فتح المعبود في الرد على ابن محمود

التويجري، حمود بن عبد الله

تقديم للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري وفقه الله من التعقيب على ما كتبه فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود في الإيمان بالقدر وفي بيان الفرق بين الرسول والنبي وأنه ليس كل نبي رسولا، وفي الذب عن أبي ذر رضي الله عنه، وفي الفرق بين الإسلام والإيمان فألفيته قد أجاد وأفاد وأوضح الأخطاء التي وقع فيها فضيلة الشيخ عبد الله المذكور بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة. ومن ذلك خطأه في تأويل كتابة القدر بأنها نفس العلم. والصواب أنها غير العلم بل مرتبة ثانية بعد العلم، ومن ذلك زعمه أن كل نبي رسول, والصواب ما أوضحه فضيلة الشيخ حمود من الفرق بينهما بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب

والسنة. وهو أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا كما يتضح ذلك جليا لكل من راجع الأدلة التي أوضحها الشيخ حمود المذكور وبينها أهل العلم قبله، وهكذا ما أوضحه فضيلة الشيخ حمود من الفرق بين الإسلام والإيمان عند الاقتران وأنه ليس كل مسلم مؤمنا على الكمال؛ بل كل مؤمن مسلم ولا ينعكس للأدلة التي أوضحها فضيلته وبسطها قبله أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والحافظ ابن رجب وغيرهم. فجزاه الله خيرا وشكر له سعيه وأجزل مثوبته. كما نسأله سبحانه أن يوفق أخانا فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد لمراجعة الحق فإن ذلك خير من التمادي في الخطأ وكل إنسان يخطئ ويصيب إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام فقد عصمهم الله من الخطأ فيما يبلغونه عنه من الرسالات ومن نبل العالم وفضله أن يرجع إلى الحق متى نُبه على خطئه. والله أسأل أن يوفقنا جميعا للفقه في الدين والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا ابتاعه ويرينا الباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه, إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

تقديم للشيخ عبد الله بن محمد بن حميد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم للشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وبعد: فقد قرأ عليَّ فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري مؤلفه القيم الذي سماه (فتح المعبود في الرد على ابن محمود). أجاد فيه وأفاد وأوضح فيه مذهب أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر وما عليه المحققون من الفرق بين الإيمان والإسلام وبين النبي والرسول بالبراهين الواضحة، وبين غلط الشيخ ابن محمود في القضاء والقدر حيث زعم ابن محمود أن الكتابة في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض, هي عبارة عن العلم القائم بذات الله وهو معنى قول أحدنا قدر الله وما شاء فعل وهذا خطأ بين فإن كتابة الشيء غير سابق علم الله فقد جاءت الأحاديث الكثيرة بأن أول ما خلق الله القلم ف له: أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. ولم يقل أحد من أهل السنة فيما علمت أن كتابة المقادير هي العلم القائم بذاته سبحانه وتعالى، فعلى هذا لا معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب مقادير الخلائق

قبل أن يخلق السموات والأرض ...» الحديث لكونه فسر الكتابة بسابق علم الله, ولا يخفى فساد هذا. قال ابن القيم ما معناه مراتب القضاء والقدر أربع مراتب: الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها. الثانية: كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض. الثالثة: مشيئة المتناولة لكل موجود, فلا خروج لكائن كما لا خروج له عن علمه. الرابعة: خلقه لها, وإيجاده وتكوينه؛ فالله خالق كل شيء وما سواه مخلوق. ثانيا: زعم ابن محمود أن القدر هو خلقه للأشياء بنظام واتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه, وهذا مخالف لما في الأحاديث الصحيحة. فتقدير الله للأشياء هو علمه بمقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه, فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذين دلت عليه البراهين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة, وما عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان, وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه, وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد, وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع

عليه شيء شاءه, بل هو قادر على كل شيء, ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه, وأنه سبحانه يعلم ما كان, وما يكون, وما لم يكون لو كان كيف يكون, فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها, وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم, قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم, وكتب ذلك, وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة, فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. ولابن محمود عدة أخطاء في رسالته المردود عليها التي سماها الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر كما أشار إلى ذلك الشيخ حمود جزاه الله خيرا, وبارك فيه وفي علومه. والذي نحبه لأخينا الشيخ ابن محمود أن تكون كتاباته معالجة لمشاكل العصر. والرد على فرق الضلال المنتشرة في كل مكان؛ كالماسونية والبهائية والشيوعية وأمثالها. وتحذير المسلمين من هذه الموجة الإلحادية التي طار شررها, وعظم خطرها دون الكتابة في الفرق بين النبي والرسول وأمثال ذلك. نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه, وسلم .. رئيس مجلس القضاء الأعلى عبد الله بن محمد بن حميد.

[المقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً. أما بعد: فقد اطلعت على رسالتين للشيخ عبد الله بن زيد بن محمود رئيس المحاكم القطرية، سمى إحداهما (الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر)، وسمى الأخرى (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء) وقد رأيت في هاتين الرسالتين عدة مواضع أخطأ فيها فرأيت من الواجب التنبيه عليها لعل الله يمن على الكاتب بالرجوع إلى الصواب فإن الرجوع إلى الصواب نبل وفضيلة، كما أن التعصب للأخطاء نقص ورذيلة. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قام على المنبر فنهى الناس عن المغالاة في مهور النساء فقامت امرأة فعارضته واحتجت عليه بآية من القرآن فرجع إلى قولها, وقال وهو على المنبر: «إن امرأة خاصمت عمر فخصمته» رواه ابن المنذر بإسناد حسن، ورواه الزبير بن بكار وقال فيه: فقال عمر رضي الله عنه: «امرأة أصابت ورجل أخطأ» ورواه أبو يعلى الموصلي وقال فيه فقال: «اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر» قال ابن كثير: إسناده جيد قوي.

ولم ينقص اعتراف عمر رضي الله عنه بالخطأ على رءوس الملأ من قدره بل زاده ذلك شرفا ورفعة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه. وروى ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله) عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي رضي الله عنه: أصبتَ وأخطأتُ {وفوق كل ذي علم عليم}. قال ابن عبد البر: وروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي حسين قال: اختلف ابن عباس وزيد في الحائض تنفر, فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت, فقال ابن عباس: سل نسياتك أم سليمان وصويحباتها، فذهب زيد فسألهن ثم جاء وهو يضحك، فقال: القول ما قلت. وروى ابن عبد البر أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: ذاكرت عبيد الله بن الحسن القاضي بحديث وهو يومئذ قاص فخالفني فيه فدخلت عليه وعنده الناس سماطين, فقال لي ذلك الحديث كما قلت أنت وأرجع أنا صاغرا. قال ابن عبد البر وأخبرني غير واحد عن أبي محمد قاسم بن أصبغ قال لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم قوم من مضر

مجتابي النمار فقال لي: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت له: إنما هو مجتابي النمار هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس وبالعراق فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا، ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ، لشيخ كان بالمسجد فإن له بمثل هذا علما فقمنا إليه وسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار كما قلت، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم، والنمار جمع نمرة، فقال بكر بن حماد وأخذ أنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف. قال ابن عبد البر: وذكر الحسين بن أبي سعيد في كتابه (المعرب عن المغرب) قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن محمد الحداد عن أبيه قال: سمعت سحنون يقول: سمعت عبد الرحمن ابن القاسم قال لمالك: ما أعلم أحدا أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال له مالك: وبم ذلك؟ قال: بك, قال: فأنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي؟! قال ابن عبد البر: وروينا عن الشعبي أنه قال: ما رأيت مثلي ما أشاء أن أرى أعلم مني إلا وجدته. قال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه؛ الإنصاف فيه ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم. وقال أيضا: ومن أفضل آداب العالم تواضعه وترك الإعجاب بعلمه ونبذ حب الرياسة عنه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله». انتهى. وقد ذكر الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه (المسائل الكافية) قصة عجيبة في التواضع والاعتراف بالخطأ على رءوس الملأ وبالفضل لمن حصل منه التنبيه على الخطأ, فقال ما نصه: (المسألة السابعة والخمسون) ينبغي

لأهل الفضل أن يقدروا قدر من له قدر ويعرفوا الفضل لأهله ولا يبخسوا الناس مقاماتهم ويترفعوا عليهم بالإفك والبهتان, انظر هذه المسألة وتأمل فيها تعرف الفرق بين أهل زماننا وبين من مضي زمنهم. قال العلامة ابن العربي في أحكامه: أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة, قال: وصلت الفسطاط فجئت مجلس أبي الفضل الجوهري فكان مما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى, فلما خرج تبعته حتى بلغ منزله في جماعة فجلس معنا في الدهليز وعرفهم غيري فإنه رأى شارة الغربة فلما انفض عنه أكثرهم, قال لي: أراك غريبا, هل لك من كلام؟ قلت: نعم, قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه, فقاموا فقلت له: حضرت المجلس متبركا بك وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت وطلق وصدقت وظاهر ولم يكن ولا يصح أن يكون لأن الظهار منكر من القول وزور, وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم فضمني إلى نفسه وقبَّل رأسي, وقال: أنا تائب من ذلك, جزاك الله من معلم خيراً، ثم انقلبت عنه وبكرت في الغد إليه فألفيته قد جلس على المنبر فلما دخلت الجامع ورآني ناداني بأعلى صوته مرحبا بمعلمي, أفسحوا لمعلمي, فتطاولت الأعناق إليَّ وتحدقت الأبصار نحوي - وتعرفني يا أبا بكر؟ يشير إلى عظيم حيائه فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه بكلام خجل وأحمر كأن وجهه طُلي بجلنار - قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعونني حتى بلغت المنبر وأنا لعظيم الحياء لا أعلم في أي بقعة أنا والجامع غاص بأهله وأسال الحياء بدني عرقا وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم: أنا معلمكم, وهذا معلمي، لما كان بالأمس قلت لكم كذا وكذا فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي فاتبعني إلى منزلي وقال لي: كذا وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب من قولي بالأمس راجع عنه

إلى الحق فمن سمعه ممن حضر فلا يعود إليه ومن غاب فليبلغه من حضر فجزاه الله خيرا وجعل يحتفل لي في الدعاء والخلق يؤمنون. فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملأ من رجل ظهرت رياسته واشتهرت نفاسته لغريب مجهول العين لا يعرف من هو؟ ولا من أين؟ واقتدوا به ترشدوا. انتهى. وما أعظم الفرق بين ما فعله أبو الفضل الجوهري مع الرجل الذي نبهه على خطئه وبين ما يفعله بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا، فإن بعضهم إذا نبهه بعض العلماء على أخطائه اشمأز وتحامل على الذي نبهه ورماه بالجهل والتعصب, وغير ذلك مما يرى أنه يشينه، ولا شك أن هذا من الكبر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» بطر الحق رده وغمط الناس احتقارهم. ومن أعظم ما يبتلى به المرء إعجابه بنفسه وترفعه على أقرانه وبني جنسه، قال ابن عبد البر: وقال ابن عبدوس: كلما توقر العالم وارتفع كان العجب إليه أسرع إلا من عصمه الله بتوفيقه وطرح حب الرياسة عن نفسه. وروى ابن عبد البر عن كعب أنه قال لرجل رآه يتتبع الأحاديث: اتق الله وارض بالدون من المجلس ولا تؤذ أحدا فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالا ونقصانا. وروى ابن عبد البر أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «أخوف ما أخاف عليكم أن تهلكوا فيه ثلاث خلال: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه».

وروى ابن عبد البر أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فأما المهلكات: فشح مطاع, وهوى متبع, وإعجاب المرء بنفسه، والثلاث المنجيات: تقوى الله في السر والعلانية ,وكلمة الحق في الرضا والسخط, والاقتصاد في الغنى والفقر». قال ابن عبد البر: وقال إبراهيم بن الأشعث: سألت الفضيل بن عياض عن التواضع, فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعته ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه. وروى ابن عبد البر أيضا عن مسروق أنه قال: كفى بالمرء علما أن يخشى الله, وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه، قال أبو عمر: إنما أعرفه بعمله، قال: وقال أبو الدرداء: علامة الجهل ثلاث: العجب, وكثرة المنطق فيما لا يعنيه, وأن ينهي عن الشيء ويأتيه. وقالوا العجب يهدم المحاسن، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: الإعجاب آفة الألباب، وقال غيره: إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله، ولقد أحسن علي بن ثابت حيث يقول: المال آفته التبذير والنهب ... والعلم آفته الإعجاب والغضب وقالوا: من أعجب برأيه ضل, ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر. وقال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحبَّ الرياسة إلا حسد وبغى وتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير، وقال أبو نعيم: والله ما هلك من هلك إلا بحب الرياسة، وقال آخر: حب الرياسة داء لا دواء له ... وقلَّ ما تجد الراضين بالقسم

وروى ابن عبد البر أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم, قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين». وروى أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني؛ إذا قلت في كتاب الله بغير علم). وروى أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحوه. وروي أيضا عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن شيء فقال: لا أدري فلما ولى الرجل قال نعما قال عبد الله بن عمر: سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به، قال وقال وهب: سمعت مالكا يحدث عن عبد الله بن زيد بن هرمز قال: إني لأحب أن يكون من بقايا العالم بعده لا أدري ليأخذ به من بعده. وروى أيضا عن مجاهد قال: سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن فريضة من الصلب فقال لا أدري: فقيل له ما يمنعك أن تجيبه فقال: سئل ابن عمر عما لا يدري فقال: لا أدري. وروي أيضا عن أيوب قال: تكاثروا على القاسم بن محمد يوما بمنى فجعلوا يسألونه فيقول: لا أدري ثم قال: إنا والله ما نعلم كل ما يسألونا عنه ولو علمنا ما كتمناكم ولا حل لنا أن نكتمكم. وروى أيضا عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: سئل سعيد ابن جبير عن شيء فقال لا أعلم ثم قال: ويل للذي يقول: لما لا يعلم إني أعلم.

قال وذكر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه خرج عليهم وهو يقول: ما أردها على الكبد, فقيل له: وما ذلك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه الله أعلم. قال وذكر الحسن بن علي الحلواني وساق بإسناده عن القاسم قال: يا أهل العراق أنا والله لا نعلم كثيرا مما تسألونا عنه ولأن يعيش المرء جاهلا لا يعلم ما افترض عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله مالا يعلم. قال وقال الحسن: حدثنا نعيم بن حماد, قال: سمعت بعض أصحاب ابن عون أظنه حسين بن حسين عن ابن عون, قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أحسنه فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي؛ وكثرة الناس حولي؛ والله ما أحسنه, فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به. وروي أيضا عن مالك قال: سأل عبد الله بن نافع أيوب السختياني عن شيء فلم يجبه فقال له لا أراك فهمت ما سألتك عنه قال: بلى, قال: فلم لا تجيبني, قال: لا أعلمه. وروى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا عند مالك بن أنس, فجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسالك عنها، قال: سل فسأله الرجل عن المسألة, فقال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم, قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن. قال: وذكر ابن وهب في كتاب المجالس, قال: سمعت مالكا يقول: ينبغي للعالم أن يألف فيما أُشْكِل قول لا أدري فإنه عسى

أن يهيأ له خير، قال ابن وهب: وكنت أسمعه كثيرا ما يقول لا أدري، وقال في موضع آخر: لو كتبنا عن مالك لا أدري لملأنا الألواح، قال ابن وهب: وسمعت مالكا وذكر قول القاسم بن محمد لأن يعيش الرجل جاهلا خير من أن يقول على الله مالا يعلم، ثم قال: هذا أبو بكر الصديق وقد خصه الله بما خصه به من الفضل يقول لا أدري. قال ابن وهب: وحدثني مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي. وذكر عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بعض هذا، وفي روايته هذه الملائكة قد قالت: (لا علم لنا). قال: وذكر أبو داود في تصنيفه لحديث مالك حدثنا عباس العنبري, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: قال مالك: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وفي رواية إذا ترك العالم لا أعلم فقد أصيبت مقاتله. وقال: وحدثنا أحمد بن حنبل, قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: سمعت مالكا يقول: سمعت ابن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله. وروى ابن عبد البر عن عقبة بن مسلم قال: صحبت ابن عمر رضي الله عنهما أربعة وثلاثين شهراً فكان كثيراً ما يسأل فيقول لا أدري ثم يلتفت إليَّ فيقول: أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً إلى جهنم. قال: وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قول الرجل فيما لا يعلم لا أعلم نصف العالم.

وقال الراجز: فإن جهلت ما سُئلت عنه ... ولم يكن عندك علم منه فلا تقل فيه بغير فهم ... إن الخطأ مزرٍ بأهل العلم وقل إذا أعياك ذاك الأمر ... مالي بما تسأل عنه خبر فذاك شطر العلم عند العلما ... كذاك ما زالت تقول الحكما وقال غيره: إذا ما قتلت الأمر علما فقل به ... وإياك والأمر الذي أنت جاهله وروي أيضا عن أبي الذيال قال: تعلم لا أدري ولا تعلم أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري. وروي أيضا عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (أن من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون) قال الأعمش فذكرت ذلك للحكم بن عتيبة فقال: لو سمعت هذا منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كل ما أفتي. وروي أيضا عن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن عينية يقول: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما. وروى أيضا عن يزيد بن أبي حبيب قال: إن من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع، قال: وفي الاستماع سلامة وزيادة في العلم والمستمع شريك المتكلم، وفي الكلام

تهون وتزين وزيادة ونقصان، قال: ومن العلماء من يرى أنه أحق بالكلام من غيره ومنهم من يزدري المساكن ولا يراهم لذلك موضعا، ومنهم من يخزن علمه ويرى أن تعليمه ضعة، ومنهم من يحب أن لا يوجد العلم إلا عنده، ومنهم من يأخذ في علمه مأخذ السلطان حتى يغضب أن يرد عليه شيء من قوله أو يغفل عن شيء من حقه، ومنهم من ينصب نفسه للفتيا فلعله يؤتي بأمر لا علم له به فيستحي أن يقول لا علم لي فيرجم فيكتب من المتكلفين، ومنهم من يروي كل ما سمع حتى يروي كلام اليهود والنصارى إرادة أن يغزر علمه. قال أبو عمر: روي مثل قول يزيد بن أبي حبيب هذا كله من أوله إلى آخره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه من وجوه منقطعة يذم فيها كل من كان في هذه الطبقات من العلماء ويتوعدهم على ذالك بالنار انتهى ما ذكره ابن عبد البر مخلصا. فليتأمل ما ذكره عن أهل الورع من الإحجام عن القول بغير علم، والابتعاد عن التكلف الذي قد وقع فيه كثير من الناس في زماننا حتى آل الأمر ببعضهم إلى قبول البدع والضلالات، والإكثار من التخرصات والجهالات، ومخالفة أهل السنة والجماعة في بعض المعتقدات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

حقيقة القدر عند ابن محمود، والرد عليه

(فصل) وقد جعلت التنبيهات على رسالتي ابن محمود في فصلين. الأول: فيما يتعلق بالقضاء والقدر. والثاني: فيما يتعلق بالرسالة والنبوة، فأما ما يتعلق بالقضاء والقدر فالتنبيه عليه يتلخص في خمسة أشياء: الأول في بيانه لمعنى القضاء والقدر، والثاني في تغليطه للمفسرين الذين قالوا في قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أنها نزلت في القضاء والقدر. والثالث في نفيه لكتابة المقادير وزعمه أنها عبارة عن سبق علم الله. والرابع في زعمه أن الحديث في احتجاج آدم وموسى من مشكل الآثار، والخامس في تخليطه في الكلام على حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كتابة ما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه. فأما الأول: فقال في صفحة 9 ما ملخصه: (حقيقة القدر) ونحن وإن قلنا: إن القدر يرجع إلى تقدير الله للأشياء بنظام وأنه يرجع إلى قدرة الله وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد، أو أنه يرجع إلى سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وأنه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون فكل هذه من الصفات الداخلة في قدر الله، وحسب الشخص أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من صنع خلقه وسبق علمه بكل شيء وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد، ولما سئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلا: (القدر قدرة الرحمن). وأقول أما القدر الذي جاء ذكره في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره من الأحاديث التي يذكر فيها

وجوب الإيمان بالقدر وأنه ركن من أركان الإيمان، فالمراد به ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته وفرغ من كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» رواه الأمام أحمد والترمذي وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد رواه مسلم في صحيحه ولفظه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء». ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بإسناد صحيح ولفظه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «فرغ الله عز وجل من مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» ورواه أيضا بنحو رواية مسلم وإسناده صحيح أيضا. وروى الإمام أحمد ومسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «لا بل جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» وقد رواه أبو داود الطياليسي، وابن حبان في صحيحه، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه، وزاد ابن حبان قال سراقة: فلا أكون أبدا أشد اجتهادا في العمل مني الآن.

كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية على حديث عمران بن حصين في القدر

وروي الإمام أحمد أيضا بإسناد صحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلا من جهينة أو من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم ومضى عليهم في قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم واتخذت عليهم به الحجة قال: «بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم» قال: فلمَ يعملون إذا يا رسول الله؟ قال: «من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من المنزلتين بهيئة لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}» وقد رواه أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح، ومسلم بنحوه وفيه عند مسلم قصة لأبي الأسود الدؤلي مع عمران بن حصين رضي الله عنهما وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وروي الإمام أحمد أيضا وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه. قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير سورة (والشمس وضحاها) بعد إيراده لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تصديق ما أخبر به من القضاء قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} والذي في الحديث هو القدر السابق من علم الله وكتابه وكلامه، وهذا إنما تنكره غالية القدرية. وأما الذي في القرآن فهو خلق الله أفعال العباد وهذا أبلغ فإن القدرية المجوسية تنكره، فالذي في القرآن يدل على ما في الحديث وزيادة ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا له انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى صفحة 232 ج 16 مجموع الفتاوى.

وروي الإمام أحمد أيضا والطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» قال الهيثمي: رجاله ثقات. وروي الطبراني أيضا عن أبي الأسود الدؤلي أنه سأل عمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب عن القدر فقال: إني قد خاصمت أهل القدر حتى أحرجوني فهل عندكم من علم فتحدثوني؟ فقالوا: (لو أن الله عز وجل عذب أهل السماء والأرض عذبهم وهو غير ظالم، ولو أدخلهم في رحمته كانت رحمته أوسع من ذنوبهم، ولكنه كما قضى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فمن عذب فهو الحق ومن رحم فهو الحق، ولو كان لك مثل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره) ثم قال عمران: لأبي الأسود حين حدثه الحديث سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه معي عبد الله - يعني ابن مسعود - وأبي بن كعب فسألهما أبو الأسود فحدثاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين ورجال هذه الطريق ثقات. وروي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» قال الترمذي: هذا حديث غريب، قال: وفي الباب عن عبادة وجابر وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. وروي الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة واللفظ له عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري فأتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر فخشيت علي ديني

وأمري فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني به فقال: «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان لك مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك أن مت على غير هذا دخلت النار» ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود فتسأله فأتيت عبد الله فسألته فذكر مثل ما قال أبي وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفة فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ما قالا, وقال: ائت زيد بن ثابت فاسأله فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبا أو مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار» وقد رواه ابن حبان في صحيحه مختصراً. وسيأتي نحو ذلك في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وروي مالك في الموطأ، وأحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، والبغوي في تفسيره عن طاوس أنه قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (كل شيء بقدر) قال: وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس».

قول ابن عباس في القدر

وروي البخاري في تاريخه وأبو بكر الآجري بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك). وروي عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ذكر عنده القدر يوما؛ فأدخل أصبعيه السبابة والوسطى في فيه وأخذ بهما من ريقه فرقم بهما في ذراعه ثم قال: «أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب». وسيأتي ذكر الأحاديث في القلم الذي كتبت به المقادير في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى. ومما تقدم ذكره من الأحاديث وما سيأتي في التنبيه الثالث يعلم ما في تعريف ابن محمود لحقيقة القدر من التخليط بالنقص والزيادة، فأما النقص ففي إعراضه عن إثبات كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، وهذا في الحقيقة إعراض عن الإيمان ببعض مراتب القدر إذ لابد في الإيمان به من الإيمان بعلم الله تعالى بجميع الكائنات بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا، ثم كتابته لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وسيأتي ذكر الأدلة على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وبيان أن من لم يؤمن بكتابة القدر في اللوح المحفوظ فقد وافق غلاة القدرية. وأما الزيادة ففي قوله: إن القدر يرجع إلى تقدير الله للأشياء بنظام وإتقان، وقوله أيضا: وحسب الشخص أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من صنع خلقه. فلم يفرق بين صنع المخلوقات بنظام وإتقان وبين تقدير المقادير وكتابتها قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وجعل الجميع شيئا واحدا، وهذا في الحقيقة تخليط وتلبيس.

قول الإمام أحمد في القدر أنه قدرة الله

وأما الإيمان بأن الله على كل شيء قدير وفعال لما يريد وأنه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون؛ فهو من الإيمان بالقدر؛ ولكن لا يكفي عن الإيمان بتقدير الله لجميع الأشياء وكتابته لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة فالكل يجب الإيمان به. وكذلك الإيمان بما أخبر الله به من صنع خلقه وتقديره للأشياء بنظام وإتقان هو من الإيمان بأن الله تعالى هو الخالق الذي أوجد جميع الكائنات وأتقنها، ولا يكفي الإيمان بذلك عن الإيمان بكتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. وقد كان مشركو قريش مقرين بأن الله تعالى هو الخالق لجميع الأشياء كما أخبر الله بذلك عنهم في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. وكانوا مع إيمانهم بأن الله تعالى هو الخالق لجميع الأشياء يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر كما سيأتي بيان ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد توعدهم الله على تكذيبهم بالقدر بأنهم سيسحبون في النار على وجوههم ويقال لهم: ذوقوا مس سقر، ولم ينفعهم إيمانهم بالخلق وإتقان الأشياء وتنظيمها عن الإيمان بالقدر السابق. وأما قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى (القدر قدرة الله) فمعناه أن تقدير الرب تبارك وتعالى لكل ما هو كائن قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ثم إيجاده للكائنات على وفق ما قدره وقضاه يدل على قدرته العظيمة، فمن أثبت

أبيات لكعب بن زهير في القدر

قضاء الله وقدره السابق فقد أثبت قدرة الله ومن أنكر قضاء الله وقدره السابق فقد أنكر قدرة الله، فهذا معنى قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى القدر قدرة الله. قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة الاحتجاج بالقدر: والقدر هو قدرة الله كما قال الإمام أحمد: وهو المقدر لكل ما هو كائن. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل):وقال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء, فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها، وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم. انتهى. وقد أورد ابن محمود في الصفحة التي أشرنا إليها قول الشاعر: لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتي وهو مخبوء له القدر ونسبه لزهير وقد غلط في ذلك فإن هذا البيت لابنه كعب بن زهير رضي الله عنه ولا خلاف في ذلك عند أهل السير والأخبار، وقد ذكروا مع هذا البيت بيتين وهما: يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر وقد صرح كعب رضي الله عنه في هذه الأبيات الحسان بالإيمان بالقدر وأن المرء قد يسعى في الأمور فلا يدركها لأنها

كلام ابن محمود في القضاء والقدر

لم تقدر له، وهذا كما قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك». وقال ابن محمود في صفحة 11 و 12 و 13 ما ملخصه: أن القدر يدل بمنطوقه ومفهومه على قدرة الرب سبحانه وعلى تقديره للأشياء بنظام وإتقان وإحكام، وكل من تتبع نصوص القرآن يجدها تدور على هذا البيان، فالقضاء في سائر استعمالاته هو بمعنى الفراغ من الشيء، فالقضاء والقدر معناهما أن الله سبحانه قد أوجد هذا العالم مقدرا بمقادير متقنة مضبوطة محكومة بسنن لا تقبل التغيير ولا التبديل وأنه قد فرغ من ذلك فراغا لا يعقبه تعديل ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}. يقول الله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي جعله ذا مقادير منظمة متقنة محكمة كقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} ومنه قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير ونظام متقن كل شيء بحسبه فلم يخلق شيئا بطريق الصدفة ولا الطبيعة، ونظير هذه الآية قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي بقدر حاجة الناس ليس بالكثير المنهمر المستمر فيهلك حرثهم ومواشيهم ولا قطعة واحدة فيضر البنيان، ونظيره قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} هو نظير قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} لفظا ومعنى، وهو يرجع إلى قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي جعله ذا مقادير متناسبة ثابتة: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، نظيره قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي جعلناه ذا مقادير ينزل كل

ليلة منزلة منها لا يتخطاها ولا يقصر عنها، ومنه قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي على موعد قدرنا مجيئك فيه، ومثله قوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} وقرئ قدّرنا بالتشديد، أي قدرنا ذلك تقديراً متقنا فنعم القادرون، وقرئ بالتخفيف من القدرة أي قدرنا على خلقه وتصويره في أحسن صورة فنعم القادرون، فهذا حقيقة القدر المذكور في القرآن، ومنه قول الشاعر: قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرة زلجا وأما القضاء فإنه الفراغ من صنع هذه المخلوقات وقد اجتمعا في قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فذكر القضاء في قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} كما ذكر القدر في قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ... ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فهذا معنى حقيقة القضاء والقدر وأنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه، وهذا معنى ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض» وهذه الكتابة هي عبارة عن العلم القائم بذات الله وهو معنى قول أحدنا، قدر الله وما شاء فعل، قدر الله أي وسابق علم الله.

الرد على كلامه في القضاء والقدر

هذا كلام ابن محمود في القضاء والقدر وقد صرح أن معناهما إيجاد هذا العالم مقدرا بمقادير متقنة مضبوطة محكومة بسنن لا تقبل التغيير ولا التبديل وأن الله قد فرغ من ذلك فراغا لا يعقبه تعديل ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، وكلامه على الآيات التي تقدم ذكرها كله من باب واحد وهو أن القضاء والقدر معناهما خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه. وقد صرح أيضا في أول صفحة 13 أن القضاء هو الفراغ من صنع هذه المخلوقات وأن القدر هو ما ذكر في قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} وفي قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ثم قال: فهذا معنى حقيقة القضاء والقدر وأنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه. وأقول: إن كلام ابن محمود الذي ذكرنا ليس فيه إيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر وإنما فيه الإيمان بخلق الله للأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير. وهذا القول موافق لقول الكافر القصيمي في أغلاله فإنه قال في صفحة 252 من كتابه الأغلال ما نصه وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ}، القضاء هنا هو القضاء الذي يقرن مع القدر. قال الشيخ عبد الله بن علي بن يابس رحمه الله تعالى في الرد عليه: الجواب: كلا، فإن القضاء هاهنا هو التمام والفراغ ولا معنى لأن يكون هو الكتابة. ثم قال الملحد الخبيث في صفحة 253 ما نصه: (وإذا فالأقدار هي النظام).

قال الشيخ عبد الله بن علي بن يابس رحمه الله تعالى في الرد عليه: الجواب: أنه يرى أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان هو النظام وهذا مخالف للأديان وللكتاب والسنة والإجماع فإن القدر هو تقدير الله للأشياء قبل وجودها، وهذا ما يعرفه المسلمون. انتهى. وليعلم المطلع على كلام ابن محمود الذي تقدم ذكره في تعريف القضاء والقدر أن ابن محمود قد اعتمد على كلام عدو الله القصيمي في كتابه الأغلال ونقل بعضه بالنص وبعضه ببعض التصرف، وأنا أذكر هاهنا ملخص كلام القصيمي لتعرف مطابقته لكلام ابن محمود: قال القصيمي في صفحة 247 من كتابه الاغلال ما نصه: (أما القدر فهو في مادته مأخوذ من التقدير أي جعل الشيء ذا مقادير أي ذا حدود يقال هذا الشيء قدر هذا أي محدود بحدوده). ثم استدل القصيمي بآيات من القرآن منها قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وقوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}، وقد استدل ابن محمود بهذه الآيات الثلاث على نحو ما قاله القصيمي فقال في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير ونظام متقن كل شيء بحسبه وقال في قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي جعله ذا مقادير منظمة متقنة محكمة. وقال في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}،أي جعلناه ذا مقادير، ثم قال بعد سياقه لهذه الآيات وغيرها ما نصه: (فهذا حقيقة القدر المذكور في القرآن) وقال القصيمي في أول كلامه: (أما القدر فهو في مادته مأخوذ من التقدير أي

جعل الشيء ذا مقادير) فانظر إلى مطابقة كلام ابن محمود لكلام القصيمي. وقد استشهد القصيمي على ما ذهب إليه بقول الشاعر: قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرة زلجا وقد استشهد به ابن محمود تبعا للقصيمي. وقال القصيمي أيضا في صفحة 249 من كتاب الأغلال ما نصه: (فالقدر بجملته وجملة استعمالاته يراد به التقدير أي جعل الشيء ذا مقادير معلومة، أي يراد به جعل الشيء منظما في كمه وكيفه، فقدر الله معناه أن الله جلت قدرته قد أوجد هذا الوجود، السماويات منه والأرضيات مقدرا بمقادير محكمة - إلى أن قال - ولهذا جاء هذا العالم منظما صالحاً للانتفاع وللحياة وللاستقرار فيه وعليه). وقد استدل القصيمي في صفحة 250 من كتاب الأغلال على ما ذهب إليه في معنى القدر بقول الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} وقد استدل بها ابن محمود تبعا للقصيمي. واستدل القصيمي أيضا في صفحة 251 من كتاب الأغلال بقول الله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، ثم قال ما نصه، فقوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} يراد به القدر الذي ضل فيه الناس

وصيروه عامل ركود وانحطاط مع أنه هو القوة والوثوب والنشاط). وقال في صفحة 259 من كتاب الأغلال ما نصه: (فالقضاء والقدر معناهما أن الله قد أوجد هذا العالم مقدرا بمقادير مضبوطة محكوما بسنن لا تقبل التغيير وأنه تعالى قد فرغ من ذلك فراغا لا يعقبه تبديل ولا تعديل ولا زيادة أو نقصان) وقد نقل ابن محمود هذا الكلام بعينه في تعريفه للقضاء والقدر كما تقدم ذكره في أول كلامه. ومن جعل أقوال عدو الله القصيمي وأمثاله من الزنادقة عمدة له في باب القضاء والقدر فغير مستبعد منه أن يتأثر بهم فيما سوى ذلك من أقوالهم الباطلة وآرائهم الفاسدة، نعوذ بالله من زيغ القلوب وانتكاسها، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: ومن يكن الغراب له دليلا يمر به على جيف الكلاب وقد رد الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح رحمه الله تعالى على صالح الأغلال ردا وافيا في كتابه (بيان الهدى من الضلال، في الرد على صاحب الأغلال) فليراجع فإنه مهم جدا، وكذلك قد رد عليه الشيخ عبد الله بن علي بن يابس والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ورده مختصر جدا، وكل منهم قد أجاد وأفاد رحمهم الله تعالى. وإذا علم ما ذكرنا من انحراف ابن محمود في باب القضاء والقدر فليعلم أيضا أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره قريبا.

إجماع الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة والحديث على إثبات كتابة المقادير

ويؤمنون أن الله تعالى أوجد الخلائق بعد كتابة المقادير بخمسين ألف سنة على وفق ما قدره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ -وهو أم الكتاب-، وكذلك كل كائن إلى يوم القيامة فهو مما قدره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل) في الكلام على قول الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}:قال ابن عباس رضي الله عنهما في اللوح المحفوظ المقري عندنا، قال مقاتل: إن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ. وأم الكتاب أصل الكتاب، وأم كل شيء أصله. والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}. وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح أفعاله وكلامه، فتبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب انتهي. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في (العقيدة الواسطية): وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق. فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: ما أكتب، قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة،

فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ومنكروه اليوم قليل. وأما الدرجة الثانية فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه ولا يكون في ملكه مالا يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق

كلام ابن رجب في القدر

قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها. انتهى. وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابة (جامع العلوم والحكم): الإيمان بالقدر على درجتين إحداهما الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من هل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدرجة الثانية أن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم، فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة وتنكرها القدرية، والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر عن مقالته وكعمرو بن عبيد وغيره، وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا فقد كفروا، يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه، وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء، وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام. انتهى.

خطأ ابن محمود في بيان معنى حقيقة القضاء والقدر والرد عليه

وأما قول ابن محمود في بيان معنى حقيقة القضاء والقدر أنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه، وأن هذا معنى ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن بخلق السموات والأرض». ففيه خطأ من وجهين أحدهما في نسبته الحديث إلى الصحيحين وإنما هو من أفراد مسلم ولم يخرجه البخاري. والثاني زعمه أن خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت هو معنى كتابة المقادير، وهذا يقتضي أن تكون كتابة المقادير وخلق الأشياء شيئا واحدا، ولا يخفي ما في هذا القول من إلغاء نص الحديث على أن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي هذا النص الصريح أبلغ رد على ما زعمه ابن محمود في بيان معنى حقيقة القضاء والقدر أنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت. وأما قوله: إن هذه الكتابة عبارة عن العلم القائم بذات الله، فهو خطأ ظاهر وسيأتي بيان ذلك في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى. التنبيه الثاني: قال ابن محمود في صفحة 12 ما نصه: ومنه قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير ونظام متقن، كل شيء بحسبه فلم يخلق شيئا بطريق الصدفة ولا الطبيعة، قال ابن جرير في التفسير: إنا كل شيء خلقناه بمقدار قدرناه وقضيناه، وبعض المفسرين يغلطون في تفسير هذه الآية حيث يحملون تفسيرها على القضاء والقدر ثم يتوسعون في سياق الآثار الواردة في القضاء والقدر كأن الآية سيقت لذلك وهو خطأ فانه لا تعلق للآية بالقضاء والقدر الذي يعنونه.

كلام للنووي في المراد بالقدر المذكور في سورة القمر

وأقول قد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن جرير وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة والبغوي في تفسيره وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال النووي في شرح مسلم: المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته، وفي هذه الآية الكريمة والحديث تصريح بإثبات القدر وإنه عام في كل شيء فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم لله مراد له. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل): والمخاصمون في القدر نوعان أحدهما من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كالذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، والثاني من ينكر قضاءه وقدره السابق، والطائفتان خصماء الله، قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام إن الله تبارك وتعالى قدر أقدارا وخلق الخلق بقدر وقسم الآجال بقدر وقسم الأرزاق بقدر وقسم البلاء بقدر وقسم العافية بقدر وأمر ونهى. انتهى. وروي ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: من كذب بالقدر فقد كذب بالحق خلق الله خلقا وأجل أجلا وقدر رزقا وقدر مصيبة وقدر بلاء وقدر عافية، فمن كفر بالقدر فقد كفر بالقرآن. وروى ابن أبي حاتم أيضا بإسناد حسن عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت

قول ابن عباس وعبد الله بن عمرو في الآية من سورة القمر يخالف قول ابن محمود ويرده

أسافل ثيابه فقلت له: قد تكلم في القدر, فقال: أو قد فعلوها، قلت: نعم، قال: فو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أولئك شرار هذه الأمة فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين، ورواه ابن المنذر وابن مردويه بنحوه ذكره السيوطي في الدر المنثور. قال: وأخرج الطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في القدرية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. قال: وأخرج البزار وابن المنذر بسند جيد من طريق عمر بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: ما أنزلت هذه الآية {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} إلا في أهل القدر. قال: وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن شاهين وابن منده والخطيب في تالي التلخيص وابن عساكر عن زرارة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه تلا هذه الآية {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال: في أناس من أمتي في آخر الزمان يكذبون بقدر الله». وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: (إني أجد في كتاب الله قوما يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم ذوقوا مس سقر لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، وأني لا أراهم فلا أدري أشيء كان قبلنا أم شيء فيما بقي).

اتفاق أكثر المفسرين على أن الآية من سورة القمر نازلة في القدرية

وروي عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة بإسناد حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: نزلت هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} في أهل القدر، وفي رواية قال: نزلت تعييرا لأهل القدر {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقد رواه ابن جرير وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طرق عن محمد بن كعب القرظي. وروى ابن جرير أيضا بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما نزلت هذه الآية {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل أفي شيء نستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، وسنيسره للعسرى». قال ابن جرير وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} يقول تعالى ذكره: أنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه، وفي هذا بيان أن الله جل ثناؤه توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم بالقدر مع كفرهم به، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك، وقد اختصر ابن محمود كلام ابن جرير ليوهم أنه موافق لقوله في القدر. وقال الرازي في تفسيره: أكثر المفسرين اتفقوا على أنها نازلة في القدرية. انتهى. وقال الزجاج: معنى (بقدر) أي كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ذكره ابن الجوزي في تفسيره. وقال البغوي في تفسيره قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ. انتهى.

وقال ابن كثير في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وكقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبعوا في أواخر عصر الصحابة. انتهى. ومما ذكرته من الأحاديث في هذا التنبيه يعلم أن المفسرين لم يغلطوا ولم يخطئوا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} حيث قالوا: إنها نزلت في إثبات القدر السابق والوعيد الشديد للقدرية، ومن زعم أنهم قد غلطوا وأخطئوا فهو الغالط المخطئ في الحقيقة، وما أبشع القول الذي يتضمن تغليط أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وما أسوأ القول الذي يتضمن تخطئتهم. فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وهل يظن الذي يغلطهم ويخطئهم أنه أعلم بكتاب الله من أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، أو أنه أعلم من الإمام أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم من الأئمة الذين خرجوا أحاديثهم واعتمدوا عليها، أو أنه أعلم بالتفسير من محمد بن كعب القرظي وابن جرير الطبري والبغوي وابن الجوزي وابن كثير وأمثالهم من الأئمة المعروفين بالتقدم في علم التفسير، كلا فليس المتخرصون مثل الجهابذة الحفاظ، ولا شك أن ما جاء عن هؤلاء الأئمة في

قول ابن محمود أن كتابة المقادير عبارة عن العلم القائم بذات الله

تفسير الآية من سورة القمر هو المقبول وما خالفه من أقوال المتخرصين فهو مردود، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى ... يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل التنبيه الثالث: قال ابن محمود في صفحة 13 بعد سياقه للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض» قال: وهذه الكتابة هي عبارة عن العلم القائم بذات الله وهو معنى قول أحدنا، قدر الله وما شاء فعل، قدر الله أي وسابق علم الله. وقال في صفحة 15 ما نصه (كتابة المقادير) ثبت في الكتاب والسنة كتابه المقادير كقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسمائة عام». هكذا قال ابن محمود بخمسمائة عام وهو غلط، والصواب بخمسين ألف سنة كما تقدم بيانه في حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما. ثم قال ابن محمود وحديث «أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».

قوله أن كتابة المقادير عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها

وإننا عندما نقرأ أو نسمع ما ثبت عن الله ورسوله في كتابة المقادير يجب أن نفهم بأن هذه الكتابة هي من عالم الغيب، فلا ينبغي أن نقيسها على الكتابة التي نكتبها بأيدينا ولا على القلم الذي نكتب به، بل هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها فانه سبحانه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون، فهي بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله عبر عنها سبحانه بالكتابة كما يقول الرجل لصاحبه حاجتك مكتوبة في صدري إذا أراد الاعتناء بها - إلى أن قال - وكتابته للأشياء إشارة إلى علمه بسائر المعلومات لا تخفي عليه خافية من أمر خلقه، فهي كالمكتوب المضبوط في علمه إذ ليس عندنا وصف الكتابة ولا القلم المكتوب به ولا المكتوب فيه - إلى أن قال في صفحة 16 - وإنما ذكرت هذا لتقريب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن فهو سبحانه يعلم بالمصيبة قبل وقوعها، وعلمه سبحانه بها ليس هو الذي أوقع المصاب في المصيبة وإنما وقعت بالأسباب المترتبة على وقوعها. وأقول: إن في كلام ابن محمود عدة أخطاء، أحدها التناقض وذلك أنه أثبت كتابة المقادير في أول كلامه واستدل لذلك بثلاث آيات من القرآن وحديثين صحيحين، وقال: إن هذه الكتابة من عالم الغيب فلا ينبغي أن نقيسها على الكتابة التي نكتبها بأيدينا ولا على القلم الذي نكتب به، ثم رجع فنقض قوله وزعم أن الكتابة عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله، وهذا في الحقيقة نفي للكتابة بالكلية، وحاصل قوله: إن الكتابة اسم لا مسمى له ولفظ لا معنى له. الخطأ الثاني: زعمه أن الله تعالى عبر عن علمه بالكتابة وهذا من القول على الله بغير علم، ويلزم على هذا القول إلغاء ما جاء في القرآن من النصوص الدالة على كتابة المقادير وعلى

اللوح المحفوظ - وهو أم الكتاب، والإمام المبين، والكتاب المبين - وإلغاء النصوص ليس بالأمر الهين، ومن ألغى نصا من نصوص القرآن فهو على شفا هلكة. الخطأ الثالث: القول على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم يقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم نص على كتابة المقادير وعلى القلم الذي كتبت به المقادير في أحاديث كثيرة وهي نصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ومن زعم أن هذه النصوص عبارة عن العلم القائم بذات الله تعالى وعلى سبق علمه بالأشياء قبل وقوعها، وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله فقد صرف النصوص عن ظاهرها، وقال على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. وقد ورد الوعيد الشديد لمن قال على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. الخطأ الرابع: تحريف الكلم عن مواضعه فإن من صرف نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة عن ظاهرها وتأولها على غير ما يراد بها فقد حرف الكلم عن مواضعه وتشبه بالأمة المغضوب عليها. الخطأ الخامس: ما وقع منه من التغيير في متن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقد تقدم التنبيه عليه. الخطأ السادس: ضربه المثل لعلم الله تعالى بالمقادير وكتابتها بقول الرجل لصاحبه حاجتك مكتوبة في صدري، وقد قال الله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ثم أن المثل الذي ذكره - أو على الأصح ابتكره - ليس بصحيح في نفس الأمر فان الصدر ليس بمحل للكتابة حتى يضرب المثل بالكتابة فيه وإنما هو محل للحفظ كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}.

وقد ذكر ابن محمود السبب الحامل له على ضرب هذا المثل المبتكر وهو أنه ليس عنده وصف الكتابة ولا القلم المكتوب به ولا المكتوب فيه. وأقول كان ينبغي أن يسعه ما وسع الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة والجماعة من الإيمان بما جاء في نصوص الكتاب والسنة من إثبات كتابة المقادير، وإثبات القلم الذي كتبت به المقادير، وإثبات اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه المقادير وإمرار النصوص كما جاءت وترك البحث والتنقيب عما أخفى علمه من الأمور الغيبة وأن لا يتعرض لها بالتأويل وضرب الأمثال. الخطأ السابع: ما يلزم على قوله في كتابة المقادير إنها عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها مع إيراده لحديث «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض» أن يكون الله غير عالم بالأشياء في الأزل وإنما علم بها قبل خلق السموات والأرض بخمسمائة على حد ما جاء في تعبير ابن محمود. وهذا موافق لقول غلاة القدرية الذين نبغوا في آخر عصر الصحابة ورد عليهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم وتبرؤا منهم، ومن اعتقد هذا المعتقد الباطل فقد وصف الرب تبارك وتعالى بالجهل قبل كتابته للمقادير، وهذا من أقبح الأقوال وأشنعها وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمة الله تعالى في جواب له أن هذا القول مهجور باطل مما اتفق على بطلان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين، بل كفّروا من قاله، والكتاب والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده انتهى من مجموع الفتاوى ج 8 صفحة 491.

ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن غلاة القدرية قد وافقهم ابن محمود في بعضه

فإن قال ابن محمود: إنه يعتقد أن علم الله قديم وأن الله لم يزل عالما بجميع الأشياء في الأزل. قيل له يلزمك على هذا القول مع قولك أن كتابة المقادير عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها أن تكون الكتابة أزلية أيضا، ويلزم على هذا تكذيب ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» وتكذيب ما جاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض» وتكذيب الأحاديث الثابتة في خلق القلم وأمره بكتابة المقادير من حين خلقه الله، وسيأتي ذكر الأحاديث في ذلك في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى. ويلزم أيضا على القول بأن الكتابة أزلية أن يكون القلم واللوح المحفوظ أزليين وهذا موافق لقول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، والقول بقدم العالم كفر بلا نزاع. والمقصود هنا بيان أن أحد الأمرين لازم لابن محمود، أما أن يقول: إن علم الله حادث وكائن وقت كتابة المقادير، أو أن يقول: إن كتابة المقادير قديمة أزلية، وكل من الأمرين باطل وخطير. وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له في الجزء الثامن من الفتاوى أن غلاة القدرية أنكروا علم الله القديم وكتابه السابق، قال: وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة ورد عليهم الصحابة وسلف الأمة وتبرؤا منهم انتهى من صفحة 59.

كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في القدر

وقال شيخ الإسلام أيضا في جواب آخر في صفحة 449 من المجلد الثامن: مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء ألا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها. وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف أي مستأنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤا منهم وأنكروا مقالتهم كما قال عبد الله بن عمر لما أخبر عنهم، إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني

ذكر النصوص من القرآن على إثبات كتابة المقادير وفيها أبلغ رد على ابن محمود

برئ منهم وأنهم برءاء مني، وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن المنكرين لعل الله المتقدم يكفرون انتهى المقصود من كلامه رحمه الله. وقال شيخ الإسلام أيضا في جواب آخر: والقرآن والسنة تثبت القدر وتقدير الأمور قبل أن يخلقها وأن ذلك في كتاب وهذا أصل عظيم يثبت العلم والإرادة لكل ما سيكون ويزيل إشكالات كثيرة ضل بسببها طوائف في مسائل العلم والإرادة، فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وقد تبرأ ابن عمر وغيره من الصحابة من المكذبين بالقدر. انتهى. وقال شيخ الإسلام أيضا في تفسيره لسورة (سبح اسم ربك الأعلى): وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر وابن عباس وغيرهما. انتهى. وقد تضافرت النصوص من الكتاب والسنة على إثبات كتابة والمقادير وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث على ذلك، وأنا أذكر من النصوص ما تيسر وبالله المستعان. فأما النصوص من القرآن ففي آيات كثيرة، منها قوله تعالى في سورة الحج: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} قال ابن

الجوزي في تفسيره: (أن ذلك) يعني ما يجري في السماوات والأرض (في كتاب) يعني اللوح المحفوظ، وقال البغوي: (في كتاب) يعني اللوح المحفوظ، وقال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه أنه محيط بما في السموات وما في الأرض فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ - ثم ذكر حديث «إن الله قدر مقادير الخلائق» وحديث «أول ما خلق الله القلم» وسيأتي ذكرهما مع الأحاديث إن شاء الله تعالى، وذكر أيضا ما رواه ابن أبي حاتم عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب، فقال القلم: وما أكتب، قال علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض» قال ابن كثير: وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضا، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علما وهو سهل عليه يسير لديه ولهذا قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. انتهى. وقد فرق الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين العلم والكتابة فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فهذه الجملة فيها إثبات العلم، ثم قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} هذه الجملة فيها إثبات الكتابة، وفي هذه الآية أبلغ رد على ابن محمود حيث جمع بين ما فرق الله بينه فزعم أن الكتابة عبارة عن العلم القائم بذات الله.

الآية الثانية قوله تعالى في سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} قال ابن الجوزي في تفسيره قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ}:يعني قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار {ولا في أنفسكم} من الأمراض وفقد الأولاد {إِلَّا فِي كِتَابٍ} وهو اللوح المحفوظ {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: نخلقها يعني الأنفس {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل انتهى، وفي تفسير البغوي وابن كثير نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالسا مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} فسألته عنها فقال: سبحان الله ومن يشك في هذا كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة. قال ابن كثير: وهذه الآية العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق قبحهم الله، وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وقوله تعالى: {لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} أي: أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} أي أعطاكم، أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم فإن

ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفخرون بها على الناس، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. انتهى. الآية الثالثة قوله تعالى في سورة النمل: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال ابن الجوزي في تفسيره {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ}: أي وما من جملة غائبة {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} يعني: اللوح المحفوظ. انتهى. وقال البغوي في تفسيره {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ}: أي جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: في اللوح المحفوظ. انتهى. وقال القرطبي في الكلام على هذه الآية: أي ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده فكيف يخفي عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه، وقيل أي كل شي هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه، والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته. انتهى. الآية الرابعة قوله تعالى في سورة هود: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال البغوي: أي كل مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها، قال ابن الجوزي: وهذا قول المفسرين. الآية الخامسة قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال: ابن جرير يقول: ولا شيء مما هو موجود أو مما سيوجد ولم يوجد بعد إلا وهو مثبت في اللوح

المحفوظ مكتوب ذلك فيه ومرسوم عدده ومبلغه والوقت الذي يوجد فيه والحال التي يفني عليها، وقال البغوي: يعني الكل مكتوب في اللوح المحفوظ. الآية السادسة قوله تعالى في سورة يونس: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال ابن الجوزي في تفسيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو اللوح المحفوظ، وقال البغوي في تفسيره: هو اللوح المحفوظ. الآية السابعة قوله تعالى في سورة فاطر: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قال البغوي في تفسيره: قال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره، وقال ابن الجوزي في تفسيره: المعنى ما يذهب من عمر هذا المعمر يوم أو ليلة إلا وذلك مكتوب - ثم قول سعيد بن جبير الذي تقدم ثم قال - وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين، فأما الكتاب فهو اللوح المحفوظ. انتهى. الآية الثامنة قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}: ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب رواه ابن جرير، وعن عبد الرحمن بن زيد نحو ذلك رواه ابن

جرير أيضا، وقال البغوي في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ}: أي في اللوح المحفوظ. الآية التاسعة قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} قال البغوي: يعني في اللوح المحفوظ، وكذا قال ابن الجوزي وابن كثير. الآية العاشر قوله تعالى في سورة الرعد: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال البغوي: أي أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لا يُبدل ولا يُغير، وقال ابن الجوزي: قال المفسرون: وهو اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما يكون ويحدث. الآية الحادية عشرة قوله تعالى في سورة يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قال ابن كثير: أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال البغوي وابن الجوزي {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}: وهو اللوح المحفوظ. الآية الثانية عشرة: قوله تعالى في سورة الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال ابن كثير: {وإنه} أي: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، وقال البغوي: {وإنه} يعني: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} في اللوح المحفوظ قال قتادة: {أُمِّ الْكِتَابِ} أصل الكتاب وأم كل شيء أصله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب بما يريد أن يخلق فالكتاب عنده ثم قرأ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} فالقرآن مثبت عند

الله في اللوح المحفوظ كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وكذا قال ابن الجوزي القرآن مثبت عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ. الآية الثالثة عشرة قوله تعالى في سورة الواقعة: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} قال البغوي: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} مصون عند الله في اللوح المحفوظ، وقال ابن الجوزي: {فِي كِتَابٍ} فيه قولان أحدهما: أنه اللوح المحفوظ قاله ابن عباس والثاني: أنه المصحف الذي بأيدينا قاله مجاهد وقتادة. الآية الرابعة عشرة قوله تعالى في سورة (ق): {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قال ابن الجوزي أي: حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ قد أثبت فيه ما يكون، وقال البغوي في قوله تعالى: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس ويتغير وهو اللوح المحفوظ. انتهى. الآية الخامسة عشرة قولة تعالي في سورة البروج: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قال البغوي: هو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان، وقال ابن الجوزي نحو ذلك، وقال ابن كثير: أي هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل. انتهى. الآية السادسة عشرة قوله تعالى في سورة النبأ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} قال البغوي: أي وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ كقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وقال ابن الجوزي: قال المفسرون: وكل شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ. انتهى.

وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن طاوس قال: كنت جالسا مع ابن عباس رضي الله عنهما في حلقة فذكروا أهل القدر فقال: أفي الحلقة منهم أحد فآخذ برأسه ثم أقرأ عليه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} ثم اقرأ عليه آية كذا وآية كذا - آيات في القرآن، إسناد كل منهما صحيح على شرط الشيخين. وهذه الآية من سورة الإسراء هي الآية السابعة عشرة من الآيات الدالة على كتابة المقادير على أحد القولين فيها. قال البغوي: قوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} أي أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: يعني وقضينا عليهم فإلى بمعنى على، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ انتهى وذكر ابن الجوزي في تفسيره نحو ذلك. الآية الثامنة عشر: قوله تعالى في سورة الأنفال: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال أبو جعفر ابن جرير: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يقول لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله مُحل لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يعذب أحدا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرا دين الله لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. انتهى.

ذكر النصوص من السنة على إثبات كتابة المقادير وفيها أبلغ رد على ابن محمود

وقال البغوي في تفسيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الغنائم حراما على الأنبياء والأمم وكانوا إذا أصابوا شيئا من الغنائم جعلوه للقربان فكانت تنزل نار من السماء فتأكله، فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذوا الفداء فأنزل الله عز وجل {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يعني: لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يُحل لكم الغنائم. وقال ابن كثير في تفسيره: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يعني: في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. انتهى. أما النصوص من السنة على إثبات كتابة المقادير فهي كثيرة جدا وقد تقدم منها ثلاثة أحاديث، أولها حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء» رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة والآجري في كتاب الشريعة وهذا لفظ مسلم وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له. انتهى. الثاني: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيم جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه عن جابر رضي الله عنه أن سراقة بن جعشم قال: يا رسول الله أخبرنا عن أمرنا كأننا ننظر إليه أبما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير أو بما يستأنف قال: «بل بما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير» قال: ففيم العمل إذا؟ قال: «اعملوا فكل ميسر»

قال: سراقة فلا أكون أبداً أشد اجتهادا في العمل مني الآن. قال النووي في شرح مسلم: قوله: «جفت به الأقلام» أي: مضت به المقادير وسبق علم الله تعالى به وتمت كتابته في اللوح المحفوظ وجف القلم الذي كتب به، وامتنعت فيه الزيادة والنقصان، قال العلماء: وكتاب الله تعالى ولوحه وقلمه والصحف المذكورة في الأحاديث كل ذلك مما يجب الإيمان به، وأما كيفية ذلك وصفته فعلمها إلى الله تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والله أعلم. انتهى. الثالث حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلا من جهينة أو من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم أو مضى عليهم في قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم واتخذت عليهم به الحجة قال: «بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم» قال: فلم يعملون إذا يا رسول الله؟ قال: «من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم. وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه وهو الحديث الرابع.

الحديث الخامس عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: «اقبلوا البشري يا بني تميم»، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين ثم دخل عليه ناس من أهل اليمين فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم»، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض» رواه البخاري بهذا اللفظ والترمذي مختصرا وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح ولفظه عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» قال: قالوا: قد بشرتنا فأعطنا قال «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن» قال: قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: «كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء» ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال: فيه «كان الله عز وجل ولم يك شيء وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض». الحديث السادس عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني قال: يا بني أنك لن تطعم طعم الإيمان ولم تبلغ حقه حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره، قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله صلى

الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» يا بني؛ إن مت ولست على ذلك دخلت النار، رواه الإمام أحمد. وقد رواه أبو داود السجستاني بنحوه وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: له اكتب, فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يا بني؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات على غير هذا فليس مني» وفي رواية لأحمد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: فاكتب ما يكون وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة». ورواه أبو داود الطيالسي وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، فقال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد». ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول شيء خلقه الله عز وجل القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: أكتب القدر فجرى تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة». ورواه الترمذي من طريق أبي داود الطياليسي حدثنا عبد الواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له: يا أبا محمد أن أهل البصرة يقولون في القدر قال: يا بني أتقرأ القرآن قلت: نعم، قال: فاقرأ الزخرف، قال: فقرأت:

{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فقال: أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السموات وقبل أن يخلق الأرض فيه أن فرعون من أهل النار وفيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. قال عطاء: فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ما كان وصية أبيك عند الموت قال: دعاني أبي فقال لي: يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، فإن مت على غير هذا دخلت النار إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب, القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد» قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. الحديث السابع: عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب, فجرى بما هو كائن إلى الأبد» رواه رزين. الحديث الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره أن يكتب كل شيء» رواه البزار قال الهيثمي: ورجاله ثقات. وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما خلق الله القلم فأمره فكتب كل شيء يكون» رواته كلهم ثقات. الحديث التاسع: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة» رواه الطبراني قال الهيثمي: ورجاله ثقات.

الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول شيء خلق الله عز وجل القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون وما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، فذلك قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة» رواه الآجري في كتاب الشريعة. الحديث الحادي عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه الإمام احمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. الحديث الثاني عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني رجل شاب وأخاف العنت ولا أجد ما أتزوج به ألا أختصي فسكت عني ثم قلت له؛ فسكت عني ثم قلت له؛ فسكت ثم قال: «يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر» رواه البخاري والنسائي. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله: «جف القلم بما أنت لاق» أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به.

وقال الحافظ أيضا في الكلام على هذا الحديث (جف القلم):أي فرغت الكتابة إشارة إلى أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة والقلم، وقال الطيبي: هو من إطلاق اللازم على الملزوم لأن الفراغ من الكتابة يستلزم جفاف القلم عن مداده، قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى أن كتابة ذلك انقضت من أمد بعيد. وقال عياض: معني جف القلم أي لم يكتب بعد ذلك شيئا، وكتاب الله ولوحه وقلمه من غيبه ومن علمه الذي يلزمنا الإيمان به ولا يلزمنا معرفة صفته. انتهى. وقوله: «فاختص على ذلك أو ذر» قال الحافظ ابن حجر: ليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد وهو كقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} والمعنى إن فعلت أو لم تفعل فلابد من نفوذ القدر وليس فيه تعرض للخصاء، ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل فالخصاء وتركه سواء فإن الذي قدر لابد أن يقع. انتهى. الحديث الثالث عشر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل» رواه الإمام أحمد والترمذي والبزار والطبراني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الهيثمي: رجال أحد إسنادي أحمد ثقات، وقد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح قد تداوله

الأئمة وقد احتجا بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة، وقال الذهبي: في تلخيصه على شرطهما ولا علة له. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ويقال: إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان للمأمون سأل الحسين بن الفضل عن قوله تعالى {:كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} مع هذا الحديث، فأجاب هي شئون يبديها لا شئون يبتديها فقام إليه وقبل رأسه. انتهى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وإسناده صحيح على شرط البخاري. وعنه أيضا رضي الله عنه أنه قال: «إن أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق فالكتاب عنده ثم قرأ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}» رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ورجاله ثقات. وعن أيضا رضي الله عنه أنه قال: «أول ما خلق الله القلم قال: اكتب, قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب القدر فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة» رواه ابن جرير بإسناد صحيح على شرط الشيخين، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه وزاد في آخره «وكان عرشه على الماء» وإسناده صحيح على شرط الشيخين وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية الآجري وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعنه أيضا رضي الله عنه أنه قال: «أول ما خلق الله القلم خلقه من هجاء قبل الألف واللام فتصور قلما من نور فقيل له أجر في اللوح المحفوظ قال: يا رب بماذا؟ قال: بما يكون إلى يوم القيامة فلما خلق الله الخلق وكل بالخلق حفظة يحفظون عليهم

أعمالهم فلما قامت القيامة عرضت عليهم أعمالهم وقيل {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ثم عرض بالكتابين فكانا سواء. قال ابن عباس: ألستم عربا هل تكون النسخة إلا من كتاب؟» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعنه أيضا رضي الله عنه أنه قال: «إن الله جل ذكره خلق العرش فاستوى عليه، ثم خلق القلم فأمره أن يجري بإذنه فقال القلم: بما يا رب أجري؟ قال: بما أنا خالق وكائن في خلقي من قطر أو نبات أو نفس أو أثر يعني به العمل أو رزق أو أجل، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فأثبته الله في الكتاب المكنون عنده تحت العرش» رواه ابن أبي حاتم والطبراني. وعن مجاهد قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن هاهنا قوما يقولون في القدر فقال: «إنهم يكذبون بكتاب الله عز وجل لآخذن بشعر أحدهم فلأنصونه، إن الله عز وجل كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، ثم خلق فكان أول ما خلق القلم ثم أمره فقال: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، وإنما تجري الناس على أمر قد فرغ منه» رواه الآجري في كتاب الشريعة. قوله فلأنصونه أي أخذ بناصيته. وهذه الآثار عن ابن عباس رضي الله عنهما لها حكم المرفوع لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا وإنما يقال عن توقيف: وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية: واذكر حديث السبق للتقدير والـ ... توقيت قبل جميع ذي الأعيان خمسين ألفا من سنين عدها الـ ... مختار سابقة لذي الأكوان

إجماع الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة والحديث على إثبات كتابة المقادير

هذا وعرش الرب فوق الماء من ... قبل السنين بمدة وزمان والناس مختلفون في القلم الذي ... كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو هو بعده؟ ... قولان عند أبي العلا الهمذاني والحق أن العرش قبل لأنه ... قبل الكتابة كان ذا أركان وكتابة القلم الشريف تعقبت ... إيجاده من غير فصل زمان لما براه الله قال اكتب كذا ... فغدا بأمر الله ذا جريان فجرى بما هو كائن أبدا إلى ... يوم المعاد بقدرة الرحمن ومما ذكرته من نصوص الآيات والأحاديث على كتابة المقادير وعلى القلم الذي كتبت به المقادير وعلى الكتاب المبين الذي كتبت فيه المقادير أبلغ رد على ابن محمود فيما زعمه من أن كتابة المقادير عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله. وقد تقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من إجماع الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب. وتقدم أيضا ما ذكره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بخلق الله لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان،

وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون، وفي هذا أبلغ رد على ابن محمود. وأما قوله: وإنما ذكرت هذا لتقريب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن. فجوابه: أن يقال ليست رسالة ابن محمود في القضاء والقدر مما يقرب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن، وإنما هي مما يقرب الأذهان إلى الإذعان بقول غلاة القدرية الذين ينكرون كتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد تبعهم ابن محمود على قولهم الباطل حيث زعم في صفحة 13 وصفحة 15 أن كتابة المقادير عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء فبل وقوعها وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله عبر عنها سبحانه بالكتابة هذا كلامه وهو صريح في نفي الكتابة كما تقدم بيان ذلك. وأما قوله فهو سبحانه يعلم بالمصيبة قبل وقوعها، وعلمه سبحانه بها ليس هو الذي أوقع المصاب في المصيبة وإنما وقعت بالأسباب المترتبة على وقوعها. فقال: إن المصائب كلها بقضاء وقدر وأسبابها بقضاء وقدر فالكل معلوم للرب تبارك وتعالى في الأزل ومكتوب في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. ومن زعم أن المصائب تقع بالأسباب وحدها ولم تكن بقضاء وقدر سابق فهو من القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة.

استشكال ابن محمود لحديث احتجاج آدم وموسى، والرد عليه

التنبيه الرابع: قال ابن محمود في صفحة 17 و 18 ما نصه: وهنا حديث يجادل به أهل الجدل من أهل القدر وهو في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اِلْتقى آدم وموسى فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء فبما أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم: أنت موسى رسول الله وكلمك الله تكليما وقد قرأت التوراة أفلا وجدت فيها (وعصى آدم ربه فغوى) وذلك قبل أن أخلق بأربعين عاما، قال: بلى قال: فلم تلومني على أمر قدره عليَّ، قال: فحج آدم موسى». وهذا الحديث من مشكل الآثار، وقد ألحق به ابن حجر في فتح الباري عدة إشكالات كثيرة، أهمها أنه مخالف لنص القرآن في قصة آدم في قوله: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وفي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} فلم يحتج آدم على ربه بكتابة المقادير بل اعترف بذنبه ولجأ بالتوبة إلى ربه، ومنها أنه يقوي مذهب الجبر المخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة، ثم هذا اللقاء هل هو بالأرواح في الدنيا أم هو يوم القيامة حين يبعث الناس من قبورهم وتسقط عنهم التكاليف الشرعية؟ إلى غير ذلك مما ذكر ج 11 ص 406. وأقول: إن في كلام ابن محمود عدة أخطاء، أحدها قوله: إن هذا الحديث من مشكل الآثار، وهذا يقتضي الطعن في صحة الحديث والتوقف عن قبوله وهو قول القدرية كما سيأتي بيانه، فأما أهل السنة والجماعة فإنهم قد تلقوا هذا الحديث بالقبول والتسليم واتفقوا على صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر الاتفاق على صحة حديث احتجاج آدم وموسى وثبوته

قال ابن عبد البر: هذا الحديث ثابت بالاتفاق رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى من رواية الأئمة الثقات الأثبات. انتهى. وقد نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري صفحة 407 ج 11 الطبعة الأولى سنة 1325هـ. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: من كذب بهذا الحديث فمعاند لأنه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه وناهيك به عدالة وحفظا وإتقانا. انتهى. وسيأتي كلام ابن القيم في ذكر الاتفاق على صحة هذا الحديث. ونقل الحافظ ابن حجر في صفحة 410 ج 11 من فتح الباري عن ابن عبد البر أنه قال: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق في علم الله، قال: وليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعده. انتهى. وقال الحافظ في صفحة 413 ج 11 وفيه حجة لأهل السنة في إثبات القدر وخلق أفعال العباد. انتهى. وما أحسن ما فعله هارون الرشيد مع من استشكل حديث أبي هريرة رضي الله عنه في احتجاج آدم وموسى فقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه من طريق يعقوب بن سفيان قال: سمعت علي بن المديني يقول: قال محمد بن خازم: كنت أقرأ حديث الأعمش عن أبي صالح علي أمير المؤمنين هارون فكلما قلت: قال رسول الله، قال: صلى الله على سيدي ومولاي حتى ذكرت حديث «التقى آدم وموسى» فقال عمه - وسماه علي

فذهب علي - فقال: يا محمد أين التقيا؟ قال: فغضب هارون، وقال: من طرح إليك هذا؟ وأمر به فحبس ووكل بي من حشمه من أدخلني إليه في محبسه، فقال: يا محمد والله ما هو إلا شيء خطر ببالي، وحلف لي بالعتق وصدقة المال وغير ذلك من مغلظات الأيمان ما سمعت ذلك من أحد ولا جرى بيني وبين أحد في هذا كلام وما هو إلا شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام، قال: فلما رجعت إلى أمير المؤمنين كلمته قال: ليدلني على من طرح إليه هذا الكلام فقلت: يا أمير المؤمنين قد حلف بالعتق ومغلظات الأيمان أنه إنما هو شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام قال: فأمر به فأطلق من الحبس وقال لي: يا محمد ويحك إنما توهمت أنه ألقى إليه بعض الملحدين هذا الكلام الذي خرج منه فيدلني عليهم فأستبيحهم، وإلا فأنا على يقين أن القرشي لا يتزندق، قال هذا أو نحوه من الكلام. انتهى. وروى أبو عثمان الصابوني في عقيدته بإسناده عن محمد ابن حاتم المظفري قال: كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد فحدثه بحديث أبي هريرة «احتج آدم وموسى» فقال عيسى بن جعفر: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟، قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف؟ قال: فما زال يقول حتى سكت عنه. قال: الصابوني هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف على طريق الإنكار له، والابتعاد عنه ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى.

كلام بعض العلماء في الرد على الذين أنكروا حديث احتجاج آدم وموسى

الخطأ الثاني: قوله: إن ابن حجر ألحق به إشكالات كثيرة في فتح الباري، وليس الأمر كما زعمه ابن محمود فان الحافظ ابن حجر لم يلحق به إشكالات من قبل نفسه ولا عن أحد من أهل السنة، وإنما ذكر الإشكالات عن القدرية فهم سلف من استشكل هذا الحديث الصحيح. قال في فتح الباري صفحة 411 ج 11 الطبعة الأولى سنة 1325 هـ ما نصه: وقد أنكر القدرية الحديث لأنه صريح في إثبات القدر السابق وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لآدم على الاحتجاج به وشهادته بأنه غلب موسى، فقالوا: لا يصح لأن موسى لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه وقد قتل هو نفسا لم يؤمر بقتلها، ثم قال: رب اغفر لي فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غفر له. ثانيها لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذي فرغ من كتابته على العبد لكان من عوتب على معصية قد ارتكبها فيحتج بالقدر السابق، ولو ساغ ذلك لانسد باب القصاص والحدود ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضي إلى لوازم فظيعة فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له، ثم ذكر الحافظ الجواب عن قول القدرية من أوجه فليراجع ذلك في صفحة 411 ج 11 وما بعدها. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد اختلفت مسالك الناس في هذا الحديث فرده قوم من القدرية لما تضمن من إثبات القدر السابق، واحتج به قوم من الجبرية وهو ظاهر لهم بادئ الرأي حيث قال: فحج آدم موسى لما احتج عليه بتقدم كتابه - ثم ذكر قول من قال من العلماء: إن جواب آدم إنما كان احتجاجا بالقدر على المصيبة لا المعصية.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل): وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك، وقال: لو صح لطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه. وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن، ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة - ثم ذكر أمثلة مما رده أهل البدع من الأحاديث الصحيحة إلى أن قال: إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية ولهذا قال له: أخرجتنا ونفسك من الجنة. وفي لفظ خيبتنا، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي. والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي أتلومني على المصيبة

قدرت عليَّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة، هذا جواب شيخنا رحمه الله - يعني شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية. قال ابن القيم: وقد يتوجه جواب آخر وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب بنفع في موضع ويضر لي موضع فينفع إذا احتج بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمرا ولا نهيا ولا يبطل به شريعة بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة. يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملا كان مكتوبا على قبل أن أخلق، فإذا أذنب الرجل ذنبا ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول هذا أمر كان قد قدر على قبل أن أخلق، فانه لم يدفع بالقدر حقا ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به. وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلا محرما أو يترك واجبا فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره فيبطل بالاحتجاج به حقا ويرتكب باطلا كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله. ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وهو من أحسن الأجوبة عن احتجاج آدم بالقدر.

الخطأ الثالث: قوله عن الإشكالات التي نسبها إلى الحافظ ابن حجر أن أهمها أنه - أي حديث أبي هريرة رضي الله عنه - مخالف لنص القرآن في قصة آدم في قوله: ... {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وفي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}. والجواب: أن يقال أولا ليس هذا الكلام في فتح الباري فلا تصح نسبته إلى الحافظ ابن حجر. ويقال ثانيا ليس في الحديث ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه وإنما هو موافق للقرآن لما فيه من إثبات القدر السابق، وقد تقدم قول ابن عبد البر أنه أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر، وقول الحافظ ابن حجر أنه صريح في إثبات القدر السابق وقول ابن كثير أنه قد تضمن إثبات القدر السابق. الخطأ الرابع: قوله: إنه يقوي مذهب الجبر المخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة. وجوابه: أن يقال: أولا ليس هذا الكلام بهذه العبارة في فتح الباري فلا تصح نسبته إلى الحافظ بن حجر. ويقال: ثانيا: إن ابن حجر لم يقل إن هذا الحديث يقوي مذهب الجبر وإنما نقل عن ابن عبد البر أنه قال: ليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم، وقال ابن حجر أيضا في آخر الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لما كان المراد به الرد على القدرية الذين ينكرون سبق القدر اكتفى به معرضا عما يوهمه ظاهره من تقوية مذهب الجبر لما تقرر من دفعه في مكانه. الخطأ الخامس: قوله: ثم هذا اللقاء هل هو بالأرواح في الدنيا أم هو يوم القيامة حين يبعث الناس من قبورهم وتسقط عنهم التكاليف الشرعية.

وجوابه: أن يقال: أولا: ليس هذا الكلام بهذه العبارة في فتح الباري فلا تصح نسبته إلى الحافظ ابن حجر. ويقال: ثانيا: إن ابن حجر ذكر اختلاف العلماء في وقت احتجاج آدم وموسى وذكر فيها احتمالات لبعض العلماء لا دليل على شيء منها، وأقربها ما جزم به ابن عبد البر والقابسي أنهما التقيا في البرزخ بعد وفاة موسى، ويؤيد ذلك قوله في إحدى روايات مسلم: «احتج آدم وموسى عند ربهما» وقد ترجم البخاري على ذلك في كتاب القدر فقال: (باب، تحاج آدم وموسى عند الله). وأحسن ما يسلك في ذلك إمرار الحديث كما جاء مع الإيمان به، ولو كان في تعيين وقت التقائهما فائدة تعود على المكلفين لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. وأيضا فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم وأئمة العلم والهدى من بعدهم ممن روي حديث احتجاج آدم وموسى أنهم تعرضوا لذكر الاحتمالات في وقت التقاء آدم وموسى، ولو كان في ذلك فائدة دينية لكانوا إليها أسبق وعليها أحرص. وقد قال ابن الجوزي فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم، وقال ابن عبد البر: مثل هذا عندي يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلا انتهى صفحة 407 و 408 ج 11.

كلام ابن محمود في حديث ابن مسعود الذي فيه إثبات كتابة المقادير على الجنين وهو في بطن أمه

التنبيه الخامس قال ابن محمود في صفحة 19 و 20 و 21 ما ملخصه: وأما الحديث الثاني الذي يحتج به القدرية من أمثال هؤلاء فهو في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فو الذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». إن هذا الحديث كثيرا ما يجادل به الجهلة من خاصة الشباب الذين لم يعرفوا حقيقة القدر لظنهم أنهم مجبورون على أفعالهم الخيرية والشرية فيذهب فهمهم إلى أن بعض الناس مكتوب لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم مهما عملوا من عمل وآخرون مكتوب لهم الشقاوة مهما عملوا من عمل، فيظنون إن هذا القدر المكتوب هو عبارة عن الجبر وسلب الاختيار، والتحقيق أن الكتابة نوعان، كتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وان الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم، فهذه لا تتبدل ولا تتغير وتسمى كتابة الأزل، وعلمه سبحانه لا يتعلق به إجبارهم على فعل الخير أو الشر بل هم عاملون لأنفسهم مختارون لأعمالهم الصالحة والسيئة فهي كسبهم ويترتب الجزاء على ذلك.

وأما قوله: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان وذلك أن الرجل يولد مؤمنا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته وتجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره، ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته، وليس سبق الكتاب الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة، وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه. وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فهو رجل يولد كافراً ويعيش كافرا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك، وفي حديث أبي سعيد مرفوعا «إن الرجل يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ثم يموت كافرا، وإن الرجل يولد كافرا ويعيش كافرا ثم يموت مؤمنا» رواه الإمام أحمد، وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته انتهى كلام ابن محمود. وأقول: هذا الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه من أدلة إثبات القدر السابق وفيه الرد على من أنكر كتابه المقادير وعلى من زعم أن الكتابة عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وذلك لما فيه من النص على الكتابة وهو نص صريح لا يحتمل التأويل.

كلام العلماء في حديث ابن مسعود

قال النووي في شرح مسلم: المراد بجميع ما ذكر من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة والعمل والذكورة والأنوثة أنه يظهر ذلك للملك ويأمره بإنفاذه وكتابته وإلا فقضاء الله تعالى سابق على ذلك وعلمه وإرادته لكل ذلك موجود في الأزل قال: وفي هذا الحديث تصريح بإثبات القدر. انتهى. وسيأتي في كلام ابن القيم أن حديث ابن مسعود وما في معناه كلها تدل على إثبات القدر السابق. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في ذكر فوائد حديث ابن مسعود رضي الله عنه: وفيه أن الأعمال حسنها وسيئها أمارات وليست بموجبات وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء قاله الخطابي. وقال الحافظ أيضا: وفيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق فالسابق ما في علم الله تعالى واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه، كما وقع في هذا الحديث، وهذا هو الذي يقبل النسخ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى. وقال الحافظ أيضا: وفي الحديث أن الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة. انتهى. وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة».

الرد على أخطاء ابن محمود فيما يتعلق بحديث ابن مسعود

وروى مسلم أيضا عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة». وروى ابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمن أهل الجنة» وهذه الأحاديث تؤيد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتدل على إثبات القدر السابق. أما قول ابن محمود فيذهب فهمهم إلى أن بعض الناس مكتوب لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم مهما عملوا من عمل وآخرون مكتوب لهم الشقاء مهما عملوا من عمل. فيقال له: وما تنكر من ذلك وقد أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في حديث ابن مسعود المتفق على صحته أن السعادة أو الشقاوة تكتب للإنسان وهو في بطن أمه، فمن كان من أهل السعادة ختم الله له بعمل أهل السعادة ولو عمل قبل ذلك أي عمل من أعمال أهل النار، ومن كان من أهل الشقاوة ختم الله له بعمل أهل الشقاوة ولو عمل قبل ذلك أي عمل من أعمال أهل الجنة. ولم ينفرد ابن مسعود رضي الله عنه برواية ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بل قد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. منها ما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه».

ومنها ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة - وقال سفيان مرة: أو خمس وأربعين ليلة - فيقول: يا رب، ماذا أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله تبارك وتعالى فيكتبان فيقولان: ماذا أذكر أم أنثى؟ فيقول الله عز وجل فيكتبان فيكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص» هذا لفظ أحمد وإسناده إسناد مسلم، ولفظ مسلم قال: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول: أي رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويكب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص». وفي رواية لمسلم عن عامر بن واثلة رضي الله عنه أنه سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص».

وفي رواية لمسلم أيضا عن أبي الطفيل - وهو عامر بن واثلة رضي الله عنه - قال: دخلت على أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتصور عليها الملك قال زهير - وهو أبو خيثمة أحد رواته -: حسبته قال الذي يخلقها، فيقول: يا رب أذكر أو أنثى؟ فيجعله الله ذكرا أو أنثى، ثم يقول: يا رب أسوي أو غير سوي؟ فيجعله لله سويا أو غير سوي، ثم يقول: يا رب ما رزقه ما أجله ما خلقه؟ ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا». ومنها ما رواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استقرت النطفة في الرحم أربعين يوما وأربعين ليلة بعث الله إليها ملكا فيقول: يا رب ما أجله فيقال له فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيعلم فيقول: شقي أو سعيد فيعلم» قال الهيثمي: فيه خصيف وثقه ابن معين وجماعة وفيه خلاف وبقية رجاله ثقات. ومنها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يخلق نسمة قال ملك الأرحام معرضا: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله أمره ثم يقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها». وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: عن ابن عمر رضي الله عنهما ثم قال: رواه أبو يعلي والبزار ورجال أبي يعلي رجال الصحيح، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ومنها ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وأبو بكر الآجري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إن الله عز وجل حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول: أي رب ماذا؟ فيقول: غلام أو جارية؟ أو ما شاء الله أن يخلق في الرحم فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله؟ فيقول: كذا وكذا فيقول: أي رب وما رزقه؟ فيقول: كذا وكذا فيقول: ما خلقه ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم» ورواه البزار قال الهيثمي: ورجاله ثقات. ومنها ما رواه البزار والطبراني في الصغير، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطنها» قال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح. ومنها ما رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله عز وجل يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا» ورواه الطبراني بمثله قال الهيثمي: وإسناده جيد. ومنها ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم وأبو داود السجستاني، والترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرق أبويه طغيانا وكفرا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهذه الأحاديث الصحيحة تؤيد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتدل على أن السعادة أو الشقاوة تكتب للإنسان وهو في بطن أمه. وهذه الكتابة غير الكتابة التي كانت في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

ذكر الأقلام الأربعة وكتابة المقادير

قد قال شارح العقيدة الطحاوية بعد ما ذكر حديث جابر وحديث ابن عباس رضي الله عنهم في ذكر الأقلام وكتابة المقادير؛ قال: وقد جاء الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة فدل ذلك على أن للمقادير أقلاما غير القلم الأول الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ، والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة: القلم الأول العام الشامل لجميع المخلوقات وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ. القلم الثاني خبر خلق آدم وهو قلم عام أيضا لكن لبني آدم. ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقيب خلق أبيهم. القلم الثالث حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة. القلم الرابع الموضوع على العبد عند بلوغه الذي بأيدي الكرام الكاتبين الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم كما ورد ذلك في الكتاب والسنة، وإذا علم العبد أن كلا من عند الله فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل) بعد أن ساق حديث ابن مسعود وما في معناه كحديث أنس وحديث حذيفة بن أسيد وغيرها من الأحاديث التي فيها النص على كتابة رزق الجنين وأجله وذكورته أو أنوثته وشقاوته أو سعادته؛ قال: فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته أو سعادته وهو في بطن أمه واختلفت في وقت هذا التقدير. وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السموات والأرض، وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم. ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم. وحديث أنس غير مؤقت. وأما حديث حذيفة بن

ذكر أحاديث كثيرة تؤيد حديث ابن مسعود في إثبات القدر السابق

أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوماً، وفي لفظ بأربعين ليلة، وفي لفظ ثنتين وأربعين ليلة، وفي لفظ بثلاثة وأربعين ليلة. وهو حديث تفرد به مسلم ولم يروه البخاري، وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين ولا تعارض بينهما بحمد الله، وأن لملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى حين يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة. وأما الملك الذي ينفخ فيه فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته، وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنقطة، ولهذا قال في حديث ابن مسعود: ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات. وأما الملك الموكل بالنطفة فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حين تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما فهو تقدير بعد تقدير. فاتفقت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا ودلت كلها على إثبات القدر السابق ومراتب التقدير. انتهى. وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الله تعالى قضى بالسعادة لبعض الناس قبل أن يخلقهم وقضى بالشقاوة لبعض الناس قبل أن يخلقهم وفي بعضها أنه كتب ذلك؛ وهي تؤيد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتدل على كتابة القدر السابق وسأذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى وبه الثقة. الحديث الأول عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فرغ الله إلى كل عبد من خمس من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد» رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط قال الهيثمي: وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات، ورواه عبد الله بن الإمام

أحمد في كتاب السنة، وإسناده حسن، وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرغ الله إلى كل عبد من خمس من رزقه وأجله وعمله وأثره ومضجعه». عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة» قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال: «اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان وأهل السنن إلا النسائي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال النووي في الكلام على هذا الحديث مشيرًا إلى جميع طرقه التي ساقها مسلم: وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها، قال الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فهو ملك لله تعالى يفعل ما يشاء ولا اعتراض على المالك في ملكه، قال: وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره ومن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعملهم كما قال: فسنيسره لليسرى وللعسرى وكما صرحت به هذه الأحاديث. انتهى.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله العمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف قال: (بل على أمر قد فرغ منه) قال: قلت: ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني قال الهيثمي، وقال: عن عطاف بن خالد حدثني طلحة بن عبد الله وعطاف وثقه ابن معين وجماعة وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات إلا أن في رجال أحمد رجلا مبهما لم يُسم. قلت: وما يأتي من الأحاديث الصحيحة يشهد له ويقويه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال: للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت ما نعمل فيه أقد فرغ منه أو في شيء مبتدأ أو أمر مبتدع قال: «فيما قد فرغ منه» فقال: مر رضي الله عنه ألا نتكل فقال: «اعمل يا ابن الخطاب فكل ميسر أما من كان من أهل السعادة فيعمل للسعادة وأما أهل الشقاء فيعمل للشقاء» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن علي وحذيفة بن أسيد وأنس وعمران بن حصين رضي الله عنهم. قلت: وقد تقدم ذكر أحاديثهم. وفي رواية للترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله فعلى ما نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه قال: «بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله أرأيت ما نعمل أشيء فرغ منه أم شيء يستأنف قال: «بل شيء قد فرغ منه» قال: ففيم العمل؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» رواه البزار قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله نعمل في شيء نأتنفه أم في شيء قد فرغ منه قال: «في شيء قد فرغ منه» قال: ففيم العمل؟ قال: «يا عمر لا يدرك ذاك إلا بالعمل» قال: إذا نجتهد يا رسول الله ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحو رواية ابن حبان وإسناده صحيح. وعن جابر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أنعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نأتنفه قال: «بل لأمر قد فرغ منه» قال: ففيم العمل إذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عامل ميسر لعمله» رواه ابن حبان في صحيحه. وعن جابر أيضا رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن مالك ابن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وابن حبان في صحيحه، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. وزاد ابن حبان قال سراقة: فلا أكون أبدا أشد اجتهادا في العمل منى الآن. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله أرأيت ما نعمل أمر قد فرغ منه أم أمر نستأنفه قال: «بل أمر - قد فرغ منه» قالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله: قال: «كل

امرئ مهيأ لما خلق له» رواه الإمام احمد وابنه عبد الله بسند حسن. وعن ذي اللحية الكلابي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أنعمل في أمر مستأنف أو في أمر قد فرغ منه؟ قال: «بل في أمر قد فرغ منه» قال: ففيم نعمل إذا؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» رواه الإمام أحمد والطبراني. قال الهيثمي: ورجاله ثقات. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله أنعمل فيما جرت به المقادير وجف به القلم أو شيء يأتنفه؟ قال: «بل بما جرت به المقادير وجف به القلم» قال: ففيم العمل؟ قال: «اعمل فكل ميسر لما خلق له» رواه الطبراني والبزار بنحوه إلا أنه قال في آخره فقال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذا. قال الهيثمي: ورجال الطبراني ثقات. وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أنعمل شيئا قد فرغ منه أم نستأنف العمل؟ قال: «بل لعمل قد فرغ منه» فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ميسر له عمله» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن الجد الآن الجد» رواه الطبراني قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح وقد رواه ابن ماجه بنحوه مختصرا. وعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم، قال: فقال: أفلا بيكون ظلما قال: ففزعت من ذلك فزعا

شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك ألا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: «لا بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}» رواه مسلم، وقد رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي بدون قصة أبي الأسود مع عمران رضي الله عنه وتقدم ذكره. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال عياض: أورد عمران على أبي الأسود شبهة القدرية من تحكمهم على الله ودخولهم بآرائهم في حكمه، فلما أجابه بما دل على إثباته في الدين قواه بذكر الآية وهي حد لأهل السنة. وقوله كل شيء خلق الله وملكه يشير إلى أن المالك الأعلى الخالق الآمر لا يعترض عليه إذا تصرف في ملكه بما يشاء وإنما يعترض على المخلوق المأمور. انتهى. وعن يحي بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قالا: لقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فذكرنا القدر وما يقولون فيه - فذكر الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن وقت الساعة وأشراطها. قال: وسأله رجل من جهينة أو مزينة فقال: يا رسول الله فيما نعمل أفي شيء قد خلا أو مضى أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: «في شيء قد خلا أو مضى» فقال -أو بعض القوم-: يا رسول الله فيما نعمل؟ قال: «أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة وأهل

النار ييسرون لعمل أهل النار» رواه الإمام أحمد وأبو داود وإسناد كل منهما صحيح. وقد ساق مسلم إسناده ولم يذكر لفظه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله أَعُلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: فقال: «نعم» قال: قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان وأبو داود السجستاني وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري قال رجل يا رسول الله أيُعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: «نعم» قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: «كل يعمل لما خلق له أو لما ييسر له». قوله أعلم قال الحافظ ابن حجر: بضم العين والمراد بالسؤال معرفة الملائكة أو من أطلعه الله على ذلك. انتهى. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان فقلنا لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يراد فيهم ولا ينقص منهم أبدا» فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: «سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال: «فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» رواه الإمام أحمد

والترمذي وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح قال: وفي الباب عن ابن عمر. وعن هشام بن حكمي بن حزام رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفه فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار» رواه البزار وابن جرير والطبراني وابن مروديه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، قال الهيثمي: وإسناد الطبراني حسن. وعن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار ويعمل أهل النار يعملون» فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وعن عبد الرحمن بن قتادة السلمي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلق الله آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر» رواه الإمام أحمد قال الهيثمي: ورجاله ثقات. ورواه ابن حبان في صحيح والحاكم في مستدركه وقال فيه «على موافقة القدر» وقال: صحيح قد اتفقا على الاحتجاج برواته عن آخرهم إلى الصحابة ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم حين خلقه وضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم فقال للذي في يمينه إلى الجنة ولا أبالي وقال للذي في كفه اليسرى إلى النار ولا أبالي» رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله والبزار والطبراني، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وعن أبي بصرة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا: ما يبكيك ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ من شاربك ثم أَقِرَّهُ حتى تلقاني» قال: بلى ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى وقال: هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي» فلا أدري في أي القبضتين أنا» رواه الإمام أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم. وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في القبضتين: «هذه في الجنة ولا أبالي وهذه في النار ولا أبالي» رواه البزار، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير نمر بن هلال وثقه أبو حاتم.

الجمع بين الأحاديث التي فيها النص على الفراغ من أمر العباد وبين قول الله تعالى {يمحو الله ما يشاء ويثبت}

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في القبضتين: «هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه» قال: فتفرق الناس وهم لا يختلفون في القدر، رواه البزار والطبراني في الصغير قال الهيثمي: ورجال البزار رجال الصحيح. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال: «أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن إلا الترمذي. وهذه الأحاديث تؤيد حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره وتدل على إثبات القدر السابق، وفي بعضها أن الله تعالى ميز بين السعداء والأشقياء من حين خلق آدم، وهذا مما يجب الإيمان به. وكثير من العصريين ينكرون هذا ويكذبون بالأحاديث الواردة فيه وما ذاك إلا لجهلهم بالكتاب والسنة وإعراضهم عن الأخذ منهما. وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. فإن قيل فما الجمع بين ما تقدم ذكره من الأحاديث التي فيها النص على فراغ الرب تبارك وتعالى من أمر العباد وإن كلا ميسر لما خلق له وبين قول الله تعالى: ... {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.

فالجواب: أن يقال أما ما جاء في الأحاديث التي تقدم ذكرها فهي نصوص لا تحتمل التأويل وليس في معناها اختلاف بين أهل السنة والجماعة، وأما ما جاء في الآية الكريمة فهو مجمل. وقد اختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال ذكرها ابن الجوزي في تفسيره وذكرها غيره من المفسرين، أحدها أنه عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة وهذا مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما وأبي وائل والضحاك وابن جريج. والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد، وقال ابن قتيبة (يمحو الله ما يشاء) أي: ينسخ من القرآن ما يشاء (ويثبت) أي: يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم. والثالث: أنه يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ودليل هذا القول ما رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقول الملك الموكل أذكر أم أنثى؟، فيقضي الله تعالى ويكتب الملك فيقول أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله ويكتب الملك فيقول عمله وأجله، فيقضي الله يكتب الملك ثم تطوى الصحيفة فلا يراد فيها ولا ينقص منها». والرابع يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة لا يغيران قاله مجاهد. والخامس يمحو من جاء أجله ويثبت من لم يجئ أجله قاله الحسن.

والسادس يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها روي عن سعيد بن جبير. والسابع يمحو ما يشاء بالتوبة ويثبت مكانها حسنات قاله عكرمة. والثامن يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه ثواب وعقاب قاله الضحاك وأبو صالح. وقال ابن السائب: القول كله يكتب حتى إذا كان في يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب مثل قولك أكلت شربت دخلت خرجت ونحوه وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب انتهى كلام ابن الجوزي. وأولى هذه الأقوال بالصواب ما وافق الأحاديث التي تقدم ذكرها وهو ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت، ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم لا تعارض بأقوال غيره من الناس كائنا من كان لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله تعالى من غيره وهو الذي يبين مراد الله من كتابه كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. فلو كانت الآية التي تقدم ذكرها تدل على وقوع المحو في السعادة والشقاوة والحياة والموت لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يقل بخلافه والله أعلم. فان قيل فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه»، وروى البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر». وروي الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مكتوب في التوراة من سره أن تطول حياته ويزاد في رزقه فليصل رحمه» صححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه. وروى الحاكم أيضا عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يمد الله في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه». وروى الحاكم أيضا عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يمد في عمره ويبسط في رزقه فليصل رحمه» وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر» صححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه، وروى البخاري في الأدب المفرد عن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بر والديه طوبى له زاد الله عز وجل في عمره» وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، «صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار». فالجواب: أن يقال: إن ظاهر هذه الأحاديث يوافق قول من قال أن المحو والإثبات يقع في الرزق والأجل وهو ظاهر ما تقدم ذكره عن مجاهد، وللعلماء في تأويل هذه الأحاديث

أجوبة ذكرها النووي في شرح مسلم وابن حجر العسقلاني في فتح الباري، فأما النووي فقال في شرح حديث أنس الذي تقدم ذكره: قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» ينسأ مهموز أي يؤخر، والأثر الأجل لأنه تابع للحياة في أثرها وبسط الرزق توسيعه وكثرته، وقيل البركة فيه، وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}. وأجاب العلماء بأجوبة الصحيح منها أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. والثاني أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فبالنسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدره لا زيادة بل هي مستحيلة وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث، والثالث أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت حكاه القاضي وهو ضعيف أو باطل والله أعلم. انتهى. وأما الحافظ ابن حجر فقال في شرح حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما: قوله: «وينسأ» بضم أو له وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر، قوله: «في أثره» أي في أجله وسمى الأجل أثرا لأنه يتبع العمر، قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} والجمع بينهما من وجهين أحدهما أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب

التوفيق للطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضي من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة الجارية عليه والخلف الصالح. ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة إن وصل رحمه وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق، والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب فإن الأثر ما يتبع الشيء فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور، وقال الطيبي: الوجه الأول أظهر وإليه يشير كلام صاحب الفائق، قال: ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ولما انشد أبو تمام قوله في بعض المراثي: توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر قال له أبو دلف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر، ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام: «واجعل لي لسان صدق

في الآخرين» وقد ورد في تفسيره وجه ثالث فأخرج الطبراني في الصغير بسند ضعيف عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله فقال: «إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الآية ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده» وله في الكبير من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه «إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما زيادة العمر ذرية صالحة» الحديث. وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله وقال غير في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك. انتهى. وقد روى ابن أبي حاتم حديث أبي مشجعة ابن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر». وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع برزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فوالله إن أحدكم - أو الرجل - ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها

غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها». فيه أن السعيد قد يشقى وأن الشقي قد يسعد لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة. وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير، وفيه أن الاعتبار بالخاتمة، قال ابن أبي جمرة: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم، وفيه أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية مخصوص بمن مات على ذلك، وأن من عمل عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس، وما ورد مما يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث، وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله. والحق أن النزاع لفظي وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله. انتهى. وقد جاء في حديث صحيح أن ما سبق به القضاء والقدر من الرزق والأجل لا يتغير ولا يتبدل، فروى مسلم في صحيحه عن المعرور بن سويد عن عبد الله قال: قالت أم حبيبه زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا عن حله ولو كنت سألت

الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل». قال النووي في شرح مسلم: هذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله تعالى وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك، وأما ما ورد في حديث صلة الرحم تزيد في العمر ونظائره فقد سبق تأويله في باب صلة الأرحام واضحا، قال المازري: هنا قد تقرر بالدلائل القطعية أن الله تعالى أعلم بالآجال والأرزاق وغيرها وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه، فإذا علم الله تعالى أن زيدا يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها لئلا ينقلب العلم جهلا، فاستحال أن الآجال التي علمها الله تعالى تزيد وتنقص فيتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكله الله بقبض الأرواح وأمره فيها بآجال ممدودة فإنه بعد أن يأمره بذلك أو يثبته في اللوح المحفوظ ينقص منه ويزيد على حسب ما سبق به علمه في الأزل وهو معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وعلى ما ذكرناه يحمل قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}. واعلم أن مذهب أهل الحق أن المقتول مات بأجله وقالت المعتزلة: قطع أجله، فإن قيل ما الحكمة في نهيها عن الدعاء بالزيادة في الأجل لأنه مفروغ منه وندبها إلى الدعاء بالاستعاذة من العذاب مع أنه مفروغ منه أيضا كالأجل، فالجواب أن الجميع مفروغ منه لكن الدعاء بالنجاة من عذاب النار ومن عذاب القبر ونحوهما عبادة، وقد أمر الشرع بالعبادات فقيل ألا نتكل على كتابنا وما سبق لنا من القدر فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وأما الدعاء بطول الأجل فليس عبادة وكما لا يحسن ترك الصلاة والصوم والذكر اتكالا على القدر فكذا الدعاء بالنجاة من النار ونحوه والله أعلم. انتهى.

جواب حسن لشيخ الإسلام ابن تيمية عن حديث إن الله قبض قبضتين

وقد سئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الحديث الذي ورد «إن الله قبض قبضتين فقال: هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي» فهل هذا الحديث صحيح والله قبضها بنفسه أو أمر أحدا من الملائكة بقبضها؟ والحديث الآخر في «إن الله لما خلق آدم أراه ذريته عن اليمين والشمال ثم قال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي» وهذا في الصحيح. فأجاب رحمه الله تعالى نعم هذا المعنى مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة مثل ما في موطأ مالك وسنن أبي داود والنسائي وغيره عن مسلم بن يسار وفي لفظ عن نعيم بن ربيعه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية - فذكر الحديث وقد تقدم ذكره قريبا - قال وفي حديث الحكم بن سفيان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قبض قبضة فقال: إلى الجنة برحمتي وقبض قبضة فقال: إلى النار ولا أبالي». وهذا الحديث ونحوه فيه فصلان أحدهما القدر السابق وهو أن الله سبحانه علم أهل الجنة من أهل النار من قبل أن يعملوا الأعمال، وهذا حق يجب الإيمان به، بل قد نص الأئمة كما لك والشافعي وأحمد أن من جحد هذا فقد كفر بل يجب الإيمان أن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون، ويجب الإيمان بما أخبر به من أنه كتب ذلك وأخبر به قبل أن يكون كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين

ألف سنة وكان عرشه على الماء» وذكر الشيخ أيضا حديث عمران بن حصين الذي فيه «كان الله ولم يكن شيء غيره وكتب في الذكر كل شيء» وقد تقدم ذكره، وذكر أيضا حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته» الحديث، وذكر أيضا حديث ميسرة الفجر قلت: يا رسول الله متى كتبت نبيا؟. وفي لفظ متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد». وذكر أيضا حديث ابن مسعود رضي الله عنه فيما يكتب للجنين وهو في بطن أمه وقد تقدم ذكره، وذكر أيضا حديث علي بن أبي طالب الذي فيه «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة» وقد تقدم ذكره، وذكر أيضا الحديث الذي فيه أنه قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار فقال: «نعم» فقيل له ففيم العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قال: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله علم أهل الجنة من أهل النار وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلموا على هذا الكتاب ويدعو العمل كما يفعله الملحدون وقال: كل ميسر لما خلق له، وأن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا من أحسن ما يكون من البيان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه وهو قد جعل للأشياء أسبابا تكون بها فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا إذا علم الله أنه يولد لي فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق أن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء، وكذلك إذا علم أن هذا ينبت له الزرع بما يسقيه من الماء ويبذره من الحب فلو قال إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى البذر كان جاهلا ضالا لأن

الله علم أن سيكون بذلك، وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل وهذا يروى بالشرب وهذا يموت بالقتل فلابد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها، وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدا في الآخرة وهذا يكون شقيا في الآخرة قلنا ذلك لأنه يعمل بعمل الأشقياء، فالله علم أنه يشقى بهذا العمل، فلو قيل هو شقي وإن لم يعمل كان باطلا لأن الله لا يدخل النار أحدا إلا بذنبه كما قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه، ومن ابتع إبليس فقد عصى الله تعالى ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله. ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) يعني إن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا. وقد روي أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية. وكذلك الجنة خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته فمن قدر أنه يكون منهم يسره للإيمان والطاعة، فمن قال أنا أدخل الجنة سواء كنت مؤمنا أو كافرا إذا علم أني من أهلها كان مفتريًا على الله في ذلك فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان فإذا لم يكن معه إيمان لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة، بل من لم يكن مؤمنا بل كافرا فإن الله يعلم أنه من أهل النار لا من أهل الجنة. ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالا على القدر كان مخطئا أيضا لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه، وإذا قدر

للعبد خيرا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات. ولهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات بل لابد من ريح مربية بإذن الله، ولابد من صرف الآفات عنه، فلابد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يوجد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع، وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة بل هي سبب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وقد قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهذه الباء باء السبب، أي بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم باء المقابلة كما يقال اشتريت هذا بهذا، أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة بل لابد من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف البركات. وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس، فريق آمنوا بالقدر وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة وهؤلاء يؤول بهم الأمر

إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه، وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلبه الأجير من المستأجر متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به. ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو سبحانه كما قال: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن العالمين. فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فعليها، لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} - إلى أن قال - فمن أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد ناظرًا إلى القدر فقد ضل، بل المؤمن كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فنعبده اتباعا للأمر ونستعينه إيمانا بالقدر، فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته كما يزعم القدرية والمجوسية فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه لكل شيء. ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد ويسر له ذلك كان محمودًا سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده واستحق من غضبه وعقابه أعظم مما يستحقه الأول، فإن العبد قد يريد ما يرضاه ويحبه ويأمر به ويقرب إليه، وقد يريد ما يبغضه الله ويكرهه ويسخطه وينهى عنه ويعذب صاحبه، فكل من هذين قد يسر له ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر لعمل

ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن غلاة القدرية

أهل الشقاوة»، ولما كان العبد ميسرا لما لا ينفعه، بل يضره من معصية الله والبطر والطغيان وقد يقصد عبادة الله وطاعته والعمل الصالح فلا يتأتى له ذلك أمر في كل صلاة أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والعبد له في المقدور حالان حال قبل القدر وحال بعده فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك. وإن كان ذنبا استغفر إليه من ذلك. وله في المأمور حالان حال قبل الفعل وهو العزم على الامتثال والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان» فأمره إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر ولا يتحسر على الماضي بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالنظر إلى القدر عند المصائب والاستغفار عند المعائب قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال علقمة وغيره: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم انتهى كلامه ملخصا. وقال شيخ الإسلام أيضا في جواب آخر: وأما الإقرار بتقديم علم الله وكتابه لأفعال العباد فهذا لم ينكره إلا الغلاة من القدرية وغيرهم وإلا فجمهور القدرية من المعتزلة وغيرهم يقرون بأن الله علم ما العباد فاعلون قبل أن يفعلوه ويصدقون

كلام حسن لابن القيم في أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الإتكال عليه

بما أخبر به الصادق المصدوق من أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وذكر الشيخ أيضا حديث عمران بن حصين «كان الله ولم يكن شيء قبله وكتب في الذكر كل شيء» وحديث ابن مسعود «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه» وقد تقدم ذكرهما ثم قال: فهذا يقرُّ به أكثر القدرية وإنما ينكره غلاتهم كالذين ذكروا لعبد الله بن عمر في الحديث الذي رواه مسلم في أول صحيحه بحيث قيل له «قبلنا أقوام يقرءون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني برءاء» ولهذا كَفَّرَ الأئمة كمالك والشافعي وأحمد من قال: إن الله لم يعلم أفعال العباد حتى يعملوها، بخلاف غيرهم من القدرية انتهى من صفحة 429 و 430 ج8 مجموع الفتاوى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الباب السابع من كتابه (شفاء العليل): يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال وأن ما قضاه الرب سبحانه وقدره لابد من وقوعه فتوسط العمل لا فائدة

فيه، وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى. ثم ذكر ابن القيم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي فيه «اعملوا فكل ميسر» وحديث جابر في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم، وحديث عمران بن حصين الذي فيه «أعلم أهل الجنة من أهل النار» وحديثه أيضا في سؤال الجهني أو المزني، وحديث ابن عمران عمر رضي الله عنه قال: يا نبي الله فعلى ما نعمل. وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث قريبا فلتراجع، ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال ما كنت أشد اجتهادا مني الآن. وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه. وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه، وإذا قدر له أن يرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسري والوطء، وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المغل كذا وكذا لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع، وإذا قدر الشبع والري فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب، وهذا شأن أمور المعاش والمعاد فمن طل العمل اتكالا على القدر السابق فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالا على ما قدر له.

وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم فإنه سبحانه رب الدنيا والآخرة وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة فهو مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال ما كنت أشد اجتهادا مني الآن. فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه ... إلى أن قال: فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتضٍ لها، لا أنه مناف لها وصاد عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم. فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سببا السعادة، الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد أو القدح بإثباته في أصل الشرع ولم تتسع عقولهم التي لم يلق الله عليها من نوره للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه وهو القدر والشرع والخلق والأمر، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والنبي

تخليط ابن محمود في تنويع كتابة المقادير، والرد عليه

صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة، وقد تقدم قوله: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزنَّ» وإن العاجز من لم يتسع للأمرين. انتهى. وأما قول ابن محمود والتحقيق أن الكتابة نوعان كتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وأن الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم فهذه لا تتبدل ولا تتغير وتسمى كتابة الأزل. فجوابه: من وجوه أحدها أن يقال ليس ما ذكره بتحقيق وإنما هو في الحقيقة تخليط وتلبيس كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني أن ما ذهب إليه من تنويع الكتابة فيما يتعلق بالجنين لا أصل له ولم يسبقه أحد إلى هذا التنويع الباطل. يوضح ذلك الوجه الثالث وهو أن العلم القائم بالذات لا يسمى كتابة وإنما يسمى علما فقط، ولا أعلم أحدا سبق ابن محمود إلى القول بأن العلم القائم بالذات يسمى كتابة ولا أظن أن عاقلا يوافقه على هذه التسمية المحدثة. الوجه الرابع أن ابن محمود زعم أن الكتابة نوعان ولم يذكر سوى سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وزعم أنها تسمى كتابة الأزل ولم يذكر النوع الثاني فصار أحد نوعيه باطلا والآخر معدوما. الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم نص في حديث ابن مسعود رضي الله عنه على أن الملك يرسل إلى الجنين إذا تم له مائة وعشرون يوما فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات

يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ونص أيضا في حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن الملك يقول: يا رب أشفي أو سعيد فيكتبان فيقول: أي رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص، وفي رواية أن الملك يقول: يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله فيقول: ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص. وفي النصوص على كتابة الملك لما يقضي الله في الجنين وعلى طي الصحف وخروج الملك بها في يده وأنه لا يزيد على ما أمر به ولا ينقص أبلغ رد على ما ابتدعه ابن محمود وخالف به أهل السنة والجماعة حيث زعم أن هذه الكتابة عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وأن الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم. الوجه السادس أن يقال لا شك أن الله تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها وأنه يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وعلمه تبارك وتعالى بجميع الأشياء صفة من صفاته، وأما الكتابة فهي فعل الملك يكتب ما أمره الله به من أمر الجنين ثم يطوي الصحيفة التي كتب فيها ويخرج بها في يده فلا يزيد على ما أمر به ولا ينقص, وفعل الملك مخلوق وصحيفته مخلوقة ومع ذلك فقد زعم ابن محمود أن كتابة الملك لما يتعلق بالجنين هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها فجعل المخلوق صفة من صفات الله وهذا غاية التخليط والتلبيس.

الوجه السابع أن يقال: إن الأزلي هو القديم الذي لم يزل، قال ابن منظور في لسان العرب: الأزل بالتحريك القِدم قال أبو منصور: ومنه قولهم هذا شيء أزلي أي قديم وذكر بعض أهل العلم أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا بالاختصار فقالوا يزلي ثم أبدلت الياء ألفا لأنها أخف فقالوا أزلي. انتهى. وإذا علم أن الأزل هو القدم وأن الأزلي هو القديم الذي لم يزل فلا يخفى ما في قول ابن محمود من الخطأ والتخطيط حيث زعم أن كتابة الملك لما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه تسمى كتابة الأزل. الوجه الثامن أن يقال: إن كتابة المقادير ليست بأزلية وإنما كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقد تقدم ذكره، وهذه الكتابة هي كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، وإذا كانت الكتابة السابقة على خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ليست أزلية فمن باب أولى نفي الأزلية عن كتابة ما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه. الوجه التاسع أنه يلزم على القول بأن كتابة المقادير أزلية أن يكون القلم واللوح المحفوظ أزليين وأن تكون الصحيفة التي يكتب فيها الملك ما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه أزلية، وهذا موافق لقول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، والقول بقدم العالم كفر بلا نزاع. وأما قول ابن محمود؛ وعلمه سبحانه لا يتعلق به إجبارهم على فعل الخير أو الشر بل هم عاملون لأنفسهم مختارون لأعمالهم الصالحة والسيئة فهي كسبهم ويترتب الجزاء على ذلك.

خطؤه في معنى سبق الكتاب والرد عليه

فجوابه: أن يقال: إن جميع ما يفعله العباد من خير أو شبر وما يعملونه من أعمال صالحة أو سيئة فكل ذلك قد سبق به القضاء والقدر وكتب في اللوح المحفوظ وكتبه أيضا الملك الذي يرسله الله إلى الجنين وهو في بطن أمه، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وكل ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاوة. ومن زعم أن العباد يعملون على أمر مبتدأ لم يسبق به القضاء والقدر ولم يكتب في اللوح المحفوظ ولم يكتبه الملك الموكل بالجنين فهو من القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة. وأما قوله فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان. فجوابه: من وجهين أحدهما أن يقال: أما قوله: إن سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان فهو خطأ ظاهر لما يلزم عليه من إلغاء النص الصريح في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الله تبارك وتعالى يرسل الملك إلى الجنين فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وإلغاء ما جاء في حديث حذيفة ابن أسيد رضي الله عنه أن الملك يقول: يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان فيقول: أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص وفي رواية ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص، ففي هذا الحديث الصحيح النص على الكتابة وعلى الصحف التي يكتب الملك فيها ما يقضي الله في الجنين وأنها تطوى ويخرج الملك بها في يده. وعلى قول ابن محمود تكون كتابة الملك والصحف التي يكتب فيها ثم يطويها ويخرج بها في يده اسما لا مسمى له ولفظا لا معنى له، وأن تكون النصوص على الكتابة والصحف

وطيها وخروج الملك بها في يده لغوا لا فائدة في ذكره، وما لزم عليه ما ذكرنا فهو قول سوء يجب اطراحه ورده. الوجه الثاني: أن يقال: لا شك أن الله عالم بخاتمة حياة كل إنسان، وعلمه بذلك أزلي لا أول له، وأما كتابة الملك لما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه فكان أولها حين حملت حواء بأول أولادها ولا تزال مستمرة لكل جنين إلى يوم القيامة، ومن جعل هذه الكتابة وعلم الله الأزلي شيئا واحدا فقد جمع بين ما فرق الله بينه وتأول كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ما يراد به. وأما قوله عن الذي يختم له بسوء الخاتمة أنه الرجل يولد مؤمنا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته ويجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته، وليس سبق الكتاب الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه. فجوابه: أن يقال: ليس من شرط الذي يختم له بسوء الخاتمة أن يولد بين أبوين مؤمنين كما قاله ابن محمود، بل قد يولد بين أبوين كافرين ثم يسلم وقد يولد بين أبوين أحدهما مسلم والآخر كافر ويكون هو مسلما وقد يولد بين أبوين مسلمين وينشأ على الإسلام ويعمل بعمل أهل الجنة فإذا كان في آخر عمره عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإنما يسير في جميع أحواله وأعماله الصالحة والطالحة منذ نشأته

إلى حين موته على وفق ما سبق به القضاء والقدر وكتب في اللوح المحفوظ ثم كتبه الملك الموكل به وهو في بطن أمه، فما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وليس معنى هذا أنه مجبر على شيء من أعماله وإنما هو يعمل باختياره ورغبته، وأعماله الاختيارية تؤدي به إلى موافقة القضاء والقدر. وقد روى البزار والطبراني في الصغير والكبير عن العرس ابن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليعمل البرهة بعمل أهل النار ثم تعرض له الجادة من جواد الجنة فيعمل بها حتى يموت عليها وذلك لما كتب له وإن الرجل لعمل بعمل أهل الجنة البرهة من دهره ثم تعرض له الجادة من جواد أهل النار فيعمل بها حتى يموت عليها وذلك لما كتب له» قال الهيثمي: رجالهم ثقات. وأما قوله: وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فهو رجل يولد كافرا ويعيش كافرا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك. فجوابه: أن يقال: ليس من شرط الذي يختم له بحسن الخاتمة أن يولد كافرا ويعيش كافرا بل قد يولد بين أبوين مسلمين وينشأ على الإسلام والأعمال الصالحة ثم يخالف ذلك إلى العمل بأعمال أهل النار فإذا كان في آخر عمره عمل بأعمال أهل الجنة فدخل الجنة، وقد يكون كافرا في أول عمره ثم يسلم ثم يرتد عن الإسلام أو يعمل أعمالا توجب له النار فإذا كان في آخر عمره عمل بأعمال أهل الجنة فدخل الجنة، وإنما

أحاديث ما من مولود يولد إلا على الفطرة

يسير في جميع أحواله وأعماله على وفق ما سبق به القضاء والقدر كما تقدم تقريره، فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان ولا يكون العبد مؤمنا حتى يؤمن بالقدر خيره وشره. وأما قوله وفي حديث أبي سعيد مرفوعا «إن الرجل يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ثم يموت كافرا وإن الرجل يولد كافرا ويعيش كافرا ثم يموت مؤمنا» رواه الإمام أحمد. فجوابه: أن أقول قد تصفحت أحاديث أبي سعيد رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد فلم أجد هذا الحديث فيه ولا أدري من أين جاء به ابن محمود؟!!، وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا وإن العبد يولد كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا، والعبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت كافرا والعبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا» رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار قال الهيثمي: وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وقد وثقه غير واحد وقال ابن عدي: حديثه عن قتادة مضطرب، قال الهيثمي: وهذا منها. انتهى. ومع ما في هذا الحديث من الضعف في إسناده ففي بعض منه نظر وذلك في قوله: «إن العبد يولد كافرا». ومثله في الحديث الذي ذكره ابن محمود، وهذا مخالف للحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}» رواه مالك

المراد بالفطرة

وأحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان وأبو داود السجستاني والترمذي, وقال: هذا حديث صحيح، وفي رواية لأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يولد مولود إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه». وروى الإمام أحمد أيضا عن الأسود بن سريع وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وروى ابن حبان في صحيحه حديث الأسود ابن سريع رضي الله عنه. وفي الفطرة أقوال للعلماء أقر بها ما وافق قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية الإمام أحمد: «لا يولد مولود إلا على هذه الملة» وفي حديث الأسود بن سريع عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود يولد إلا على فطرة الإسلام حتى يعرب» ولو صح حديث ابن مسعود الذي فيه أن العبد يولد كافرا لم يكن معنا مخالفا لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من كون المولود يولد على الفطرة لأن معنى قوله يولد كافراً أنه قد سبق في علم الله أنه يكون كافرا وأن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وأما قول ابن محمود وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته. فجوابه: أن يقال: إن كل ما يفعله بنو آدم باختيارهم ورغبتهم فقد سبق به القضاء والقدر وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكتبه الملك الموكل بالجنين وهو في بطن أمه، فلا يؤمن أحد إلا بقضاء وقدر ولا يكفر أحد إلا بقضاء وقدر، فجميع الأمور

كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون

جارية على وفق القضاء والقدر، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ومن زعم أن أحدًا من بني آدم يؤمن أو يكفر باختياره ورغبته ولم يسبق بذلك القضاء والقدر ولم يكتب في اللوح المحفوظ ولم يكتبه الملك الموكل بالجنين وهو في بطن أمه فهو من القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة وهم الذين يزعمون أن الأمر أنف أي مستأنف لم يسبق به القضاء والقدر، وقد تبرأ ابن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من القدرية وصرح الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة بتكفير غلاتهم وهم الذين ينكرون العلم والكتاب، وقد تقدم بيان ذلك في عدة مواضع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن سلك سبيل القدرية فهو ملحق بهم في كل ما ذكرنا، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من موافقتهم لئلا ينسلخ من دينه وهو لا يشعر. وقد روى الترمذي وابن ماجة والحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطَّاء وخير الخطائين التوابون» قال الترمذي: هذا حديث غريب وصححه الحاكم وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح على لين. وهذا آخر ما تيسر إيراده في الرد على رسالة ابن محمود التي سماها (الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر). وليعلم أن الكلام في القدر مزلة أقدام ومضلة أفهام لا يسلم فيه إلا من تمسك بنصوص الكتاب والسنة وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم

الرد على رسالة ابن محمود التي سماها " إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء "

بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم، ولولا أني أخشى أن يغتر بعض الناس بعنوان رسالة ابن محمود فيظن أنها على طريقة أهل السنة والأثر مع أنها على طريقة غلاة القدرية الذين ينكرون كتابة لمقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وينكرون كتابة الملك الموكل بالجنين لما يقضي الله فيه من ذكورة أو أنوثة وسعادة أو شقاوة ورزق وأجل، وأن يغتروا أيضا بما قرره في رسالته من نفي كتابة المقادير وزعمه أنها عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها، وما قرره أيضا في معنى القضاء والقدر مما أخذه من كلام عدو الله القصيمي في أغلاله، فلولا خشية الاغترار بما ذكرته من كلام ابن محمود لما كتبت في الرد عليه شيئا. والمقصود من هذا الرد نصيحة المردود عليه ثم نصيحة غيره لئلا يغتروا بكلامه. والله المسئول أن يريني وإياه وإخواننا المسلمين الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل. (فصل) وأما الرسالة الثانية لابن محمود وهي التي سماها (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء) فالتعقيب عليها يتلخص في ثلاثة عشر شيئا: الأول: في زعمه أن كل نبي فإنه رسول وأنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الإسلام والمسمى واحد. والثاني: قوله أن ابن كثير هو أسبق من تكلم بالتفريق بين الرسول والنبي. والثالث: قوله أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر في كتاب النبوات فرقا بين الأنبياء والرسل. الرابع: زعمه

قوله أن كل نبي فإنه رسول وإنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد، والرد عليه

أن التفريق بين الرسول والنبي ليس معروفا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين. الخامس: قدحه في الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه ورميه بسوء الحفظ. السادس: قوله: إن حصر الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألف مخالف لصريح القرآن. السابع: قوله عن الأحاديث التي وردت في عدد الأنبياء أن بعضها من قول كعب الأحبار. الثامن: ما نسبه إلى المحققين من السلف أنهم قالوا: إن لله أنبياء كثيرين لا يعلم عددهم إلا الله، وقوله أيضا: إنهم خطَّئوا من عد الأنبياء والرسل. التاسع: تغليطه من فرق بين الأنبياء والرسل. العاشر: قوله: إن ابن الجوزي وغيره من العلماء ذكروا حديث أبي ذر في الموضوعات. الحادي عشر: نفيه الرسالة عن آدم. الثاني عشر: زعمه أن من فرق بين الرسول والنبي فقد فرق بين الأنبياء في الإيمان. الثالث عشر: زعمه أن كل مسلم مؤمن وأنه لا فرق بين المسلم والمؤمن. فأما الأول: وهو قوله في صفحة (4):إن كل نبي فإنه رسول وأنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد. فجوابه: من وجهين أحدهما أن يقال: قد دل القرآن والسنة على التفريق بين الرسول والنبي، وكفى بالقرآن والسنة حجة على كل مبطل. فأما الدليل من القرآن فقد قال الله تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية فقد فرق تبارك وتعالى بين الرسول وبين النبي وعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان: وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما. انتهى. وسيأتي قول الرازي أن عطف النبي على الرسول يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص. انتهى. وإدخال حرف (لا) بين واو العطف والمعطوف صريح في التفريق بين الرسول والنبي كقوله تعالى: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وقوله تعالى: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} وقوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} وأمثال هذه الآيات. وقد جاء في (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس) ما نصه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد (من رسول) مرسل (ولا نبي) محدث ليس بمرسل {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} قرأ الرسول أو حدث النبي {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} في قراءة الرسول وحديث النبي. انتهى. وقال ابن جرير في تفسير هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية: فتأويل الكلام ولم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم ولا نبي محدث ليس بمرسل إلا إذا تمنى. انتهى. وقال القاضي عياض: المعنى وما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبي وليس بمرسل إلى أحد. انتهى. وقال الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ}: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته إياه شفاها، والنبي الذي تكون

نبوته إلهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. انتهى. وقال الواحدي في قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ:} الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته شفاها، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال: وهذا معنى قول الفراء: الرسول النبي المرسل، والنبي المحدث الذي لم يرسل، انتهى منقولا من (تهذيب الأسماء واللغات) لأبي زكريا النووي. وقال البغوي في تفسير هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا {وَلَا نَبِيٍّ} وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. انتهى. وقال الزمخشري في قوله تعالى: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} دليل بين على تغاير الرسول والنبي. انتهى. وقال الرازي في تفسير هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية، المسألة الأولى من الناس من قال الرسول هو الذي حدث وأرسل، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم، ومن الناس من قال: إن كل رسول نبي وليس كل نبي يكون رسولا وهو قول الكلبي والفراء، وقالت المعتزلة: كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما - ثم ذكر الرازي- إن هذه الآية دالة على أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال: لأنه عطف على الرسول وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على

الخاص، وقال في موضع آخر: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} وذلك يدل على أنه كان نبيا فجعله الله مرسلا وهو يدل على قولنا. انتهى. وقال القرطبي في تفسيره عند قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية، وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال المهدوي -وهذا هو الصحيح-:إن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفاء، قال والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا واحتج بحديث أبي ذر وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقال عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة سبعمائة وعشر في تفسيره في الكلام على قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} هذا دليل بين علي ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض أنهما واحد. انتهى. وقال ابن جزي الكلبي الغرناطي في تفسيره في الكلام على قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية، النبي أعم من الرسول فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فقدم الرسول لمناسبته لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول. انتهى.

وفي تفسير مجاهد عند قول الله تعالى في سورة مريم: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} قال: النبي هو الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل، والرسول هو الذي يرسل. وقد قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، وروى ابن جرير عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه قال: فيقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله. وعلى هذا فقول مجاهد في تفسير الآية من سورة مريم يحتمل أنه مما أخذه عن ابن عباس رضي الله عنهما والله أعلم. وقال القرطبي في تفسير سورة الأعراف عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية، قال: والرسول والنبي اسمان لمعنيين فإن الرسول أخص من النبي وقدم الرسول اهتماما لمعنى الرسالة وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: «وبرسولك الذي أرسلت» فقال له: «قل بنبيك الذي أرسلت» خرجه في الصحيح، وأيضا فإن في قوله وبرسولك الذي أرسلت تكرير الرسالة وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه بخلاف ونبيك الذي أرسلت فإنهما لا تكرار فيهما وعلى هذا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا لأن الرسول والنبي اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في أمر وهي الرسالة فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم. انتهى.

الأدلة من السنة على التفريق بين الرسول والنبي وكلام العلماء على بعض الأحاديث

وقال ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب عند قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس. انتهى. وقال ابن كثير أيضا في تفسير سورة المدثر بعد ما قرر أن أول ما نزل من القرآن أول سورة (اقرأ) قال: وقوله تعالى: (قم فأنذر) أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس وبهذا حصل الإرسال كما حصل بالأول النبوة. انتهى. وأما الدليل من السنة ففي عدة أحاديث أحدها ما رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت؛ مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تقول» فقلت: استذكرهن وبرسولك الذي أرسلت قال: (لا، ونبيك الذي أرسلت) وفي رواية الترمذي قال البراء: فقلت وبرسولك الذي أرسلت قال: فطعن بيده في صدري ثم قال: «وبنبيك الذي أرسلت». وهذا الحديث صريح في التفريق بين الرسول والنبي وقد استدل به غير واحد من أكابر العلماء على التفريق بينهما، وقد تقدم كلام القرطبي في ذلك قريبا.

وقال الخطابي: والفرق بين النبي والرسول أن الرسول هو المأمور بتبليغ ما أنبئ وأخبر به، والنبي هو المخبر ولم يؤمر بالتبليغ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال: ومعنى رده على البراء من رسولك إلى نبيك أن الرسول من باب المضاف فهو ينبئ عن المرسل والمرسل إليه فلو قال ورسولك ثم قال الذي أرسلت لصار البيان مكررا معادا، فقال ونبيك الذي أرسلت إذ قد كان نبيا قبل أن يكون رسولا ليجمع له الثناء بالاسمين معا ويكون تعديدا للنعمة في الحالين وتعظيما للمنة على الوجهين انتهى وقد نقله عنه ابن الأثير في جامع الأصول وأقره. وقال النووي في شرح مسلم: في الكلام على قول مسلم في أول صحيحة «وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين» وقد ينكر على مسلم في هذا الكلام قوله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، فيقال إذا ذكر الأنبياء لا يبقى لذكر المرسلين وجه لدخولهم في الأنبياء فإن الرسول نبي وزيادة، ولكن هذا الإنكار ضعيف، ويجاب عنه بجوابين أحدهما أن هذا سائغ وهو أن يذكر العام ثم الخاص تنويهًا بشأنه وتعظيما لأمره وتفخيما لحاله. والجواب الثاني: أن قوله والمرسلين أعم من جهة أخرى وهو أنه يتناول جميع رسل الله سبحانه وتعالى من الآدميين والملائكة قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} ولا يسمى الملك نبيا فحصل بقوله والمرسلين فائدة لم تكن حاصلة بقوله النبيين والله أعلم انتهى كلام النووي، وقد أشار إليه في الكلام على حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في كتاب الذكر والدعاء فقال وقد قدمنا في أول شرح خطبة هذا الكتاب أنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولا عكسه. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله وبرسولك الذي أرسلت قال: «لا وبنبيك الذي أرسلت» قال القرطبي تبعا لغيره: هذا حجه لمن لم يجز نقل الحديث بالمعنى وهو الصحيح من مذهب مالك، فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع فإن النبوة من النبأ وهو الخبر، فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفا، وإن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول وإلا فهو نبي غير رسول، وعلى هذا فكل رسول نبي بلا عكس، فإن النبي والرسول اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في الرسالة فإذا قلت: فلان رسول تضمن أنه رسول، وإذا قلت: فلان نبي لم يستلزم أنه رسول فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما فيه حتى يفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وضع له وليخرج عما يكون شبه التكرار في اللفظ من غير فائدة. انتهى. قال الحافظ: وأما الاستدلال به على منع الرواية بالمعنى ففيه نظر لأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق اللفظان في المعنى المذكور، وقد تقرر أن النبي والرسول متغايران لفظا ومعنى فلا يتم الاحتجاج بذلك. انتهى. وقد ذكر بعض العلماء في صفة الرسول أن يكون له كتاب. وقال بعضهم: لا يشترط ذلك فكل نبي أوحي إليه بأمر يقتضي تكليفا وأمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول ولو لم ينزل عليه كتاب وهذا هو الصحيح والله أعلم. الحديث الثاني: قال ابن حبان في صحيحه: أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني والحسين بن عبد الله القطان بالرقة وابن سلم واللفظ للحسن قالوا: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني حدثنا أبي عن جدي عن أبي إدريس

الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده - فذكر الحديث بطوله وفيه - قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وعشرون ألف» قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» قلت: يا رسول الله من كان أوله قال: «آدم عليه السلام» قلت: يا رسول الله أنبي مرسل قال: «نعم؛ خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا» قال الهيثمي بعد ما ساقه في موارد الظمآن: فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال أبو حاتم وغيره: كذاب. . انتهى. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة إبراهيم بن هشام وهو صاحب حديث أبي ذر الطويل انفرد به عن أبيه عن جده قال الطبراني: لم يرو هذا عن يحيى إلا ولده وهم ثقات، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج حديثه في الأنواع، ثم ذكر عن أبي حاتم أنه قال: هو كذاب وذكر ابن الجوزي أنه قال: أبو زرعه كذاب، وقد علق الحافظ ابن حجر على موارد الظمآن فقال: انفرد أبو حاتم الرازي بتضعيف إبراهيم بن هشام وقواه غيره وللحديث شواهد، منها ما رواه ابن جرير في أول تاريخه عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمه عبد الله بن وهب عن الماضي بن محمد بن أبي سليمان عن القاسم بن محمد عن أبي إدريس الخولاني، قال بطوله. وقال الحافظ ابن حجر أيضا في تعليقه على موارد الظمآن: وفي الحديث أشياء مفرقة من روايات متنوعة إلى أبي ذر، منها من طريق عبيد بن خشخاش عنه، وفيها من طريق أخرى قد ذكرتها في الهامش أولا. انتهى. قلت: الذي ذكره في الهامش أولا هذا نصه (قال ابن أبي عمر: حدثنا هشام بن سليمان حدثنا أبو رافع عن يزيد بن

رومان عمن أخبره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وحده، قلت: أنظر إليه وهو لا يراني وأقول ما خلا هكذا وحده إلا وهو على حاجة أو على وحي فجعلت أؤامر نفسي أن آتيه فأبت نفسي إلا أن آتيه فجئت فسلمت ثم جلست فجلست طويلا لا يلتفت إليَّ ولا يكلمني قال: قلت: قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالستي ثم التفت إليَّ فقال: (يا أبا ذر, فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: أركعت اليوم؟ قلت: لا, قال: قم؛ فاركع) الحديث بطوله وسياق الأصل أتم انتهى ما علقه الحافظ ابن حجر على موارد الظمآن. وحاصل ما تقدم أن إبراهيم بن هشام قد اختلف فيه فوثقه ابن حبان والطبراني وتكلم فيه أبو زرعة وأبو حاتم الرازي، ولحديثه شواهد تقويه. منها ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا المسعودي عن أبي عمرو الشامي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست إليه - فذكر الحديث مختصرا وفيه - قلت: فأي الأنبياء كان أول يا رسول الله؟ قال: (آدم) قلت: أو نبي كان قال: (نعم نبي مكلم) قلت: كم كان المرسلون يا رسول الله؟ قال: «ثلاثمائة وخمس عشرة جما غفيرا» وقد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن المسعودي فذكره بمثله مختصرا، ورواه البزار والطبراني في الأوسط مختصرا، قال الهيثمي: وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وقد روى النسائي في كتاب الاستعاذة من سننه طرفا منه من طريق المسعودي، وروى الحاكم في مستدركه في فضل آية الكرسي طرفا منه من طريق المسعودي وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه.

ومن شواهده أيضا ما رواه محمد بن أبي عمر في مسنده وقد تقدم ذكر إسناده في كلام الحافظ ابن حجر، وقد ذكره الحافظ أيضا في (المطالب العالية) مطولا وقال فيه قلت: يا رسول الله كم كان الأنبياء؟ قال: (كانوا مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا) قلت: يا رسول الله وكلهم كانوا رسلا؟ قال: (لا، كان الرسل منهم خمسة عشر وثلاثمائة رجل) قلت: يا رسول الله فأيهم كان أول؟ قال: (كان أولهم آدم) قلت: أنبي كان آدم؟ قال: (نعم جَبَل الله تربته وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا). ومن شواهده أيضا ما رواه ابن جرير في أول تاريخه وقد تقدم ذكر إسناده في كلام الحافظ ابن حجر وقال فيه قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قال: قلت: يا رسول الله كم المرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» يعني: كثيرا طيبا، قال: قلت: يا رسول الله من كان أولهم قال: (آدم) قال قلت: يا رسول الله وآدم نبي مرسل قال: (نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا). ومن شواهده أيضا ما رواه الحسن بن عرفة في مسنده حدثني يحيى بن سعيد السعيدي البصري حدثنا عبد الملك بن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد - فذكر الحديث وفيه - قال: فقلت: يا رسول الله كم النبيون؟ قال: «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي» قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) وقد رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه من طريق الحسن بن عرفة، قال الذهبي: السعيدي ليس بثقة. قلت: وهذا الحديث قد تعددت طرقه وصححه ابن حبان وصحح الحاكم ما رواه منه من طريق المسعودي ووافقه الذهبي

على تصحيحه وقال الشوكاني في كتابه (إرشاد الثقات): أخرجه ابن حبان والبيهقي بسندين حسنين انتهى، وقد اعتضد بما يأتي من حديث أبي أمامة وعوف بن مالك رضي الله عنهما، وعلى هذا فأقل الأحوال فيه أن يكون صالحا للاستشهاد به والله أعلم. الحديث الثالث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد جالسا وكانوا يظنون أنه ينزل عليه فأقصروا عنه حتى جاء أبو ذر فأقحم فأتى فجلس إليه فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، منها قال: قلت: يا نبي الله فأي الأنبياء كان أول؟ قال: «آدم عليه السلام» قال: قلت: يا نبي الله أو نبي كان آدم؟ قال: «نعم نبي مكلم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم قال له: يا آدم قبلا» قال: قلت: يا نبي الله كم عدد الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألف، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير قال الهيثمي: ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. وقد روي الطبراني في الأوسط طرفا منه بإسناد صحيح ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: «نعم» قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: «عشرة قرون» قال: يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وخمسة عشر» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: «نعم، معلم مكلم» قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» قالوا: يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وخمس عشرة جما غفيرا» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه

ورواه ابن حبان في صحيحه مختصرا، ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبيا كان آدم؟ قال: «نعم» قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» قال ابن كثير في البداية والنهاية: وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه، ورواه ابن جرير في أول تاريخه ولفظه قلت: يا نبي الله أنبيا كان آدم؟ قال: «نعم كان نبيا كلمه الله قبلا». وفي هذا الحديث الصحيح شاهد لما تقدم قبله من حديث أبي ذر وأبي أمامة رضي الله عنهما. الحديث الرابع: عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن أبا ذر رضي الله عنه جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه - قلت: يا رسول الله فأي الأنبياء كان أول؟ فقال: «آدم» فقلت: أو نبيا كان؟ قال: «نعم نبي مكلم» قلت: يا رسول الله وكم الأنبياء؟ فقال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» فقال: كم المرسلون منهم؟ قال: «ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» ذكره الحافظ ابن حجر في (المطلب العالية) ونسبه لإسحاق بن راهويه. وهذا الحديث والحديثان قبله يشد بعضها بعضا وتشهد لها الرواية الصحيحة عن أبي أمامة رضي الله عنه. الحديث الخامس: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين يا علي لا تخبرهما» رواه الترمذي وابن ماجه وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند وإسناده حسن وهذا لفظ الترمذي، ولفظ عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه

وسلم فأقبل أبو بكر وعمر فقال: (يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين) قال الترمذي: وفي الباب عن أنس وابن عباس رضي الله عنهم. الحديث السادس: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين لا تخبرهما يا علي» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. الحديث السابع: عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين» رواه ابن ماجه بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه. الحديث الثامن: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، رواه البزار والطبراني. الحديث التاسع والعاشر: عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضا رواهما الطبراني. وهذه الأحاديث الستة يشد بعضها بعضا وفيها أوضح دليل على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي، وفيها مع ما تقدم قبلها من الأحاديث أبلغ رد على من زعم أنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد. الوجه الثاني: أن يقال: مما يدل على الفرق بين الرسول والنبي وأن مسمى الرسول ومسمى النبي مختلف في المعنى أن اسم الرسول يدخل فيه الرسل من الملائكة والرسل من بني آدم كما قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ

قوله أن ابن كثير هو أسبق من تكلم بالتفريق بين الرسول والنبي، والرد عليه

النَّاسِ} والرسل من الملائكة لا يسمون أنبياء وإنما يسمى بذلك الأنبياء من بني آدم والرسل منهم، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن محمود في قوله أنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد لكان جبريل وغيره من الملائكة يسمون أنبياء، وهذا ظاهر البطلان، وبهذا يتبين الفرق بين الرسول والنبي، وقد تقدم قول الحافظ ابن حجر أنهما متغايران لفظا ومعنى. وأما الثاني وهو قوله في صفحة (3) أن ابن كثير هو أسبق من تكلم بالتفريق بين الرسول والنبي. فجوابه: أن يقال: إن أول من تكلم بالتفريق بين الرسول والنبي هو الله تبارك وتعالى في قوله جل ذكره: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية. وأول من تكلم بذلك من هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تقدم ذكرها، ومن أصرحها رواية محمد بن أبي عمر التي ذكرها الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية) وفيها أن أبا ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله كم كان الأنبياء؟ قال: «كانوا مائة ألف وأربعة وعشرين ألف» قلت: يا رسول الله وكلهم كانوا رسلا؟ قال: (لا، كان الرسل منهم خمسة عشر وثلاثمائة رجل). وتقدم أيضا ما ذكرنا من تفسير ابن عباس ومجاهد أنهما فرقا بين الرسول والنبي، وقال ابن قتيبة في كتاب (المعارف) ذكر وهب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي، الرسل منهم ثلاثمائة نبي وخمسة عشر نبيا).

وتقدم أيضا ما ذكره الرازي عن الكلبي والفراء أنهما فرقا بين الرسول والنبي، وذكره الواحدي أيضا عن الفراء. وتقدم أيضا عن ابن جرير والثعلبي والواحدي والبغوي والزمخشري والرازي والقرطبي والنسفي وابن جزي الكلبي أنهم فرقوا بين الرسول والنبي، وهؤلاء المفسرون كلهم كانوا قبل ابن كثير سوى ابن جزي فقد كان معاصرا لابن كثير ومات قبله. وتقدم أيضا ما ذكره القرطبي عن المهدوي والقاضي عياض أنهما فرقا بين الرسول والنبي، وتقدم عن الخطابي والنووي مثل ذلك. وممن فرق بين الرسول والنبي من المتقدمين مسلم بن الحجاج وعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري وأبو عبد الله الحاكم وأبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي وأبو محمد بن حزم وأبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي والقاضي عياض والخطيب البغدادي. فأما مسلم فقال في مقدمة صحيحه ما نصه: (وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين). وأما عبد الله بن مسلم بن قتيبة فقال في كتاب (المعارف) ما نصه: (عدد الأنبياء والرسل منهم صلى الله عليهم) ثم ذكر ما تقدم قريبا عن ابن عباس في عدد الأنبياء والرسل. وأما الحاكم فقال في مستدركه ما نصه: (كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين).

أما أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي فقال في كتابه (أصول الدين): كل رسول لله عز وجل نبي وليس كل نبي رسولا له. وأما ابن حزم فقال في أول المحلى ما نصه: (مسألة، وبعد هذا فإن أفضل الإنس والجن الرسل ثم الأنبياء ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لا خلاف فيه). وقال أيضا: (مسألة، والنبوة هي الوحي من الله تعالى بأن يعلم الموحى إليه بأمر ما يعلمه لم يكن يعلمه قبل، والرسالة هي النبوة وزيادة وهي بعثته إلى خلق ما بأمر ما، هذا ما لا خلاف فيه. انتهى. وأما أبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي فقال في كتابه (أصول الدين): الرسول لا يكون إلا نبيا والنبي قد لا يكون رسولا - إلى أن قال - ويبقى الرسول بعد موته رسولا وكذلك النبي بعد موته نبيا لأن الرسول بالرسالة صار شريفا مكرما عند الله تعالى وكذا النبي إلا أنه دونه، وكذا المؤمن إلا أنه دونهما، وذلك الشرف يبقى لهم بعد الموت. انتهى. وأما القاضي عياض فقال في كتاب (الشفا) ما نصه: (والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا). انتهى. وأما الخطيب البغدادي فقال في كتابه (الكفاية في علم الرواية): وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة معا. انتهى. وممن فرق بين الرسول والنبي أيضا شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى، فأما

شيخ الإسلام فقال في كتاب الإيمان بعد أن ذكر أن الإحسان يدخل فيه الإيمان وأن الإيمان يدخل فيه الإسلام، قال: وهذا كما يقال في الرسالة والنبوة فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، فالأنبياء أعم، والنبوة نفسها جزء من الرسالة فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة. انتهى. وقال الشيخ أيضا في جواب له بعد ذكره عصمة الأنبياء ما نصه: وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة فإن النبي هو المنبأ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين. وقال الشيخ أيضا في جواب آخر ما نصه: فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيها يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب. والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه، ولهذا كان كل رسول نبيا وليس كل نبي رسولا وإن كان قد يوصف بالإرسال المقيد في مثل قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. وقال الشيخ أيضا وذكر حديث بدء الوحي وفيه ذكر نزول سورة (اقرأ) ثم قال: وهذه السورة أول ما أنزل الله عليه وبها صار نبيا ثم أنزل عليه سورة المدثر وبها صار رسولا لقوله: (قُمْ فَأَنذِرْ).

وقال الشيخ أيضا في تفسير سورة (اقرأ): إن ما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي في الصحيحين يبين أن أول ما نزل {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ} نزلت عليه وهو في غار حراء وأن (المدثر) نزلت بعد، وهذا هو الذي ينبغي فإن قوله: (اقرأ) أمر بالقراءة لا بتبليغ الرسالة وبذلك صار نبيا، وقوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} أمر بالإنذار وبذلك صار رسولا منذرا. وقال الشيخ أيضا: فسورة (اقرأ) هي أول ما نزل من القرآن ولهذا لما أمر بأن يقرأ أنزل عليه بعدها المدثر لأجل التبليغ فقيل له {قُمْ فَأَنْذِرْ} فبالأولى صار نبيا وبالثانية صار رسولا. انتهى. وكلامه رحمه الله تعالى في التفريق بين الرسول والنبي كثير جدا وفيما ذكرته هاهنا كفاية إن شاء الله تعالى. وأما ابن القيم رحمه الله تعالى فقال في كتابه (زاد المعاد): وكذلك اختياره سبحانه الأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف واختياره سبحانه الرسل منهم وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، واختياره أولي العزم منهم وهم الخمسة المذكورون في سورة الأحزاب والشورى في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقال ابن القيم أيضا في كتابه (طريق الهجرتين) ما ملخصه: مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها وهم

ثمان عشرة مرتبة، الطبقة الأولى وهي العليا على الإطلاق مرتبة الرسالة وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم وهم المذكورون في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق. الطبقة الثانية من عداهم من الرسل على مراتبهم من تفضيل بعضهم على بعض، الطبقة الثالثة الذين لم يرسلوا إلى أممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة فاختصوا عن الأمة بإيحاء الله إليهم وإرساله ملائكته إليهم، واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأمة يدعونهم إلى الله بشريعته وأمره واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى. وممن فرق بين الرسول والنبي من أهل اللغة ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب ومرتضى الحسيني في تاج العروس، فأما ابن الأثير فقال في النهاية ما نصه: ومن الأول حديث البراء قلت: ورسولك الذي أرسلت فرد عليَّ وقال ونبيك الذي أرسلت، إنما رد عليه ليختلف اللفظان ويجمع له الثنائين معنى النبوة والرسالة ويكون تعديدًا للنعمة في الحالين وتعظيما للمنة على الوجهين، والرسول أخص من النبي لأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسول. انتهى. وأما ابن منظور وصاحب تاج العروس فذكرا كلام ابن الأثير وأقراه.

قوله أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر في كتاب النبوات فرقا بين الأنبياء والرسل والرد عليه

وأما قول ابن محمود في آخر صفحة (4) وأول صفحة (5) ما نصه: والله يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} فوصف الأنبياء بالتبشير والإنذار الذي هو وظيفة الرسل بلا خلاف كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فوصف الرسل بالتبشير والإنذار كما وصف بذلك الأنبياء على حد سواء. فجوابه: أن يقال: إن المراد بالأنبياء المذكورين في الآية من سورة البقرة الرسل بدليل قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} والكتب إنما أنزلت على الرسل لا على عموم الأنبياء كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فهذه الآية من سورة الحديد تبين ما أُجْمِلَ في الآية من سورة البقرة والله أعلم. وأما الثالث وهو قوله في صفحة (5):إن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر في كتاب (النبوات) فرقا بين الأنبياء والرسل. فجوابه: أن يقال: بل قد ذكر ذلك في صفحة 172 وما بعدها من كتاب (النبوات) وهذا نص كلامه. والمقصود هنا الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي

أُمْنِيَّتِهِ} وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فذكر إرسالا يعم النوعين وقد خص أحدهما بأنه رسول فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس وقبلهما آدم كان نبيا مكلما، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم كما يكون أهل الشريعة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول، وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قضية معينة ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن كما فهم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود، فالأنبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنباهم الله به من الخبر والأمر والنهي فإن أرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ولابد أن يكذب الرسل قوم قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} فإن الرسل ترسل إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَاسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} فقوله: {قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} دليل على أن النبي مرسل ولا يسمى رسولا عند الإطلاق لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه بل

كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعالم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة فإن يوسف كان رسولا وكان على ملة إبراهيم، وداود وسليمان كانا رسولين وكان على شريعة التوراة. قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}. والإرسال اسم عام يتناول إرسال الملائكة وإرسال الرياح وإرسال الشياطين وإرسال النار قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} وقال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} فهنا جعل الملائكة كلهم رسلا، والملك في اللغة هو حامل الألوكة وهي الرسالة، وقد قال في موضع آخر: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} فهؤلاء الذين يرسلهم بالوحي كما قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} لكن الرسول المضاف إلى الله إذا قيل رسول الله فهم من يأتي برسالة من الله من الملائكة والبشر كما قال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وقالت الملائكة: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}.

قوله أن التفريق بين الرسول والنبي ليس معروفا عند الصحابة والتابعين والسلف السابقين، والرد عليه

وأما عموم الملائكة والرياح والجن فإن إرسالها لتفعل فعلا لا لتبلغ رسالة قال تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} فرسل الله الذين يبلغون عن الله أمره ونهيه هي رسل الله عند الإطلاق، وأما من أرسله الله ليفعل فعلا بمشيئته وقدرته فهذا عام يتناول كل الخلق كما أنهم كلهم يفعلون بمشيئته وإذنه المتضمن لمشيئته، لكن أهل الإيمان يفعلون بأمره ما يحبه ويرضاه ويعبدونه وحده ويطيعون رسله، والشياطين يفعلون بأهوائهم وهم عاصون لأمره متبعون لما يسخطه وإن كانوا يفعلون بمشيئته وقدرته انتهى المقصود من كلامه رحمه الله. وأما الرابع: وهو زعمه في صفحه (5) أن التفريق بين الرسول والنبي ليس معروفا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين. فجوابه: أن يقال: قد تقدم ذكر التفريق بين الرسول والنبي في تفسير ابن عباس ومجاهد والكلبي والفراء وابن جرير وغيرهم من أكابر العلماء المتقدمين فليراجع ذلك ففيه كفاية في الرد على ابن محمود، وتقدم أيضا قول ابن حزم في التفريق بين الرسول والنبي أنه لا خلاف فيه، وفي هذا أيضا رد على ابن محمود. وأما الخامس: وهو قدحه في الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه ورميه بسوء الحفظ وذلك في صفحة (5) حيث قال مشيرا إلى حديث أبي ذر رضي الله عنه «وهو حديث طويل جدا لا يتحمل أبو ذر حفظه مع طوله». فجوابه: أن يقال: يا لها من كلمة ما أسوأها وأبشعها ..

ولا أعلم أحدا رمي أبا ذر رضي الله عنه بسوء الحفظ قبل ابن محمود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن، قال: وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي ذر رضي الله عنهما. وروى الترمذي أيضا وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم عليه السلام» فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله: أفنعرف ذلك له؟ قال: «نعم فاعرفوه له» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر» رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني والحاكم في مستدركه قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد وقد وثق وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضا ولم يتكلم عليه وقال الذهبي: سنده جيد. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: قال أبو إسحاق السبيعي عن هانئ بن هانئ عن علي رضي الله عنه أنه قال: «أبو ذر وعاء ملئ علما ثم أوكئ عليه» أخرجه أبو داود بسند جيد، قال الحافظ: وكان يوازي ابن مسعود في العلم. انتهى.

قوله أن حصر الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا مخالف لصريح القرآن، والرد عليه

وقد ترجم له الحافظ الذهبي في تذكرة الحافظ وقال: كان رأسا في العلم والزهد والجهاد وصدق اللهجة والإخلاص وكان يوازي ابن مسعود في العلم، ومناقبه شهيرة، منها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر». انتهى. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: كان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق. انتهى. وفيما ذكرته من الأحاديث وأقوال الأئمة الحفاظ أبلغ رد على من رمى أبا ذر بسوء الحفظ. وقد روى الإمام أحمد في مسنده نحو مائتين وسبعين حديثا لأبي ذر رضي الله عنه، وروى له أهل الصحاح والسنن والمسانيد أحاديث كثيرة مما رواه الإمام أحمد ومما لم يروه، ومن كان يحفظ هذا العدد الكثير من الأحاديث كيف يقال: إنه لا يتحمل حفظ الحديث الطويل الذي فيه عدد الأنبياء والمرسلين، إنها لجراءة على صحابي جليل قد عده أهل المعرفة بمراتب العلماء في أعلى طبقات الحفاظ وقالوا: إنه كان يوازي ابن مسعود في العلم. وأما السادس: وهو قوله في صفحة (6):إن حصر الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا مخالف لصريح القرآن فإن الله يقول: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}. فجوابه: أن يقال: ليس في حصر الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه، فأما قوله تعالى في سورة النساء {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وقوله في سورة المؤمنين:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} فليس المراد بالقصص ذكر عددهم كما قد توهم ذلك ابن محمود وإنما المراد بالقصص ذكر أخبارهم وما جرى لهم مع قومهم، قال ابن كثير في تفسير سورة المؤمنين: أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة. انتهى. والقصص رواية الأخبار نص على ذلك أهل اللغة، قال الجوهري في الصحاح: القصة الأمر والحديث وقد اقتصصت الحديث رويته على وجهه وقد قص عليه الخبر قصصا، والاسم أيضا القصص بالفتح وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقصص بكسر القاف جمع القصة التي تكتب. انتهى. وقال ابن الأثير في النهاية: القص البيان والقصص بالفتح الاسم وبالكسر جمع قصة والقاص الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. انتهى. وقال ابن منظور في لسان العرب: والقصة الخبر وهو القصص وقص عليّ خبره يقصه قصا وقصصا أورده، والقصص الخبر المقصوص بالفتح وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقصص بكسر القاف جمع القصة التي تكتب، وتقصص الخبر تتبعه، والقصة الأمر والحديث، واقتصصت الحديث رويته على وجهه، وقص عليه الخبر قصصا، وفي حديث الرؤيا لا تقصها إلا على واد، يقال: قصصت الرؤيا على فلان إذا أخبرته بها أقصها قصا، والقص البيان والقصص بالفتح الاسم، والقاص الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. انتهى.

وقال الراغب الأصفهاني: القصص الأخبار المتتبعة، قال: {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}، {فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}، {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}، {نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ}، {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ}. انتهى. وقد ذكر الله تعالى في سورة آل عمران قصة زكريا وقصة مريم وقصة عيسى مع قومه ثم قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} وقال تعالى في أول سورة الأعراف: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ثم ذكر في السورة قصة آدم ثم قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مع قومهم وقصة موسى مع فرعون وقصته لما جاء لميقات ربه وقصته لما اختار سبعين رجلا لميقات ربه وقصة أصحاب السبت وقصة الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ثم قال تعالى بعد ذلك: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقال تعالى في سورة هود بعد ما ذكر قصة نوح وهود وصالح مع قومهم وقصة إبراهيم مع الملائكة وقصة لوط وشعيب مع قومهما وقصة موسى مع فرعون ثم قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} وقال في آخر السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقال تعالى في أول سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ثم ذكر ما جرى ليوسف مع أبيه لما قص عليه الرؤيا وقصته مع إخوته في أول الأمر وقصته مع العزيز وامرأته وقصته مع الفتيين وقصته مع رسول الملك وقصته مع الملك وقصته مع إخوته في آخر الأمر وقصته حين اجتمع بأبويه وإخوته ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآيات إلى قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} الآية.

قوله أن بعض الأحاديث الواردة في عدد الأنبياء من قول كعب الأحبار، والرد عليه

وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على ابن محمود لأن الله تعالى أخبر أن في قصص المرسلين عبرة لأولي الألباب والعبرة لا تكون في عددهم وإنما تكون في أحبارهم وما جرى لهم مع قومهم، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن محمود لكان معنى الآية إن في عدد المرسلين عبرة لأولي الألباب وهذا مما ينزه عنه كلام الله تبارك وتعالى. وقال تعالى مخبرا عن أصحاب الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} وقال تعالى في سورة طه بعد ما ذكر قصصا كثيرة لموسى عليه الصلاة والسلام: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} وقال تعالى في أول سورة القصص: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} وقال تعالى مخبرا عن موسى وعن الرجل الصالح: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. والمقصود مما ذكرنا أمران أحدهما بيان معنى القصص الذي قال الله تعالى فيه: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} وقوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وأن المراد بذلك ذكر أخبارهم وما جرى لهم مع قومهم، الثاني بيان غلط ابن محمود فيما ذهب إليه من حمل القصص على ذكر عدد الأنبياء وبيان أنه لا دليل على ذلك لا من القرآن ولا من السنة ولا من لغة العرب وما كان هكذا فينبغي أن لا يلتفت إليه. أما السابع: وهو قوله في صفحه (6):وقد وردت عدة أحاديث في عدد الأنبياء يخالف بعضها بعضا وكلها من الضعاف التي لا يحتج بها وقد ساقها ابن كثير في التفسير من آخر سورة النساء وبعضها من قول كعب الأحبار. فجوابه: أن يقال: إن الأحاديث التي ذكرها ابن كثير في

قوله والذي عليه المحققون من السلف أن لله أنبياء كثيرين لا يعلم عددهم إلا الله وأن من عد الأنبياء فقد أخطأ وتكلف والرد عليه في ذلك

تفسير سورة النساء في عدد الأنبياء ليس فيها شيء من قول كعب الأحبار وإنما الذي ذكره عن كعب الأحبار هو في تكليم الله لموسى عليه الصلاة والسلام، فما قاله ابن محمود وهم وغلط. وأما الثامن: وهو قوله في صفحة (6) والذي عليه المحققون من السلف أن لله أنبياء كثيرين لا يعلم عددهم إلا الله، وقالوا: إن من عد الأنبياء فقد أخطأ وتكلف ما لا علم له به، ومثله قوله في عدد الرسل وأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. فجوابه: من وجوه أحدها أن يقال: لا يخفى ما في هذا القول من المجازفة والقول على السلف بما لم ينقل عن أحد منهم فيما أعلم. الوجه الثاني: قال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه (أصول الدين): أجمع أصحاب التواريخ من المسلمين على أن عدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، كما وردت به الأخبار الصحيحة. أولهم أبونا آدم عليه السلام وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على أن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر - إلى أن قال - وإذا صح لنا أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر قلنا: إن خمسة منهم من أولي العزم المذكورين في القرآن وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وخمسة منهم من العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليهم السلام. انتهى. وفيما ذكره من إجماع أصحاب التواريخ من المسلمين على عدد الأنبياء والرسل أبلغ رد على ابن محمود.

الوجه الثالث: أن يقال: قد تقدمت الأحاديث عن أبي ذر وأبي أمامة وعوف بن مالك رضي الله عنهم في عدد الأنبياء والمرسلين، وأحاديثهم يشد بعضها بعضا وتشهد لها الرواية الصحيحة في إثبات نبوة آدم عليه الصلاة والسلام وعدد الرسل، وتقدم أيضا ما ذكره ابن قتيبة في كتاب (المعارف) عن ابن عباس رضي الله عنهما في عدد الأنبياء والرسل وهو موافق لما جاء في الأحاديث الثلاثة عن أبي ذر وأبي أمامة وعوف ابن مالك رضي الله عنهم، وعلى هذا فهل يأمن ابن محمود أن يكون قد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه: إنه قد تكلف ما لا علم له به، وأن يكون أيضا قد خطأ حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وقال فيه: إنه قد تكلف ما لا علم له به، ولا يخفى أن هذا المحذور ليس ببعيد من ابن محمود. فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم الوجه الرابع: أن يقال: قد تقدم ما رواه الطبراني والحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه في عدد الرسل وأنهم كانوا ثلاثمائة وخمسة عشر قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقال الهيثمي في إسناد الطبراني: رجاله رجال الصحيح. وهذا الحديث لا يرده إلا جاهل أو مكابر، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه ورددنا على الله أمره قال الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.

تشديد أحمد والبربهاري وابن شاقلا في رد الأحاديث

وروي القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة من طريق أبي بكر الآدمي المقري حدثنا الفضل بن زياد القطان قال: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة. وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة الحسن بن علي بن خلف أبي محمد البربهاري - وهو من أعيان العلماء في آخر القرن الثالث وأول القرن الرابع من الهجرة - أنه قال في كتابه (شرح السنة): ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام وقال البربهاري أيضا: من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله ومن رد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم. وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا أنه قال: من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها وتجرأ على ردها فقد تهجم على رد الإسلام لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت. انتهى. وإذا علم هذا ففي الحديث الذي ذكرنا في عدد الرسل أبلغ رد على ابن محمود في تخطئته من عد الرسل وزعمه أن من عدهم فقد تكلف ما لا علم له به، وما يدري هدانا الله وإياه ووفقنا جميعا لاتباع الحق أن كلامه هذا يتناول النبي صلى الله عليه وسلم، وما أعظم ذلك وأبشعه وأشد الحكم فيه، فالواجب عليه أن يبادر إلى التوبة من هذا الزلة العظيمة.

تغليطه من فرق بين الأنبياء والرسل والرد عليه

وأما التاسع: وهو تغليطه من فرق بين الأنبياء والرسل فقد صرح بذلك في آخر صفحة (5) وفي أثناء صفحة (6) وهذا ملخص كلامه، قال: ويترجح أن هذا الاعتقاد في قولهم أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أنه إنما دخل على الناس من عهد قريب حيث أنه ليس معروفا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين - إلى أن قال - فهذه الغلطة في التفريق بين الرسول والنبي يظهر أنها إنما دخلت على الناس من طريق حديث موضوع رواه ابن مروديه عن أبي ذر - إلى أن قال - وكأن هذا منشأ الغلط في التفريق بين الأنبياء والرسل وأن النبي غير الرسول إذ النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فليس كل نبي رسولا بزعمهم، وهذا التفريق لم نجد له أصلا قطعا. والجواب: عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: قد تقدم الجواب عن قوله: إن التفريق بين الرسول والنبي ليس معروفا عند الصحابة والتابعين والسلف السابقين فليراجع. الوجه الثاني: أن يقال قد تقدم ما ذكره أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي عن أصحاب التواريخ من المسلمين أنهم أجمعوا على أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وأن عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وتقدم أيضا قول ابن حزم في التفريق بين الرسول والنبي أنه لا خلاف فيه، وهذا يقتضي أن التفريق بين الرسول والنبي متفق عليه بين أهل السنة والجماعة، وتقدم أيضا ما ذكره الرازي عن المعتزلة أنهم قالوا: كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما، وإذا علم هذا فنقول: إن الغالط في الحقيقة هو من خالف أهل السنة والجماعة واتبع أهل البدعة والضلالة من المعتزلة ومن قال بقولهم الباطل!

قوله أن ابن الجوزي ذكر حديث أبي ذر في الموضوعات والرد عليه

الوجه الثالث: أن يقال: إن الأصل في التفريق بين الرسول والنبي هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر الأدلة منهما على ذلك، وإذا كان هذا الأصل قد خفي على ابن محمود ولم يجده فقد ظهر ذلك لغيره من العلماء ووجدوه صريحا في الكتاب والسنة، وقد ذكرت أقوال المفسرين وشراح الأحاديث وغيرهم من أكابر الأئمة في ذلك فليراجع. وأما العاشر وهو قوله في صفحة (6):إن ابن الجوزي وكثيرا من العلماء ذكروا حديث أبي ذر في الموضوعات. فجوابه: أن يقال: قد جاء في آخر تفسير سورة النساء من تفسير ابن كثير بعد ذكر رواية ابن مردويه لحديث أبي ذر رضي الله عنه ما نصه، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه الأنواع والتقاسيم وقد وسمه بالصحة وخالفه أبو الفرج ابن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث والله أعلم انتهى ما جاء في تفسير ابن كثير، والظاهر أن ابن محمود قال ما نسبه إلى ابن الجوزي تقليدا لما جاء في تفسير ابن كثير، وقد تصفحت كتاب الموضوعات لابن الجوزي من أوله إلى آخره وتتبعته حديثا؛ حديثا فما وجدته ذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه ولا أشار إليه، وتصفحت أيضا عدة كتب مما صنف في الموضوعات فما وجدتهم ذكروا حديث أبي ذر رضي الله عنه ولا أشاروا إليه، وهذا مما يثير الشك فيما جاء في تفسير ابن كثير فلعله مقحم فيه وليس من كلام ابن كثير والله علم. وإذا علم هذا فحديث أبي ذر رضي الله عنه قد رواه ابن حبان في صحيحه مطولا، وروى الحاكم في مستدركه طرفا منه في فضل آية الكرسي وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. وقد روي بعضه من حديث أبي أمامة وعوف بن مالك رضي الله عنهما، وروى الطبراني والحاكم طرفا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه في ذكر نبوة آدم وعدد الرسل، قال الهيثمي: ورجال الطبراني رجال الصحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه، وروى ابن حبان في صحيحه طرفا منه

نفيه الرسالة عن آدم والرد عليه

في ذكر نبوة آدم وقال فيه ابن كثير في (البداية والنهاية): وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه، وهذا الرواية الصحيحة تشهد لحديث أبي ذر رضي الله عنه وتقويه. وعلى هذا فالحكم عليه بالوضع فيه نظر لا يخفى، وكذلك اتهام إبراهيم بن هشام به فيه نظر لا يخفى لأن إبراهيم بن هشام لم ينفرد بروايته بل قد روي من طرق متعددة ليس فيها إبراهيم بن هشام وقد تقدم ذكرها فلتراجع ففيها دليل على براءة إبراهيم بن هشام مما اتهم به والله أعلم. وأما الحادي عشر وهو قوله في آخر صفحة (6) ومثله قوله في آدم وأنه أول الرسل والصحيح أن أول الرسل نوح. فجوابه: أن يقال: قد تقدم ما رواه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: (نعم) الحديث قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ورواه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ وقال فيه ابن كثير في (البداية والنهاية): وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه، ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: «نعم معلم مكلم» الحديث قال الحاكم صحيح: على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وفي هذا الحديث الصحيح أبلغ رد على من نفى نبوة آدم عليه الصلاة والسلام.

وفي حديث أبي ذر الطويل قلت: يا رسول الله كم الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟ قال: «آدم عليه السلام» قلت: يا رسول الله أنبي مرسل؟ قال: «نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا» رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه ابن جرير في أول تاريخه بنحوه وقال فيه قلت: يا رسول الله وآدم نبي مرسل؟ قال: «نعم» الحديث. وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن أبا ذر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أو نبي كان آدم؟ قال: «نعم نبي مكلم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم قال له: يا آدم قبلا» رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير، ورواه ابن جرير في أول تاريخه بنحوه. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه أن أبا ذر رضي الله عنه جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث فيه - قلت: يا رسول الله فأي الأنبياء كان أول؟ فقال: (آدم) فقلت: أو نبيا كان؟ قال: (نعم نبي مكلم) الحديث ذكره الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية) ونسبه لإسحاق بن راهويه، وهذا الحديث والحديثان قبله يشد بعضهما بعضا وتشهد لها الرواية الصحيحة عن أبي أمامة رضي الله عنه، وفيها الرد على من نفى نبوة آدم عليه الصلاة والسلام. وقد قال ابن قتيبة في كتاب (المعارف) ذكر وهب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول المرسلين آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن جرير في تاريخه وكان آدم مع ما كان الله عز وجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه الله وجعله رسولا إلى ولده وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة

كتبها آدم عليه السلام بخطه علمه إياها جبرائيل عليه السلام، وقيل: إنه كان مما أنزل الله تعالى على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة. انتهى. وقال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه (أصول الدين): أجمع المسلمون وأهل الكتاب على أن أول من أرسل من الناس آدم عليه السلام وآخرهم عند المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال - وقد كان آدم عليه لسلام مرسلا إلى جميع ولده الذين أدركوه. انتهى. وقال القاضي عياض في كتابه (الشفا) والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفيما ذكره عبد القاهر بن طاهر من إجماع المسلمين على أن أول الرسل آدم عليه السلام أبلغ رد على من نفى نبوته. وأما ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه المتفق على صحته في ذكر الشفاعة أن الناس إذا طلبوا من آدم الشفاعة يقول لهم: (ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) وكذلك ما في حديث أبي هريرة المتفق على صحته في ذكر الشفاعة أن الناس يقولون لنوح: (يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض). فقد أجاب عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقال في ذكر نوح من أحاديث الأنبياء، أما كونه أول الرسل فقد استشكل بأن آدم كان نبيا وبالضرورة تعلم أنه كان على شريعة من العبادة وأن أولاده أخذوا ذلك عنه فعلى هذا فهو رسول إليهم فيكون هو أول رسول، فيحتمل أن تكون الأولية في قول أهل الموقف لنوح مقيدة بقولهم إلى أهل الأرض لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهل، أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية

زعمه أن من فرق بين الرسول والنبي فقد فرق بين الأنبياء في الإيمان والرد عليه

للأولاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه رسول أرسل إلى نبيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم مع تفرقهم في عدة بلاد، وآدم إنما أرسل إلى بنيه فقط وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة. وقال الحافظ أيضا في شرح (باب صفة الجنة والنار) من كتاب الرقاق ما ملخصه، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح، ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقوله: (أهل الأرض) لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد. انتهى. ونقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض ما ملخصه أن آدم وشيث رسالتهما إلى من معهما وأن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفارا، بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض. انتهى. وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية المنقول من كتاب النبوات نحو ذلك. وأما الثاني عشر وهو زعمه أن من فرق بين الرسول والنبي فقد فرق بين الأنبياء في الإيمان، قال في صفحة (9) ما نصه: ويجب تنزيه الأنبياء عن هذا الاعتقاد الذي هو تفريق بينهم - إلى أن قال - ولا شك أن وصف أحدهم بأنه نبي وليس برسول لكونه أوحى إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه وبعضهم نبي رسول أن هذا هو حقيقة التفريق بينهم إذ فيه إزالة

وصف الرسالة التي هي أعلا المراتب عن بعضهم لأنه وإن فسر هذا التفريق بالإيمان ببعضهم والكفر ببعض فإن الخطاب محتمل لهذا وذاك إذ كلا الأمرين تفريق بينهم والقرآن يوجب على المؤمنين أن يؤمنوا بجميع الأنبياء بدون تفريق. فجوابه: من وجوه أحدها أن يقال: إن القول بوجوب تنزيه الأنبياء عن التفريق بين الرسول منهم والنبي قول أحدثه ابن محمود لم يسبقه إليه أحد ولا قال أحد قبله أن التفريق بين الرسول والنبي من الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم. وقد قيل: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى قد فرق بين الرسول والنبي في كتابه وفرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث تقدم ذكرها، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن التفريق بين الرسول والنبي لا يجوز وإنه يجب تنزيه الأنبياء عنه. الوجه الثالث: إذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بين الرسول والنبي فهل يقول ابن محمود: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بين الأنبياء وأنه قال قولا يجب تنزيه الأنبياء عنه، أم ماذا يجيب به عن قوله الذي لم يتثبت فيه؟ الوجه الرابع: قد ذكرت فيما تقدم قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد في التفريق بين الرسول والنبي وذكرت أيضا أقوال كثير من المفسرين وغيرهم من أكابر العلماء في ذلك وهم الذين كانوا في أول القرن الثامن فما قبله، وتركت ما قاله كثير من المتأخرين في ذلك فلم أذكره وهم الذين كانوا في آخر

القرن الثامن فما بعده، وكل من ذكرت أقوالهم فيما تقدم ومن أشرت إليهم هاهنا ولم أذكر أقوالهم يكونون على زعم ابن محمود قد قالوا قولا يجب تنزيه الأنبياء عنه وفرقوا بين الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم، ولا يخفى ما في هذا القول المحدث من المجازفة السيئة والتحامل الذميم، ولا شك أنهم هم المصيبون في تفريقهم بين الرسول والنبي وأن الخطأ لازم لمن شذ عنهم وخالف قولهم كالمعتزلة ومن نحا نحوهم وقال بقولهم الباطل في المنع من التفريق بين الرسول والنبي. الوجه الخامس: إننا ننزه ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهدا وجميع الذين صرحوا بالتفريق بين الرسول والنبي مما زعمه ابن محمود من كونهم فرقوا بين الأنبياء في الإيمان وأنهم قالوا قولا يجب تنزيه الأنبياء عنه. الوجه السادس: أن يقال: ليس التفريق بين الرسول والنبي من التفريق الذي يجب تنزيه الأنبياء عنه وإنما هو من التفضيل الذي قال الله تعالى فيه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ففضل بعض الأنبياء بالرسالة كما فضل بعض الرسل على بعض ففضل أولي العزم على سائر الرسل فضل إبراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم على الجميع بالخلة، وفضل آدم بأن خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وفضل موسى عليه الصلاة والسلام بالتكليم، فضل عيسى عليه الصلاة والسلام بأنواع من التفضيل، ولم يقل أحد أن تفضيل بعض الرسل على بعض من التفريق بينهم فكذلك يقال في تفضيل بعض الأنبياء على بعض بالرسالة. قال القاضي عياض في كتابه (الشفا) بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في النهي عن التفضيل بين الأنبياء وذكر أقوال العلماء في تأويلها - إلى أن قال - الوجه الرابع منع

التفضيل في حق النبوة والرسالة فإن الأنبياء فيها على حد واحد إذ هي شيء واحد لا يتفاضل وإنما التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب والألطاف، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها ولذلك منهم رسل ومنهم أولو عزم من الرسل ومنهم من رفع مكانا عليا ومنهم من أوتي الحكم صبيا وأوتي بعضهم الزبور وبعضهم البينات ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} الآية وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية، قال بعض أهل العلم: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا وذلك بثلاثة أحوال أن تكون آيته ومعجزاته أبهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون في ذاته أفضل وأظهر، وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه. انتهى. وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} لا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولي العزم منهم أفضل وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وفي الشورى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ولا خلاف أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضلهم ثم بعده إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام على المشهور. انتهى. وأما الثالث عشر وهو قوله في صفحة (8) ما نصه:- فإن قيل في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ

زعمه أن كل مسلم مؤمن وأنه لا فرق بين المسلم والمؤمن والرد عليه

وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ} فعطف بالنبي على الرسول بالواو المفيدة للمغايرة فكأن النبي غير الرسول، ثم أجاب بأن هذا يقع كثيرا في القرآن والسنة يعطف بالشيء على الشيء ويراد بالتالي نفس الأول كما في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فغاير بينهما بحرف العطف ومعلوم أن المسلمين هم المؤمنون والمؤمنين هم المسلمون فلا يقال فلان مسلم وليس بمؤمن ولا أنه مؤمن وليس بمسلم وإنما هو تنوع اسم والمسمى واحد، نظيره قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فعطف بجبريل وميكال على الملائكة وهما منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»، مثله قول أحدنا: «لا حول ولا قوة إلا بالله» وغير ذلك من الألفاظ التي يعطف بعضها على بعض ويراد بالتالي نفس الأول. فالجواب عنه من وجوه: أحدها أن يقال: إن كلام ابن محمود ينقض بعضه بعضا لأنه قرر أن الله تعالى عطف بالنبي على الرسول بالواو المفيدة للمغايرة وأنه تعالى غاير بين المسلمين والمؤمنين بحرف العطف، ثم نقض ذلك بقوله أنه يقع كثيرا في القرآن والسنة يعطف بالشيء على الشيء ويراد بالتالي نفس الأول، وبقوله أيضا ومعلوم أن المسلمين هم المؤمنون إلى آخر كلامه. الوجه الثاني: أن يقال: إن وقوع المغايرة بين الشيئين لابد أن يكون من أجل فارق بينهما، ومن زعم أنه لا فرق بين الرسول والنبي ولا بين المسلم والمؤمن فقد أبطل فائدة المغايرة. الوجه الثالث: أن الفرق بين الرسول والنبي ثابت بالأدلة الصريحة من الكتاب والسنة وقد تقدم بيان ذلك، وتقدم

أيضا قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغيرهما من أكابر العلماء في ذلك، وتقدم أيضا ما ذكره أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي عن أصحاب التواريخ من المسلمين أنهم أجمعوا على أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وأن عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وتقدم أيضا قول ابن حزم في التفريق بين الرسول والنبي أنه لا خلاف فيه فليراجع كل ما تقدم ذكره ففيه أبلغ رد على من أبطل فائدة المغايرة بين الرسول والنبي. الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الإسلام والإيمان حين سأله جبريل عنهما وصدقه جبريل على ذلك، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة، منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» قال: صدقت, قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فاخبرني عن الإيمان, قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال صدقت. الحديث وفي آخره ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل» قلت: الله ورسوله أعلم قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ببعض

الأسانيد التي ساقها مسلم في صحيحه ولم يسق لفظها وفيه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما الإسلام قال: «الإسلام أن تسلم وجهك لله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت» قال فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم قال: «نعم» قال: صدقت قال: فقلنا انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه، قال: وقال: يا رسول الله ما الإحسان قال: «تخشى الله كأنك تراه أو تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك» قال: صدقت، قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه، قال: فقال: يا رسول الله ما الإيمان قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله وبالموت وبالبعث وبالجنة وبالنار وبالقدر كله» قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال: «نعم» قال: صدقت قال: قلنا انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه. ورواه ابن حبان في صحيحه وقال فيه: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وأن تتم الوضوء وتصوم رمضان» قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم قال: «نعم» قال: صدقت قال: يا محمد ما الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن قال: «نعم» قال: صدقت، ورواه الدارقطني في سننه بنحو رواية ابن حبان وقال: إسناده ثابت صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحو حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم وأهل السنن إلا الترمذي. ومنها حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما بنحو حديث عمر رضي الله عنه وفيه أن جبريل قال: يا محمد أخبرني

ما الإسلام قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان» قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت قال: «نعم» قال: صدقت، قال: يا محمد أخبرني ما الإيمان قال: «الإيمان بالله وملائكته والكتاب والنبيين وتؤمن بالقدر» قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال: صدقت. رواه النسائي. ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحو حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما رواه الإمام أحمد وأبو داود والآجري في كتاب الشريعة. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من زعم أن مسمى الإسلام والإيمان واحد، قال النووي رحمه الله تعالى في شرح الأربعين له بعد أن ذكر حديث عمر رضي الله عنه الذي تقدم: وقد غاير الله تعالى بين الإيمان والإسلام كما في الحديث قال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}. وقال النووي في شرح مسلم عن أبي عمرو بن الصلاح أنه قال: إن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وإن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، قال وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. انتهى. الوجه الخامس: أن يقال: ما صرح به ابن محمود في الإسلام والإيمان أنهما واحد هو قول الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم وهو قول مخالف لظاهر القرآن وللأحاديث الصحيحة ولما عليه جمهور أهل السنة والجماعة كما سيأتي بيان ذلك في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن رجب، وهذه المسألة قد

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في التفريق بين الإسلام والإيمان

تكلم فيها شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره من أكابر العلماء بما فيه كفاية في بيان الحق ورد الباطل، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان الكبير، قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان ومسمى الإحسان فقال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» وقال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». والفرق مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه، وكلاهما فيه أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله، وكذلك فسر الإسلام في حديث ابن عمر المشهور قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان»، وحديث جبرائيل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو الإسلام نفسه ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات أعلاها الإحسان وأوسطها الإيمان ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم وليس كل مؤمن محسنا ولا كل مسلم مؤمنا - إلى أن قال - وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب» فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس، فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان صلح الجسد بالإسلام وهو من الإيمان، يدل على ذلك أنه قال في

حديث جبرائيل: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم» فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة؛ لكن هو درجات ثلاثة مسلم ثم مؤمن ثم محسن. كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة بخلاف الظالم لنفسه، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد، وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين - إلى أن قال - فلما ذكر الإيمان مع الإسلام جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة؛ الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج وجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهكذا في الحديث الذي رواه أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب». وإذا ذكر اسم الإيمان مجردا دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة - إلى أن قال في أثناء الكتاب - وقد أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} وقد ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم رهطا وترك فيهم من لم يعطه وهو أعجبهم إلي فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله أني لأراه مؤمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مسلما» أقولها ثلاثا ويرددها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ثم

الخوارج والمعتزلة عندهم أن الإيمان والإسلام واحد

قال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله على وجهه في النار» فهذا الذي نفى عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم هل هو إسلام يثابون عليه أم هو من جنس إسلام المنافقين؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف أحدهما أنه إسلام يثابون عليه ويخرجهم من الكفر والنفاق وهذا مروي عن الحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر وهو قول حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وسهل بن عبد الله التستري وأبي طالب المكي وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق. والقول الثاني: أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل مثل إسلام المنافقين. قالوا وهؤلاء كفار فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر، وهذا اختيار البخاري ومحمد ابن نصر المروزي - ثم ذكر الشيخ عن الخوارج والمعتزلة أنهم يخرجون أهل الكبائر من اسم الإيمان والإسلام وأن الإيمان والإسلام عندهم واحد فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، ولكن الخوارج تقول هم كفار والمعتزلة تقول لا مسلمون ولا كفار ينزلونهم منزلة بين المنزلتين - وذكر الشيخ الدليل على أن إسلام الأعراب إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين وأطال الكلام في تقرير ذلك إلى أن قال: وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال، قيل هو الإيمان وهما اسمان لمسمى واحد، وقيل هو الكلمة، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الشيخ أيضا أنه يجب رد ما تنازع الناس فيه إلى الله ورسوله، قال والرد إلى الله ورسوله في مسألة الإسلام

والإيمان يوجب أن كلا من الاسمين وإن كان مسماه واجبا لا يستحق أحد الجنة إلا بأن يكون مؤمنا مسلما، فالحق في ذلك ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ فجعل الدين وأهله ثلاث طبقات أولها الإسلام وأوسطها الإيمان وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي تليها، فالمحسن مؤمن، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمنا، وهكذا جاء القرآن فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. وقال أبو سليمان الخطابي: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة فأما الزهري فقال الإسلام الكلمة والإيمان العمل واحتج بالآية، وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد واحتج بقول: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منها. قال الشيخ والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما كأبي جعفر وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي وهو قول أحمد بن حنبل وغيره ولا علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء فجعل نفس الإسلام نفس الإيمان، ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي، وكذلك

تفريق أحمد وغيره من السلف بين الإسلام والإيمان

ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني وابنه محمد شارح مسلم وغيرهما أن المختار عند أهل السنة أنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن كما دل عليه النص - إلى أن قال - قال الميموني: قلت: يا أبا عبد الله تفرق بين الإسلام والإيمان قال: نعم، قلت: بأي شيء تحتج قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» وقال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قال: وحماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، قال: وحدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: قال مالك: وذكر قولهم وقول حماد بن زيد، فرق بين الإسلام والإيمان، قلت لأبي عبد الله فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن قال: نعم، قلت: فإذا كانت المرجئة يقولون: إن الإسلام هو القول قال: هم يصيرون هذا كله واحدا ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكمل الإيمان، قلت: فمن هاهنا حجتنا عليهم قال: نعم، قال الشيخ: فقد ذكر عنه الفرق مطلقا واحتجاجه بالنصوص. وقال صالح بن أحمد: سئل أبي عن الإسلام والإيمان، قال: قال ابن أبي ذئب: الإسلام القول والإيمان العمل، قيل له ما تقوله أنت قال: الإسلام غير الإيمان وذكر حديث سعد وقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ: فهو في هذا الحديث لم يختر قول من قال الإسلام القول بل أجاب بأن الإسلام غير الإيمان كما دل عليه الحديث الصحيح مع القرآن، وقال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله قلت: قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» قال: قد تأولوه فأما عطاء فقال يتنحى عنه الإيمان وقال طاووس: إذا فعل ذلك زال عنه الإيمان، وروي عن الحسن قال: إن رجع راجعه الإيمان وقد قيل يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام، وروي هذه المسألة صالح وسأل أباه عن هذه

كلام ابن كثير في التفريق بين الإيمان والإسلام

القصة فقال فيها هكذا يروي عن أبي جعفر قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام فالإيمان مقصور في الإسلام فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، قال الزهري - يعني - لما روى حديث سعد «أو مسلم» فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أحمد: وهو حديث متأول والله أعلم. فقد ذكر أقوال التابعين ولم يرجح شيئا وذلك والله أعلم لأن جميع ما قالوه حق وهو يوافق على ذلك كله كما قد ذكر في مواضع أخر أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام ونحو ذلك، وأحمد وأمثاله من السلف لا يريدون بلفظ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، بل التأويل عندهم مثل التفسير وبيان ما يؤول إليه اللفظ كقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن، وإلا فما ذكره التابعون لا يخالف ظاهر الحديث بل يوافقه، وقول أحمد يتأوله أي يفسر معناه وإن كان ذلك يوافق ظاهره لئلا يظن مبتدع أن معناه أنه صار كافرا لا إيمان معه بحال كما تقوله الخوارج فإن الحديث لا يدل على هذا، والذي نفى عن هؤلاء الإيمان كان يجعلهم مسلمين لا يجعلهم مؤمنين - إلى أن قال - والمقصود هنا أن هنا قولين متطرفين قول من يقول الإسلام مجرد الكلمة، والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإسلام، وقول من يقول مسمى الإسلام والإيمان واحد، وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم انتهى المقصود من كلامه مخلصا. وقال ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب، قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دليل على أن

الإيمان غير الإسلام وهو أخص منه لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وفي الصحيحين: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين فدل على أنه أخص منه. وقال ابن كثير أيضا في تفسير سورة الحجرات: يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادَّعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن الإيمان في قولهم بعد: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه، ثم ذكر ابن كثير ما رواه الإمام أحمد والشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا فقال سعد رضي الله عنه: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو مسلم» حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم «إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم فلم أعطه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم» قال ابن كثير: فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام، ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا لأنه تركه من العطاء، ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين وإنما

كلام ابن رجب في التفريق بين الإيمان والإسلام

هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير، وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك، وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا: في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي استسلمنا خوف القتل والسبي، وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يحصل لهم بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة، وإنما قيل لهؤلاء تأديبا {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. انتهى. وذكر ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) عن المحققين من العلماء أنهم قالوا: كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا فلا يتحقق القلب به تحقيقا تاما مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلما وليس بمؤمن الإيمان التام كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية فلم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، بل كان إيمانهم ضعيفا، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} الآية , يعني لا ينقصكم من أجورها فدل على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما قال له: لم تعط فلانا وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو مسلم» يشير إلى أنه لم يتحقق مقام الإيمان فإنما هو في مقام الإسلام الظاهر

ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضا، لكن اسم الإيمان ينفى عمن ترك شيئا من واجباته كما في قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وقد اختلف أهل السنة هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان أو يقال ليس بمؤمن لكنه مسلم؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد، وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وإنما ينفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى. وفيما ذكرته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن رجب كفاية في الرد على ابن محمود في زعمه أن مسمى الإسلام والإيمان واحد وأن المسلمين هم المؤمنون فلا يقال فلان مسلم وليس بمؤمن. الوجه السادس: أن يقال: في الآية التي أوردها ابن محمود وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية أوضح دليل على رد قوله أن مسمى الإسلام والإيمان واحد لأن الله تعالى وصف المؤمنين والمؤمنات في الآية الكريمة بحفظ الفروج كما وصفهم بذلك في سورة المؤمنين حيث يقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني وهو مؤمن» متفق عليه فنفى الإيمان عن الزاني حين يزني ولم ينف عنه الإسلام فدل على أنهما متغايران، وقد تقدم ما ذكره الإمام أحمد عن عطاء أنه قال: يتنحى عنه الإيمان، وعن طاوس أنه قال: إذا فعل ذلك زال

الزاني يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام

عنه الإيمان، وعن الحسن أنه قال: إن رجع راجعه الإيمان، وقد قيل يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام، وعن أبي جعفر قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وقال: في رسالته التي كتبها لمسدد، ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحدا بها انتهى، وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: الإيمان نزه فمن زنا فارقه الإيمان فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان. وروى عبد الله أيضا عن عثمان بن أبي صفية قال: قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لغلمانه يدعو غلاما؛ غلاما يقول: ألا أزوجك ما من عبد يزني إلا نزع الله منه نور الإيمان، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق الأعمش عن مجاهد قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يسمى غلمانه تسمية العرب ويقول لا تزنوا فإن الرجل إذا زنى نزع منه نور الإيمان، وروى أيضا عن مجاهد عن أبي عباس رضي الله عنهما أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه فإنه لا يزني زان إلا نزع الله منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده رده وإن شاء أن يمنعه منعه. وروى عبد الله بن الإمام أحمد وأبو بكر الآجري عن الحسن أنه قال: يجانبه الإيمان ما دام كذلك فإن راجع راجعه الإيمان، وروى عبد الله أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: هذا الإسلام ودور دائرة وفي وسطها أخرى وهذا الإيمان التي في وسطها مقصور في الإسلام قال: فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» يخرج

ما يلزم من يقول أن مسمى الإسلام والإيمان واحد

من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام فإذا تاب؛ تاب الله عليه قال: رجع إلى الإيمان، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه وزاد في رواية ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك ثم قال الآجري: ما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما وذلك أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والإسلام لا يجوز أن يقال يزيد وينقص؛ وقد روي عن جماعة ممن تقدم - أي من السلف - أنهم قالوا إذا زنى نزع منه الإيمان، فإن تاب رد الله تعالى إليه الإيمان، كل ذلك دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، والإسلام ليس كذلك، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر». انتهى. وقد عقد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (روضة المحبين) فصلا ذكر فيه أن الزنى يجمع خلال الشر كلها ثم ذكر أنواعا مما فيه من الشر - إلى أن قال- ومنها أنه يسلبه اسم المؤمن كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فسلبه اسم الإيمان المطلق، وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان، وسئل جعفر بن محمد عن هذا الحديث فخط دائرة في الأرض وقال: هذه دائرة الإيمان ثم خط دائرة أخرى خارجة عنها، وقال: هذه دائرة الإسلام فإذا زنى العبد خرج من هذه ولم يخرج من هذه، ولا يلزم من ثبوت جزء ما من الإيمان له أن يسمى مؤمنا كما أن الرجل يكون معه جزء من العلم والفقه ولا يسمى به عالما فقيها، ومعه جزء من الشجاعة والجود ولا يسمى بذلك شجاعا ولا جوادا، وكذلك يكون معه شيء من التقوى ولا يسمى متقيا ونظائره، فالصواب إجراء الحديث على ظاهره ولا يتأول بما يخالف ظاهره والله أعلم. انتهى. ويلزم على قول ابن محمود أحد أمرين أما إثبات الإيمان للزاني حين يزني وهذا يعارض الحديث الصحيح الذي تقدم

إنكار ابن مسعود على من جزم لنفسه بالإيمان ولم يستثن

ذكره، ويوافق قول المرجئة الذين يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وأما نفي الإيمان والإسلام معا عن الزاني حين يزني وهذا يوافق قول الخوارج والمعتزلة الذين يخرجون أهل الكبائر من اسم الإيمان والإسلام، لأن الإيمان والإسلام عندهم واحد فإذا خرجوا من الإيمان خرجوا من الإسلام، فقول ابن محمود لا يخلو من موافقة المرجئة أو موافقة الخوارج والمعتزلة، فليختر ما يناسبه من القولين إن كان لا يزال مصرا على قول الباطل. الوجه السابع: أن ابن مسعود رضي الله عنه عاب على الذين ادعوا لأنفسهم الإيمان، قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: حدثني أبي حدثنا يحيي حدثنا شعبة حدثني مغيرة عن أبي وائل قال: قال رجل عند عبد الله: أني مؤمن قال: قل أني في الجنة، إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي حدثنا يحيى حدثنا شعبة حدثني سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله أني مؤمن، قال: قل إني في الجنة ولكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال عبد الله أيضا حدثني أبي حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن لقيت ركبا فقلت: من أنتم فقالوا: نحن المؤمنون قال عبد الله: أفلا قالوا نحن أهل الجنة، إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال عبد الله أيضا: حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن مغيرة قال: قال رجل لأبي وائل سمعت ابن مسعود يقول: «من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة» قال: نعم، إسناده صحيح على شرط الشيخين.

قول علماء السلف بالإستثناء في الإيمان وإنكارهم على من لم يستثن

وروى أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: إني مؤمن ,قال: فقيل له يا أبا عبد الرحمن يزعم أنه مؤمن قال: فاسألوه أهو في الجنة أو في النار؟ قال: فسألوه فقال: الله أعلم فقال: ألا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى. وهذا القول من ابن مسعود رضي الله عنه ظاهر في التفريق بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان لأنه عاب على الذين قالوا: إنهم مؤمنون, ولم ينقل عنه ولا عن غيره من العلماء أنهم عابوا على من قال: إنه مسلم فدل على أن الإسلام والإيمان متغايران. وقد كان كثير من علماء السلف يرون الاستثناء في الإيمان ويعيبون على من لا يستثني، قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: حدثني أبي حدثنا علي بن بحر سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، قال: وكان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثنى وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن أبي نصر محمد بن كردي عن المروذي عن الإمام أحمد فذكره بمثله. وقال عبد الله أيضا قرأت على أبي جعفر حدثنا مهدي بن جعفر الرملي حدثنا الوليد يعني ابن مسلم سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون أن يقول أنا مؤمن ويأذنون في الاستثناء أن أقول أنا مؤمن إن شاء الله.

ذكر الأدلة على الإستثناء في الإيمان

وروى عبد الله أيضا وأبو بكر الآجري عن الحسن بن عبيد الله قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل أرجو إن شاء الله تعالى. وروى عبد الله والآجري أيضا عن إبراهيم قال: قال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو؛ إن شاء الله تعالى. وروى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة عن محمد ابن الحسن بن هارون بن بدينا قال: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن الاستثناء في الإيمان، فقال: نعم قد استثنى ابن مسعود وغيره وهو قول الثوري استثناء على غير شك مخافة واحتياطا للعمل، قال أبو عبد الله قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} قال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله». وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة عيسى بن جعفر الوراق؛ قال عيسى: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان فقال: أذهب فيه إلى قول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} فقد علم أنهم داخلون واستثنى، وإلى قوله عز وجل: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين؛ وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لاحق بهم واستثنى. وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة سمعت أبي يقول: الحجة على من لا يستثني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القبور: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ثم روى حديث عائشة رضي الله عنها في ذلك وحديثها أيضا أن النبي

الإستثناء في الإيمان ليس بشك

صلى الله عليه وسلم قال: «أما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسئلون» فذكر الحديث وفيه «ويقال على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله» قال أبو نصير: الاستثناء على العمل لأن القول قد جئنا به. وقال عبد الله أيضا حدثني أبي سمعت يحيى بن سعيد يقول ما أدركنا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء، قال يحيى وكان سفيان الثوري ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق الإمام أحمد. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي سمعت سفيان بن عيينة يقول: إن قال: إن شاء الله ليس يكره وليس بداخل في الشك، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق الإمام أحمد. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي حدثنا وكيع قال: قال سفيان الثوري: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ونرجو أن نكون كذلك ولا ندري ما حالنا عند الله، ورواه أبو بكر الآجري عن جعفر الصندلي حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أحمد قال: حدثنا وكيع فذكره بمثله. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن شماس سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قيل له كيف تقول أنت؟ قال: أقول مؤمن إن شاء الله. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي قال سليمان بن داود: أخبرنا خالد بن عبد الرحمن بن بكر السلمي قال: كنت عند محمد وعنده أيوب فقلت: له يا أبا بكر الرجل يقول لي مؤمن أنت؟، أقول مؤمن فانتهرني أيوب فقال محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

قول عائشة في الإستثناء في الإيمان

وروى عبد الله أيضا وأبو بكر الآجري عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟! فقل: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}. وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن إبراهيم قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟! فقل: لا إله إلا الله. وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن إبراهيم قال: سؤال الرجل؛ الرجل أمؤمن أنت؟! بدعة. وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن علقمة قال: تكلم عنده رجل من الخوارج بكلام كرهه فقال علقمة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} فقال له الخارجي: أو منهم أنت؟ قال: أرجو. وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن هشام قال: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم ويهابان مؤمن. وروى عبد الله أيضا عن ابن طاوس عن أبيه قال: كان إذا قيل له أمؤمن أنت قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله لا يزيد على ذلك، وروى أبو بكر الآجري عن إبراهيم نحو ذلك. وروى عبد الله أيضا عن الفضيل بن عياض أنه قال: لو قال رجل مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت، وقال: إذا قلت آمنت بالله فهو يجزيك من أن تقول أنا مؤمن وإذا قلت أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول آمنت بالله، قال فضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر وأنا مؤمن إن شاء الله، قال فضيل: الاستثناء ليس بشك. وقد روي الاستثناء عن عائشة رضي الله عنها رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة عن عبد الرحمن أبي

كلام حسن للآجري في الإستثناء في الإيمان وأنه طريق الصحابة والتابعين

عصمة قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول معاوية بهدية, فقال: أرسل بها إليكِ أمير المؤمنين، فقالت: أنتم المؤمنون إن شاء الله وهو أميركم وقد قبلت هديته. قال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة: من صفة أهل الحق الاستثناء في الإيمان؛ لا على جهة الشك نعوذ بالله من الشك في الإيمان؛ ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟ وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سئلوا أمؤمن أنت؟! قال آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار وأشباه هذا، والناطق بهذا والمصدق به بقلبه مؤمن وإنما الاستثناء في الإيمان لا يدري أهو ممن يستوجب ما نعت الله عز وجل به المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال لا يكون في القول والتصديق بالقلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون وبه يتناكحون وبه تجري أحكام ملة الإسلام ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بينا وبينه العلماء من قبلنا قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} وقد علم الله عز وجل أنهم داخلون، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله». قال محمد بن الحسين: وهذا مذهب كثير من العلماء وهو مذهب أحمد بن حنبل؛ واحتج أحمد بما ذكرنا واحتج بمسألة الملكين في القبر للمؤمن ومجاوبتهما له فيقولان له: «على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله تعالى،

ذكر حديثين ضعيفين جدا قد اعتمد عليهما ابن محمود في الجزم بالإيمان بدون استثناء

ويقال للكافر والمنافق على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله». حدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا أبو بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه، قال: أما أنا فلا أعيبه، قال أبو عبد الله: إذا كنت تقول: إن الإيمان قول وعمل واستثناء مخافة ليس كما يقولون على الشك أفما تستثني للعمل قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل» قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان. وحدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يعجبه الاستثناء في الإيمان فقال له رجل إنما الناس رجلان مؤمن وكافر، فقال أبو عبد الله فأين قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}؟ قال: وسمعت أبا عبد الله يقول إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. فليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله أليس هو شك؟! فقال: معاذ الله؛ أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: «وعليه تبعث إن شاء الله» فأي شك هاهنا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». انتهى. فإن قيل: فقد روى ابن المبارك في الزهد عن معمر عن صالح ابن مسمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري: «يا حارث بن مالك كيف أصبحت؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك» قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني

الرد على استدلال ابن محمود على أن مسمى الإسلام والإيمان واحد

أنظر إلى عرش ربي وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أسمع عواء أهل النار فقال: «مؤمن نور الله قلبه». وروى أبو أحمد العسكري من طريق أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان الداراني سمعت شيخا بساحل دمشق يقال له علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث قال: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من قومي فأعجبه سمتنا وهدينا قال: ما أنتم؟ قلنا: مؤمنون، قال: فما حقيقة إيمانكم قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها وخمس أمرتنا أن نعمل بها وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، فذكر الحديث بطوله، وقد ساقه ابن كثير في البداية والنهاية فقال: ذكر أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة والحافظ أبو موسى المديني من حديث أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث فذكره، وقد أورد ابن محمود هذين الحديثين في بعض رسائله واعتمد عليهما في الجزم بالإيمان بدون استثناء، وقال في الكلام على حديث الحارث بن مالك الأنصاري فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم جزمه بإيمانه بدون استثناء، وقال في الكلام على حديث سويد بن الحارث إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على الجزم بالإيمان ولم ينكر عليهم. والجواب: أن يقال: كل من الحديثين منكر لا يصلح للاستشهاد به, فضلا عن الاحتجاج به، فأما حديث الحارث بن مالك الأنصاري فقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: هو معضل، قال: ورواه البيهقي في الشعب من طريق يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف جدا، قال البيهقي: هذا منكر وقال ابن صاعد: هذا الحديث لا يثبت موصولا. انتهى.

وقد وهم ابن محمود فجعل هذا الحديث عن حارثة بن النعمان، والصواب أنه الحارث بن مالك الأنصاري كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة. وأما حديث علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي فهو أضعف مما قبله، قال الحافظ الذهبي في الميزان: علقمة بن يزيد بن سويد عن أبيه عن جده لا يعرف وأتى بخبر منكر فلا يحتج به، وكذا قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان. وإذا علم سقوط الحديثين اللذين احتج بهما ابن محمود على الجزم بالإيمان بدون استثناء فليعلم أيضا أن المعتمد في هذا ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من أكابر العلماء؛ من إنكار الجزم بالإيمان بدون استثناء وليس مع من خالفهم دليل يصلح لمعارضتهم. وأما الآية من سورة البقرة وهي قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فإن العطف فيها بالواو يفيد المغايرة بين جميع المذكورين في الآية الكريمة، ومن زعم أن الواو لا تفيد المغايرة وأنه يراد بالتالي نفس الأول فلازم قوله أن يكون ميكال نفس جبريل وأن تكون الرسل من بني آدم نفس الملائكة، وهذا من أبطل الباطل. وإنما وقع النص على جبريل وميكال مع أنهما من الملائكة لشرفهما على سائر الملائكة وهو من باب عطف الخاص على العام. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» فإنما هو وارد في التحذير من دعوى الجاهلية, وهو أن الرجل منهم إذا غلب خصمه نادى قومه بأعلى صوته يا آل فلان فيبتدرون إلى نصرته ظالما كان

كلام أهل اللغة على معنى " لا حول ولا قوة إلا بالله "

أو مظلوما جهلا منهم وعصبية، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة أهل الجاهلية في حميتهم وعصبيتهم وعاداتهم السيئة وأمر المسلمين أن يدعوا بالأسماء التي سماهم الله بها في كتابه، وليس في الحديث ما يعارض الأحاديث الصحيحة التي جاء فيها التفريق بين الإسلام والإيمان لأنها تفسر ما أجمل في غيرها والله أعلم. وأما قول ابن محمود مثله قول أحدنا لا حول ولا قوة إلا بالله، وغير ذلك من الألفاظ التي يعطف بعضها على بعض ويراد بالتالي نفس الأول. فجوابه: أن يقال: إن القوة ليست نفس الحول كما توهم ذلك ابن محمود بل بينهما فرق يدل على ما بينهما من المغايرة التي من أجلها وقع العطف بينهما بالواو، وقد نقل ابن منظور في لسان العرب عن الأزهري، قال: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا الهيثم يقول: عن تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: الحول الحركة تقول حال الشخص إذا تحرك وكذلك كل متحول عن حاله فكأن القائل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقول لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئته، ونقل ابن منظور أيضا عن الكسائي أنه قال: يقال لا حول ولا قوة إلا بالله ولا حيل ولا قوة إلا بالله وورد ذلك في الحديث لا حول ولا قوة إلا بالله وفسر بذلك المعنى لا حركة ولا قوة إلا بمشيئة الله تعالى. انتهى. وقال ابن الأثير في النهاية: فيه لا حول ولا قوة إلا بالله الحول هاهنا الحركة، يقال حال الشخص يحول إذا تحرك، والمعنى لا حركة ولا قوة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل الحول الحيلة والأول أشبه. انتهى. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: قوله لا حول ولا قوة إلا بالله؛ قال أبو الهيثم: الحول الحركة, يقال أحال الشخص

ما روي عن ابن مسعود في معنى " لا حول ولا قوة إلا بالله "

إذا تحرك ويقال استحل هذا الشخص أي انظر هل يتحرك أم لا؟ وكأن القائل يقول لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله عز وجل، وكذا قاله أبو عمر في الشرح عن أبي العباس قال: معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في درك خير إلا بالله، وقيل لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمته ولا قوة على طاعة الله إلا بعونه ويحكى هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: معنى لا حول ولا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وقيل معنى لا حول لا حيلة , وقال النووي هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى. انتهى. ومما ذكرته عن أهل اللغة وغيرهم من العلماء، يتضح ما بين الحول والقوة من التغاير ويتضح أيضا خطأ من زعم أنه يراد بالتالي نفس الأول والله أعلم. ومما ذكره الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم قالوا: كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما، يتبين أن ابن محمود قد تبع المعتزلة في رسالته التي سماها (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء) وخالف أهل السنة والجماعة الذين قالوا بالتفريق بين الرسول والنبي كما أنه قد تبع الخوارج والمعتزلة في زعمه أن مسمى الإسلام والإيمان واحد، وكذلك قد تبع غلاة القدرية في رسالته التي سماها (الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر) حيث كرر فيها إنكاره لكتابة المقادير وزعم أنها عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها، وبئس السلف غلاة القدرية والمعتزلة والخوارج.

[الخاتمة]

نسأل الله لنا وله الهداية والرجوع إلى الحق والصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وسلم تسليما كثيرا. وقد كان الفراع من التعليق على رسالتي ابن محمود في 14/ 7/ 1397 هـ على يد كاتبه الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري غفر الله له ولوالديه وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. * * *

§1/1