ذلك علماً على الاسم، فيضم إلى علامات الأسماء، فإذا قيل: الفاعل هو الاسم المرفوع، فالاسم خرج الفعل وخرج به الحرف، إذاً اختص بالاسم فحينئذٍ تقول: من علامات الاسم وقوعه فاعلاً، لأن الفاعل لا يكون إلا اسماً، فينحصر في الأسماء، ولا يدخل الأفعال ولا الحروف، فحينئذٍ صار من علاماته التي يميز بها عن أخويه، كذلك المفعول به، لا يكون إلا اسماً، فخرج الفعل فلا يوصف بكونه مفعولاً به، وخرج الحرف فلا يوصف بكونه مفعولاً به، فحينئذٍ من علامات الأسماء كونها مفعولاً به. والمراد بالاسم هنا ما يشمل الاسم الصريح، والاسم المؤول بالصريح، فنحو: ضربت زيداً، فزيداً مفعول به وهو اسم صريح، يعني لا يحتاج إلى جعله

مفعولاً به إلى تأويل، والاسم المؤول بالصريح هو ما نحتاج في جعله مفعولاً به إلى تأويل، نحو: ظننت أنَّ زيداً قائم، ذكرنا أن أفعال القلوب تنصب المبتدأ على أنه مفعول أول لها، والخبرَ على أنه مفعول ثان، وأنه قد يسد مسد المفعولين أنَّ المفتوحة وأنْ المصدرية، نحو: ظننت أنَّ زيداً قائم، فأن زيداً قائم سدت مسد المفعولين؛ لأن أنَّ هذه في تأويل المفرد، والأصل إذا أردنا أن نقدر نقول: أنَّ حرف توكيد ونصب، وزيدًا اسمها، وقائمٌ خبرها، أنَّ وما ودخلت عليه وهو معمولاها في تأويل مصدر، مفعول به، تقديره ظننت قيامَ زيد، فقيام زيد مفعول به، وهو مفرد لكنه سد مسد مفعولي ظننت. ومنه قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم:9] الفعل ودَّ دائماً يقع بعده لو المصدرية، فحينئذٍ تؤول لو مع ما بعدها بمصدر يُنصب على أنه مفعول به، والتقدير هنا: ودوا مداهنتك، فمداهنتك مفعولٌ به، إذاً قوله: [اسْمًا] سواء كان صريحاً كضربت زيداً، فزيداً هذا صريح ملفوظ به مباشرة دون تأويل، أو مؤولاً بالصريح، نحو: ظننت أن زيداً قائم، و (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم:9]. [وَقَعَ الفِعْلُ بِهِ] وقع الفعل يعني الصادر من الفاعل، وبه الباء هنا بمعنى على؛ لأن مادة الوقوع إنما تتعدى بعلى لا بالباء، وقع الفعل به أي عليه، لأن قوله به، جار ومجرور متعلق بوقع، والوقوع

وما تصرف منه إنما يتعدى بعلى لا بالباء، إذاً المفعول به: هو اسم وقع فعل الفاعل عليه إثباتاً أو نفياً، وفسروا الوقوع هنا بتعلقه بما لا يعقل إلا به إثباتاً أو نفياً. مثلا ضربت زيداً ضربت فعل وفاعل، وزيداً مفعول به، هل ثَمَّ ملابسة وارتباط بين المفعول به والفاعل والفعل؟ نقول: نعم، وهو كون زيد محلاً لوقوع فعل الفاعل وهو الضرب، لو قيل: من المضروب؟ قيل: زيد، إذاً هذه العلاقة هي تعلق المفعول به بالعامل على جهة إيقاع الفاعل ذلك الفعل على المفعول به، لكن لو قال: ما ضربت زيدا، حينئذٍ المفعول به وهو زيدًا ما وقع عليه فعل الفاعل، بل ليس عندنا فعل أصلا، لأنه نفي، والنفي عدم ليس بشيء، فكيف نقول: زيدًا مفعول به وقع عليه فعل الفاعل والضرب منفي ما حصل ضرب أصلا؟! كذلك النهي نحو: لا تضرب زيدا. فهذا إشكال أورده بعضهم، والجواب: أنَّ هذا اصطلاح، ولذلك أرادو أن يعمموا الوقوع، فقالوا: الوقوع الأصل فيه الوقوع بالفعل فضربت زيدًا الأصل أن تضربه فيكون زيد مضروبا، فهذا وقوع الفعل عليه بالفعل صريح ولا إشكال فيه، لكن في مثل هذا التركيب ما ضربت زيدا، ولا تضرب زيدا، قالوا: ثم علاقة وارتباط ذهني قصد أن النفي هنا قد نفي الضرب عن محل لو وقع عليه لكان محلا له وقابلا له، إذا ثم ارتباط، تعلق زيد هنا بالضرب بمعنى أنه لو أراد إيقاعه لوقع ولكنه منفي عنه، فحينئذ صار مفعولا به بالقوة لا بالفعل كضربت زيدا فزيدا مضروب بالفعل يعني وقع عليه الضرب، لكن ما ضربت زيدا لو أراد أن

يوقع الضرب بزيد لكان زيدا محلا للضرب وقابلا له. إذا قوله: [مَهْمَا تَرَ اسْمًا وَقَعَ الفِعْلُ بِهِ] المراد بالوقوع هنا تعلقه يعني تعلق المفعول به بما لا يعقل إلا به، يعني لا يتصور ويتخيل في الذهن إلا به، فحينئذ ما ضربت النفي إنما يصح إذا كان ثَمَّ ما هو محل لوقوع هذا الضرب وإلا لم يصح نفي الضرب، ما ضربت هكذا دون أن يعلق في الذهن محل لإيقاع الضرب هذا لا يمكن أن يوجد. على كلٍّ المفعول به يتعلق به الفعل إثباتا أو نفيا. والحاصل: أن المفعول به هو اسم وقع عليه الفعل الصادر عن الفاعل، نحو: ضربت زيدا، زيدا هذا مفعول به لأنه وقع عليه فعل الفاعل وهو الضرب، ونحو: ما ضربت زيدا، زيدا مفعول به لأنه لو أراد الفاعل إيقاع الحدث الذي هو الضرب على زيد لكان زيدا محلا لذلك. وبعض النحاة يرى أن من علامة صدق الحد على المفعول به أن تصوغ من الفعل التام اسم مفعول تام فتقول: ضربت زيدا، فزيدا هذا إذا أردت أن تتأكد هل هو مفعول به أولا؟ فاجعل زيدا مبتدأ، ثم ايت بمصدر الفعل ضرب الذي هو الضرب فتأتي منه باسم مفعول تام تجعله خبرا للمبتدأ، فإذا صح فهو مفعول به وإلا فليس بمفعول به، فتقول: زيدٌ مضروبٌ إذًا صح التركيب فهو مفعول به. ونحو: جلس زيد على الكرسي، تقول: الكرسي مجلوس عليه، هذا لم يصح إلا بواسطة، والعلامة هنا أن يصح أن يؤتى من مصدر الفعل اسم مفعول تام يعني لا يفتقر إلى جار ومجرور، وهنا لم يأت

تاما وإنما صح بالجار والمجرور وهو لفظ عليه. [فَذَاكَ] أي الاسم الذي وقع عليه فعل الفاعل [مَفْعُولٌ] به [فَقُلْ بِنَصْبِهِ] أي بعد إثبات حقيقة المفعول فقل أي احكم بنصبه أي بأنه منصوب، إما بالفتحة وإما بالألف وإما بالياء، وعامل النصب في المفعول إما أن يكون فعلا سواء كان ملفوظا به أو محذوفا، فالملفوظ نحو: ضربت زيدا، فزيدا مفعول به لفعل مذكور، والمحذوف نحو: قوله تعالى: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) [البقرة:135] ملةَ هذا مفعول به لفعل محذوف تقديره بل أتبع ملة إبراهيم. وإما أن يكون الناصب له الوصف نحو: أنا ضاربٌ زيدا، فزيدا مفعول به والعامل فيه ضارب وهو وصف، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق:3] في قراءة من نون الوصف. وإما أن يكون الناصب له المصدر نحو قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ) [البقرة:251] فالناس مفعول به، والعامل فيه دفع وهو مصدر، وإما أن يكون الناصب له اسم الفعل، نحو قوله تعالى: عَلَيْكُمْ) أَنْفُسَكُمْ () أنفسكم مفعول به والناصب له عليكم وهو اسم فعل أمر. إذًا ينصب المفعول إما بالفعل سواء كان ملفوظا به أو مقدرا أو بالوصف أو بالمصدر أو باسم الفعل. كَمِثْلِ زُرْتُ العَالِمَ الأَدِيبَا ... وَقَدْ رَكِبْتُ الفَرَسَ النَّجِيْبَا [كَمِثْلِ] يعني وذلك المفعول به كمثل [زُرْتُ العَالِمَ الأَدِيبَا] الألف للإطلاق، ... وزرت فعل وفاعل، والعالم مفعول به منصوب،

والأديب من أدُب كحسُن أدبا فهو أديب ويجمع على أدباء، وأدَّبه علَّمه فتأدب واستأدب، إذًا العالم مفعول به لأن الفعل الذي دل عليه زرت وهو الزيارة قد وقعت عليه، والوقوع هنا معنى, لأنه قد يكون حسا وقد يكون معنى، نحو: تعلمت المسألة فليس عندنا وقوع حسي يدرك بالحس مثل الضرب الواقع على زيد، وإنما هو تعلق معنوي. [وَقَدْ رَكِبْتُ الفَرَسَ النَّجِيْبَا] الألف للإطلاق، والنجيب هو الكريم الحسيب، وركبت فعل وفاعل، والفرس مفعول به لأنه اسم وقع عليه فعل الفاعل وهو الركوب، والركوب أمر حسي. وَظَاهِرًا يَأْتِي وَيَأْتِي مُضْمَرَا ... فَأَوَّلٌ مِثَالُهُ مَا ذُكِرَا [وَظَاهِرًا] أي واسما ظاهرا فهو صفة لموصوف محذوف، حال مقدمة من فاعل يأتي، و [يَأْتِي] فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هو يعود على المفعول به. إذًا المفعول به قسمان: الأول: قد يكون اسما ظاهرا، والثاني: قد يكون اسما مضمرا. والظاهر: هوما دل على مسماه بلا قيد، والقيد هو التكلم، أو الخطاب، أو الغَيبة. والمضمر: هو ما دل على مسماه بقيد، وهو التكلم، أو الخطاب، أو الغيبة؛ لأنه كما سبق أن الاسم ثلاثة أنواع: وهي الاسم المبهم، والاسم المضمر، والاسم الظاهر. فالظاهر كزيد، والمبهم كهذا والذي وسبق أنه يريد بالمبهم أسماء الإشارات

والموصولات، والمضمر كهو. [فَأَوَّلٌ] الفاء فاء الفصيحة، والأول أي الأسبق وهو الظاهر، [مِثَالُهُ مَا ذُكِرَا] الألف للإطلاق، وذُكر فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب الفاعل ضمير مستتر يعود على المثال السابق، وحذف الفاعل للعلم به، يعني ما قد ذكرته لك فيما سبق من قولي زرت العالم، وركبت الفرس، فالعالم والفرس كل منهما اسم ظاهر. وَالثَّانِي قُلْ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلْ ... كَزَارَنِي أَخِي وَإِيَّاهُ أَصِلْ [وَالثَّانِي] الذي هو المضمر، [قُلْ] إنه قسمان: [مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلْ] والمتصل أصلها موتصل قلبت الواو تاءا فأدغمت التاء في التاء. والضمير ينقسم إلى قسمين: الأول: بارز، والثاني: مستتر؛ لأنه إما أن يكون له صورة في اللفظ أي ينطق به، أولا؟ الأول البارز، والثاني المستتر. نحو: ضربت فالتاء ضمير نطقت بها فهذا بارز, وقم الفاعل ضمير مستتر لم تنطق به لأنه ليس له صورة. ثم البارز ينقسم بحسب الاتصال والانفصال إلى قسمين، إذًا المتصل والمنفصل قسمان من أقسام البارز، وليسا قسمين للمستتر، والضمير المتصل: هو الذي لا يستقل بنفسه، فلذلك لا يبتدأ به أي لا يقع في أول الكلام، ولا يلي إلا في الاختيار، كتاء قمت، ونا قمنا فهذا ضمير متصل بمعنى أنه لا يستقل بنفسه فلذلك لا يقع في أول الكلام ولا يقع بعد إلا. والمنفصل عكسه الذي يستقل بنفسه، بمعنى أنه يقع في ابتداء الكلام ويصح أن يقع بعد إلا، كأنا وأنت وهو، فأنا ضمير منفصل، لأنه يصح الابتداء به، ويقع بعد إلا، تقول: ما قام إلا أنا، وتقول: أنا ضعيف، فأنا مبتدأ وضعيف خبر.

وينقسم المتصل بحسب موقعه في الإعراب إلى ثلاثة أقسام: الأول: مرفوع المحل كتاء قمت، فالتاء ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل. والثاني: منصوب المحل ككاف أكرمك زيدٌ، فالكاف ضمير متصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. والثالث: مخفوض المحل كالهاء في مررت بغلامه، فالهاء ضمير متصل مبني على الكسر في محل خفض. وينقسم المنفصل بحسب موقعه في الإعراب إلى قسمين: الأول: مرفوع المحل، والثاني: منصوب المحل. ولا يكون مخفوض المحل أبدا. ً إذا ً مخفوض المحل يكون في المتصل فقط، ولا يكون في المنفصل، وإنما يكون في محل رفع وفي محل نصب فقط، وكونه في محل نصب قد يكون مفعولا ًبه وهو الذي عناه الناظم هنا. فالمرفوع اثنتا عشرة كلمة من الضمائر المتصلة: وهي أنا، ونحن، وأنتَ، وأنتِ، وأنتما، وأنتم، وأنتن، وهو، وهي، وهما، وهنَّ. والمنصوب اثنتا عشرة كلمة من الضمائر المتصلة: وهي إيَّاي، وإيَّانا، وإياكَ، وإياكِ، وإياكما، وإياكم، وإياكن، وإياه، وإياها، وإياهما، وإياهم، وإياهن. والضمير إيَّا فقط، فهو ضمير منفصل في محل نصب مفعول به، والكاف حرف خطاب مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، ومنه: ((إِيَّاكَنَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ (5))) إيا في الموضعين في محل نصب مفعول به مقدم. إذًا [وَالثَّانِي قُلْ مُتَّصِلٌ] أي الضمير متصل بعامله، فيكون مفعولا ًبه في محل نصب، مثل: زيدٌ أكرمَك فالكاف في محل نصب مفعول به لأنه ضمير متصل، وزيد أكرمَنا فأكرم فعل ماض، ونا الدال على المفعولين ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به. [وَمُنْفَصِلْ] والمثال ما ذكرناه. [كَزَارَنِي أَخِي] زار فعل ماض، والنون للوقاية، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به، إذًا الكاف تأتي في محل نصب مفعول به نحو: أكرمك، ونا تأتي في محل نصب مفعول به، نحو زيد أكرمنا، ومثَّل الناظم للياء، وأخي الياء ضمير متصل في محل جر. إذًا الياء قد تكون في محل جر وقد تكون في محل نصب. [وَإِيَّاهُ أَصِلْ] إياَّ ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، والأصل أَصِلْه فقصد الحصر فانفصل الضمير وتقدم لإفادة ذلك. والهاء حرف دال على الغيبة مبني على الضم لا محل له من الإعراب، كالكاف من ذاك وذلك فلا إشكال فلا نقول: مضاف ومضاف إليه، وقد قيل، لكن هذا هو الصواب. وأَصِلْ فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. والعامل في المفعول به أربعة: الفعل، والوصف، والمصدر، واسم الفعل. وأنه يكون على نوعين: يكون ظاهرا ًويكون مضمرا ً، والضمير: يكون متصلا ويكون منفصلا.

باب المفعول المطلق

بَابُ المَفْعُولِ المُطْلَقِ هذا الباب يُعبر عنه الكثير من النحاة بباب المصدر، كما عبر بذلك صاحب الأصل ابن آجروم حيث قال: باب المصدر، وذلك لأن الأصل في المفعول المطلق أن يكون مصدرا، وهذا هو الأصل بل بعضهم خصه بالمصدر وما عدا ذلك فهو نائب عنه، فحينئذ لا يكون مفعولاً مطلقا، وإنما يكون نائبا عن المفعول المطلق، [بَابُ المَفْعُولِ المُطْلَقِ] المطلق مقابل للمقيد، لأنه المطلق عن قيد ٍإما أن يقيد بحرف أو بظرف، لأن المفاعيل خمسة على الصحيح: الأول: المفعول به هذا مقيد بالجار والمجرور، والثاني: المفعول فيه كالسابق، والثالث: المفعول معه، وهذا مقيد بالظرف، والرابع: المفعول له. والخامس: المفعول المطلق عن قيد من القيود السابقة، لأن الأربعة السابقة كلها مقيدة إما بحرفٍ أو بظرف. إذًا المفعول المطلق أطلق ولم يقيد بحرف ولا ظرف لأنه هو أصل المفاعيل، لأنه هو الحدث، وتلك مَحَالٌّ للحدث، فهو المفعول الحقيقي لأنه الحدث الصادر منه. وَالمَصْدَرُ اسْمٌ جَاءَ ثَالِثًا لَدَى ... تَصْرِيفِ فِعْلٍ وَانْتِصَابُهُ بَدَا [وَالمَصْدَرُ] الواو للاستئناف البياني، وزنه مَفْعَل يعني محل صدور الشيء، سمي المصدر مصدرا ً لكون الأفعال وسائر المشتقات تصدر عنه، فالضرب مصدر يصدر عنه ضرب، ويضرب

واضرب، وضارب، ومَضْرِب، ومضرَب، فكل هذه المشتقات صادرة وناشئة عن الضرب وهو المصدر، ولذلك صار المصدر مصدراً لأنه محل لصدور سائر المشتقات. [وَالمَصْدَرُ اسْمٌ جَاءَ ثَالِثًا] هو أراد أن يعرف المفعول المطلق فقال: المصدر، لأن ثَمَّ علاقة بين المصدر والمفعول المطلق، فكل مفعول مطلق فهو مصدر ولا عكس - على ما ذكره المصنف هنا -[وَالمَصْدَرُ اسْمٌ] خرج الفعل، لأن المصدر أصل للفعل، فالفعل مشتق من المصدر، وهو فرع وأصله المصدر، كما قال الحريري: وَالْمَصْدَرُ الأَصْلُ وَأَيُّ أَصْلِ ... وَمِنْهُ يَا صَاحِ اشْتِقَاقُ الفِعْلِ إذًا الفعلُ فرعٌ على مذهب البصريين، فالأصل المصدر وما عداه من المشتقات فرع. [اسْمٌ جَاءَ] بمعنى ورد، فجاء في مثل هذا التركيب بمعنى ورد أو ثبت، المصدر اسم ورد حالة كونه [ثَالِثًا لَدَى تَصْرِيفِ فِعْلٍ] لدى بمعنى عند، وتصريف مصدر على وزن تفعيل، والمراد به التحويل من صيغة إلى صيغة أخرى، وما ذكره المصنف للمصدر من أنه ما يجيء ثالثاً في تصريف الفعل، نقول: هذا ضابط وليس بحد له، لأنه تابع صاحب الأصل في قوله: الذي يجيء ثالثا في تصريف الفعل تقول: ضرب يضرب ضرباً فضرباً هو الثالث فهو المصدر، وأكل يأكل أكلاً، وشرب يشرب شرباً، ونام ينام نوماً، فالذي يجيء ثالثا هو المصدر. كيف نقول: المصدر الذي يجيء ثالثاً، ثم نذكر الأول الفعل، ونحن نقول المصدر الأصل والفعل مشتق منه؟!

الجواب: أن قولهم ثالثا ليس بقيد بل قد يعبر عنه أولاً أو ثانيا أو آخرا، فلا بأس أن يقال: ضربا ضرب يضرب، لأن هذا التركيب هو الأصل بناءاً على أن القاعدة أن المصدر أصل لسائر المشتقات، ولا ينتقض بقولنا: ضرب يضرب ضرباً هذا جاء ثالثاً، وقد يأتي أولاً وقد يأتي ثانيا. والمصدر اسم للحدث الذي هو أحد مدلولي الفعل؛ لأنَّ كلَّ فعلٍ مركبٌ من شيئين لا ثالث لهما من جهة اللفظ: الأول: دلالته على الزمن، والثاني: دلالته على الحدث. فقام مثلا يدل على شيئين: حدث وهو القيام، وزمن وهو الزمن الماضي، فأحد مدلولي الفعل هو الحدث، والمصدر اسم الحدث، فحينئذٍ كلمة مصدر اسمٌ مسماه الضرب، والضرب مسماه نفس الحدث، فالمصدر اللفظ كالضرب كما نقول: خالد اسمٌ مسماه الذات، والضرب مصدر مسماه عين الضرب، ففرق بين الضرب ومسمى الضرب. قال ابن مالك: الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ ... مَدْلُولَي الفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ إذاً كلُّ مفعولٍ مطلقٍ مصدرٌ ولا عكسَ، لأنَّ المصدر قد يكون مبتدأ، وقد يكون خبرا، وقد يكون اسم إنَّ، وقد يكون خبر إنَّ، فلا يتعين في المصدر أن يكون منصوباً على المفعولية المطلقة، لكن يتعين في المفعول المطلق أن يكون مصدراً. المفعول المطلق: هو المصدر الفضلة المسلَّط عليه عامل من لفظه أو من معناه. قوله: المصدر، عرفنا حقيقة المصدر، إذاً أخذ المصدر

جنساً في حدِّ المفعول المطلق، ينبني على هذا أنَّ كلَّ ما ليس بمصدر فليس بمفعول مطلق، وكل ما قيل عند النحاة إنه نائب عن المفعول المطلق، فلكونه ليس بمصدر، فيعبر عنه بالنيابة ناب عن المفعول المطلق وليس هو بمفعول مطلق. وقوله: الفضلة أخرج العمدة فلا يكون المفعول المطلق عمدةً، فلو قيل: كلامُك كلامٌ حسن، فكلامٌ على القول بأنه مصدر أو اسم المصدر - لا إشكال - وقع في الموضعين عمدة، في الأول مبتدأ وهو عمدة، والثاني خبر وهو عمدة. ونحو: جدَّ جدُّه، فجدُّه فاعل وهو مصدر، فليس فضلة فلا يحكم عليه بأنه مفعول مطلق مع كونه مصدرًا، لأن شرط المصدر الذي يصح انتصابه على أنه مفعول مطلق أن يكون فضلة، والفضلة ما ليس بعمدة. قوله: المسلط عليه عامل من لفظه أو من معناه، فلو سُلِّط عليه عامل من لفظه وهو عمدة وليس بفضله لا يحكم عليه بكونه مفعولاً مطلقاً، نحو: كلامُك كلامٌ حسن، فكلام حسن سُلِّط عليه عامل من لفظه وهو كلامك الأول لأنه مبتدأ، والمبتدأ هو العامل في الخبر، حينئذٍ سُلِّط عليه عاملٌ من لفظه وليس بمفعول مطلق، لكونه عمدة وليس بفضله، كذلك جدَّ جدُّه فجدُّه مرفوع بجدَّ، إذاً سُلِّط عليه عامل من لفظه، وليس بمفعول مطلق، لأنه ليس بفضلة بل هو عمدة، وقوله: أو من معناه، هذا لإدخال النوع الثاني من نوعي المفعول المطلق، وهو مختلف فيه، نحو: قعدت جلوساً.

ثم لما بين لك حقيقة المفعول المطلق بين حكمه فقال: [وَانْتِصَابُهُ] أي المصدر الذي يجيء ثالثاً في تصريف الفعل، [بَدَا] بمعنى ظهر، وانتصابه قد يكون بمثله وهو المصدر، لأن المصدر يعمل في المصدر بشرطه، فالمفعول المطلق قد يعمل فيه مصدرٌ فلا مانع أن يُنصب المصدر بمصدرٍ تقول: عجبت من ضربك زيداً ضرباً شديداً، زيداً مفعول به والعامل فيه المصدر ضربك، وضرباً مفعول مطلق لضربك، فضرب مصدر قد عمل في المفعول المطلق وهو مبين للنوع، إذاً قد ينصب المفعول المطلق بالمصدر. وقد ينصب المفعول المطلق بالفعل، نحو: ضربت زيداً ضرباً، زيداً مفعولٌ به، وضربا هو المفعول المطلق جاء ثالثا في تصريف الفعل، لأنك تقول: ضرب يضرب ضرباً، فحينئذٍ جيء بالمصدر فسُلِّط عليه عامل وهو فعل في هذا التركيب، فانتصب على أنه مفعول مطلق، فقيل: ضربت زيداً ضرباً، ضرباً هذا هو المفعول المطلق وقد عمل فيه الفعل. وقد ينصب المفعول المطلق بالوصف، نحو: أنا ضاربٌ زيداً ضرباً، فضرباً مفعول مطلق، والعامل فيه الوصف، [وَانْتِصَابُهُ بَدَا] يعني نصب هذا المصدر على أنه مفعول مطلق بدا وظهر إما بمصدر مثله، أو بفعلٍ، أو بوصفٍ. وَهْوَ لَدَى كُلِّ فَتًَى نَحْوِيِّ ... مَا بَيْنَ لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيِّ فَذَاكَ مَا وَافَقَ لَفْظَ فِعْلِهِ ... كَزُرْتُهُ زِيَارَةً لِفَضْلِهِ [وَهْوَ] أي المصدر المنصوب على المفعولية المطلقة، [لَدَى] أي عند [كُلِّ فَتًَى] التنوين للتعظيم، [نَحْوِيِّ] نسبة إلى فن النحو، لكن قوله: [لَدَى كُلِّ فَتًَى نَحْوِيِّ] من إطلاق الكل وإرادة الجزء، يعني من العام الذي أريد به الخصوص وإلا فليس مجمعاً عليه، [مَا بَيْنَ] قسمين اثنين لا ثالث لهما [لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيِّ] يعني المفعول المطلق

نوعان: الأول: لفظي. والثاني: معنوي. وأشار إلى الأول بقوله: [فَذَاكَ مَا وَافَقَ لَفْظَ فِعْلِهِ] المفعول المطلق إما أن يعمل فيه فعلٌ موافق له في اللفظ والمعنى، أو في المعنى دون اللفظ، هذا وجه القسمة. لماذا قسمناه إلى قسمين؟ نقول: لأنه لا يخلو المفعول المطلق باعتبار العامل إما أن يتحدا في اللفظ والمعنى نحو: ضربت زيداً ضرباً، فضرباً مفعول مطلق والعامل فيه ضرب وقد وافقه في اللفظ والمعنى، هذا يسمى لفظياً. وإما أن يتحدا في المعنى دون اللفظ، نحو: قعدت جلوسا، وافقه في المعنى، لأن معنى الجلوس والقعود واحد، ولم يوافقه في الحروف، هذا يسمى معنويا، إذًا [لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيِّ] فهما قسمان لأن القسمة استقرائية إما أن يوافق المصدر عامله في اللفظ والمعنى معا فهو اللفظي، أو في المعنى دون اللفظ فهو المعنوي، ولا يمكن أن يوجد الثالث وهو أن يوافقه في اللفظ دون المعنى. [فَذَاكَ] الفاء فاء الفصيحة، وذاك أي الأول الذي هو اللفظي فالمشار إليه الأول، لذلك أتى بالكاف لأنه بعيد، [مَا] اسم موصول بمعنى الذي أي مصدرٌ منصوبٌ على المفعولية المطلقة [وَافَقَ] الضمير يعود للاسم الموصول أي المصدر [لَفْظَ فِعْلِهِ] الناصب له، ولو قال: عامله لكان أشمل؛ لأنه لا يشترط أن يكون موافقاً للفعل فحسب، بل موافقاً للفعل أو الوصف أو المصدر فهو أعم، [مَا وَافَقَ لَفْظَ فِعْلِهِ] في حروفه الأصول ومعناه، ولو خالفه في حركة عينه، نحو: فرِح زيدٌ فرَحاً،

ففرحاً مفعول مطلق وافق عامله فرِح في اللفظ والمعنى، لكن لم يوافقه في حركة العين، والمراد الموافقة في الحروف والمعنى. [كَزُرْتُهُ زِيَارَةً لِفَضْلِهِ] زرته فعل وفاعل، والضمير في محل نصب مفعول به، وزيارة مفعول مطلق لفظي، لكونه وافق عامله وهو زار في اللفظ أي في الحروف والمعنى، لفضله جار ومجرور متعلق بقوله زرته. وَذَا مُوَاِفقٌ لِمَعْنَاهُ بِلاَ وِفَاقِ لَفْظٍ كَفَرِحْتُ جَذَلاَ [وَذَا] المشار إليه النوع الثاني وهو المعنوي، لأن ذا اسم إشارة للقريب فلا يحتاج إلى حرف خطاب، وأما ذاك فهو للبعيد لأنه قال: لفظي ومعنوي وأشار للبعيد اللفظي بقوله ذاك، وللثاني المعنوي بقوله وذا. [مُوَاِفقٌ] أي مصدر منصوب على المفعولية المطلقة موافق [لِمَعْنَاهُ] يعني لمعنى عامله الناصب له، فالضمير يعود لقوله فعله، [بِِلاَ وِفَاقِ لَفْظٍ] وافقه في المعنى، لكن بلا أي بدون، وفاق أي موافقة لفظه في حروفه بل وافقه في المعنى فقط، [كَفَرِحْتُ جَذَلاَ] والجذل هو الفرح، فرحت جذلاً، جذلاً مفعول مطلق وهو مصدر، والناصب له فرح، وقد وافقه في المعنى دون الحروف، لذا سمي معنوياً لموافقته لعامله في المعنى دون الحروف. ومثله: قمت وقوفاً، فوقوفاً مفعول مطلق منصوب، والعامل فيه قمت والقيام والوقوف في المعنى واحد، لكنه خالفه في الحروف، ومثله: جلست قعودا.

المفعول المطلق عند النحاة ثلاثة أنواع:- الأول: المؤكد لعامله. نحو: ضربت زيدا ضربا، فضربا هذا مؤكد لعامله وضابطه أنه لم يتقيد بوصف ولا إضافة، إذا جاء المصدر هكذا ضرباً دون إضافة كضرب الأمير، أو وصف كضرباً شديداً، أو أل العهدية كالضرب، نقول: هذا مفعول مطلق مؤكد لعامله؛ لأنه ليس فيه أي زيادة على ما دل عليه العامل ضربت، لأن ضربت دل على وقوع الضرب، فحينئذٍ ضرباً أكَّد المصدر الذي دل عليه ضرب لذلك سمي مؤكداً. والثاني: المبين لنوعه. نحو: ضربت زيداً ضرباً شديداً، وصفه فبين نوع الضرب لأن ضربت يدل على الضرب، لكن لا يدل على الشدة والخفة والضعف ونحو ذلك، فإذا قال: ضربت زيداً ضرباً شديداً، فوصف المصدر المفعول المطلق بقوله شديدا، نقول: هذا مبين لنوع عامله، أو قال: ضربت زيداً ضرب الأمير، قيده بالإضافة فهذا مبين للنوع، أو قال: ضربت زيداً الضرب، أي المعهود الذي بيني وبينك، الشديد أو الضعيف. والثالث: المبين لعدده. نحو: ضربت زيداً ضربتين أو ضربات، لأن قولك ضربت لا يدل على عدد مرات وقوع الحدث، فإذا قلت ضربتين، حينئذٍ بين عدد مرات وقوع الحدث.

باب الظرف

بَابُ الظَّرْفِ لما فرغ من المصدر عقبه بقوله: بَابُ الظَّرْفِ لأن المصدر اسم للحدث، وثَمَّ مناسبة بين الظرف والحدث، لأنَّ كلَّ حدثٍ لا بُدَّ له من زمن، ولذلك الفعل يدل على شيئين: على حدث وزمن، لأنه لا يمكن أن يوجد حدثٌ لا في زمن، كذلك لا بد له من مكان؛ لأنه لا يتصور وقوع حدث لا في مكان، إذاً لما ذكر المصدر وهو الحدث ناسب أن يعقبه بالظرف لما بينهما من المناسبة وهو أن المصدر يحتاج لزمان ومكان يقع فيه. [بَابُ الظَّرْفِ] ويسمى المفعول فيه، لأن الزمن فُعِل فيه الحدث، تقول: صمت يومَ الخميس، فالصيام فُعِل في اليوم. والناظم ترجم بالظرف وأطلق، والمراد به الظرف المكاني والظرف الزماني لأنه سيأتي أنه قسمان. والظرف في اللغة: الوعاء يقال: الماء في الكوز، فالكوز وعاء للماء، واصطلاحا: ما سُلِّط عليه عاملٌ على معنى في، من اسم زمان أو اسم مكان مبهم. ما اسم موصول بمعنى الذي، وهو مبهم، وقوله: من اسم زمان أو اسم مكان مِن بيانية بيَّن المراد بما يعني اسمُ زمانٍ أو اسمُ مكانٍ سُلِّط عليه عامل على معنى في، ومعنى هذا أن بعض الألفاظ يحكم عليها بأنها اسم زمان، أي لفظ ٌ دال على زمن من إضافة الدال إلى المدلول كيوم ووقت، وشهر، ورمضان، هذه كلها تدل على

الزمن، ما سلط عليه أي على اسم الزمان أو المكان عاملٌ لكن على معنى في، وليس مطلقاً ليس كل عامل سلط على اسم زمان فهو ظرف، كما في قوله: (واتقوا يَوْمًا)) [البقرة:48] فيوماً ليس بظرف، لأن الظرف يكون منصوباً على معنى في، بمعنى أن اسم الزمان يلاحظ فيه معنى في الظرفية، بمعنى أن الحدث قد وقع في ذلك اليوم وصار اليوم كالوعاء له، تقول: صمت يوم الخميس، فيوم هذا ظرف لأنه سلط عليه عامل وهو صامَ فعلٌ ماضٍ على معنى في فالعلاقة بين صمت ويوم هي كون اليوم ظرفاً للصوم كما أن الكوز ظرف للماء، فاليوم ظرف للصوم وقد وقع الصوم فيه، أما لو صرح بفي خرج عن كونه ظرفا، لو قال: صمت في يوم الخميس، نقول: هذا جار ومجرور، ولا يسمى ظرفاً وإنما يسمى اسم زمان، إذاً ليس كل اسم زمانٍ يكون ظرفاً، وكل ظرف زماني هو اسم زمان، لأن شرط الظرف أن يكون منصوباً، وهذا قد جُرَّ، ثم قد جُرَّ بفي ظاهرةً والشرط في اسم الزمان أن يكون ملاحظ فيه معنى في، ولا تذكر أصالةً، ونحو: يومُ الجمعةِ يومٌ مبارك، يوم الجمعة مبتدأ، ويوم مبارك هذا خبر وصفته، ولا يعربان ظرفاً لأنهما مرفوعان والشرط في الظرف الزماني أن يكون منصوباً، وإذا نُصب أن يكون منصوباً على معنى في بمعنى أن الظرف قد صار محتوياً للعامل الذي عمل فيه، ولذلك قوله: (واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة:281] يوما مفعول به، والمعنى اتقوا ذاك اليوم فاليوم كله هو المتقى، إذاً لا يمكن أن يكون

منصوباً على معنى في فيعرب ظرفاً، لأن اسم الزمان وإن كان منصوباً في هذا التركيب إلا أن شرطه الاصطلاحي أن يكون ملاحظاً فيه معنى في. ولو قيل اتقوا يوما - يعني في يوم ٍ - لكان المأمور به أن يؤجل الإنسان التقوى من الدنيا إلى ذاك اليوم فلا تتقي هنا واجعل التقوى في ذلك اليوم وهذا معنى فاسد، ومثله قوله تعالى في الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [البقرة:184] لا يصح أن تكون أياما مفعولا لتتقون ولا ظرفا له؛ وإلا لفسد المعنى لأنك لو علقت أياماً معدودات بتتقون لصارت أيام الصيام هي المتقى! فالمعنى فاسد حينئذ فليست مفعولاً به لتتقون. وليست ظرفاً لأن التقوى مرادة في أيام الصيام وفي غير أيام الصيام، فلو جعلت ظرفاً أي لعلكم تتقون في أيامٍ معدودات، وما عداها افعل ما شئت. بل نقول: أياماً هذا قيل إنه منصوب بالمصدر وهو الصيام ((يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... أَيَّامًا) فأياماًً مفعول به للصيام، وجوَّز الصاوي وغيره أن يكون مفعولا به لعامل محذوف تقديره صوموا أياماً، والجملة حينئذ مستأنفة، أما تعلقها بتتقون فهذا لا وجه له. والحاصل: أن الظرف هو اسم زمانٍ أو اسم مكان سُلِّطَ عليه عاملٌ يعني عمل فيه عامل، لكن ليس على إطلاقه، وإنما على تقدير معنى في، فإذا صح ملاحظة معنى في وهو الظرفية - كون اسم الزمان أو اسم المكان محلاً وقع فيه الحدث حينئذٍ صح نصبه على أنه ظرف وإلا فلا، وليس كل اسم زمانٍ يكون ظرفاً، وقوله: من اسم

زمان أو اسم مكان مبهمٍ سيأتي شرحه. الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِي ... زَمَانِيًا مَكَانِيًَا بِذَا يَفِي [الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ] هذا حكم الظرف، فلا يكون مرفوعاً ولا يكون مجروراً، فإذا جاء اسم الزمان مرفوعًا، نحو: يومُ الجمعة يومٌ مبارك، فليس بظرف مع كونه اسم زمان، وإذا جاء مجروراً ولو بفي، نحو: صمت في يوم الخميس، فليس بظرف بل هو جار ومجرور، إذاً [الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ] خرج المرفوع والمجرور من اسمي الزمان والمكان فلا يعربان ظرفاً، [مَنْصُوبٌ] بالواقع فيه أي باللفظ الدال على المعنى الواقع في الظرف، وقد يكون فعلا نحو: صمتُ يومَ الخميس، لأن اسم الزمان له احتواء فيوم الخميس ظرف للصيام الذي دل عليه صمت، فهو العامل فيه. وقد يكون وصفا، نحو: أنا صائمٌ يومَ الخميس، فيومَ الخميس منصوب بالوصف وهو صائم. وقد يكون مصدرا، نحو: عجبت من صومك يومَ الخميس. إذاً الظرف ينصب بالفعل وبالوصف وبالمصدر، بشرط أن يكون معنى العامل واقعاً في الظرف، وأن يكون على معنى في فإذا لم يكن كذلك فلا. [مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِي] يعني على تقدير معنى في الدالة على الظرفية، أي يتضمن التركيب معناها وليس المراد أنك تأتي بلفظ في فتظهرها، بل المراد ملاحظة معنى في وهو الظرفية، هل الظرفية

ملاحظة في هذا التركيب أم لا؟ [عَلَى إِضْمَارِ فِي] إضمار بمعنى تقدير معنى في بأن يلاحظ معنى في وإن لم يصرح بلفظها. [زَمَانِيًا مَكَانِيًَا بِذَا يَفِي] يفي الظرف أي يتم بالتقسيم المذكور، وهو كون الظرف ينقسم إلى قسمين: الأول: ظرف زماني وهو الاسم الدال على زمان، من إضافة الدال إلى المدلول، وزمانيا ً- بالتخفيف للوزن - أي حالة كونه دالاً على الزمن. والثاني: ظرف مكاني، وهو الاسم الدال على المكان من إضافة الدال إلى المدلول، ومكانيا- بالتخفيف للوزن - أي حالة كونه دالاً على المكان. أَمَّا الزَّمَانِيُّ فَنَحْوُ مَا تَرَى ... اليَوْمَ وَاللَيْلَةَ ثُمَّ سَحَرَا وَغُدْوَةً وَبُكْرَةً ثُمَّ غَدَا ... حِينًَا وَوَقْتًَا أَمَدًا وَأَبَدَا وَعَتْمَةً مَسَاءً اوْ صَبَاحَا ... فَاسْتَعْمِلِ الفِكْرَ تَنَلْ نَجَاحَا ما يدل على الزمن كلها ألفاظ مسموعة من لغة العرب، فهي ألفاظ تحفظ ولا يقاس عليها، لذلك قال: [أَمَّا الزَّمَانِيُّ] أي الاسم المنسوب إلى الزمان، وهو اسم الزمان، [الزَّمَانِيُّ] مطلقا سواء كان مبهماً أو مختصاً، فكل اسم زمان يصح نصبه على الظرفية، واسم الزمان نوعان: الأول: مبهم، والثاني: مختص، فالمبهم كوقتٍ وحينٍ وزمنٍ فهذه لا تدل على زمن معين فليس لها أول ولا آخر، فهي اسم زمان مبهم. والمختص كساعةٍ وشهرٍ ورمضانٍ، وهذه أسماء

زمان معينة لها أول وآخر. والنوعان يصح أن يُنصبا على أنهما ظرفٌ زماني. وأما الظرف المكاني فما كان مبهماً كالجهات الست وأسماء المقادير كالفرسخ والميل والبريد ونحوها، صح نصبها على الظرفية، وما كان مختصاً كالمسجد ونحوه، لا يصح نصبها على الظرفية المكانية إلا ما سمع فيبقى على السماع كالشام ومكة. فلا ينصب من أسماء المكان إلا ما كان مبهماً، وسيذكرها الناظم. وأما اسم الزمان المختص وهو ما دل على مقدار معين معلوم الأول والآخر كأسماء الشهور، والصيف والشتاء وكل ما خص من الأزمنة بوصف، أو إضافة، أو دخول أل، وكذلك المعدود، ولو كان مثنى أو مجموعاً كيومين وأيام وأسبوع، فالمعدود من قبيل المختص، وكل ما استفيد منه أول وآخر فهو مختص، وكل مالم يستفد منه أول ولا آخر فهو مبهم. [أَمَّا الزَّمَانِيُّ] أما للتفصيل، [فَنَحْوُ مَا تَرَى] أي ما تعلمه مما سيأتي، أو ما تراه بعينيك [اليَوْمَ] اسم زمانٍ مختص، لأنه حلي بأل فلو قيل: يومٌ فهو مبهم لأنه وإن كان في نفسه أربعا وعشرين ساعة لكنه من أي الأيام؟ لا يُدرى، لكن لو قيل: صمت يوماً، صار مبهماً وإن قيل: صمت يوم الخميس أو اليوم، صار معيناً فهو مختص، [اليَوْمَ] وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، نحو: صمت اليوم أو يوم الخميس. [وَاللَيْلَةَ] أيضاً ظرف زمان، وهي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، نحو: اعتكفت الليلة. [ثُمَّ سَحَرَا] ثم للترتيب الذكري فقط، وسحرا الألف للإطلاق أو بدل

عن التنوين لأنه يَحكي الألفاظ منصوبة، فاليوم حكاها بالنصب على أنها ظرف زماني والليلة كذلك، والسحر اسم لآخر الليل، قد يكون مصروفاً، وقد يكون ممنوعاً من الصرف، يكون مصروفاً إذا لم يُرد به سحر يوم معين، نحو: جئتك سحراً بالتنوين لأنه نكرة، وأما جئتك يومَ الجمعةِ سحرَ، فحينئذٍ صار معيناً فيكون ممنوعاً من الصرف للعلمية والعدل عن السحر. [وَغُدْوَةً] أيضاً بالتنوين مع التنكير أي لا تختص بمعين، نحو: أزورك غدوةً لا تمنع من الصرف كضاربة، وتمنع من الصرف مع التعريف إذا أريد بها معين، نحو: أزورك غدوةَ بدون تنوين إذا أُريد غدوة يوم معين، ووقتها من دخول صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، هكذا قال النحاة. [وَبُكْرَةً] بالتنوين وتركه كغدوة، في كونها تمنع من الصرف مع التعريف، وتصرف مع التنكير، نحو: أزورك بكرةً، ووقتها أول النهار من الفجر. [ثُمَّ غَدَا] ثم للترتيب الذكري، وغداً بالتنوين دائما ينون مع عدم أل والإضافة، وهو اسم لليوم الذي بعد يومك، نحو: أزورك غداً، غداً ظرف منصوب على الظرفية الزمانية. [حِينًَا وَوَقْتًَا] أي وحينا على حذف حرف العطف، وحيناً اسم لزمانٍ مبهم، ووقتاً مثل حين اسم لزمان مبهم. إذاً مثَّل لك لاسم الزمان المختص والمبهم، فالمختص كاليوم بأل، والليلة وسحر إذا أريد به معين وغدوةً وبكرةً وغداً هذه كلها اسم زمان مختص يعني يدل على قدر معين له أول وآخر، وحيناً ووقتاً وأبداً وأمداً هذه غير مختصة لا أول لها ولا آخر. تقول: أزورك

حيناً أو وقتاً. [أَمَدًا وَأَبَدَا] المراد بهما الزمان المستقبل، فهما بمعنى واحد، وأبداً المشهور أنها للزمان المستقبل الذي لا غاية لمنتهاه، نحو: لا أزورك أبداً، أي أبد الآبدين، كذلك أمداً أي أمد الدهر. [وَعَتْمَةً] وهي اسم لثلث الليل الأول، ومبدؤها مغيب الشفق ومنتهاها ثلث الليل، نحو: أزورك عتمة أو عتمة ليلة كذا، بالإضافة أو بالإطلاق. [مَسَاءً] بالمد أي بالهمزة، ويطلق في اللغة من الزوال إلى آخر النهار هذا هو المشهور أنه آخر النهار، نحو: آتيك مساءاً أو مساء كذا. [اوْ صَبَاحَا] وهو أول النهار من الفجر إلى الزوال، [فَاسْتَعْمِلِ الفِكْرَ تَنَلْ نَجَاحَا] بعد أن ذكر لك من أسماء الزمان التي تنصب على أنها ظرف زمان قال: فاستعمل الفكر يعني أعمل الفكر والمراد به النظر، وليس هو الفكر بمعنى حركة النفس في المعقولات، يطلق الفكر بمعنى النظر وهو الفكر المؤدي إلى علم أو ظن. فاستعمل الفكر استعمل فعل أمر مبني على السكون المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، والفكر مفعول به، تنل فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الطلب، ونجاحاً أي فلاحاً مفعول به لتنل. فاستعمل الفكر تنل نجاحاً هذا شأن كل العلم لابد من الفكر، ولابد من النظر، ولابد له من الصبر. ثُمَّ المَكَانِيُّ مِثُالُهُ اذْكُرَا ... أَمَامَ قُدَّامَ وَخَلْفَ وَوَرَا وَفَوْقَ تَحْتَ عِنْدَ مَعْ إِزَاءَا ... تِلْقَاءَ ثَمَّ وَهُنَا حِذَاءَا

بعد أن ذكر لك الظرف الزماني قال: [ثُمَّ المَكَانِيُّ] ثم للترتيب الذكري، والمكاني أي الاسم المكاني وهو الدال على مكانٍ، ولا يكون إلا مبهماً. أما المختص فلا يصح نصبه على الظرفية، وإنما يجر بفي هذا هو الأفصح، ونحو: دخلت الشام، مختلف في توجيهه، والمبهم هو الذي ليس له صورة ولا حدود محصورة، كقُدَّام وأمام وخلف ليس له حدود، [مِثُالُهُ] أي مثال المكاني وهو جزئي يذكر لإيضاح القاعدة فقط، [اذْكُرَا] الألف للإطلاق، أو أنها بدل عن نون التوكيد الخفيفة، [أَمَامَ قُدَّامَ] أي وقدام على حذف حرف العطف، وهاتان اللفظتان بمعنى واحد، فمعناهما متحد ولفظهما مختلف، فأمام بمعنى قدام، وقدام بمعنى أمام، اسم للجهة التي تكون أمام الشخص، تقول: جلست أمام المعلم، أي قُدَّامه وهذه مبهمة وليست مختصة لأن أمام يصدق على كل شيء أمام المعلم، [وَخَلْفَ] ضِدُّ قدام، اسم للجهة التي تكون وراء الشخص، نحو: جلست خلفك أي في المكان الذي خلفك، [وَوَرَا] وراء بالمد، وقصره للضرورة، وهو مرادف لخلف، نحو: جلست وراءك أي في الجهة التي تكون ضد الأمام، [وَفَوْقَ] اسم للمكان العالي، نحو: جلست فوق المنبر، أي في مكان هو فوق المنبر، و [تَحْتَ] ضد فوق اسم للمكان الأسفل، و [عِنْدَ] اسم لما قرب من المكان، تقول: جلست عند زيد، أي في مكان قريب منه، وعند هذه قد تكون ظرف زمان، وقد تكون ظرف مكان بحسب ما تضاف إليه، تقول: جئتك عند صلاة العصر، أي عند وقت صلاة العصر، وجلست

عند بيتك أي في المكان الذي هو قريب من بيتك، و [مَعْ] بالسكون وهي لغة فيها والأصل فيها معَ، فهما لغتان، [مَعْ] ظرف وهي منصوبة على الظرفية وتكون بالفتحة، وقد تسكن لغة وليست بحرف حينئذٍ، وقيل: بحرفيتها لكن الصواب أنها اسمٌ وهو قول سيبويه لذلك قال ابن مالك: وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ وَنُقِلْ ... فَتْحٌ وَكَسْرٌ لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ ... وهي اسم لمكان الاجتماع في المكان أو الزمان، يحتمل هذا ويحتمل ذاك بحسب ما تضاف إليه، نحو: جلست مع زيدٍ أي مصاحب له إما في المكان وإما في الزمان. و [إِزَاءَا] أي مقابل، تقول: جلست إزاء زيدٍ أي مقابله، و [تِلْقَاءَ] مرادف لإزاء في المعنى، و [ثَمَّ] بفتح الثاء لا بضمها فإذا ضمت فهي حرف عطف، وإذا فتحت فهي اسم إشارة للمكان البعيد، نحو: جلست ثمَّ، أي هناك. ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ) (الإنسان: من الآية20). [وَهُنَا] بضم الهاء وفتح النون مع التخفيف، اسم إشارة يشار به إلى المكان القريب، نحو: جلست هنا، أي في المكان القريب، [حِذَاءَا] بالمد بمعنى تلقاء، نحو: جلست حذاء زيد أي قريبًا منه. والحاصل: أن الظرف نوعان: ظرف زماني، وظرف مكاني، وكل اسم زمان سواء كان مبهماً أو مختصاً يصح نصبه على أنه ظرف زمان، وأما اسم المكان فلا ينصب على الظرفية إلا ما كان مبهماً. ويشترط أن يسلط العامل على اسم الزمان أو المكان ملاحظاً فيه معنى في.

باب الحال

بَابُ الحَالِ أي هذا باب بيان حقيقة الحال، والحال أصلها حَوَلٌ على وزن فَعَلٍ مثل بوب تحركت الواو وفتح ما قبلها فقلبت الواو ألفا، فالألف منقلبة عن واو، والدليل على أن هذه الألف منقلبة عن واو أنها تجمع على أحوال، وتُصَغَّر على حُويلة, فهذه الواو هي الأصل في لفظ حال، لأن الجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها، ولذلك الكلمة إذا كانت على ثلاثة أحرف فيها ألف، فاقطع بأن الألف منقلبة عن واو أو ياء؛ لأنهم أجمعوا على أن الألف لا تكون أصلاً في الثلاثي، وإنما تكون زائدةً فيما زاد على ثلاثة أحرف, لأنه كما سبق أن أقل ما يوضع عليه الاسم هو ثلاثة أحرف، وأقل ما يوضع عليه الفعل ثلاثة أحرف. فحينئذٍ الفعل قال مثلا تقطع بأن الألف فيه ليست أصلاً بذاتها لأنه ثُلاثي، فلو حكمنا عليها بالزيادة لصار الفعل قال مُرَكَّبا من حرفين، حينئذٍ نقطع بأن هذه الألف منقلبة إما عن واو أو عن ياء، وأصل قال قَوَل تحركت الواو وفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وباع أصله بيَع تحركت الياء وفتح ما قبلها فقلبت ألفا. والذي يُبين ويميز لك أن الألف منقلبة عن واو أو ياء هو تصريف الكلمة، فتأتي بالفعل المضارع باع يبيع، فالعين هي الياء يَفْعِل يَبْيِع، وأيضا المصدر البيع. قال يَقُولُ أصلها يَقْوُل يَفْعُل فالعين واو في قال, حينئذٍ نحكم بأن الألف منقلبة عن واو. والحاصل أن قوله: الحال، هذه الألف منقلبة عن واو، بدليل جمعها

على أحوال ويصغر على حويلة, ومعلوم أن الجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها, وكذلك سائر المشتقات، فالقول مصدر يدل على أن العين واو, كذلك البيع مصدر يدل على أن العين ياء. والحال من جهة اللفظ يُذكر ويؤنث، يُقال: حالٌ وحالةٌ، قال الشاعر: إِذَا أَعْجَبَتْكَ الدَّهْرَ حَالٌ مِنِ امْرِئٍ ... فَدَعْهُ وَوَاكِلْ أَمْرَهُ وَالَّليَالِيَا وقال: عَلى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي القَوْمِ حَاتِمًا ... عَلَى جُودِهِ ضَنَّتْ بِهِ نَفْسُ حَاتِمِ وحالٌ يجوز فيه التذكير والتأنيث من جهة الوصف والضمير والإشارة، فيقالُ: حالٌ حسنٌ, وحال حسنة، ولذلك يقال في التصغير: حويلةٌ بالتاء لأنه مؤنث تأنيثاً معنوياً بدون تاء، هذا حالٌ حسن وهذه حالٌ حسنةٌ, وتحسنت حالُ المريض. والحال لغة: ما عليه الإنسان من خير أو شر. وأما في الاصطلاح فذكره الناظم هنا تبعاً للأصل بقوله: الحَالُ لِلهَيْئَاتِ أَيْ لِمَا انْبَهَمْ ... مِنْهَا مُفَسِّرٌ وَنَصْبُهُ انْحَتَمْ وقال في الأصل الاسم المنصوب المفسِّر لما انبهم من الهيئات. قوله: الاسم أخرج الفعل والحرف، فالحال لا تكون فعلاً ولا حرفاً. فحينئذٍ يرِدُ السؤال كيف نقول الحال لا تكون فعلاً وقد تقول: جاء زيدٌ يضحك, ويضحك الجملة في محل نصب حال؟ الجواب: أنَّ كلَّ ما جاء من الجمل في محل نصب حال فهو مؤولٌ

بالمفرد. فجاء زيدٌ يضحكُ أي جاء زيدٌ ضاحكاً، تؤوله بالمفرد، فهو الأصل فيه كالخبر الأصل فيه أن يكون مفرداً، فإذا جاء جملةً فحينئذٍ لا بد من تأويله بمفرد، إذاً رجع إلى أصله وهو المفرد. كذلك الحال إذا جاءت جملةً سواء كانت جملة اسمية أو فعلية نقول نرده إلى الأصل وهو المفرد. قوله: المنصوبُ هذا بيان لحكمه، أدخله في الحد, ولكن عندهم القاعدة أنه لا يجوز في الحدود إدخال الأحكام، قال في السلم: وَعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ المَرْدُودِ ... أَنْ تَدْخُلَ الأَحْكَامُ فِي الحُدُودِ فيقال الحال: هو الاسم المفسر لما انبهم من الهيئات، وحكمه النصب. ولا تقول: هو الاسم المنصوب فتدخل الحكم وهو النصب في الحد؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره وإنما يذكر الحد للكشف والإيضاح، يبيَّن أولاً حقيقة الحال, وتحكم على الكلمة بأنها حال، ثم بعد ذلك تحكم بأنه منصوب، إذاً الاسم المنصوب أخرج المرفوع فلا تكون الحال مرفوعةً أبداً، وأخرج المجرور فلا تكون الحال مجرورة أبداً، إلا في نحو: جاء زيدٌ مبكراً, تقول: جاء زيدٌ بمبكرٍٍ قد يجوز دخول حرف الجر وهو الباء في مثل هذا التركيب على الحال، فحينئذٍ تكون الحركة مقدرة، ولا يكون مجرورا من جهة المعنى وإنما هو مجرور من جهة اللفظ فحسب، لأن حرف الجر الزائد لا يؤثر في المعنى لأنه ما جيء به من أجل إثبات معناه وإنما جيء به تأكيدًا فقط.

حينئذ بمبكرٍ نقول: الباء حرف جر زائد، ومبكرٍ حالٌ منصوبة، ونصبهُ فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. كما قيل في قوله تعالى: (هَلْمِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ (3))) [فاطر:3] مِن حرف جر زائد، وخالقٍ مبتدأ مرفوع بالابتداء ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. إذًا حرف الجر هنا لم يؤثر في المعنى، لأنه إنما جيء به للتأكيد فحسب، ولم يؤت به لإفادة معناه الذي وضع له في لغة العرب. قوله: المفسِّر لما انبهم أي الموضِّح والكاشف لما انبهم من الانبهام وهو الخفاء والاستتار، من الهيئات جمع هيئة وهي الصفة. يعني مجيء الحال تأتي كاشفةً ومفسرةً وموضحةً ومبينةً لا لذاتِ موصوفها وإنما لهيئة موصوفها، فحينئذٍ يكونُ الموصوف الذي هو صاحب الحال معلوم الذات إلاَّ أنه مجهول الصفة، فيقال مثلاً: جاء زيدٌ، تعرف زيدًا، ولكنَّ المجيء يختلف وله أحوال وصفات، فزيدٌ أحدث المجيء، فقد علمت بأن زيداً أوجد المجيء، لكن على أيِّ صفة؟ هل المجيء يكون بصفةٍ واحدة أم متعدد الصفات؟ لا شك أنه متعدد الصفات، فحينئذٍ قوله: جاء زيدٌ فيه إيضاح، وفيه خفاء، فالإيضاح من جهة إسناد المجيء إلى زيد، وكون الحدث هو مجيئه وهذا واضح مأخوذ من اللفظ، وكون الذي أحدث الحدث هو زيد وهو فاعل، وزيدٌ معلومٌ عندنا، فهذا كله واضح. لكن لو قيل

لك كيف جاء زيد؟ هل جاء ماشياً؟ هل جاء طائراً؟ هل جاء راكباً؟ هل جاء يحبو حبواً؟ هذا كله محتمل، فحينئذٍ تأتي بالحالِ كاشفةً وموضحةً لا لذاتِ الفاعل وإنما للصفة التي اتصف بها الفاعل التي دل عليها عاملها، لأن العامل يتضمَّنُ صفة وهي المجيء، فهو صفة في المعنى، والمجيء متعدد وله صفات وهيئات حينئذٍ يرد الإشكال والخفاء والاستتار، كيف جاء زيد؟ تقول: راكباً إذاً راكبًا هذا حال: اسم منصوبٌ مفسرٌ لما انبهم وخفي واستتر من هيئة وصفة مجيء زيد وأمَّا زيد فهو معلوم. ولذلك كما سيأتي أن الحال قد تكشف وتُفسِرُ الفاعل, وقد تفسرُ المفعول به وقد تُفسرهما معاً. وابن هشام رحمه الله عرَّف الحال بقوله: وصفٌ فضلةٌ يقعُ في جواب كيف. قوله: وصفٌ، هذا أولى من أن يُقال الحال: الاسم، لأن الاسم قد يكون جامداً وقد يكون مشتقاً، والحال الأصل فيها أن تكون مشتقة، فإذا قيل الحال: هي الاسم شمل الجامد والمشتق، وإذا قيل: وصفٌ فهو أخصُّ وأدق. والمراد بالوصف هنا ما ذكرناه سابقاً في باب النعت وهو ما دل على ذاتٍ وحدث، فكل لفظٍ في لغة العرب دل على ذات موصوفةٍ بمعنىً فهي صفةٌ أو قل مشتقة، وهنا يراد به خمسة أشياء: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل، وأمثلة المبالغة؛ لأن قوله مثلاً جاء زيدٌ راكباً، فراكباً اسم فاعل يدل على ذات زيدٍ وأنه متصف بالركوب، والركوب نوعٌ من أنواع المجيء

لكنه أخص منه. فجاء فعل ماضٍ، وزيدٌ فاعل، وراكباً يدل على زيدٍ لأنه اسم فاعل، واسم الفاعل يدل على ذاتٍ لكنها مبهمة، وزيدٌ يدل على ذاتٍ لكنها معلومة؛ لأنه علَمُ شخص، فحينئذٍ يكون في هذا التركيب قد كرر زيد مرتين، مرةً بالإفصاح باسمه، ومرةً بالكناية عنه، ولكن لماَّ كان المراد في راكباً الوصف لم يراع فيه إبهام الذات يعني لم يلتفت إلى كون الذات مبهمة. وفي الأغلب كونُ الحالِ مشتقةً بأن تكون واحدًا من الأمور الخمسة التي ذكرناها. ومن غير الأغلب ألاَّ تكون الحال مشتقة كما سيأتي بيانه. إذاًً الحالُ وصفٌ يعني مشتقة دالةٌ على ذاتٍ وحدث. قوله: فضلةٌ خرج به الخبر نحو: زيدٌ ضاحكٌ، فضاحكٌ مشتق مبين للهيئة فهو عمدة لا فضلة، ولأن الحال منصوبة، والنصب للفضلات، والرفع للعمد، هكذا القسمة. الرفعُ يكون للعمد كالمبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل، والنصب يكون للفضلات، والمراد بالفضلة: قيل ما يُستغنى عنه، وأُورد على هذا الحدِّ بأن الحال فضلة, والفضلة ما يستغنى عنه فأُوردَ عليهم قوله تعالى ((وَلَاتَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا (37))) [الإسراء:37] قالوا مرحاً هذا حال، ولا يمكن الاستغناء عنه، بخلاف جاء زيدٌ راكباً, فراكباً إذا لم يكن المقصود من الكلام هو راكباً فحينئذٍ لا بأس من حذفه. لكن إذا علم مجيء زيد أولاً ثم كان المقصود من الكلام راكباً وليس المقصود هو جاء زيد فحينئذٍ يتعين ذكر الفضلة هنا ولا يجوز حذفها.

على كلٍّ أُورِدَ على كونها فضلة بأنه ما يستغنى عنه قوله تعالى: ((وَلَاتَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا (37))) [الإسراء:37] وقوله: ((وَلَاتَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60))) [البقرة:60])) قالوا: لو أسقط مرحاً - في غير القرآن - فسد الكلام من جهة المعنى، لأنه إذا قيل: (وَلَاتَمْشِ فِي الْأَرْضِ) صار النهي عامًّا فيقتضي عدم المشي في الأرض مطلقاً مع أن المقصود بمرحاً هو تقييد المنهي عنه، وهو بعض المشي لا كل المشي، فحينئذٍ لو قال: لا تمشِ، لا تأتِ راكباً ثم حذفت راكباً، فقلت: لا تأتِ، يعني لا تأتِ مطلقاً، ولو قلت: لا تأتِ راكباً كان النهي مقيداً بصفة معينة وما عداها فهو على الأصل. فإذا قيل الفضلة ما يستغنى عنه فبعض أنواع الحال لا يجوز الاستغناء عنها فيفسد المعنى بحذفها. فحينئذٍ نقول الأصح أن يفسَّر الفضلة بأنه: ما ليس بعمدةٍ. فحينئذٍ خرج المبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل؛ لأن العُمَد محصورة في هذه الأربعة، وما عداها يعتبر من الزوائد، لكن ليس أن ما كان من الزوائد يستغنى عنه، ليس هذا المراد، بل المراد أن الكلام لابد فيه من إسناد، والإسناد يقتضي مسنداً ومسنداً إليه. والمسند والمسند إليه محصورٌ في أربعة لا خامس لها المبتدأ والخبر والفعل وفاعله أو نائبه. والحاصل: أن المراد بالفضلة هنا وفي غيرها مطلقاً حتى في المجرورات والظروف، ما ليس بعمدةٍ ولا نُفسِّره بما يستغنى عنه،

بل بحث بعضهم في المنصوبات والمجرورات هل هي داخلة في جزء الكلام أو لا؟ والصبان في حاشيته على الأشموني رجَّح أنه إذا توقفت الإفادة عليه كان جزءاً في الكلام؛ وإلا فلا. وهذا مخالف لما عليه جماهير النحاة أن الحكم على المخفوضات والمنصوبات بأنها من الفضلات مطلقاً ليست داخلة في أجزاء الكلام. قوله: يقع في جواب كيف، لأن كيف يُسأل بها عن الحال كما قال الحريري في الملحة: ثُمَّ يُرَى عِنْدَ اعْتِبَارِ مَنْ عَقَلْ ... جَوَابَ كَيْفَ فِي سُؤَالِ مَنْ سَأَلْ كقوله: جاء زيدٌ ,كيف جاء؟ تقول: راكبا إذاً صلُح أن يكون جواباً لكيف. فكل ما صلح من المنصوبات أن يقع جواباً لكيف فهو حال. إذاً الحالُ لابد أن تتوفر فيه ثلاثةُ أشياء:- أولاً: أن يكون وصفاً أي مشتقاً وهذا هو الغالب فيه، فإذا جاء جامداً حينئذٍ يؤول بالمشتق، نحو قولك: بِعْهُ مداًّ أي بِعْهُ مُسَعَّراً، ومسعَّرًا اسم مفعول، فمُدًّا حال وهو دال على السِّعْر، وهو جامد، ولذلك قالوا ويكثر الجمود في سِعْرٍ. فكل ما دل على سعر وانتصب على أنه حال نحكم عليه بأنه جامد ولا يتخلف شرطُ الوصفية لأن الجامد حينئذٍ يؤول بالمشتق. ثانيا: أن يكون فضلة.

ثالثا: أن يقع في جواب كيف. هذه ثلاثة أمور كلها مطردة: وصفٌ فضلةٌ يقعُ في جواب كيف. زاد الناظم هنا: مُفَسِّرٌ لما انبهم من الهيئات، هذا تزيده على ما ذكره ابن هشام. قال رحمه الله: [الحَالُ لِلهَيْئَاتِ أَيْ لِمَا انْبَهَمْ مِنْهَا مُفَسِّرٌ] أي الحال مفسِّرٌ للهيئات، فالحال مبتدأ ومفسرٌ خبره، وللهيئات جار ومجرور متعلق بقوله: مفسرٌ، وقوله: [لِلهَيْئَاتِ] جمعُ هيئةٍ، وهي الصورةُ المحسوسة أو غير المحسوسة مطلقاً يعني الصفة اللاحقة للذوات، قلنا: جاء زيدٌ، زيد متصف بالمجيء، فقد وصفته بالمجيء في المعنى، لأن كلَّ فعلٍ ماضياً كان أو مضارعاً أو أمراً هو في المعنى صفة، فإذا قلت: جاء زيد كأنك قلت: زيدٌ جاءٍ، وجاءٍ اسم فاعل، وضَرَبَ زيدٌ أي زيدٌ ضاربٌ، وقام عمروٌ أي عمروٌ قائمٌ وهكذا، فالأفعال كلها في المعنى صفات. فحينئذٍ نقول: الحال للهيئات يعني تأتي مبيِّنة ومفسِّرة للصفات اللاحقة للذوات لا للذوات، ليتميز وينفصل الحال عن التمييز؛ لأن الحال يميز ويكشف ويفسِّر الهيئة والصفة وأما الذات فهي معلومة. والتمييز لكشف الذات، فالذات هي التي تكون مجهولة، ففرقٌ بينهما. [الحَالُ لِلهَيْئَاتِ] جمع هيئةٍ سواءً كانت صورة محسوسة أو غير محسوسة، كجاء زيدٌ راكباً، فالركوب محسوس، وتكلم زيدٌ صادقاً، فالصدق غير محسوس، لأنه يتكلم فلا تدري صدقه من كذبه. ثم قال: [أَيْ لِمَا انْبَهَمْ مِنْهَا] أي تفسيرية، حرف تفسير مبني

على السكون لا محل له من الإعراب. [لِمَا انْبَهَمْ] ما بعد أَيْ يُعرب بدلاً مما قبلها على الأصح وهو مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين أنَّ أَيْ التفسيريةَ حرفُ عطف، تقول: اشتريت عسجداً أي ذهباً. فالعسجد قد يُشْكِل معناه على السامع فيحتاج إلى تفسير فيقول: أي ذهباً فأي تفسيرية، وفي الغالب يفسر بها المفردات، وقلة تأتي لتفسير الجمل. وغالب أرباب الحواشي يأتون بأي في المفردات وبيعني إذا أرادوا كشف المعنى العام، فيقولون: يعني كذا إذا أراد أن يأتي بالمعنى العام. وما بعد أي المشهور أنه بدل مما قبله, بدل كل من كل. فاشتريت عسجدا أي ذهباً، والعسجد هو عينه الذهب، وعند الكوفيين أي مثل واو العطف، فحينئذٍ أي تكون عندهم حرف عطف أُريد بها التفسير، وعسجداً معطوف على ذهباً، والمعطوف على المنصوب منصوب. [لِمَا انْبَهَمْ مِنْهَا] أي لما خفي واستتر منها أي من الهيئات. [مُفَسِّرٌ] خبرٌ للمبتدأ، وهذا أحسن، ويحتمل النصب على أنه حال من المبتدأ والخبر محذوف. [وَنَصْبُهُ انْحَتَمْ] بعد أن عرَّف لك الحال، بيَّن لك حكمه، وانحتم نصبه أي تعيَّن نصبه. ولو قال، نصبُهُ حُتِم لكان أحسن، لأن باب انفعل لا يأتي في مثل هذا بل هو خاص بالعلاجيات الحسية، قال النيساري: وَاخْتُصَّ بِالعِلاَجِ فَهْوَ انْصَرَمَا ... مِنْ أَجْلِ ذَاكَ خَطَّؤُوا مُنْعَدِمَا

فلا يقال: انعدم ومنعدم، [وَنَصْبُهُ] أي نصب الحال بالفعل أو شِبهه؛ لأن العامل قد يكون فعلاً كجاء زيدٌ راكباً، جاء فعلٌ ماض، وزيدٌ فاعل وهو صاحبُ الحال، وراكباً حالٌ من زيد منصوب، والعامل فيه هو العامل في صاحب الحال وهو الفعل جاء، وصاحب الحال هو الذي جاءت الحال منه وهو الفاعل هنا. وقد يكون وصفا نحو: أنا ضاربٌ زيداً مكتوفاً، فأنا ضاربٌ مبتدأ وخبر، وزيداً مفعول به لضارب، ومكتوفاً حال، والعامل فيه الوصف ضارب. [انْحَتَمْ] يعني حُتِم، وهذا أمرٌ لازم، لأنه صفة لازمة للحال، الحال لا يكون إلا منصوباً لأنه فضلة، والنصب إعراب الفضلات، ولا يخرج أبداً عن النصب إلاَّ إذا جر بحرف جر زائد فحينئذٍ تكون الفتحة مقدره على آخره كما سبق بيانه، نحو: جئتُ بمبكرٍ. والأصل مبكراً. كَجَاءَ زَيدٌ ... ضَاحِكًا ... مُبْتَهِجَا ... وَبَاعَ عَمْرٌو الحِصَانَ مُسْرَجَا وَإِنَّنِي لَقِيْتُ عَمْرًا رَائِدَا ... فَعِ المِثَالَ وَاعْرِفِ ... المَقَاصِدَا تجيء الحال من الفاعل وحده، وتجيء من المفعول به وحده، وقد تجيء محتملة لواحدٍٍ منهما، وقد تجيء لهما. تقول: جاء زيدٌ ضاحكاً، جاء فعل ماضٍ، وزيدٌ فاعل، وضاحكاً حالٌ من الفاعل، نصاً بمعنى أنه لا يحتمل غير الفاعل لأنه ليس عندنا إلاَّ الفاعل.

وقد يأتي من المفعول به وحده، تقول: باع عمروٌ الحصان مسرَجَا، فمسرَجَا حالٌ من المفعول به نصا بمعنى أنه لا يحتمل غير المفعول به. وضربتُ الِّلص مكتوفاً، ضربتُ فعل وفاعل، واللص مفعول به، ومكتوفا حال من المفعول به نصًا، لا يحتمل غير المفعول به لأنك إذا قلت يحتمل معناه أنك ضربته وأنت المكتوف، وهذا لا يتأتى وإنما اللص هو الذي يكون مكتوفاً. لأنه مضروب وأنت الضارب فلو كان محتملاً من الفاعل لكان المعنى ضربته وأنت مكتوف وهو مطلق اليدين. ويحتمل منهما كقولك: لقيتُ عمراً راكباً، لقيتُ فعل وفاعل، وعمراً مفعول به، وراكباً حال ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعلِ وهو الضمير المتصل في لقيتُ أي وأنا الذي كنتُ راكباً وهو ماشٍ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول به لقيت عمراً راكباً هو الذي يكون راكباً. إذًا هو محتملٌ لهما. ولو قال: لقيت عمراً راكبين، صار نصاَّ فيهما. والحاصل: الحال يأتي من الفاعل نصًّا لا يحتملُ غيره، ويأتي من المفعول به نصًّا لا يحتمل غيره، ويأتي محتملاً لكونه من الفاعل أو من المفعول، وتُرجِّح واحدًا منهما والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد. ونحو: لقيتُ عمراً راكبين، ثنى بدلاً من أن يقال: راكباً وراكباً فتكرر الحال، فيقال: راكبين، حينئذٍ تكون نصًّا في الفاعل والمفعول به معًا.

[كَجَاءَ زَيدٌ ضَاحِكًا مُبْتَهِجَا] ضاحكاً حال من الفاعل نصََّا، ومبتهجًا حالٌ بعد حال، وتَعَدُّدُ الحالِ جائزٌ، وهذه حالٌ بعد حال، ومبتهجاً أي فرحاً. [وَبَاعَ عَمْرٌو الحِصَانَ مُسْرَجَا] مسرجاً حال من المفعول به نصاً، وهو الحصان. [وَإِنَّنِي لَقِيْتُ عَمْرًا رَائِدَا] رائداً حال محتملة لأن تكون من الفاعل أو من المفعول، يحتمل من الفاعل أي أنا الذي كنت أطلب الكلأ، ويحتمل أنه عمرو، والرائد كما قال في المختار هو من يُرْسَل في طلب الكلأ. [فَعِ المِثَالَ وَاعْرِفِ المَقَاصِدَا] فعِ فعل أمر من وعا يعي عِه بهاء السكت وقفًا، وقوله: فعِ المثال ليست في الوقف حتى نحتاج إلى هاء السكت، وهذا الفعل يُسَمَّى لفيفًا مفروقًا، إذا وقعت الفاء واللام حرفي علة سمي لفيفاً، وإذا فُرِق بينهما بحرف سُمِّي مفروقاً، وإذا اتصل حرفا العلة الفاء والعين سمي مقرونا، ووَعَى فعل ماض، ومضارعه يَعِي أصله يَوْعِي وقعت الواو بين عدوتيها فأسقطاها، فصار يعي، والأمر منه بإسقاط حرف المضارعة فصار عِي والأمر يبنى على ما يجزم به مضارعه، فحذفت الياء للبناء، فصار عِِ على حرف واحد عينٌ فقطْ مكسورةٌ وحينئذٍ في الوقف يجب الإتيان بهاء السكت، فيقال: عِهْ، وهنا قال: [فَعِ المِثَالَ] لأنه لما وُصِلتْ ولم يوقف عليها لم يحتج إلى هاء السكت. ووعى الحديث يعيه وعياً حفظه، إذاً [فَعِ المِثَالَ] بمعنى احفظ المثال المذكور السابق فهو جزئيٌّ يُذكر لإيضاح القاعدة، والمثال يخالف الشاهد عند النحاة، فالشاهد هو جزئيٌّ يُذكر لإثبات القاعدة، والمثالُ هو جزئيٌّ

يذكر لإيضاح القاعدة. [وَاعْرِفِ المَقَاصِدَا] أي اعلم وتعلَّم المقاصد جمع مَقْصَد، وقصد بمعنى إتيان الشيء، وبابه ضرب، ويقال: قصد له وإليه وقَصَدَ قَصْدَه أي نحا نحوه. إذًا [وَاعْرِفِ المَقَاصِدَا] اعرف ما تَنْحَى نحوَه، قال بعضهم: إِنَّمَا النَّحْوُ قِيَاسٌ يُتَّبَعْ ... وَبِهِ فِي كُلِّ عِلْمٍ يُنْتَفَعْ إنما النحو قياس يتبع، لأن النحو من حفظ فيه مثالا في الإعراب مثلا قاس عليه كلَّ ما يأتيه، تحفظ مثالا في إعراب الحال أو الفعل الماضي أو المضارع المجزوم أو المضارع المنصوب بلن أو بأن وقس عليه ما يأتيك بعده. لكن الطلاب يستصعبون الإعراب، يظنون أنه يأتي بالفتوحات هكذا، بل لا بُدَّ أوَّلاً من الحفظ، فتحفظ مثالا جاء فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، ثم تسأل لِمَ بُنيَ؟ وتجيب: لأن الأصل في الأفعال البناء، ولِمَ حُرِّك والأصل في المبني أن يُسكَّن؟ وتجيب: لأنه أشبه الاسم أو الفعل في وقوعه صفةًً وصلةًً وحالاً وخبراً، ولِمَ كانت الحركة فتحة؟ وتجيب: للخفة، وما المراد بقولهم: لا محل له من الإعراب؟ وتجيب: يعني لا يقع مبتدأ ولا خبرًا ولا فاعلا ولا مفعولا ولا في محالٍّ غيرها. فكل فعل ماض تذكر فيه هذه المسائل. إذاًً تحفظ مرة واحدة وتَقِيس عليه كل ما يأتيك. وكذلك الفاعل فتقول: زيدٌ فاعلٌ مرفوع بجاء ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وعمروٌ وخالدٌ وبكرٌ قِس عليه. ثم قال:

وَكَونُهُ نَكِرَةً يَا صَاحِ ... وَفَضْلَةً يَجِيءُ بِاتِّضَاحِ يُشترَط في الحال أن تكون نكرة، كما اشتُرِط فيها أن تكون وصفًا فضلة صالحةً للوقوع في جواب كيف. [وَكَونُهُ] أي الحال، ولم يقل وكونها؛ لأنه يجوز أن يراعى اللفظ فيذكر الضمير، وأن يراعى المعنى فيؤنث، فيصح الوجهان. وقوله: يا صاح مر ذكره. [نَكِرَةً] أي واشترط أن تكون الحال نكرة قيل: لأن الحال لو كانت معرفة لتُوهِمَ أنها نعت. والأصح أن يقال في التعليل اشتُرط تنكير الحال لكون النكرة هي الأصل، وإنما جيء بالحال للدلالة على هيئة صاحبها، فإذا حصلت الدلالة على الهيئة بالنكرة، فحينئذٍ صار العدول إلى المعرفة التي فيها زيادة على النكرة من باب الحشو والعبث؛ لأن المعرفة إنما تكون معرفة بزيادة على النكرة، فالمعرفة فرع النكرة، والنكرة هي الأصل، بدليل أنها لا تحتاج إلى علامة. والمعرفة هي الفرع بدليل أنها تحتاج إلى علامة، وما لا يحتاج أصلٌ لما يحتاج. فحينئذٍ قالوا: إذا أُدِّيَ المرادُ بالنكرة في كشف هيئة صاحب الحال، صار العدول إلى ما فيه زيادة من باب الحشو، فإذا حصل المراد وكشفت الصفة والهيئة بقولنا: جاء زيدٌ راكباً. فقد أُدِّي المعنى ولا حاجة إلى أن نقول: جاء زيدٌ الراكب. فإذا صح بالأصل وهو راكباً فلا يجوز العدول إلى الراكب، لأن الراكب فيه زيادة أل فلا بد أن يكون لهذه الزيادة أثر في كشف صاحب الحال من جهة الهيئة، ولكن ليس لها أثر فحينئذٍ لَمَّا انتفى أثرُ تلك الزيادة صار ذِكْرُها حَشْواً.

فإن جاءت الحال معرفةً حينئذٍ نقول: جاءت على خلاف الأصل، وما سُمِع من كلام العرب مجيء الحال معرفة وجب تأويله بنكرة. فيصح وقوع الحال معرفةً في اللفظ لا في المعنى، كما قال ابن مالك: وَالحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ ... تَنْكِيرَهُ مَعْنىً كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ وحدك اجتهد أي اجتهد وحدَك، منصوب على الحال، والأصل في الحال أن يكون نكرة وقد جاء معرفة هنا فنقول: وحدك أي منفرداً فتُؤول وحدك وهو معرفة بالنكرة، فحينئذٍ كلُّ ما جاء من الحال وهو معرفة وجب تأويله بنكرة. ونحو: أرسلها العراكَ، والعراكَ حال وهو معرفة فتؤوله بنكرة أي معتركة، وهو اجتماع الإبل عند السقي ونحوه. ونحو: ادخلوا الأول فالأول، الأول حال ودخلت عليه أل فهو معرفة، فتؤوله بنكرة الأول فالأول أي مترتبين. والحاصل أن القاعدة أن الحال نكرةٌ، فإذا جاء معرفة وجب تأويله بنكرة، ولذلك قال ابن مالك: والحال إن عُرِّف لفظاً لأنه في المعنى واجبُ التأويل، فاعتقد تنكيره معنى. [وَفَضْلَةً يَجِيءُ بِاتِّضَاحِ] وفضلةًً حال من فاعل يجيء متقدمة على عاملها أي ويجيء الحال فضلةً، والفضلة ما يقع بعد تمام الجملة. والمراد بتمام الجملة بعد استيفاء جزئي الجملة، وليست الحال أحد جزئي الجملة يعني ليست مسنداً ولا مسنداً إليه، وليس

المراد أنه لا يتقدم على الجملة، بل قد يتقدم، نحو: راكباً جاء زيدٌ. وكما قال ابن مالك: وحدك اجتهد. وكقول الناظم هنا وفضلة يجيء، فقُدِّم الحال على العامل. فحينئذٍ نقول: يجوز في بعض المواضع تقديم الحال على العامل، وإنما المراد أن الحال تأتي بعد تمام الجملة يعني بعد جزئيها. وقوله: [بِاتِّضَاحِ] جار ومجرور متعلق بالفعل يجيء أي الحال باتضاح أي أمر واضح وبيِّن في لغة العرب. وَلاَ يَكُونُ غَالِبًا ذُو الحَالِ ... إِلاَّ مُعَرَّفًا فِي الاسْتِعْمَالِ عندنا ثلاثة أشياء: عامل الحال، وصاحب الحال، والحال. عامل الحال: هو الذي يُؤَثِّر الرفع أو النصب أو الخفض في صاحب الحال، والنصب في الحال، فالعامل في صاحب الحال هو العامل في الحال. وصاحب الحال هو مَنْ كانت الحال وصفاً له في المعنى، ولذلك يقول الأصوليون: الحال وصفٌ لصاحبها قَيدٌ لعاملها، ومن هذه الحيثية جعلها الأصوليون من المخصصات المتصلة. قال تعالى: (وَمَنْيَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا (93)) [النساء:93] متعمداً حال، وصفٌ لصاحبها وهو فاعل يقتل وهو الضمير المستتر، قيدٌ لعاملها وهو الفعل المضارع يقتل فقيدته الحال لأن القتل قد يقع على جهة العمد، ويقع على جهة الخطأ، وقد يقع على جهة شبه العمد، والحكم هنا مُقيَّد بكونه عامدًا. إذًا وصفٌ لصاحبها بأن يكون القاتل متعمدا، قيدٌ لعاملها بنوع من أنواع القتل وهو العمد.

فصاحب الحال: هو من تكون الحال وصفاً له في المعنى، نحو: جاء زيدٌ راكباً فراكباً حال وهو وصفٌ في المعنى لزيدٌ الفاعل. وضربتُ زيداً مكتوفاًً، فمكتوفاًً حال وهو وصف في المعنى لزيدًا المفعول. الحال شرطها التنكير، وصاحب الحال شرطه التعريف، هذا هو الأصل. أو أن يكون نكرة بمسوغٍ، لأنه في المعنى محكومٌ عليه. وإذا كان كذلك حينئذٍ صار حكمه حكم المبتدأ، والمبتدأ شرطه التعريف، ولا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تُفِدْ. فحينئذٍ يتعينُ في المبتدأ أن يكون معرفة أو نكرة أفادت بمخصصٍ. ولذلك صاحب الحال له أربعة أحوال: الأول: التعريف: أن يكون صاحب الحال معرفة، نحو: جاء زيدٌ راكباً، فراكباً حالٌ وصاحبه زيد. قال تعالى: ((خُشَّعًاأَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ (7))) [القمر:7] خشًّعاً حال، وهي وصف، جمع خاشعٍ إذًا يكون وصفًا ولو جمعًا. ولذلك نقول: لقيت زيداً راكبَين، فراكبَين حال مثنى لأنه تثنية راكب، فلم يخرج بكونه مثنى عن كونه وصفاً، كذلك لو جُمع اسمُ الفاعل لا يخرج بجمعه عن كونه وصفاً، إذاً خشعاً حالٌ، وصاحب الحال الواو في يخرجون وهي فاعل، أي يخرجون خشعاً أي حالة كونهم خاشعين. الثاني: التخصيص: وهذا قد يكون بإضافةٍ أو بصفةٍ، نحو: (في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً للسائلين) [فصلت:10] فسواءً

حال، وصاحب الحال هو لفظ أربعة، وهو نكرة، لكنها أفادت بإضافته إلى نكرة، والنكرة إذا أضيفت إلى نكرة اكتسبت التخصيص وهو تقليل الاشتراك. لأن الإضافة قد تفيد تخصيصاً وقد تفيدُ تعريفاً، والتعريف هو رفع الاشتراك بالكلية. في أربعة أيامٍٍ فأربعة خُصِّص بقوله أيام، لأنها مبهمة في الأصل هل هي أربعة دنانير أو أربعة بيوت؟ يحتمل هذا وغيره، فلما قال: أربعة أيام حصل نوع تخصيص. وإن كانت هذه الأيام غير معيَّنة. وتقول: جاء رجلٌ طويلٌ مغضباً، مغضباً حال وصاحبها رجل، وهو نكرة، وصَحَّ مجيء الحال من النكرة لكونها موصوفة، فإذا وُصفت حصل التخصيص وهو تقليل الاشتراك، رجلٌ طويل خرج بالوصف جميع القصار لكن من هو الطويل؟ فهذا هو الذي وقع فيه الاشتراك. فتقليل الاشتراك باعتبار القصير، وبقي نوع اشتراك في نوعية الصفات. رجلٌ كريمٌ عندنا مقيماً، فرجلٌ مبتدأ، وكريمُ صفته، وعندنا ظرف متعلِّق بمحذوف خبر، ومقيماً حال، وصاحب الحال رجل، وهو نكرة، وهذا على مذهب سيبويه من صحة مجيء الحال من المبتدأ والجمهور على المنع. الثالث: التعميم أي الذي يُسوِّغ مجيء صاحب الحال نكرة التعميم، نحو: هل فتىً فيكم واقفاً؟ فواقفاً حال وصاحب الحال فتىً، وهو نكرة، لكن نكرة في سياق الاستفهام فَتَعُمُّ، وإذا عَمَّتْ

صارت من جهة المعنى معرفة. قال تعالى: ((وَمَاأَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208))) [الشعراء:208] فما نافية، وأهلكنا فعل وفاعل، ومن حرف جر زائد، وقرية مفعول به، وإلا أداة استثناء ملغاة، ولها خبرٌ مقدم، ومنذرون مبتدأ مؤخر. والجملة من المبتدا والخبر في محل نصب حال، وصاحب الحال قرية، والذي سوَّغ مجيء الحال منها وهي نكرة كونها عامةً، لأنها نكرة في سياق النفي ودخلت عليها من الاستغراقية فهي نص في العموم. الرابع: التأخير عن الحال، نحو: فيها قائماً رجلٌ، هنا أُخِّر صاحب الحال عن الحال، فرجلٌ مبتدأ، وفيها خبر مقدَّم وقائماً حال، فصاحب الحال نكرة تقدمت عليه الحال، وهذا التقديم هو الذي سوَّغ مجيء الحال من النكرة. قال الشاعر: لِمَيةَ مُوحِشًا طَلَلُ ... يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ طلل مبتدأ مؤخر، وموحشاً حالٌ من طلل وهو نكرة، والذي سوَّغَ مجيء الحال منه كونُه مؤخراً. [وَلاَ يَكُونُ غَالِبًا ذُو الحَالِ] أي صاحب الحال وهو مَن الحال وصفٌ له في المعنى [إِلاَّ مُعَرَّفًا] أي معرفة أو نكرةً معها مُسوغ، لأنه محكوم عليه فلا يكون نكرة إلا بمسوغ كما أن المبتدأ محكوم عليه فلا يكون نكرة إلا بمسوغ، لذلك قال غالباً لإدخال النكرة التي وُجد معها مسوغ. فاحترز بقوله: غالباً من بعض النكرات التي يوجد معها مسوِّغ فحينئذٍ يصح مجيء الحال منها، [فِي الاسْتِعْمَالِ] والاستعمال المراد به إطلاق اللفظ وإرادة المعنى.

باب التمييز

بَابُ التَّمْيِيزِ أي هذا باب بيان حقيقة التمييز، والتمييز والحال يتفقان في أشياء ويختلفان. والتمييز تفعيل ميَّز يُميِّز تمييزاً، فهو مصدر، والتمييز معنى من المعاني وحكمه النصب -كما سيأتي- وهل الحكم ينصب على المعاني أو على الألفاظ؟ نقول: على الألفاظ لا على المعاني، فحينئذٍ إذا جاء التعبير بالمصدر لا بُدَّ من التأويل، فنقول: أطلق المصدر وأراد اسم الفاعل أي المميِّز. إذًا باب التمييز ليس المراد بالتمييز عينه، لأن التمييز هذا مصدر وهو معنى من المعاني، والمعاني لا توصف بكونها منصوبة أو مرفوعة أو مخفوضة فلا بُدَّ من التأويل. فنقول هنا أَطلق المصدر وأراد به اسم الفاعل أي الكلمة المميزة. التمييز في اللغة الانفصال ومنه قوله: (وامتازوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)) [يس:59] أي انفصلوا. ويقال فيه: تمييز ومميِّز وتفسير ومفسِّرٌ وتبيين ومبيِّن هذه كلُّها أسماء لمسمى واحد، ولذلك تجد بعض المفسرين يقول: هذا تبيين أو تفسير هكذا في إعراب القرآن وهذه عبارات الكوفيين، فإذا لم يعرف الطالب المصطلحات هذه فقد يُشكل عليه بعض المسائل، فالكوفيون لا يطلقون لفظ التمييز وإنما يعبرون عنه بتفسير وتبيين.

اِسْمٌ مُبَيِّنٌ لِمَا قَدِ انْبَهَمْ ... مِنَ الذَّوَاتِ بِاسْمِ تَمْييزٍ وُسِمْ [اِسْمٌ] خرج به الفعل والحرف، فالفعل لا يكون تمييزاً، والحرف لا يكون تمييزاً، وإنما التمييز محصور في الأسماء؛ كما أن الحال لا تكون إلاَّ اسماً، وإذا جاءت جملة فعلية أو اسمية، أُوِّلت بالاسم وعليه تقول: الحال تكون اسماً صريحاً واسماً مؤولاً بالصريح بخلاف التمييز فلا يكون إلاَّ اسماً صريحاً. [مُبَيِّنٌ] أي مفسرٌ، وفي بعض النسخ مفسر. الحال والتمييز كلٌّ منهما اسمٌ، ومُبيِّن، ورافعٌ للإبهام، هذه الثلاثة الأشياء التي ذكرها في الشطر الأول مما يشترك فيه الحال والتمييز. فالحال لا يكون إلاَّ اسماً سواء كان صريحا أو مؤولاً بالصريح، ومُبين وكاشف ورافعٌ للإبهام كما أن التمييز رافعٌ للإبهام كما قال: [لِمَا قَدِ انْبَهَمْ] أي خَفي واستتر من الذوات، وهنا خالف التمييز الحال. اشتركا في أن كلاًّ منهما كاشف ورافعٌ للإبهام؛ إلاَّ أن الحال يكشف ويفسِّر إبهام الصفة مع العلم بالذات، والتمييز يكشف ويميز ويفسر إبهام الذات، فعَينُ الذاتِ تكون مجهولة، لو قال قائل: عندي عشرون .. وسكت، فالعشرون هذه تَصدُق على أيِّ شيءٍ كان، ولا تدري ما هو؟ ففيه إبهام لأن عين العشرين مجهولة، فإذا قال عندي عشرون قلماً، فقلماً تمييز كشف حقيقة هذه العشرين، فحينئذٍ رُفِعَ الإبهام عن الذات، بخلاف الحال فالذات معلومة يقول: جاء زيدٌ يُصرَّح باسمِهِ زيدٌ وهذا علم من المعارف فهو معرفة، حينئذٍ عينه معلومة لكن صفته التي جاء بها هي التي فيها إبهام. أما لو قال: عندي منوان، منوان ماذا؟ يحتمل

عسلاً وغيره أشياء كثيرة مما توزن فإذا قال: عندي منوان عسلاً، فعسلاً تمييز رفع الإبهام لأن عينَ ما كُشف عنه مبهَم. [مِنَ الذَّوَاتِ] خرج به الحال لأنه يرفع الإبهام ولكن لا عن ذاتٍ وإنما يرفعه عن هيئة الذات. والذوات سواء كان ذوات العقلاء أو غيرهم. [بِاسْمِ تَمْييزٍ وُسِمْ] أي وُسِم باسمِ تمييزٍ، باسم جار ومجرور متعلِّق بقوله وُسِمْ، لأنه مأخوذٌ من الوسْم وهو العلامة، وعند الكوفيين أن الاسم اشتُق من السِّمَة وهي العلامة لأنه جُعِل علامة على مسماه. والأصح أنه مشتق من السمو وهو العلو، وأصله سِمْو أو سُمْو فِعْلٌ أو فُعْل، ووزن اسم على مذهب البصريين افعٌ، وعلى مذهب الكوفيين اِعلٌ، لأن المحذوف هو لام الكلمة عند البصريين، والمحذوف عند الكوفيين هو فاء الكلمة. [بِاسْمِ تَمْييزٍ وُسِمْ] أي عُلِّمَ هذا الاسم المبيِّن لما قد انبهم من الذوات بكونه تمييزاً. وعرفه ابن هشام بقوله: اسم فضلةٌ نكرةٌ جامدٌ مفسِّرٌ لما انبهم من الذوات. هنا اشتراك وافتراق مع الحال في هذا الحد، فقوله: اسم فضلة نكرة والحال أيضا اسمٌ فضلةٌ نكرةٌ، هذه ثلاثة أشياء اشترك فيها الحال والتمييز، ويزاد عليها كونهما منصوبين، وكونهما رافعَين للإبهام أي مطلق الإبهام فهذه خمسة. فحينئذٍ نقول الحال والتمييز يشتركان في أنَّ كُلا منهما اسمٌ، وكلا منهما فضلة يأتي بعد تمام الجملة ليس بعمدة، وكلا منهما نكرة، وإذا جاء كل منهما معرفة وجب تأويله بنكرة، والحال لا يكون إلاَّ منصوباً، والتمييز في الجملة يكون منصوباً ليس مطلقاً وإنما في الجملة، كلٌّ منهما

رافعٌ للإبهام أي مطلق الإبهام بقطع النظر عن متعلق الإبهام. وافترقا في أن الحال يكون مشتقاً كما سبق، والتمييز لا يكون إلا جامداً. إذاً لا يمكن أن يلتبس على الطالب الحال بالتمييز إذا كان يعرف الاشتقاق؛ لأن التمييز لا يكون إلاَّ جامداً والحال لا يكون إلاَّ مشتقاً. وإذا جاء الحال جامداً وجب تأويله بمشتق، وقوله: مفسرٌ لما انبهم من الذوات هذا بيان متعلَّق رفع الإبهام، ففي الحال الهيئة والصفة, وفي التمييز الذات. إذًا افترقا في شيئين: الحال يكون مشتقاً وهذا الأصل فيه، والتمييز يكون جامداً وهذا الأصل فيه، والحال يكون رافعاً للإبهام هيئة وصفة، والتمييز يكون رافعاً للذات عينها. فَانْصِبْ وَقُلْ قَدْ طَابَ زَيدٌ نَفْسًا ... وَلِي عَلَيْهِ ... أَرْبَعُونَ ... فَلْسًا وَخَالِدٌ أَكْرَمُ مِنْ عَمْرٍو أَبَا ... وَكَونُهُ نَكِرَةً قَدْ وَجَبَا قوله: [فَانْصِبْ] الفاء فاء الفصيحة لأنه إذا علمت حقيقة التمييز وأردت معرفة حكمه فانصبه، أي انصب التمييز، وانصب هذا يتعدى إلى مفعول، وحُذف للعلم به، كما قال ابن مالك: وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ ... ..................... إذًا التمييز لا يكون مرفوعاً قطعاً كالحال. وهل يكون التمييز مجروراً؟ نقول: نعم في بعض الأحوال يكون التمييز مجرورًا كتمييز المائة والألف. تقول: عندي مائة ريالٍ، ريالٍ هذا تمييز وهو

مجرور. لكن الأصل فيه والغالب أن يكون منصوباً. التمييز على ما سيذكره المصنف نوعان: - الأول: تمييز المفرد أي كلمة واحدة، وهو ما رفع إبهام اسمٍ قبله مُجْمَل الحقيقة. والثاني: تمييز النسبة، وهو المُفسِّر لِمَا انبهم من النسب، أي ما رفع إبهام نسبة في جملة ويسمَّى تمييز جملة، أي لجملة فعلية أو اسمية. والنسبة المراد بها ارتباط الفعل بالفاعل، وارتباط المبتدأ بالخبر التي تسمى الفائدة الكلامية. تمييز المفرد له مظانٌّ، يعني متى تحكم عليه بأنه تمييز مفرد؟ نقول: الأصل أنه يُنظر فيه فإن كان كاشفاً لمفرد أي لإبهام ذاتٍ مفردةٍ حينئذٍ نحكم عليه أنه تمييز مفرد، وإن كان كاشفاً ورافعاً لإبهام جملةٍ فحينئذٍ نحكم عليه بأنه تمييز نسبة. وبالاستقراء أن تمييز المفرد له مظان: منها أنه يقع بعد المقادير، وهي عبارة عن المساحات، نحو: عندي جريبٌ نخلا، والجريب هذا مقياس للأراضي ونحوها. وجريبٌ مبتدأ مؤخر، وعندي خبر مقدم، وجريب مبهم من حيث الذات جريبٌ من ماذا؟ عنبا، تفاحا، يحتمل ذا وذاك وغيرهما فإذا قال: نخلاً، نقول: نخلاً هذا تمييزُ مفردٍ -كلمة واحدة- لأنه كشف عن حقيقة ذات الجريب فقط.

كذلك يقع بعد الكيل، نحو: عندي صاعٌ، صاع من ماذا؟ هذا يحتمل الحنطة، والتمر، والذرة وغيرها، فكل ما يكال بالصاع فهو داخل في حقيقة الصاع المجهولة احتمالا. فإذا قال: عندي صاع تمراً، فتمراً هذا تمييزٌ مفسِّرٌ للمفرد لأنه وقع بعد مكيل. كذلك بعد الوزن، نحو: عندي منوان، والمنوان تثنية مَنا مما يقاس به كالكيلو ونحوه، فإذا قال: عندي منوان عسلا، فعسلا هذا كاشف ومفسر لذات المنوين. كذلك كل ما يقع بعد الأعداد من أحد عشر إلى تسعةٍ وتسعين فهو تمييز منصوب. وهذا حكم الأعداد من الأحد عشر إلى التسعة والتسعين، قال تعالى: (إِنِّيرَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ (4)) [يوسف:4] هذا مبهم، ولا يمكن أن يفهم المراد إني رأيت أحد عشر، فالمعدود بأحد عشر مبهم ذاته مبهمة، فلما قال كوكباً عرفنا المراد. ومثله ((إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتسعون نعجة) [ص:23]. وأما تمييز النسبة فهو نوعان: الأول: مُحَوَّلٌ، والثاني: غيرُ مُحَوَّلٌ. والمحول قد يكون محولاً عن فاعل، وقد يكون محولا عن مفعول به، وقد يكون محولا عن مبتدأ. مثال المحول عن الفاعل: قوله تعالى: ((وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ((4))) [مريم:4] فشيباً كاشف ومفسر للجملة كلها، اشتعل الرأس ماذا نارا أو قملاً يحتمل. لكن لما قال: اشتعل الرأس شيباً عرفنا أن الاشتعال هنا المراد به المجاز. وليس المراد الاشتعال الحسي. ونقول: شيباً محول عن فاعل، فأصل التركيب

اشتعل شيبُ الرأس، فشيباً التمييز كان فاعلاً، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامه فارتفع ارتفاعه يعني صار فاعلاً، فالمضاف إليه الرأس صار فاعلاً فقيل: اشتعل الرأس، فحصل الإبهام في النسبة فجيء بالمضاف المحذوف فانتصب على أنه تمييز فقيل: اشتعل الرأس شيباً. [وَقُلْ قَدْ طَابَ زَيدٌ نَفْسًا] أصل التركيب طابتْ نفسُ زيد، فحذف المضاف الذي هو نفس وأقيم المضاف إليه وهو زيد مُقامه فارتفع ارتفاعه، فصار فاعلا فقيل: طابَ زيدٌ فحصل الإبهام في النسبة لأنه يحتمل عدة أشياء، فجيء بالمضاف المحذوف فانتصب على أنه تمييز فقيل: طابَ زيدٌ نفسًا، فزال الإبهام. أما في المفعول به، فنحو قوله تعالى: ((وَفَجَّرْنَاالْأَرْضَ عُيُونًا (12))) [القمر:12] فعيوناً تمييز، وأصله مفعول به. فأصل التركيب وفجرنا عيونَ الأرض، فحُذف المفعول به عيون وأُقيم المضاف إليه مُقامه فانتصب انتصابه فصار مفعولاً به، فقيل: وفجرنا الأرضَ، فحصل الإبهام في النسبة للاحتمال الوارد، فجيء بالمضاف المحذوف فانتصب على أنه تمييز فقيل: وفجرنا الأرض عيونًا، فجاء بالتمييز رافعاً وكاشفاً للإبهام. والمحوَّل عن المبتدأ كقوله تعالى: (أنا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا (34))) [الكهف:34] فمالاً تمييز، وأصله مبتدأ، أصل التركيب مالي أكثر منك، فحذف المضاف مال, وأقيم المضاف إليه مُقامه فارتفع ارتفاعه،

والمضاف إليه أصله الياء، وهي لا تكون في محل رفع فجيء بضميرٍ يكون في محل رفع وهو أنا، فقيل: أنا أكثر منك، فحصل إبهام لأن قوله: أكثر منك .. يحتمل دراهمَ أو أولادًا أو زوجاتٍ، فقال: أنا أكثر منك مالا، فالتمييز مالا حصل به رفع إبهام نسبة. وهذا ضابطه أن يكون واقعاً بعد جملة فعلية أو اسمية. ثم إذا نظرت فيه فليس في اللفظ ما يحتاج إلى كشف ذاته، فمثلا اشتعل الرأس، فالاشتعال معلوم، والرأس معروف، ليس هو كالجريب، والمنوين مجهول الذات، وإنما هو كشفٌ لنسبة. النوع الثاني: ما ليس محوَّلا. وهذا ليس مقيساً، وإنما هو نادر، وموقوف على السماع. سُمِع قولهم: امتلأ الإناء ماءً، فماء منصوب على التمييز، وليس هو محوَّلا عن فاعل، ولا محوَّلا عن مفعول، ولا محوَّلا عن مبتدأ، إذًا هو سماعي. والحاصل: أن التمييز نوعان: تمييز مفسر لمفرد وهذا بالاستقراء أكثر ما يقع بعد المقادير والعدد، والمقادير بأنواعها الثلاث، المساحات، والمكيلات، والموزونات، والأعداد تأخذ حكمها. وتمييز النسبة وهذا إما أن يكون محولاً أولا. فالأول: المحول إما عن فاعل أو مفعول أو مبتدأ. وغير المحوَّل سماعي يحفظ ولا يقاس عليه.

[وَلِي عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ فَلْسًا] فلساً تمييز، وأربعون مبتدأ، خبره عليه أو الجار والمجرور لي، يحتمل هذا أو ذاك. فالجملة لي عليه أربعون، أربعون هذا فيه إبهام، فالذات نفسها مبهمة، المعدود بالأربعين ما هو؟ أربعون كأساً؟ أربعون بيتاً؟ قال: فلساً، إذًا فلساً منصوب على أنه تمييز وميز الأربعين، حينئذ يكون مثالا لتمييز المفرد. والمثال الأول لتمييز النسبة، وقَدَّم النسبة على المفرد، والعكس هو الأولى؛ لأنَّ الأصل هو المفرد، وهو الأكثر أيضًا. [وَخَالِدٌ أَكْرَمُ مِنْ عَمْرٍو أَبَا] هذا مثالٌ للمحوَّل عن المبتدأ، وأصل التركيب أبو خالدٍ أكرمُ من عمرو، فحُذف المضاف وهو أبو وأُقيم المضاف إليه وهو خالد مُقامه فارتفع ارتفاعه، وصار مبتدأ، خالد أكرم من عمرو، في ماذا؟ قال: أباً فجيء بالمحذوف الذي حُذف وهو المبتدأ فانتصب على التمييز رفعاً للنسبة. [وَكَونُهُ نَكِرَةً قَدْ وَجَبَا] المراد أن التمييز لا يكون إلا نكرة على مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيُجوِّزُون كونَ التمييز معرفة. واستدلوا بقول الشاعر: رَأَيْتُكَ لَمَّا أَنْ عَرَفْتَ وُجُوهَنَا ... صَدَدْتَ وَطِبْتَ النَّفْسَ يَا قَيْسُ عَنْ عَمْرٍو فالنفس باتفاق الفريقين أن إعرابه تمييز، وهو معرَّف بأل، فالكوفيون لهذا الشاهد جوَّزوا أن يكون التمييز معرفة، والأصل عند البصريين أنه لا يكون إلا نكرة، فالبصريون على قواعدهم أن الشيء المطرد والغالب هو القاعدة، وما عداه مما خالفها يؤول،

فقالوا: أل هذه زائدة. وعند الكوفيين أل أصلية، وعليه يجوز أن يكون التمييز معرفة. والأصح مذهب البصريين وهو كونه نكرةً للعلة التي ذكرناها في الحال، لأن الغرض إذا أُدِّيَ بالنكرة فلا يزاد عليه. كذلك التمييز كشفُ الذات والنسبة حصل بالنكرة، فحينئذٍ إذا قيل: طاب زيدٌ نفساً، نقول: المعنى تم وانكشاف الإبهام قد حصل بالنكرة فلا يزاد عليه، فلو زِيد عليه بشيء يدل على التعريف كأل مثلاً نقول: هذا حشو، وهو عيب ونقص في الكلام. [وَكَونُهُ نَكِرَةً قَدْ وَجَبَا] الألف للإطلاق، والوجوب هنا مقيَّدٌ أي عند البصريين.

باب الاستثناء

بَابُ الاِسْتِثْنَاءِ أي من المنصوبات المستثنى، ولكن ليس مطلقا، ليس كل مستثنىً يكون منصوبا، وإنما المستثنى يُنصب في بعض أحواله، إما وجوبًا وإما جوازًا، وقد يكون المستثنى مخفوضاً. والاستثناء استفعال من الثني، والسين والتاء زائدتان، وهو مصدر، كاستغفر يستغفر استغفاراً، واستثنى يَستثني استثناءًا، واستخرج يستخرج استخراجا، وإذا أُطلق المصدر هنا في مثل هذا الموضع فالمراد به اللفظ، ولا يمكن حمله على الاستثناء الذي هو المعنى المصدري لأنه معنىً من المعاني، والمعنى لا يُنصب، فالذي يرفع هو المبتدأ وليس الابتداء، والذي يُنصب هو المميِّز وليس التمييز، والذي يُنصب هو المستثنى وليس الاستثناء، لأن الاستثناء معنى من المعاني، والمعاني هذه غير قابلة للحركة. إذاً الاستثناء مصدر لكنه من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، لأن عندنا استثناءًا، ومستثنِي، ومستثنَى. فالاستثناء: هو الإخراج على المشهور، وفيه نظركما سيأتي، والمستثنِي: هو فاعلُ الاستثناءِ، فالمتكلم هو الفاعل، والمستثنَى هو الواقع بعد إلا ونحوها من أدوات الاستثناء، إذاً المراد بالاستثناء هنا المستثنَى لأن الكلام في المنصوبات، والمنصوب هو المستثنى لا الاستثناء. قلنا: الاستثناء في اللغة مأخوذ من الثني، وهو العطف من قوله: ثنيتُ

الحبلَ أثنيه إذا عطفت بعضه على بعض. وقيل: إنَّ الثني هو الصرف يقال: ثنيته عن الشئ إذا صرفته عنه. وإن كان المشهور عند كثير من النحاة والأصوليين أن الاستثناء معناه لغة الإخراج، وهذا فيه نظر، بل الاستثناء لغة مأخوذ من الثني، وهو العطف من قولك: ثنيتُ الحبلَ أثنيه إذا عطفت بعضه على بعض، وقيل: إن الثني المراد به هنا الصرف، تقول: ثنيت زيداً عن كذا إذا صرفته عنه. وإن كان المشهور أنَّ معناه في اللغة هو الإخراج. وأما في الاصطلاح فحدَّه كثير من النحاة وتبعهم كثير من الأصوليين بأنه الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها ما لولاه لدخل في الكلام السابق. قوله: إخراجٌ بإلاَّ أو إحدى أخواتها، يعني أن الاستثناء له أدوات، وباستقراء كلام العرب له أدوات ثمانية يأتي ذكرها، وهذه الأدوات فائدتها ما لولاه أي لولا هذا الاستثناء ولولا هذه الأداة لدخل ما بعد إلاَّ فيما قبلها، فإذا قيل: قام القوم إلا زيداً، فقام فعل ماض، والقوم فاعل، وإلاَّ حرف استثناء، وزيداً مستثنى، لولا الاستثناء بإلا أي لولا مجيء إلا في هذا التركيب لدخل زيد في القوم، فلو حُذِفَتْ إلا، لكان حُكْمُ زيدٍ أنه داخل في القوم وثبت له القيام، فأُخرِجَ زيدٌ من المستثنى منه وهو القوم بإلا، فقيل: إلا زيداً، لولا إلا لدخل ما بعد إلا فيما قبلها، هذا حقيقة الاستثناء عند كثير من الأصوليين. والأصح أن يقال: الاستثناء قولٌ مُتَّصِلٌ يدُّلُ بإلا أو إحدى أخواتها على أنَّ المذكور معه غيرُ مرادٍ بالقول الأول. وهذا فيه فرار من القول بأنَّ الاستثناء لا بُدَّ وأن يكون فيه إخراج، لأننا لو قلنا بالإخراج لوقع نوعُ

تناقضٍ في الجملة، فإذا قيل: قام القوم إلا زيداً، على القول بالإخراج معناه أن زيداً حُكِمَ عليه أوَّلا بالقيام ثم بعد ذلك أُخرج فَحُكِم عليه بنقيض ما حُكِم على المستثنى منه، وهذا تناقض كأنه قال: قام زيد، زيد لم يقم، وهذا يلزم على القول بأن الاستثناء إخراج من المستثنى منه بإلا، يلزم عليه الحكم على المستثنى أوَّلاً بما حُكم به على المستثنى منه ثم بعد ذلك أُثبت للمستثنى نقيضُ الحكمِ الأوَّل، لأنَّ الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، حكمت على زيد بنفي القيام عنه، وهو نقيض القيام المحكوم به على المستثنى منه، فحكمت أولاً بالقيام ثم حكمت بعد ذلك بنفي القيام، فإذا قيل: زيد داخل فيما سبق وهو المستثنى منه، حينئذٍ حكمت على زيد أوَّلا بالقيام ثم بعد ذلك حكمت بإخراجه من الحكم السابق وإثبات نقيضه له، وهذا تناقض، ولذلك ذهب بعض الأصوليين وبعضٌ من أهل اللغة إلى أن تعريف الاستثناء بالإخراج تعريف باطل، وقد نصَّ ابن القيم رحمه الله في البدائع على هذا فقال: مذهب سيبويه والمحققين من البصريين أن المستثنَى مُخْرَجٌ من المستثنى منه وحكمِه، يعني لم يدخل أصلاً في المستثنى منه، وهذا هو الصحيح عند سيبويه وجمهور البصريين، وإن شاع عند كثير من المتأخرين تعريف الاستثناء بأنه إخراج. وحينئذٍ المراد بقولهم: قول متصل الاستثناء بإلا، يدل هذا الاستثناء على أن المذكور معه - الذي هو المستثنى ما بعد إلا - غيرُ مرادٍ بالقول الأول، فإذا قيل: قام القوم إلا زيداً، نقول: إلا زيداً

هذا قرينة صارفة عن إرادة زيد بالحكم الأول وليس هو داخلاً حتى يحتاج إلى إخراج. والفرق بين القولين: أن قولك: قام القوم إلا زيداً، زيداً دَخَلَ أوَّلاً ثم أخرجتَه، وهذا تناقضٌ، وبين أن تقول: إلا زيداً قرينة صارفة عن إرادة زيد بالقول الأول، إذاً لم يدخل أصلاً، فحينئذٍ لم يُنزَّل عليه الحكم. ولذلك ألزم ابن القيم رحمه الله وغيره من الأصوليين أنَّ من قال بأن الاستثناء إخراج بقوله: لا إله إلا الله، إلزاماً لا محيص عنه، لو قيل: المستثنى وهو لفظ الجلالة دخل أوَّلاً في المستثنى منه، ثم أُخرج حينئذٍ قد نفيت الألوهية عن الله عز وجل، فلم تكن هذه الكلمة كلمة التوحيد! فصار تناقضٌ ينفيها بلا إله ثم يُثبت الألوهية لله عز وجل. فإذا قيل: المستثنى الذي هو بعد إلا (الله) كان داخلاً في المستثنى منه وحكمِه حينئذٍ نُفيت عنه الألوهية وهذا كفر، ثم إلا الله هذا إثبات فكيف يجتمعان؟! الاستثناء له أدوات، ولا نقول: حروف الاستثناء، لأن منها ما هو اسم، ومنها ما هو حرف، ومنها ما هو فعل، فالأداة تعم وليست خاصة بالحروف، وأدوات الاستثناء بمعنى الأدوات الدالة على الاستثناء.

إِلاَّ وَغَيرُ وَسِوَى سُوَىً سَوَا ... خَلاَ عَدَا وَحَاشَا الاِسْتِثْنَا حَوَى أي الاستثناء حوى إلا وغير وسوى وخلا وعدا وحاشا، هذه ستة ذكرها الناظم، وبقي عليه اثنان وهما ليس ولا يكون. هذه الأدوات الدالة على الاستثناء من حيث الحرفية والاسمية والفعلية على أربعة أقسام: الأول: حرفان وهما إلاَّ عند الجميع، وحاشا عند سيبويه. الثاني: فِعْلانِ وهما ليس على الأرجح، ولا يكون باتِّفاق. الثالث: مُترددان بين الحرفية والفعلية يعني تارةً يكون حرفا، وتارة يكون فعلاً، وهي ثلاثة خلا عند الجميع، وعدا عند غير سيبويه، وحاشا عند سيبويهِ حرفٌ، وعند غيره مترددة بين الحرفية والفعلية. الرابع: اسمان وهما غير وسوى بلغاتها. [إِلاَّ وَغَيرُ وَسِوَى] و [سُوَىً] و [سَوَا] ء هذه ثلاث لغات، سِوى كرِضَا بكسر السين، وهذه اللغة الفصحى، ولذا بدأ بها، ثم سُوى كهُدَى، ثم سَواء بالمد وفتح السين كسَمَاء ثم سِواء بالمد وكسر السين كبِناء، هذه أربع لغات لسِوَى. [خَلاَ عَدَا] أي وخلا وعدا، على إسقاط حرف العطف، [وَحَاشَا] ويقال فيها حَاشَ بحذف الألف الأخيرة مع فتح الشين، وحَشَا بحذف الألف الأولى، وحاشْ بحذف الألف الثانية مع إسكان الشين، ففيها أربع لغات.

[الاِسْتِثْنَا حَوَى] حوى على الشيء واستولى عليه، يعني الاستثناء حوى وجَمَع هذه الأدوات، والمراد به مطلق الاستثناء لأن هذه لا تجتمع في تركيب واحد، وإنما الاستثناء لا بد أن يكون جامعاً لهذه الأدوات بمجموعها لا جميعها. إِذَا الكَلاَمُ تَمَّ وَهْوَ مُوجَبُ ... فَمَا أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلاَّ يُنْصَبُ بدأ بالاستثناء بإلا، ولذلك قدمها الناظم عند ذكر الأدوات، لأن إلاَّ أمُّ الباب يَثبُت لها من الأحوال ما لا يثبت لغيرها، فغير وسوى المستثنى بها يكون مجروراً، وليس ولا يكون الأصل فيها أنها من النواسخ، والاستثناء بها من جهة المعنى، ولذلك لا يُعرَب لفظاً أنه مستثنى، بخلاف إلا فإنها لا تكون إلا حرف استثناء، وقد تأتي بمعنى غير لكنه على قلة كقوله تعالى: (لَوْكَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا (22)) [الأنبياء:22] فإلا هنا بمعنى غير أي غيرُ اللهِ لفسدتا لكنَّ الفساد مُنتفٍ فانتفى تعدد الآلهة. والمستثنى بإلاَّ يعني القول المذكور بعد إلاَّ قرينة على أنه غير داخل في المستثنى منه له ثلاث حالات: الحال الأولى: وجوب نصبه أي المستثنى. الحال الثانية: جواز نصبه راجحاً أو مرجوحاً. الحال الثالثة: أن يكون بحسب العوامل الداخلة عليه.

شرع الناظم هنا في بيان الحالة الأولى وهي وجوب النصب، ولذلك يُترجَمُ لها متى يجب نصب المستثنى بإلا؟ حينئذٍ يأتي جواب الناظم: إِذَا الكَلاَمُ تَمَّ وَهْوَ مُوجَبُ ... فَمَا أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلاَّ يُنْصَبُ تَقُولُ قَامَ القَومُ إِلاَّ عَمْرَا ... وَقَدْ أَتَانِي النَّاسُ إِلاَّ بَكْرَا يجب نصب المستثنى بإلا إذا الكلام تم، وهو موجب، هذه ثلاثة شروط أن يكون المستثنى بإلا، وأن يكون الكلام تاما، وأن يكون الكلام موجبا، متى ما وجدت هذه الشروط الثلاثة قال: ينصب أي المستثنى وجوباً مطلقاً سواء كان الاستثناء متصلاً أو منقطعاً. [إِذَا الكَلاَمُ] الكلام فاعل لفعل محذوف وجوباً؛ لأنه وقع بعد إذا الشرطية، وإذا لا يليها إلا فعل، وتقديره هنا إذا تَمَّ الكلامُ يفسره الفعل المذكور، فلذلك يُسمَّى مُفسِّرا، حينئذ تقول: [تَمَّ] فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو، والجملة من الفعل والفاعل لا محلَّ لها من الإعراب لأنها مفسِّرة. [إِذَا الكَلاَمُ تَمَّ] والمراد بتمام الكلام عند النحاة أن يكون المستثنى منه مذكوراً، نحو: قام القوم إلا زيداً، هذا كلام تام لأن المستثنى منه وهو القوم مذكور في الكلام، لأنه قد يُحذف وقد يُذكر، وذِكْره شرط في وجوب المستثنى بإلاَّ.

[وَهْوَ] أي الكلام [مُوجَبُ] من الإيجاب، والإيجاب والسلب متقابلان، وموجب اسم مفعول مِنْ أُوجِبَ يُوجَبُ فهو مُوجَب، وعندما يقول البيانيون وغيرهم: الإيجاب والسلب فمرادهم بهاتين الصفتين وصف الكلام، لأن الذي يُوصف بالإيجاب أو السلب، هو الجملة مطلقاً لا المبتدأ ولا الخبر ولا الفعل ولا فاعله وإنما مقصودهم بالإيجاب والسلب تسلط النفي على المفهوم من الجملة، والأصل في الجملة الإيجاب بدليل أنه لا يقال بالنفي إلا لدخول حرف أو فعل يدل على النفي، حينئذٍ ما افتقر إلى سببٍ يدل عليه فرعٌ عمَّا لا يفتقر، فالأصل في الجملة الاسمية والفعلية الإيجاب، أنها موجبة مثبتة بدليل أنها لا تحتاج إلى علامة، ومتى نقول الجملة منفية؟ الجواب: لا بُدَّ أن يسبقها ما يدل على النفي كلم أو ما النافية أو ليس وغيره، إذًا افتقرت إلى سبب، وما لا يفتقر إلى سبب أصل لما افتقر إلى سبب، فحكم بأن الأصل في الجملة الإيجاب وهو الإثبات. إذًا قوله: [وَهْوَ مُوجَبُ] احتراز مما لو سبقه نفي أو شبهه كما سيأتي، [فَمَا أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلاَّ يُنْصَبُ] الفاء واقعة في جواب الشرط لأنه جملة اسمية، وإذا مضمَّنةٌ معنى الشرط، [فَمَا] ما اسم موصول بمعنى الذي يصدق على المستثنى [أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلاَّ] فاعل أتى ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود على ما أي المستثنى، وقيَّده بإلا لأنه إذا كان تاليا لأداة استثناء غير إلا فله حكمٌ آخر، لذلك نجعل هذا شرطا في وجوب نصب المستثنى، أي يكون المستثنى تالياً لحرف الاستثناء وهو إلا، وأن يكون الكلام تامًّا ذُكر فيه المستثنى منه، وأن

يكون موجباً بحيث لم يسبق بنفي ولا شبه النفي [يُنْصَبُ] أي المستثنى، وهو فعل مضارع مغير الصيغة ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازاً يعود إلى ما، فالذي أتى من بعد إلا يُنصب هو المستثنى، [يُنْصَبُ] بمجموع هذه الشروط الثلاثة، ونصبه حينئذٍ يكون واجباً مطلقاً سواء كان الاستثناء متصلاً أو منقطعاً، متصلا كقام القوم إلا زيداً، أو منقطعاً كقام القوم إلا حماراً. والفرق بين الاستثناء المتصل والمنفصل أن المتصل ما كان من جنس المستثنى منه. والمنقطع ما لم يكن من جنس المستثنى منه. فنحو: قام القوم إلا زيداً نحكم على الاستثناء هنا بأنه متصل لأن زيدا من جنس القوم، ونحو: قام القوم إلا حماراً نحكم على الاستثناء بأنه منقطع لأن الحمار ليس من جنس القوم، وهذا من باب التقريب وإلا ففيه بعض النظر. [يُنْصَبُ] والعامل في المستثنى اختلف فيه على ثمانية أقوال، أقواها قولان: الأول: أنَّ العامل إلا فقط، وهذا مذهب ابن مالك رحمه الله وهو ظاهر الألفية حيث قال: مَا اسْتَثْنَتِ الاَّ مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ ... ....................... نَسَبَ النصب والاستثناء إلى إلا نفسها، حينئذ تقول: قام القوم إلا زيداً، فقام القوم فعل وفاعل، وإلا حرف استثناء، وزيدا

مستثنى منصوب بإلا ونصبه فتحة ظاهرة على آخره. الثاني: وهو مذهب كثير من النحاة المتأخرين أنه منصوب بالفعل الذي قبله بواسطة إلاَّ، فتقول: قام القوم إلا زيداً، زيداً منصوب على الاستثناء والعامل فيه الفعل المتقدم، حينئذٍ نقول قام القوم قام فعل لازمٌ ولا ينصب مفعولاً به، وهل نقول: الفعل اللازم لا ينصب مطلقاً أو لا ينصب مفعولاً به؟ الجواب: لا ينصب مفعولاً به، ولا يُنفى عنه النصب مطلقاً، بل قد ينصب التمييز والحال والعامل فيهما فعل لازم، والذي معنا هنا أن المستثنى منصوب بالفعل اللازم لكن بواسطة إلا. [فَما أتَى مِن بعْدِ إلاَّ يُنْصَبُ] وجوباً مع جميع هذه الشروط الثلاثة، والناصب له إلاَّ، الحرف وحده عند ابن مالك رحمه الله، وقيل: الفعل بواسطة إلا. [تَقُولُ قَامَ القَومُ إِلاَّ عَمْرَا] هذا مثال مستوفٍ للشروط الثلاثة، كلامٌ تامٌّ ذُكر فيه المستثنى منه وهو القوم، موجَب لم يتقدمه حرف سلب أو شبهه، والاستثناء واقع بعد إلاَّ، وهو استثناء متصل. [وَقَدْ أَتَانِي النَّاسُ إِلاَّ بَكْرَا] أتاني أتى فعل ماض، والناس فاعل، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وإلا حرف استثناء، وبكراً منصوب على الاستثناء، وحكم النصب هنا واجبٌ لاستيفاء الشروط الثلاثة: كونه تامًّا، كونه موجبًا، كونه مستثنى بإلا، وهذان مثالان للاستثناء المتصل، وهو ما كان المستثنى من جنس المستثنى منه، ومنه قوله تعالى: ((فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ (249))) [البقرة:249] فشربوا

فعل ماضٍ، والواو فاعل وهو مستثنى منه، وقليلاً منصوب على الاستثناء لكونه مستثنى بإلا، والجملة مثبتة. وقوله: ((فَسَجَدَالْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيْسَ)) [الحجر:30] هذا فيه تفصيل على القول بأن إبليس من الملائكة فهو استثناء متصل، وعلى القول بأنه ليس منهم فهو استثناء منقطع. وَإِنْ بِنَفْيٍ وَتَمَامٍ حُلِّيَا ... فَأَبْدِلَ اوْ بِالنَّصْبِ جِيءْ مُسْتَثْنِيَا كَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ... الاَّ صَالِحُ ... أَوْ صَالِحًا فَهْوَ ... لِذَيْنِ صَالِحُ الحال الثانية من أحوال المستثنى بإلا: جواز نصبه راجحاً أو مرجوحاً، وأشار إليها بقوله: [فَأَبْدِلَ اوْ بِالنَّصْبِ جِيءْ مُسْتَثْنِيَا] فأو للتخيير بين الإبدال والنصب، لذلك قلنا المستثنى بإلا في هذه الحالة الثانية جائزُ النصبِ سواء كان راجحاً أو مرجوحاً. قال رحمه الله: [وَإِنْ بِنَفْيٍ] أو نهي أو استفهام، فليس الحكم مختصا بالنفي فقط، [وَتَمَامٍ حُلِّيَا] الألف للإطلاق، والضمير يعود إلى الكلام، يقال: حلَّاها تحليةً ألبسها حَلْياً أي الحُلي أو وصفها ونعتها،، فكأنه جعل الأصل في الكلام الإيجاب ثم كُسي وأُلبس النفي، فدلَّ على أنه ليس موجبًا لأن الأصل الإيجاب، فإذا دخل عليه نفيٌ كأنه كُسي ثوباً أو حلية، [وَتَمَامٍ حُلِّيَا] التمام هو أن يكون الكلام تاماًّ بمعنى أن يُذكر المستثنى منه، إذاً الشرط الأول أن يكون الاستثناء بإلا، والشرط الثاني تمام الكلام، أن يكون المستثنى منه مذكوراً في الكلام، وهذان الشرطان في الحالة الثانية وفي الحالة الأولى أيضاً، والذي تخلَّف هو الإيجاب، وهذا هو الفرق بين المسألتين وجوب

النصب وعدم النصب أنه انتفى عن الحالة الثانية الإيجاب وكُسي النفي أو الاستفهام أو النهي، فحينئذٍ نقول: الكلام غير موجَبٍ هذا هو المراد هنا أن يكون الكلام غيرَ موجب مع بقية الشرطين المذكورين في الحالة الأولى. قال: [فَأَبْدِلَ اوْ بِالنَّصْبِ جِيءْ مُسْتَثْنِيَا] يعني ائتِ بالمستثنى مُبدَلاً مما قبله بدلَ بعضٍ من كل، أو ائت به منصوباً على الاستثناء على الأصل، ولكن النصب على الاستثناء هنا ليس بواجب بل هو جائز، ومع هذه الشروط الثلاثة فليس الحكم منصبا على الاستثناء مطلقا كما هو في الحالة الأولى، بل لابد من تفصيل في حالة الاستثناء، لأننا ذكرنا في الحالة الأولى أنه يجب النصب سواء كان الاستثناء متصلاً أو منفصلاً. وهنا الحكم يختلف، فننظر إلى نوع الاستثناء هل هو متصل أو منقطع؟ حينئذٍ إذا كان الكلام غيرَ موجب فنقول: لا يخلو الاستثناء من إحدى حالتين: الأولى: أن يكون الاستثناء متصلا، فحينئذٍ يجوز في المستثنى وجهان: الوجه الأول: الإتباع، أن يُجعل تابعًا للمستثنى منه، فيُعرب بدلا منه بدلَ بعضٍ من كل عند البصريين، أو عطف نسق عند الكوفيين. الوجه الثاني: النصب على الاستثناء، لكنه جوازاً لا وجوباً، وهو محفوظ، ولكنَّ الأوَّل أجود منه، مثَّل هنا بقوله: [كَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ الاَّ صَالِحُ] لم حرف نفي وجزم وقلب، ويقم فعل مضارع مجزوم بلم

وجزمه سكون آخره، وأحدٌ فاعل وهو المستثنى منه، وهو مذكور، إذاً الكلام تام، وهو غير موجب، وإلا حرف استثناء، فالاستثناء بإلا، وصالح وهو المستثنى يجوز فيه وجهان، لأن الاستثناء هنا متصل، لأنَّ صالحا من جنس المستثنى منه وهو أحدٌ الذي أُثبت له القيام، حينئذٍ نقول: إلا صالحٌ على الإتباع، فيُعرب بدل بعض من كل، لأن أحد كل، وصالح بعض منه، كما قلنا في قوله: (((((((عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ (97))) [آل عمران:97] فالمستطيع بعض من الناس، حينئذٍ نحكم عليه بأنه مستثنى وحكمه الإتباع أُتبع ما قبله على أنه بدل بعض من كل. [أَوْ] أي وإن شئت قل: إلا [صَالِحًا] بالنصب، وهو وجه محفوظ في لغة العرب، ونصبه على الاستثناء على الأصل، وما جاء على الأصل لا يُسأل عنه. والحاصل أن الاستثناء المتصل من كلام منفي فيه وجهان: الإبدال والنصب على الاستثناء، والإتباع أجود من النصب على الاستثناء. [فَهْوَ] أي المستثنى [لِذَيْنِ] أي النصب والإتباع [صَالِحُ] لها، لكن لا على السواء بل الأوَّل مُقدَّم، ولذلك قال: [فَأَبْدِلَ] قدم الإبدال على النصب، وإذا قُدِّم أمرٌ على أمر آخر فالأوَّل أرجحُ من الثاني. الثانية: أن يكون الاستثناء منقطعاً، فأهل الحجاز يوجبون النصب، فيقولون: ما قام القوم إلا حماراً بالنصب وجوباً ولا يجوز

عندهم الإتباع، فلا يصح ما قام القوم إلا حمارٌ، لأنك لو قلت: إنه بدل بعض من كل لأنه جزءٌ منه وفي الحقيقة ليس جزءاً منه، ليس جزءاً من القوم فحينئذٍ وجب النصب، قال تعالى: ((مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (157))) [النساء:157] بالنصب وجوبا لأن اتِّباع الظنِّ ليس من جنس العلم. وبنو تميم يجيزون الوجهين: الإتباع والنصب فيجوز عندهم: ما قام القوم إلا حماراً، وما قام القوم إلا حمارٌ. وحاصل هذه الحالة: إذا كان الكلام تاما غير موجبٍ فإن كان الاستثناء متصلا جاز فيه وجهان: النصب على الاستثناء، والإتباع على أنه بدل بعض من كل، وإن كان منقطعاً فعند أهل الحجاز واجب النصب، وعند تميم يجوز فيه الوجهان. إذًا التفرقة بين المتصل والمنقطع هذا على لغة أهل الحجاز. وعند تميم يجوز فيه الوجهان مطلقا يستوي عندهم الاستثناء المتصل والمنقطع. ومثال النفي قوله تعالى: (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ (66))) [النساء:66] قرأ السبعة غير ابن عامر بالرفع على الإبدال من الواو في فعلوه، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب على الاستثناء، إذًا ما فعلوه إلا قليلٌ منهم، إلا قليلا، بالنصب على الاستثناء وبالرفع على البدلية.

ومثال النهي قوله تعالى: (((وَلَايَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ (81))) [هود:81] ولا يلتفت هذا نهي، وقوله: إلا امرأتك قُرئ بالوجهين، قرأ أبو عمرو وابن كثير بالرفع على الإبدال من أحد إلا امرأتُك، وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء ويحتمل وجهين: إما أن يكون مستثنى من أهلك في أول الآيات قوله (((فَأسْرِ بأهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ (81))) [هود:81] فيكون النصب واجباً، لأنه كلام تام موجب وذُكر المستثنى منه فحينئذٍ يجب النصب. وإما أن يكون مستثنى من أحد فيكون جائز النصب، وقرأ الأكثر على الوجه المرجوح، لأن القرآءة سنة متبعة، ومرجعها الرواية لا الرأي. فيكون النصب جائزا لا واجباً. ومثال الاستفهام قوله تعالى: (ومن يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56))) [الحجر:56] ومَن استفهام، وقوله: إلا الضالون استثناء، من حيث اللغة يجوز الوجهان: إلا الضالون، وإلا الضالين لأنه استثناء بإلا والكلام تام ولكنه غير موجب لسبْقه بالاستفهام. ومن يقنط الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، وهو المستثنى منه، فهو مذكور في الكلام، إلا الضالون هذا مستثنى من الفاعل المستتر، فيجوز فيه الرفع على البدلية، ويجوز فيه النصب على الاستثناء، والقراءة سنة متَّبعة.

الحالة الثالثة من أحوال المستثنى بإلا: ما يُسمَّى بالاستثناء المفرَّغ، ولا يكون إلا من كلام منفي، ولم يذكر فيه المستثنى منه، لأنهم رتبوا الشروط على حسب الكلام فوجوب النصب مع استيفاء الشروط الثلاثة، وجوازه بإسقاط شرط الإيجاب فقط في الحالة الثانية، فصار منفياً، والذي بقي هو الاستثناء بإلا ولا بد أن يبقى معنا هذا الشرط، إذًا الذي بقي ويمكن إسقاطه هو شرط ذكر المستثنى منه، وهذا هو الاستثناء المفرَّغ ولا يكون إلا من كلام منفي لم يذكر فيه المستثنى منه. أَوْ كَانَ نَاقِصًا فَأَعْرِبْهُ عَلَى ... حَسَبِ مَا يَجِيءُ فِيهِ العَمَلاَ [أَوْ] للتنويع والتقسيم [كَانَ] هو أي الكلام [نَاقِصًا] هذا مقابل لقوله [إِذَا الكَلاَمُ تَمَّ] لأن الكلام إما أن يكون تاماً وهذا بذكر المستثنى منه، وإما أن يكون غير تام وهذا يسمى الناقص، بأن يُسقط المستثنى منه، ولم يَذكر النفي أو الإيجاب لأنه لا يكون ناقصًا إلا إذا كان منفيا، فلا يكون ناقصًا وهو موجب لامتناعه، قالوا: يمتنع أن يقول: رأيت إلا زيداً، هذا مستحيل لا يمكن أن يقع، رأيت إلا زيداً، يعني رأيت كلَّ الناس إلا زيداً، وهذا لا يحصل لأنه يستحيل أن يكون رأى كل الناس واستثنى زيداً، لكن ما رأيت إلا زيداً، هذا ممكن أن تنفى الرؤية عن الناس كلهم، ولا تثبت إلا لزيد. ولا تقول أيضًا: ضربت إلا زيداً، معناه ضربتُ كلَّ الناسِ إلا زيداً، لم يقع عليه الضرب، هذا أيضاً مستحيل، استحالة ضربك جميع الناس غير زيدٍ. إذًا علمنا أنه غير تام لعدم ذكر المستثنى منه

وأنه لا يكون إلا منفياً، فما حكمه؟ قال: [فَأَعْرِبْهُ] وهذا أمر وهو للوجوب [عَلَى حَسَبِ مَا يَجِيءُ فِيهِ العَمَلاَ] أي يُعطَى ما يستحقه - أي المستثنى الذي يقع بعد إلا- يُعطَى ما يستحقه لولم توجد إلاَّ، فإذا قال: ما قام إلاَّ زيدٌ، نقول: هذا استثناء مفرَّغ لعدم ذكر المستثنى منه، فننظر لما بعد إلاَّ كأنها لم توجد في الكلام، فتعربه فاعلا، فتقول: ما قام إلا زيدٌ، ما حرف نفي، وقام فعل ماض، وإلا حرف استثناء ملغاة، وزيدٌ فاعل، إذاً ما بعد إلاَّ تعربه كما لو لم تكن إلا موجودة, ولذلك سمي مفرغاً لأن ما قبل إلاَّ قد تفرغ لطلب ما بعدها. [فَأَعْرِبْهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِيءُ فِيهِ العَمَلاَ] أي على حسب ما يطلبه العامل، إنْ طَلبه فاعلاً رَفعَه على الفاعلية، وإنْ طلبه مفعولاً به نصَبه على المفعولية، وإنْ طلبه مجروراً بحرف جر جُرَّ بحرف الجر، وسيمثل لها كلها، والاستثناء حينئذٍ يكون من لفظٍ عامٍ محذوف يعني لا بُدَّ من تقديره، وهذا مما يذكره النحاة من المواضع التي يجب فيها حذف الفاعل، فنحو: ما قام إلاَّ زيدٌ، من جهة المعنى لا بد من مراعاة الاستثناء؛ لأن إلاَّ أُلغيت من جهة العمل، وعندما نقول: إلاَّ ملغاة، إنما ألغيت من جهة العمل وأما من جهة المعنى فلا بُدَّ أن يكون للاستثناء أثر، فإذا قيل: ما قام إلاَّ زيدٌ، تقديره ما قام أحد إلا زيدٌ، فأحد هذا هو المستثنى منه المحذوف. كَمَا هَدَى إِلاَّ مُحَمَّدٌ وَمَا ... عَبَدتُّ إِلاَّ اللهَ فَاطِرَ السَّمَا

[كَمَا هَدَى إِلاَّ مُحَمَّدٌ] أي كقولك أو مثل قولك: ما هدى إلا محمد، يعني ما هدى هداية الإرشاد والدلالة في النصح والتوجيه والإخلاص إلا محمدٌ صلى الله عليه وسلم لأنها بَلَغَتِ الغاية، ولا يَعْدِلُه أو يساويه أحدٌ مهما كان، فما نافية، وهدى فعل ماض، وإلاَّ أداة استثناء ملغاة يعني من جهة العمل وأما المعنى فلها أثرها، ومحمدٌ فاعل لهدى، والتقدير: ما هدى أحد إلا محمدٌ، حينئذٍ يكون الاستثناء في المعنى من اسم عام محذوف واجب الحذف. [وَمَا عَبَدتُّ إِلاَّ اللهَ فَاطِرَ السَّمَا] أي خالق السماء، فما حرف نفي، وعبدت فعل وفاعل، وهو يطلب مفعولاً، وإلا أداة استثناء ملغاة، ولفظ الجلالة منصوب على المفعولية، فنعربه مفعولاً به ولا نقول: مستثنى أو منصوب على الاستثناء، لأن الاستثناء هنا استثناء مفرَّغ بمعنى أنَّ العامل الذي قبل إلا قد تفرَّغ لطلب ما بعد إلاَّ فنصبه على أنه مفعول به له، وفاطر السماء بدل أو عطف بيان. وَهَلْ يَلُوذُ العَبْدُ يَوْمَ الحَشْرِ ... إِلاَّ بِأَحْمَدَ شَفِيْعِ البَشَرِ [وَهَلْ يَلُوذُ] لاذ به لجأ إليه وعاذ به وبابه قال، [وَهَلْ يَلُوذُ العَبْدُ يَوْمَ الحَشْرِ إِلاَّ بِأَحْمَدَ شَفِيْعِ البَشَرِ] والمقصود هو الشفاعة العظمى، [وَهَلْ] استفهام، إذاً الكلام غير موجب، لأنَّ غير الموجب هنا ما سبقه نفي أو استفهام أو نهي، [إِلاَّ بِأَحْمَدَ] ما بعد إلاَّ سُلِّط عليه ما يتعدَّى به يلوذ، لأن يلوذ من لاذ به أي لجأ إليه، فلا يتعدى بالباء، وأحمد لما كان واقعًا بعد إلا في استثناء مفرَّغ سُلِّط عليه العامل يلوذ فدخل عليه حرف الجر وهو الباء، كأنه قال: يلوذ

بأحمد عليه الصلاة والسلام. إذاً ذَكَر لك ثلاثة أمثلة رفعًا ونصبًا وجرًّا، لأن الاستثناء المفرَّغ أن يكون العامل الذي قبل إلاَّ مسلَّطا على ما بعد إلا، كأنَّ إلا لم تذكر أصلا ولذلك دخل حرف الجر هنا بعد إلا. إذاً هذه ثلاثة أحوال للمستثنى بإلاَّ: وجوب النصب، وجواز النصب، وأن يُعطى المستثنى الذي بعد إلا على حسب ما يقتضيه العوامل. ثم شرع في بقية الأدوات، وأدوات الاستثناء غير إلاَّ على ثلاثة أقسام: الأول: ما يخفض دائماً يعني يَجُرُّ ما بعده، وهو غير وسوى، حينئذٍ يكون المستثنى مجروراً دائماً. والثاني: ما ينصب دائماً، وهو ليس ولا يكون. والثالث: ما يخفض تارة وينصب تارة أخرى، وهو عدا وحاشا وخلا. وسيذكرها الناظم متتالية، قال رحمه الله: وَحُكْمُ مَا اسْتَثْنَتْهُ غَيرُ وَسِوَى ... سُوَى سَوَاءٌ أَنْ يُجَرَّ لاَ سِوَى [وَحُكْمُ] مبتدأ، و [أَنْ يُجَرَّ] أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر المبتدأ. حكم ما استثنته يعني حكم المستثنى بغيرٍ وسوى أن يكون مجرورا، فما بعد غير وما بعد سوى هو المستثنى، تقول: قام

القوم غيرَ زيدٍ، فزيدٍ هو المستثنى، لأنك أخرجت زيدًا من القوم، أو جئت بغير وهو قول متصل للدلالة على أنَّ زيدًا غيرُ مراد بالقول الأول على القولين، وقام القوم كلام موجب تام، وغيرَ بالنصب على الحالية أو الاستثناء عند بعضهم، وهو مضاف وزيد بالخفض مضاف إليه، والمضاف إليه يكون دائمًا مخفوضًا، لذلك قال هنا: [وَحُكْمُ مَا اسْتَثْنَتْهُ غَيرُ] لأن غير من أدوات الاستثناء، [وَسِوَى] أي وما استثنته سوى، فهي من أدوات الاستثناء، [أَنْ يُجَرَّ] أي المستثنى، فالضمير يعود على المستثنى، ويجر بإضافة غيرٍٍ وسوى إليه، فتقول: قام القوم غيرَ زيدٍ، وقام القوم سِوى زيدٍ، وقد ذكرنا في أول الباب أن المستثنى من المنصوبات في بعض أحواله، وهذه الحالة التي يكون فيها المستثنى ليس منصوباً على الأصل، وإنما يكون مخفوضا، [لاَ سِوَى] أي لا غيرُ، ليس له حالة أخرى، وإنما يكون دائما مخفوضا، هذا حكم المستثنى. وأما حكم غير وسوى فإنها تأخذ حكم ما بعد إلاَّ، وما بعد إلاَّ قد يكون واجب النصب، وقد يكون جائزَ النصب، وقد يكون بحسب العوامل، فحكم الذي يقع بعد إلا هو الذي يعطى للفظة غير وسوى، فإذا قلت: قام القوم غيرَ زيد، نقول: يجب نصب غير هنا، لأن الكلام تام موجب، وإذا كان الكلام تامًّا موجبًا فما بعد إلا يكون منصوباً، حينئذ نقول: قام القوم غيرَ .. بالنصب، وحكم نصب غير هنا واجب، لأننا نقابلها بما بعد إلاَّ فلو قلت: قام القوم إلا زيداً، فحكم زيد هنا واجب النصب، إذاً تأخذ هذا الحكم وتعطيه لغير، إذا كان الكلام تامًّا

موجباً، فتقول: قام القوم غيرَ زيدٍ. وإذا قلت: ما قام القوم غيرَ زيدٍ وغيرُ زيدٍ، يصح الوجهان، لأنَّ الكلام إذا كان تاما منفيا فما بعد إلاَّ له وجهان إذا كان الاستثناء متصلا: إما النصب على الاستثناء، وإما الإتباع لما قبله على أنه بدل بعض من كل، فحينئذٍ إذا وقعت غير في كلام تام غير موجب جاز فيها الوجهان، فتقول: ما قام القوم غيرَ زيد بالنصب على الحالية، وما قام القوم غيرُ بالرفع على البدلية، فيجوز فيه الوجهان، وتقول: ما قام القوم غيرَ حمارٍ، بالوجهين أيضًا على مذهب التميميين، وعلى مذهب الحجازيين غيرَ بالنصب وجوبًا. وإذا قلت: ما قام غيرُ زيدٍ، فيجب رفع غير؛ لأنك تقول: ما قام إلا زيدٌ، فيجب رفع زيد، وما رأيت غيرَ زيدٍ فيجب نصب غير، وما مررت بغيرِ زيد، يتعين الجر بحرف الجر. والحاصل: أن حكم غير في الإعراب حكم ما بعد إلا، وحكم ما بعد إلا له ثلاثة أحوال: وجوب النصب، وجواز النصب، وعلى حسب العوامل، تنظر للفظة غير فنعطيها حكم ما بعد إلا، وإعرابها إذا نصبْتها فالأصح أنك تعربها حال، وجوَّز بعضهم النصب على الاستثناء، وإذا رفعت تعربها بدل بعض من كل. ولا نمثل بسوى لأن الإعراب لا يظهر على سوى، وحكم سوى حكم غير فتأخذ حكمها على الأصح على ما عليه الجمهور.

النوع الثاني: ولم يذكره الناظم وهو ما ينصب دائماً، وهو ليس ولا يكون، تقول: قام القومُ ليس زيداً، وقام القوم لا يكون زيداً، هذا واجب النصب دائما لا يكون إلا منصوباً، لأن المنصوب هنا خبر ليس، وخبر ليس دائما يكون منصوباً، والمنصوبُ بلا يكون خبرٌ لها وخبرها دائماً منصوب، ولذلك يُعرب خبرًا ولا يعرب مستثنى، والاستثناء هنا معنوي قام القوم ليس زيداً، قام القوم فعل وفاعل، وليس فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر وجوباً يعود على البعض المفهوم من الكل، وزيداً خبر ولا تقل مستثنى. وقام القوم لا يكون زيداً، قام القوم فعل وفاعل، ولا نافية، ويكون فعل مضارع ناسخ واسمه ضمير مستتر وجوباً تقديره هو يعود على البعض المفهوم من الكل السابق، وزيداً خبر يكون منصوب دائماً لا يجوز خفضه إلا إذا دخلت عليه الباء وهي حرف جر زائد فحينئذ يكون منصوباً تقديرا. وَانْصِبْ أَوِ اجْرُرْ مَا بِحَاشَا وَعَدَا ... خَلاَ قَدِ اسْتَثْنَيْتَهُ مُعْتَقِدَا فِي حَالَةِ النَّصْبِ بِهَا الفِعْلِيَّهْ ... وَحَالَةِ الجَرِّ بِهَا ... الحَرْفِيَّهْ تَقُولُ قَامَ القَوْمُ حَاشَا جَعْفَرَا ... أَوْ جَعْفَرٍ فَقِسْ لِكَيْمَا تَظْفَرَا النوع الثالث: ما ينصب تارة ويخفض تارة أخرى، ولذلك قال: [وَانْصِبْ أَوِ اجْرُرْ] فجوَّز الوجهين، لأنه قال: [وَانْصِبْ] وهو فعل الأمر، والأصل فيه أنه يقتضي الوجوب ثم جَوَّز الوجه الثاني بقوله: [أَوِ اجْرُرْ] فجعله قرينة صارفة عن الوجوب، فالمراد به النصب لكن لا على جهة الوجوب، وأو للتنويع، لكن هذا الحكم

إذا لم يكن ثَمَّ مانع منه، وهو إذا لم تدخل عليه ما، فحينئذٍ يكون جائزاً. وأما إذا دخلت عليه ما فيتعين النصب. [مَا بِحَاشَا وَعَدَا خَلاَ قَدِ اسْتَثْنَيْتَهُ] ما اسم موصول بمعنى الذي، وجملة قد استثنيته صلة الموصول، وبحاشا وما عطف عليه متعلق بقوله استثنيته، إذاً المستثنى يكون منصوباً إذا دخلت عليه حاشا وعدا وخلا، قال: [مُعْتَقِدَا] يعني حالة كونك معتقداً في حالة النصب [بِهَا الفِعْلِيَّهْ] بأن تعتقد أنَّ خلا وحاشا وعدا أفعال ماضية، وهذا يكون محلُّه القلب، فتقول: قام القوم عدا زيداً، معتقداً فعليَّة عدا، وقام القوم حاشا زيداً، معتقداً فعلية حاشا، وقام القوم خلا زيداً، معتقداً فعلية خلا، [وَحَالَةِ الجَرِّ بِهَا الحَرْفِيَّهْ] فكما يجوز النصب بها يجوز الخفض بها، فتقول: قام القوم عدا زيدٍ، وقام القوم خلا زيدٍ، وحاشا زيدٍ، إذاً نصبت وجررت بها واللفظ واحد. والمشهور عند النحاة التفصيل في عدا وخلا وحاشا، وحاشا المشهور عندهم أنها لا تصحب أي لا تدخل عليها ما، فحينئذٍ يجوز فيها الوجهان مطلقا، تقول: قام القوم حاشا زيداً وحاشا زيدٍ. ولا تصحبها ما المصدرية، وإعرابه قام القوم فعل وفاعل، وحاشا فعل ماضٍ لأنك نصبت بها معتقداً فعليتها، فإذا نظرت إلى ما بعد حاشا إذا كان منصوباً فحينئذ كانت حاشا فعلاً ماضيًا، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره هو يعود على البعض المفهوم من الكل السابق، وزيداً مفعول به ولا تقول مستثنى، ويجوز قام القوم حاشا زيدٍ بالخفض، فحاشا حرفُ جرٍّ مثل مِن وعن وإلى صارت حرف جر

بالنظر إلى ما بعدها لأنك جررت بها فإذا جررت بها فتعتقد حينئذ حرفيتها، فصارت حاشا حرف جر، وزيدٍ اسم مجرور بحاشا، ولا تقل مستثنى، لكن في المعنى في الحالتين نصبت أو جررت في المعنى ما بعدها يكون مستثنى مما قبله، هذا في حاشا. وأما عدا وخلا فهذه قد تتقدمها ما المصدرية فتقول: قام القوم ما عدا زيدًا وما خلا زيدًا، فإذا سبقتها ما المصدرية تعينت فعليتها، ولا يجوز الجر بها إلا قليلا قال ابن مالك: ... وانْجرارٌ قد يردْ .. فهو قليلٌ لكنَّه مسموع، والمشهور المقيس عليه أن ما إذا تقدمت على عدا وخلا وجب النصب، ولا يجوز الجر فلا يصح ما عدا زيدٍ ما خلا زيدٍ، لأن ما المصدرية لا تدخل إلاَّ على الأفعال ولا تدخل على الحروف، فإذا دخلت على عدا عينت أنها فعل، فنصب ما بعدها، وإذا دخلت على خلا عينت أنها فعل ونصب ما بعدها، ولا يجوز الجر على الأصح، وإذا لم يتقدمها ما صارت مثل حاشا وهي التي ذكرها الناظم هنا قد تنصب بها وتعتقد أنها فعل، وقد تخفض بها وتعتقد أنها حرف، لذلك التفصيل يكون في خلا وعدا دون حاشا. وَانْصِبْ أَوِ اجْرُرْ مَا بِحَاشَا وَعَدَا ... خَلاَ قَدِ اسْتَثْنَيْتَهُ مُعْتَقِدَا انصب أو اجرر ما قد استثنيته أي المستثنى بحاشا وعدا وخلا، ولم يذكر تعيَّن النصب فيما إذا تقدمت ما المصدرية على عدا وخلا، وهاتان الحالتان فيما إذا لم تتقدم ما المصدرية، وحاشا هذه قال بعضهم أنها قد تتقدمها ما المصدرية، فتقول: ما حاشا لكنه قليل،

وابن مالك قال: ولاَ تَصْحَبُ مَا. وقوله: في حالة النصب متعلق بقوله معتقداً، وبها متعلق بقوله النصب، والفعلية مفعول به والعامل فيه معتقداً الفعلية أي فعليتها فأل نائبة عن المضاف إليه. أي معتقداً فعليتها في حالة النصب بها، ومعتقدا حرفيتها في حالة الجر بها، إذاً مردُّها إلى القلب والاعتقاد. [تَقُولُ قَامَ القَوْمُ حَاشَا جَعْفَرَا أَوْ جَعْفَرٍ] حاشا جعفرا نَصَبَ بحاشا على أنها فعل، والدليل على أنها فعل ما بعدها، إذًا تحكُم على حاشا أو خلا أو عدا إذا لم تتقدمها ما تحكم عليها بما بعدها إن كان منصوباً فهي فعل؛ لأن الفعل هو الذي ينصب في الأصل، والفاعل حينئذٍ يكون ضميراً مستتراً واجب الاستتار يعود على البعض المفهوم مما سبق، فجعفراً مفعول به ولا تقل مستثنى، أو حاشا جعفرٍ بالخفض على أن حاشا حرف جر. [فَقِسْ] أي فقس على ما مضى، والقياس هو إلحاق فرع بأصل، والأصل هنا يكون هو القاعدة، والمثال يكون موضِّحًا لتلك القاعدة، فحينئذٍ إذا جاءك مثال فتلحق المثال بالمثال والنظير بالنظير [لِكَيْمَا تَظْفَرَا] تظفرا فعل مضارع، والألف للإطلاق، منصوب بكي، لأن اللام قد سبقتها لفظاً، فحينئذٍ كي نفسها هي الناصبة، إذاً المستثنى في بعض أحواله من المنصوبات.

باب لا

بَابُ لاَ أي هذا باب بيان لا النافية للجنس، والمراد به اسم لا أي باب بيان اسم لا، لأنَّ اسم لا هو الذي يكون منصوباً لفظاً أو محلاً، وأما الخبر فهو مرفوع، لأنه في مقام تعداد المنصوبات، والمراد هنا بلا النافية للجنس، وتُسمَّى لا التبرئة أي تبرئة الجنس من الخبر، يقال برَّأتُه أُبَرِّؤُه إذا نفيت عنه حكم الخبر، وحينئذٍ تكون لا هذه نافية لاسمها نحو: لا رجلَ، وهي ليست نافية للرجل نفسه وإنما نافية للخبر الذي وصف به الرجل، فنحو: لا رجل في الدار، يعني لا وجود للرجل في الدار، ولذلك قال النحاة: لا رجل في الدار دلت لا على نفي الكينونة في الدار عن جنس الرجل لا على نفي الرجل، لأن الرجل ذات، والذوات الأصل فيها أنها لا تنفى، وإنما ينفى حكم الذات، وحكمُ الذات معنىً من المعاني، والمراد حينئذٍ بلا النافية للجنس لا الدالةُ على التنصيص على سبيل الاستغراق، لأنَّ لا تحتمل أنها دالة على نفي الوحدة مع احتمال نفي الجنس، وقد تكون دالة على التنصيص على نفي الجنس، فإذا قلت: لا رجلٌ في الدار، فهذه لا التي تعمل عمل ليس، وهي نافية، ولكن النفي هنا يحتمل أنه نفي للوحدة فحينئذٍ يصح أن تقول: لا رجلٌ بل رجلان أو بل رجال، ويحتمل أنه نفي للجنس، أي جنس الرجل ليس موجوداً في الدار، وحينئذ لا يصح أن تقول: لا رجلٌ في الدار بل رجلان أو بل رجال، لأنك نفيت جنس الرجال، حقيقة الرجل

ليست موجودة في الدار، ويصح أن تقول: لا رجلٌ في الدار بل امرأة، لأنك نفيت جنس الرجال وهذا لا يناقض أن تثبت جنس الإناث، فحينئذٍ لا النافية التي تعمل عمل ليس هذه محتملة لنفي الجنس، وليست نصاً في نفي الجنس، وإذا أريد التنصيص لفظاً بأن الجنس منفيٌّ، ولا يحتمل غيره جئت بالاسم مبنيا مع لا فقلت: لا رجلَ، بالبناء على الفتح، ولا هنا نصٌّ في استغراق النفي، ولذلك قيل: بني اسمها لأنه ضمن معنى من الاستغراقية، والأصل لا مِن رجلٍ، ورجل نكرة في سياق النفي فتعم، وإذا دخلت عليها من الاستغراقية صارت نصاً في العموم يعني ليست ظاهرة فيه، فلا رجلَ نصٌّ في العموم، لأنها على تقدير من الاستغراقية، ومعلوم أن النكرة عند الأصوليين إذا كانت في سياق النفي أو الشرط أو الاستفهام أنها تعمُّ ظاهرًا لا نصاً، وإذا سبقتها من الاستغراقية حينئذ تكون نصا في العموم، والفرق بين الظاهر والنص، أن الظاهرَ يحتمل التخصيص، والنص لا يحتمل التخصيص، ومنه قوله تعالى: (((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ (62))) [آل عمران:62] فهذا العموم لا يَحتمل التخصيص، ومثله قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود:6] لا يحتمل التخصيص، لأنه نصٌّ في العموم، والدليل على أنه نص ليس كون النكرة في سياق النفي فحسب، لأنها حينئذ تكون ظاهرة في العموم محتملة للتخصيص، وأما الدلالة على أنها نص في العموم بحيث لا يحتمل إخراج فرد من أفرادها دخول منْ الاستغراقية على النكرة، وهذا الباب له تعلق

بأصول الفقه لأنه من ألفاظ العموم. إذاً المراد النافية للجنس على سبيل التنصيص لتخرج لا العاملة عمل ليس. ولا النافية للجنس مما حُملت على إنَّ وأخواتها، يعني تعتبر من النواسخ التي تدخل على المبتدأ والخبر، فتدخل على المبتدأ فتنصبه على أنه اسم لها، والنصب قد يكون لفظاً أو محلاًّ كما سيأتي، وعلى الخبر فترفعه أي لا - على الصحيح- على أنه خبر لها. قال الناظم: اِنْصِبْ بِلاَ مُنَكَّرًا مُتَّصِلاَ ... مِنْ غَيرِ تَنْوِينٍ إذَا أَفْرَدتَّ لاَ [اِنْصِبْ] محلاًّ أو لفظاً، فمحلا فيما إذا كان اسم لا مفرداً لأنَّه مبنيٌّ معها، فحينئذٍ يكون النصب للمحل، ولفظاً فيما إذا كان اسم لا مضافاً أو شبيها بالمضاف، [اِنْصِبْ بِلاَ] أي النافية للجنس، إذاً لا تدخل معنا لا الناهية ولا الزائدة ولا النافية للجنس احتمالا، وهذا هو الشرط الأول أن تكون لا نافية للجنس. [مُنَكَّرًا] وهذا الشرط الثاني أن يكون اسمها وخبرها نكرتين، وقوله: منَكَّراً ليس متعلقا بالاسم فحسب، بل لا بُدَّ أن يكون الاسم نكرة والخبر كذلك نكرة، فلا تعمل في معرفة لأنها على تقدير من، ومن الاستغراقية مختصة بالنكرات. [مُتَّصِلاَ] أي تكون لا مباشرة للنكرة أي اسمِها، فلا يفصل بين لا واسمها أيُّ فاصل ولو بخبرها، ولو ظرفاً أو جاراً ومجروراً، فلا يُقبل الفصل بين لا ومدخولها مطلقًا. وهذا هو الشرط الثالث.

فإذا وجدت هذه الشروط الثلاثة حينئذٍ تكون لا عاملة عمل إنَّ، أُلحقت لا النافية للجنس بإنَّ التي تختص بالمبتدأ والخبر، قالوا: لأنَّ لا مؤكدة، وإنَّ مؤكدة، ولكنَّ التأكيد في باب إنَّ للإيجاب، والتأكيد في باب لا للنفي، حينئذ حُمِل الضدُّ على ضده، كذلك لا ملازمة للصدر كما أنَّ إنَّ ملازمة للصدر، ولا مختصة بالجملة الاسمية يعني لا تدخل على الجملة الفعلية مثل إنَّ لا تدخل إلا على الجملة الاسمية، إذاً لثلاثة أمور حُملت لا النافية للجنس على إنَّ فعملت عمل إنَّ، ولذلك قال ابن مالك: عَمَلَ إنَّ اجْعَلْ لِلاَ ..... ... ...................... عمل إنَّ وهو نصب المبتدأ على أنه اسم لها ورفع الخبر على أنه خبرٌ لها هذا العمل اجعَله للا، حمْلاً للا على إنَّ في الثلاثة الأمور المذكورة. حينئذٍ قوله: [اِنْصِبْ بِلاَ] إذا وجدت هذه الشروط الثلاثة، وكانت مفردةً غير مكرَّرة كما قال: إذا أفردتَ لا، فنحمل قوله: [اِنْصِبْ] على الوجوب لفظًا أو محلا، فيجب النصب إذا توفرت هذه الشروط الثلاثة مع عدم تكرار لا، فيقال: لا رجلَ في الدار، النصب هنا واجب محلاًّ، وقولك: لا صاحبَ علمٍ ممقوتٌ، ولا طالعًا جبلاًً حاضرٌ، فالنصب هنا واجب لفظًا. وإن انخرم الشرط الأول بأن كانت لا غير نافية للجنس فإما أن تكون ناهية اختصت حينئذٍ بالفعل المضارع وجزمته، نحو: لا

تشركْ بالله، أو تكون زائدةً لم تعمل شيئًا كما في قوله تعالى: (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (12))) [الأعراف:12] وهذه لا تختص بالفعل، أو تكون نافية للوَحدة عملت عمل ليس كما في قولك: لا رجلٌ في الدار بل رجلان. وإن انخرم أحد الشرطين الأخيرين لم تعمل ووجب تكرارها، فإذا لم يكن اسمها وخبرها نكرتين وجب إهمالها فلا تعمل في معرفة؛ لأنه كما سبق أنها على تقدير من الاستغراقية، ومن الاستغراقية تختص بالنكرة فلا تدخل على المعرفة، فتقول: لا زيدٌ في الدار ولا عمرو، وقال تعالى: ((لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47))) [الصافات:47] فتعين إهمالها، ولا يجوز إعمالها. وقوله: [مِنْ غَيرِ تَنْوِينٍ] هذا يحتمل أن مراده به اسم لا المضاف لأنك تقول: لا صاحبَ علم، فهنا نصبت من غير تنوين، وأما اسم لا الشبيه بالمضاف، نحو: لا طالعًا جبلاً فهنا نصبت مع التنوين، ولا رجلَ نُصب اسم لا محلاًّ والتنوين لا يدخل الإعراب المحلِّي، وإنما يكون تابعاً للفظ، وذلك [إذَا أَفْرَدتَّ لاَ] أي لا المفردة وهي التي لم تتكرر. تَقُولُ لاَ إِيمَانَ لِلمُرْتَابِ ... وَمِثْلُهُ لاَ رَيْبَ فِي الكِتَابِ [تَقُولُ] فيما استجمع للشروط السابقة [لاَ إِيمَانَ لِلمُرْتَابِ وَمِثْلُهُ لاَ رَيْبَ فِي الكِتَابِ]

إذا علمنا هذا نقول اسم لا له ثلاثة أحوال: إما أن يكون مفرداً، وإما أن يكون مضافاً، وإما أن يكون شبيها بالمضاف، فالمفرد في باب لا: ما ليس مضافاً ولا شبيها بالمضاف، والمضاف واضح، والشبيه بالمضاف: ما اتصل به شيء من تمام معناه، يعني ما كان عاملاً فيما بعده، فالأول يكون منوَّنا فيتعلَّق به إما مرفوع أو منصوب أو جار ومجرور، تقول: لا طالعًا جبلاً حاضرٌ، فطالعًا اسم لا شبيهٌ بالمضاف لأنه عملَ النصب فيما بعده، إذًا تعلَّق به شيءٌ - وهو المنصوب- من تمام معناه لأن كل معمول يتعلق بعامله فهو متممٌّ له من جهة المعنى، وتقول: لا قبيحًا فعلُه مذموم، فقبيحًا اسم لا شبيهٌ بالمضاف لأنه تعلق به مرفوع وهو من تمام معناه، وتقول: لا خيرًا من زيدٍ عندنا، فخيراً اسم لا شبيهٌ بالمضاف لأنه تعلق به الجار والمجرور من زيدٍ، إذًا الشبيه بالمضاف في باب لا ما اتصل به شيء من تمام معناه، إما أن يكون مرفوعًا أو منصوبًا أو جارًّا ومجرورًا، وما عدا ذلك فهو مضاف نحو: لا صاحبَ علمٍ ممقوت، فهذا مضاف ومضاف إليه. والمفرد في باب لا ما ليس مضافاً ولا شبيها بالمضاف، حينئذٍ يأخذ حكم المفرد في باب الإعراب، ويدخل فيه هنا المثنى والجموع بأنواعها، فيكون مفرداً في هذا الباب. ثم اسم لا المضاف والشبيه بالمضاف منصوب لفظاً، فنحو: لا صاحبَ علمٍ ممقوتٌ، لا نافية للجنس، وصاحبَ علمٍ اسمها منصوب بلا ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، وصاحبَ مضاف وعلم مضاف إليه، وممقوت خبر لا. ونحو: لا طالعًا جبلاً حاضر،

لا نافية للجنس، وطالعًا اسم لا منصوب بها ونصبه فتحة ظاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر، وجبلا مفعول به للوصف، وحاضر خبر لا. وأما المفرد فهو في اللفظ مبنيٌّ، ويُبنى على ما ينصب به لو كان معربا، فإن كان مفردًا في باب الإعراب كرجل أو جمع تكسير فيبنى على الفتح لأنه لو نُصب جمع التكسير لنصب بالفتحة، ولو نُصب رجل وهو مفرد في باب الإعراب لنصب بالفتحة، فتقول: لا رجلَ، رجلَ اسم لا وهو مفرد مبني على الفتح، لماذا بُني على الفتح؟ لأنه لو أُُعرب ونُصب تقول: رأيت رجلاً نصبته بالفتحة، إذاً يبنى مع لا على الفتح، وتقول: رأيت رجالاً، نصبته بالفتحة، فإذا دخلت عليه لا بُني معها على الفتح، فتقول: لا رجالَ، والمثنى وجمع التصحيح يُبنيان مع لا على الياء لأنه لو نُصب وهو مُعرب لنصب بالياء، تقول: لا مسلمَين في الدار، مسلمين اسم لا مبني معها، مبني على الياء لأنه مثنى لو أعرب نصبًا لأُعرب بالياء، وتقول: لا مسلمِين في الدار، فمسلمِين مفرد هنا وهو جمع تصحيح، اسم لا مبني على الياء في محل نصب، لأنه لو أُعرب نصْبًا لكان إعرابه بالياء، جمع المؤنث السالم، نحو: لا مسلماتِ فالأفصح أن يكون مبنيًا على الكسر لأنه لو نصب لنصب بالكسرة، وجوَّز بعض النحاة - لوروده سماعاً - أن يكون مبنيا على الفتح لا مسلماتَ، فيجوز فيه الوجهان، إذًا المفرد في باب لا ما ليس مضافًا ولا شبيهًا بالمضاف فيشمل رجلا ورجالا ومسلمَين ومسلمين ومسلمات يشمل هذه الأنواع كلها، وحُكمه أنه يُبنى على ما ينصب

به لو كان معربا، قبل دخول لا، ولكن يكون في محل نصب، وفي اللفظ يكون مبنياً فتقول: لا رجلَ في الدار، لا نافية للجنس، ورجلَ اسمها مبني على الفتح في محل نصب، و [تَقُولُ لاَ إِيمَانَ لِلمُرْتَابِ] لا نافية للجنس، وإيمان اسم لا مبني معها على الفتح في محل نصب، وبني على الفتح لأنه مفرد، والمفرد في باب لا ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف فيبنى على ما ينصب به لو كان معرباً. وللمرتاب جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا، فلا عاملة النصب في محل اسمها، وهي عاملة الرفع في الخبر، لأنها تعمل في الجزئين على الصحيح. أما البناء معها فأكثر النحاة على أنه لتركبها مع اسمها تركيب خمسة عشر، [وَمِثْلُهُ] أي المثال السابق [لاَ رَيْبَ فِي الكِتَابِ] لا نافية للجنس، وريب اسمها مبني على الفتح في محل نصب، لأنها تعمل عمل إنَّ، فالأصل فيها أنَّها تعمل لفظاً ومحلاَّ مثل لا صاحبَ علمٍ، لا طالعًا جبلاً هذا الأصل فيها ولكن لما ركِّبت مع ما بعدها وهو المفرد تركيب خمسة عشر بُني اسمها، وعلى القول الآخر بأنه ضُمِّنَ معنى مِن الاستغراقية، فحينئذٍ نقول: بُني لتضمنه معنى حرف، في الكتاب جار ومجرور متعلِّق بمحذوف خبر لا. وَيَجِبُ التَّكْرَارُ وَالإِهْمَالُ ... لَهَا إِذَا مَا وَقَعَ انْفِصَالُ إذا كان مدخول لا معرفة نحو: لا زيدٌ في الدار ولا عمرُو، حينئذٍ يجب إهمالها مع التكرار عند غير المبَرِّد وابن كيسان إشعارًا بإلغائها، وجب إهمالها يعني لا تعمل عمل إنَّ مع تكرارها إذا لم

يكن مدخولها نكرة، وكذلك إذا فُصل بين لا واسمها وجب الإهمال والتكرار، والناظم هنا جعل وجوب التكرار والإهمال مقيَّداً بعدم الاتصال فقط، والأصحُّ أنه شامل للشرطين، وهو نفي كون الاسم نكرة وذلك إذا كان معرفة، أو متصلاً بها وذلك إذا كان منفصلاً، فقال: [وَيَجِبُ] الرفع على الابتداء لضعفها بالفصل، و [التَّكْرَارُ] يعني تكرار لا مرة أخرى، [وَالإِهْمَالُ لَهَا] يعني أن لا تعمل عمل إنَّ، وذلك [إِذَا مَا وَقَعَ انْفِصَالُ] بينها وبين اسمها كقوله تعالى: ((لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47))) [الصافات:47] الأصل لا غولَ فيها، فحينئذٍ تعمل عمل إنَّ يبنى معها على الفتح، ولكن لماَّ فُصِلَ بالخبر بين لا واسمها، وجب الإهمال فقال: لا فيها غَولٌ بالرفع للفصل بين لا واسمها، وتقول: لا زيدٌ في الدار ولا عمروٌ، وجب الإهمال لتخلَّف الشرط الثاني وهو كون اسم لا نكرة، فحينئذٍ يكون ما بعدها مرفوعًا على أنه مبتدأ، لا زيدٌ في الدار فلا نافية للجنس ملغاة، وزيدٌ مبتدأ مرفوع بالابتداء، وفي الدار متعلِّق بمحذوف خبر، فتكون الجملة مستقلة كأنها لم تدخل عليها لا، [وَيَجِبُ التَّكْرَارُ وَالإِهْمَالُ لَهَا] يعني يجب التكرار تكرار لا فيما إذا لم تتصل باسمها [إِذَا مَا وَقَعَ انْفِصَالُ] أو إذا وقع اسم لا نكرة عند غير المبرد وابن كيسان إشعاراً بإلغائها، إذا كُرِّرت لا حينئذٍ هذا فيه إشعار، وهو أمر ظاهر بأنَّ لا ملغاةٌ، حينئذٍ وجب الإهمال ورفع ما بعدها على أنه مبتدأ، وقوله [إِذَا مَا] ما زائدة يعني إذا وقع انفصال، قال بعضهم:

يَا طَالِبًا خُذْ فَائِدَهْ ... مَا بَعْدَ إِذَا زَائِدَهْ تَقُولُ فِي المِثَالِ لاَ فِي عَمْرِو ... شُحٌّ وَلاَ بُخْلٌ إِذَا مَا اسْتُقْرِي [تَقُولُ فِي المِثَالِ لاَ فِي عَمْرِو شُحٌّ وَلاَ بُخْلٌ] هذا مثل: لا فيها غولٌ، هنا اسم لا في الأصل نكرة لا شُحَّ في عمروٍ، لكن لَمَّا فُصِل بين لا واسمها النكرةِ بالخبر وهو جار ومجرور وجب الإهمال والتكرار، فقوله: لا في عمروٍ شحٌ فَصل بالخبر وهو جار ومجرور ومعلوم أنهم يتوسعون في المجرورات والظروف مالا يتوسعون في غيرهما، فإذا بطل عملها مع الفصل بالجار والمجرور وهو خبر، فغيره من باب أولى وأحرى، وحينئذِ مثال الناظم فيه إشارة إلى أنَّه إذا كان الفاصل بين لا واسمها بالخبر وهو جار ومجرور فغيره من باب أولى، فإذا قيل: لا قائمٌ رَجلٌ على التقديم والتأخير، فيبطل عملها حينئذٍ. [إِذَا مَا اسْتُقْرِي] ما زائدة، وأقرَى واستقرى إذا طلب ضيافةً يعني إذا طُلبتْ منه الضيافة فلا بخل ولا شح. هذه الأحكام السابقة للا إذا لم تكرَّر أصالة، أما إذا كُرِّرت ابتداء فحينئذ قال: وَجَازَ إِنْ تَكَرَّرَتْ مُتَّصِلَهْ ... إِعْمَالُهَا وَأَنْ تَكُونَ مُهْمَلَهْ تَقُولُ لاَ ضِدَّ لِرَبِّنَا وَلاَ ... نِدَّ وَمَنْ يَأْتِ بِرَفْعٍ فَاقْبَلاَ إن تكررت لا مع مباشرة النكرة جاز إعمالها وجاز إلغاؤها، فعدم التَّكرار موجب للعمل، والتكرار مجوِّز للعمل، حينئذٍ إذا قيل: لا رجلَ في الدار، نقول: الإعمال واجب، وإذا كُررت لا مع

بقية الشروط نحو: لا رجل في الدار ولا امرأة، نقول: إعمالها جائز، إعمال لا في الموضعين جائز وليس بواجب، والتكرار مجوِّز له وللإهمال فتقول: لا رجلَ في الدار ولا امرأةَ، ولا رجلٌ في الدار ولا امرأةٌ، وهذا كما في المثال المشهور لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، هنا تكررت لا ودخلت على نكرتين لا حول هذه وُجدت فيها الشروط، ولا قوة وجدت فيها الشروط أيضًا، فنقول: إن تكررت لا مع النكرة جاز في النكرة الأولى وجهان: الفتح والرفع، الفتح على أنَّها أعملت على أصلها، فتقول: لا حولَ لا نافية للجنس، وحولَ اسمها مبني على الفتح في محل نصب، وحينئذٍ جاز في الثاني ثلاثة أوجه: الوجه الأول: الفتح على الإعمال لتركبه مع لا الثانية، فتكون الثانية عاملة عمل إنَّ. فتقول: لا حولَ ولا قوّةَ، قوةَ مبني على الفتح في محل نصب، لأن لا نافية للجنس، واسمها نكرة، وهو متصل بها، فوجدت الشروط لكن الإعمال جائز وليس بواجب. الوجه الثاني: النصب عطفًا على محلِّ اسم لا، وتكون لا الثانية زائدة بين العاطف والمعطوف عليه. فتقول: لا حَولَ ولا قوةًً بالنصب، فالواو حرف عطف، ولا زائدةٌ، وقوةًَ معطوف على محل اسم لا، لأنك تقول لا حولَ هذا مبني على الفتح في محل نصب، حينئذٍ يجوز العطف عليه بالنصب فتقول: لا حولَ ولا قوةًَ بالنصب ولا تصير ملغاة، وحينئذٍ راعيت المحل عند العطف.

الوجه الثالث: الرفع، وهذا فيه ثلاثة أوجه أحسنها أن تكون لا الثانية عاملة عمل ليس فتقول: لا حولَ ولا قوةٌ، ولا قوةٌ بالرفع فالواو حرف عطف، ولا نافية تعمل عمل ليس، وقوةٌ بالرفع اسم لا، وخبرها محذوف، أو خبرها المذكور وهو بالله، ويُقدَّر للأول. إن أعملتها مستقلةً أو أعملتها عمل ليس صارت جملتين، وإذا عطفتَ على محل اسم حول صارت جملة واحدة، لا حولَ ولا قوةَ، ولا حولَ ولا قوةٌ هاتان جملتان، ولا حولَ ولا قوةًَ، هذه جملة واحدة. إذا رفعت الأول وأبطلت إعمالها فقلت: لا حولٌ فهذا جائز، لأنه مع وجود الشروط والتكرار يجوز الإهمال، فحينئذٍ لا يجب العمل، فلا نافية للجنس، وحولٌ مبتدأ، وسَوَّغ الابتداء به كونه في سياق النفي، وحينئذٍ الثاني يجوز فيه وجهان: الفتح إعمالا للا، فتقول: لا حَوْلٌ ولا قوةََ، أو الرفع، كما سبق. ولا يجوز لا حَوْلٌ ولا قوةً بالنصب هذا ممتنع، لأنَّك جَوَّزت النصب في الثاني عطفاً على محل اسم لا، فقلت: لا حولَ ولا قوةً عطفت على محل حول وهو النصب، وهنا ليس عندنا اسم لا، ليس عندنا منصوب لا لفظاً ولا محلاًّ فسقط هذا الاحتمال. إذاً يجوز في الأول وجهان: الرفع والبناء على الفتح، ويجوز في الثاني خمسةُ أوجه، ولا حولَ ولا قوةََ إلا بالله، ولا حولَ ولا قوةٌ إلا بالله، ولا حولَ ولا قوةًً إلا بالله، ولا حولٌ ولا قوةََ إلا بالله، ولا حولٌ ولا قوةٌ إلا بالله.

وهذا هو الذي ذكره هنا في قوله: [وَجَازَ إِنْ تَكَرَّرَتْ مُتَّصِلَهْ] باسمها وهو نكرة [إِعْمَالُهَا] والأصل وجوب الإعمال لكن لَمَّا تكرَّرت صار جائزاً لا واجباً، [وَأَنْ تَكُونَ مُهْمَلَهْ] عن الإعمال فتكون ملغاة، وما بعدها مبتدأ، تقول في مثال ذلك [لاَ ضِدَّ لِرَبِّنَا وَلاَ نِدَّ] أعمل لا في الموضعين، لا ضِدَّ لا نافية للجنس، وضدَّ اسمها مبني على الفتح في محل نصب، ولِرَبِّنَا جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا، وَلاَ نِدَّ على إعمال الثاني مثل لا حولَ ولا قوةََ، [وَمَنْ يَأْتِ بِرَفْعٍ] للأول فيقول: لا ضدٌ ولا ندٌّ [فَاقْبَلاَ] يعني فاقبل منه ذلك، والألف هذه إما مبدلة عن نون التوكيد الخفيفة وإما للإطلاق، وكونها مبدلة أولى. والناظم قد اختصر المسائل هنا وقد بيناها فيما سبق.

باب المنادى

بَابُ المُنَادَى أي هذا باب بيان حقيقة المنادى، وإن كان المنادى في الأصل من باب المفعول به، ولذلك ابن هشام ـ رحمه الله ـ لما ذكر المفعول به في (قطر الندى) قال: ومنه المنادى، ومنه أي من المفعول به، فأصل المنادى أنه مفعول به، لأن قولك: يا زيدُ، أصله: أدعو زيدًا، حُذِفَ الفعل أدعو، وأُنيب مُنابه يا وهي حرف نداء، ثم بُني بعد ذلك، ولذلك نقول في إعراب: يا زيدُ، يا حرف نداء، وزيدُ منادى مبني على الضم في محل نصب، لأن أصله المفعول به. إذًا المنادى جزء من المفعول به، ولذلك بعضهم لا يذكره استقلالاً. وسبق أن بعض النحاة يرى أنَّ المنادى: يا زيدُ، مما تألف الكلام فيه من اسم وحرف، وهذا منسوب لأبي علي الفارسي، لأنه كما سبق أن الكلام مُرَّكب إما من اسم وفعل، أو من اسمين، هذا أقل ما يتركب منه الكلام، من اسمين أو اسم وفعل، ولا يتركب من فعلين، ولا من حرفين، وهذا متفق عليه، ولا من حرف وفعل على الصحيح، ولا من حرف واسم كذلك، وأبوعلي الفارسي استثنى باب المنادى على جهة الخصوص، وقال: قد يتركب الاسم والحرف فيكون كلاماً مفيداً تاماً، ولا نفتقر هنا إلى مسند ومسند إليه، لأن قولك: يا زيدُ، أفاد فائدة تامة، وإذا أفاد فائدة تامة حينئذٍ يستلزم التركيب المعتبر في حد الكلام، فإذا وجدت الفائدة التامة حينئذٍ

نقول وجد التركيب، ولذلك نقول: الفائدة التامة تستلزم التركيب ولا عكس، قد يكون الكلام مركباً ولكنه ليس مفيداً فائدة تامة وإن أفاد بعض الفائدة، وهي الفائدة الناقصة أو الفائدة التركيبية، فنحو: إنْ قام زيد، هذا مفيد، لكنها فائدة ناقصة، فإن قلت: إن قام زيد قمت، صار مفيدًا فائدة تامة، والمعتبر في حد الكلام عند النحاة أن يفيد فائدة تامة، ولا يمكن أن توجد هذه الفائدة التامة إلا وهو مركَّب، فحينئذٍ كلما وجدت الفائدة التامة وجد التركيب ولا عكس، قد يوجد التركيب وتوجد الفائدة التامة، وقد يوجد التركيب وتنتفي الفائدة التامة، ولمَّا كان قوله: يا زيد مفيدًا فائدة تامة قال أبو علي الفارسي: قد يتركب الكلام من حرف واسم، وهذا خاص بباب النداء، لوجود الفائدة التامة، وهذه تستلزم التركيب المعتبر في حَدِّ الكلام، فلمَّا وجدت الفائدة التامة بقوله: يا زيد وهو منادى قال: إذًا يتركب الكلام من اسم وحرف، لكن أجيب بأن هذا فرع لا أصل، يا زيدُ أفاد فائدة تامة، نعم لكنه لا باعتبار ذاته وإنما باعتبار أصله، لأن التأصيل والتقعيد إنما يكون باعتبار الأصول لا باعتبار الفروع، فحينئذٍ قولك: أدعو زيداً، هو الأصل وهو جملة فعلية، وأفاد فائدة تامة، إذًا المنادى ليس كلاماً باعتبار كونه مركباً من حرف واسم، وإنما بالنظر إلى أصله وهو أنه مؤلف من فعل وفاعل ومفعول به. [بَابُ المُنَادَى] المنادى اسم مفعول، من نُودي يُنادَى مناداة، والمنادى من أقسام المفعول به الذي حُذف عامله وجوباً، ولهذا كما

ذكرت أن بعضهم لا يخصه ببحث وإنما يجعله قسماً من أقسام المفعول به، لأنه من المفعول به الذي حُذف عامله وهو هنا أدعو، وأصله أدعو زيداً، حذف أدعو وأنيب منابه حرف النداء يا، وجوباً لأنه لا يجوز الجمع بين النائب وما أنيب عنه، لا يجوز الجمع بين النائب وهو يا وما أنيب عنه وهو أدعو، ولذلك وجب الحذف. المنادى مشتق من النداء، وهو لغةً الطلب مطلقاً بحرف أو بغيره. واصطلاحاً عند النحاة: الطلب بيا أو إحدى أخواتها، وإن قلت: المطلوب إقباله بيا أو إحدى أخواتها، فلا بأس، المطلوب لأنه منادى والنداء هو الطلب، والمنادى هو المطلوب، إقباله بيا أو إحدى أخواتها، ويا أم الباب يعني هي التي تكون أصلاً في النداء، ولذلك تدخل على كل منادى، فكل منادى يصح أن تدخل عليه يا، وتتعين في نداء اسم الله عز وجل، يقال: يا الله، ولا يصح دخول غير يا على لفظ الجلالة، لذلك صارت أم الباب، ولذلك تحذف كما قال الحريري: وحَذْفُ يَا يَجُوزُ في النِّدَاءِ ... كَقَوْلِهِمْ رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي وبعضهم خص الحذف بيا، ولكن الهمزة أيضًا على الصحيح قد تحذف. أو إحدى أخواتها أي نظائرها في المعنى، ونقول: نظائرها في المعنى، ولا نقول: في العمل كما قلنا في باب إنَّ وأخواتها أي نظائرها

في العمل، وباب كان وأخواتها أي نظائرها في العمل، وهنا نقول يا وأخواتها أي نظائرها في المعنى لا في العمل لأنها ليست عاملة، الهمزة وأي وأيا وغيرها هذه في المعنى مثل يا ينادى بها، كما ينادى بيا، ولا عمل لها على الصحيح وإنما العامل هو الفعل المحذوف، فزيد من قولك: يا زيدُ في محل نصب، والذي أدَّى إلى كون المنادى المفرد العلم في محل نصب هو تعلقه بالفعل المحذوف وجوباً، وهو أدعو، والعرب إذا حذفت شيئا قد تجعله نسياً منسياً فلا يلتفت إليه، وقد تحذف الشيء وتعامله معاملة الموجود، فكأنه موجود فحينئذٍ يتعلق بالمعنى ويكون عاملاً. وحروف النداء ثمانية: الهمزة، وأي مقصورتين، وممدودتين، نحو: أزيدُ، وآزيدُ، وأي زيْدُ، وآي زَيْدُ، بالمد والقصر وهذه أربعة، ويا، وأيا، وهيا، ووا، وإن كان المشهور أن وا تستعمل في الندبة على جهة الخصوص. إِنَّ المُنَادَى فِي الكَلاَمِ يَأْتِي ... خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ لَدَى النُّحَاةِ المنادى الذي يصح دخول يا عليه خمسةُ أنواع باستقراء كلام العرب، لا يخرج عنها، وله حالان من جهة الإعراب والبناء: حالة بناء، وحالة إعراب وهي النصب، [إِنَّ المُنَادَى] إنَّ حشوكما سبق بيانه، لأن إنَّ للتوكيد، وإنما يؤكد الكلام الذي يقع فيه إنكار أو تردد أو شك من المخاطب، أو ما نُزِّلَ مُنَزَّلَةَ المُتَردِّد أو الشاك، وما عدا ذلك فلا يصِحُّ دخول إنَّ عليه، لأنها للتأكيد، والتأكيد إنما يؤتى به لغرض لأنه زيادة في الكلام، والزيادة الأصل فيها أنها تأتي لمعنى،

والمعنى هنا غير مراد، [فِي الكَلاَمِ] جملة النداء يا زيد هل هي كلام؟ نقول: نعم هي كلام؟ وهل هي كلام من جهة اللفظ أو من جهة المعنى أو من جهة اللفظ والمعنى؟ نقول: من جهة اللفظ والمعنى؛ لأنك لو قلت: من جهة اللفظ فقط (يا زيدُ) نقول: الكلام لا يتألف من حرف واسم، إذًا هو كلام لكن ليس من جهة تركُّبه من اسم وحرف فقط، بل لا بد من اعتبار المعنى، وهذا المعنى يكون مراداً من العامل المحذوف وجوباً. [إِنَّ المُنَادَى] اسم إنَّ، وخبرها قوله: [خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ لَدَى النُّحَاةِ] باستقراء كلام العرب لأنَّ البحث بحث النحاة. المُفْرَدُ العَلَمُ ثُمَّ النَّكِرَهْ ... أَعْنِي بِهَا المَقْصُودَةَ المُشْتَهِرَهْ [المُفْرَدُ العَلَمُ] المفردُ بدل من خمسة، ويصح أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره أوَّلها المفرد، ويصح أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي منها المفرد، فهذه ثلاثة أوجه، كلها جائزة، والأولى أن يُعرَب بدل مُفَصَّلٍ من مُجمَل، لأن جَعْل الكلام متصلاً بعضُه ببعض كأنه جملة واحدة أولى من فصله وقطعه، لأن جعله خبرًا لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف يصيره جملة مستقلة وليس مرتبطاً بالجملة السابقة، وإذا أعربته بدل مفصل من مجمل، حينئذٍ صار كالجزء من الجملة السابقة، وربْط الكلام بعضه ببعض أولى من فصله، وهذه قاعدة عندهم. [المُفْرَدُ] هذا يُقيَّد بباب المنادى، لأنه ذكر المفرد تحت عنوان (باب المنادى)، وكل مصطلح ذُكر تحت باب معين عند النحاة أو عند غيرهم من أرباب الفنون، فإنما يحمل على

معناه في ذلك الفن إن كان له معنى عام بل وفي جميع الفنون، وإن كان له معنى خاص في باب مُعَيَّن يحمل على المعنى الخاص الذي اندرج تحت ذلك الباب، وهنا المفرد يتنوع عند النحاة باختلاف الأبواب، فهو في باب الإعراب له معنى خاص، وفي باب المثنى والجمع له معنى خاص، وفي باب الإضافة له معنى خاص، وهنا في باب المنادى المفرد هو عين المفرد في باب لا النافية للجنس وهو ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف. فالمضاف كقولك: غلام زيد، وسيأتينا أن الإضافة نسبة تقييدية توجب جرَّ الثاني منهما أبدا. وزيدٌ علما ليس بمضاف، غلامٌ ليس بمضاف، والزيدان ليس بمضاف، والزيدون ليس بمضاف، ورجال ليس بمضاف، إذًا دخل تحت قولنا: ما ليس مضافاً: المفرد، والمثنى، والجمع بأنواعه، سواء كان جمع تكسير، أو جمع تصحيح لمذكر أو لمؤنث. ولا شبيها بالمضاف: يعني ما أشبه المضاف وهو ما اتصل به شيء من تمام معناه: أن يكون عاملاً في اللفظ، يعني لا يتم معناه إلا بذكر ذلك المتعلِّق، نحو: يا طالعًا جبلاً، يا حرف نداء، وطالعًا اسم فاعل، منصوب لأنه منادى، وهو مفعول به في الأصل إذ أصله أدعو طالعًا جبلاً، واسم الفاعل يعمل فيما بعده، وهنا اعتمد على النداء فقد سبَقه حرف ندا فحينئذٍ يعمل، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، أي طالعًا هو، وجبلاً مفعول به، نقول: جبلاً تعلَّق بقوله: طالعاً، لو نظرت في حد الشبيه بالمضاف: ما تعلق به شيءٌ من تمام معناه، يعني لا يتم المعنى إلا بذكره، فإذا قيل: يا طالعًا، طالعاً ماذا؟ لا يتم المعنى هنا، وليس

كقولك: يا طالعَ جَبَلٍ مضاف ومضاف إليه، وإنما هو منفصل عن المضاف إليه بالتنوين تقول: يا طالعاً ... يحتمل معانٍ فإذا قلت: طالعًا جبلاً تَمَّ المعنى، حينئذ صار جبلاً معمولا لطالعًا شبيها بالمضاف، لأنه لو حُذف التنوين وأضيف لصار مضافًا، فتقول: يا طالعَ جبلٍ صار من القسم الأول، ومثله يا ضاربًا زيداً، يا ضاربَ زيدٍ فلو حذف التنوين صار مضافًا، لذلك هو شبيه بالمضاف لأنه منفصل، وإلا لو نظرنا إلى المضاف نفسه نحو: غلامُ زيدٍ، هذا مضاف ومضاف إليه أيضًا المضاف تعلق به شيء من تمام معناه، فغلام لا يتم معناه إلا بكلمة زيد، إذًا تعلق به شيء من تمام معناه، لكن مرادهم هنا أن يكون ثَمَّ انفصال بين الكلمتين، والانفصال هنا حاصل بالتنوين، لأن التنوين يدل على كمال الكلمة وانفصالها عما بعدها، فإذا قيل: يا طالعًا، لا يمكن أن يكون ثَمَّ مضاف ومضاف إليه لأن التنوين قد وُجِدَ في آخر الكلمة الأولى، ومعلوم أنه إذا أضيف اسم إلى اسم وَجَب حذف التنوين من المضاف كما قال ابن مالك: نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا ... مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَطُورِ سِينَا فحينئذٍ يجب حذف التنوين؛ لأنه يدل على كمال الكلمة، وهنا غلام زيد نقول: زيد المضاف إليه تعلق بغلام المضاف، وهو شيء تَمَّم معنى المضاف، لأن المضاف لا يتم معناه إلا بالمضاف إليه، فحينئذٍ ما الفرق بين المضاف والشبيه بالمضاف؟ نقول: الفرق بينهما أن الجزء الأول من الشبيه بالمضاف يكون منفصلاً تامَّ الانفصال

عن الثاني من جهة اللفظ، وهو لُحوق التنوين به الذي يدل على الانفصال، وإلا لو نظرت إلى الحد: ما اتصل به شيء من تمام معناه. فهو ينطبق على النوعين. إذًا المفرد: ما ليس مضافاً ولا شبيها به. قال: [العَلَمُ] هذا نعت للمفرد، فحينئذٍ يختص هذا النوع الأول من الأنواع الخمسة بالأعلام، فيشمل: زيد، والزيدَان، والزيدون، والهندات، لأنه مفرد في هذا المقام. وإن خصَّ بعض النحاة - كالصبان وغيره -المفرد العلم هنا بزيد فقط، وأما الزيدان والزيدون فيدرجان في النكرة المقصودة، لأنه يقال: يا زيدان، ويا زيدون، فيا زيدان تثنية زيد، وزيد وهو علم إذا ثُنِّيَ وجب سلب العلمية عنه، فوجب تنكيره، لأنه لا يصح تثنية المعرفة، إذًا تُثنى النكرات، والمعارف لا تثنى، حينئذٍ إذا أردت تثنيةَ زيدٍ، أوجمعَ زيدٍ فلا بُدَّ أوَّلاً من سلبه العلمية، فتقدر في نفسك الشيوع وهو معنى النكرة، ثم بعد ذلك تُلحق به ألف الاثنين، أو واو الجماعة فتقول: زيدان، ولذلك صح دخول أل عليه، لأنه يرد أنَّ زيدًا لا يصح دخول أل عليه لأن المعرفة لا تُعرَّف، فلا يصح أن يقال: الزَّيدْ، ونقول: الزيدان، والزيدون، دخلت أل على المثنى وعلى الجمع، وهو جمعُ وتثنيةُ علمٍ مفرد، نقول: لأنه سُلب العلمية فصار نكرة، فزيد بالإجماع معرفة، الزَّيدان بأل معرفة، وزيدان بدون أل نكرة، والزيدان معرفة كزيد، لكن الزيدان معرفة بأل، وزيدٌ معرفة بالعلمية، ولذلك أخرج الصبان يا زيدان، ويا زيدون من المفرد العلم وجعله في النكرة المقصودة، نحو: يا رجلُ إذا أريد به معيَّن كما

سيأتي. والمفرد العلم كقوله سبحانه: ((((((((((يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا (32))) [هود:32] فنوح مفرد علم. [ثُمَّ النَّكِرَهْ] ثم هنا ليست على بابها، يعني لا تفيد التراخي وإنما المراد بها الترتيب الذكري، وسبق بيان حقيقة النكرة، والنكرة في باب المنادى قسمان: نكرة مقصودة، ونكرة غير مقصودة، [أَعْنِي بِهَا] لما كانت النكرة محتملة للنوعين، وهو قد أطلق اللفظ العام وأراد به الخاص، فلا بُدَّ من الاحتراز لدفع الوهم فأتى بالعناية، وكما سبق أن الأكثر في اصطلاح المؤلفين أنهم إذا أرادوا تفسير المفرد أتوا بأي التفسيرية، وقد تستعمل أي في تفسير الجمل، وإذا أرادوا الجمل أتوا بأعني أو يعني بالفعل المضارع وقد يأتون بأي، لكن الأكثر في المفرد أي، والأكثر في الجمل أعني أو يعني، إذًا [أَعْنِي بِهَا] أي أقصد بها أي بالنكرة، فالضمير يعود على النكرة، [المَقْصُودَةَ] أي النكرة المقصودة، [المُشْتَهِرَهْ] عند النحاة في هذا الباب، لأنهم لا يقَسمون النكرة إلى مقصودة وغير مقصودة إلا في هذا المقام، والمراد بالمقصودة هنا أنها معرفة، ولذلك ذكرناها فيما سبق أنها النوع السابع مما أضافه ابن مالك - رحمه الله - على أنواع المعارف، فهي تُعَدُّ من المعارف، وتعريفها عارض بسبب الإقبال والقصد والنية لأنه لما أقبل على الشخص فقال: يا رجلُ لمعين أراد هنا من اتصف بالرجولة لكنه عيَّن المخاطب، وإلا فاللفظ يصدق على كل من اتصف بمفهوم هذا اللفظ، فإذا أقبل على شخص معين فقال يا

رجل، فحينئذٍ نقول: هذه نكرة لكنها مقصودة، فالمخاطب مُعيَّن، لكنه لو قال: يا رجل، وكان أمامه جمع ولم يقصد بقلبه واحدًا بعينه فهذه نكرة لكنها غير مقصودة. والفرق بينهما يأتي من جهة اللفظ، ويأتي من جهة المعنى، أما من جهة اللفظ فإذا كان الإنسان مخاطَبا فقيل له: يا رجلُ وبناها على الضم، وأنا أسمع هذا الكلام أعلم أنه نكرة مقصودة، وإذا نصبها فقال: يا رجلاً فهي غير مقصودة، وأما المتكلم فحينئذٍ لا يتعين إلا بالنية والقلب فقط، إذا أراد أن يتكلم ثم يأتي بنكرة متى يبنيها ومتى ينصبها؟ نقول: القصد والإقبال هو الذي يعين. إذًا تعريفها عارض بسبب القصد والإقبال، وقيل: بأل محذوفة ونابت عنها يا لكنه ضعيف، والأول أرجح. المنادى في هاتين الحالتين - المفرد العلم والنكرة المقصودة - يبنى على الضم، فإذا كان المنادى مفردًا علمًا فحكمه البناء على الضم، وإذا كان نكرة مقصودة فحكمه البناء على الضم، فحينئذٍ يستحق المنادى البناء بأمرين: إفراده وتعريفه، والمراد بتعريفه أن يكون المراد به معينًا سواء كان معرفة قبل النداء أو بعد النداء، مثال المعرفة قبل النداء وبعده زيد فهو علَم قبل النداء، وإذا نودي بيا فقيل: يا زيدُ بقي كما هو على حاله من العلمية، خلافًا لمن قال: سُلِبَ العلمية ثم رجعت عليه، والصواب أنه علم قبل دخول حرف النداء، وعَلَم بعد دخول حرف النداء. ومثال المعرفة بعد النداء رجل، فهو نكرة، فإذا قيل: يا رجلُ تعرفت النكرة بالنداء أي بعد النداء، وأما قبل النداء فهي نكرة، ومعرفة بعد النداء بسبب القصد والإقبال عليه، يا رجل تريد به معينًا، يبنى في

النوعين على ما يرفع به لو كان معربًا، حينئذٍ يا زيد، ويازيدان، ويا زيدون، ويامسلمات، وياهندات نقول هذا كله مبني على ما يُرفع به لو كان معربًا، فزيد لو أعربته رفعًا تعربه بالضمة فتقول: جاء زيدٌ حينئذٍ تبنيه على الضم في النداء، فتقول: يا زيدُ، وإعرابه يا حرف نداء، وزيدُ منادى مفرد علم، مبني على الضم في محل نصب مفعول به. وتقول: يازيدان، يا حرف نداء، وزيدان منادى مبني على الألف لأنك لو أعربته في حالة الرفع قبل دخول يا قبل البناء تعربه بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، فحينئذٍ زيدان منادى مبني على الألف في محل نصب، إذًا البناء قد يكون بحركة، وقد يكون بحرف. وتقول: يا زيدون منادى مبني على الواو في محل نصب، إذًا بُني في الأول على الضم، وفي الثاني على الألف، وفي الثالث على الواو، لأنه مفرد في هذا المقام، كذلك يا رجلُ، ويا رجلان، ويا رجال، فتقول: يا رجل، فرجل نكرة مقصودة منادى مبني على الضم في محل نصب مفعول به، بنيت على الضم لأنها نكرة مقصودة، وهي تبنى في باب المنادى. ويا رجلان قد يكون المثنى نكرة مقصودة، قد تُقْبِل على اثنين معيَّنين من دون الناس، إذًا صار معينًا، فرجلان منادى مبني على الألف لأنه مثنى، ولأنه نكرة مقصودة وبناؤه على ما يرفع به لو كان مُعْرَبًا، ويا رجال أيضًا يقال فيه ما قيل في رجل، ومنه قوله: ((يَا جِبَالُأَوِّبِي مَعَهُ (10))) [سبأ:10] فجبال مفرد نكرة مقصودة. فهذا إذا كان في الأصل أنه مبني على الضم ثم قد يكون ظاهراً وقد يكون مقدرًا كما سيأتي.

ثُمَّتَ ضِدُّ هَذِهِ فَانْتَبِهِ ... ثُمَّ المُضَافُ وَالمُشَبَّهُ بِهِ هذه ثلاثة أقسام: ذكر في البيت الأول قسمين حكمهما البناء، [ثُمَّتَ] هي ثُمَّ زيدت عليها التاء، وهذه التاء تسمى تاء التأنيث، قد تُسَكَّن وقد تُفْتَح، وفتحها كما في قول الشاعر: ولَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللّئِيمْ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لاَ يَعْنِيْنِي [ثُمَّتَ] أي ثُمَّ بعد النكرة المقصودة [ضِدُّ هَذِهِ] هذه اسم إشارة يعود إلى النكرة المقصودة، وضد النكرة المقصودة غير المقصودة، لأن الكلام في النكرة وهي قسمان لا ثالث لهما إما أن تكون مقصودة، وإما أن تكون غير مقصودة، ضد المقصودة خلافها هو غير المقصودة، [فَانْتَبِهِ] لأنَّ النكرة غير المقصودة تمييزها عن المقصود يحتاج إلى إعمال ذهن وفكر، كقول الأعمى: يا رجلا خذ بيدي، وأعمى البصر كيف يميز ويقبل على شخص يعينه؟! فحينئذٍ إذا قال الأعمى: يا رجلاً، فرجلا نكرة لكنها غير مقصودة، كذلك قول الواعظ: يا غافلاً اذكر الموت، فالواعظ على منبر أمامه مئات فإذا قال: يا غافلاً نقول: هذه نكرة غير مقصودة، لأنه لم يُعيِّن شخصًا بعينه أقبل عليه بخلاف الأولى، وحكمها النصب. وكذلك قول الأعمى: يا رجلَين خُذا بيدي، إذا لم يقصد اثنين معينين، ويا مسلِمين خذوا بيدي، إذا لم يقصد جماعة معينة. [ثُمَّ المُضَافُ] القسم الرابع من أنواع المنادى المضاف، وسيأتي أن الإضافة نسبة تقييدية توجب جر الثاني منهما أبداً، نحو: يا غلامَ زيد.

[وَالمُشَبَّهُ بِهِ] يعني مشبه بالمضاف لأنه يمكن حذف التنوين من الأول الذي هو العامل فيضاف إلى معموله، فإذا قيل: يا محمودًا فعلُه، فهذا مشبه بالمضاف، ويصح أن تقول: يا محمودَ فعِْلهِِ. وإعراب المثال: يا محمودًا فعله، يا حرف نداء، ومحمودًا منادى منصوب، وفعله نائب فاعل، لأن محمودًا اسم مفعول فيحتاج إلى نائب فاعل، وفعلُه العامل فيه محمودًا، إذًا اتصل به شيء من تمام معناه، ويصح حذف التنوين وإضافته إلى ما بعده. ونحوه: يا طالعًا جبلاًً، فجبلا مفعول به لطالعًا، ويا حسنًا وجهه، فحسنًا صفة مشبهة، ويا رفيقًا بالعباد تعلق به شيء من تمام معناه وهو الجار والمجرور، لكن لا تصح الإضافة هنا. إذًا ذكر لك خمسة أنواع للمنادى:- المفرد العلم، ثم النكرة المقصودة، ثم النكرة غير المقصودة، ثم المضاف، ثم المشبه بالمضاف. فَالأَوَّلاَنِ ابْنِهِمَا بِالضَّمِّ ... أَوْ مَا يَنُوبُ عَنْهُ يَا ذَا الفَهْمِ تَقُولُ يَا شَيْخُ وَيَا زُهَيْرُ ... وَالبَاقِي فَانْصِبَنَّهُ ... لاَ غَيْرُ [فَالأَوَّلاَنِ] اللذان هما: المفرد العلم، والنكرة المقصودة، والفاء هذه تسمى فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، إذا أردت معرفة حكم كل مما ذكر من الأنواع الخمسة فأقول لك: الأولان، والأولان تثنية أول بمعنى الأسبق، وهنا الأسبق في الحقيقة هو العلم المفرد، وأما النكرة المقصودة فليست بأسبق لأنها

مسبوقة بالمفرد العلم، فحينئذٍ التثنية هنا من باب التغليب، لأنه ليس عندنا إلا أول واحد، الأول: المفرد العلم ثم الثاني النكرة المقصودة، والحاصل قوله: الأولان هذا ملحق بالمثنى، وليس مثنى حقيقة، لأنَّ شرط المثنى أن يكون له ثانٍ في الوجود، وهنا ليس له ثانٍ بل هو واحد، حينئذٍ يكون من باب التغليب كالقمرين. [فَالأَوَّلاَنِ ابْنِهِمَا] لا بُدَّ من التقييد أي ابنهما على ما يرفعان به لو كانا معربين، فتنظر في المفرد العلم يرفع بماذا لو كان معربًا؟ تقول: يبنى على ما يرفع به لو كان معربًا، [بِالضَّمِّ] فيما إذا كان العلم المفرد مفردًا، وفيما إذا كانت النكرة المقصودة مفردة أيضًا، نحو: يا زيد، ويا رجل، [أَوْ مَا يَنُوبُ عَنْهُ] أي عن الضمِّ وهو الألف في المثنى، والواو في جمع المذكر السالم، فتقول: يا زيدان ويا زيدون، فيبنى في الأول المثنى بالألف، ويبنى في الثاني جمع التصحيح بالواو، كذلك في النكرة يا رجلُ، ويا رجلان، ويا رجال. [فَالأَوَّلاَنِ ابْنِهِمَا بِالضَّمِّ] ومحلهما النصب، فالبناء يكون تابعًا للفظ، وأما المحل فهذا للنصب، لأنَّ العامل المحذوف لم يُجْعل نَسيًا منسيًّا، فالعامل المحذوف وهو الفعل لم يُترك ويُهجر، بل له اعتبار وله معنى على القاعدة المطردة عند العرب أنهم إذا حذفوا الشيء في الغالب أنه يجعل له حظ في اللفظ أو في المعنى، وهنا في اللفظ يا زيدُ ليس له حظ وإنما في المعنى بأن يجعل المنادى مبنيًّا على الضمِّ في اللفظ في محل نصب في المعنى، لأنَّ أصله أدعو زيدا، وقوله: [بِالضَّمِّ] سواء كان الضم ظاهرًا أو مقدرًا، لأنه قد ينادى المعرب

فتقول: يا زيدُ بناؤه على ضم ظاهر، ولكن لو قلت: يا سيبويهِ، فسيبويهِ: قبل دخول يا هو مبني كما قال ابن مالك: وجُملْةٌ، وما بِمَزْجٍ رُكِّبَا ... ذَا إِنْ بِغَيْرِ وَيْهِ تَمَّ أُعْرِبَا فإن تم بويه فهو غير معرب بل مبني على الكسر، فسيبويه مركب مزجي مبني على الكسر لأنه مختوم بويه، إذا قيل: يا سيبويهِ منادى علم مفرد فحينئذٍ يبنى على الضم، سيبويْه بالكسر على الأصل ونجعل الضم مقدرًا، فنقول: يا سيبويْهِ يا حرف نداء، وسيبويه مفرد علم مبني على ضمٍّ مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة البناء الأصلي وهو الكسر. ومثله يا حذامِ، فحذامِ مبني على الكسر أيضا فتقول: حذامِ مفرد علم منادى مبني على ضم مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة البناء الأصلي وهو الكسر. إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوْهَا ... فَإِنَّ القَولَ مَا قَالَتْ حَذَامِ [يَا ذَا الفَهْمِ] يعني يا صاحب الفهم، يا حرف نداء، وذا منادى منصوب بالألف لأنه من الأسماء الستة، وذا مضاف، والفهم مضاف إليه، والفهم هو إدراك معاني الكلام، يا صاحب الفهم، لأن المسائل تحتاج إلى فهم. وأما علة البناء هنا فقيل: لمشابهة العلم المفرد والنكرة المقصودة كاف الخطاب، أشبهت النكرة المقصودة كاف الخطاب، أصلها أناديك من حيث الإفراد والتعريف والخطاب ووقوعهما موقعهما، وهذا البناء

عارض وليس بأصلي، وبعض النحاة يجعل علة البناء مطردة في الأصلي والعارض وهي شبَه الحرف، وبعضهم يُفَصِّل - وهو أجود - بأن يجعل البناء الأصلي اللازم الذي هو من أصل الكلمة أن يكون لشبه الحرف كما قال ابن مالك: - والاِسْمُ مِنْهُ مُعْرَبٌ وَمَبْنِي ... لِشَبَهٍ مِنَ الحُرُوفِ مُدْنِيْ وما عدا ذلك فلا نحتاج أن نقول: إنه لشبه الحرف كحذامِ وسيبويه وأحد عشر، حينئذٍ مثل هذه الألفاظ ليس البناء فيها أصليًا وإنما هو بناء عارض، فلا نحتاج التكلف فنجعل البناء هنا لشبه الحرف لكن المشهور البناء هنا في باب المنادى لشبه النكرة المقصودة والعلم المفرد بكاف الخطاب لوقوعهما موقعه، وأنهما مفردان كما أن كاف الخطاب مفردة، وأنهما معرفتان مثلها. [تَقُولُ] في المثال على ما سبق [يَا شَيْخُ] هل هذا نكرة مقصودة أو غير مقصودة؟ نقول: نكرة مقصودة، وكيف عرفنا أنها نكرة مقصودة؟ لأنها مبنية، إذا سمعت الكلام تستطيع أن تحكم، لكن يشترط أن يكون المتكلم نحويًا، فإذا قال: يا شيخُ بالبناء على الضم بعد يا النداء عرفت أنه نكرة مقصودة إن كان عالما بالنحو. وإن قال: يا شيخًا بالنصب لفظًا فهو نكرة غير مقصودة. وهنا قال: [يَا شَيْخُ] فهو مثال للنكرة المقصودة، يا حرف نداء، وشيخُ منادى مبني على الضمِّ في محل نصب. [وَيَا زُهَيْرُ] يا حرف نداء، وزهير مفرد علم مبني على الضم في محل نصب، إذًا هذان نوعان الحكم فيهما البناء. [وَالبَاقِي فَانْصِبَنَّهُ] الذي هو المضاف، والشبيه

بالمضاف، والنكرة غير المقصودة، فهذه الثلاثة الأشياء حكمها كما قال: [فَانْصِبَنَّهُ] هذا أمر مؤكد يعني حكمه النصب لفظًا، والفاء فاء الفصيحة، ويحتمل أنها واقعة في خبر المبتدأ، لأنَّ المبتدأ هنا اسم فاعل محلى بأل، والقاعدة عندهم أنَّ المبتدأ إذا كان من صيغ العموم أو ما فيه العموم جاز دخول الفاء في الخبر، فهنا الباقي أي الذي بقي، وأل هذه موصولية وهي من صيغ العموم، لأنَّ الموصولات من صيغ العموم، إذًا الباقي مبتدأ وهو عامٌّ فجاز دخول الفاء في خبره، ولذلك يصح أن يقال: الباقي انصبنَّه على قول الجمهور من صحة وقوع الجملة الإنشائية الطلبية خبرًا عن المبتدأ وهو الصواب. [فَانْصِبَنَّهُ] أي الباقي ومنه المضاف، ولكن يرد السؤال هل كل مضاف يصح نداؤه؟ استثنى النحاة نوعًا واحدًا وهو المضاف إلى كاف الخطاب، ولذلك قال بعضهم: جميع الأسماء المضافة يجوز أن تكون منادى إلا المضاف إلى ضمير الخطاب مطلقًا سواء كان مفردًا يعني ضميرًا للواحد، أو للاثنين، أو للجماعة، فلا يصح أن يقال: يا غلامَك، لأنَّ يا هذه تجعل الكلام للمخاطب فحينئذ صار غلام مخاطب، وإضافة غلام النكرة إلى حرف خطاب يدل على أنه غير مخاطب، وهذا تناقض، لأن الأصل في المضاف والمضاف إليه المغايرة، وهذا هو الأصل قال ابن مالك: وَلاَ يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوْهِمًا إِذَا وَرَدْ هذه القاعدة ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى أي لا يكون المضاف والمضاف إليه متحدين في المعنى، فإذا ورد من كلام العرب

ما ظاهره كذلك قال: وأوِّل موهما إذا ورد أي وجب تأويله عند البصريين، فغلامَك إذا نصبناه على النداء، صار غلام مضاف وهو مخاطب، وإضافته إلى الضمير ضمير الخطاب تدل على أنه غير مخاطب، إذًا هو مخاطَبٌ غيرُ مخاطَبٍ، للعلة السابقة من حيث إنه منادى صار غلام مخاطبًا ومن حيث إنه مضاف إلى ضمير الخطاب صار غير مخاطب، لأن غلامًا أضيف إلى ضمير الخطاب فلزم أن يكون غير مخاطب، فيلزم من ذلك التناقض. [فَانْصِبَنَّهُ] والعامل فيه الفعل المحذوف على قول الجمهور، وقيل: يا النداء لسده مسد الفعل، والصواب الأول. [لاَ غَيْرُ] يعني ليس غير، وغيرُ أي لا غَيْرَ النصب، أو لا غيره حذف المضاف إليه ونوي معناه فبينت على الضم مثل قبل وبعد. والحاصل أنَّ المنادى خمسة أنواع: المفرد العلم، والنكرة المقصودة، وهذان حكمهما البناء على ما يرفعان به لو كانا مُعْرَبيْن، والمضاف والشبيه بالمضاف والنكرة غير المقصودة وحكمها النصب لفظًا ومعنى.

باب المفعول لأجله

بَابُ المَفْعُولِ لأَجْلِهِ أي هذا باب الشيء الذي فُعِلَ من أجله شيء آخر، فالمفعول لأجله هو الذي فُعِلَ لأجله شيء آخر، والضمير في لأجله إما أن يعود على أل لأنها اسم موصول، وقيل على موصوف محذوف، أي الشيء الذي فُعِل لأجله شيء آخر، وهذا قبل جعل هذا التركيب عَلَمًا، وأما بعد جعله عَلَمًا، وصار علما مركَّبا منقولاً من اسم المفعول ومتعلِّقه، إلى العلمية وهو ما سيذكره الناظم. [بَابُ المَفْعُولِ لأَجْلِهِ] ويقال له: المفعول من أجله، والمفعول له، هذه ثلاثة أسماء والمعنى واحد، والثالث هو المشهور قال: - وَهْوَ الَّذِي جَاءَ بَيَانًا لِسَبَبْ ... كَيْنُونَةِ العَامِلِ فِيهِ وَانْتَصَبْ والأولى أن يعرَّف بأنه المصدر المعلِّلُ لحدث شاركه وقتًا وفاعلاً. فكل قيد من هذه القيود هي مأخوذة في حدِّ المفعول له، إن وجدت مجتمعه حينئذٍ صحَّ تسميته مفعولاً لأجله، وإن فُقِدَ منها واحد ولو مع وجود البقية انتفى كونه مفعولاً لأجله. فيشترط فيه أن يكون مصدرًا، فإن لم يكن مصدرًا فلا يكون مفعولاً لأجله، ويُشترط فيه أن يكون مُعلِّلاً، يعني ذُكِرَ لعلة ولسبب، لذا قال: الذي جاء بيانا لسبب، فإن لم يكن كذلك انتفى كونه مفعولاً لأجله، لحدث مشارك له في الوقت والفاعل فلا بُدَّ من المشاركة، الاتحاد زمنًا وفاعلاً فإن لم يتحدا زمنًا

انتفى كونه مفعولاً لأجله، ومثال المستجمع للشروط قوله تعالى: (يجعلون أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (19))) [البقرة:19] فحذرَ منصوبٌ على أنه مفعول لأجله، وهو مصْدر، ومُعَلِّل للحدث المشارك له وهو يجعلون. وضابط المفعول لأجله أنه يصح أن يقع جواب لِمَ، ذكره الحريري فقال: وَغَالِبُ الأَحْوالِ أَنْ تَرَاه جَوَابَ لِمْ فَعَلْتَ مَا تَهَوَاهُ لِمَ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق؟ جوابه: حذرَ الموت، إذًا صحَّ أن يقع جواباً للِمَ، فحذرَ نقول: هذا مصدر وهو منصوب، ذُكِرَ علَّةً وسبباً لجعل الأصابع في الآذان، وقوله: أصابعهم، مجاز مرسل، المراد به أطراف الأصابع، ولا يجعلون الأصابع كلَّها، يسمى مجازاً مرسلاً لإطلاق الكل مرادًا به الجزء، وزمنه وزمن الجعْل واحد، وفاعلهما واحد وهم الكافرون إذًا وجدت الشروط، فإذًا حذرَ مصدر منصوب على المفعولية لأجله وهو معلل لحدث شاركه، وزمن الجعل واحد مع الحذر، والفاعل واحد، وهم الكافرون، وصحَّ وقوعه في جواب لِمَ؟. فلو فقد المعلل شرطا من هذه الشروط انتفى كونه مفعولاً لأجله، ووجب جره بحرف دال على التعليل، والأكثر أن يكون اللام، مثال ما فَقَدَ المصدرية قوله تعالى: ((هُوَالَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (29))) [البقرة:29] لكم الكاف حرف خطاب، والمخاطَبون هم علة الخلق، لِمَ خلق ما في الأرضِ؟ لكم أنتم أي للمخاطبين، لكنه ليس بمصدر، فالكاف ليس بمصدر بل هو لفظ جامد، فالضمائر كلها جوامد ليست من المشتقات، إذًا المخاطبون هم علة الخلق، وخُفِضَ ضميرهم باللام لأنه ليس مصدرًا، ولا يصحُّ أن

يقال: جئتك السمْن، يعني جئت من أجل أن آخذ السمن، اتفاقاً لا يصح وإنما يجب جره بلام دالة على التعليل، فتقول: جئتك للسمن، لأنَّ السمن ليس بمصدر. ومثال ما فَقَدَ اتحاد الزمن، قول الشاعر: فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَومٍ ثِيَابَهَا ... لَدَى السِّترِ إِلاَ لِبْسَةَ الْمُتَفَضِّلِ فنوم مصدر، ونضَّت يعني خلعت لنوم، فالفاعل واحد، والنوم علة لخلع الملابس، وهل الزمن واحد؟ نقول: لا، لأنَّ الخلع سابق على النوم، فهي لا تخلع وتنام في وقتٍ واحدٍ، وإنما الخلع أوَّلا ثم النوم، إذًا أحدهما سابق على الآخر، ففقد اتحاد الزمن، لا بُدَّ أن يكون زمن الخلع وزمن المصدر وهو النوم واحدًا، وهنا الزمن مختلف، لأنَّ الخلع سابق على النوم. ومثله جئتك اليوم للإكرام غداً، وجب جره باللام، فالمجيء وقع اليوم، والإكرام الذي هو علة المجيء سيقع غداَ إذًا افترقا. ومثال ما فَقَدَ اتحاد الفاعل، نحو: جاء زيد لإكرام عمرٍو له، ففاعل الإكرام وفاعل المجيء مختلف، فالإكرام الذي هو علة للمجيء لم يصدر من فاعل واحد، وإنما صدر من فاعلين، فاعل المجيء ليس هو عينه فاعل الإكرام، ففاعل الإكرام عمرو، وفاعل المجيء المتكلم. وقال الشاعر: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلهُ القَطْرُ

فإنَّ الذكرى هي علة عُروِّ الهزة، وزمنهما واحد، ولكن اختلف الفاعل، ففاعل العرو هو الهزة، وفاعل الذكرى هو المتكلم، لأنَّ المعنى لذكري إيَّاكِ، فلمَّا اختلف الفاعل خفض باللام. هذه شروط أربعة لا بُدَّ من توفرها في المفعول لأجله، حينئذٍ يجوز نصبه على المفعولية، فهذه الشروط لجواز النصب على المفعولية لا لإيجابه. وَهْوَ الَّذِي جَاءَ بَيَانًا لِسَبَبْ ... كَيْنُونَةِ العَامِلِ فِيهِ وَانْتَصَبْ كَقُمْتُ إِجْلاَلاً لِهَذَا الحِبْرِ ... وَزُرْتُ أَحْمَدَ ابْتِغَاءَ البِرِّ [وَهْوَ] أي المفعول لأجله عاد الضمير على المضاف إليه وهو جائز على الصحيح، [الَّذِي] اسم موصول يصدق على المصدر وهو اسم، فحينئذ لا يكون المفعول لأجله فعلاً ولا حرفًا إنما يختص بالأسماء، ولذلك من علامات الأسماء: كونها مفعولاً له، فكلُّ ما اختص من العناوين التي تمر بك من الابتداء أو الخبر أو التمييز أو الحال إذا قيل: هذا مختص بالاسم فحينئذٍ تجعل هذا العنوان من علامات الأسماء، لا يقع الفعل مفعولاً له، ولا يقع الحرف مفعولاً له، فإذا وقع اللفظ مفعولاً له تجعل هذا المحلَّ الذي هو مفعولٌ له من علامات الأسماء، فتقول مثلاً قوله تعالى: (حَذَرَ الْمَوْتِ) هذا اسم وعلامة اسميته مع كونه مضافا، كونه مفعولاً له، فتجعل من العلامات كونه مفعولاً له، لأن المفعول له لا يكون إلا اسمًا، إذًا [الَّذِي] هنا يصدق على الاسم، ويعيَّن بالمصدر حينئذٍ خرج

الفعل والحرف، [جَاءَ] أي أتى وثبت، [بَيَانًا لِسَبَبْ] يعني ذُكر علة، والسبب والعلة بمعنى على المشهور، قال في المراقي: وَمَعَ عِلَّةٍ تَرَادَفَ السَّبَبْ ... وَالفَرْقُ بَعْضُهُمْ إِلِيْهِ قَدْ ذَهَبْ [جَاءَ بَيَانًا لِسَبَبْ] أي المفعول له سبب حامل للفاعل على الفعل، نحو: قمتُ إجلالاً لك، فإجلالاً هذا سبب لحمل الفاعل على القيام، فحينئذ صار المفعول له سببًا للفاعل، من أجل أن يفعل الفعل الذي هو القيام، فإجلالاً من قولك: قمت إجلالاً لك مفعول له، وهو سبب وعلة حمَل الفاعل على إيجاد القيام، إذًا سبب وجود القيام إجلال الفاعل للمخاطب، [بَيَانًا لِسَبَبْ كَيْنُونَةِ العَامِلِ فِيهِ] يعني وقوع الفعل الواقع من الفاعل، والمراد بالفعل هنا الفعل اللغوي يعني لِمَ وَقع ووُجِد وكان هذا الحدث وهو القيام؟ نقول: علته وسببه هو المفعول لأجله. [وَانْتَصَبْ] هذا بيان لحكم المفعول له، لما ذكر لك حقيقته وهي حاصلة بالحد أو بالرسم حينئذٍ يسأل السائل: ما حكمه؟ ومعلوم مِن وضع هذا الباب في ضمن الأسماء المنصوبة أن حكمه النصب، [وَانْتَصَبْ] جوازاً لا وجوباًً إذا وجدت الشروط السابقة: كونه مصدرًا، ومعللاً لحدث شاركه وقتاً وفاعلاً، إذا وجدت هذه الشروط حينئذٍ نحكم عليه بأنه يجوز نصبه على أنه مفعول له وليس بواجب، ويجوز جره بحرفٍ دالٍّ على التعليل، فحينئذٍ جُعِل هذا الباب من المنصوبات لأن المنصوبات على قسمين:

ما يجب نصبه، وما يجوز نصبه - كما ذكرناه في المستثنى - أن بعضه يجب نصبه، وبعضه يجوز نصبه، جواز النصب راجحاً أو مرجوحاً، كذلك المفعول لأجله كلُّه جائز النصب وليس بواجب النصب، [وَانْتَصَبْ] جوازاً مع وجود الشروط السابقة، فالشروط إنما هي للجواز لا للوجوب، فإذا لم تنصبه فجُرَّه بحرف دالٍّ على التعليل، والأكثر أن يكون باللام، وليس مختصًّا باللام بل (مِنْ) و (الباء) و (في) قد تكون للتعليل أيضًا. [كَقُمْتُ إِجْلاَلاً لِهَذَا الحِبْرِ] أي كقولك أو مثلُ: قُمْتُ إِجْلاَلاً لِهذَا الحِبْرِ، الحِبْر، والحَبرْ يجوز فيه الوجهان، ولكن في النظم يُكسَر أولى من أجل قوله: (البِرِّ)، قمت فعل وفاعل، وإجلالاً مفعول له، مفعول لأجله، مفعول من أجله، جاء بياناً لسبب وقوع القيام، ولو قيل لك لم قمتَ؟ تقول: إجلالاً لهذا الحِبْر، حينئذٍ وقع في جواب لِمَ؟ وهي إنما يسأل بها عن التعليل والسبب، فحينئذٍ وقع هذا المصدر إجلالاً لأنه مصدر أَجَلَّ يُجِلُّ إجْلالاً، مصدر وقع جواب لِمَ؟ حينئذٍ مع بقية الشروط وهي اتحاد الزمن واتحاد الفاعل نقول: جائزٌ نصبه، ويصح أن يقال: قمت لإجلالٍ، فاللام حرف جر، وإجلالٍ مجرور باللام وجره كسرة ظاهرة على آخره، إذًا انتقل من النصب إلى الجر مع وجود الشروط. والحِبْرِِ هو العالم. [وَزُرْتُ أَحْمَدَ ابْتِغَاءَ البِرِّ] زرت فعل وفاعل، وأحمد مفعول به، ابتغاء البرِّ مفعول لأجله، ذُكر علة وسببًا للزيارة، لِمَ زرت أحمد؟ نقول: ابتغاء البر والفضل والإحسان، مع وجود الشروط وهي اتحاد الفاعل واتحاد الزمن وكونه مصدرًا وذُكر علة لوقوع الفعل

وهو الزيارة، فمع استيفاء هذه الشروط جاز نصبه على أنه مفعول لأجله، ويجوز جره باللام لابتغاءِ البرِّ فحينئذٍ يكون جاراً ومجروراً متعلق بقوله: زرت. قوله: [قُمْتُ إِجْلاَلاً] وقوله: [وَزُرْتُ أَحْمَدَ ابْتِغَاءَ البِرِّ] فيه إشارة إلى أنَّ الفعل إذا كان لازمًا فهو لا ينصب مفعولا به، وإذا لم ينصب مفعولاً به ليس معناه أنه لا ينصب حالا، ولا تمييزًا، ولا مفعولاً لأجله، ولا مفعولا معه، بل ينصب كلَّ ما ذُكر، وإنما الممنوع هو نصب المفعول به فقط، والدليل قوله: قمت إجلالاً، فإجلالاً مفعول لأجله، والعامل فيه قام، وهو فعل لازم، إذًا الفعل اللازم قد ينصب، نقول: هل الفعل اللازم لا ينصب مطلقاً؟ نقول: لا بل قد ينصب، ولكنه لا ينصب مفعولاً به، وإنما يجوز نصبه للحال أو التمييز أو المفعول لأجله، فقوله: [قُمْتُ إِجْلاَلاً] هذا مثال المفعول لأجله المنصوب بفعل لازم، وقوله: [وَزُرْتُ أَحْمَدَ ابْتِغَاءَ البِرِّ] زرت أحمدَ هذا متعدٍّ، وابتغاءَ البِرِّ منصوب بفعل متعدٍّ على أنه مفعول لأجله. إذًا من المثالين تأخذ قاعدة: وهي أن الفعل اللازم لا ينصب مفعولاً به، ويجوز أن ينصب ما عدا المفعول به. وأن قوله: إجلالاً، وابتغاء البر، فيه تنويع للمفعول لأجله، فقد يكون مجردًا غير محلى بأل، ولا مضافًا مثل إجلالاً فهو مجرد من أل ومن الإضافة، وهذا يجوز فيه النصب والجر باللام، النصب كقول الناظم: [قُمْتُ إِجْلاَلاً] وجره باللام نحو: قمت لإجلالٍ

لهذا الحبر، ولكن النصب أرجح من الجر. وقد يكون مضافًا كمثال الناظم [وَزُرْتُ أَحْمَدَ ابْتِغَاءَ البِرِّ] حينئذٍ يجوز فيه الوجهان: النصب، والخفض بلام التعليل، وليس أحدهما أرجح من الآخر، بل هما على السواء، إذًا يستوي أن يقال: زرتُ أحمدَ ابتغاءَ البرِّ بالنصب، مع قولك: زرتُ أحمدَ لابتغاء البِرِّ. وقد يكون المفعول لأجله محلى بأل نحو: ضربت ابني التأديب، فالتأديب مفعول لأجله وهو محلى بأل، وهذا يجوز فيه الوجهان، ولكن الخفض بالحرف أرجح، عكس الأول الذي هو المجرد من أل والإضافة، فقولك: ضربت ابني للتأديب، أرجحُ من قولك: ضربت ابني التأديبَ. والحاصل أنَّ المفعول لأجله له أحوال ثلاثة: الأولى: أن يكون مجرداً عن أل والإضافة هذا يجوز فيه الوجهان: النصب والخفض باللام، والنصب أرجح، ودليل الترجيح كثرة السماع. الثانية: أن يكون مضافاً، وهذا يجوز فيه الوجهان على السواء، لا يترجح أحدهما على الآخر. الثالثة: ولم يذكرها الناظم وهي أن يكون المفعول لأجله محلَّى بأل، وهذا يجوز فيه الوجهان: النصبُ، والجر بلام التعليل، والثاني أرجح.

باب المفعول معه

بَابُ المَفْعُولِ مَعَهُ أي هذا باب بيان حقيقة المفعول معه، لا بُدَّ دائمًا أن تقدر بيان حقيقة أو حد أو ماهية كذا، لأنَّ المراد هنا بيان الحقيقة أولاً، وهذا إنما يحصل بالحد، والكشف عن هذه الحقيقة ثم بعد ذلك يبيِّن الحكم وهو كونه منصوبًا أو مرفوعًا أو مخفوضًا. [بَابُ المَفْعُولِ مَعَهُ] الضمائر هذه كلها له ولأجله، ومعه، وبه الأصل أنها تعود إلى أل الموصولة، أو إلى موصوف محذوف تقديره باب الشيء الذي فُعِلَ معه، يعني باب المفعول معه الذي يُذكر لبيان مَنْ فُعِلَ معه الفعلُ، فالمفعول معه حينئذٍ يكون اسما للذات المذكورة بعد الواو نحو: سرتُ والنيلَ، فالنيلَ الذات نفسها هي المفعول معه، إذًا [بَابُ المَفْعُولِ مَعَهُ] أي باب بيان حقيقة المفعول معه، وهو الذي يُذْكر لبيان من فُعِلَ معه الفعل أي المذكور لبيان الذات التي فَعل الفاعلُ الفعلَ بمصاحبتها، فحينئذٍ إذا فُسِّر بهذا المعنى يكون المفعول اسمًا للذات التي تقع بعد الواو التي تكون نصًّا في المعية، [بَابُ المَفْعُولِ مَعَهُ] ذكره الناظم هنا في المنصوبات فهو مقيس، ورأي سيبويه - رحمه الله - وإن كان الجمهور على خلافه- أنَّ باب المفعول معه كله مسموع وليس بمقيس، وإذا كان مسموعًا حينئذٍ يُدْرَس للحكم على ما نُقل من كلام العرب وما عداه فلا، لا يقاس عليه، يعني ليس كالسابق

المفعول لأجله، والمفعول به، هذا ليس الحكم فيه مُنْصَبًّا على ما نُقِلَ عن العرب فقط، وإنما أنت تعلم القواعد التي استنبطت من كلام العرب فحينئذٍ تقيس عليها: إِنَّمَا النَّحْوُ قِيَاسٌ يُتَّبَعْ إذًا صار قواعد عامة كقواعد أهل الأصول، وكالقواعد الفقهية، حينئذٍ يستنبط منها المتكلم من تلك القواعد أحكام آحاد المسائل، وهذه الآحاد يجريها على سنن تلك القواعد، أما على رأي سيبويه فلا، إنما يُذكر ويبين للحكم به على ما نقل عن العرب، وليس لك أن تُنشئ من عِنْدك مفعولا معه، لكن الجمهور على خلافه، ولذلك يذكرون المفعول معه هنا. وَهْوَ اسْمٌ انْتَصَبَ بَعْدَ وَاوِ ... مَعَيَّةٍ فِي قَوْلِ كُلِّ رَاوِي [وَهْوَ] أي المفعول معه، ودائمًا يُرجع الناظم الضمير إلى المضاف إليه، وهذا محلُّ نزاعٍ بين النحاة هل يجوز عوْدُ الضمير على المضاف إليه؟ نقول: نعم يجوز ذلك، وهنا الضمير يعود على المفعول معه، بَابُ هذه كلمة، والمَفْعُولِ مَعَهُ كلها مركبة كلمة ثانية، إذًا مؤلَّفٌ من كلمتين لأنَّ المفعول معه صار عَلَمَا كأصول الفقه مثلاً، فحينئذٍ أرجع الضمير إلى المضاف إليه، وقيل: المضاف والمضاف إليه كالكلمة الواحدة، فحينئذٍ لا يجوز عود الضمير على بعض الكلمة كما أنه لا يصح عود الضمير على دال زيْد، ولا ياء زيد، ولا زاي زيد اتفاقًا، قالوا: زيد كلمة واحدة، ولا يصح عوْد الضمير على جزءٍ منها، كذلك ما نُزِّلَ مُنَزَّلةَ الكلمة كالمضاف والمضاف إليه،

لا يجوز عوْد الضمير على المضاف إليه، لكن الصواب جوازه، وهو وارد في القرآن وهو أفصح ما يكون من لغة العرب. [وَهْوَ اسْمٌ] خرج به الفعل والحرف، فلا يكون الفعل مفعولاً معه، ولا يكون الحرف مفعولاً معه، إذًا صار المفعول معه من علامات الأسماء، [اسْمٌ] أي صريح، فلا يكون المفعول معه اسمًا مؤولاً بالصريح، [اسْمٌ] خرج به الفعل المضارع المنصوب بعد واو المعية؛ لأن مفهومه الجمع، وأنْ وما دخلت عليه في تأويل مصدر وهو اسم، لكنه في الاصطلاح لا يكون مفعولاً معه، نحو: لا تأكل السمكَ وتشربَ اللبن، هذا مثال مشهور، وتشربَ بالنصب والعامل فيه أنْ مضمرة وجوبًا بعد واو المعية، إذًا هذه الواو تدل على الجمع، وإذا نظرت إلى المعنى في المثال: لا تأكل السمك مع شربك اللبن، فالنهيُ هنا مسلط على الجمع بينهما، لا تجمع بين أكل السمك وشرب اللبن، ولك أن تُفْرِدَ أحدهما عن الآخر، تأكل السمك ولا تشرب معه لبن، وتشرب اللبن ولا تأكل معه سمك، لأن المنهي عنه هو القِران وهو الجمع بينهما، إذًا قوله: [اسْمٌ] خرج به الفعل، فحينئذٍ ما وقع بعد واو الجمع، وهي الواو الدالة على المعية، وهو الفعل المضارع، فهذا فيه معنى المفعول معه، لكنه لا يُسمَّى في الاصطلاح مفعولاً معه، إنما خُصَّ المفعول معه بالأسماء، حينئذٍ إذا أفاد من الأفعال ما أفاده المفعول معه لا يسمى مفعولاً معه، وإن كان يؤوَّل بالمصدر. كالمثال السابق لا تأكل السمك وتشربَ اللبنَ يعني لا تأكل السمك شارباً اللبن صار حالا، ولذلك ذكرنا أنَّ الإعراب في الفعل المضارع لم

يكن أصلاً، لإمكان الاستغناء عن الإعراب بالتصريح بالاسم، لأنَّ علة إعراب الفعل المضارع هي اعتوار معانٍ مختلفةٍ على الفعل الواحد على الصيغة الواحدة يميزها الإعراب، والاسم كذلك، لكن الاسم كان الإعراب فيه أصلاً لأنه لا يمكن أن يُمَيِّز المعاني المختلفة المتعاقبة على صيغة واحدة إلا الإعراب فليس له نائب، أما الفعل المضارع فله نائب وهو التصريح بالاسم، لذلك قولهم: لا تأكل السمك وتشربَ وتشربِ وتشربُ، فيه ثلاثة أوجه، هذه المعاني مختلفة، فتختلف المعاني والصيغة واحدة وهي: تشرب والمعاني مختلفة، والذي ميَّز هذا عن ذاك هو الإعراب، فالمعنى لا تأكل السمك وتشربَ، على الجمع، وتشربِ على الجزم حينئذٍ كلٌ منهما منهي عنه على حدة، وتشربُ هذا إذنٌ وإباحة في الشرب وأكل السمك، فاختلفت المعاني والذي ميَّز بعضها عن بعض هو الإعراب، لكن لمَّا لم يكن الإعراب مخصصًّا بالتمييز وجاز إنابة غير الإعراب عنه صار فرعاً لا أصلاً، لأنه يمكن أن يقال: لا تأكل السمك ولك شُرْبُ اللبن، أباح لك الثاني بصيغة غير الفعل المضارع المرفوع، ولا تأكل السمك شارباً اللبن جاء بالحال بدلاً من الفعل المضارع المنصوب، ولا تأكل السمك ولا تشربِ اللبن صرَّح بلا الناهية، لذلك صار فرعاً لا أصلاً. والحاصل: أن قوله: وتشربَ لا يسمى في الاصطلاح مفعولاً معه، وإن أدَّى معنى المفعول معه، لكونه فعلاً وشرطُ المفعول معه أن يكون اسمًا. كذلك الجملة الحالية إذا قيل: يشترط في المفعول

معه أن يكون اسمًا، فلو جاءت الجملة الحالية مفيدة معنى مع، فلا تسمى مفعولا معه، وإن أفادت معنى المعية، نحو: جاء زيدٌ والشمسُ طالعةٌٌ، وإعرابه: جاء فعلٌ ماضٍ، وزيدٌ فاعل، والواو واو الحال، والشمس طالعة مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب حال، وهذا في قوةِ قولك: جاء زيدٌ مع طلوع الشمس، صار طلوع الشمس قيدًا ووصفًا لزيد، وهو أنَّ فعله وقع مع طلوع الشمس، وصار قيدًا لعامله، لكن ليس مفعولا معه، لأنه جملة، والشرط أن يكون اسماً. [وَهْوَ اسْمٌ] فضلة ليخرج نحو: اشترك زيدٌ وعمروٌ، فما بعد الواو هنا عُمْدة، لأن الفعل اشترك يقتضي اثنين، لا يقع الاشتراك إلا بين اثنين، لا يقال: اشتراك زيدٌ فحسب، بل لا بد من الثاني: اشترك زيدٌ وعمروٌ، فما بعد الواو في المعنى فاعل، لكن في الاصطلاح لا يسمى فاعلا، ولذلك تقول: اشترك زيد وعمرو اشترك فعل ماض، وزيد فاعل، وعمروٌ الواو عاطفة تفيد معنى مع، لأنَّ الاشتراك هنا وقع من اثنين، إذًا فيه معنى المعية، وعمرو معطوف على زيد، والمعطوف على المرفوع مرفوع، ففي الاصطلاح عندهم لا يُسمى فاعلاً، لكنه في المعنى فاعل كما هو ظاهر. ومثله تضاربَ زَيْدٌ وعمروٌ، كلٌ منهما فاعل ومفعول، لكنه في المعنى لا في الاصطلاح، فزيدٌ فاعل وعمروٌ معطوف عليه، لكن في المعنى إذا قيل: تضارب نأخذ من الصيغة تضارب أن كلَّ واحدٍ منهما ضاربٌ ومضروب، لأنَّ تضارب على وزن تفاعل فتفهم من الصيغة أن

الحدث فيه اشتراك بين اثنين، فكل منهما ضارب ومضروب، إذًا تضارب زيد فزيد فاعل اصطلاحاً، لكنه في المعنى مفعول به، لأنه وقع عليه جزء من الضرب، وعمروٌ معطوف على ما سبق لكنه في المعنى أيضًا فاعل ومفعول به، فاعل لأنه أوقع ضربًا على زيد، ومفعول لأنَّ زيدًا أوقع عليه ضربًا، إذًا في الاصطلاح قد يكون الشيء فاعلاً ويكون أيضاً مفعولاً به في المعنى، وقد يكون في الاصطلاح مفعولاً به، ويكون أيضًا فاعلاً في المعنى، وإنما هذه التي يذكرها النحاة كلها من باب الاصطلاحات، تمييزا للكلمات المنقولة عن العرب، كل لفظ وضع له اصطلاح خاص. إذًا قوله: [اسْمٌ] فضلة، احترزنا به عما وقع بعد الواو المفيدة للمعية من قولك: اشترك زيد وعمرو، فإنه عمْدة. [انْتَصَبَ] هذا بيان لحكمه وهو النصب، وكل مفعول معه فهو منصوب، والنصب هنا واجب لا جائز، [انْتَصَبَ] يعني لا يكون مرفوعًا، ولا مخفوضًا، إنما يتعين فيه النصب، وناصبه الفعل المذكور قبله على رأي جمهور البصريين وبعض الكوفيين أنَّ الناصب له هو الفعل الذي قبله، نحو: سرتُ والنيلَ، فالنيل مفعول معه، والناصب له سار وهو فعلٌ ماضٍ، وأنا سائرٌ والنيلَ، فالنيل مفعول معه منصوب بالوصف وهو سائر، لأنَّ فيه معنى الفعل وحروفه، فيه معنى الفعل لأنه دال على ذات متصفة بصفة، لأنه مشتق، وفيه حروف الفعل سار فهي موجودة في سائر، فأصول المادة موجود فيه، فحينئذ يكون الناصب للمفعول

معه هو الفعل، أو ما فيه معنى الفعل وحروفه، فحينئذٍ إذا لم يسبق بفعل فلا يكون مفعولا معه، وإذا سُبق بما فيه معنى الفعل دون حروفه لا يكون مفعولاً معه، بل لا بد أن يكون العامل فيه إما الفعل، وإما ما فيه معنى الفعل وحروفه، فإذا انتفى هذان العاملان انتفى المفعول معه، فنحو: كلُّ رجلٍ وضيعتُه يعني كل رجل مع ضيعته، فالواو واو المعية لكن ضيعته لا يجوز نصبه على أنه مفعول معه، لأنه لم يسبقه لا فعل ولا ما فيه معنى الفعل وحروفه، فحينئذٍ نقدر كل رجل وضيعته مقترنان، فكل مبتدأ، وهو مضاف ورجل مضاف إليه، وضيعته معطوف على كل، والمعطوف على المرفوع مرفوع، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره مقترنان، ولا يجوز نحو: هذا لك وأباك بالنصب، فالواو واو المعية، وأباك لا يصح نصبه على أنه مفعول معه، لأنه وإن سبق بما فيه معنى الفعل؛ لأنَّ هذا اسم إشارة فيه معنى الفعل وهو أُشيرُ لكنه ليس فيه حروف الفعل، حينئذ الذي يعمل إما أن يكون فيه معنى الفعل وحروفه كسائر ونحوه، وإما أن يكون فيه معنى الفعل دون حروفه، وهو يعمل فقد ينصب الحال أو التمييز ونحوه، والذي يكون عاملاً في المفعول معه هو القسم الأول ما فيه معنى الفعل وحروفه، والقسم الثاني ما فيه معنى الفعل دون حروفه لا يصح أن ينصب مفعولا معه، فحينئذ هذا لك وأباك لا يصح النصب، وإنما تقول: هذا لك ولأبيك بالجر، ولذلك عبر بعضهم بأن شرط المفعول معه أن يكون مسبوقًا بفعل أو ما فيه معنى الفعل

وحروفه، فهو شرط والشرط ينتفي المشروط بانتفائه، فالناصب هو الفعل كما ذكرناه، وليس الواو كما ذهب إلى ذلك عبد القاهر الجرجاني أن الواو هي الناصبة، وهذا ضعيف. [بَعْدَ وَاوِ مَعَيَّةٍ] المفعول معه لا يقع إلا بعد واو المعية، خرج به ما وقع بعد معَ، نحو: جاء زيد معَ عمروٍ، وهي نصٌّ في المعية، والأصل أنَّ مع في اللغة تدل على المصاحبة في المكان أو في الزمان، ومصاحبة كل شيء بحسبه، إذاً جاء زيد مع عمرو دلت على المصاحبة والجمعية، وليس عمرًا مفعولا معه، لأنَّ الشرط أن يقع بعد واو المعية. وخرج أيضًا ما بعد الباء نحو: بعت الدار بأثاثها، فالباء هنا بمعنى مع، أي بعت الدار مع أثاثها، فأثاثها ليس مفعولا معه، فلا بُدَّ أن يكون المفعول معه قد وقع بعد واو المعية، فإذا وقع بعد مع أو ما يفيد معنى مع أيْ معنى المعية كالباء مثلا نقول: هذا ليس بمفعول معه. [بَعْدَ وَاوِ مَعَيَّةٍ] لكن ليس كل واو معية، لأنَّ واو المعية قد تكون محتملة للعطف والمعية، إذًا قد تفيد معنى مع احتمالا، وقد تفيده نصًّا يعني لا يصحُّ أن يراد بها العطف، [بَعْدَ وَاوِ مَعَيَّةٍ] يعني بعد واو أريد بها التنصيص على المعية، فإذا قيل: جاء زيد وعمرو، فالواو حرف عطف وهي تشعر بالمعية، لكنها ليست نصًّا فيها، وخاصة إذا أريد بالواو مجرد العطف ولا تريد أنه جاء معه، ولذلك ذكرنا أن الواو لمطلق الجمع، قد يكون مرادا به الترتيب، وقد لا يكون مرادًا به الترتيب، بل عكس الترتيب، وقد ينوي بها المتكلم المعية، وتكون ظاهرة فيها، ولذلك

جوزوا على ضعف أن يقال: جاء زيدٌ وعمرًا بالنصب على أنه مفعول معه، لكنه مرجوح لاحتمال أن تكون الواو لمجرد العطف، والأصل في الواو أنها للعطف، فحينئذ ما دار بين أصله مع احتمال شيء آخر فالأولى أن يحمل على أصله فيرجح الرفع على النصب، وإذا قيل: مزجت ماءً وعسلاً، المثال فيه معنى المعية، لكن المعية هنا ليست من الواو وإنما من العامل، فالمزج هنا مفهوم من العامل وليس من الواو، إذًا خرج بقوله: [بَعْدَ وَاوِ مَعَيَّةٍ] أيضًا ما إذا كانت الواو للعطف والمعيةُ فُهمت من العامل كالمثال السابق. [فِي قَوْلِ كُلِّ رَاوِي] الأصل راوٍ بحذف الياء لأنه منقوص منون، ولكن رجعت الياء عند الوقف، لحذف التنوين، والراوي أي الناقل للغة العرب، لأنَّ اللغة الأصل فيها النقل كما قال السيوطي: وَعُرِفَتْ بِالنَّقْلِ لاَ بِالعَقْلِ ... فَقَطْ بِلِ اسْتِنْبَاطِهِ مِنْ نَقْلِ وعرفت أي اللغة بالنقل، وقد يكون متواترًا، وقد يكون آحادًا، فبعض الكلمات منقولة تواترًا كالسماء والأرض والماء والجمل والبعير والحمار هذه منقولة بالتواتر، وبعضها منقول بالآحاد لم ينقل عن كل العرب وإنما عن بعض وأفراد مثل خندريس، وزهزقت وهلقمت، فهذه كلمات ليست مشهورة في لغة العرب إنما نقلها يكون بالآحاد.

نَحْوُ أَتَى الأَمِيرُ وَالجَيْشَ قُبَا ... وَسَارَ زَيدٌ وَالطَّرِيقَ هَارِبَا [نَحْوُ] أي مثل قولك [أَتَى الأَمِيرُ وَالجَيْشَ قُبَا] أتى فعل ماض، والأمير فاعل، والجيشَ الواو للمعية، والجيشَ بالنصب على أنه مفعول معه، ويصح فيه الرفع ويصح فيه النصب، لكن إذا نصب فهو مفعول معه قطعًا، وإذا رفع فليس مفعولاً معه، وإنما خرج عن كونه مفعولاً معه، لاحتمال العطف، قد يرجح التنصيص على المعية فينتصب ما بعدها، ولإمكانه إيقاع الفعل من المعطوف والمعطوف عليه صح الرفع، إذاً والجيش منصوب على أنه مفعول معه، ويجوز الرفع على العطف، لأنه يصح أن يكون فاعلاً من جهة المعنى، لأن الإتيان يصح أن يكون من الأمير ويكون من الجيش، إذاً صحَّ إيقاع الفعل وهو الإتيان من المعطوف والمعطوف عليه، فحينئذٍ صار مشاركاً للأول فصح الرفع، فيقال: جاء الأمير والجيشُ، والنية هي التي تعين المراد بالنسبة للمتكلم، وأما إذا كنت تقرأ فاحمله على العطف أولى، و [قُبَا] محل معروف بالمدينة النبوية. فالواو حينئذ إذا نصب ما بعدها تكون بمعنى مع، وعاطفة إذا رفعت ما بعدها والذي يعين هذا أو ذاك هو نية المتكلم، فأنت ما الذي تريده؟ هل تريد الإخبار بأنَّ الفعل قد وقع من الاثنين، أو يكون الفعل قد وقع من الأمير والجيشُ مصاحبٌ له؟ أنت الذي تحدد، وأما أنا فإذا سمعتُ أو قرأتُ فلي أن أحمل على أي المحملين إذا لم يكن قرينة ظاهرة.

[وَسَارَ زَيدٌ وَالطَّرِيقَ هَارِبَا] سار فعلٌ ماضٍ، وزيد فاعل، والطريق الواو واو المعية والطريقَ بالنصب على أنه مفعول معه، وهنا يتعين النصب لأن الطريق لا يسير، فلا يصح إيقاع السير من المعطوف والمعطوف عليه، إذًا لا يمكن حمل الواو هنا على العطف، فتتعين الواو للمعية، ومثله استوى الماء والخشبة هذا المثال المشهور استوى الماء يعني ارتفع الماء والخشبة مع الخشبة، فالخشبة لم ترتفع وإنما ارتفع الماء فقط، وهاربًا حال من زيد. إذاً مثل بمثالين فالأول فيه إشارة إلى أن المفعول معه قد يجوز عطفه على ما قبله، وقد لا يجوز كما في المثال الثاني، هذه ضوابط المفعول معه وهو يعد من النواصب.

المخفوضات من الأسماء

المَخْفُوضَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ لَمَّا أنهى الكلام على المنصوبات شرع في القسم الثالث، وهو المخفوضات؛ لأن التقسيم عندهم ثلاثي، المرفوعات، ثم المنصوبات، ثم المخفوضات، وقدَّموا المرفوعات لأنَّ منها ما هو عمدة كالمبتدأ، والخبر، والفاعل، ونائبه، ثم المنصوبات لأنَّ منها ما يكون منصوبًا بالفعل، والفعل هو الأصل في العمل بخلاف المخفوض وهو الأخير لأنه لا يكون أثرًا للفعل. قوله: [مِنَ الأَسْمَاءِ] هل هو قيد للاحتراز عن الأفعال والحروف أو لبيان الواقع؟ نقول: لبيان الواقع لأنَّ الخفض لا يدخل الأفعال ولا يدخل الحروف، قوله: [المَخْفُوضَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ] أخرج المرفوعات، والمنصوبات من الأسماء، هذا محتمل، ولكن الظاهر أنه ليس للاحتراز لأنَّ الطالب سيدرس أوَّلاً المرفوعات ثم يتلوها المنصوبات ثم إذا جاء عند المخفوضات يعلم أنه ليس احترازًا عن المرفوعات والمنصوبات. [المَخْفُوضَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ] المخفوضات جمع مخفوضة أو مخفوض، والمخفوض من الاسم هو ما اشتمل على علامة الخفض وهو الكسرة أو ما ناب عنها. فنحو: مررت بزيدٍ، فزيدٍ: اسم مخفوض لأنه اشتمل على الكسرة، ونحو: مررت بالزيدين، فالزيدين اسم مخفوض لأنه اشتمل على علامة الخفض وهي الياء النائبة عن الكسرة وهلم جرا.

والاسم المخفوض إما أن يكون مخفوضًا بحرف، أو باسم وهو المضاف، فالمخفوض بالحرف كقولك: مررت بزيدٍ، والمخفوض بالمضاف نحو: جاء غلامُ زيدٍ، فزيدٍ مخفوض كما أن قولك بزيد مخفوض، والعامل فيه هو حرف الجر الباء، والعامل في زيد من قولك جاء غلامُ زيد هو غلام على الأصح، فالعامل في المضاف إليه هو المضاف، وليس الحرف المقدر في المعنى لأنه على معنى حرف كما سيأتي، نقول: التقدير لا يجعله عاملاً لأنَّ حرف الجر إعماله وهو ملفوظ به ضعيف، فكيف إذا صار مقدرًا أو محذوفًا؟! فيكون من باب أولى أن لا يعمل، وهذه علة عدم إعمال حرف الجر محذوفًا لأنَّ إعماله وهو ملفوظ به ضعيف نحو: مررت بزيد، فالباء حرف جر، وهو عامل ضعيف وهو ملفوظ به، فكيف إذا قُدِّر فقيل: غلام زيد على معنى اللام، فتكون اللام هي الخافضة، فأولى أن يكون ضعيفًا فلا يعتمد حينئذ في تعليق العمل به، بل الصواب أنَّ المضاف إليه مخفوض بعين المضاف وهو اسم. والقول بأنَّ الإضافة التي هي معنىً من المعاني هي العامل في المضاف إليه نقول: هذا أيضًا قول ضعيف؛ لأنه متى ما دار جعل العامل إما لفظيًّا أو معنويًّا فجعله لفظيًّا أولى وأحرى.

باب الإضافة

بَابُ الإِضَافَةِ لم يذكر الخفض بالحرف لعله إحالة إلى ما سبق وهو حروف الجر التي ذكرها أولا. [بَابُ الإِضَافَةِ] الإضافة مصدر، وليس المراد بالإضافة المعنى المصدري بل المضاف والمضاف إليه، فحينئذ يكون من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول مجازًا. واسم المفعول المراد به هنا هو المضاف المطلق، ليشمل المقيَّد بحرف جر وغيرَ المقيَّد، لأنَّ المضاف نوعان: مضاف، ومضاف إليه، والقدر المشترك بينهما هو المضاف، وهنا أراد المضاف من حيث هو بقطع النظر عن كونه مضافًا أو مضافًا إليه، [بَابُ الإِضَافَةِ] أطلق المصدر وأراد اسم المفعول أي المضاف، وهو المضاف والمقيَّد بالجار، لكن حمله على المقيَّد بالجار أولى، لأنه يتكلم عن المخفوضات، والتعميم في مثل هذا الموضع كما صنعه البعض فيه نوع إيهام، لأنه لا يتكلم عن المضاف، لأن المضاف يكون بحسب العوامل الداخلة عليه، فإن دخل عليه عامل يقتضي الرفع رُفِع، وإن دخل عليه عامل يقتضي النصب نُصِب، وإن دخل عليه عامل يقتضي الجر جُرَّ، فتقول: جاء غلامُ زيدٍ غلامُ بالرفع وهو مضاف، لأنَّ إعرابه بحسب العوامل الداخلة عليه، ورأيت غلامَ زيدٍ غلامَ بالنصب لأنه دخل عليه عامل يقتضي النصب، ومررت بغلام بالجر لأنه دخل عليه عامل يقتضي الجر وهو الباء، أما زيد من نحو: غلام زيد هو محل البحث عند النحاة في مثل هذا الموضع.

[بَابُ الإِضَافَةِ] الإضافة لغة: مطلق الإسناد ومنه قول الشاعر: فَلمَّا دَخَلْنَاهُ أَضَفْنَا ظُهُورَنَا ... إِلَى كُلِّ حَارِيٍّ جَدِيدٍ مُشَطَّبِ أضفنا ظهورنا يعني أسندنا ظهورنا، وأما الإضافة في الاصطلاح: فهي إسنادُ اسمٍ إلى غيره بتنزيل الثاني منزلة تنوينه أو ما يقوم مقامه. إسناد اسم إلى غيره لأنَّ الإسناد المراد به النسبة والارتباط والعلاقة بين اسمين، فكلما أُسند لفظ إلى لفظ نقول: وُجد ارتباطٌ وعلاقةٌ بينهما، هذه العلاقة قد تكون تامة، وقد تكون جزئية تقييدية، فإذا كانت تامة يُعَنون لها عند النحاة والمناطقة بالنسبة التامة أو النِّسَبِ الكلية، وضابطها ما كانت النسبة أو الارتباط أو الاجتماع أو التعلق بين المبتدأ والخبر، وبين الفعل والفاعل، وما عدا ذلك فكلُّ ارتباطٍ بين كلمتين فهي نسبة تقييدية ليست تامة، لأنَّ الارتباط هنا بين اللفظين: إما أن تكون الإفادة على وجه التمام أولا؛ أي لا على وجه التمام، والإفادة هي ما أفاد فائدة تامة، وهذا ما وُجد فيه شرط الكلام أن يكون مسندًا ومسندًا إليه، وما كان مفيدًا لا على وجه التمام كالمركب الإضافي، والمركب التقييدي، والمركب الإسنادي المسمى به مثلاً كلُّ مركبٍ لا ينطبق عليه حدُّ الكلام يسمى الارتباط بين اللفظين نسبة تقييدية، كالحيوان الناطق، وتقول: جاء زيدٌ العالمُ، هذا مثال يصلح للنسبتين فجاء زيد، هنا حصلت نسبة تامة، وهي إسناد المجيء إلى زيد، وصار الكلام تامًّا، إذًا بينهما ارتباطٌ وعلاقةٌ وأفاد فائدة تامة لأنَّ جاء هذا مسند، وزيد

مسند إليه، وأما زيد العالم فزيد فاعل والعالم صفة له، فبينهما ارتباط قطعًا لأنه صفة مع موصوفها، وبينهما ارتباط وعلاقة ونسبة، ولكن هذه النسبة ليست تامة بل ناقصة تقييدية، لأنها لا تفيد فائدة الكلام الفائدة التامة، فحينئذٍ المركب الإضافي من النوع الثاني، وهو ما كانت فيه النسبة تقييدية، لذا قال: إسناد اسم إلى غيره لتنزيل الثاني منزلة التنوين من الأول، تقول: غلامٌ، وهو اسم نكرة، وتنوينه تنوين تمكين، إذا أضفته وجب حذف التنوين فتقول: غلامُ زيدٍ نُزِّل زيد المضاف إليه من الأول المضاف منزلة التنوين، لأنه يجب عند الإضافة إضافة الاسم الأول إلى الثاني حذف التنوين من الأول؛ لأن الثاني نزل منزلة الجزء من الأول، ولذلك لما صار زيد كالجزء من غلام أخذ التنوين من الأول فصار في آخره على الدال، لأنه صار كالكلمة الواحدة، إذًا نزل الثاني منزلة التنوين مما قبله، أو مما ينوب عنه تقول: جاء غلاما زيدٍ فغلاما زيد أَصله غلامان مثنى فلما أضيف غلامان وجب حذف التنوين، وليس عندنا تنوين بل ما يقوم مقام التنوين وهو النون، فلما كانت النون قائمة مقام التنوين حذفت عند الإضافة كما يحذف التنوين، فقيل: جاء غلاما زيد، ومثله كاتبوا القاضي، أصله كاتبون حذفت النون وهي عوض عن التنوين في الاسم المفرد من أجل الإضافة ولذلك قال بن مالك: نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا ... مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَطُورِ سِينَا

يجب حذف التنوين من المضاف، ويجب حذف النون التالية للإعراب يعني حرف الإعراب، احترازًا من نون حينٍ وشياطينَ وبساتينَ فإنه لا يجب حذفها تقول: شياطينُ الإنسِ فلا تحذف النون، لأن النون هنا متلوة بالإعراب وليست تالية للإعراب، بل هي متلوة، وغلامان النون هنا تالية للإعراب وقعت بعد حرف الإعراب وهو الألف، وشياطينُ الضمة بعد النون فصارت النون متلوة بالإعراب وليست تالية للإعراب. ولذلك يجب تجريد المضاف من التنوين ومن النون التي هي علامة الإعراب لقيام المضاف إليه مقامه، ومنه والمقيمي الصلاة قال تعالى: (إِنَّكُمْ لذائقوا الْعَذَابِ) [الصافات:38] والأصل ذائقون ثم أضيف فقيل: ذائقوا العذابِ. فالإضافة لا تجتمع مع التنوين، لأنه يدل على كمال الاسم، والإضافة تدل على نقصانه، ولا يكون الشئ كاملا ناقصًا، ولا مع النون التالية للإعراب، ولا مع أل. الخَفْضُ بِالحَرْفِ وَبِالإِضَافَهْ ... كَمِثْلِ زُرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَهْ المضاف لا يكون إلا اسمًا، ولذلك عدَّ السيوطيُّ في الأشباه والنظائر أن المضاف والمضاف إليه من علامات الأسماء، فلا يكون المضاف إلا اسمًا، ولا يكون المضاف إليه إلا اسمًا، لأنَّ المضاف إليه حلَّ محل التنوين أو النون التالية للإعراب، إذًا المضاف إليه حل محل التنوين من المضاف، والتنوين يدخل الأسماء فقط، وأيضًا الغرض من الإضافة في الأصل هو التعريف، والذي يقبل التعريف هو الاسم فحسب، فإذا قيل: غلامُ زيدٍ أفاد زيد المضافُ إليه المضافَ

النكرةَ في الأصل أفاده تعريفًا، إذًا اكتسب المضاف من المضاف إليه التعريف، وهذا هو الأصل في فائدة الإضافة جيء بها من أجل التعريف، والفعل لا يقبل التعريف، حينئذٍ صح أن يحصر المضاف في الاسم. والأصل في المضاف إليه أن يكون اسمًا أيضًا لأنه محكوم عليه في المعنى، ولا يحكم إلا على الأسماء، فإن قيل: قد تقع الجملة في محل جر مضاف إليه، نقول: المضاف إليه إما أن يكون اسمًا صريحًا أو مؤولا بالصريح، فحينئذٍ المضاف إليه إذا وقع جملة فعلية أو اسميه أُرجع إلى الاسم، وصارت القاعدة مطردة أنَّ المضاف إليه لا يكون إلا اسمًا. [الخَفْضُ] للاسم كائن [بِالحَرْفِ] أي حرف الجر، وأل للعهد الذكري لأنه ذكر فيما سبق عند قوله: وبحروف الخفض، والخفض مبتدأ، وبالحرف جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر، فالخفض يكون بالحرف كقولك: مررت بزيد، فزيدٍ اسم مجرور بالباء، وهو حرف جر، فالعامل فيه نفس الباء، سواء كان الحرف أصليًّا أم زائدًا أو شبيهًا بالزائد؛ لأنَّ حروف الجر على ثلاثة أقسام: النوع الأول: ما هو حرفُ جرٍّ أصليٍّ، وهو الذي يدل على معنىً وضع له في لغة العرب كمِن وعن إذا استعملت في مواضعها، وتحتاج إلى متعلَّق تتعلق به وهو ينحصر فيه قول القائل: لاَ بُدَّ لِلَّجَارِّ مِنَ التَّعَلُّقِ ... بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرْتَقِي إذًا ليس كلما مرَّ بك جار ومجرور تقول: الجار والمجرور متعلق بكذا، وإنما تنظر في الحرف هل استعمل في معناه الذي وضع له في لغة العرب أم لا؟ فحينئذ إذا كان كذلك تقول الجار والمجرور

متعلق بكذا وإلا فلا. النوع الثاني: حرف الجر الزائد، وهو الذي لا معنى له ولا يحتاج إلى متعلَّق، وقولهم: لا معنى له، ليس المراد به أنه سُلب عنه المعنى بالكلية، وإنما لم يستعمل في معناه الذي وضع له في لغة العرب، ونمثل بالقرآن قال تعالى: ((هَلْمِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)) [فاطر:3] والقرآن يُنزل على قواعد العرب المشهورة، فإذا ثبت في لغة العرب القول بالزيادة فلا مانع بأن يقال في القرآن ما هو حرف زائد لكن بالزيادة التي اصطلح عليها أهل اللغة، وليس المراد بالزيادة أنه يُمحى من القرآن ويحذف، لم يقل أحدٌ من العقلاء بهذا، وإنما مرادهم بالحرف الزائد هو الذي ليس له معنىً غير التوكيد، هكذا نص الخضري في حاشيته على ابن عقيل عند قولهم الباء حرف جر زائد في البسملة، ليس له معنىً غير التوكيد، إذًا له معنىً، ولكن المعنى الذي دل عليه في هذا التركيب غير المعنى الذي وضع له أصالة وابتداءًا في لغة العرب، فالحرف مِن في الآية لم يستعمل في أحد المعاني الموضوعة لها لغة، ولم تأت لأيِّ معنىً وضع له في لغة العرب إلا كونها أفادت التوكيد، فحينئذٍ هي زائدة ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ (3))) [فاطر:3] فخالقٍ اسم مجرور بمن في اللفظ، لكنه في الحقيقة ليس بمجرور بمن، قد يُظَنُّ أنَّ مِن خالقٍ جار ومجرور متعلق بكذا، نقول: لا ليس كذلك، بل تقول: من حرف جر زائد، وإذا أردت أن تخرج عن العهدة فتقول: من صلة أو توكيد، قال بعضهم:

وَسَمِّ مَا يُزَادُ لَغْوًا اوْ صِلَهْ ... أَوْ قُلْ مُؤَكِّدًا وَكُلٌّ قِيلَ لَهُ لَكِنَّ زَائِدًا وَلَغْوًا اجْتَنِبْ ... اطْلاَقَهُ فِي مُنْزَلٍ كَذَا وَجَبْ يعني لا يقال: في القرآن زائد، ولا يقال: لغو، أما لغوًا فلا إشكال فلا يقال: لغو لأنه ليس له معنى صحيح، أما زائد فله معنى صحيح، فصار محتمِلاً، فحينئذٍ في مجالس طلبة العلم الواعين لا بأس أن يقال: من حرف جر زائد، لأنهم يدركون معنى الكلام، وأما عند العوام وعلى المنابر فلا تقول: من حرف جر زائد أو حرف زائد، لأنه لا يفهم من الزيادة ما اصطلح عليه أهل اللغة. ومن جهة كونه زائداً لا يحتاج إلى متعلَّق يتعلق به. النوع الثالث: حرفُ الجرِّ الشبيه بالزائد من جهة العمل كالزائد يعني يدخل على ماله محل في الأصل كما ذكرناه في السابق، ولا متعلَّق له، قال الشاعر: لَعَلَّ أَبِي المِغْوَارِ مِنْكَ قَرِيبُ وقال: لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَينَا ... بِشَيءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ الجر بلعل شاذ، يحفظ ولا يقاس عليه، ودائمًا يحكم جمهور النحاة بأن ما اختص به طائفة دون سائر العرب لا يقاس عليه يجعل خاصًّا بلغة فلان أو قبيلة، وذلك مثل لغة أكلوني البراغيث، وعليه كلُّ ما اختصت به قبيلة لا ينزل عليه عام القرآن وإنما ينزل القرآن على ما اشتهر وشاع في لسان العرب، قال تعالى: (وَأَسَرُّوا

النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء:3] لا يصح أن نجعلها من باب أكلوني البراغيث، وإنما تحمل على التقديم والتأخير على البدل. لعلَّ اللهِ فلعلَّ حرفُ جرٍّ شبيهٍ بالزائد، لأنه استعمل في معناه وهو الترجي، ولكن ليس له متعلَّق، إذًا له معنىً، واستُعمل في معنى وضع له في لغة العرب، ولا يحتاج إلى متعلَّق، فما بعده يكون على أصل وضعه قبل دخول لعلَّ، لعلَّ حرفُ ترجٍّ وجر شبيه بالزائد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، اللهِ مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الشبيه بالزائد. إذاً هذه ثلاثة أنواع لحروف الجر: الأول: حرف جر أصلي له معنى وضعته العرب استعمل في معناه وله متعلَّق. الثاني: حرف جر زائد لا معنى له غير التوكيد ولا متعلَّق له. الثالث: حرف جر شبيه بالزائد له معنى، ولا متعلَّق له. [الخَفْضُ بِالحَرْفِ] مطلقًا سواء كان زائدًا أو أصليًّا أو شبيهًا بالزائد، لأنَّ الأثر ملفوظ به، [وَبِالإِضَافَهْ] يعني الخفض بالحرف وبالإضافة أي بإضافة اسم، وظاهر العبارة هنا أن العامل هو الإضافة، والإضافة هي التي عرفناها سابقًا إسناد اسم إلى غيره .. إلخ وهو أمر معنوي وإذا كان أمرًا معنويًّا فحينئذٍ لا يصحُّ تعليق الأثر به، والصواب أن يقال: إنَّ المضاف هو العامل في المضاف

إليه. [كَمِثْلِ زُرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَهْ] وفي بعض النسخ كمثل أكرمْ بأبي قحافة، وهي أولى لأنَّها شاهد على النوعين الخفض بالحرف، والخفض بالمضاف، فأكرم بأبي جُرَّ بالباء فالخفض بالحرف، وأبي قحافة هذا مثال للجر بالمضاف، [كَمِثْلِ زُرْتُ] زرت فعل وفاعل، وابنَ مفعول به منصوب، وهو مضاف وأبي مضاف إليه مجرور بالياء لأنه من الأسماء الستة، وهو مضاف وقحافة مضاف إليه. نَعَمْ وَبِالتَّبْعِيَّةِ الَّتِي خَلَتْ ... وَقُرِّرَتْ أَبْوَابُهَا وَفُصِّلَتْ [نَعَمْ] حرف جواب مبني على السكون لا محل له من الإعراب، ولا عمل له، وله معانٍ منها أنه حرف توكيد إذا صُدِّر بها الكلام، نحو: نعم إنك طالب مجتهد، فهي حرف جواب في الأصل لكنها استعملت للتوكيد، وذلك إذا وقعت في صدر الكلام، وهنا وقعت في صدر الكلام فحينئذ تحمل على أنها للتوكيد، [وَبِالتَّبْعِيَّةِ] يعني يخفض الاسم بالحرف، وبالإضافة والصواب بالمضاف، وبالتبعية للمخفوض أي كونه تابعًا للمخفوض، كونه نعتًا أو بدلاً أو توكيدًا. جعل التبعية عاملاً مستقلاً بذاته، والصواب أنها راجعة إلى الأول، إما حرف وإما اسم، لذلك القول بالخفض بالتبعية ضعيف، والحق أن العامل في التابع هو العامل في المتبوع، نحو: مررت بزيدٍ العاقلِ، فالعاقل نعت لزيد، كونه تابعًا له، ونعتًا له هو الخافض على كلام المصنف هنا، إذًا مررت بزيد العاقل الباء حرف جر، وزيد اسم مجرور بالباء وجره كسرة ظاهرة على آخره، العاقل نعت لزيد

تابع له مجرور بالتبعية، فهي عاملٌ مستقلٌ، وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره، والصواب أنَّ العامل في المتبوع هو العامل في التابع، بزيد العاقل فالعاقلِ الذي جره هو الذي جر موصوفه زيد وهو حرف الجر. [نَعَمْ وَبِالتَّبْعِيَّةِ الَّتِي خَلَتْ] أي التي مضت وسبق ذكرها حيث قال: كتاب التوابع، فكلُّ ما سبق فهو وارد هنا، [وَقُرِّرَتْ] القرار في المكان الاستقرار فيه، تقول: قرِرْتُ بالمكان بالكسر أقرُّ قرارًا، [أَبْوَابُهَا] السابقة النعت والتوكيد والعطف والبدل، [وَفُصِّلَتْ] فَصَلَ الشيءَ فانفصل أي قطعه فانقطع وبابه ضرب. وهنا جاء فُعِّلَ للتأكيد. ويجمع العوامل كلها قولنا: [بسم الله الرحمن الرحيم] بسم فاسمِ مجرور بالباء، وهذا مثال للخفض بالحرف، اسمِ اللهِ اسم مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه، وعلى كلام الناظم مجرور بالإضافة وهو مذهب الأخفش وهو ضعيف، والصواب أنه مجرور بالمضاف، الرحمنِ نعت للفظ الجلالة مجرور بالتبعية لأنه تابع له على كلام الناظم، والصواب أنه مخفوض بما خُفض به متبوعه، فالعامل في لفظ الجلالة هو العامل في الرحمن، وهو المضاف. وَمَا يَلِي المُضَافَ بِالَّلامِ يَفِي ... تَقْدِيرُهُ بِمِنْ وَقِيْلَ أَوْ بِفِي كَابْنِي اسْتَفَادَ خَاتَمَيْ نُضَار ... وَنَحْوُ مَكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الإضافة تأتي على معنى حرف من حروف الجر، والجمهور على أنها لا تكون إلا على معنى اللام فحسب، فإذا قيل: غلامُ زيدٍ قالوا:

الأصل غلامٌ لزيد، فحذف التنوين للإضافة، ثم حذفت اللام، فصار غلامُ زيد، واللام المحذوفة مقدرة من جهة المعنى، فحينئذٍ تفسر الإضافة على معنى اللام، وتسمى الإضافة لامية بمعنى أنها تدل على معنى اللام لام المِلك أو لام الاختصاص، غلام زيد أي مملوك له، باب الدار أي باب مختص بالدار، وهذا قول الجمهور أنَّ الإضافة لا تكون إلا على معنى اللام، فحينئذ لا نحتاج إلى ضابط لأنها محصورة في معنى واحد وهو معنى اللام لام الملك أو الاختصاص، وتكون اللام للملك إذا وقعت بين ذاتين ودخلت على من يملك، نحو: غلام زيد في المعنى غلام لزيد دخلت على زيد وهو يملك، ولام الاختصاص إذا وقعت بين ذاتين ودخلت على مالا يملك مالا يصح منه المِلك فتفسر اللام هنا بالاختصاص، نحو: باب الدار. [وَمَا يَلِي المُضَافَ بِالَّلامِ يَفِي] أي والذي يلي ويتبع المضاف، وهو المضاف إليه، يفي يعني يكمل من جهة المعنى باللام أي يقدر باللام، ويكمل معناه إذا قُدِّر باللام يعني لا تُفهَم تلك الإضافة على وجه الكمال إلا على معنى حرف من حروف الجر وهو اللام، وهذا مذهب الجمهور سواء كانت اللام دالة على الملك أو دالة على الاختصاص. [تَقْدِيرُهُ بِمِنْ] هذا قولٌ لبعض النحاة أنَّ الإضافة إما أن تكون على معنى اللام، أو على معنى مِنْ التي لبيان الجنس، وحينئذٍ نحتاج إلى ضابط، فنحمل الإضافة على معنى مِنْ إذا كان المضاف إليه جنسًا للمضاف يعني يعُمَّه وغيرَه أي يشمله وغيره،

ويصح الإخبار به عنه يعني يصح أن تجعل المضاف مبتدأ والمضاف إليه خبرًا عنه، فإنْ صحَّ فهي على معنى مِنْ وإلا فاجعلها على معنى اللام، نحو: هذا خاتمُ حديدٍ، فالمضاف إليه جنسًا للمضاف، لأنَّ الحديد يكون خاتمًا وغيره كالباب، إذًا هو جنس للخاتم، ويصح الإخبار به عنه فتقول: هذا خاتمٌ حديدٌ، صحَّ الإخبار بالمضاف إليه عن المضاف، حينئذٍ الإضافة على تقدير مِنْ التي لبيان الجنس، فتقدير خاتمُ حديدٍ خاتمٌ من حديدٍ، فإذا لم يقع المضاف إليه جنسًا للمضاف، فحينئذ الإضافة على معنى اللام، نحو: غلام زيد، فزيد ليس جنسًا للمضاف، فحينئذ تكون على معنى اللام، ونحو: يومُ الخميسِ يصح أن تخبر بالمضاف إليه عن المضاف ولو بتغيير كإدخال أل ونحوها فتقول: اليومُ الخميسُ، لكن ليس المضاف إليه جنسًا للمضاف، فالإضافة على معنى اللام. إذا لم يكن المضاف جنسًا للمضاف إليه كانت الإضافة على معنى اللام، أو لم يصح الإخبار بالمضاف إليه عن المضاف كانت الإضافة على معنى اللام، إذًا لا بد من توفر الشرطين معًا، وقد ينتفي الشرطان نحو: يد زيد، لا يصح الإخبار بزيد عن اليد، وليس زيد جنسًا لليد. [وَقِيْلَ أَوْ بِفِي] وهذا على قلة، وقلةٌ من النحاة ممن قال: إنَّ الإضافة تأتي بمعنى [في] كابن مالك ومن تبعه، وذلك فيما إذا كان المضاف إليه ظرفًا للمضاف مثل قوله تعالى: (مكر اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) [سبأ:33] وقوله: (تربص أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)) [البقرة:226] يعني تربُّصٌ في أربعة أشهر، فإذا صحَّ أن يكون المضاف إليه ظرفًا

للمضاف فهي على معنى في، كيف تميز هذه عن تلك؟ نقول: تطبق شروط مِن الجنسية، أو في الظرفية، فإن لم يكن هذا أو ذاك فهي بمعنى اللام، [وَقِيْلَ أَوْ بِفِي] الدالة على الظرفية [كَابْنِي اسْتَفَادَ خَاتَمَيْ نُضَارِ] أي كقولك أو مثل قولك أو مثل ابني استفاد، فابني مبتدأ، واستفاد فعلٌ ماضٍ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ، خاتمي نُضاري والنُّضاري بالضم والنضير الذهب، أي خاتمي ذهب، خاتمي نضاري الإضافة هنا على معنى مِنْ لأنَّ الذهب جنس للخاتم، ويصح الإخبار عنه بالمضاف إليه، وخاتمي مثنى حذفت منه النون للإضافة، والأصل خاتمين، [نَحْوُ مَكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] أي مكرٌ في الليل أي كائن في الليل، فتكون الإضافة على معنى في، لأنَّ المضاف إليه ظرفٌ للمضاف، فالليل ظرف للمضاف. إذاً الإضافة لا بُدَّ أن تكون على أحد معاني الحروف الثلاثة إما بمعنى اللام، ولا يشترط التصريح بها، وإنما المقصود أن تُفيد الإضافة معنى اللام، يعني تلحظ المعنى فقط، ولا يشترط أنك تفك الكلمة كغلام لزيد، ويد لزيد، لا وإنما تلاحظ فيها معنى الملكية، ومعنى الاختصاص، العلاقة بين المضاف والمضاف إليه الاختصاص، أو الملكية، أو الجنسية، أو الظرفية، ولا يشترط فيه أن تفك المضاف والمضاف إليه وتدخل الحرف مِنْ أو اللام، لأنَّ هذا لا يطرد وإنما المراد المعاني، ولذلك يقال: الإضافة على معنى اللام يعني يلاحظ فيها المعنى لا اللام نفسها بلفظها، وعلى معنى من،

وعلى معنى في الظرفية، فتقول: يومُ الأحدِ على معنى اللام، ولا يصح التصريح بها فيقال: يوم للأحد، وعلمُ الفقهِ لا يقال: علم للفقه، وشجرُ الأراكِ لا يقال: شجر للأراك فهذه لا يمكن أن تظهر اللام لفظًا مع أنهم يتفقون أن الإضافة فيها لامية.

خاتمة

خَاتِمَةٌ وهذه من العناوين التي يُعنون بها المؤلفون والمصنفون لأن الأعلام عندهم ثمانية: كتاب، وباب، وفصل، وفرع، ومسألة، وتنبيه، وتتمة، وخاتمة، هذا هو المشهور عندهم لا بُدَّ أن يأتي بكلمة من هذه الكلمات وهي أعلام وألقاب لها مفهومها الخاص عند أرباب التصنيف [خَاتمَةٌ] أي هذه خاتمة، أو خاتمة هذا محلها، فخاتمة مبتدأ، وقد يعترض بأنها نكرة في اللفظ، ولا يجوز الابتداء بالنكرة، فنقول: بل هو معرفة لأنه صار علمًا ولقبًا على الألفاظ المخصوصة الدالة على المعاني المخصوصة. والخاتمة لغة: آخر الشيء هكذا عرفها البيجوري، واصطلاحًا: اسم لألفاظ مخصوصة دالة على معانٍ مخصوصة جعلت آخر كتاب أو باب. وفي السابق كانوا يذكرون في الخاتمة الحمد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الكتاب قد تم إلى آخره، والآن اقتصروا على الخاتمة بأن يُذكر فيها نتائج البحث. قال رحمه الله: قَدْ تَمَّ مَا أُتِيْحَ لِي أَنْ أُنْشِئَهْ ... فِي عَامِ عِشْرِينَ وَأَلْفٍ وَمِائَهْ حَمْدِ رَبِّنَا وَحُسْنِ عَوْنِهِ ... وَرِفْدِهِ وَفَضْلِهِ ... وَمَنِّهِ مَنْظُومَةً رَائِقَةَ الأَلفَاظِ ... فَكُنْ لِمَا حَوَتْهُ ذَا اسْتِحْفَاظِ جَعَلَهَا اللَّهُ لِكُلِّ مُبْتَدِي ... دَائِمَةَ النَّفْعِ (بِحُبِّ أَحْمَدِ) صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا وَسَلَّمَا ... وَآلِهِ ... وَصَحْبِهِ ... تَكَرُّمَا

[قَدْ تَمَّ] قد للتحقيق، وتم فعلٌ ماضٍ بمعنى كمُل، وقلنا قد للتحقيق لأنه لا يأتي بالخاتمة إلا في آخر الكتاب عكس المقدمة، فالمقدمة قد يأتي بها في أول التصنيف، وقد يؤخرها بعد الانتهاء من الكتاب لذلك يجوز في قوله: وبعد فهذا .. فالمشار إليه قد يكون لشيء موجود أو لشيء مقدر في الذهن، أما الخاتمة فلا، لأنَّ الأصل فيها أنها تأتي بعد ما انتهى من الكتاب. [تَمَّ مَا أُتِيْحَ لِي أَنْ أُنْشِئَهْ] يعني ما تمكنت من إنشائه، وأنشأ يفعل كذا أي ابتدأ [أَنْ أُنْشِئَهْ] أي إنشاؤه، فأنْ وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل أتيح، والذي أتاح له ذلك هو الله عز وجل، [فِي عَامِ عِشْرِينَ وَأَلْفٍ وَمِائَهْ] هذا تاريخ إنهاء النظم، فقد كانوا يؤرخون مصنفاتهم بل كانوا يؤرخون قراءاتهم على أهل العلم، وقوله: في عام عشرين وألف ومائة متعلق بقوله: أنشئه [بِحَمْدِ رَبِّنَا] بحمد جار ومجرور متعلق بقوله: تم، لأنه افتتح كتابه بالحمد، والثناء على الرَّب جلَّ وعلا ابتداءاً، كذلك هنا في الختام يحتاج إلى أن يثني على خالقه جلَّ وعلا الذي مكنه وأتاح له إنشاءَ هذا النظم، [بِحَمْدِ رَبِّنَا] سبق معنى الحمد أنه ذِكْرُ محاسنِ المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، والمشهور أنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا على الحامد أو غيره، هذا في الاصطلاح، وفي اللغة الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التبجيل والتعظيم، وهذه كلها منتقدة. [وَحُسْنِ عَوْنِهِ] يعني وعونه الحسن، من إضافة الصفة إلى الموصوف، والعون الظهير على الأمر، والجمع

الأعوان [وَرِفْدِهِ] بكسر الراء العطاء والصلة، وبفتحها المصدر، ورَفده أي أعطاه، ورَفده أعانه وبابهما ضرب كذا قال في المختار، والإرفاد أيضًا الإعطاء والإعانة، ورِفده يعني إعطائه لي [وَفَضْلِهِ] الإفضال هو الإحسان، [وَمَنِّهِ] يقال: منَّ عليه إذا أنعم، وهذه كلها كلمات مترادفة، والمراد به أنه حمِد ربَّه جلَّ وعلا على عونه، وفضله، ومنِّه، بأنه مكَّنه من هذه المنظومة [مَنْظُومَةً] يحتمل أنه حال من الاسم الموصول من قوله: [مَا أُتِيْحَ] أو يكون بدلا من الضمير في أنشئه أي أنشئ منظومة، فيكون بدلاً من الضمير على حد قولهم: ضربته زيدًا، وجوَّز بعضهم أن يكون زيدًا بدلاً من الضمير. [مَنْظُومَةً] مشتق من النظم، والنظم هو الكلام الموزون قصدًا، والأصل في النظم أنه التأليف، وضَمُّ شيء إلى شيء آخر، قال في القاموس: ونَظَمَ اللؤلؤَ ينظِمه نظمًا ونِظامًا ونظَّمه ألفه وجمعه في سلك فانتظم وتنظَّم، [رَائِقَةَ الأَلفَاظِ] هذا أيضًا من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الألفاظ الرائقة، لأنَّ الوصف هنا بكونها رائقة للألفاظ، وراقه الشيءُ أعجبه، أي الألفاظ الرائقة السهلة في قراءتها، وفهمها، لأنَّ الفصاحة مبناها على الإيضاح والإيجاز. [فَكُنْ] أيها الطالب [لِمَا حَوَتْهُ] وجمعته هذه المنظومة [ذَا اسْتِحْفَاظِ] ذا خبر كن، وذا استحفاظ أي صاحبَ حفظٍ لها، لأنَّ الحفظ هو الأساس، وطالبُ علمٍ بلا حفظٍ ليس بشيء، لا يتعب نفسه، ولا يتعب غيره، فلا بُدَّ من الحفظ وإن قلَّ، واستحفاظ استفعال فالسين للتأكيد أو للطلب يعني تطلب حفظه من مظانه، [جَعَلَهَا

اللَّهُ] أي هذه المنظومة [لِكُلِّ مُبْتَدِي] هذا عام، والمبتدئ المراد به من أخذ وشرع في تصور مسائل الفن، [دَائِمَةَ النَّفْعِ] أي مستمرة النفع من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي النفع الدائم، ودائمة مأخوذة من الدوام، ولذلك ما دام تدل على الاستمرار، والنفع ضد الضر، يقال: نفعه بكذا فانتفع به، والاسم المنفعة، [بِحُبِّ أَحْمَدِ] في الأصل بجاه أحمد، قلت: الأولى أن يقول: بحب أحمد، لأن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل صالح، والتوسل بالأعمال الصالحة مشروع، فلا إشكال. وأما التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت شرعًا، ولا شك أن له جاهًا عند الله عز وجل، لكن التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم محدث، وحبه عليه الصلاة والسلام عمل صالح، والتوسل بالأعمال الصالحة جائز فلذا أصلحنا البيت بما ترى. [صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا] لما أثنى على الخالق جلَّ وعلا ثنى بالثناء على أفضل مخلوق، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -كما قيل: وَأَفْضَلُ الخَلْقِ عَلَى الإِطَلاَقِ ... نَبِيُّنَا فَمِلْ عَنِ الشِّقَاقِ وسبق معنى الصلاة، [وَسَلَّمَا] لم يذكر السلام في المقدمة، وذكرنا أنه سلَّم في الخاتمة، والأصح أن يقال إنه لا يكره إفراد السلام عن الصلاة، ولا إفراد الصلاة عن السلام، وأما الآية فهي دالة على الأمر بكل واحد منهما على جهة الاستقلال، ((إِنَّاللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56] والقول بكراهة إفراد

واحد منهما دون الآخر مأخوذ من دلالة الاقتران، وهي ضعيفة عند الأصوليين، مثل ما قيل في قوله تعالى: (وأتموا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)) [البقرة:196] بأن العمرة واجبة، لأنها مقرونة بالحج، والحج واجب مرة في العمر، نقول: لا يصحُّ الاستدلال بهذه الآية على وجوب العمرة ولو مرة في العمر، فهذا ضعيف، لأنه مأخوذ من دلالة الاقتران وهي ضعيفة، بل النص هنا ليس في وجوب الحج ولا في العمرة، بل في الإتمام وهو غير أصل الحج والعمرة لقوله: (وأتموا). [وَسَلَّمَا] الألف للإطلاق، فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هو يعود على ربنا، والسلام هو التحية على قول، وقيل: السلامة من النقائص والعيوب، وأردف به الصلاة امتثالاً للآية السابقة، وهروبًا من كراهة تركهما، والاقتصار على أحدهما، والصواب أنه لا يكره. [وَآلِهِ] بالخفض عطفًا على الضمير في عليه دون إعادة الجار، وهذا محل نزاع، وأكثر النحاة على المنع، والصواب الجواز قال تعالى: (واتقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)) [النساء:1] والأرحامَِ فيه قراءتان سبعيتان بالخفض وبالنصب، (تسألون به والأرحامِ) بالكسر، وبعض النحاة يجعلون القرآن تابعًا لقواعدهم، فحينئذٍ إذا جاءت قراءة على خلاف ما قُعد وأُصل عندهم قالوا: هذه قراءة شاذة لا يلتفت إليها، لأنها مخالفة للقواعد، والقاعدة عندهم أنه إذا أريد العطف على ضمير في محل خفض وجب إعادة الخافض، والأصح أنه لا يشترط إعادة الخافض، والدليل القراءة، وهي سنة متبعة، والقرآن بقراءته الثابتة

حجة على النحاة، وليس النحاة حجة على القرآن، إذًا وآله عطف على الضمير في عليه وهو جائز، والآل سبق أن المراد به أتباعه على دينه، وهنا أضيف إلى الضمير على الصحيح، [وَصَحْبِهِ] سبق معنى الصحب، [تَكَرُّمَا] منه جلَّ وعلا. إذاً قد أتينا على هذا النظم بحمد ربنا جل وعلا ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يحيينا وإياكم على الإسلام والسنة إنه سميع عليم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1