فتح المجيد شرح كتاب التوحيد - حطيبة

أحمد حطيبة

معنى التوحيد

شرح كتاب فتح المجيد - معنى التوحيد إن قوام الدين هو توحيد رب العالمين، والبراءة من الشرك به سبحانه، وكل رسل الله عليهم السلام جاءوا بالدعوة إلى التوحيد أولاً والتحذير من الشرك والتنديد ثانياً، وليس هذا إلا لأن دخول الجنة منوط بتحقيق التوحيد، والنجاة من النار كلياً أو جزئياً منوط بالتطهر من الشرك.

أهمية التوحيد

أهمية التوحيد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: سنبدأ من الليلة بإذن الله في شرح كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي الحنبلي من علماء القرن الثاني عشر الهجري، وكتابه في التوحيد عبارة عن متن أكثره من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم أمور الدين وهو أمر التوحيد. وقد شرح هذا الكتاب حفيد المصنف وهو سليمان بن عبد الله في كتاب سماه: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، واختصر هذا الكتاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد. فالتوحيد من المسائل العظيمة التي أنزل الله عز وجل كتبه وأرسل رسله لإقراره ولتعليم الخلق كيف يعبدون الله سبحانه، وكيف يوحدونه وحده لا شريك له. وقوام الدين توحيد رب العالمين، ومنع الشرك بالله سبحانه وتعالى، وتوحيد الله يعرف بما أنزل الله سبحانه وبتعليم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وما خلق الله الخلق إلا من أجله، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]، فالله خلق الخلق لعبادته وتوحيده سبحانه وتعالى، فأمر التوحيد ينبغي على كل إنسان مؤمن أن يتعلمه جيداً وأن يستقر في قلبه توحيد رب العالمين سبحانه، توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأن يعرف ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً يعرف أنواع الشرك حتى يجتنبها ولا يقع فيها. فهذا الكتاب يعلمنا أمر التوحيد وبدأه المصنف رحمه الله بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم ثم حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وسنمضي في الكتاب بحسب شرح الشارح ونختصر فيه ونذكر بعضاً من الأمور.

شرح البسملة

شرح البسملة قال: بسم الله الرحمن الرحيم، أي: ابتدأ كتابه بالبسملة، والبسملة كما نعرف هي: بسم الله الرحمن الرحيم، ويسميها علماء البيان نحت، يعني: تحويل الجملة إلى كلمة، مثلما تقول: الحوقلة وهي قول لا حول ولا قوة إلا بالله، أو الحولقة على الأصح فيها، والحمدلة والتهليل فهذا نحت من أصل جملة. وذكر هنا أنه بدأ بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، وهذا صحيح فكل سورة في كتاب الله عز وجل من أول القرآن إلى آخره -إلا سورة براءة- في أولها بسم الله الرحمن الرحيم. قال: وعملاً بحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) هذا حديث ضعيف جداً. ولـ أبي داود وابن ماجة: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع) وهو حديث ضعيف. قوله باسم: الباء متعلقة بشيء محذوف كأنه يقول: أبدأ كلامي باسم الله سبحانه، فكأن مقصده ابتدئ في تصنيفي وفي تأليفي ذاكراً الله سبحانه مستعيناً بالله سبحانه، فقال: هذه متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلاً خاصاً متأخراً، وكأنه يقول: باسم الله ابتدائي قال: وباء باسم الله قالوا: للمصاحبة، يعني: أستصحب اسم الله سبحانه فيما سأكتبه وأذكره أو أستعين باسم الله تبارك وتعالى في ذلك، مسمياً الله سبحانه وتعالى وذاكراً اسمه (الله)، وأصل كلمة الله الإله، وهذا ما اختاره الكسائي والفراء من علماء اللغة قالوا: أصله الإله وحذفت الهمزة وأدغمت اللام في اللام؛ قال: واختلفوا هل هذا الاسم العظيم المبارك (الله) جامد أو مشتق من شيء آخر، فنحن لما نقول مثلاً: (الرحيم) فهو مشتق من رحمة الله رب العالمين سبحانه، و (الرءوف) مشتق من الرأفة، وعلى هذا فهل اسم (الله) مشتق أم جامد؟ فمن العلماء من يقول: هو لفظ مرتجل جامد وقيل: هو مشتق: قال ابن القيم والصحيح أنه مشتق وأن أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ، وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. يقول ابن القيم موضحاً معنى الاشتقاق: إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، يعني: هو مشتق يدل على صفة لرب العالمين سبحانه وتعالى وهي صفة الإلهية - تقول: إلهية أو ألوهية كسائر أسمائه الحسنى أسمائه الحسنى، مثل: (العليم) مشتق من العلم، و (القدير) من القدرة، و (السميع) من السمع، و (البصير) من البصر، فهذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب- هذا كلام ابن القيم رحمه الله- يقول: وهي قديمة ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى. يقول الطبري: الله أصله الإله، وذكر ما ذكرناه قبل ذلك، قال: وهو الذي يألهه كل شيء، أي: يعبده كل شيء، وقال: قال ابن عباس: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه فهو الإله، قال: فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود؟ قلنا: قال رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المدهِ سبحن واسترجعن من تألهِ والتأله بمعنى العبادة قال: سبحن واسترجعن من تأله أي: من تعبد وطلب الله بعمل. قال: ولا شك أن التأله التفعل من أله يأله، وهذا أصلها في اللغة والفعل فيها أله يأله بالفتح فيهما، إذاً: أله أي: عبد، وقيل: بل من ألِهَ، كأنه مثل ولِهَ: بمعنى تحير، يعني أن الله سبحانه وتعالى يُتحير فيه فإذا أعمل الإنسان عقله لينظر ويشاهد جلال الله سبحانه وتعالى ويتفكر في ذاته فإنه يتحير، وإنما عليه أن يتفكر في مخلوقات الله التي تدل عليه سبحانه وتعالى. ولذلك قالوا: الله مشتق وقيل مرتجل وهو أعرف المعرفات جل أله أي عبد أو من الأله وهو اعماد الخلق أو من الوله أو المحجب عن العيان من لاهت العروس في البنيان يقول ابن القيم رحمه الله: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساق هذه الخصائص اللفظية، ثم قال: وأما خصائص هذا الاسم المعنوية، قال أعلم الخلق وهو النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، يعني: مهما حاول أن يحصي صفات الله التي يمدح عليها فلن يستطيع أن يحصي هذه الصفات لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الخلق وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق وكل مدح وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل عز وكل جمال وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا خوف إلا أزاله، ولا هم ولا غم إلا فرجه، ولا ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز ولا فقير إلا أصاره غنياً ولا مستوحش إلا آنسه ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه إلى آخر كلام ابن القيم رحمة الله عليه وهو كلام جيد. ساق قبل ذلك عن ابن عباس أنه قرأ: (ويذرك وإلهتك) كأن معناها: وعبادتك، يعني: أن قوم فرعون قالوا له: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك. وهذه ليست من القراءات العشر المتواترة، وإنما هي قراءة شاذة غايتها أن يقال: هناك قول لـ ابن عباس رضي الله عنه: أن الإله بمعنى العبادة، لكن ليست قراءة يقرأ بها القرآن. أيضاً ساق حديثاً عن أبي سعيد مرفوعاً: (أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب باسم الله، فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة)، ولا شك في ذلك ولكن الحديث لا يصح. قال: بسم الله الرحمن الرحيم. والرحمن من صفاته وأسمائه الحسنى سبحانه وتعالى فهو الرحمن الرحيم وبين الاسمين التقاء في المعنى أنه رحيم بعباده سبحانه من الرحمة ورحمن من الرحمة، ولكن يقول العلماء: أن بين الاثنين فرقاً، فالرحمن: دال على صفة رحمة قائمة به سبحانه وتعالى، فهو الرحمن الذي لا يشبهه شيء في رحمته العظيمة سبحانه وتعالى، ولا يتسمى بهذا الاسم أحد غيره ولم يتسم به إلا كذاب كرحمان اليمامة وقد ذكر الله عز وجل اسمه ثم قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] أي: هل تعرف أحداً يتسمى بهذا الاسم؟ فلم يتسم أحد باسم الله، ولا باسم الرحمن. فلفظ الجلالة لم يطلق على أحد غيره سبحانه، قد يقولون: هذا إله فلان وهذا إله فلان، أما الله فهو اسمه وحده لا شريك له سبحانه، وقد يحرفون هذا الاسم فيقولون اللات، أما الله فهو اسمه وحده لا شريك له، قد يحرفون العزيز ويقولون: العزى أما العزيز فهو الله سبحانه وتعالى وقد يطلق على غير الله سبحانه وتعالى كوصف، لكن الغرض: أن الرحمن اسم لله سبحانه وتعالى كما أن الله علم عليه وحده لا شريك له، لكن في معنى الرحمن قالوا: إنه رحمان بجميع خلقه فهو خلق ورزق وأعطى سبحانه فهو رحمان بجميع خلقه سبحانه، والرحيم رحمة خاصة تتعلق بالمؤمنين. ولذلك ذكر أن الرحيم من صفة للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] والله عز وجل كذلك رحيم بالمؤمنين، فالرحمن هو رحمان بجميع العباد، وصفة الرحمن من مقتضاها: أن ينزل الكتب من السماء على قوم كانوا كفاراً رحمة بهم ليدخلوا في دينه، فهو رحمن لأنه نزل الكتب وأرسل الرسل ليقيم الحجة على عباده، وهو رحمن لأنه أرسل الرسل لجميع الخلق ليدخلوا في دينه سبحانه وتعالى، والرحيم مختص بالمؤمنين يوم القيامة فيوم القيامة لا يرحم الكافرين ولا يرحم المشركين، فكأن صفة الرحمن للجميع في الدنيا والرحيم في الدنيا وفي الآخرة وتختص بالمؤمنين؛ ولذلك يكون بينهما عموم وخصوص، فالرحمن فيه عموم وخصوص، والرحيم فيه عموم وخصوص، فالرحمن خصوصه أنه لا يتسمى به إلا الله سبحانه وتعالى، أما الرحيم فقد يوصف به غير الله فيقال: فلان رحيم، وعموم الرحمن أن رحمته عامة في الدنيا من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وإعطاء العقول، والرزق، وإعطاء النفع، وغير ذلك من فضل الله سبحانه، وهذه رحمة واسعة بجميع الخلق، فالكافر حين يعمل شيئاً فإن الله يعطيه في الدنيا فيكثر ماله ويعطيه الولد، أما الخصوص الذي في الرحيم فهو أنه يرحم المؤمنين فقط في الدنيا وفي الآخرة. والعموم الذي فيه أنه يتسمى به الله سبحانه وتعالى، ويوصف به غير الله سبحانه وتعالى فيجوز أن يقال: فلان رحيم، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه.

الفرق بين الحمد والشكر

الفرق بين الحمد والشكر قال: الحمد لله. الله عز وجل يستحق الحمد، ويستحق الشكر وبين الاثنين عموم وخصوص، والحمد: ذكر الله عز وجل بالثناء الجميل. أي: أن تثني عليه سبحانه وتعالى سواء أعطى أو لم يعط فهو يستحق الثناء سبحانه وتعالى والله يستحق الشكر؛ لأنه يعطي. إذاً: الشكر على أنه فعل بك الجميل سبحانه وتعالى، والحمد لأنه مستحق لذلك لذاته سبحانه وتعالى. والحمد: الثناء بالكلام الجميل باختيار على وجه التعظيم للرب سبحانه، فمورد الحمد تقول: الحمد لله، فتحمد باللسان وتحمد بالقلب، والشكر أعم؛ لأنك تشكر ربك سبحانه بلسانك وبقلبك وبعملك وبذلك يظهر أثر شكرك لله سبحانه وتعالى.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال: وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم. قال الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] فالله يصلي سبحانه، أي: يثني على النبي صلى الله عليه وسلم، والله يصلي على المؤمنين. أي: يرحمهم سبحانه ويستجيب دعواتهم، والملائكة تصلي على المؤمنين. أي: تدعو لهم، فهنا يقول: وصلى الله على محمد، أي: يطلب من ربه سبحانه أن يثني على النبي صلى الله عليه وسلم ويرحم ويتفضل سبحانه. (وعلى آله) وآل النبي صلى الله عليه وسلم كل مؤمن تقي اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة آل بيته صلوات الله وسلامه عليهم، فالآل عموم من تبع النبي صلى الله عليه وسلم وخصوص آل بيته عليه الصلاة والسلام. قال: كتاب التوحيد. وكتاب مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابةً وكَتْبة، وأصل المادة من الكتب والكتب الجمع، كأن الكتاب جمع حروف في كلمات فتكونت منها جمل تكون منها هذا التصنيف الذي هو الكتاب ومنها كلمة الكتيبة، وهم الجنود المجتمعون. والكتاب: سمي كتاباً لجمعه ما وضع له.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الإلهية والعبادة. وفي الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] الله، الإله المألوه، المعبود، والإله له صفات والرب له صفات ومقتضيات، فكونه رب فهو يخلق ويرزق ويفعل ما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى، وكونه إله يقتضي ذلك أن على المخلوقين الذين خلقهم سبحانه أن يعبدوه لأنه يستحق أن يعبد، فهو رب وهو إله سبحانه وتعالى؛ ولذلك لما تقول في كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، فلا ينفع فيها أن تقول: أشهد أن لا رب إلا الله؛ لأن الربوبية لم يخالف فيها الكفار إلا من عاند وهو يعلم أنه كذاب مثل النمرود وفرعون، فـ النمرود عاند إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] فقال النمرود: (أنا أحيي وأميت) قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر َ} [البقرة:258] وظهر عند ذلك كذبه، وفرعون قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فادعى الألوهية، ثم ارتفع قليلاً وقال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] أفلا ترون كل ما فعلته أنا ربكم الأعلى، ولما قال ذلك إذا بالله يفضحه ويغرقه في البحر، فلما غرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] أي: أنا مثلهم، أنا من هؤلاء المسلمين، وهو مع ذلك ليس على عقيدة صحيحة فهو يقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فالذي ادعى الربوبية النمرود وفرعون والله عز وجل شاهد عليهم وكفى بالله شهيداً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] فشهد الله عليهم أنهم في قلوبهم يقرون بالربوبية، وأن الذي يخلق ويرزق هو الرب الذي في السماء، وجاء في قصة حصين لما كان كافراً وسأله النبي صلى الله عليه وسلم كم تعبد من إله قال: ستة، قال له: أين هؤلاء؟ قال: خمسة في الأرض وواحد في السماء قال: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء. الذي يرجوه للنفع وللضر هو الذي في السماء، وهذه ربوبية، فهم يعبدون من دون الله ما لا آلهة لا تنفع ولا تضر فيعبدون الآلهة من دون الله سبحانه وتعالى، فالغرض أن الله عز وجل هو الرب وكل مخلوق مقر أن الله عز وجل رب وأنه هو الذي يخلق ويرزق سبحانه وتعالى. إذاً: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وهو توحيد في المعرفة والإثبات، يعني: معرفة أن الله يخلق ويرزق، وأن الله أسماؤه الحسنى كذا وصفاته العلى كذا، فهذا توحيد علمي خبري، يعني: يقتضي أن تعلم الإله الذي تعبده بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى. وتوحيد طلبي إرادي من الله سبحانه وتعالى وهو توحيد الألوهية، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: أنا خلقتهم آمراً لهم أن يعبدوني؛ ولذلك أخذ الله عليهم الميثاق قبل أن يأتوا إلى هذه الدنيا وهم في ظهور آبائهم من قبل فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] فالله عز وجل أشهد الخلق على أنفسهم بما أودعه في قلوبهم من فطر أن الله سبحانه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. إذاً ليس المطلوب أن تعرف أن الله يخلق ويرزق فقط فالكل يعرف ذلك، لكن المطلوب منك أن تقول: لا إله إلا الله، يعني: أنا لن أعبد إلا الله، ولن أتوجه بعبادة إلا إليه وحده لا شريك له، فلذلك إذا قال الكافر: لا رب إلا الله. لم يدخل في الإسلام، بل لابد وأن يقول: لا إله إلا الله. يعني: لن أعبد إلا الإله الواحد سبحانه وتعالى. قال: وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو: اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن من يظن من أهل الكلام والتصوف ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وإنما التوحيد أن تتوجه إلى الله بالعبادة وهو مقتضى لا إله إلا الله، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الناس: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. يقول شيخ الإسلام في تعريف العبادة: هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، يعني: في كل شيء أمر الله عز وجل به تطيع فتفعل المأمور، وفي كل شيء نهى الله عز وجل عنه تطيع فلا تفعل المنهي. وهناك تعريف آخر يذكره أيضاً شيخ الإسلام رحمه الله فيقول: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. كل شيء يحبه من أقوال فهو عبادة، ومن أعمال فهو عبادة سواء نطقت بهذه الأقوال أو أسررت بها وسواء عملت الأعمال بجوارحك أو بقلبك، ولذلك يقول ابن القيم: مدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية، يقصد أن العبادة تنقسم إلى أقوال باللسان، وأفعال بالجوارح، وأفعال بالقلب، وكل واحدة من هذه الأقوال والأفعال يدخل تحتها الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمستحب والمباح، والمكروه، والمحرم. يقول القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع، قال: وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله سبحانه، وتأمل كلمة العبادة فهي من عبد، ومنها: هذا طريق معبد، يعني: طريق مسهل، فالعبادة كأنك تعبد نفسك لله سبحانه، وتذللها وتسهلها، وإذا أمرك أطعته لا يوجد معارضة ولا يوجد منافسة ولا يوجد محادة، وينهاك عن شيء فتنتهي، فالعبادة كأنك جعلت نفسك سهلة ذليلة مطيعة للرب سبحانه وتعالى. قال الحافظ ابن كثير: عبادة الله هي طاعته بفعل المأمور وترك المحذور. فهذه تعريفات للعبادة وكلها ترجع إلى معنى واحد وهي: طاعة الله سبحانه على وجه الإذعان له في كل ما يحب ويرضاه سبحانه وتعالى، قال: وهي حقيقة دين الإسلام. يقول: ومعنى كلمة الإسلام: الاستسلام لله تعالى المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع، والإسلام هو هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3] وقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] هذه التسمية الجميلة التي لا نرضى عنها بديلاً (أنا مسلم) معناها: أنا مُسَلِّم نفسي لله عز وجل، أنا مستسلم لله، أنا مذعن له، أنا خاضع له، أنا خاشع له، أنا مطيع له؛ فإذا قال: أنا مسلم، ثم عصى ربه، فيكون قد انتقص شيئاً من الذي أمره الله عز وجل به من الطاعة. الإسلام هو: استسلام يتضمن غاية الخضوع والخشوع والانقياد والذل لرب العالمين سبحانه. وقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، ولولا أن الله علمهم لما عرفوا ما هي العبادة، ولكن من رحمة رب العالمين أنه علمهم كيف يعبدونه، وكيف يصلون له، وكم يصلون في اليوم والليلة، وكيف ومتى يصومون، وفي أي شهر يصومون، فعلمهم الله سبحانه ولم يتركهم يعبدونه كيف شاءوا. قال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] أي: هل يظن أن يترك هملاً لا أحد يسأله؟ كما قال الدهريون: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] أي: إن هم إلا يخرصون ويكذبون، فإن الله عز وجل خلق الخلق لحكمة، وهي أن يعبدوه، ثم يميتهم ليحاسبهم بعد ذلك فمنهم من يكون من أهل الشقاء ومنهم من يكون من أهل السعادة. إذاً: خلق الله العباد ليعبدوه ونهاهم عن أن يشركوا به شيئاً وعلى الإنسان أن يتأمل في هذا الحديث الذي رواه الترمذي عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال يحيى بن زكريا: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: قال أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده،

الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية

الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية إن بين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص يجتمعان في حق المخلص المطيع وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي فافهم ذلك تنجو من جهالات أرباب الكلام. يعني: أن الله عز وجل له إرادتان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية طلبية، فالإرادة الكونية القدرية هي التي تتعلق بكن فيكون، فالله عز وجل خلق الخلق منهم كافر ومنهم مؤمن، وهذه إرادة لله عز وجل الكونية القدرية، وهذه الإرادة يستحيل أن يخالف فيها أحد من خلق الله عز وجل. النوع الثاني من الإرادات التي هي الطلب، أي: أن الله عز وجل يطلب من عباده فيريد الله عز وجل من عباده أن يعبدوه، ومع ذلك جعل لهم إرادة وجعل لهم اختياراً وكسباً. إذاً: هنا الإرادة الكونية القدرية ليس للعبد اختيار فيها، لكن الإرادة الشرعية يجعل للعبد اختياراً فيها يفعل أو لا يفعل فيستشعر العبد أنه مريد وأنه مختار، وأنه قادر على الفعل وعلى الترك، وهنا محل التكليف، ويوم القيامة حين يسأله: لم فعلت كذا؟ لن يقول: يا رب أنت كتبت علي هذا، ولكن العبد يوم القيامة يسأل عن فعله، فيقول: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، يقول العلماء: الإرادة الكونية القدرية تجتمع في المؤمنين والكافرين، من إرادة خلق، وإرادة رزق، وإرادة نفع، وإرادة ضر، وإرادة أن يكون هذا في كذا وهذا في كذا، أما الإرادة الشرعية هي التي تنبني على ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويكون في أوامره الشرعية التكليفية، افعل أو لا تفعل وفي الإرادة الكونية القدرية فإن العبد لا يقدر أن يهرب منها أبداً، ولا يعجز الله عز وجل، والإرادة الشرعية جعل الله للعبد الاختيار فيها ويحاسبه على مقتضى اختياره يوم القيامة، إذاً العبد مكلف وإن كان (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)، والعبد حين يفعل الفعل يستشعر في نفسه أنه مريد، وأنه مكتسب لهذا الشيء، ويستشعر أنه ليس هناك أحد يجبره، صحيح أننا لن نخرج عن مشيئة الله وقضائه وقدره، لكن هذا مع ذلك نستشعر في أنفسنا كمال الإرادة، أنا أريد أن أفعل أن أتصدق، والإنسان النائم يسمع الأذان ويقول: أصلي أو لا أصلي؟ اختياره فهو مريد لذلك ولم يخرج عن علم الله سبحانه وعن قضائه وقدره، ولكن الله عز وجل يعطيه في نفسه ما يشعره بالاختيار، وفي ذلك يحاسبه الله سبحانه وتعالى.

تعريف الطاغوت

تعريف الطاغوت قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] الطاغوت صيغة مبالغة، وهي من طغى فهو طاغ، فلما جاوز الحد أصبح طاغوتاً، فهو المجاوز لحده والخارج عنه، قالوا: من جاوز حده جاور ضده، فالذي يتجاوز الحد الذي له ينعكس إلى الضد فالإنسان يترفع قليلاً قليلاً حتى يقول أنه إله، ثم يقول أنه رب، والذي يعبد من دون الله عز وجل يسمى طاغوتاً يقول ابن القيم - الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت. إذاً: قوله: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] تعني: لا إله إلا الله. قال بعض المفسرين في هذه الكلمة: الطاغوت معناه الشيطان، وجاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كهان كانت تنزل عليهم الشياطين، وعمر قال: الطاغوت: الشيطان، فاختلفوا في التفسير اختلاف تنوع فالبعض يذكر من الطواغيت الشيطان؛ لأنه جاوز حده واستكبر على ربه، ولم يسجد لآدم مستكبراً عليه ولم يطع الله سبحانه وتعالى فكان فيه الكبر فطغى، وجاوز حده، وقالوا: الكاهن من الطواغيت لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] إذاً هذا علم اختص الله عز وجل به، فيقول الكاهن أنا أعرف هذه الأشياء، أنا أعرف أنه سينجب أو لا، أنا أعرف مكان الشيء الذي سُرق، أنا أعرف كذا وتجده يستعين بالشياطين لكي يثبت أنه يعرف ما لا يعرفه أحد من الناس، إذاً: جاوز حده، فمن قال: الكاهن طاغوت يقصد أنه جاوز حده وادعى شيئاً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والساحر طاغوت لأنه طغى وجاوز حده وصار كأنه إله عند الناس؛ ولذلك جاء في الحديث أن حده ضربة بالسيف، وإن كان الحديث في إسناده ضعف، والغرض أن الساحر جاوز حده في أنه ادعى أنه يملك النفع والضر، يقول لك: أنا سأعمل لك سحراً، وسأعمل لك كذا وسأعمل لك كذا، وسأفك لك العمل الذي فيك، وسأربط لك فلاناً، وسأوذي لك فلاناً. والذي ينفع ويضر هو الله سبحانه وتعالى، والشياطين يعلمون الناس السحر، قال الله عز وجل: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] فهم يعلمون الناس السحر حتى يقعوا في الكفر بالله سبحانه، ويعتقد الساحر أنه يملك أن ينفع ويضر من دون الله سبحانه، فهو طاغوت. كذلك من الطواغيت من يبدل شرع الله سبحانه وتعالى، فالله أنزل الكتب على العباد ليحكموا بها، فإذا بالعبد يجعلها وراءه ظهرياً ويقول: لن نحكم بهذا الذي قاله الله عز وجل، وقد قال الله في كتابه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] قالوا: الطاغوت هنا هو الضليل كعب بن الأشرف، وهو يهودي، فقد ذهب رجل من المنافقين يدعي الإسلام مع رجل من اليهود بينهم خصومة في شيء، واليهودي كان محقاً وكان يقول للمنافق تعال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بيننا، فاليهودي حين عرف أن الحق له قال: نذهب للنبي لأنه لن يحكم بالهوى عليه الصلاة والسلام فقال المنافق: نذهب إلى كعب بن الأشرف، لماذا كعب بن الأشرف؟ لأنه سيأخذ رشوة، وكعب بن الأشرف يهودي يقبل الرشوة، فرفض حكم النبي صلى الله عليه وسلم وذهب إلى كعب بن الأشرف لكي يرشيه ويحكم له كعب بن الأشرف، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله مستحلاً لذلك راضياً بذلك كالمبدل لشرع الله سبحانه وتعالى. إذاً الطاغوت: من يغير شرع الله سبحانه وتعالى ويحكم بالهوى وبغير دين الله سبحانه وتعالى مستحلاً لذلك.

مسائل في التوحيد

شرح كتاب فتح المجيد - مسائل في التوحيد

شرح قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)

شرح قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] يعني: من الآيات الكثيرات الدالة على أمر الله عز وجل عباده بالتوحيد وقضى بمعنى: حكم، وكتب، وفرض، وألزم سبحانه وتعالى ألا تعبدوا إلا الله سبحانه وتعالى، وقالوا: بمعنى: وصاكم الله عز وجل ألا تعبدوا إلا إياه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وعبر بالمصدر عن جملة تتضمن فعلاً وفاعلاً ومفعولاً مطلقاً. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24] وهنا: بدأ بذكره سبحانه وبتوحيده وبأمره (قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فأول شيء هو عبادة الله سبحانه، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] فتبدأ بالله سبحانه وتعالى فتشكره وتحمده سبحانه، ثم يثني بمن لهما الجميل عليك في وجودك في هذه الدنيا بعد الله سبحانه وتعالى وهما الوالدان، فقال سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً عظيماً، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} أي: الوالدان وهذه فيها قراءتان، قراءة حمزة والكسائي وخلف: (إما يبلغان عندك الكبر) يعني يبلغ الوالد وتبلغ الوالدة، والكبر هو كبر السن وتقدم العمر، {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} أي: أحد الوالدين لأنه قد يكون الآخر قد توفي (أو كلاهما) أي أن يكونا حيين جميعاً (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وفيها قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وحفص عن عاصم: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: (فلا تقل لهما أفَّ ولا تنهرهما) وبقية القراء: (فلا تقل لهما أفِّ ولا تنهرهما) ففيها أفٍّ وأفَّ وأفِّ، إذاً كلمة أف يحرم على الإنسان أن يقولها لأبيه وأمه، وبالقياس على ذلك فمن باب أولى لا تضربهما، لا تنهرهما أي: لا تؤذهما بقول فيه نهر: فلا تشتم ولا تسب، وكونه نهى عن أقل الأشياء التي تؤذي، فيه بيان أن ما هو أكثر من ذلك أشد تحذيراً {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] أي: قولاً ليناً طيباً مهذباً فيه توقير للوالدين، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] الجناح: الجانب، وقد يراد بالجناح، جناح الطائر، والإنسان جانبه جناحه وكأنه يقول: اخفض لهما جناح الذل، أي: جناحك الذليل، كأن الإنسان له جانبان، جانب عزيز وجانب ذليل، يقول: اخفض جناحك وتواضع لهما أو استعار ما للطائر من جناح فإن الطائر يأتي على أولاده فينصب جناحه ليحتضن أفراخه ويضمهم إليه، فكأنه يقول: كن مع والديك مثل الطائر في رحمته وحنانه على أولاده، فهنا: ((واخفض لهما جناح الذل)) يعني: كن ذليلاً معهما ليناً معهما، قال: ((من الرحمة)) يعني: من شدة الرحمة: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، يعني: ادع لهما أن يرحمهما الله عز وجل ((كما ربياني صغيراً))، كما تحننا عليك في الصغر وربياك فادع لهما في الكبر. وقد احتاج الولد هنا تذكيراً من الله عز وجل ليدعو لوالديه، ولم يحتج الوالدان لمثل هذا التذكير فالرحمة والحنان موجودة في قلوبهما، إلا في أمر القتل الذي كان عليه أهل الجاهلية من قتل البنات فقد نزل التنصيص عليه في القرآن، وهنا استغنى بما وضع في قلوب الآباء على الأبناء من الرحمة والتحنن عن أن يوصيهم بذلك، والولد وهو صغير يتحنن عليه الأب والأم ويعطفان عليه ويحبانه، وعندما يكبر الابن يبدأ الأب ينزل للمنحنى العمري الذي يصير فيه كالطفل، والإنسان يبدأ صغيراً فيكبر ثم يبلغ أشده ثم يرجع صغيراً مرة أخرى، لكن فرق بين الصغر في أوله والصغر في آخره، فالصغير في الأول كان لا يعرف شيئاً وهو محبوب لأنه لا يعرف شيئاً، أما عندما يرد المرء إلى أرذل العمر فيكون هذا الشيء منه مبغوضاً، فاحتاج الإنسان أن يذكر: لا تنس عندما كنت صغيراً فالآن ارحم والديك وادع ربك سبحانه وتعالى أن يرحمهما كما ربياك صغيراً فيذكرك بالتربية وفضل الإنفاق عليك وفضل ما سهرا وتعبا عليك في الصغر. وجاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى المنبر قال: آمين آمين آمين)، وهذه الرواية عن أنس رضي الله تعالى عنه، ورواية الترمذي عن أبي هريرة وصححه الشيخ الألباني يصعد درجة على المنبر ويقول آمين، والدرجة الثانية ويقول: آمين، والثالثة ويقول: آمين فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: (آمين) وقالوا: يا رسول الله علام أمنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك)، و (رغم) أصلها من الرغام، والرغام التراب، والمعنى نزل أنفه في التراب من الذل، يعني أذل وأكره وقهر حتى صار أنفه في التراب، وهذا دعاء من جبريل على الإنسان الذي يذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه، والمعنى ألصقه الله عز وجل بالتراب على ذل منه، (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقال: آمين) صلى الله عليه وسلم، فالداعي هو جبريل والمؤمن هو النبي صلوات الله وسلامه عليه (ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج ولم يغفر له) شهر رمضان جائزة من رب العالمين سبحانه لعباده، ليتوب فيه العبد إلى الله عز وجل ويعمل عملاً صالحاً، حتى ينتهي شهر رمضان وقد غفر له، فإذا ذهب شهر رمضان وهو على ما هو عليه من الذنوب والمعاصي فهذا لا يستحق إلا أن يدعا عليه بالذل والرغام (ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين، قال: فقلت: آمين) فدعا على الإنسان الذي عنده أبوه شيخ كبير أو أمه عجوز كبيرة ومع ذلك لم يدخلاه الجنة بطاعتهما في المعروف وببرهما. وروى الإمام أحمد والترمذي أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك والديه قال: أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة) وفيه معنى الحديث السابق. وعن أبي بكرة رضي الله عنه -وهذا في الصحيحين- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) أكبر الكبائر، يعني: الكبائر منها ما هو كبير ومنها ما هو أكبر من الكبير، ومن الكبار المهلكات الموبقات لصاحبها: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وأصل العقوق من عق، وعق بمعنى قطع وقطيعة الوالدين تكون بالشتم وبالسب وبالهجر لهما وعدم طاعتهما بالمعروف قال: (وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) يعني: في قول الزور وشهادة الزور. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين)، وهذا حديث صحيح رواه الترمذي ورواه الحاكم عن ابن عمرو ورواه البزار عن ابن عمر، وفيه أنك إذا أرضيت والديك سيرضى عنك الله سبحانه وتعالى، وإرضاء الوالدين يكون في المعروف وليس في المنكر أبداً، فإذا أمرا بالمنكر وبالمعصية وبالشرك قال: {فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] أي: لا تؤذهما ولكن لا تطعهما في معصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه. وعن أبي أسيد الساعدي قال: (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة -بكسر اللام وهم بطن من الخزرج- قال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما من بعدهما -أو بعد موتهما-؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، الصلاة عليهما -بمعنى الدعاء- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) لكن الحديث ضعيف، والحديث رواه أبو داود وابن ماجة وفي إسناده أسيد بن علي وأبوه ولم يوثقهما سوى ابن حبان فالإسناد ضعيف. لكن العمل على ذلك وأن من بر الوالدين بعد الوفاة أن تبر من كانا يصلانه، وجاء في ذلك حديث عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: من بر الوالدين في الحياة: الطاعة لهما، والإنفاق عليهما، والإحسان إليهما، وعدم قول أف، وعدم النهر. وبعد الوفاة: أن تتصدق عنهما، وتستغفر لهما، وتدعو لهما وتنفذ عهدهما من بعدهما إذا كان لهما عهد لفلان من الناس أو وعدوا موعدة فافعل ما وعدا به. (وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) يعن

شرح قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا)

شرح قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً) قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] وهذه الآية كانوا يسمونها الوصايا العشر، يعني: عشر وصايا ذكرها الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يقول: ((قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم)) أي: ما وصاكم بتركه من الإشراك بالله سبحانه وتعالى، ثم ذكر أنه أمركم بالإحسان إلى الوالدين قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] وكان هذا شائعاً في الجاهلية وخاصة قتل البنات، فقال الله عز وجل: ((ولا تقتلوا أولادكم)) والولد يطلق على الذكور والإناث، ولذلك نجد في آية الكلالة: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] أي: ليس له أبناء ذكور ولا إناث، فولد يدخل فيها الذكور ويدخل فيها الإناث، وكان الشائع عندهم قتل البنات وكانوا يزعمون أن البنت إذا كبرت وتزوجها الرجل فلعلها ولعلها تقع في الزنى ولعلها تفعل كذا فكانوا يقتلون البنات، ولكن الله عز وجل فضحهم فيما يقولونه وأن ما يبطنونه هو الخوف من الفقر، أما الذكر فإنه حين يكبر سيذهب يقاتل معه ويسرق له ويغتصب معه، وسيفعل معه الذي يريده فيتركه من أجل ذلك، أما البنت لن تعطيه شيئاً، فكان يدعي أنها سبب فقره ونسي أن الله هو الرزاق سبحانه فكانوا يئدون البنات وكانوا غاية في القسوة، ومن ذلك ما جاء في قصة الرجل الذي أخذ ابنته وذهب ليدفنها في التراب وكان عمرها سنتين، أثناء ما كان يحفر لها قبرها كانت تمسح التراب عن لحيته ووجهه ورغم ذلك يأخذها ويضعها في القبر ويدفنها، ثم يرجع وكأنه عمل شيئاً كبيراً حيث قتل ابنته، فأي قسوة هذه القسوة؟! وكانوا على ذلك حتى جاء الإسلام وهذب قلوب هؤلاء الناس وعقولهم، لقد كان من ينظر في أفعالهم يراهم مجانين لا يفهمون، فالبعض منهم كان يعبد تمثالاً يصنعه بيده، ثم يعبده من دون الله سبحانه وتعالى، فأين عقل هذا الإنسان الذي جعله يصنع التمثال ثم بعد ذلك يعبده من دون الله؟! والآخر يصنع تمثالاً من العجوة فإذا جاع أكله وصنع غيره، فأين عقل هذا الإنسان؟ والثالث: يريد أن يعبد شيئاً وهو في السفر فيصعب عليه حمل تمثاله الذي صنعه في البيت، فإذا بلغ الصحراء مع غنمه فبدل أن يصنع التمثال من ماء وتراب يصنعه من لبن ويعبده من دون الله وهو مسافر إلى أن يرجع للصنم الذي له في البيت فيعبده من دون الله، هؤلاء هم أهل الجاهلية وهذه عبادتهم. قال تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] أي: سنرزق هؤلاء ونرزقكم، فلا تقتل الطفل خشية أن يطعم معك. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) أعظم الذنوب أن تعبد غير الله، قال: (قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك). فهو هنا أيضاً صلى الله عليه وسلم يظهر ما في قلب هذا الذي يقتل ابنه وهو خشية أن يطعم معه فيقل الأكل الذي في البيت وينسى أن الله هو الرزاق الكريم سبحانه قال: (قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) والزنى كله حرام، لكن من أفحش الزنى أن يزني بحليلة جاره الذي استأمنه على بيته فيقع في هذه الجريمة- والعياذ بالله- قال: (وتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]))) والمقصد من الحديث الأمر بأن لا تشرك بالله، ولا تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. وجاء في حديث آخر في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) فحرم أن تعق أمك أو تقتل ابنتك، (ومنعاً وهات) يعني: كثرة الكلام (وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال) أي: كره أن تظل تسأل دائماً، فتكون حياتك على هذا المنوال، بل تعلم العلم ولا تكثر من السؤال فإن هذا كرهه الله سبحانه وتعالى لكم، (وكره لكم قيل وقال) أي: الكلام الكثير. وجاء في حديث ابن مسعود في الصحيحين أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه) سبحانه وتعالى. قال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] يعني: هذه الأشياء التي حرمها عليكم بإمكانكم فهمها والاستجابة لها وقد بدأ الله في هذه الآيات بذكر المناهي، ثم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152]، أي: لا تقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ ثم أعطه ماله وبعد أن تعطيه ماله فلك تتعامل معه بعد ذلك. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152] فأمر أن توفوا الكيل فإذا كلتم فوفوا، وإذا وزنتم فوفوا: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152] لا يكلفكم ما لا تطيقون، فأمر الله سبحانه وتعالى بإيفاء الكيل والميزان، وأخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالإنسان مطلوب منه قدر المستطاع وما لا يقدر عليه لا يكلفه الله عز وجل إياه قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، أي: قل العدل ولو على نفسك ولو على الوالدين والأقربين، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] أي: تتذكرون عهد الله وميثاقه فتفعلون ما أمر وتجتنبون ما نهى وزجر. قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، فبين لكم الصراط الذي هو شرعه بهذه الآيات وبغيرها، ووضح الدين وبين معالم الشريعة، وقال: هذا صراط أي: طريق مستقيم أوله ما أنت عليه الآن في الدنيا وآخره إلى جنة الله سبحانه وتعالى، قال: {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيم، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153])، فدل الحديث على أنه كان يعلم الناس حتى بالإشارة وبالرسم، فرسم لهم خطاً أمامهم وقال: (هذا صراط الله مستقيم) ورسم عن يمينه خطوطاً وعن شماله خطوطاً وأخبر أن هذه خطوط الشياطين كل سبيل منها عليه شيطان يدعو الناس إليه ثم قرأ الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، فإذاً لا تنحرف عن صراط الله عز وجل، وسر على طريقه المستقيم، قال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151]. يقول ابن القيم رحمه الله: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فقال: وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلاً لعبادة الله وهو إفراده بالعبادة وإفراد رسله بالطاعة، فهنا طريق الله سبحانه هو تجريد التوحيد لله رب العالمين سبحانه، تعبد الله وتطيع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. قال: ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك -أي: أن تحب الله بقلبك- وترضيه بجهدك كله فلا يكون بقلبك موضع إلا معموراً بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. يقصد أنك تصل إلى طريق الله سبحانه بهذه الكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله وتحب الله سبحانه، وتحب طريق الله، وتعرف هذه الطريق عن طريق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فهو المبين، فمبناها على العبادة التي ركناها الإخلاص والمتابعة، الإخلاص لله بأن تقول: لا إله إلا الله وتعبده وحده لا شريك له، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم أن تتعلم منه كيف تعبد الله. قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى آخر هذه الآية، يعني: هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا إسناده ضعيفاً عن ابن مسعود رضي الله عنه فقد رواه الترمذي وقال: حسن غريب لكن في إسناده رجل

شرح حديث معاذ: (كنت رديف النبي على حمار)

شرح حديث معاذ: (كنت رديف النبي على حمار) وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) وحديث معاذ هذا حديث عظيم وفيه حق الله على العباد وحق العباد على الله رب العالمين، مع العلم أنه ليس للعباد على الله حق يوجبونه هم عليه سبحانه ولكن هو الذي يلزم نفسه تفضلاً وتكرماً منه سبحانه وتعالى مثلما يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) والله عز وجل لا يظلم أحداً وهو الحكم العدل سبحانه وتعالى، والله خلق العباد ويملك العباد والظلم هو وضع الشيء في غير محله، وأن تأخذ ما ليس لك، وهذا لا يكون لله عز وجل، فكل شيء يملكه الله عز وجل، وكل شيء يجعله في مكانه بحكمته سبحانه فكيف يظلم سبحانه؟ ومع ذلك يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي)، فالله وهو الخالق سبحانه يحرم الظلم على نفسه فلا يظلم المخلوق غيره من باب أولى يقول: (وجعلته بينكم محرماً فلا تظَّالموا -أو فلا تظَالموا-).

بيان حق الله على العبيد وحق العبيد على الله

بيان حق الله على العبيد وحق العبيد على الله يقول معاذ: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلون) والحديث أخرجاه في الصحيحين وفيه حق الله سبحانه على العباد وهو أن تعبدوه وحده لا تشركون به شيئاً، وتعبدونه بشرعه الذي أنزله في كتابه والذي أرسل به النبي صلوات الله وسلامه عليه، هذا حق الله على العباد، وإذا فعلوا ذلك كان حقاً على الله سبحانه ألا يعذبهم سبحانه وتعالى فإذا فعل العباد الطاعات وانتهوا عن المعاصي هذا يقتضي أنهم يعبدون الله. وعبادة الله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. فالعبد حين يكون عبداً لله موحداً له مطيعاً له عابداً له، يفعل ما أمر به، وينتهي عن ما نهي عنه، يستحق أن يكون من أهل الجنة، فإذا عصى الله سبحانه فهو في مشيئة الله سبحانه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإذا أشرك بالله وكفر فقد كتب الله عليه أن يكون في النار: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فالإنسان الذي يشرك بالله لا يغفر الله عز وجل له بل هو من أهل النار. وجاء في حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ثم تلا قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151]، حتى فرغ من الثلاث الآيات ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله بها في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه) وهذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح. فالإنسان الذي يوفي بما عاهد الله عز وجل عليه في الدنيا فأجره أن يكون في الجنة، والإنسان الذي ينتقص من الحقوق التي أمر بها فإما أن يعاقبه الله عز وجل في الدنيا بالمصائب فالله يجعلها كفارة، أو أنه يتركه إلى يوم القيامة، فإن شاء عفا وإن شاء عذبه سبحانه وتعالى. يقول الشارح: معاذ بن جبل هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة. ومعاذ بن جبل كان سنه صغيراً حين أسلم رضي الله عنه فقد كان عمره حوالي ثمانية عشر سنة أو أقل من ذلك، مات رضي الله عنه وكان عمره ثمانية وثلاثين سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهو الذي يقدم العلماء يوم القيامة ويسبقهم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، يعني: في سن ثمانية وثلاثين سنة ويصل لهذا العلم العظيم الذي يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى الترمذي وهو حديث صحيح وفيه يقول أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) رضي الله عنهم فكل واحد من هؤلاء له فضيلة، وكلهم علماء ولكن أعلمهم بالحلال والحرام كان معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ويذكر معاذ بن جبل في هذا الحديث أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم كان راكباً حماراً ومعاذ خلف النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق ومع ذلك كان يركب حماراً عليه الصلاة والسلام، ويردف أيضاً خلفه وهو راكب عليه الصلاة والسلام فقال لـ معاذ: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟). يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل. إذاً: حق العباد على الله سبحانه وتعالى هو فضل من الله بأن يجعل هذا العبد يستحق من الله سبحانه، وليس أن العبد سيحاسب ربه ويقول له: لماذا لم تعطني، ولكن تفضل من الله على العبد أن يعطيه ذلك فقال: هو استحقاق إنعام وفضل وليس هو استحقاق مقابلة. لما أقول: أنا ذهبت اشتري من البائع السلعة الفلانية، فهنا أنا أستحق أن آخذها وهو يستحق علي المبلغ -المال- فإذاً: استحقاق المقابلة هو المعاوضة، فهو سيعطيني سلعة وأعطيه مقابلها الثمن، والعباد لا يستحقون على الله هذا الاستحقاق فالعباد لم يعملوا شيئاً لله سبحانه وتعالى فهو الذي خلقهم وهو الذي رزقهم، وهو الذي أنعم النعم العظيمة على عباده، إذاً العبد لا يستحق شيئاً على وجه المقابلة، ولكن العبد فرض عليه أن يعبد الله سبحانه؛ لأنه خلقه، فلو أحصى نعم الله عز وجل عليه وأحصى عبادته فسيجد أن عبادته لا تبلغ أن تكون ثمناً لإدخاله الجنة يوم القيامة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) وقال الله سبحانه وتعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. فتنظر المعنى في الآية وفي الحديث فقوله في الآية: ((جزاء بما كنتم تعملون)) يعني: أنعم الله عز وجل عليكم بسبب أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، إذاً: عملك سبب للجنة، والباء هنا سببيه، وفي الحديث: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) والباء هنا تسمى باء الثمنية، يعني: عملك ليس ثمناً للجنة فعمل الإنسان ضعيف جداً ومهما عمل من عمل لن يكون ثمناً للجنة، ولكن يكون سبباً لدخول الجنة، فسبب دخولك الجنة العمل، أما ثمن الجنة فهو فضل الله عز وجل عليك أن أرشدك للعبادة وأن أدخلك الجنة فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) كثمن لهذه الجنة (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فالعمل سبب للجنة وليس ثمناً لها. ثم يقول بعد ذلك: لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة -الله كتب على نفسه الرحمة- وأوجب على نفسه حقاً لم يوجبه عليه المخلوق. ومن يوجب على الله شيئاً؟ ولكن الله سبحانه هو الذي كتب على نفسه الرحمة، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه، حاشا لله سبحانه، وقد قاسوا الخالق سبحانه وتعالى على المخلوق، فيقولون كما أن المخلوق يجب عليه أشياء فالخالق كذلك. فقالوا: العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وتناسوا قدرة الله سبحانه وإقداره لعباده على العمل، وقالوا: العبد هو الذي يفعل لنفسه. فيقول ابن تيمية رحمه الله: قالوا: وإن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب لهذا الجزاء. قال: وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية. فهذه قدرية وهذه قدرية، ولكن القدرية الأولى قدرية جبرية وكلهم يتكلمون في قضاء الله عز وجل وفي أمر القضاء والقدر بكلامهم السخيف وبأفكارهم المنحرفة، فيقول القدرية أتباع جهم وهم جبرية أصلاً: إن العاصي حين يفعل المعصية هو مجبر عليها، حتى قال أحدهم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فهو الذي قدر عليه ذلك، فإذاً هو مطيع في حالة الطاعة وفي حالة المعصية وهذا كلام لا يقوله إنسان يفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. والنوع الثاني: القدرية النافية، وهم النفاة للقدر، يقولون: إن الله لا يقدر شيئاً بل العبد هو الذي يقدر لنفسه أشياءه، فالله لا يقدر للعبد الشر، بل العبد هو الذي يعمل هذا الشر والعبد خالق لفعله، فهؤلاء القدرية النفاة، يعني: النفاة لتقدير الله عز وجل، ونحن حين نتكلم في أمر القضاء والقدر نفصل في هذا الشيء. يقول ابن القيم في العبادة: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان عبادة الله سبحانه وتعالى أن تحب الله أكمل وأعظم الحب، وأن تخاف من الله سبحانه وتذل نفسك له أعظم الذل فلا يجتمع ذلك إلا لله عز وجل؛ فتحب الله ومع ذلك تكون ذليلاً بين يديه سبحانه وتعالى. قال هنا: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ولم يقل أحداً، ولكن قال شيئاً فيدخل تحته كل شيء من دون الله عز وجل، فمن عبد شيئاً وكل إليه يوم القيامة قال: (ولا يشركوا به شيئاً). أما حق العباد على الله الذي تفضل ومنحهم إياه قال: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فمن مات على حقيقة التوحيد فالله عز وجل لا يعذبه، فإتيانه بالتوحيد يدفعه لعبادة الله سبحانه حتى وإن وقع في بعض المعاصي فالله يغفر له بإيمانه وبتوحيده وهو في مشيئة رب العالمين يوم القيامة ولكن في النهاية المؤمن الموحد لرب العالمين يدخله الله عز وجل الجنة وإن أصابه قبل ذلك من النار ما أصابه. ولما سمع معاذ بن جبل ذلك -وهو يحب الخير للناس رضي الله عنه- قال: (قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس) أفلا أقول للناس: إنه من مات على التوحيد دخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبشرهم فيتكلوا) لا تقل للناس هذا الشيء، فلعل منهم من يفهم ومنهم من لا يفهم فلعلهم يتكلون ويقولون مثلما يقول كثير من الناس الآن: أنا أقول لا إله إلا الله ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فليس مهماً عنده معرفة شروط لا إله إلا الله، وليس مهماً أن يفهم معنى لا إله إلا الله، فإذا سألته ما معنى لا إله إلا الله؟ يقول لك: الله الذي خل

مسائل مستفادة من حديث معاذ في بيان حق الله على العبيد وحق العبيد على الله

مسائل مستفادة من حديث معاذ في بيان حق الله على العبيد وحق العبيد على الله يقول الشيخ بعد أن ذكر هذا الحديث: فيه مسائل يعني فوائد يذكرها في الباب: المسالة الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس. أي: لماذا خلق الله الجن والإنس؟ قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فإذاً: أنت مخلوق في الدنيا لعبادة الله بالمعنى الأعم، وليس المعنى أنك مخلوق من أجل أن تصلي فقط، فتظل الليل والنهار تصل أو لأجل أن تصوم فقط لا، ولكن تعبد الله سبحانه وتعالى بكل أنواع العبادة، سواء كانت معاملات، أو أحوالاً شخصية، فتعبد الله سبحانه في كل شيء بتنفيذ ما أمر وبالبعد عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه. المسألة الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وقعت فيه، فكان يقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله) يا بني عبد مناف يا بني فلان، يا بني فلان، فلما اجتمعوا عليه قال: قولوا كلمة واحدة أضمن لكم بها الجنة، قالوا: نقول عشر كلمات، تريد ماذا؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، فقالوا: إلا هذه، ففهم المشركون منها ما لم يفهمه الكثير من الناس، فقد فهموا أن لا إله إلا الله معناها التزام بشيء بعد ذلك، وطالما أن هناك التزاماً فلن نقول هذه الكلمة، يقول الحافظ ابن حجر: اقتصر على نفي الإشراك بالله لأنه يستدعي التوحيد، لا تشرك بالله يعني اعبده وحده لا شريك له سبحانه، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، فلن نعرف التوحيد الخالص، ولن نعرف ما يريده الله لنعبده به إلا بأن نصدق النبي صلى الله عليه وسلم فنتبع ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: كلمة التوحيد أصل الأصول، وعند وفاة أبي طالب كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا عم قلها كلمة واحدة، أشهد لك بها عند الله، فقال: والله لوددت يا ابن أخي أن أقر بها عينك، لولا أن يقولوا: خاف الموت)، إن لم تخف من الموت فستخاف من ماذا؟ كل الخلق يخافون من الموت، فهو خاف أن يقولوا: خاف من الموت، وشاء الله عز وجل أن يختم له بالكفر، فمات على ذلك فصار من أهل النار كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. المسألة الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله. من لم يأت بكلمة التوحيد لا إله إلا الله ومقتضى ذلك: توجيه كل العبادة إلى الله سبحانه وتعالى وفيه معنى قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3] أي: أنا أعبد الله سبحانه، وأنتم تعبدون مع الله غيره فأنا لا أعبد ما تعبدون ولستم أنتم على التوحيد الذي أنا عليه ولا أنا عابد في المستقبل ما أنتم عليه ولا أنتم ستعبدون ما أعبد وأنتم على هذا الحال لكم دينكم ولي دين. المسألة الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل عبادة الله، وتعريف العباد بحق الله سبحانه وبما يحبه الله سبحانه وتعالى وما يبغضه، وتعريف العباد بمنهج الله وشرائعه. المسألة الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الخلق جميعهم صلوات الله وسلامه عليه، وكل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، فالله عز وجل لم يترك أمة من الأمم إلا وأرسل إليها من يعلمها رسولاً كان أو نبياً وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فكان للخلق جميعهم. المسألة السابعة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت وهو قوله سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] وشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي الكفر بالطاغوت والتخلي عن جميع ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، فلا ينفع الإنسان أن يقول أنه يعبد الله ويعبد غير الله معه فقد كان المشركون يقولون: نعبد الذي ينفعنا ويضرنا في السماء ومعه غيره فلم تنفعهم هذه العبادة. المسألة الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله سبحانه فذكرنا من أصنافه الشياطين، والذي يبدل شرع الله سبحانه، ومن يستحل الحكم بغير دين الله سبحانه، والكاهن والساحر والعراف كلهم من الطواغيت. المسألة التاسعة: عظم شأن الآيات المحكمات الثلاث في سورة الأنعام التي بدأها الله عز وجل بالنهي عن الشرك. المسألة العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، إلى آخره. المسألة الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق بدأها الله عز وجل بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]. المسألة الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته بعبادة الله، وأن من عبد الله سبحانه تبارك وتعالى استحق أن يكون في الجنة. المسألة الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. المسألة الرابعة عشرة: معرفة حق العباد على الله عز وجل إذا أدوا حقه بالتوحيد فإن الله عز وجل يدخلهم الجنة. المسألة الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بها معاذاً، وأخبر بها أبا هريرة وعرفها عمر رضي الله عنه، وعرفها البعض ولكن الكثيرون لم يعرفوها، حتى لا يتكلوا على هذه الكلمة وهذه كلمة عظيمة وسبب لدخول الجنة ولكن مع معرفة مقتضى هذه الكلمة. المسألة السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة، فيكتم العلم لعدم فهم الناس له مثلاً وغيرها من المصالح، فكان أحياناً يكتم الشيء للمصلحة ولكن لا يكتمه عن الجميع، إنما يكتم عن البعض كهذه الكلمة التي أخبر بها النبي بعضاً من أصحابه ولم يخبر الجميع خوفاً من أن يتكلوا وإن جاءت أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم في قول من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، مثل قوله: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه) لكن ينبغي أن توضح أنه ليس بمجرد كلمة لا تفهم معناها بل عليك أن تعرف معناها ومقتضياتها حتى تستحق ذلك. السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أو معاذاً بذلك. المسألة الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة رب العالمين، والله رحمته واسعة، فلو أن إنساناً قال: أنا لن أصلي ولن أزكي ولن أعمل شيئاً لأن الله رحيم فنقول له: الله هو الذي أخبر: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] فلا تأخذ جزءاً من الآية وتنسى الباقي، فالله غفور رحيم وهو شديد العقاب قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14] فبطشه شديد وهو الغفور الودود، فتأخذ بالقرآن كله وليس ببعضه. المسألة التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، أو يقول: لا أعلم، أو يقول: لا أدري. العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض، إذ ليس كل علم يعرفه كل الناس، ولكن قد يعلم البعض ما يفهمون ويعلم الآخرون الذي يفهمونه أيضاً. المسألة الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوبه الحمار، وأحياناً كان يركب البغل صلوات الله وسلامه عليه وأحياناً يركب الجمل. المسألة الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة وهذا إذا كانت الدابة مطيقة، وإذا كانت لا تطيق فلا يجوز.

فضائل معاذ بن جبل

فضائل معاذ بن جبل المسألة الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل وذكرنا أن معاذاً رضي الله تبارك وتعالى عنه يقدم العلماء وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية ورواه الطبراني أيضاً: (معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة) هذا حديث صحيح والرتوة بمعنى خطوة أو بمعنى رمية بحجر، فهو سابق للعلماء يوم القيامة رضي الله تبارك وتعالى عنه وكانت له حكم عظيمة. فروى الإمام أبو داود بإسناد صحيح أن معاذاً رضي الله تبارك وتعالى عنه كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلسه إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون المتشككون وقد روى هذا عن معاذاً يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ رضي الله عنه، قال يزيد فقال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال. ومعاذ لم يطلع الغيب، فيكون أنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (ويفتح فيها القرآن)، أي: أن الله سيفتح عليهم فيحفظون القرآن، قال: حتى يأخذه المؤمن والمنافق أي: حتى يحفظ القرآن المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره أي: سأصنع لهم بدعة من البدع لكي أجمعهم حولي، وهذا أصل البدع وذلك أن الإنسان يحب أن يجمع الناس من حوله حتى يكون له أتباع قال معاذ رضي الله عنه: فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)، قال معاذ: وأحذركم زيغة الحكيم يعني: يمكن للإنسان أن يكون عالماً وحليماً لكنه قد يزيغ أحياناً ويقع في الغلط، فأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم. قال يزيد: قلت لـ معاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال معاذ رضي الله عنه: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، هذا كلام العلماء والحكماء ومعاذ عالم وحكيم رضي الله عنه، فلو كل إنسان أخطأ تركناه وابتعدنا عنه لأوشك الإنسان ألا يجد أحداً يتبعه، والعالم قد يهفو وقد يصبو وقد يقع في الخطأ، وكونه وقع في الخطأ مرة فليس معناه أنك تتركه. فالعالم غير معصوم قد يقع في شيء من الخطأ ولكن لا تتركه فتخسر علماً كثيراً، قال: فإنه لعله أن يراجع نفسه ويقول: أنا أخطأت في هذا الشيء، وتلقى الحق إن سمعته فإن على الحق نوراً. يعني: حين تسمع الحق من أي إنسان صغيراً أو كبيراً اقبل منه هذا الحق فإن على الحق نوراً. ومعاذ بن جبل كان أعلم الصحابة بالحلال والحرام وكان من حكمائهم أيضاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان جميلاً طويلاً بساماً، وكان جميل المنظر من رآه أحبه ومن ذهب إلى مسجده ورآه أحبه وإن كان لا يعرف من هو، ذهب إليه رجل من التابعين فوجده في المسجد وحوله الناس إذا تكلم استمعوا له ويتبسم للناس، فسأل: من هذا؟ أو ذهب إليه وقال: إني والله أحبك في الله. وقد أسلم قديماً رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان صغيراً حين أسلم، ولما رجع الأنصار بعد بيعة النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية أظهروا الإسلام في المدينة وكان هناك بقايا من شيوخ أهل المدينة منهم عمرو بن الجموح رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان له ابن اسمه معاذ بن عمرو بن الجموح من بني سلمة وكان معاذ بن جبل يومئذ فتى فأسلم معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو وأسلم فتيان معهم بإسلامهم، وكان عمرو بن الجموح سيداً في قومه وكان يعبد صنماً يسميه مناف أو مناة، من دون الله سبحانه وتعالى وكان عادة أهل الجاهلية في جاهليتهم أن الأشراف الكبار لا يعبدون الأصنام التي يعبدها الناس بل يكون للشريف صنم لوحده في البيت يعبده من دون الله سبحانه وتعالى، فاتخذ هذا الصنم من خشب في بيته فسماه مناة أو مناف فلما أسلم فتيان بني سلمة ومنهم معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكان معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو يدلجون بالليل على الصنم الذي لـ عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض الحفر يريدون الرجل أن يسلم، فيأخذون الصنم الذي له ويذهبون به إلى البئر الذي فيه نجاسة ويرمونه بداخله، ويصبح عمرو بن الجموح يبحث عن إلهه الذي كان يعبده، ويجده في بئر النجاسة، فيأخذه ويطيبه ويرده إلى مكانه مرة أخرى. وأسلم الناس وكان الذي يعلمهم الإسلام في المدينة مصعب بن عمير رضي الله تبارك وتعالى عنه، وذهب مصعب ليقابل عمرو بن الجموح فقال له: ما هذا الذي جئتمونا به؟ فقال مصعب رضي الله عنه: إن شئت جئناك فأسمعناك الذي جئنا به، فقال له: نعم، وكان رجلاً عاقلاً، لكن في عبادة غير الله سبحانه وتعالى لم يكن عاقلاً، فقرأ عليه مصعب بن عمير صدراً من سورة يوسف فـ عمرو سمع القرآن وأعجبه، ولكن أيضاً ما زال يعبد الصنم، فقال: إن لنا مؤامرة مع قومنا يعني -مشاورة مع قومنا- فاتركنا نتشاور مع قومنا فخرج مصعب ودخل هو على التمثال الذي له، وكانت عقول أهل الجاهلية في أمر الشرك بالله سبحانه وتعالى في قمة السخافة لأجل هذا لا تعجب أن تجد عالماً في الفلك وعالماً في الفضاء ثم يعبد صنماً من دون الله سبحانه وتعالى، فالله يعطيه عقلاً في بعض الأمور ويسلب منه هذا العقل في أمور أخرى، فإذا به يعبد غير الله وهذا الرجل كان سيداً في قومه وشريفاً من شرفائهم ويرجعون إليه في المشورة ومع ذلك يعبد هذا الصنم، فذهب عمرو بن الجموح إلى التمثال يكلمه فقال: يا مناف أو يا مناة تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير؟ أي: هل تستطيع أن ترد عليهم أو تستطيع أن تصنع فيهم شيئاً؟ ثم علق عليه سيفه وقال: دافع به عن نفسك أمام هؤلاء القوم، وفي اليوم الثاني إذا بـ معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو يأخذون هذا التمثال ويرمونه في الحفرة، وفي يوم من الأيام خرج عمرو بن الجموح وقال لأهل بيته: أنا ذاهب للمال الذي لي أوصيكم خيراً بالإله، أوصيكم خيراً بمناة، وخرج وترك مع هذا التمثال سيفه، ورجع إليهم فوجدهم قد كسروا التمثال وألقوه في النجاسة وأخذوا السيف منه فنظر إلى التمثال ثم قال: أف لك: والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلهاً مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن وجمع بني سلمة وقال لهم: أي إنسان أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا، قال: ألستم على ما أنا عليه؟ قالوا: نعم، قال: فإني أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأسلم القوم بإسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه، هذا عمرو بن الجموح الذي جاء في يوم أحد وكان أعرج رضي الله تبارك وتعالى عنه وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) فقام يريد القتال وأولاده يقولون له: أنت أعرج وقد عذرك الله فقال: والله لأطأن عليها في الجنة فقاتل حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه لقد أنقذه الله عز وجل من الشرك، وبعد فترة يسيرة من إسلامه قتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه فكان الفضل لله عز وجل ثم لـ معاذ بن جبل ولـ معاذ بن عمرو بن الجموح ولـ مصعب بن عمير رضي الله تبارك وتعالى عنهم أن دلوه على دين الله سبحانه وتعالى.

بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب [1]

شرح كتاب فتح المجيد - بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب [1] من أتى بتوحيد الله سبحانه على الحق الذي يريده، فإن الله يكفر له بتوحيده ذنوبه سواء كانت صغيرة أو كبيرة، حتى وإن استحق العبد دخول النار فإن الله سيخرجه منها متى ما شاء سبحانه.

فضل التوحيد وأثره في تكفير الذنوب

فضل التوحيد وأثره في تكفير الذنوب أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. إن الباب الثاني من كتاب التوحيد كما يقول المصنف رحمه الله: (بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه. ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)). إن توحيد الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية. وتوحيد الإلوهية. وتوحيد الأسماء والصفات. فمن أتى بالتوحيد على الوجه الذي يريده الله سبحانه وتعالى فتوحيده يكفر الله عز وجل به ذنوبه مهما بلغت، وذلك إذا أتى بحق لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليها العرب والعجم وجميع الخلق، فقد دعا الإنس والجن إلى أن يقولوا: (لا إله إلا الله). وقد عرفت العرب معنى هذه الكلمة، ولذلك رفضوا أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم في البداية، حتى عرفوا الحق الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم منهم طوائف، ثم أسلم الباقون بعد ذلك، وعرفوا التوحيد الذي يريده رب العالمين من عباده. ففضل التوحيد جاء في الأحاديث كما سنرى، أن الذي وحد الله سبحانه وقال: لا إله إلا الله بحق، أي: قال: هذه الكلمة مخلصاً وأتى بشروطها التي أراد الله سبحانه من العباد، فإن هذا يستحق أن يدخل الجنة، ومن كان آخر كلامه قبل مماته (لا إله إلا الله) يغفر الله له بذلك، ويدخله الجنة. قال: (بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)، يعني: ما يكفره توحيد العبد ربه من الذنوب من صغائر ومن كبائر، فالله يغفر ويتجاوز، حتى وإن استحق هذا العبد أن يدخل النار بشيء من ذنوبه، ولكن هذه الكلمة في النهاية تنفعه أن يخرج من النار، ويدخل الجنة.

معنى الظلم في قوله تعالى: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)

معنى الظلم في قوله تعالى: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. في هذه الآية العظيمة ذكر الله عز وجل المؤمنين الذين آمنوا بالله سبحانه، وآمنوا برسوله صلوات الله وسلامه عليه. قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام:82] واللبس بمعنى: الخلط، أي: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك بالله سبحانه. قال: يقول الله تعالى: ({وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] يقول الربيع بن أنس: (الإيمان: الإخلاص لله وحده) يعني: آمن وأخلص لله رب العالمين. يقول زيد بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه. يعني: أن الله سبحانه وتعالى قضى للمؤمن أن يكون من أهل جنته إذا لم يلبس إيمانه بظلم، يعني: بشرك. يقول ابن مسعود رضي الله عنهما كما جاء في الصحيحين: أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: (أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]). وجاء في لفظ البخاري عن ابن مسعود: (لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قلنا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟) ثم سرد نفس هذا الحديث العظيم. وكان الصحابة قد فهموا من الآية أن الظلم على عمومه، والظلم يأتي بمعنى الشرك والكفر بالله سبحانه وهو الظلم الأكبر، ويأتي بمعنى الظلم الذي هو دون ذلك، إما كبيرة من الكبائر، وإما صغيرة من الصغائر، فمنه أن يظلم الإنسان غيره، ومنه أن يظلم الإنسان نفسه، فالصحابة فهموا الآية على إطلاقها وعمومها، فقوله: (ولم يلبسوا) أي: ولم يخلطوا إيمانهم بظلم، فقالوا: ومن منا لم يظلم نفسه؟ فلذلك حزنوا وفزعوا من هذه الآية وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شق عليهم ذلك، فقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]). ففهموا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود بقوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] أي: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك بالله سبحانه، لذا جاءوا بالتوحيد على حقيقته، ولم يشركوا بالله سبحانه وتعالى شيئاً. فالظلم في هذه الآية الأصل أنه على عمومه، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود في هذه الآية: خصوص نوع معين من الظلم وهو الظلم الأكبر، وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى. وفسرها بالآية التي في سورة لقمان، قال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وهذا أعظم الظلم الذي يظلم الإنسان نفسه به. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والذي شق عليهم: ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه. وفيها أن من وراء الإيمان الخالص يستفاد الأمن والأمان في الدنيا وفي الآخرة. في الدنيا: بعصمة الدماء، وبعصمة المال، وبعصمة الأعراض. وفي الآخرة: ينجيه الله سبحانه وتعالى من النار. فلهم هذا الأمن: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] أي: يهديهم الله عز وجل في الدنيا إلى هذا الإسلام العظيم، ويزيدهم إيماناً، ويهديهم في قبورهم للجواب السديد على الملكين في القبر، ويهديهم يوم القيامة لطريق الجنة، فلهم الأمن وهم مهتدون. فالصحابة خافوا أن أي ظلم يظلم به الإنسان نفسه يخرجه من هذه الآية، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود الظلم الأكبر، وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى.

أنواع الظلم وتعريف كل نوع وما يلحق بكل نوع من جزاء

أنواع الظلم وتعريف كل نوع وما يلحق بكل نوع من جزاء يقول شيخ الإسلام رحمه الله: فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]. أورثنا الكتاب: يعني: الكتب السماوية ورثها من خلفوا الأنبياء بعدهم، ((فَمِنْهُمْ)) أي: فمن هؤلاء الذين ورثوا الكتاب: {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] فصاروا ثلاثة أصناف، منهم: الذي يظلم نفسه؛ إما بالظلم الأكبر والشرك بالله، والخروج من الدين وإما بالظلم الأصغر، فمنهم ظالم لنفسه فغلبت سيئاته حسناته. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:32] أي: له حسنات بقدر السيئات. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] هذا الذي غلبت حسناته سيئاته، فقال سبحانه: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]. وهذا كلام شيخ الإسلام، حيث يقول: وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه، بذنب إذا لم يتب. أي: الذي أذنب وتاب فإن التوبة تجب ما قبلها، لكن إذا أذنب ولم يتب فهو في خطر المشيئة، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه بهذا الذي وقع فيه، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. فهنا في باب الوعد: عندما تعمل قدر وزن ذرة من الخير، يعطيك الله عز وجل ثوابها. وفي باب الوعيد: من يعمل مثقال وزن ذرة (نملة) من الشر فالله يرى هذا الشيء ويحاسب عليه، إلا أن يعفو الله سبحانه وتعالى ويتكرم بالعفو عن عباده. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (يا رسول الله! أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء -أي: الشدة-؟ فذلك ما تجزون به) الحديث رواه أحمد في مسنده وإسناده فيه أبو بكر بن أبي زهير لم يوثقه إلا ابن حبان فقط وشيخه مجهول. لكن الحديث معناه صحيح، أن الله عز وجل يكفر عن المؤمنين بما يبتليهم به من مصائب، حتى الشوكة يشاكها يكون له فيها أجر، وقد ثبت هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها). تنكب الشيء بمعنى: سقط أو وقع على الأرض وجرح بسبب ذلك، فالله عز وجل يؤجره على ذلك؛ فالحديث فيه دليل على أن الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] أي: إلا أن يعفو الله سبحانه ويكفر عن ذلك عندما يكون العبد كثير المصائب في الدنيا. قال: فإنه يجزى بسيئاته في الدنيا بمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام، والاهتداء التام. فالإنسان يظلم نفسه بأن يشرك بالله سبحانه، فإن الله خلقه ورزقه وعلمه وأرشده لتوحيده فإذا به يشرك بالله في العبادة؛ فهذا ظلم أكبر. وظلم آخر: ظلم العباد، بأن يسرق مال غيره، ويأكل مال غيره بغصب ونحوه، ويفعل الأشياء التي يؤذي بها الغير. قال: وظلمه لنفسه بما دون الشرك. وظلم العبد لنفسه: الوقوع في المحرمات التي هي دون الشرك، فالذي ينجو من هذه الثلاث: من الشرك بالله، ومن ظلمه للعباد، ومن ظلمه لنفسه بما دون الشرك، له الأمن التام، والاهتداء التام. نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا الأمن التام، والاهتداء التام. قال: ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق. يعني: أن له من الأمن وله من الاهتداء ما هو داخل في ذلك، وأنه لا بد من دخول الجنة سواءً عذب قبل ذلك بعذاب أو بتأخير عن دخولها، ولكن في النهاية سيؤمنه الله عز وجل، ويدخله جنته. قال: وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم، الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلم نفسه، وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما هو الشرك) أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام. هذا كلام عظيم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبين لنا أنه وإن فسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بأن المقصود بالظلم: الشرك، فليس معناه: أن الإنسان الذي لا يشرك، له أن يظلم ويعمل السوء ثم يقول: أنا آمن بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم! لأنا نقول له: لقد جاءت نصوص أخرى كثيرة تبين أنك تجازى على الشيء الذي تظلم به نفسك أو تظلم به غيرك دون الشرك بالله سبحانه وتعالى. فالإنسان يظلم نفسه بالمعاصي، ويظلم نفسه بأخذ حقوق الغير؛ لذا فإنه إذا وقع في ذلك فتاب تاب الله عز وجل عليه، وكان له الأمن والاهتداء، وإن لم يتب إلى الله كان في خطر المشيئة، ولكن توحيده ينفعه يوماً من الدهر، إذ ليس له الأمن التام، وإنما له الأمن المطلق، ففرق بين أن نقول: الاهتداء التام والأمن التام، وأن نقول: له أمن وله اهتداء فيهديه الله عز وجل يوماً من الدهر ويؤمنه وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه. يقول شيخ الإسلام: (فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذان يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم.

الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان وابن القيم رحمه الله يبين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الآية، يقول: فإن الظلم المطلق التام هو الشرك بالله سبحانه، والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام، فلا يمنع أن يكون ظلماً مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله. والفرق بين أن نقول: هذا معه الإيمان المطلق، وهذا معه مطلق الإيمان: أن الإيمان المطلق: الإيمان الكامل، الذي جاء فيه بالواجبات جميعها، فإذا كان كذلك فله الأمن التام، وله الاهتداء التام يوم القيامة. وأما الآخر فله مطلق الإيمان، يعني: هو من ضمن المسلمين، ومن ضمن المؤمنين، ولكنه يقع في معاصٍ فيعمه اسم الإيمان واسم الإسلام، ولكنه عاص لله سبحانه وتعالى، فلا يحرمه الله من فضله يوم القيامة، وإن كان قد يعذبه في النار على معاصيه التي وقع فيها، لكن لم يخرج من الإيمان، ولا من الإسلام. فإذا قلنا: هو في دائرة الإسلام، فله النجاة يوم القيامة، ولو دخل النار، فالله عز وجل يوماً من الدهر يخرجه من النار ويدخله جنته، فدائرة الإيمان المطلق أقل، فيها المحسنون وفيها الذين لم يظلموا أنفسهم لا بشرك ولا بغيره، ولم يظلموا غيرهم، فلهم الأمن التام يوم القيامة ولهم الاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة. أما الذي لم يقع في الشرك الأكبر، ووقع في غير ذلك من المعاصي فهو في مطلق الإيمان، ولم يخرج عن دين رب العالمين، ولكنه مقصر في واجبات الإيمان؛ لذلك استحق أن يعذب إلا أن يعفو الله عز وجل عنه يوم القيامة. والإيمان المطلق وصف للإيمان وفيه كل الخصال المرجوة التي يطلبها الله عز وجل من عباده، ويرجو العبد أن يكون عليها. ومطلق الإيمان أن يقول: لا إله إلا الله، ويصلي ويفعل الطاعات، ويفعل المعاصي فهو داخل في مطلق الإيمان، ولكنه ينقص هداه وينقص إيمانه بقدر ما يقع فيه من المعاصي.

معنى لا إله إلا الله

معنى لا إله إلا الله عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه. يعني: البخاري ومسلماً. وفي هذا الحديث بيان أن كلمة التوحيد من الإيمان بالله سبحانه، فتؤمن بالله وتؤمن برسل الله سبحانه وتعالى على ما قاله ربنا في كتابه، وما ذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أصول الإيمان: الإيمان بالجنة، والإيمان بالنار. والإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وذكر في هذا الحديث بعضاً منها فقال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله) وفرق بين أن يشهد (أن لا إله إلا الله) وبين أن يقولها؛ فقد يقولها معتقداً لها، وقد يقولها غير معتقد لها، ولذا قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، وقال في الحديث: (من شهد أن أن لا إله إلا الله)، والشهادة مأخوذة من المشاهدة، يقال: شهد أي: نظر بعينه فرأى. إذاً: ليس الأمر ظنياً بل أمر يقين، ولذلك يشهد الشاهد على ما يستيقنه، ولا بد أن يكون قد شاهد الشيء ببصره، أو استيقن بحواسه من هذا الشيء الذي يشهد عليه؛ فلذلك تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، والأحاديث التي جاء فيها: (من قال لا إله إلا الله) مقصود بها الشهادة، أي: قالها مستيقناً من قلبه مخلصاً لله عز وجل بما يقول، كما أنك تشهد على الشيء الذي تراه، تقول: أشهد أن فلاناً فعل كذا وكذا، أي: رأيت هذا الإنسان وأنا على يقين مما أقول. وعندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فأنت لم تر الله، ولكن تقول: أنا مستيقن من ذلك كالذي يرى بعينه، فأنا على علم يقين بأنه لا إله إلا الله، وأنه هو الله وحده الذي يستحق العبادة ولا يستحقها أحد غيره، وهذه الكلمة فيها نفي وفيها إثبات. وهناك فرق بين أن يقول: من شهد أن الله إله ومن شهد أن لا إله إلا الله: فمن شهد أن الله إله قد يشهد أن غيره إله فلم ينف شيئاً، ولكن لا بد أن يقول: لا إله إلا الله، (لا) نفي للجنس، (إله) جنس الآلهة يعني: أنا أنفي وجود حق لأي إله من الآلهة، إلا الإله الواحد، وهو الله سبحانه وتعالى. وهذا معنى كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أنني مستيقن أن المعبود واحد لا شريك له. أما غيره من الآلهة وإن وردت فهي باطلة. والإله قد يكون وثناً وصنماً وقد يكون هوىً، وقد قد يكون شيطاناً، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فعبدوا الهوى من دون الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81] فعبدوا آلهة من دون الله، وهذا هو الشيء الذي أشرك المشركون بالله سبحانه وتعالى فيه. أي: فهم لم يشركوا بالله عز وجل في كونه يخلق أو يرزق، بل هم يعلمون أن الله وحده هو الذي يفعل ذلك؛ ولذلك جاء عند الترمذي أن عمران بن حصين يذكر عن أبيه حصين أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حصين! كم تعبد في اليوم إلهاً؟ قال: سبعة. ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء). فهو يعلم وهو كافر أن الذي ينفع ويضر هو الله الذي في السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حصين، أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك! فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: قل: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي) والحديث من رواية الحسن البصري عن عمران بن حصين وقيل: إن الحسن البصري لم يسمع من عمران إلا أحاديث قليلة، فعلى ذلك يكون الحديث منقطعاً، لكن له شاهد عند البزار بإسناد فيه ضعف، فيشهد لهذا الحديث، أو يتابعه ويقويه، فالحديث حسن لغيره. ففيه أن الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم: كم تعبد من إله؟ قال: سبعة، فالكفار كانوا يعلمون أن الإله الواحد الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر هو الذي في السماء، ويعرفون أن الله في السماء، ولذلك قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: الذي ينفع ويضر هو الذي في السماء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: لو أنك أسلمت علمتك دعاءً، فأسلم الرجل بعد ذلك، قال: (قل: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي).

إعراب كلمة (لا إله إلا الله)

إعراب كلمة (لا إله إلا الله) فمعنى (لا إله إلا الله)، أي: لا معبود بحق إلا الله. الأصل في لا النافية للجنس أن يستغنى عن خبرها؛ لأنه مقدر. أي: يقدر الخبر في (لا) النافية للجنس بأنه موجود، تقول: لا أحد في الدار، أي: لا أحد موجود في الدار، لكن لا يجوز هذا الإعراب مع هذه الكلمة العظيمة، فلا تقول: لا إله موجود إلا الله، فكم من آلهة غير الله موجودة، وكلها باطلة، فلا بد من التقدير بهذا الوصف: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. فليس من اللائق أن تقول: لا إله موجود غير الله سبحانه، قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم:81] فكلمة (لا إله موجود) هذه لا تصلح وإنما الذي يصلح فيها أن يقال: التقدير هنا: لا إله حقاً، أما باقي الآلهة فهي آلهة باطلة. وقولك: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توكيد للإثبات؛ لأن (وحده) حال، ولذلك لا يصح أن تقول: (وحدُه)، كما نسمع كثيراً من الناس يقولون: لا إله إلا الله وحدُه، فهذا خطأ، والصحيح أن تقول: لا إله إلا الله وحدَه، فتنصبها على الحال تأكيداً للإثبات. فقولك: (لا إله) هذا نفي، (إلا الله) هذا إثبات. (وحده) تأكيد لهذا الإثبات، أن الله وحده الذي يستحق العبادة، فلا شريك لله سبحانه وتعالى، بل هو الإله المعبود بحق، كما قال الله سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:69 - 70] فقد عرفوا أنه المعبود، ولكن يعبدون آلهة معه ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغباً ورهباً؛ لذلك مدح الله عز وجل الأنبياء الذين يعبدونه، فقال: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] فهؤلاء الأنبياء هم الذين شرفهم الله سبحانه، وجعلهم فوق جميع خلقه بأن جعلهم رسله وأنبيائه، فذكر من عبادتهم أنهم كانوا يدعونه رغباً ورهباً، قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فقوله: (يدعوننا رغباً) أي: يطلبون الجنة ويرغبون فيما عندنا، (ورهباً) أي: يخافون من النار. فالأنبياء يطلبون الجنة ويخافون من النار، إذاً: فمن باب أولى أن كل إنسان مؤمن يرجو من الله رحمته وجنته، ويخاف من عذابه سبحانه.

كلام العلماء في معنى لا إله إلا الله

كلام العلماء في معنى لا إله إلا الله قال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: (شهادة أن لا إله إلا الله) يقتضي أن يكون الشاهد عالماً بأنه لا إله إلا الله، كما قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. ومعناه: استيقن من ذلك، وهذا علم ينافي الجهل، وعلم يوافقه اليقين الذي في القلب. ثم قال بعد ذكره للآية السابقة: واسم الله بعد إلا من حيث أنه الواجب له الإلهية فلا يستحقها غيره سبحانه، وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك حين تقول: أشهد أن لا إله الله، معناه: هو المعبود وحده، وأن كل ما يعبد من دونه لا يستحقون العبادة، فأنت تؤمن بالله وتكفر بالطاغوت، ولذلك قال عقب آية الكرسي: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] والمقصود بها: كلمة التوحيد، قال تعالى: {لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. فقولك: (لا إله) نفي لجميع الآلهة أن يستحقوا العبادة، وهو نفيٌ يعني الكفر بالطاغوت، ومعنى (يكفر الشيء): يستره ويطمسه ويمحوه، فالإنسان المؤمن يكفر بالطواغيت ولا يعبدها. وقوله تعالى: {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] العروة: الحلقة، قال تعالى: {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] فأنت حين تمسك حلقة من حديد مقفلة محكمة مبهمة وتحاول أن تفصلها وتشقها لا تقدر على ذلك، فكلمة التوحيد أعظم عروة، وهي العروة الموثقة من رب العالمين التي تمسكها ولا تنكسر، فتدخل الجنة بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)! وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله. وقوله: (وحده لا شريك له) تأكيد وبيان لمضمون معنى هذه الكلمة، فالله يختص بهذا الوصف أنه الإله الحق سبحانه وتعالى، وكلمة لا إله إلا الله والإتيان بشروطها مفتاح للجنة، والمفتاح لا بد أن يكون له أسنان توافق القفل الذي في الباب، فكلمة لا إله إلا الله مع الإتيان بشروطها مفتاح للجنة.

شروط كلمة لا إله إلا الله

شروط كلمة لا إله إلا الله ذكر العلماء أن لها سبعة شروط أشرنا إليها قبل ذلك، وهي: العلم ثم اليقين، أي: اعلم أنه لا إله إلا الله علماً يقيناً، بمعنى: أن يقولها الإنسان مستيقناً ومصدقاً في قلبه وواثقاً من أنه لا إله إلا الله سبحانه وتعالى؛ لذا فهو ينفي أن يكون شاكاً في ذلك. ومن شروط لا إله إلا الله القبول: أن تعبد الله عز وجل بشرعه، فتقبل منه ما أتاك عن طريق النبي صلوات الله وسلامه عليه، أن تقبل ولا تستكبر على ذلك، إذاً: يقين وقبول لما جاء من عند رب العالمين ينافي أن تشك وأن تستكبر أو أن تعاند ذلك، فالقبول: أن يقبل الإنسان شرع الله سبحانه ولا يرده، وقد يفعل قد لا يفعل، يعني: الإنسان قبل الشريعة فقد يعمل ما يرضي الله، ولكن أحياناً يقع في المعاصي، وليس معنى ذلك أنه لم يقبل. هناك فرق بين من يجحد ذلك ويرده على الله، وبين من يقبله، فمن الرخصة: أن يفطر المعذور في رمضان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) فأنت تقبل صدقة الله سبحانه، وقد تسافر فتفطر وأنت قبلت هذه الصدقة من الله عز وجل، وقد تسافر وتصوم وأنت قد قبلت أيضاً هذه الصدقة من الله رب العالمين. فالقبول: معناه: عدم الرد، والفرق كبير بين أن يقول: أنا أقبل هذه الرخصة وأفطر في السفر؛ لأنه يشق علي ذلك، وبين أن يقول: الرخصة من الله صدقة تصدق بها علي، قبلت رخصة الله سبحانه وتعالى، ولكني أخاف أن أموت قبل أن أقضي هذا اليوم، فأنا لا يشق علي الصيام الآن، لكنني أخاف أن يشق علي بعدما أكون حاضراً بعد رمضان، فهو قابل لذلك. وانظروا إلى إبليس لما أمره الله عز وجل أن يسجد لآدم لم يقبل ذلك من ربه، قال تعالى: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61] فلم يسجد ورد ما أمره الله عز وجل به، فاستكبر على هذا الأمر. فهناك فرق بين أن يقبل العبد هذه الشريعة العظيمة ويعصيه، ولكن الأصل أنه قبل ذلك إذا عصى الله استغفر، وأقر بأنه عاص، فهو قابل لشرع الله رب العالمين ولكن غلبت عليه شقوته فوقع في المعصية، وبين أن يرد ذلك ولا يقبله، كالذين يرفضون قول الله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ويقولون: الرجل مثل المرأة، والمرأة لا تأخذ النصف من نصيب الرجل، بل تأخذ مثل نصيبه، فمن يقل ذلك فقد حاد الله سبحانه وتعالى، وجحد ورفض ما جاء من عند رب العالمين ويعد مستكبراً على ما جاء من عند الله، فإن هذا لم يقبل شرع الله سبحانه. فالعلم، واليقين، والقبول، والإخلاص، والصدق، والمحبة، والانقياد، سبعة شروط لـ (لا إله إلا الله) ذكرها في كتاب معارج القبول قال: العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبه وفقك الله لما أحبه هذه سبعة شروط، وزاد البعض عليها: أن توالي من يوالي الله سبحانه وتعالى، وتبرأ من أعداء الله سبحانه، وإن كانت داخلة في هذه التي ذكرناها. لكن الغرض: أن هذه الشروط إذا أتيت بها أتيت بمفتاح الجنة، ولا يجوز له أن يحقق شرطاً ويخل بشرط آخر، فلابد من الانقياد لجميع ما جاء من عند رب العالمين سبحانه. فإذا قبل البعض ورفض البعض ولم ينقد لدين رب العالمين فقد قصر في شرط من شروط لا إله إلا الله. ثم يلي هذه الشروط: الصدق، والإخلاص، والمحبة: أي: أن يصدق في ذلك، والصدق ينافي الكذب، فلا يكذب، كأن يقول: لا إله إلا الله وهو غير مصدق بها؛ ولذلك الإنسان المنافق والفاجر وهو في قبره عندما يسأل: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ يقول: لا أدري لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. أي: سمع الناس يقولون: شيئاً فقال كما قال الناس، ولم يستيقن في قلبه ولم يتابع بعمله، ولم يعرف ذلك حق المعرفة، وإنما قال كما قال الناس، فكان كاذباً، يكذب قلبه لسانه، فهذا ينافي الصدق الذي أمر الله عز وجل به المؤمنين وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه) أي: يقولها صادقاً صدقاً منافياً أن يكون شاكاً، ومنافياً أن يكون كاذباً في هذا الذي يقوله. فالصدق والإخلاص من شروط لا إله إلا الله، والإخلاص: توحيد رب العالمين: أن يخرج العمل لله، وليس لغير الله سبحانه، فيعبد الله، ويدعو الله، وينذر لله، ويخاف من الله، ويحلف بالله. وعكس ذلك من يحلف بغير الله سبحانه وتعالى، ويعظم غير الله سبحانه، ويدعو غير الله، ويسجد أو ينحني أو يطوف بالقبور، فهذا إنسان قد جعل مع الله آلهة أخرى، وعبد غير الله، فهو ينافي إخلاصه لله، وقد أمرنا الله سبحانه أن نعبده ولا نشرك به شيئاً سبحانه، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]. ومن شروط لا إله إلا الله: المحبة لله سبحانه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذه الكلمة العظيمة، ولدين رب العالمين، والمحبة للمؤمنين، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. فالمؤمنون أعزة على الكافرين، ولكنهم يحبون المؤمنين ويخفضون أجنحتهم لهم، ويتواضعون لهم. فالمؤمن يحب هذه الكلمة بحبه لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبحبه للمؤمن؛ فإذا جاء بهذه الكلمة بشروطها كان من أهل الجنة.

إشراك العرب بالله آلهة أخرى وتفرقهم في رئاستهم

إشراك العرب بالله آلهة أخرى وتفرقهم في رئاستهم قال: فما أجهل عباد القبور بحالهم، وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص، فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظاً ومعنىً، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنى، قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. والمعنى فيها: أنه إله واحد فهم تعجبوا من كونه إلهاً واحداً فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قولوا كلمة واحدة أضمن لكم بها الجنة، قولوها كلمة واحدة أشهد لكم بها عند الله، قالوا: قل مائة كلمة نقول لك الذي تريد، قال: قولوا: لا إله إلا الله. قالوا: أما هذا فلا نريده) لأنهم فهموا أن معنى هذه الكلمة أنه لا معبود بحق إلا الله، لكنهم كانوا يعبدون العزى واللات ومناة وكانوا يعتزون بذلك، وكان العرب في غرورهم يظنون أن كل واحد منهم يصلح أن يصير رئيساً، ولا أحد يصير رئيساً عليه، ولذلك لما كان يذلهم الفرس والروم كانوا يتعالون عليهم، ويقولون: أنتم فيكم بيت واحد يصلح للرئاسة فقط، ففي الفرس بيت كسرى، وفي الروم بيت قيصر، أما نحن العرب فكل واحد منا يصلح أن يكون رئيساً. وكان من العرب من يعيش عالة على هؤلاء وفي جوارهم، ومنهم: النعمان بن المنذر وغيره، أما بقية العرب فلم يكن لهم قيمة، ولكن كان في أنفسهم التعالي والكبر، فكل واحد منهم يصلح أن يكون رئيساً أو ملكاً ولا يطيع أحداً منهم الآخر. وقد كان كل واحد منهم يتخذ لنفسه صنماً يعبده، وكان الآحاد من الناس يعبدون التماثيل، وكل واحد يصنع لنفسه تمثالاً لوحده في بيته يعبده من دون الله سبحانه وتعالى. فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] لم يكونوا يعلمون أنه لا إله إلا الله، وقالوا: إذا عبدنا الإله الذي تزعم أنك أتيت من عنده فستقول بعد ذلك: أنا رسول الله، وبعد ذلك ستأتي لنا بأوامر، ونحن لا نريد منك أوامر، كل واحد يعمل ما يشاء، فأنت لماذا تأمرنا وتتعالى علينا؟ ولذلك كانت هذه النزعة الجاهلية موجودة في داخلهم، وقد تلاشت بعد ذلك حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لبعضهم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) فيندم ويرجع ويتوب إلى الله عز وجل من ذلك.

بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ثم هدمها

بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ثم هدمها وفي آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه، كان يتمنى لو أنه هدم الكعبة، وجعل لها بابين، فقد قال للسيدة عائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم ولجعلت لها بابين). فتسأله السيدة عائشة عن سبب جعل سلم الكعبة عالياً، وعدم جعل قواعدها على الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن قومك أرادوا ألا يدخل الكعبة إلا من شاءوا) وكانوا يزعمون أنهم أعلى من غيرهم، ولا أحد مثلهم يحب الكعبة، فكان لا يدخل الكعبة إلا من يريدون. والكعبة ليست على جميع قواعد إبراهيم حتى الآن، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم هدمها، ولما جاء ابن الزبير هدمها ثم بناها على قواعد إبراهيم كما تمنى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الخلفاء من بعده فهدموها وأرجعوها ثانية، ولما أرادوا أن يعيدوها في عهد مالك رحمه الله قال: دعوها على ما هي، حتى لا تكون ألعوبة للملوك، فأصبحت على ما هي عليه حتى الآن. فالنبي صلى الله عليه وسلم تمنى لو أنه أقامها على قواعد إبراهيم، فهناك ستة أذرع خلف الكعبة تحت الميزاب هي من الكعبة ولكنها الآن خارج الكعبة. وقد كان أموال العرب كلها حراماً، وما كان حلالاً فهو قليل، فلما أرادوا بناء الكعبة في الجاهلية اشترطوا أنهم لا يضعون فيها إلا مالاً حلالاً، فلم يجدوا من المال الحلال إلا قليلا، فقصرت نفقتهم عن بناء الكعبة على جميع قواعد إبراهيم، فأخرجوا من الكعبة ستة أذرع أو سبعة أذرع، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم) فهم حديثو عهد بجاهلية، وهذا صحيح فالقوم أسلموا بعد فتح مكة في سنة ثمان للهجرة، وقد كانوا رءوساً في الكفر ثم أسلموا في هذا الوقت، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم لثاروا بسبب ذلك، حيث إنهم كانوا يظنون أن المفخرة ستكون للنبي صلى الله عليه وسلم وحده إذا قام بما أراد. وأنتم تعلمون أنهم لما بنوا الكعبة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا لنصب الحجر تنازعت القبائل حتى كادوا أن يقتتلوا بالسيوف، فاستقر أمرهم على أن يحكم بينهم أول من يخرج عليهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: احكم بيننا فقد رضينا بك حكماً، فقام النبي صلوات الله وسلامه عليه الصلاة والسلام وبسط رداءه ووضع الحجر عليه، وأمر من كل قبيلة برجل يأخذ بهذا الرداء فرفعوه، ثم أخذه هو بيده الكريمة فوضعه في مكانه. فهناك قاعدة يسمونها بقاعدة سد الذرائع، ما كان ذريعة إلى حرام لا يجوز فعله أو إتيانه حتى لا يقع في الحرام، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها، ولكنه خشي أن يظن من أسلم من قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك من أجل أن يأخذ هذه المفخرة لوحده، فيكفرون مرة أخرى، فترك النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة على ما هي.

جحود كفار قريش بالله

جحود كفار قريش بالله إذاً: أهل الجاهلية كان في قلوبهم عصبية، وكان في قلوبهم التعالي، حيث يتعالى بعضهم على بعض حتى في العبادة، هذا صنمه أفضل من صنم هذا، وهذا الصنم من تمر، وهذا من حجر، وهذا من تراب، فعلى ذلك كان الشرك في قلوب هؤلاء يمنعهم من أن يعبدوا إلهاً واحداً، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، عاندوا وأبوا وأخذ يكلم بعضهم بعضاً ويقول: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. فتعجبوا من غير عجب، حيث إنهم يتعجبون لشيء صحيح، حيث إن الإله إله واحد، وهذا يفهمه العقل، ولكن انطمست قلوبهم بالكفر فلم يفهموا ذلك، أو فهموا وتعالوا أن يقبلوا دين ربهم العالمين، فيسمعوا من النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك كان قائلهم يقول: كنا وبنو هاشم كفؤاً، أطعموا الحجيج فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وفعلوا كذا ففعلنا، ثم يقولون: منا نبي، وأنى لنا بنبي؟ وهم يعلمون أنه صادق صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الكبر هو الذي منعهم، ظناً منهم أن بني هاشم يتفاخرون بنبيهم. إذاً: مشركو العرب جحدوا كلمة لا إله إلا الله لفظاً وجحدوها معنىً. والجحد: الرفض للشيء وإن كان يعلمه في نفسه، مثلما تقول: فلان جحد الدين، أي: هو يعرف أنه عليه دين، ولكن يرفض أن يصرح ويقر بذلك، فهؤلاء كذلك جحدوا الله لفظاً وجحدوه معنىً، قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] أي: فليس من الممكن أن يكون إلهاً واحداً بل هي آلهة متعددة. قال: وهؤلاء المشركون بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما استقر الإسلام ثم بدأ يظهر الشرك مرة ثانية ويتوجه الناس إلى دعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله وعبادة غير الله والاعتقاد في غير الله سبحانه، فإذا بهم يتوجهون إلى القبور. فوجهوا عبادتهم إلى غير الله، يقولون: لا إله إلا الله لفظاً وإذا بهم يشركون بالله عز وجل، مع أنهم ممن شهد أن لا إله إلا الله، وهذا توحيد الألوهية وأن محمداً عبده ورسوله، أي: وشهد بذلك يقيناً أن محمداً عبد ورسوله، شرفه الله سبحانه وتعالى بأنه عبد استخلصه لنفسه سبحانه وجعله رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فقال: وأن محمداً عبده ورسوله.

مراتب العبودية وأعلاها العبودية الخاصة

مراتب العبودية وأعلاها العبودية الخاصة يقول: أعلى مراتب العبد العبودية الخاصة، والرسالة من العبودية. فالعبودية منها عبودية عامة، ومنها عبودية خاصة، وكل الخلق عبيد لله رب العالمين شاءوا أم أبوا، فقد خلقهم الله، ولكن العبودية الخاصة أنه رضي بأن يكون عبداً لله، فكان عبداً لله وحده لا شريك له، فهنا يقول: أعلى مراتب العبد: العبودية الخاصة التي كان عليها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وعليها المؤمنون من أتباعه عليه الصلاة والسلام أنه رسول رب العالمين. فالمؤمن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عبده ورسوله، حتى لا يقع المسلمون في ما وقع فيه أهل الكتاب، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30] فهؤلاء عبدوا غير الله سبحانه. أما الإنسان المؤمن فيقول: هذا النبي صلى الله عليه وسلم عبد لله، وهو يقول ذلك: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد) فهو عبد الله ورسول الله عليه الصلاة والسلام. ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الجواري ينشدن وتقول واحدة منهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد) وقال لها ولغيرها: (لا يستهوينكم الشيطان)، أي: لا يستجرينكم الشيطان ولا يلعب بكم الشيطان، قولوا ببعض ما تقولون، يعني: نهاها أن تقول إنه يعلم ما في غد، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. وشهادتك أن محمداً عبد الله تقتضي أنك لا تعبد إلا الله وأن محمداً عبد ليس أعلى من هذه المرتبة عليه الصلاة والسلام، فهو عبد لله سبحانه، ثم هو رسول رب العالمين، وشهادتك بأنه رسول معناها أنك مقر بأنه جاء من عند رب العالمين بهذه الرسالة، فلا تفعل إلا ما جاء عن طريقه هو صلوات الله وسلامه عليه.

شهادة عبد الله بن سلام وكعب الأحبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم

شهادة عبد الله بن سلام وكعب الأحبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم قال: روى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: (أنا لنجد صفة رسول الله في التوراة). عبد الله بن سلام كان من رؤساء اليهود ومن أحبارهم فأسلم، وعلم المسلمين بما في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم. ولاحظوا أن التوراة ليست باللغة العربية، يعني: العرب إذا قرءوا التوراة لن يفهموا منها شيئاً، فاليهود يقرءون التوراة بالسريانية وليست بالعربية، فهم ترجموها إلى العربية وترجموها إلى الانجليزية، وترجموها إلى الفرنسية وإلى غيرها من اللغات، فمسحوا منها ما جاء من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قرأها بلغتها عبد الله بن سلام وكعب الأحبار رضي الله عنهما، فأخبر المسلمين بما في التوراة، فما ترجم اليوم من التوراة ليس فيه هذا الشيء، لأنهم محوا ذلك، وبدلوا بترجمة أخرى ليس فيها ذلك. ابن سلام رضي الله عنه لما سألوه عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8]). هذا الحديث هذا عند الدارمي وجاء في صحيح البخاري نحو هذا الحديث لكن عن عبد الله بن عمرو بن العاص. هنا يقول ابن سلام: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8] فهذه الصفة في القرآن وهذه الصفة موجودة في التوراة. قال: وحرزاً للأميين، أذكر أن بعض إخواننا كان يحضر الدكتوراه في الفاتيكان، وكانت دراسته في اللغة القديمة، قال: اطلعت على نسخة مخطوطة في الفاتيكان من التوراة بلغتها، قال: ووجدت فيها هذا الشيء. فهنا عبد الله بن سلام يقول ذلك، وكعب الأحبار يقول ذلك وهما كانا من اليهود، وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص اطلع على كتب لليهود واطلع على التوراة فوجد فيها هذا الشيء. يقول عبد الله بن سلام: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي عليه الصلاة والسلام، سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعودة، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعيناً عمياء وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً. هذه هي الرواية التي رواها الدارمي. أما رواية البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؛ لأن ابن عمرو في بعض الفتوح وجد زاملتين من كتب أهل الكتاب فأخذها وقرأها، فكان يعرف أشياء من التوراة لا يعرفها غيره من المسلمين، فهذا السائل هو عطاء بن يسار يقول له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8] وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر. هذه كانت بشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وأن هذه صفاته عليه الصلاة والسلام، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقول لا إله إلا الله ويفتح بها أعيناً عمياء وآذاناً صماء وقلوباً غلفاً. وجاءت رواية أخرى عن كعب الأحبار بمثل هذا الشيء.

بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب [2]

شرح كتاب فتح المجيد - بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب [2] كلمة لا إله إلا الله لها فضل عظيم، فمن قالها مخلصاً أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، فينبغي الإيمان بها وتحقيق شروطها والعمل بمقتضاها.

الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله

الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله

معنى اشتراط أن يشهد المؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله

معنى اشتراط أن يشهد المؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. إن من الإيمان أن تؤمن برسل الله عليهم الصلاة والسلام عامة، وتؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله، فهو كان أقرب الأنبياء من النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يتكلمون عن عيسى ويصفونه بصفات الألوهية، كانوا قريبين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يؤمن بالله عز وجل يؤمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، قال الله سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:72]. فعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام عبد الله ورسوله كما أن محمداً عبد الله ورسوله. والمسيح عبد ورسول وكلمة الله ألقاها إلى مريم؛ لذا فهو صاحب رسالة، وهو أحد أولي العزم من الرسل، فالله عز وجل له أنبياء كثيرون قد نبئوا بأخبار من الغيب، وأمروا بإعلام الناس بتوحيد الله سبحانه ودعوتهم إليه، ومنهم أصحاب الرسالات وهم الرسل، معهم رسالة من رب العالمين وشريعة أمرهم أن يبلغوها ويدعوا الناس إليها، فعيسى صاحب رسالة، وهو عبد الله ورسوله، قال سبحانه: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]. أيضاً تؤمن أنه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم، وكلمة الله تعني: كلمة من الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة (كن)، أي: بـ (بكن) كان المسيح صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يعني: أن الله أمره في كل شيء: إذا أراد شيئاً أن يقول له كن، فيكون على ما أراد الله سبحانه، فكان المسيح بهذه الكلمة: كن عبداً فكان عبداً لله، وخلقه الله عز وجل بذلك، وأرانا الآيات العظيمة فيه. وقد خلق المسيح عليه الصلاة والسلام من أم فقط، أي: من غير أب، وهذا الذي جعل النصارى يرفعونه فوق مرتبته، فقالوا: إذا كان هذا خلق من أم فقط، فهذا شيء عجب، فعلى ذلك يكون أبوه الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وإن خلق الله للمسيح من أم ليس بأعجب من خلق آدم بغير أب ولا أم، ومن خلق حواء من ذكر من غير أنثى، فالله خلق آدم من تراب لا أب ولا أم، وهذا خلق عجيب، وهذا الذي يتعجب من خلق المسيح فلينظر إلى خلق حواء، خلقت من ضلع من أضلاع آدم، فهي من ذكر من غير أنثى، وآدم من غير ذكر ولا أنثى. فالمسيح من أنثى من غير ذكر، وباقي الخلق من ذكر وأنثى، وفي الوقت الحاضر ولّدوا النعجة (دولّي) من أثنى فقط، فهل يعبدونها من دون الله سبحانه، لكن هذا خلق الله سبحانه، وعجبنا يكون في أن يرينا آياته سبحانه وتعالى، أنه هو الذي يقدر أن يخلق من العدم، والذي يوجد الشيء من ذكر، ويوجده من أنثى، ويوجده من ذكر وأنثى، ويوجده من غير ذكر ولا أنثى، فتؤمن بأن المسيح عليه الصلاة والسلام كلمة الله أي: أنه بها خلق وبها كان.

معنى كون عيسى كلمة من الله وروح منه

معنى كون عيسى كلمة من الله وروح منه يقول الإمام أحمد رحمه الله في الكلمة التي ألقاها إلى مريم: حين قال له كن فكان عيسى بـ (كن)، وليس هو (كن)، أي: ليس عيسى هو الكلمة، الكلمة من كلام الله ليست مخلوقة، والمسيح مخلوق، فهو بها كان أي: أوجده وخلقه بـ (كن). وجاء في الحديث: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) فذكر في الحديث أنه روح من الأرواح التي خلقها الله سبحانه وتعالى. ويذكر هنا حديثاً عن أبي بن كعب بإسناد فيه ضعف، قال: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] بعثه إلى مريم فدخل فيها. يعني: نحن نؤمن بما جاء في القرآن أنه روح الله سبحانه وتعالى، أي: روح من عند الله سبحانه، وأنه ألقاها إلى مريم بواسطة جبريل، حيث أتاها من عند ربها سبحانه وتعالى ونفخ فيها بأمر الله سبحانه. ولا ندري كيف نفخ فيها، هل نفخ في جيب قميصها فجاءت النفخة في صدرها؟ الله أعلم بذلك، لم يثبت في ذلك حديث مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث أبي بن كعب ففي إسناده ضعيف. قوله: (وكلمة من الله) (من) ليست للتبعيض، فليس معنى (من الله) بعض من الله، بل (من) لابتداء الغاية، عندما تقول: ذهبت من الاسكندرية على الطائرة، أي: ابتداء ذهابك منها. فهو روح من الله، أي: جاءت من عند الله سبحانه، فألقاها في رحم مريم عليها السلام. وقال سبحانه في خلق الإنسان: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] فقد ذكر في آدم أنه نفخ فيه من روحه، يعني: أن الروح من عنده سبحانه وتعالى فالمسيح روح الله، أي: خلق الله، كما أنك تشرف الشيء فتضيفه إلى الله، تقول: هذا بيت الله، هذه أرض الله، هذه سماء الله، والمسيح روح الله، وآدم نفخ فيه من روح الله, يعني: من روح خلقها الله سبحانه وتعالى. يقول شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفةً لله تعالى قائمةً به، وامتنع أن يكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإذا كان المضاف عيناً قائمة بنفسها كعيسى وجبرائيل عليهما السلام، وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله. فالمضاف إما عين من الأعيان وإما عرض من الأعراض، ولكنه هنا عين من الأعيان، فهو ذات، والذات لها صفات، فلا توصف ذات بذات فهذا ليس من صفات الله، ولكن الوصف الذي يقال: هذه صفة، فالله سبحانه وتعالى له أسماؤه الحسنى وصفاته العلى التي تضاف إليه سبحانه وتعالى، فعندما نقول: حياة الله، نعرف أنها معنى يقوم بغيره، فهي من صفاته هو سبحانه، وكذلك عندما نقول: المسيح ابن مريم روح الله، وهو بشر مخلوق، فهو عين وذات لها صفات، فيستحيل أن يكون هو بذاته صفة لله سبحانه وتعالى.

الإيمان بأن الجنة حق وأن النار حق من أسباب دخول الجنة

الإيمان بأن الجنة حق وأن النار حق من أسباب دخول الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق) يعني: من يشهد أن الجنة حق (والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). فمن ضمن الإيمان: أن تؤمن أن الجنة حق، وتعمل لها لتكون من أهلها، فتدعو ربك رغباً فيها، والنار حق فتخاف منها، فتدعوه رهباً وخوفاً منها، فإذا كنت كذلك أدخلك الله الجنة على ما كان من العمل.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) إما أن يكون العمل الذي عمله جعل عنده حسنات وعنده سيئات ولكن أتى بالتوحيد حقه؛ فإذا به يحب الله سبحانه، ويخلص لله سبحانه، ويندم على ذنوبه، فالله يكفر عنه سيئاته بذلك، والمحبة تدفعه للطاعة وتمنعه من المعصية، وإن كان أحياناً يقع فيها، فعلى ما كان من العمل بتحقيقه للتوحيد وإخلاصه لله وحبه لله، وبغضه للمعاصي يدخله الله عز وجل الجنة. لكن لو كان الإنسان يحب المعاصي، ولا يحقق التوحيد ويقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، فهو لا يدخل تحت هذا الحديث، يقول الحافظ: معنى قوله: (على ما كان من العمل) أي: من صلاح أو من فساد؛ لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة، وهذا يفسره الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (أصابه قبل ما أصابه) يعني: في الدنيا يبتليه الله عز وجل بمصائب تكفر عنه هذه الأعمال، أو أنه يوم القيامة يطول عليه الحساب، ويجعله الله فوق الصراط تلفحه النار مرة، ويكبو مرة، ويمشي مرة حتى ينجو في النهاية، أو أنه يقع في النار، ثم يخرج بعد ذلك برحمة رب العالمين، وبشفاعة الشافعين، فيدخله جنته، ولكن طالما أنه أتى بلا إله إلا الله فتنفعه يوماً من الدهر أصابه قبل ذلك ما أصاب. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون معنى: (على ما كان من العمل) أي: يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم، يعني: قد يكون مع السابقين وقد يكون مع من هم دونهم.

شرح حديث تحريم النار على من أتى بالشهادة مخلصا

شرح حديث تحريم النار على من أتى بالشهادة مخلصاً

قول العبد لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله من أسباب النجاة من النار

قول العبد لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله من أسباب النجاة من النار قال: [ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)]. ففي هذا الحديث يقول: لا إله إلا الله بشرط: (يبتغي بذلك وجه الله)، يعني: الإخلاص، أن يكون مخلصاً في قول لا إله إلا الله؛ لأن الإخلاص يدفعه إلى العمل لله رب العالمين، وحسن العبادة، فهذا يستحق الجنة. وحديث عتبان بن مالك حديث طويل، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في دار عتبان بن مالك قال: (أين مالك بن الدخشم؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله) ثم في آخر الحديث قال: (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) والمعنى: أن الذي يقول: لا إله إلا الله لا يسارع العبد برميه بأنه منافق، ولا بأنه كافر طالما أنه يقول: لا إله إلا الله ويأتي بأعمال تفيد أنه ليس على الشرك. فالذي يقول: لا إله إلا الله الأصل أنه مسلم إلا أن يثبت عكس ذلك. وذكرنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن المسيح عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).

شرح حديث معاذ في تحريم النار على من قال لا إله إلا الله

شرح حديث معاذ في تحريم النار على من قال لا إله إلا الله

اشتراط خلوص التوحيد من الشرك

اشتراط خلوص التوحيد من الشرك قال: وأخرج البخاري عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: (يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه) فقيد رسول الله قولها بأنه مستيقن من قلبه، وقيد آخر: (من علم أنه لا إله إلا الله) بمعنى: استيقن، قال: (إلا حرمه الله تعالى على النار، قال: يا رسول الله! أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً). لحديث ذكرناه قبل ذلك، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي على الناس من الاتكال لعله يأتي من لا يفهم معنى هذا الحديث فإذا به يظن أنه يقول: لا إله إلا الله بلسانه ولا يعمل شيئاً، ولا يأتي بشروط لا إله إلا الله، ولا يعلم علم اليقين فيستغيث بغير الله، ويعبد غير الله، ويتوجه بالنذر والحلف لغير الله، ويظن أنه داخل تحت ذلك. فلابد أن يقول: لا إله إلا الله، ويكفر بما يعبد من دون الله سبحانه، ويحقق التوحيد، فيستحق هذا الأجر والثواب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الحديث ونحوه: إنها فيمن قالها ومات عليها؛ لأنه جاء في الأحاديث: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) فهذه من علامات حسن الخاتمة، أن يقول: لا إله إلا الله ويموت على هذه الكلمة. يقول شيخ الإسلام: كما جاءت مقيدة بقوله: خالصاً من قلبه، غير شاك فيها، بصدق ويقين، أي: أتى بها مخلصاً في هذه الكلمة من قلبه يقولها ولا يشك فيها، وهو أتى بها بالصدق واليقين، فيستحق أن يكون في الجنة. يقول: فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، وهذا هو الفهم الدقيق لهذه الكلمة ومبناها ومقتضاها. فالذي يقول: لا إله إلا الله محباً لهذه الكلمة يحب الله، ويحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحب أهل هذه الكلمة، ولن يؤذي أحداً من المسلمين؛ لأن الإنسان الذي يقول: لا إله إلا الله يعلم أنه راجع إلى الله، وأن الله يحاسبه، فيخاف من الحساب فلا يقع في الذنوب، وإن وقع تاب إلى الله سبحانه وتعالى، والذي يقول لا إله إلا الله يحب الجنة، ويحب أعلى الجنة، ويعلم أن أعلى الجنة لن ينالها إلا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، فيعمل أحسن العمل. وقول لا إله إلا الله يدفع الإنسان للعمل؛ لأن الكلمة تدل بكلام صاحبها وبفعاله على صدقه أو كذبه فيها. يقول شيخ الإسلام: وقد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. ومعنى ذلك: أن أصحاب المعاصي قد يدخلون النار إلا ما شاء الله، ثم يخرجون بفضل الله وبهذه الكلمة العظيمة. قال: تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، فيخرج من النار من في قلبه مقدار من الخير، ولكن استحق النار، بأن ذنوبه أكثر من حسناته، كذلك تواترت بأن كثيراً ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها. وتواترت الأحاديث بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فإذا حرم على النار أن تأكل أثر السجود، فمعنى ذلك: أن فيها أناساً من الموحدين وكانوا مصلين، فلما دخلوا النار وعذبوا فيها حرم على النار أن تأكل جباههم، وأن تأكل أيديهم، وأن تأكل أرجلهم، وأن تأكل ركابهم؛ لأنها مواضع للسجود، ولكن غيرها ستأكل منها النار، والمعنى: أن من الموحدين ومن المصلين من يدخل النار بسبب ذنوبه، ثم يوماً من الأيام تنفعه هذه الكلمة أن يخرج من النار. يقول: وتواترت الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال فلا بد له أن يفهمها. والذي يقولها وهو لا يفهم معناها، وأنه يستوي عنده أن يعبد الله أو يعبد الهوى، أو يعبد الشيطان، أو يعبد الأحجار، فهذا لم يفهم هذه الكلمة وليس من أهلها.

أكثر الناس فتنة عند الموت وفي القبر

أكثر الناس فتنة عند الموت وفي القبر يقول رحمه الله: وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء. يعني: قالوا: لا إله إلا الله من غير فهم لهذه الكلمة، فهي لا تنفعهم يوماً من الدهر، ولكن الذي نريده، أن الذي يقول: لا إله إلا الله وينجو بها ويكون في الجنة، ولا يكون في النار، هو الذي يأتي بها بشروطها كما ذكرنا. يقول: وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته). هذا الحديث في الصحيحين من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن أسماء جاءت والسيدة عائشة تصلي فسألتها عن ذلك، فأشارت بيدها إلى السماء، يعني: حصل كسوف، فصلت معهم، ثم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أكمل صلاته أنه قال: (ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار) يعني: وهو يصلي بالناس صلاة الكسوف فيقول: إنه رأى حتى الجنة والنار. ثم قال: (فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن، فيقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا، يعيدها ثلاث مرات فيقال: له نم صالحاً، قد علمنا إن كنت لموقناً به، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) فالذي في قلبه النفاق وهو يقول أمام الناس لا إله إلا الله لا ينفعه ذلك؛ لأنها تنفع من قالها بحق وعمل بها، فهذا الذي ينجو من النار، وصاحب الإيمان المطلق تنفعه إن قالها بحق ووقع في معاصٍ ما شاء الله أن يقع فيها، تنفعه يوماً من الدهر، فقد يعذب حينما يشاء الله، ثم ينجو بعد ذلك ويدخل الجنة. أما من قالها بلسانه وهو لا يفهم معناها، ويستوي عنده من يقول: لا إله إلا الله ومن يقول غيرها، والكل عنده يدخلون الجنة يوم القيامة، ولم يفهم هذه الكلمة، فلا يستحق أن يكون من أهلها. إذاً: معنى كلام شيخ الإسلام رحمه الله: أن هذا الإنسان الذي يقول كما يقول الناس، ولا يفهم معناها، ولا يعرف أنه إله واحد بل يشك في ذلك، هذا لا يستحق أن يكون من أهلها.

كمال الإخلاص واليقين في قول لا إله إلا الله كما يوجب محبة الله

كمال الإخلاص واليقين في قول لا إله إلا الله كما يوجب محبة الله قال: وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص. أي: قال: لا إله إلا الله بإخلاص ويقين. والإخلاص مقتضاه: أن يوجه العبادة لله وحده لا شريك له، واليقين مقتضاه: أن لا يكون هناك شك في هذه الكلمة ولا في معناها، قال: لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً؛ فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً: لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. والاستنباط الجميل من ذلك: أن من يقول: لا إله إلا الله حقاً، فوقع في معاصٍ، وأصابه شيء من ذنوبه، وهو يقول هذه الكلمة محباً لها من قلبه، فهذا الإنسان خوفه من الله يدفعه لأن يتوب إلى الله، وحبه لله يدفعه أنه لا يعصي الله سبحانه، ولا يؤذي أحداً من خلقه، فيكون من أهل الجنة، ويكون معه الإيمان الكامل بسبب حبه لهذه الكلمة وعمله بمقتضاها. يقول رحمه الله: فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء فإذاً: لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا تترك له ذنباً إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار. يقول: وإن قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلاً فيغفر له، ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، أي: فهو لا يشرك به شركاً أكبر، ولكن قد يقع في شيء من الشرك الأصغر، فيحلف بغير الله سبحانه وتعالى، أو ينسب شيئاً لا يكون إلا لله، كالذي يقول: لولا البط في الدار لأتانا اللصوص، أو لولا الكلب لهجم علينا اللصوص البارحة، فينسى الله وينسب الفضل إلى غير الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك من الأشياء، فإن هذه تنقص درجة الإنسان عن درجة أهل الكمال. قال: فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته، ومات مصراً على ذلك، فإنه يستوجب النار. أي: أن الذي رجحت سيئاته على حسناته، ويقول: لا إله إلا الله، وقوله لها لا يزجره عن المعاصي، فهذا يستحق يوم القيامة العذاب بذنوب يستحق أن يجازى عليها، وقد تنفعه هذه الكلمة إما عاجلاً أو آجلاً، ولكن تنفعه يوماً من الدهر. قال: وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة التوحيد، فإنه في قولها كان مخلصاً، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب، حتى أحرقت ذلك إلى آخر كلامه رحمه الله.

شرح حديث: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري)

شرح حديث: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري)

فضل كلمة لا إله إلا الله

فضل كلمة لا إله إلا الله يقول هنا في المتن: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى، لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) رواه ابن حبان والحاكم وصححه لكن إسناده ضعيف؛ لأن في إسناده دراج بن سمعان، وكنيته: أبو السمح، يروي عن أبي الهيثم، ودراج صدوق، وقالوا: ثقة إلا في روايته عن أبي الهيثم وهذا من روايته عنه فهو ضعيف، لكن جاءت أحاديث قريبة من هذا المعنى في فضل لا إله إلا الله. ففي هذا الحديث أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به، فقال: قل لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون: لا إله إلا الله فقال له: (لو أن السموات السبع وعامر السموات السبع من الملائكة غير الله، وكذلك الذين في الأرض؛ لو وضعوا في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله. وفي حديث آخر صحيح في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج أو مزرورة بديباج. فهذا الأعرابي لابس جبة من طيالسة، عليها شيء من الحرير في الكف، وهذا الرجل أعرابي مغرور، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يكلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع، ويضع كل فارس بن فارس، وهذا فيه دلالة على أنه سيئ الأدب، ولعله كان كافراً في هذا الوقت. فلما قال ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه وقال له: أرى عليك ثياب من لا يعقل! أي: أنت مفتخر بهذه الثياب، وهي ثياب من ليس لهم عقول، ولا يخافون الله سبحانه، فتتكلم بكلام من لا يعقل من أهل الجاهلية وأهل الكفر. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، فقال: (إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاء دعا ابنيه قال: إني قاصر عليكم الوصية: آمركما باثنتين، وأنهاكما عن اثنتين، أنهاكما عن الشرك والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله). فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم هذا الأعرابي الجاهل الأحمق أن لا يكون متكبراً، قال: قال نوح عليه الصلاة والسلام: (أنهاكما عن الشرك والكبر وآمركما بلا إله إلا الله، فإن السموات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان، ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح، ولو أن السموات والأرض كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله لفصمتها أو لقصمتها) أي: لو صيغت منهما حلقة واحدة مقفلة، وفي رواية: مبهمة، يعني: حلقة ليس لها مدخل يدخل إليها، ثم جاءت كلمة لا إله إلا الله فوضعت لقصمت هذه الحلقة أو لفصمتها. قال: (وآمركما بسبحان الله وبحمد الله فإنها صلاة كل شيء) أي: كل شيء يسبح الله بهذه الكلمة: (سبحان الله وبحمده). قال: (وبها يرزق كل شيء) فمفاتيح الخزائن والرزق بقوله: سبحان الله وبحمده، فكلمة لا إله إلا الله أعظم الكلام الذي يقوله الإنسان، وأعظم الذكر، وأعظم الدعاء. وجاء عند الترمذي من حديث عبد الله بن عمر وهو حديث حسن قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). فهذه الكلمة من أعظم الكلام الذي يقوله الإنسان في حياته وعند وفاته. وعند الترمذي أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو (يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً) فهذا إنسان يأتي يوم القيامة، وينادى عليه ويصاح به، والفزع يحيره ويدهشه حتى ينسى كل شيء، فعندما يقف بين يدي الله عز وجل ينشر له عمله في تسعة وتسعين كتاباً، كلها ممتلئة بالذنوب التي فعلها وكل سجل مد البصر. قال: (ثم يقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا، فيقال له: أظلمك كتبتي الحافظون؟ يقول: لا، يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة، فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم! فيقول العبد: يا رب، أين الحسنة؟ قال: فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). فهذه تسعة وتعسون سجلاً، كل سجل مد البصر، وضعت في كفة والبطاقة في كفة مكتوب عليها لا إله إلا الله، فطاشت السجلات، يعني: من ثقل هذه الورقة بحيث إن الكفة الثانية طارت وطاشت، فغفر لهذا العبد بفضل هذه الكلمة (لا إله إلا الله)!

سعة فضل الله وجوده

سعة فضل الله وجوده وللترمذي وحسنه عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة، يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي). أي: أن العبد الذي يدعو الله ويرجو الله سبحانه وتعالى، ويأتي بمعنى التوحيد كما قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] فمعناه: يا عبدي إنك إذا وحدتني، وطلبت مني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. والله هو الغني سبحانه وتعالى إذا أعطى من فضله ومن كرمه لا يضره شيء، وخزائنه ملأى لا ينقص منها شيء ولا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. قال: (يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) أي: لو وقعت في المعاصي إلا الشرك بالله سبحانه وتعالى، ثم استغفرت وتبت، فإن التوبة تجب ما قبلها ولو كان كفراً وشركاً، فإذا كفر بالله، ثم عاد إلى الإسلام، فالله يتوب عليه. قال: (يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) إذا كنت توحد رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا تشرك به شيئاً، وأتيت لله بالحق في كل عباداتك له سبحانه وتعالى، فإنك تستحق أن يغفر الله عز وجل لك ذنوبك.

المسائل المستنبطة من باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

المسائل المستنبطة من باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب قال: [فيه مسائل] يعني: في هذا الباب: الأولى: سعة فضل الله سبحانه وتعالى، فإن فضله عظيم، وجوده واسع. الثانية: أنه يغفر للعباد ويعطي الشيء العظيم على أشياء صغيرة يفعلها الإنسان، فقول كلمة التوحيد: لا إله إلا الله سهل، لكن فيها الأجر العظيم الذي يدل على كثرة ثواب التوحيد عند الله سبحانه. الثالثة: تكفيره للذنوب، فبالتوحيد يكفر الله عز وجل الذنوب، وتوحيدك لله سبحانه يدفعك بأن ترجو ربك، وإذا رجوت الله فالله يعطيك ما ترجوه، فيغفر ويكفر سبحانه. الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام، يعني: في قصة إبراهيم ومعنى الهدى التام. الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث. السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين. يعني: ففي حديث عتبان بن مالك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن مالك بن الدخشم يقول: لا إله إلا الله، وكذلك ذكر فيه أنه يقول هذه الكلمة ويرجو بها وجه الله سبحانه، وذلك حين قالوا عن مالك بن الدخشم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله) فلما شكوا قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله). السابعة: التنبيه للشرط في حديث عتبان. أي: أنه يبتغي بها وجه الله سبحانه. الثامنة: كون الأنبياء يؤمرون بالتنبيه على فضل لا إله إلا الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات. أي: هذه الكلمة العظيمة لو أن السموات والأرضين وما فيهن في كفة وهي في كفه، طاشت بهن هذه الكلمة العظيمة. العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] فالله خلق سبع سموات وسبع أرضين، والله أعلم بما يذكر سبحانه وتعالى. الحادية عشرة: أن لهن عماراً. أي: خلق الله الإنس وخلق الجن، وخلق الملائكة، وخلق الدواب، ويخلق ما يشاء سبحانه. الثانية عشرة: إثبات الصفات لله خلافاً للأشعرية. يعني: للذين يؤولون صفات الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر أنه في السماء سبحانه وتعالى، وجاء القرآن بذلك، قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وجاء في أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية: (أين الله؟ فقالت الجارية: في السماء) وغير ذلك من الأحاديث التي تفيد أنه فوق سمواته وأنه مستو على عرشه، فنؤمن بذلك كما سيأتي في الكلام عن صفاته سبحانه. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) أنه ترك الشرك وليس قول هذه الكلمة. يعني: الكلمة ليست مجرد أن يقول: لا إله إلا الله ثم يطوف بالقبر، أو يقول: لا إله إلا الله، ويقول: يا سيدي فلان أغثني، ويا سيدي فلان اشفني، فانظروا الفرق بين جاهلية العصر وجاهلية أهل الجاهلية.

ضلال أهل الجاهلية في عبادتهم لغير الله في الرخاء ورجوعهم إلى الله في الشدة

ضلال أهل الجاهلية في عبادتهم لغير الله في الرخاء ورجوعهم إلى الله في الشدة فإن أهل الجاهلية إذا كانوا في رخاء عبدوا الله وعبدوا غيره، وأشركوا بالله سبحانه، فإذا مسهم الضر عبدوا الله وحده، ولذلك فإن عكرمة بن أبي جهل لما فر من النبي صلوات الله وسلامه عليه وركب البحر، جاء الموج وعلا، وكانت الأمواج شديدة، وكادت السفينة تغرق به وبمن معه، فقال ربان السفينة: يا قومي إنكم قد علمتم أنه لا ينجيكم من هذه إلا الله سبحانه وتعالى. وأمرهم أن يخلصوا لله. فإذا بـ عكرمة يتفكر، أن الذي ينجيهم من هذه الله ولا ينجيهم منها غيره، فهم الآن سيعبدون ربهم، وقبل ذلك لم يكونوا يدعونه، فتنبه للشرك الذي هم فيه فقال: لئن أنجاني الله من ذلك لأذهبن إلى محمد ولأضعن يدي في يده ثم لأجدنه رءوفاً رحيماً. فكان كما ظن! أهل الجاهلية لما كان يصيبهم شر يقولون: يا رب، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] يعني: ضاع كل من كنتم تدعونه من دون الله، ولجأتم إلى الإله الواحد الذي في السماء، قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67] فقد كان الإنسان يخذل نفسه بكفره بالله سبحانه وتعالى وبشركه وجهله. والغرض: أن من الناس من يقول: لا إله إلا الله، وإذا به في وقت رخائه يقول: يا فلان، وإذا اشتد كربه يزداد شركاً بالله سبحانه وتعالى. انظر: الطلبة أيام الامتحانات يذهبون عند سيدهم فلان، وسيدهم فلان، فمنهم من يقول: يا سيدي جابر حصل كذا وكذا، اكتب لي ورقة، ويحطها له في القبر من أجل ينجح في الامتحان، ومنهم من يقول: يا سيدي أبا العباس، اعمل لي كذا وكذا. وهؤلاء إن كانوا أقواماً صالحين، فلهم عبادتهم وينتفعون بأعمالهم. أما تدعو إنساناً لا يملك لنفسه شيئاً، وتترك الله سبحانه وتعالى، فإن هذا شرك عظيم. (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده)، وفي حديث آخر: (قل: ما شاء الله ثم شئت). فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالله وحده، فيعلمهم التوحيد، وأن لا يشركوا بالله سبحانه. ومن الابتلاء الذي يحدث: ذهاب الناس إلى مولد السيد البدوي، ثم يعتقدون أشياء منها: أن الذهاب إلى مولد السيد البدوي أحسن من عشر حجات فهل نزل وحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟! فإنه لا يحل لمسلم أن يقول ذلك، ولا أن يذهب ويطوف بشيء إلا بالكعبة التي شرع الله عز وجل الطواف بها لتوحيده سبحانه. تطوف بالكعبة وتقول: يا الله، ولا تقول: يا رسول الله، ولا تقول: يا أهل بيت الله، وإنما تقول: يا الله. وعندما تذهب إلى عرفات تقول: لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله). الفائدة الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه صلوات الله وسلامه عليهما. الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله، وكلمة الله يعني: أنه خلق ووجد بها، وليس هو عين الكلمة، وكلام الله عز وجل صفة من صفاته ليس مخلوقاً، إنما المسيح مخلوق بالكلمة، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فكان آدم بكن وكان المسيح بكن، وكان كل خلق الله عز وجل بكن. السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً من الله. يعني: خلقه الله سبحانه وتعالى كما خلق غيره من الأرواح. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار، ومن آمن بالجنة استحق أن يدخلها، ومن لم يؤمن بها استحق أن يحرم منها، ومن آمن بأن الله عز وجل خلق النار عذاباً لمن عصاه ابتعد عن المعاصي واستحق أن لا يدخلها. الثامنة عشرة: معرفة قوله: (على ما كان من العمل) وإذا كان قد عمل عملاً سيئاً وغلبت سيئاته حسناته استحق أن يدخل النار، ولكن يوماً من الأيام يخرجه رب العالمين ويدخله الجنة، ويعرف عصاة الموحدين في النار بآثار السجود، يعني: عندما يشفع الشافعون من أنبياء وملائكة ينظرون في أهل النار، فيعرفون عصاة الموحدين، ويفرقون بينهم وبين المشركين بآثار السجود، فيشفعون لهم ويخرجون من النار. التاسعة عشرة: معرفة الميزان أن له كفتين. والميزان مخلوق خلقه الله، فتوزن عليه الأعمال يوم القيامة. العشرون: معرفة ذكر وجهه سبحانه وتعالى. ونؤمن به وبصفاته على النحو الذي ذكر في كتابه، فذكر أن له سبحانه وتعالى الوجه، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] فنؤمن بذلك، وذكر لنفسه السمع والبصر وغير ذلك، فنؤمن بهذا كله. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

شرح كتاب فتح المجيد - من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب لما كان التوحيد لب العبادة وأساسها فقد استحق من حقق كماله، وتخلص من شوائب الشرك، أن يدخل الجنة بغير حساب، وقد أثنى الله على إبراهيم بأنه كان أمة، لأنه حقق التوحيد.

بيان أن من حقق التوحيد دخل الجنة

بيان أن من حقق التوحيد دخل الجنة بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال المؤلف: [باب: من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]. وعن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قال: فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قال: قلت حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قال: قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت، فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة)].

الكلام على قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة)

الكلام على قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة) هذا الباب الثالث من كتاب التوحيد، وفيه من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وتحقيق التوحيد، أي: تخليصه، وتصفيته، وتنقيته من شوائب الشرك والبدع، والمعاصي قال الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121]. لما حقق إبراهيم التوحيد لرب العالمين، استحق أن يكون أمة وحده، واستحق أن يمدحه الله عز وجل بهذه الصفة، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، الأمة: بمعنى القدوة في جميع أعمال الخير، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء، وكان يلقب بأبي الضيفان، وهو أحد الخمسة من أولي العزم من رسل الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد جعل الله عز وجل ذريته على التوحيد الخالص ببركة دعوته قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فجعل من ذريته الأنبياء الذين يدعون إلى ربهم سبحانه، فما جاء بعده نبي إلا وهو من ذريته عليه الصلاة والسلام. وذكروا أن الله عز وجل مدح إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الآية بأنه حقق كمال التوحيد، وحسن العبادة، بل أحسن العبادة وأفضلها فوصفه بأنه: كان أمة: بمعنى: كان قدوة في الخير، وإماماً ومعلماً له. وهناك فرق بين أن يكون إماماً وأن يكون أمة، فإنه إن يكن أمةً يدخل تحتها أن يكون إماماً، وإن يكن إماماً فلا يلزم أن يكون أمة، إذ الأمة هو الذي جمع خصالاً من الخير لا تجتمع إلا في أمة كاملة، فكأن خصال الخير التي في إبراهيم لا تجتمع لغيره من الناس فرادى، ولكن تجتمع لمجموعة من الناس، فلما قام إبراهيم وحده بذلك كان أمة. قالوا: والإمام كل من يقتدى به ويؤتم به، سواء قصد ذلك وشعر به أو لم يقصده ولم يشعر به. ولذلك فمن تقتدي به أو تسير على نهجه وهديه فهو إمامك، ومن ذلك تسمية الطريق إماماً، قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79]، أي: طريق مسلوك يسلكه الناس فيعرفون أن ديار ثمود كانت هنا، وأن أصحاب الأيكة كانوا هنا، فالإمام كل من تقتدي به شعر بذلك أو لم يشعر. أما الأمة ففيها زيادة معنى فوق معنى الإمام، فإذا كان الإمام الفرد الواحد، فالأمة المجموعة من الناس، ولكن قد تطلق الأمة على الواحد على اعتبار أنه جمع خصالاً مجموعة من الناس، وليس إنساناً واحداً، فلفظ الأمة يشعر بذلك، فقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]، يعني: أن فيه خصالاً عظيمة من خصال الخير لا تكون إلا في أمة من الناس.

ابتلاء إبراهيم في أبيه وقومه

ابتلاء إبراهيم في أبيه وقومه كان إبراهيم قدوة، وكان إماماً، وكان معلماً للخير؛ لتكميله مقام الصبر، ومقام اليقين، اللذين تنال بهما الإمامة في الدين. وقد ابتلي إبراهيم عليه السلام بلاءً عظيماً، فاستحق أن يكون في النهاية خليل الرحمن سبحانه تبارك وتعالى، فقد ابتلي في نفسه، وابتلي في أبيه وفي أبنائه، وفي بلده، فقد كان قومه يعبدون الأصنام، فهاجر إلى بلاد الشام فوجدهم يعبدون الكواكب من دون الله عز وجل، فناظر هؤلاء وأولئك، فأما قومه فقد عصوا وكفروا وعبدوا الأصنام من دون الله سبحانه، وانتهى بهم الجحود إلى أن جعلوا له خندقاً وأضرموا وفيه النيران، ثم ألقوه فيها فنجاه الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم تركهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتوجه مهاجراً من حران وهي ولاية في العراق إلى بلاد الشام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]. أما بلاؤه بأبيه فقد كان أبوه صانع الأصنام لقومه، فدعا أباه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه وتعالى عن دعوة إبراهيم لأبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]. فأبى أبوه إلا الاستمرار على ما هو فيه، قال الله حاكياً رده على إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، أي: لأسبنك، ولأشتمنك، ولأطردنك، ولأرمينك بالحجارة. فرد عليه إبراهيم كما حكى الله عنه: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:47 - 48].

مناظرة إبراهيم لعباد الأصنام

مناظرة إبراهيم لعباد الأصنام اعتزل إبراهيم أباه وقومه وما يعبدون من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم ناظر قومه، فلما رفضوا دينه عليه الصلاة والسلام وخرجوا إلى عيدهم توجه إلى أصنامهم، وقد جعلوا طعامهم تحت هذه الأوثان، ليتبركوا بها بزعمهم، آملين أنهم سيرجعون فيأكلون هذا الطعام الذي وضعوه تحت أصنامهم. وكان إبراهيم معتزلاً قومه، وحين دعوه لعيدهم قال: إني سقيم، لن أخرج معكم إلى العيد، ثم توجه إلى هذه الأصنام فخاطبها خطاب تهكم قائلاً: ألا تأكلون، مالكم لا تنطقون، وهو يعلم يقيناً أنها لا تنفع ولا تضر، ثم هوى بمعوله محطماً لها قال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93]، فكسر أصنامهم جميعها إلا واحداً، علق فأسه عليه. وجاء القوم إلى أصنامهم، فقالوا كما أخبر الله عنهم: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:59 - 61]، فجاءوا بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم سألوه كما أخبر الله عنهم: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]. وفي الآية تقديم وتأخير، والمعنى: إن كانوا ينطقون فهم يصنعون ذلك ويكون كبيرهم قد فعلها، وإن كانوا لا ينطقون فهم لا يفعلون شيئاً، فاعقلوا إن كنتم تعقلون. ولم يكذب كذباً صراحاً، وإنما عرض في الكلام. فكانت إجابتهم حين عجزوا عن المحاجة استخدام القوة، قال تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97]، أي: اصنعوا له بنياناً فيه النار ثم ألقوه فيه، وأرادوا إلقاء إبراهيم فيها، فنجاه الله سبحانه تبارك وتعالى بقوله: كن، فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].

مناظرة إبراهيم لعباد الكواكب

مناظرة إبراهيم لعباد الكواكب وبعد أن نجا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، هاجر من هذه البلاد، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات:99]، أي: إني مهاجر وتارك هذا المكان الذي يعبدون فيه غير الله سبحانه، فتوجه إلى الشام. ولما توجه إلى ديار الشام وجدهم يعبدون الكواكب والنجوم من دون الله عز وجل، فنظر متأملاً لهذه العبادة الباطلة، وأخذ يدعوهم إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى ويسألهم: ما هذا الذي تعبدون؟ قالوا: نعبد هذه الكواكب وهذه النجوم، وحين جن عليه الليل رأى كوكباً فقال: هذا ربي وربكم، فلما أفل قام وكأنه يتفكر أمامهم، حتى يردهم عما هم فيه من باطل، فقال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، أي، كيف أعبد هذا الذي بعدما طلع وأضاء أخذ يتوارى ويظلم؟ إني لا أحب رباً بهذه الصورة. والمقام من إبراهيم كان مقام مناظرة، وليس مقام نظر، ومقام المناظرة يتنزل فيه لبيان ضعف حجة الخصم، فأنت حين تناظر الخصم، تقول له: أنا أقول كذا، فيقول لك: وأنا أقول كذا، فتقول: لو فرضنا أن قولك صحيح فإنه ينبني عليه كذا وكذا، وأنت لا تعتقد صحة ما يقول، بل تقوله في مقام المناظرة. ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، ففي الآية مقام التمانع أي: لو كان فيها آلهة غير الله لفسدت السموات والأرض، فلما لم تفسد السموات ولا الأرض، فإنه لا يوجد آلهة غير الله عز وجل، ومنه أيضاً قول الله عز وجل: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، على قول من أقوال المفسرين. فالمراد أن إبراهيم كان في مقام المناظرة مع قومه، لا مقام النظر من الإنسان الذي لا يعرف فيطلب المعرفة وينظر ويتأمل حتى يعرف بعد ذلك، وحاشا لإبراهيم أن يكون كذلك، بل إبراهيم عرف ربه سبحانه تبارك وتعالى، فناظر على معرفته ولم يكن ناظراً يتفكر ويتأمل وهو لا يعرف، فكان يعرف يقيناً أن الله واحد لا شريك له، وأن الله خالق كل شيء سبحانه. فلما قال لقومه: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، طلع عليهم القمر فقال: هذا ربي هذا أكبر من الأول قال تعالى حاكياً لقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:77 - 78]، أي: هذه أكبر شيء يرى من النجوم: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79]، فإذا به يصل في النهاية معهم إلى أن هذه لا تنفع ولا تضر، بل هي أشياء تبزغ ثم تنصرف بعد ذلك وتأفل، فلا تستحق أن تعبد من دون الله، وظل يناظرهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهم يأبون ذلك، فإذا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، يعتزل هؤلاء في عبادتهم لغير الله، بعد أن دارت بينه وبينهم مناظرات وثبته ربه سبحانه ونصره على هؤلاء كما نصره على الذين من قبلهم بالحجة والبرهان.

ابتلاء إبراهيم بذبح ولده إسماعيل

ابتلاء إبراهيم بذبح ولده إسماعيل ثم ابتلى إبراهيم عليه السلام في ابنه، فقد أمره ربه سبحانه تبارك وتعالى: أن اذبح ولدك إسماعيل، فيصبر لذلك ويقول لابنه كما قال تعالى حاكياً عنه: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، يقول لابنه: إني أرى في المنام أني أذبحك. فلم يقل ابنه إنها أضغاث أحلام مثلاً، ولكن قال كما أخبر الله عنه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:102 - 106]. فإذا بالله عز وجل كلما يبتليه بشيء وينجح إبراهيم في الامتحان يضيف إليه خصلة من خصال الخير، ويزيده رفعة إلى أن بلغ في النهاية أن يكون خليل الله سبحانه تبارك وتعالى، وتلك المرتبة أعلى مرتبة يصل إليها بشر. وكذلك كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، فالخليل أعظم من الحبيب.

إبراهيم أبو الضيفان

إبراهيم أبو الضيفان لما كان إبراهيم أمة فقد جمع خصال الخير ومنها الكرم، فقد سمي أبا الضيفان، وقد جاءه أضياف من الملائكة وهو لا يعرف أنهم ملائكة، فذهب إلى بيته وجاءهم بعجل حنيذ، وكان الملائكة ثلاثة، وعلى قلة عددهم كان يكفيهم القليل من اللحم، إلا أن إبراهيم يذهب إلى بيته ويجيء بعجل حنيذ، ثم يقبل عليهم ويقول: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]. فكان في غاية الكرم، وغاية الأدب مع ضيوفه، فإنه لما أتاهم بهذا الطعام الطيب، جلس معهم وما قال لهم: كلوا، ولكن قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]، أي: ألا تتفضلون فتأكلون، وهذا غاية الأدب في الحوار، وفرق بين أن تقول للضيف: كل، بصيغة الأمر، فقد يأنف ويرفض الأكل، وبين أن تقول: تفضل، ألا تأكل من طعامنا، فإنك بخطابك هذا تتلطف مع الضيف ليأكل من طعامك.

إبراهيم يترك أهله في واد غير ذي زرع

إبراهيم يترك أهله في واد غير ذي زرع ومن خصال الخير التي جمعها إبراهيم عليه السلام أنه بنى الكعبة عليه الصلاة والسلام يعينه إسماعيل وقبل ذلك يستعين بربه سبحانه تبارك وتعالى. فقد ذهب إبراهيم بأم ولده إلى مكة بأمر الله سبحانه، وتركها هنالك مع ابنه ووحيده إسماعيل، ومعها سقاء فيه ماء، وجراب فيه تمر، ثم تركهما وهي تنادي عليه: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟! فيسكت عليه الصلاة والسلام ويمضي في تنفيذ أمر الله عز وجل، فيترك ابنه الرضيع الذي جاءه وهو شيخ كبير في هذا المكان متوكلاً على الله، واثقاً في الله سبحانه تبارك وتعالى، مع أم ولده. ولم تكن هاجر زوجة له، وإنما كانت أم ولده، فقد كانت أمة أهداها ملك مصر لـ سارة، فأهدتها سارة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فوطئها فرزقه الله منها إسماعيل عليه السلام. فلما تركها هنالك وانصرف قالت: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا، فأحسنت التوكل على الله، فرزقها الله عز وجل بئر زمزم، تفيض ماء لها ولولدها، ورزقها الله عز وجل من يأتون إليهم جيراناً ويعيشون معهم في هذا المكان. وحين ترك إبراهيم هاجر وابنه وتولى عنهما وراء أكمة مرتفعة ظهر منه الشوق والحب لأهله، فتضرع إلى ربه قائلاً: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]. وقد أخفى عنهم هذا التضرع الذي بينه وبين ربه، إذ لو أظهر هذا أمامهم فقد يبكي ويبكون ويشق عليهم ذلك، ولكنه تعمد أن يتركهم ويذهب وراء أكمة مرتفعة ثم يتضرع إلى ربه أن يهيئ لهم أسباب النجاة؛ لأنه قد تركهم في مكان لا يوجد فيه أنيس ولا جليس، ولا يوجد فيه ماء ولا زرع ولا ضرع، ولكنه تركهم طاعة لله، محسناً التوكل على الله، فصار هذا المكان مكاناً يحجه الناس ويعتمر إليه من كل فج عميق.

ابتلاء إبراهيم في زوجته

ابتلاء إبراهيم في زوجته من ابتلاء الله لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ابتلاءه له في زوجته سارة، إذ بينما هو يسير بها في أرض مصر، فإذا بالناس يذكرون لجبار من الجبابرة من ملوك مصر: أن رجلاً جاء إلى هذه البلاد معه امرأة من أجمل النساء، فإذا بالملك يأتي بإبراهيم ويسأله: من هذه التي معك؟ فحار إبراهيم في الجواب، إذ لو قال: زوجتي سيقتله ويأخذها، فإذا به يقول: أختي، يريد أنها أخته في الإسلام. فيأخذها الجبار من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم لا حيلة له، وكيف سيدفع عن زوجته وهذا الجبار ملك من الملوك، فأدرك أن ليس له إلا أن يجأر إلى الله، ويتضرع إليه. وبعد أن أخذ هذا الجبار سارة أراد أن يدنوا منها، فتمتمت بكلمات تناجي ربها سبحانه، فإذا به يخر صريعاً، ويقول لها: ادعي الله لي ولا أوذيك، فتدعو الله فيكشف عنه ما به، فيدنو مرة ثانيه، فتدعو عليه فيصرع كما صرع بالمرة الأولى، وهكذا في الثالثة فينصرف عنها ويقول: إنما جئتموني بشيطانة، ما أتيتوني بإنسية، ثم يهديها هاجر وترجع إلى إبراهيم وهو قائم في صلاته منذ أن خرجت من عنده، فيسألها: ما فعلت مع هذا الرجل؟ فتقول: إن الله عز وجل نصرنا عليه، وأهدى لنا هاجر، فوهبتها لإبراهيم عليه الصلاة والسلام. وهكذا كانت حياة إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلها بلاء، وما ذكر لنا منها قليل، وما أخفي عنا أشياء كثيرة، الله أعلم بها. وبذلك استحق إبراهيم عليه السلام أن يصل إلى درجة كمال العبادة لربه سبحانه فيكون أمة عليه الصلاة والسلام.

إبراهيم كان قانتا لربه

إبراهيم كان قانتاً لربه الصفة الثانية: ووصف الله إبراهيم عليه السلام أنه كان قانتاً لله، والقنوت بالتاء غير القنوط بالطاء، فالقنوت بالتاء بمعنى الخشوع، وبمعنى دوام الطاعة، وبمعنى القيام مصلياً لله رب العالمين سبحانه. فيقال: هذا قانت لله، أي: خاشع خاضع مذل نفسه لله رب العالمين، قائم في صلاته يركع ويسجد لله سبحانه، ويطيل الدعاء، فهذه كلها من معاني القنوت. وقد حصل لإبراهيم عليه السلام كمال القنوت لرب العالمين سبحانه، وقيل: القنوت دوام الطاعة، يقال: المصلي إذا أطال في قيامه أو ركوعه أو سجوده، فهو قانت، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وجاء في الحديث أن القنوت بمعنى: القيام في الصلاة، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة خير، فقال: (طول القنوت)، وطول القنوت بمعنى: طول القيام والقراءة فيه. وكذا كان إبراهيم قانتاً لله. أما القنوط بالطاء فهو بمعنى: اليأس، وقد ورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قالت له الملائكة: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر:55]، أجابهم كما حكى الله عنه: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].

إبراهيم أول الحنفاء

إبراهيم أول الحنفاء الصفة الثالثة في هذه الآية: أن إبراهيم عليه الصلاة السلام كان حنيفاً، والحنف: الميل، والمقصود أنه كان مائلاً عن الباطل؛ لأن كل الأديان عند مبعث إبراهيم عليه الصلاة والسلام كانت باطلة فحنف عنها، أي: مال عن جميعها إلى شرع الله سبحانه تبارك وتعالى. فكان إبراهيم حنيفاً مسلماً عليه الصلاة والسلام؛ لأنه مال عن الباطل واستقام على الحق، ثم صارت هذه الكلمة عرفاً على الاستقامة على الدين، فكان معناها: أنه مستقيم على دين رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، يزكيه الله سبحانه أنه ما كان من المشركين وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن يشرك شركاً أكبر حاشاه، ولا شركاً أصغر، ولا شركاً خفياً.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرقون) فيمن يدخلون الجنة بغير حساب

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرقون) فيمن يدخلون الجنة بغير حساب Q قوله في الحديث: (ولا يرقون)، ألا يحمل على الرقى الشركية، بدليل قوله في الحديث الآخر: (اعرضوا علي رقاكم)؟ A هذا كلام لم يقله به أحد من العلماء، وواضح أن السائل غير فاهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرواية: (هم الذين لا يرقون)، ضعيفة، وعلى فرض صحتها كما صححها الحافظ ابن حجر فلم يقل أحد من العلماء: أنهم الذين لا يرقون الرقى الشركية؛ لأنه لو كان المعنى كذلك فإن الحديث له منطوق ومفهوم، فمنطوقة: سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يرقون، تنزلاً على ما قاله السائل من أن المعنى: يرقون الرقى الشركية، فإن مفهومه أن غيرهم ممن يدخلون الجنة هم الذين يرقون الرقى الشركية، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين. ولذا فقوله: (لا يرقون)، عند الذين صححوها كالحافظ ابن حجر رحمه الله، حملوها على معنى (لا يسترقون)، أو قريباً منه، فالذي لا يسترقي لا يطلب من غيره ذلك، إذ فيه تحقيق لمقام التوكل، ولا يرقي أصلاً، لا هذا ولا ذاك، فيترك الاثنين، لكن كلام شيخ الإسلام أقعد وأقوى من الناحية الأصولية في المعنى، إذ كيف نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه كل ليلة ثم نقول: إنهم يتركونه بالأصل؟ وقد يقال: إنه ما فعل ذلك إلا ليشرع، والجواب: التشريع يكفي فيه أن يفعلها صلى الله عليه وسلم مرة، لكنه كان يرقي نفسه كل ليلة صلى الله عليه وسلم، فيجمع يديه عليه الصلاة والسلام إلى فمه، ويقرأ المعوذات: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]. ولذا فالراجح أن صحيح الروايتين هو: (لا يسترقون)، وأن لفظه (لا يرقون)، وهم من الراوي.

حكم تبني الزوج والزوجة لمن رضع من الزوجة

حكم تبني الزوج والزوجة لمن رضع من الزوجة Q ذكرت جريدة الأهرام إعلاناً لدار رعاية الأيتام بأنه يقوم بتوفير جهاز الرضاعة الصناعية، الذي يعمل على إدرار اللبن من ثدي الأم الكفيلة حتى ولو لم يسبق لها حمل أو رضاعة، وبذلك يصبح ابنها في الرضاعة، فهل تجوز في هذه الحالة مسألة التبني؟ A مسألة التبني لا تجوز في هذه الحالة ولا في غيرها، والتبني بمعنى نسبة الطفل لنفسها، ولكن حتى لو حصل ذلك فإنه يصبح ابنها من الرضاعة ولا ينسب الولد لها ولا لزوجها. وهذه الصورة التي يذكرونها هنا أنا لا أعرفها كصورة طبية، ويستبعد أن جهازاً سيجعل امرأة لم تحمل قبل ذلك ترضع، لكن لعله يقصد أن امرأة قل اللبن عندها فزاد الجهاز من إدرار اللبن، ولو فرضنا وقوع ذلك فقد ذكر العلماء مثل هذه المسألة: وهي أنه لو ثاب لامرأة اللبن، أي: لو رجع لها لبن من غير أن يكون لها حمل، فأرضعت بهذا اللبن، هل الولد يكون ابناً لها؟ قالوا: يكون ابناً لها هذا الولد، لكن هل يكون ابناً لزوجها؟ المعلوم أنه يكون ابناً لصاحب اللبن، وهذا ليس صاحباً اللبن، فاللبن الذي جاءها ليس بسبب وطء هذا الإنسان أو بسبب حملها منه، فيكون ابناً لهذه المرأة. فالسائل هنا يقول في سؤاله: هل تجوز مسألة التبني؟ والجواب: إن مسألة التبني بمعنى نسبة هذا الطفل للمرأة وللرجل لا يجوز لا في هذه الحالة، ولا في حالة الرضاعة الحقيقة، وغايتها أن يقال: ابنه من الرضاعة، ولا ينسب إليه؛ لأنه فرق بين الابن من النسب والابن من الرضاعة، وهذا نسيبك بمعنى: قريبك، فأبوك وابنك وأخوك وعمك، يدعون أنسباء للإنسان، ونحن نطلقها خطأً على أقارب الزوجة وأقارب الزوج من الأصهار والأختان. أما النسب: فهم الأقارب من الأرحام والعصبات كالأب، والأم، والابن، والبنت، والجد، والجدة.

ذهاب المريضة إلى الطبيب

ذهاب المريضة إلى الطبيب Q هل ذهاب المرأة إلى دكتور أمراض النساء حرام مع العلم أن الذهاب لضرورة؟ A إذا كان الذهاب ضرورة بمعنى أنه إذا لم تذهب سيحدث لها مكروه ولا يوجد إلا هذا الطبيب جاز لها أن تذهب، سواءً كان تخصصه في أمراض النساء أو غير أمراض النساء، كأن يكون جراحاً ولا يوجد من يجري الجراحة إلا هذا الطبيب.

حكم التداوي بالكي

حكم التداوي بالكي Q عندي في قدمي (عين سمكة) وأفضل علاج له هو الكي بالحرارة؟ A الكي جائز في مثل هذه الحالة، الحالة إذا لا يمكن دواؤها إلا به، أو كان لها علاجات والعلاج الوحيد الذي يبرئها الكي؛ لأن صاحبها معذور كما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الكي آخر العلاج، وهو نفسه أمر فكوي أبي بن كعب رضي الله عنه وكوي أنس بن مالك وكوي أسعد بن زرارة، فالكي جائز.

حكم من أدركته صلاة العصر وهو مقيم ثم سافر ولم يصل إلا في وقت صلاة المغرب

حكم من أدركته صلاة العصر وهو مقيم ثم سافر ولم يصل إلا في وقت صلاة المغرب Q رجل مسافر وعندما ركب السيارة أذن العصر، وعندما وصل إلى المدينة المسافر إليها دخل المسجد وصلى المغرب جماعة؛ لأن صلاة المغرب كانت قائمة، ثم بعد صلاة المغرب قام بصلاة العصر أربع ركعات، ثم أعاد صلاة المغرب ثم صلى العشاء ركعتين، فهل هذا الفعل صحيح شرعاً؟ وهل من أدركته صلاة في بلده ولم يكن قد صلاها وسافر فهل يتم هذه الصلاة كاملة أم يقصرها؟ A لو أن إنساناً كان مقيماً ثم سمع الأذان وهو مقيم، ثم سافر ولم يصل العصر، ووقت العصر ليس وقتاً ضيقاً إنما وقت العصر وقت موسع، فإذا سافر ونزل فصلى في الطريق جاز له أن يقصر الصلاة. أما إذا نزل في وقت المغرب، فقد ضاعت عليه صلاة العصر، وكان الواجب عليه أن يصلي العصر قبل أن يسافر ما دام يعرف أنه لن يصل إلا بعد المغرب. ولو فرضنا أنه لم يعرف ذلك، وحضر وقت صلاة العصر وهو في السيارة كان عليه أن يطلب من السائق أن يقف، ولو فرضنا تعذر ذلك كأن يكون راكباً قطاراً فليصل في مكانه الذي هو فيه، إن استطاع قام وتوجه إلى القبلة، وإن لم يستطع تحرى بقدر المستطاع، ولكن لا يجوز أن يؤخر العصر حتى تغرب الشمس، فإن العصر لا تجمع مع المغرب. وقد وقع أن هذا السائل نزل في وقت المغرب ثم دخل المسجد فوجدهم يصلون صلاة المغرب، والراجح في هذه المسألة أن يدخل معهم بنية العصر، هم سيصلون ثلاث ركعات يجلسون في الركعة الثالثة، فيجلس معهم، وعندما يسلم الإمام يقوم هو ويأتي بالركعة الرابعة ثم يصلي بعد ذلك صلاة المغرب وحده. أما ما فعله من أنه دخل معهم في صلاة المغرب بنية النافلة، ثم أعاد العصر وحده وأعاد المغرب وحده، فقد صحت الصلاة منه. أما سؤاله: هل يتم أم يقصر؟ فالجواب: يجوز له أنه يتم؛ لأن القصر ليس فرضاً إلا عند الأحناف، أما عند الجمهور فالقصر مستحب وليس فرضاً، فإذا أتم العصر جاز، وإذا قصرها جاز أيضاً؛ لأن وقت الوجوب كان متسعاً وليس وقتاً ضيقاً، لكنه يأثم بتأخيره، فهل كونه يأثم بتأخيره لصلاة العصر حتى يخرج وقتها نلزمه أن يصليها تامة؟ الراجح لا يلزمه لأنه مسافر ويصلي صلاة العصر الآن، قد وجبت عليه وهو في بلده وهو في الطريق واجب عليه، لما ضاق الوقت وجب عليه أن يصليها صلاة قصر وهو مسافر، فالآن سيصليها، ولذا يجوز له أنه يقصر في هذه الحال، وإذا أتم فالصلاة صحيحة.

الخوف من الشرك وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

شرح كتاب فتح المجيد - الخوف من الشرك وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله حذر الله تعالى عباده من الشرك وبين أنه لا يغفره دون سواه من سائر الذنوب غير المكفرة؛ لأجل ذلك خاف منه الأنبياء عليهم السلام، فهذا إمام الحنيفية إبراهيم عليه السلام يدعو ربه أن يباعد بينه وبين الشرك، ودعاه كذلك أن يجنب أبناءه وذريته منه، وهكذا خاف منه نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم على أمته، كما خوفهم من الشرك الأصغر، وبين أن من اتخذ لله نداً دخل النار. فهذا خوف الأنبياء المعصومين فكيف بمن دونهم، فهو أولى بالخوف والحذر.

ذكر الأدلة الواردة في الخوف من الشرك من الكتاب والسنة

ذكر الأدلة الواردة في الخوف من الشرك من الكتاب والسنة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب الخوف من الشرك، وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وفي الحديث (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: الرياء)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)، رواه البخاري. ولـ مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)) هذا الباب الرابع من كتاب التوحيد وفيه الخوف من الشرك. وكل إنسان مسلم يخاف على نفسه من أن يشرك بالله سبحانه وتعالى، لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالشرك أعظم جريمة يقع فيها الإنسان في حق الله سبحانه؛ ولذلك لا يغفره الله تعالى. أما ما دونه من الذنوب ولو كان من الكبائر فالله عز وجل يغفرها قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فلما ذكر هنا الشرك -الذي هو أكبر الكبائر- ذكر أن غيره من الذنوب يغفرها الله سبحانه وتعالى. وإذا تاب العبد فيقيناً أن يغفر الله له ذنوبه وكبائره، أما إذا لم يتب فهو تحت المشيئة إن شاء الله تاب عليه، وإن شاء عذبه. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية الشرك وبعض الكبائر بالموبقات المهلكات فقال: (اتقوا السبع الموبقات المهلكات، قيل: وما هن يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). فهذه كبائر عظيمة وأعظمها الشرك بالله تبارك وتعالى. يقول ابن القيم رحمه الله: إن الله تعالى أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب من الشرك، أما ما دونه من الذنوب؛ فيغفرها الله وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه؛ لأنه أقبح القبيح، وأظلم الظلم أن يظلم الإنسان نفسه بالشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأن فيه تنقيص من رب العالمين سبحانه، وصرف خالص حق الله عز وجل لغيره. وفيه العدل فيعدل بربه غيره قال سبحانه: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، يعني: يجعلون معه من يعادله، حاشا لله سبحانه وتعالى. ذلك لأن الشرك ناقض للمقصود بالخلق والأمر، فالله عز وجل وحده التفرد بالخلق، وله وحده الأمر قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] فكما أنه تفرد بخلق المخلوقات جميعها كذلك تفرد بالأمر والتشريع؛ فهو الذي يأمر وهو الذي ينهى سبحانه وتعالى. يقول ابن القيم رحمه الله: (لأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعة الله سبحانه، والذل له والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا به. فمتى قال ذلك خربت الديار وقامت القيامة). فاستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)، فإذا صار الكفار فقط على وجه الأرض خربت الدنيا، ومن ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق يتهارجون تهارج الحمر)، ومعنى يتهارجون قيل: يتقاتلون، وقيل: يقع بعضهم على بعض في الزنا واللواط ويقتل بعضهم بعضاً، فهذا هو الهرج.

ذكر الأحاديث الواردة في الطائفة المنصورة وبعض علامات الساعة

ذكر الأحاديث الواردة في الطائفة المنصورة وبعض علامات الساعة جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطائفة المنصورة، منها: قوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). وقال في حديث آخر: (لا تزال طائفة قائمة بأمر الله حتى يأتي أمر الله). ولا تناقض بين هذه الأحاديث وكلها صحيحة. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة)، فذكر هنا أن نزول المسيح عيسى بن مريم إحدى علامات الساعة الكبرى، وذلك حين يخرج المسيح الدجال على الناس، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ينزل المسيح عيسى بن مريم، ويقتل المسيح الدجال، فإذا قتله عم العدل في الدنيا؛ فلا يقبل الجزية، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولا يكون في الأرض إلا قول لا إله إلا الله). ويكون هذا في فترة المسيح عليه الصلاة والسلام ثم يمكث المسيح سنوات، ثم يقبضه الله سبحانه وتعالى، فإذا مات المسيح عليه الصلاة والسلام رجع الناس مرة ثانية إلى الفساد، وإلى العبث وإلى الشرك بالله سبحانه وتعالى. فإذا استمر الأمر على ذلك حصل الهرج ونزع منهم القرآن، ونزع منهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يكون فيهم إلا القلة من المؤمنين، فيرسل الله عز وجل ريحاً تقبض هؤلاء المؤمنين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته). فجملة الأحاديث تبين أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين: إما بالسيف والسنان وبالجهاد في سبيل الله عز وجل، أو بالحجة والبيان؛ حتى يأتي أمر الله، فيرسل ريحاً طيبة تقبض هؤلاء المؤمنين فلا يكون في الأرض من يعرف الله تبارك وتعالى؛ فيرجعون مرة ثانية إلى عبادة الأوثان. ولذلك جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة) وهو وثن من الأوثان في قبيلة دوس كانوا يعبدونه في الجاهلية، ومعنى ذلك أن عبادة الأوثان سترجع مرة أخرى. فإذا ملأ الفساد الأرض كان ذلك علامة للساعة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن علامات الساعة الكبرى كسلك انقطع فانتثرت منه خرزاته)، ويعني ذلك توالي ظهور العلامات الكبرى والتي منها: طلوع الشمس من مغربها، وخروج المسيح الدجال، ونزول المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والخسوفات الثلاثة: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وخروج الدابة التي تكلم الناس) فتظهر هذه العلامات متتابعة ثم تكون الساعة بعد ذلك.

الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخلود صاحب الكبيرة في النار

الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخلود صاحب الكبيرة في النار في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] رد على الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من السبع الموبقات المهلكات وأولها الشرك بالله. فمنطوق الآية أن الشرك كفر بالله غير مغفور لصاحبه، هذا لمن لم يتب، ولكن من تاب إلى الله فلا يوصف بأنه مشرك، فمعنى الآية: أنه يموت على الشرك قال تعالى: {َمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217]. قال سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، منطوق هذا الجزء من الآية أن غير الشرك من الذنوب يغفره الله سبحانه وتعالى. فهذه الآية مع الحديث الذي ذكر فيه الكبائر يفهمان أن الكبائر يغفرها الله. ولم يقل في هذه الآية: لمن تاب، فدل على أن من تاب ومن لم يتب كلاهما تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى. لكن من تاب إلى الله توبة نصوحاً يغفر الله له يقيناً، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فمن تاب أفلح بنص القرآن. وفي الحديث: (التوبة تجب ما قبلها)، وبقي من لم يتب من الذنوب كبائرها وصغائرها فالآية في منطقوها أن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء. إذاً: هنا قد يغفر الكبائر لبعض الناس ولا يعذبهم، وقد يعذبهم ثم يتغمدهم برحمته ويدخلهم الجنة، فهم تحت المشيئة، قال {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة:18]. ففي هذه الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار. قال المعتزلة: الناس صنفان: كافر في النار، ومسلم في الجنة، أما صاحب الكبيرة فهو بين هذا وهذا، ويوم القيامة يكون في النار، فوافقوا الخوارج على أن صاحب الكبيرة في النار. ولكن أهل السنة يقولون: هو في خطر المشيئة إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه.

دعاء إبراهيم الخليل ربه أن يجنبه الشرك

دعاء إبراهيم الخليل ربه أن يجنبه الشرك يقول المؤلف رحمه الله تعالى هنا: (وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]) فإذا كان إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام خاف على نفسه وعلى بنيه من عبادة الأصنام ومن الشرك بالله، وهو معصوم فغيره من باب أولى أن يخاف على نفسه من ذلك. فاستجاب الله عز وجل دعاء إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجعل في ذريته الأنبياء بعده فلم يكن نبي من الأنبياء ولا رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام أتى بعده إلا من ذريته صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم تسليماً كثيراً. قال إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] فالأصنام تضل كثيراً من الناس، ويهدي الله عز وجل من يشاء من عباده.

الفرق بين الصنم والوثن

الفرق بين الصنم والوثن فرق العلماء بين الصنم والوثن، فقالوا: الصنم ما كان على هيئة صورة سواء كانت صورة إنسان أو صورة حيوان. والوثن: ما كان على غير ذلك، كشجرة، أو بيت، ولو على هيئة الكعبة.

أنواع الشرك

أنواع الشرك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء). فالشرك يقسمه العلماء باعتبار ما يظهر وما يخفى: إلى شرك ظاهر وشرك خفي، والشرك الظاهر: إما أن يكون شركاً أكبر، وإما أن يكون شركاً أصغر، والشرك الخفي الرياء. فقد يقع الإنسان في الشرك الأكبر بأن يجعل لله نداً سبحانه. وقد يقع في الشرك الأصغر كأن يقع في الرياء، أو في يسير من الرياء، أو ينسب شيئاً لا يكون إلا لله لغير الله سبحانه وتعالى، كقول القائل: لولا البط في الدار لهاجمنا اللصوص مثلاً، أو لولا نباح الكلب لجاء اللصوص. فينسى الله سبحانه وتعالى ويذكر غيره. وقد يقسم العلماء الشرك إلى قسمين: شرك أكبر، وشرك أصغر. فالشرك الأكبر: اتخاذ الند والعديل له سبحانه. والشرك الأصغر: ما كان من أقوال يقولها كما ذكرنا، أو كان من يسير الرياء. وسواء جعلنا القسمة ثلاثية: شرك أكبر، وشرك أصغر، والرياء شرك خفيف، أو جعلناها ثنائية وقلنا: شرك أكبر، وشرك أصغر، فالشرك الأصغر يدخل فيه اليسير من الرياء. ونص الحديث السابق في مسند الإمام أحمد وعند الطبراني والبيهقي عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء). والحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرياء أن يعمل الإنسان العمل الذي يكون لله فينظر فيه إلى الناس فيسمع ويرائي. والسمعة ومأخوذة من السمع، والرياء مأخوذ من البصر. ففي السمعة يريد أن يسمع الناس عنه، فيشتهر بأنه من أهل الدين والصلاح؛ فيقصد غير الله سبحانه وتعالى، وقد يكون ذلك في العمل كله، أو في بعض العمل، ولا ينجو منه إلا من رحم الله سبحانه. والرياء: أن يعمل العمل أمام الناس ويبتغي مدحهم على ذلك. فالرياء والسمعة فيهما الشهرة بين الناس؛ ولذلك كان السلف يخافون من الشهرة، وكانوا يطلبون الخمول، ومعنى الخمول: عدم الشهرة، وليس معناه: ترك العمل. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخافه عليكم)، الخطاب فيه موجه للمؤمنين، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه من هو دونهم في العلم والإيمان؟ والرياء محبط للعمل؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي أن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فالذي يشرك بالله سبحانه ويعمل عملاً لله ولغير الله فالله غني عن مثل هذا العمل ولا يقبله، بل يقول: اذهب إلى من كنت تعمل له ليعطيك أجراً. وفي صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم)، فأخبر أن جميع الأنبياء ناصحون لأممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حق عليه أن ينصح هذه الأمة، فعلم الأمة التوحيد، وحذرهم من الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى. وذكر في الحديث الذي أخرجه أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة عن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (الشرك أخفى من دبيب النمل، قال أبو بكر: يا رسول الله وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل)، والحديث إسناده ضعيف عند أبي يعلى، ولكن صح هذا المعنى من حديث رواه الحاكم الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا)، والصفا: الحجر الأملس. فالشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا، فلو أن نملة دبت على خشب لا تسمع له صوتاً؛ فإذا دبت على الحجر الأملس فلا تسمع لها صوتاً من باب أولى. قال المصنف رحمه الله: (وفي الحديث أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند: أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان) لكن هذا ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما المعنى: أن هذا داخل في الشرك، فبدلاً من أن ينسب الفضل لله عز وجل يقول: لولا فلان، والصحيح أن يقول: لولا الله سبحانه وتعالى ثم فلان. فإذا أردت أن تذكر فضلاً لأحد فابدأ بصاحب الفضل الحقيقي وهو الله ذو الفضل العظيم، ولا تجعل فلاناً عدلاً لله سبحانه، فتقول: لولا الله وفلان. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال عنه ذلك فغيره من باب أولى كما سيأتي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)). والند: الشريك والمثيل والنظير، ومعنى الحديث: يجعل أحداً مع الله، ولم يكن أحد من أهل الجاهلية يسوي بين الله عز وجل وبين خلقه في أفعال الله سبحانه؛ فإذا سئل أحدهم من خلق كذا؟ قال: الله. إنما تسويته في العبادة، فيعبد غير الله ويقول: يقربني إلى الله. إذاً: جعلوا لله عز وجل أنداداً في تقربهم إلى الله عز وجل بالعبادة. فإذا قال إنسان: أنا معترف بأن الله يخلق، ويرزق، ويعطي، ويمنع ويضر فأنا لست مشركاً، قلنا: إن أهل الجاهلية كانوا مقرين بذلك، ولكن الإنسان يدخل في الشرك عندما يوجه عبادته إلى غير الله سبحانه وتعالى أو يتلفظ بألفاظ يسوي فيها بين الله عز وجل وبين مخلوقاته. يقول ابن القيم رحمه الله: (الند: الشبيه، يقال: فلان ند فلان ونديده أي: مثله وشبهه) وقوله: (من مات وهو يدعو لله نداً) أي: يجعل لله نداً في العبادة يدعوه ويسأله ويستغيثه، كأن يقول: يا فلان، يا سيدي فلان، فيطلب من غير الله ما لا يطلب إلا من الله سبحانه. إذا وقع في المصيبة استغاث بغير الله سبحانه وتعالى. غير الله وليس من شرط اتخاذ الند في العبادة أن يصلي لغير الله، ولم نر أحداً من هؤلاء يصلي لغير الله، لكنه إذا دعا دعا غير الله، وإذا نذر، قال: هذا لسيدي فلان. وقد قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]، فهذه العبادات لا يتوجه بها إلا لرب العالمين سبحانه، والمقصود بالنسك: ما يتقرب به لله عز وجل في الحج والعمرة. وقوله: (محياي) عموم بعد خصوص، والممات لا يكون إلا لله رب العالمين سبحانه. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران وهو اتخاذ الند للرحمن أياً كان لله من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان وهذا فيه كسر للتفعيلة، والصواب ما أثبتناه.

أقسام اتخاذ الند لله تعالى

أقسام اتخاذ الند لله تعالى واعلم أن اتخاذ الند على قسمين: الأول: أن يجعل لله شريكاً في أنواع العبادة أو في بعضها، وهو شرك أكبر، كأن يستغيث ويقول: يا فلان! وينسى الله عز وجل. فالاستغاثة لا تكون إلا بالله إلا أن يستغيث بحي قادر على إغاثته؛ فلا مانع كأن يقع شخص في البئر ويقول: يا فلان أدركني، فهذا ليس شركاً بالله سبحانه. الثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء -وهذه ليست كل الأنواع- فقد جاء في الحديث أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت)، أي: الذي يشاؤه الله يريده ولكن الرجل أخطأ في التعبير وقد لا يقصد هذا المعنى؛ ولذلك لم يكفر. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً)، يعني: أَحْسِن التعبير فقد أخطأت في كلامك. فلا يليق أن تذكر الاثنين مع بعض. وهذا الحديث حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، ورواه ابن ماجة بلفظ آخر قال الألباني فيه: حسن صحيح. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت). إذاً: لك أن تقول: ما شاء الله فقط، أو تقول: ما شاء الله ثم شاء فلان. إذاً: الذي يطلب أولاً هو الله سبحانه وتعالى ثم النبي صلى الله عليه وسلم يطلب ما طلبه الله سبحانه، ويأمر بما أوحى الله عز وجل إليه؛ فيكون الأمر راجعاً لله وحده كما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. وفي هذا الحديث بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات، كأن يذهب شخص إلى قبر الميت، ويطلب منه أن يشفع له عند الله مثلاً، أو يطلب له أن ييسر له أمراً ما. فالشفاعة ملك لله تعالى وبيده، وليس بيد غيره منها شيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولـ مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، فـ (شيئاً) نكرة في سياق الإثبات تطلق على أقل الأشياء. إذاً: من لقي الله سبحانه تبارك وتعالى وهو يشرك به أقل شيء دخل النار فكيف بأكبر شيء؟! و (شيئاً) في الجملة الأولى نكرة في سياق النفي فتعم كلَّ شرك، فمن لقي الله ليس لديه أي شرك دخل الجنة. فكل من كان وثنياً، أو كتابياً، أو زعم أنه على الإسلام وهو يعبد غير الله، ويتقرب إلى غير الله بأعمال لا تكون إلا لله سبحانه دخل تحت هذا الحديث. يقول الإمام النووي: (أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي -اليهودي والنصراني- وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره). والكافر عناداً واستكباراً هو الذي رد الحق ولم يتعلم الإسلام، وجاء الإسلام وهو يعلم أنه يوجد إسلام، لكنه لم يسأل عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا كان حقاً على الله أن يدخله النار) فيعلم من ذلك أن كل من سمع بالإسلام، ولم يؤمن به لا يقبل منه دين غيره، وهو من أهل النار. يقول هنا الإمام النووي أيضاً: (ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره) فمخالف ملة الإسلام هو من لم يدخل فيها، والمنتسب إليها من قال: أنا مسلم، ثم ادعى مذهباً من مذاهب الإلحاد والكفر، كالقول بالحلول مثلاً بمعنى: أن الله يحل في المخلوقات. أو من يفعل أفعال الكفر، كالاستهانة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الاستهانة بكتاب الله عز وجل ونحو ذلك، فهذا وإن انتسب إلى الإسلام إلا أنه كفر بفعل أو بقول، فخرج من هذا الدين. قال الإمام النووي: (وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به) يعني: الذي مات ولو كان وقع في كبيرة من الكبائر، ولكن على تفصيل: فالذي يموت وقد تاب إلى الله؛ فالله يتوب على من تاب. والذي يموت ولم يتب إلى الله عز وجل فهذا في خطر المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء أدخله النار وعذبه. وهذا مثل ما قلنا قبل في الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) قيدت بقوله في الحديث الآخر: (أصابه قبل ذلك ما أصابه). إذاً: المؤمن الذي يقول: لا إله إلا الله ولا يشرك بالله قد يكون من أهل المعاصي فيعذبه الله ما شاء في نار جهنم، ولكن يوماً من الأيام ينفعه إسلامه وتنفعه كلمة التوحيد. يقول غير الإمام النووي: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو كقولك: من توضأ صحت صلاته، أي: مع سائر الشروط. قوله: اقتصر على نفي الشرك يعني: من مات لا يشرك بالله شيئاً، فكلمة (لا يشرك بالله) تدل دلالة لزوم على أنه موحد لله.

أنواع دلالات النصوص على الأحكام

أنواع دلالات النصوص على الأحكام عندما نقول: هذا الشيء لازم له كذا، يعني: مترتب عليه، ودلالة الاقتضاء مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فليس المعنى رفع الخطأ والنسيان؛ لأن هذه الأمور واقعة لا محالة، لكن المراد شيء مضمر فنقدره هنا ونقول: رفع عن أمتي المؤاخذة على الخطأ والنسيان والإكراه، وهذه هي دلالة الاقتضاء وهي من دلالات اللزوم. وكذلك في حديث سهو النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فسأله الأعرابي: (أقصرت الصلاة؟ أم نسيت؟ فقال: كل ذلك لم يكن)، لا بد أن نقدر: لم يكن في ظني أو في وهمي، وإلا كان الكلام مخالف للحقيقة؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه (أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وصلى ركعتين وسجد للسهو). قال: (لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم)، المعنى: أنه من أجل أن توحد الله سبحانه ومن أجل أن تعبده؛ لا بد أن يبين لك كيف تكون العبادة التي يريدها الله سبحانه، ويلزم من ذلك أن الذي علمك هذه العبادة أن يكون رسولاً لرب العالمين سبحانه. إذاً: معنى كلامه (استدعاء إثبات الرسالة باللزوم) أي: اللازم في توحيدك لله سبحانه أنك عرفت كيف توحده عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي علمك العبادة فكان اللازم بذلك إثبات الرسالة للرسول صلوات الله وسلامه عليه. قال: (وهو كقولك: من توضأ صحت صلاته)، أي: لا يمكن أن تصح الصلاة بالوضوء وحده، ولكن معنى ذلك: أنه توضأ وصلى وأتى في الصلاة بالأركان والشروط والهيئات المطلوبة. إذاً: هنا اكتفى بذكر شيء عن غيره من الأشياء اللازمة له. وهذه دلالة اللزوم. ومن المعلوم أن أنواع دلالة اللفظ ثلاثة: دلالة مطابقة ودلالة تضمن ودلالة التزام. فالدلالة بالمطابقة: أن يطابق اللفظ الصورة الموجودة، فإذا قلنا: إنسان؛ عرف أن له وجهاً وجسداً. وكذلك إذا قلنا: بيت فلا بد أن توجد أرض وحيطان. إذاً: ودلالة التضمن كأن نقول: إن هذا بيت، فالسقف داخل في البيت ضمناً ونقول: البيت يتضمن السقف. فإذا أشرت للسقف وقلت: هذا بيت، معناه: أنه من ضمن أجزاء البيت هذا السقف. ودلالة الألتزام كأن أقول: هذا سقف، فيلزم من ذلك وجود الحائط؛ لأن السقف لن يُرفع إلا على حائط موجود.

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله بعد أن تعلم المسلم التوحيد يدعو إلى هذا الذي تعلمه، لذلك قال المؤلف رحمه الله: (الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108])، أي: قل يا محمد للناس هذه سبيلي، أي: طريقي الطريق المستوي الذي فيه أدعو إلى الله على بصيرة. يقول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: قل: يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها: من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته، وترك معصيته هذه سبيلي. فسبيل الله هي التي فيها طاعة الله، وتوحيده سبحانه، والبعد عن معاصيه، قال الله سبحانه على لسان نبيه: {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] أي: إلى هذه السبيل الذي هو الدعوة إلى الله وحده لا شريك له. وقوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، هنا تحتمل معنيين: المعنى الأول: {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]، {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: أنا وأتباعي على بصيرة، وهو معنىً صحيح. والمعنى الثاني: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فهو داع إلى الله عز وجل، وأتباعه أيضاً يدعون إلى الله سبحانه. فكل من دعا إلى الله وإلى توحيده وإلى سلوك سبيله سبحانه فإمامه النبي صلى الله عليه وسلم، وشرطه أن يكون على بصيرة، إذاً: لا يجوز لإنسان ليس على بصيرة أن يدعو إلى الله، والبصيرة: العلم الشرعي وتعلم التوحيد. قال: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، أي: منزهاً الله سبحانه وتعالى، ومعظماً له؛ أن يكون له شريك في ملكه، أو معبود سواه سبحانه وأنا بريء من أهل الشرك.

مسائل مستفادة من هذا الباب

مسائل مستفادة من هذا الباب يقول المؤلف رحمه الله: (فيه مسائل منها: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه) وهذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (الشرك أخفى على القلوب من دبيب النمل على الصفا). فقد يدعو الإنسان إلى الله عز وجل، ولكنه في دعوته يريد الشهرة والذكر، فالجزء الذي دخله الرياء من عمله يبطله وليطلب أجره من غير الله. وما من إنسان إلا ويحدث له ذلك قل أو كثر فيستعين بالله سبحانه، ولا يترك الدعوة إلى الله سبحانه، فإذا وجد وسوسة الشيطان: افعل كذا حتى يقال كذا تعوذ بالله عز وجل منه، ولا يترك الدعوة إلى الله أبداً. والشيطان يحاول أنه يبعد الإنسان عن ربه، وقد يدخل الإنسان في الصلاة ثم يقول له الشيطان: طول قليلاً حتى ينظر الناس إليك من أجل أن يمدحوا صلاتك، أو حسن صوتك من أجل الناس، فعلى الإنسان أن ينقي نفسه من ذلك، ولا يفعل العكس، ولكن إن أراد فليطل صلاته ابتغاء وجه الله سبحانه ولينفي عن نفسه ما يقول له الشيطان، ولا يصبح لعبة له يلعب به، فيدخل في الصلاة ويبتدئ الشيطان بقوله: طول قليلاً من أجل الناس؛ فيقصر حتى يؤثر في أركان الصلاة فتضيع صلاته وتبطل. ولكن ليطل في الصلاة وليحسن نيته ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وليحسن صوته في القراءة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، فحسن صوتك لا من أجل الناس، لكن امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. إن الشيطان يأتي في كل عمل من الأعمال يريد قطعها وله ثلاث حالات: إما أن يأتي للإنسان من البداية فيزين له الشهوات وبذلك يترك العبادات، أو يلبس عليه بالشبهات فيتركها، أو لا يقدر على هذه ولا هذه فيأتيه من باب الرياء في عبادته، فعليه أن يتعوذ بالله من الشيطان، ويقف مع نفسه وقفة محاسبة، ويخلص عمله لله سبحانه، والله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها. وما من إنسان إلا ويوسوس له الشيطان، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف ندفع هذه الوساوس بأن نتعوذ بالله من الشيطان، وأن يتفل الإنسان عن يساره ثلاثاً كما جاء في الحديث (إذا جاء الشيطان أحدكم يلبس عليه صلاته فليتفل عن يساره ثلاثاً) أي: يفعل ذلك، ولكن لا يترك العمل من أجل الوسوسة. فعليك أيها الداعية أن تحسن نيتك وتخلص لله سبحانه وتعالى، ولا تستمع لمن يمدحك؛ فإنه يقصم ظهرك ويقطع رقبتك، وأنت أعلم بنفسك، وكفى بالإنسان نقصاناً أن يعرف نقص نفسه ثم يصدق مدح الناس له، أما الإنسان المخلص فيكون صادقاً، مع أنه عمل هذا العمل لله وهو مقصر فيه، ولكن غاية فعله ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى. وإياك أن تصغي لمن يمدحك؛ فإنه يعينك على المعصية وعلى الرياء لا على طاعة الله سبحانه. وكذلك على المسلم ألا يعين غيره على الرياء، كأن يرى شخصاً يصلي فيمدحه أمامه، أو يحضر درساً فيقول للقائم به: ما سمعت مثل هذا الدرس. فالذي صلى أو ألقى الدرس أعلم بنفسه وأنه أخطأ فيه كثيراً، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المداحين التراب)، أي: أفعلوا حتى لا يقصموا ظهوركم، وقال للذي مدح الآخر في وجهه: (قطعت عنق أخيك). فالإنسان المؤمن أعرف بعيوب نفسه، فإذا تذكر أنه أحسن؛ فليتذكر أنه يسيء، وإذا تذكر أنه في العمل الفلاني أتقنه؛ فليتذكر أنه في غيره لم يتقن. فلا يزال على ذلك يتهم نفسه حتى يخلص من الرياء ولا يقع في الشرك بالله سبحانه. لكن ليحذر ترك العمل فذلك ما يريده الشيطان، فهو يريدك أن تترك الصلاة إما ابتداءً أو بإدخال الرياء عليها لتفسدها. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (فيه مسائل -أي: في هذا الباب- منها: التنبيه على الإخلاص)؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. ومنها: أن البصيرة من الفرائض. ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد: أنه تنزيه لله سبحانه عن المسبة. أي: توحد ربك سبحانه وأنت موقن أنه لا شريك له، ولا شبيه، ولا ند له، ولا نظير له. أما غير الله عز وجل ففيه نقصان، والله وحده له الكمال سبحانه وتعالى. ومنها: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله سبحانه وتعالى. ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك. يعني: الإنسان يتبرأ من الشرك والمشركين خوفاً على نفسه أن يقع في ذلك. يقول ابن القيم رحمه الله: ذكر الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو يعني: في قول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، قال: إما أن يكون طالباً للحق محباً له، مؤثراً له على غيره، فهذا يدعى بالحكمة. يعني: تدعو من يريد أن يتعلم يعرف الحق بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدل؛ لأنه قابل للنصح. قال: وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق لكنه لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. ومعنى كلامه: أن الإنسان قد يكون مشغولاً بالباطل، أو باللهو، أو بالشبهات، لكن لو عرف الحق فهذا يدعي إلى الله سبحانه بالحكمة وبالموعظة، وضرب الأمثال فإنه يستجيب. ثم قال: وإما أن يكون معانداً معارضاً، فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد. قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فإذا كان يوجد جدل حسن فجادل بالذي هو أحسن، ففي الآية أمر الإنسان المؤمن أن يجادل بالأحسن لا أن يجادل بما يؤدي إلى التشاجر والخصام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، متفق عليه. أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن في العام التاسع من هجرته صلى الله عليه وسلم، وظل هناك حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع بعد وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه. أرسله معلماً وحاكماً يحكمهم بشرع الله سبحانه، ويعلمهم الحلال والحرام، إذ كان أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام رضي الله تبارك وتعالى عنه وذلك بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يسبق العلماء يوم القيامة بخطوة. ومع علمه رضي الله عنه بالحلال والحرام قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب). المعنى: أن هؤلاء ليسوا مثل المشركين الذين في مكة، إنما هم قوم أهل كتاب وعندهم علم، فهم يحتاجون لنوع معين من التعليم ونوع معين من الجدل ليقتنعوا. ثم ذكر له النبي صلى أول ما يبدأ به في دعوتهم. فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: إلى أن يوحدوا الله). وتأمل هنا كيف علم النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً -وغيره بالتبع- كيف يدعو الناس، فلا بد أن يكون الداعي على علم بحال المدعو وبما يناسبه، لا أن يبدأ في الجدل معه على جهل بحاله، فقال له: (أنك ستأتي قوماً أهل كتاب)، أي: سيجادلونك بالتوراة، وبما عندهم من علم فجهز ردك عليهم، وفكر في طريقة الجدال معهم، وكيف تقنعهم، فهم أهل كتاب عرفوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وعرفوا علامات النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم أشركوا بالله سبحانه فعبدوا غيره قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]. فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فلا تبدأ معهم في إثبات وجود الله تعالى، وأنه الذي خلق السماوات والأرض، فهم يعرفون ذلك بل ابدأ في دعائهم إلى التوحيد؛ لأنهم مشركون. إذاً: لا تعلمهم شيئاً يعرفونه فيكون ذلك تحصيل حاصل، ولكن علمهم ما يجهلونه، وما وقعوا فيه من أخطاء.

الدعاء إلى شهادة أن لاإله إلا الله

شرح كتاب فتح المجيد - الدعاء إلى شهادة أن لاإله إلا الله رأس الإسلام الذي جاء به الرسل توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة كما يفرد بالخلق والتدبير، ومن سلم بذلك واستسلم لمولاه سهل عليه الأمر من صلوات مكتوبات، وزكوات تخرج من وسط المال وترد على فقراء المسلمين، كما هي وصية الرسول لمعاذ إلى أهل اليمن، وهذا ما يجب على الأئمة تجاه قادتهم، أي: أن يوصوهم بما يرشدهم وينفعهم بما هم مقدمون عليه من أمور.

معنى كلمة التوحيد

معنى كلمة التوحيد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. سبق الحديث في كتاب التوحيد عن باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). هذا الحديث العظيم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم فيه معاذاً رضي الله عنه ما الذي يصنعه عندما يأتي قوماً من أهل الكتاب. فالباب هنا معقود للدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، أو لما يدعى الكافر إلى توحيد الله سبحانه وتبارك وتعالى. فبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لـ معاذ التركيب المنطقي في الدعوة، وما الذي يبدأ به، ثم بماذا يثني، ثم بماذا يثلث، فأول ما يبدأ به في الدعوة إلى الله الدعوة إلى لا إله إلا الله، ففي الحديث هنا: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية-: إلى أن يوحدوا الله)، وهو نفس معنى أن تدعوهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، تدعوهم إلى توحيد الألوهية. فإذا هم أطاعوا لذلك فابدأ بالمرحلة الثانية وهي أن تدعوهم إلى الصلاة التي افترضها الله عز وجل عليهم، وبين لهم ماهي هذه الصلاة. إن شهادة أن لا إله إلا الله هي أول ما يجب على المسلم أن يتعلمه، وأن يعرف معناها ومقتضى هذه الكلمة، فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله. وأهل الجاهلية لما فهموا هذا المعنى رفضوا الإسلام، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا لا إله إلا الله)؛ علموا أن هذه الكلمة معناها: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، هم يعرفون ذلك وهم مؤمنون بأن الله هو الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر، كذلك العبادة لا بد أن يوجهوها إليه وحده لا شريك له. هذا الذي رفضه المشركون عصبية وجاهلية وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلم. أن كل واحد من أهل الجاهلية كان عنده صنم خاص به يعبده إذا كان من أشراف الناس، فإذا كنت ستأمرنا أن نترك هذه الأصنام، وأن نعبد إلهاً واحداً، وتقول: إنك رسول هذا الإله، ونحن سنتبعك، وستصير الرئيس فينا، وتأمرنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا فلا، فلذلك لما قال: (قولوا كلمة واحدة أضمن لكم بها الجنة، قالوا: نقول ما تشاء عشر مائة، ما هي الكلمة التي تريد؟ قال، قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أما هذه فلا)، رفضوا أن يقولوا لا إله إلا الله لأنهم فهموا المعنى. فهناك فرق بين أن تقول: لا رب إلا الله، لا خالق إلا الله، وبين أن تقول: لا إله إلا الله، فمعنى لا إله إلا الله: أنا لن أعبد إلا إلهاً واحداً، ولن أتوجه بالعبادة في هذا الدين إلا إلى الإله المستحق للعبادة، ولن أصلي إلا لله، ولن أدعو إلا إلى الله سأصوم لله سأحج لله لن أشرك به شيئاً في عبادتي. فأهل الجاهلية فهموا هذا المعنى، ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى أهل اليمن كانوا عرباً وسيفهمون هذا المعنى، فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) فإذا أقروا بذلك واستجابوا فاطلب منهم الشيء الثاني وهو الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده.

شروط كلمة التوحيد

شروط كلمة التوحيد لا بد في شهادة التوحيد (لا إله إلا الله) من اجتماع الشروط حتى تنفع الإنسان، وهي سبعة شروط.

الشرط الأول: العلم المنافي للجهل

الشرط الأول: العلم المنافي للجهل عندما تقول: لا إله إلا الله لابد أن تفرق بين ذلك وبين أن تقول: لا رب إلا الله، والعبد الذي يدخل في الإسلام لا بد وأن يقول: لا إله إلا الله، ولو أنه قال: لا رب إلا الله لم تنفعه، فلا بد أن يقول: لا إله إلا الله؛ لأنه فرق بين الإسلام وبين أن تقر بربوبية الله، وبأن الله قادر، فهذا لا خلاف فيه، حتى أهل الشرك لم يختلفوا مع أهل التوحيد في أن الله قادر، ولذلك حصين والد عمران بن حصين لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد من آلهة؟ قال: سبعة أو ستة، واحد في السماء وستة في الأرض. قال: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء)، فالذي ينفع ويضر هو الله سبحانه، وأهل الجاهلية كانوا يعرفون ذلك، فإذا قالوا: لا رب إلا الله، فهذا شيء هم مقرون به. أما لا إله إلا الله، ولن نعبد إلا الله، ولن ندعو غيره، ولن نتقرب إلا إليه. هذا الذي رفضه أهل الجاهلية. فالعلم بمعنى شروط لا إله إلا الله من مقتضى لا إله إلا الله، ولا بد لزاماً أن توجه عبادتك كلها إلى الله وحده لا شريك له. وهذا هو مقتضى: لا رب إلا الله. ومعنى الربوبية: أن تقر بأن الله رب كل شيء وهو الذي خلقه ورزقه ورباه ويملكه ويقدر عليه، وكل شيء تحت سلطانه وحكمه سبحانه وتبارك وتعالى، والإقرار بهذا الشيء لا يدخل الإنسان في الإسلام؛ لأنك تقول: الله يفعل، ولكن الإسلام يقول لك: وأنت ما الذي تفعل؟ فعلى المسلم أن يقول: لا إله إلا الله، مقراً بأنه هو وحده الذي يستحق العبادة، متوجهاً إليه بهذه العبادة. فتكون لا إله إلا الله معناها: إقرار بأنه وحده سبحانه المستحق للعبادة. فالعلم من أول شروط لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].

الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك

الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك. فالذي يقول: لا إله إلا الله لا ينبغي له أن يشك: هل الإله واحد أو أكثر من واحد؟ هل نتوجه إليه وغيره معه أو إليه وحده؟ لا، بل لابد من اليقين بأن الذي يستحق العبادة هو الإله الواحد لا شريك له.

الشرط الثالث: القبول المنافي للرد

الشرط الثالث: القبول المنافي للرد الشرط الثالث: شرط من شروط كلمة لا إله إلا الله: القبول، والذي ينافي الرد، فنزول الكتاب من عند رب العالمين يجعلنا نقبل هذه الرسالة، ولا ينافي هذا القبول أن يعصي العبد، إنما ينافي القبول أن يقول العبد: لا أريده، لن نعمل بهذا الذي جاء من عند رب العالمين. إذاً: القبول هو قبول ما عند الله عز وجل حتى ولو عصى، ولا ينافي هذا أن في قلبه قبولاً.

الشرط الرابع: الانقياد المنافي للاستكبار

الشرط الرابع: الانقياد المنافي للاستكبار الشرط الرابع: الانقياد: أن ينقاد فلا يستكبر على الله سبحانه، ولا على رسول الله صلى، فيفعل ما أمر به الله ورسوله، ولا ينافي ذلك أن يقع في المعاصي -فكل بني آدم خطاء- ما دام منقاداً لرسالة الله طائعاً لله ورسوله مختاراً لذلك منقاداً مستسلماً لدين الله سبحانه تبارك وتعالى.

الشرط الخامس: الإخلاص المنافي للشرك

الشرط الخامس: الإخلاص المنافي للشرك الشرط الخامس: الإخلاص المنافي للشرك: فيتوجه العبد لله عز وجل بالعبادة، فلا يشرك مع الله شركاً أكبر فيعبد أصناماً، ولا شركاً أصغر فيتوجه رياء لغير الله سبحانه، قال الله سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] فالمسلم ينقي عبادته من شوائب الشرك بالله سبحانه، فيتوجه إلى الله وحده بالعبادة لا يشرك معه غيره سبحانه في عبادته، فإذا دعا الله سبحانه ولم يدع غيره، وإذا توسل توسل بالعمل الصالح، وبما هو مشروع.

الشرط السادس: الصدق المنافي للكذب

الشرط السادس: الصدق المنافي للكذب الشرط السادس من شروط لا إله إلا الله: الصدق في كلمة: لا إله إلا الله، فيصدق لسانه وقلبه بدون هزل، بهذه ولا يكذب لكي يعصم دمه وهو مكذب بها في قلبه، ولكنه صادق في هذه الكلمة عابد لله وحده لا شريك له.

الشرط السابع: المحبة المنافية للبغض

الشرط السابع: المحبة المنافية للبغض الشرط السابع: المحبة لله سبحانه تبارك وتعالى ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحبة لهذا الدين العظيم. إن العلم يزيد المسلم محبة لله ورسوله ولدين رب العالمين، ولذلك يقول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] وفرق بين من يدعو بلا علم، وبين من درس وترقى ووصل إلى درجة من العلم عرف بها جمال هذا الدين، وجلال ربه سبحانه، ورحمة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيزداد محبة لهذا الدين. ومن المحبة لدين الله وشرعه سبحانه أن يقدمه على غيره، ولا يرضى بديلاً عنه أبداً. هذه شروط لا إله إلا الله التي ينبغي على المسلم أنه يعمل بمقتضاها، ولا يشترط مجرد حفظها أو عدها وسردها، ولكن على الأقل أن يكون عمل هذا الإنسان وحاله موافقاً لهذه الشروط لهذه الكلمة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة: أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام. يعني: الذي يتكلم بهذه الكلمة إما أنه صادق من قلبه وإما أنه ينطق بها بلسانه لعصمة الدم، فالأول مؤمن صادق الإيمان، والثاني منافق نفعته هذه الكلمة في الدنيا فعصمت دمه وماله، وأمره إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.

فريضة الزكاة وكيفية جمعها وتوزيعها

فريضة الزكاة وكيفية جمعها وتوزيعها يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، هذه هي الفريضة الثانية وأعظم الفرائض بعد كلمة التوحيد: الصلاة. وقوله: (إن هم أطاعوا لذلك) يعني: استجابوا ودخلوا في الدين بقول لا إله إلا الله (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة). الصلوات الخمس فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج، ولشرف الصلاة فرضت في السماء، فالصلاة ترفع العبد إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى، وهي صلة بين العبد وربه، لذا لم يفرضها على النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض وإنما رفعه إلى السماء وفرضها عليه فيها تشريفاً له ولأمته، وبياناً لأهمية هذه الصلاة العظيمة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة -وهي الزكاة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). فالزكاة فريضة من فرائض الإسلام، لذا كانت الثالثة بعد لا إله إلا الله وبعد الصلاة، وهذا فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد كلمة التوحيد وبعد الصلاة.

كيفية جمع الزكاة

كيفية جمع الزكاة الذي يجمع الزكاة لا يجمعها ثم يبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل من الأغنياء إلى الفقراء في البلد التي أخذت منها الزكاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل من يجمع هذه الزكاة نائباً عن الفقراء في أخذها، ونائباً عن الأغنياء في توزيعها على فقراء البلد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم) يحذره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ كرائم الأموال في الزكاة. فعامل الصدقة إذا جاء ليأخذ زكاة أموال الناس الظاهرة من بهيمة الأنعام ونحوها فإنه يقسمها أثلاثاً، ثلث هو أفضل الأنعام التي عند صاحبها، وثلث هو أردأها، وثلث هو الوسط؛ فيأخذ الزكاة من الوسط وليس من خيارها أو رديئها ويعطي للفقراء ما لا ينتفعون به، فخير الأمور أوساطها. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إياك وكرائم أموالهم)، يعني: لا تأخذ أفضل الأشياء التي عندهم، ولكن خذ من وسط الأموال.

اتقاء دعوة المظلوم في جمع الزكاة

اتقاء دعوة المظلوم في جمع الزكاة قال: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). معاذ حاكم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم والياً على اليمن يؤمهم ويعلمهم ويحكمهم بينهم بشرع الله سبحانه، ويأخذ منهم زكاة أموالهم ويوزعها فيهم رضي الله تبارك وتعالى عنه. فيحذره النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة المظلوم، وعمم النبي صلى الله عليه وسلم الحكم في أي مظلوم حكم عليه بغير العدل، أو أخذ من أمواله ما لا يريد أن يعطيه، وليس من حق معاذ أن يأخذه. إذا كان هذا معاذ وهو سلطان العلماء والسابق للعلماء يوم القيامة فغيره أولى أن يتقي دعوة المظلوم، معاذ من رآه أحبه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد حبيباً للناس قد جعل الله في قلبه المحبة للناس، وجعل في قلوب الناس محبة له، وما كان معاذ ليظلم الناس وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمهم الإسلام، وبذلك يعلم النبي صلى الله عليه وسلم كل إنسان يتولى أمور الناس أن يحذر من الظلم، (الظلم ظلمات يوم القيامة)، ولذلك قال في الحديث: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). أي مظلوم سواء كان فاجراً أو كافراً فدعوته مستجابة عند الله سبحانه، ولذلك جاء في الحديث: (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرار)، رواه الحاكم عن ابن عمر وصححه الشيخ الألباني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام -أي: السحاب- وترفع إلى السماء، فيقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين). إذاً: على الإنسان المؤمن أن يتقي الله سبحانه تبارك وتعالى فلا يظلم أحداً من الخلق.

الحكم فيمن امتنع عن أداء الزكاة

الحكم فيمن امتنع عن أداء الزكاة يقول في شرح هذا الحديث: إن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهراً. هذا الأصل في بلاد الإسلام أن الزكاة تجمع من قبل الإمام، فإذا جمعها الحاكم من الناس وجب عليهم أن يؤدوها إليه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً أن يجمعها من الناس، وإن رفضوا أن يعطوها للنبي صلى الله عليه وسلم أو لـ معاذ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا). فالذي يمنع الزكاة سنعاقبه بأخذها منه قهراً. إذا لم يوجد من يجمع من الناس الزكاة وجب عليهم أن يخرجوها ولا عذر لأحد في ذلك. يقول: وفي الحديث أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد، أما مذهب الشافعي فلا بد من قسمة الزكاة بين الأصناف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، هذا إذا وجدت الأصناف جميعها فلا بد من قسمتها بينهم، ولكن إن لم توجد فما وجد منها وزع. وفي الحديث: أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف. كذلك: ترد هذه الزكاة على الفقراء فلا تعطى لغني إلا أن يكون مؤلفاً يتألف على الإسلام فيجوز أن يعطى من الزكاة ولو كان غنياً.

إخراج الزكاة من عموم الأغنياء

إخراج الزكاة من عموم الأغنياء يقول هنا: وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، مع أن في الحديث ما ذكر فيها لا مجنون ولا صبي ولكن عمهم بقوله: (أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم)، وما قال العقلاء منهم، أو الكبار في السن، أو الرجال، أو النساء، فدل هذا على العموم، فكل من كان غنياً تؤخذ منه هذه الزكاة، سواء كان هذا الغني رجلاً أو امرأة، صغيراً أو كبيراً، وهذا قول الجمهور. واختلف العلماء في مسألة إخراج زكاة المال عن اليتيم، فإذا ورث صبي صغير عن أبيه أموالاً فهل الولي يخرج الزكاة؟ الراجح أنه يلزمه أن يخرج زكاة المال كل سنة؛ لأن الزكاة تتعلق بالمال ولم ينظر الشارع لكون هذا يتيماً أو ليس يتيماً فتؤخذ منه، وإن كان هناك خلاف بين الجمهور وبين الأحناف في ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: تجب الزكاة في مال اليتامى عند مالك والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور، وهو مروي عن عمر وعائشة وعلي وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة. المعنى: إذا كان اليتيم وارثاً له مال فتاجروا بماله حتى لا تأكله الزكاة، هذا المال وهو واقف ينقص حتى ينتهي، فقال لهم عمر رضي الله عنه: اتجروا فيها بحيث يزيد مال الصبي ولا ينقص. وفي الحديث: أنه يحرم على عامل الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال، ولكن الوسط من المال.

قبول خبر الواحد في الفقه والعقائد

قبول خبر الواحد في الفقه والعقائد وفي الحديث أيضاً: قبول خبر الواحد العدل، وهذا ما أخذ به علماء الحديث، فخبر الآحاد معمول به، والعلماء قسموا حديث الآحاد ثلاثة أقسام: الغريب وهو رواية فرد واحد عن مثله، وبعده؟ العزيز وهما اثنين في طبقة واحدة. وبعده المشهور وهم ثلاثة في طبقة واحدة، كل هذا تحت حديث الآحاد. والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى اليمن واحداً وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فأمره أن يبلغ، ومطلوب منهم أن يصدقوه رضي الله عنه، ففيه قبول خبر الواحد في الأحكام الفقهية وفي العقائد؛ لأن معاذاً واحد وذهب إليهم يدعوهم إلى لا إله إلا الله، إذاً: حديث الآحاد يؤخذ به في العقائد كما يؤخذ به في الفقه. وفيه أيضاً: بعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وأنه يعظ عماله وولاته، وكل من يتعامل مع الناس لا بد لمن يشغله أن يعظه ويعلمه أن يتقي الله عز وجل في الناس: لا تأخذ أموال الناس باطلاً. احذر أن تظلم الناس فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله عز وجل حجاب.

توجيه ترتيب العبادات في حديث معاذ

توجيه ترتيب العبادات في حديث معاذ في الحديث لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصوم ولا الحج مع أنها من أركان الإسلام، فيغني عنه حديث: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً). الحديث ذكر أشياء هامة والباقي يأتي بالتبع، فعلى ذلك لم يذكر له الصيام أو الحج، فإذا جاء وقت الصيام سيذكر لهم معاذ الصيام الذي عليهم، فإذا قبلوا هذه الأشياء وهي الأهم الصلاة -عبادة بدنية- والزكاة -عبادة مالية- فإن غيرها أسهل في القبول، فعلى ذلك لم يذكرها في هذا الحديث اكتفاء بما ذكر صلى الله عليه وسلم، وعندما يحين الوقت فسوف يأمرهم معاذ بأمر الله عز وجل في ذلك. يقول شيخ الإسلام: إن العلماء أجابوا عن ذلك بجوابين: الأول: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة. يعني: كما أن الله سبحانه تبارك وتعالى تدرج مع المسلمين فبدأ بالتوحيد وعلمهم العقائد، ثم أمرهم بالصلاة، وفي العام الثاني من الهجرة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليهم الصيام والزكاة فعلى ذلك بدأ بالفرائض بحسب نزولها. هذا قول. الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، وهذا صحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ما يناسب المقام، فهو ذاهب إليهم ليدعوهم إلى الدين كله، وهو من أعلم الناس بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم المسلمين بالحلال والحرام، كما قال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ)، فأرسل معاذاً ليعلمهم مما علمه الله عز وجل، ولكن بين له أهم الأشياء الواجبة لله تبارك وتعالى وهي إفراده بالعبادة، ثم الواجب البدني وأهمه الصلاة، ثم الواجب المالي وهو دفع الزكاة، وغير ذلك فهو إما عبادة بدنية وإما عبادة مالية أو بدنية ومالية.

وصايا الرسول لقادته

وصايا الرسول لقادته يقول المصنف رحمه الله: ولهما -يعني: البخاري ومسلم - عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ويحبه الله ورسوله). كانت خيبر سنة سبعة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي يوم خيبر قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، كونه يقول: سنعطي الراية لمن هذه صفته فكل المسلمين يتمنون ذلك: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) باتوا يخوضون فيمن سيستلم الراية غداً، وكل منهم يتمنى أن يكون هذا الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال: (فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها). نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يولي أحداً يطلب الولاية، عادة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين أن الذي يطلب ولاية أنه ما كان يعطيه، وكان يقول: (إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه)، لكن المسلمين كانوا يطلبونها في تلك الليلة خاصة لينالوا شرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحبه الله ورسوله)، رجاء أن يكون هذا الشخص يحبه الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟)، وفي الحديث نفسه في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع يقول: كان علياً أرمد، كان في هذه الليلة قد أصابه رمد في عينيه فلا يرى شيئاً، فكاد يتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في نفسه: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج علي رضي الله عنه وما كانوا يرجونه. يعني: ما كان على بال أحد أبداً أن يأتي علياً رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ لأنه موجود في المدينة وعينيه فيها رمد ولا يقدر على القتال، فعلى ذلك تخلف، ومع ذلك خرج ليدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: (أين علي بن أبي طالب؟ قيل: هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه)، فلما جاء علي رضي الله تبارك وتعالى عنه أتي به فبصق في عينيه ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فبرئت عينه رضي الله عنه وصحت، قال: (فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام). يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام)، يعني: لا تقاتلهم مباشرة، ولكن ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، (فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الهداية إلى دين الله سبحانه والاهتداء أفضل من القتال والجهاد، وأن هؤلاء لو يهديهم الله طائعين أفضل من أن تكرههم بالجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى لو كان رجلاً واحداً يهديه الله عز وجل على يديك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية: (إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله) واللواء هو العلم الذي يذهب به في القتال، فهنا كان للنبي صلى الله عليه وسلم راية ولواءً، وكأن أحدهما أكبر من الآخر. يقول شيخ الإسلام: (ليس هذا الوصف مختصاً بـ علي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحبان كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله)، يعني: بعض الناس يأخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) ويقصرها على علي فقط، فيقول شيخ الإسلام: إن الأمر ليس محصوراً في علي فقط، ولكن في هذا اليوم ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تمييزاً وتفضيلاً، ولكن ليس معناه أنه فقط هو الذي يحبه الله دون سائر المؤمنين، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، إذاً: كل من يطع الله يحبه الله سبحانه بدلالة هذه الآية. لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن هذا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأعطى الراية لـ علي رضي الله عنه، وبصق في عينه عليه الصلاة والسلام، ودعا له فبرئ، وفي رواية أخرى يقول علي: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية. يعني: من هذا اليوم لم يصب علي رضي الله عنه برمد ولا صداع بعدما تفل النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام). الإسلام هو: الاستسلام لله سبحانه تبارك وتعالى والخضوع لله والعبودية له وحده. لذلك فالإنسان المسلم لا بد أن يتأمل هذه الكلمة، فلا يعصي الله ويقول: أنا مسلم لله سبحانه أي: مسلم نفسي مذعن لأمر الله، مطيع مستسلم له، فذلك ينافي أن يعصيه وأن يستكبر على الله سبحانه تبارك وتعالى. فالإسلام استسلام كامل لله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت). الإسلام أعمال ظاهرة تفيد استسلاماً وانقياداً لله سبحانه تبارك وتعالى. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستلام له وحده، فأصله في القلب، والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبد الله وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً. فهذا لم يستسلم لله، فلا بد وأن تكون العبادة خالصة للرب وحده لا شريك له. ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، والأصل: أن الإسلام هو استسلام بالقلب، وعمل القلب يعبر عنه اللسان بقول لا إله إلا الله، أما الإيمان فأصله: تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب القول القلبي المتضمن عمل القلب. في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) حمر: جمع أحمر، وبهيمة الأنعام عند العرب أفضلها وأنفسها وأغلاها عندهم النوع الأحمر من الإبل ونحوها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا هدى الله عز وجل بك رجلاً واحداً هذا أفضل من أن تجمع أنفس وأغلى وأعلى الأموال.

إسلام العبودية لله وحده

إسلام العبودية لله وحده قال المصنف رحمه الله: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. وقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]. يذكر الله عز وجل هؤلاء الذين عبدوا المسيح من دون الله، وعبدوا عزيراً من دون الله، وعبدوا أصناماً وملائكة وجاناً من دون الله واتخذوهم آلهة، فيقول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] أصلها: هؤلاء الذين يدعونهم ويؤلهونهم يتبرءون من عبادتهم، وهم يتقربون إلى الله بكافة وجوه الخير، عبدوا المسيح والمسيح عبد لله وتقرب إلى الله سبحانه، وعبدوا عزيراً وعزير يعبد الله ويتقرب إليه، ويرجو إليه الوسيلة. وعبدوا الملائكة من دون الله والملائكة تعبد الله سبحانه وتبتغي إليه الوسيلة -يعني: تفعل الخيرات تبتغي رضاه سبحانه تبارك وتعالى- وعبدوا الجان من دون الله وأسلم الجان فعبدوا الله وتبرءوا من هؤلاء وظل هؤلاء على عبادتهم الباطلة. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]، يبتغون كل وسيلة تقربهم من الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعبدون الله بكافة وجوه العبادة. وقوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] يعني: يتسابقون من منهم أقرب إلى الله؟ وكل من الجن والملائكة والرسل يبتغي إلى الله الوسيلة، ويبتغي أن يكون مقرباً عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، الدعاء وذكر الله عز وجل له مقامات ثلاثة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: مقام الحب لله سبحانه والتوسل إليه: يحبون الله فيتوسلون إليه بأعمال صالحة حتى يقربهم إليه، فهنا الحب ابتغاء التقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى والتوسل إلى ذلك بالأعمال الصالحة. مقام آخر وهو الرجاء: رجاء ما عند الله من ثواب، مقام ثالث وهو: أنهم يخافون العقاب، قال: {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] فشروط العبادة: أنك تحب الله سبحانه الذي تتقرب إليه وتخافه وترجوه، والرجاء فيما عنده، والخوف مما عنده سبحانه. إذا كانت هذه صفات الأنبياء والرسل والأولياء والمقربين من الملائكة إلى الله تبارك وتعالى الكل يخافون ويحبون ويرجون، إذاً العبادة لا تكون إلا بكمال الحب لله سبحانه، وبكمال الخوف والذل بين يديه، وبكمال الرجاء فيما عنده سبحانه تبارك وتعالى، كما في المسند عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله! ما أتيتك إلا بعدما حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك. كان الكفرة يحذرون الناس من الذهاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم حتى يمنع نفسه من الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلف على ذلك عدة أيمان، فيكي بهز هنا أنه عد على أصابع يده أنه لن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ذهب، والله عز وجل يهدي من يشاء. يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيته فقلت: والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولاء ألا آتيك ولا آتي دينك، وجمع بهز بين كفيه -يعني حلف بعدد أصابعه العشرة أنه لن يدخل في هذا الدين- قال: وقد جئت أمراً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يعني: من يهدي الله فلا مضل له، أراد الله به الهداية مع أنه حلف هذه الأيمان، ومع ذلك ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاهتدى ودخل في هذا الدين. يقول: إني سائلك بوجه الله -يعني: أسألك وأغلظ عليك في اليمين- بعثك الله إلينا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالإسلام. قال: قلت: وما آيات الإسلام؟)، أي: ما هي العلامات والآيات التي فيها الإسلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت). هذه رواية، وفي الرواية الأخرى: (أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله). الإسلام: أن تسلم قلبك لخالقك سبحانه تبارك وتعالى، وتوجه وجهك وتستقيم على هذا الدين، فلا تتوجه ولا تلتفت عنه إلى غيره سبحانه. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت). هذه هي كلمة لا إله إلا الله، هذه الكلمة المعنى الذي فيها هو: أسلمت لله، وجهت وجهي لله، آمنت بالله، وتخليت عن غيره من الآلهة، أي: تركت جميع الآلهة والأنداد من دون الله سبحانه وتعالى. فتقول: لا إله إلا الله يعني: تركت جميع الآلهة فلا أعبد إلا إلهاً واحداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم). يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدين العظيم، وأن المسلم أخ للمسلم لا يخذله، لا يتركه، (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً). فقال صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر التوحيد والصلاة، والزكاة: (كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله من مشرك أشرك بعدما أسلم عملاً، وتفارق المشركين إلى المسلمين). يعني: إذا أسلمت فاترك ديار الشرك وائت دار الإسلام وعش مع المسلمين لتعبد الله تعالى بينهم، ولا تكثر سواد المشركين. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار؟) يعني: العجيب من أمرهم وأمره صلى الله عليه وسلم أنه خائف عليهم ويمسك بحجزهم، والحجزة هي موضع ربط الحزام -يعني: كأنه مسكهم من المكان الذي لا يفلتون منه- ومع ذلك يتفلتون بشركهم وبمعاصيهم فيقعون في النار فيعذبهم، أنا أدلكم على الخير، وأحذركم من الشر، وآخذ بحجزكم حتى أبعدكم عن النار، ومع ذلك أنتم تصرون على ذلك. يقول: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار، ألا إن ربي عز وجل داعي وإنه سائلي) أي: الله داعي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وسائله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون مفدمة أفواهكم بالفدام). هذا مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاوية بن حيدة القشيري ومعنى: إنكم مدعوون أي: بين يدي الله عز وجل ليسألكم. والفدام: الرباط الذي يوضع على فم السقاء أو الإناء حتى لا ينسكب ما بداخله. و (مفدمة أفواهكم) يعني: مغلق على (أفواهكم) يوم القيامة حتى تنطق جوارحكم. قال: (ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه)، أي: أن أول ما ينطق فخذ الإنسان وكفه، الفخذ ينبئ ويخبر أنه عمل كذا وكذا، ووقع في الحرام بكذا وكذا، وكف الإنسان أخذ مالاً حراماً، وسفك دماً حراماً، وتعاطى حراماً بكذا وكذا، فينطق هؤلاء ولسانه لا ينطق. قال: قلت: (يا نبي الله! هذا ديننا؟ قال: هذا دينكم، وأينما تحسن يكفك) أي: في أي مكان وكيفما أحسنت يكفيك إحسانك عند الله عز وجل.

منارات الإسلام

منارات الإسلام وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) الصوى: هي العلامة التي توضع في الطريق في الصحراء، كحجارة مثلاً تبين اتجاه الشمال والجنوب. كذلك دين الإسلام دين عظيم كبير واسع له علامات وهي الصلاة والزكاة والصوم ومنائر كهذه التي تعرف بها الطريق، يقول: (إن للإسلام صوى ومنائر كمنار الطريق، من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة)، هذه علامات الإسلام، وهي علامات تدل على أن هذا الإنسان قد قبل دين الله سبحانه ورضي بأن يوحد الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، قال: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). الحديث حديث حسن أو صحيح. وهناك رواية أخرى هي أجمع من هذه الروايات عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، منها: أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت) هذا من علامات الإسلام، ومنها: أن تسلم إذا دخلت بيتك بتحية الإسلام لا تستبدلها. قال: (وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام)، ليس المعنى: أنه كفر بترك هذه الأشياء ولكن ترك سهماً، لأنه عصى، أما من الأشياء التي قوام الدين فيها كالتوحيد فمن تركه فقد كفر وخرج من الدين، قال: (ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره). أي: من ترك التوحيد والصلاة وكل ما في الإسلام فقد ولى الإسلام ظهره. إذاً: قول الله سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] معناه: أن أولئك الصالحين أو الملائكة أو الأنبياء والرسل الذين تدعونهم من دون الله سبحانه وتعالى هم يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ويبتغون إلى الله الوسيلة أيهم أقرب، ويتسارعون إلى الله عز وجل في الخيرات، ويرجون رحمته ويخافون عذابه {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، فالواجب على المسلم أن يعبد الله سبحانه بكمال الحب وكمال الخوف وكمال الرجاء.

دعوة إبراهيم قومه إلى التوحيد

دعوة إبراهيم قومه إلى التوحيد قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]. سيدنا إبراهيم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه وأبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] أي: إنني أبرأ إلى الله عز وجل من شرككم، وكانوا يعبدون الأصنام من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى الله تعالى فلما عصوا وأصروا على ما هم فيه تبرأ منهم ومن عبادتهم الباطلة، وقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} [الزخرف:26] أي: بريء منكم ومما تعبدون من دون الله، ولكن أعبد إلهاً واحداً، قال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27]. إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان واحداً يدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك لما قال للملك عن زوجته: إنها أختي. قال: وليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك. يعني: في هذا المكان الذي هو فيه، وإن كان لوط في مكان آخر عليه الصلاة والسلام وهو مسلم لله، ولكن الغرض أن الذين يعبدون الله عز وجل كانوا قلة في زمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فقال متبرئاً من هؤلاء الكفرة الذين يعبدون غير الله: أنا بريء مما تعبدون، ما نظر إلى ضعفه وقوتهم إلى عددهم وهو وحده، لا ولكن تبرأ من هؤلاء وأتى ربه سبحانه بقلب سليم، فجعله الله إمام الحنفاء، وأبا الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. هنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في بلده العراق يدعو إلى الله أهله الذين عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه، ثم هاجر إلى الشام فوجدهم يعبدون النجوم والكواكب من دون الله، فدعا هؤلاء ودعا هؤلاء والجميع لم يستجب له وهو مصر على دعوته، متبرئاً مما هم فيه من باطل. تدبر كيف عبر الخليل عليه الصلاة والسلام عن هذه الكلمة الطيبة بمعناها الذي دلت عليه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] هو نفسه معنى كلمة لا إله إلا الله، يعني: كل ما تعبدونه آلهة باطلة لا أعبدها إلا إلهاً واحداً هو الله، هذا مقتضى لا إله إلا الله. وقال الله سبحانه تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، هؤلاء عبدوا الشمس والقمر، وعبدوا النجوم والكواكب والأصنام من دون الله، وأولئك اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما في حديث عدي بن حاتم قال: (انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية. قال: يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم). الحديث رواه الترمذي بلفظ قريب من هذا اللفظ وفيه: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب). كان عدي نصرانياً عليه صليب من ذهب، وكان السبب في ذهابه أنه كان هارباً من النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت سرية من عند النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وأسروا قومه، ومن ضمن هؤلاء عمته، فلما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليها وهي أسيرة عنده فلم يعرفها، فأشار عليها علي أن تذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنها أخت حاتم الطائي لعل النبي صلى الله عليه وسلم يرحمها، فقد كان أخوها له كرم في الناس مشهور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكرم، فهذه المرأة لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه هلك الوافد وغاب الوالد إلخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: ذاك الفار من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. واستحيت أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم مر بها النبي صلى الله عليه وسلم فغمزها علي أن تعيد الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم حررها عليه الصلاة والسلام بعدما كانت مع الإماء، وأمرها أن تنتظر حتى ينعم عليها ويحملها صلى الله عليه وسلم إذا أتى إليه مال، فأتاه مال فحملها صلى الله عليه وسلم وأعطاها طعاماً ورجعت إلى عدي)، ولما وصلت إليه قالت له: لو كان أبوك حياً ما فعل ما فعل، اذهب إليه صلى الله عليه وسلم. وكان عدي هارباً إلى الشام من النبي صلى الله عليه وسلم وكره مقامه في الشام، وكان كارهاً لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان أشد كراهة لما وجده في الشام، فرجع وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لابس صليب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، فقال: (وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم -هذه رواية الترمذي. كأن عدياً أنكر هذا- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم -يعني: بصلاة ولا بصوم- ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه). فإذا قال: الأحبار والرهبان هذا حلال يحلونه، أو هذا حرام يحرمونه. قال: (وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه) والحديث حسن. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى من معاني العبادة: أن الإنسان يتبع إنساناً يشرع له غير ما شرع الله سبحانه، الله يقول هذا حلال ويقول آخر وهذا حرام، فيتبعه الناس على ذلك، مع أنهم يعرفون أن الله حرم ذلك أو أحل ذلك، فيخالفون ربهم اتباعاً لقادتهم ولمن هم معهم، فهذا كفر بالله سبحانه، وهذه عبادة غير الله مع الله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].

تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

شرح كتاب فتح المجيد - تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله توحيد الله سبحانه وتعالى يتضمن توحيده في العبادة والربوبية، وأن نصفه بما وصف به نفسه في الكتاب والسنة من أسماء وصفات من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف، وكل معبود من دون الله تعالى في الحقيقة فهو يعبد الله سبحانه ويرجوه؛ ولذلك يجب على المؤمن التبرؤ من الشرك وأهله، قبل أن يتبرأ يوم القيامة فلا يقبل منه، وطاعة غير الله واتباعه معناه: اتخاذه رباً من دون الله، وهذا شرك بالله سبحانه.

معنى التوحيد وأقسامه

معنى التوحيد وأقسامه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. وقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]. هذا الباب هو الباب السادس من كتاب التوحيد وفيه تفسير توحيد الله سبحانه وتعالى، توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. فالله عز وجل هو الإله، ومعنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، وتوحيد الألوهية من توحيد العبادة: وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وذكرنا قبل ذلك أن الله عز وجل هو الإله سبحانه، بمعنى: المعبود، وغيره آلهة باطلة يعبدها أهل الشرك، وهي لا تستحق العبادة، فلما تقول: لا إله إلا الله يعني: لا معبود بحق إلا إله واحد وهو الله سبحانه. وتوحيد الألوهية مقتضاه: أن العباد يتوجهون إلى الله سبحانه بالعبادة. وتوحيد الربوبية مقتضاه: أن الله سبحانه وتعالى وحده الرب الذي ينفرد بالخلق، وبالأمر، وبالتشريع، وبالتدبير للكون، وبتربية خلقه وتنشئتهم سبحانه، وأن يرزقهم ويعطيهم وينفعهم، ويضرهم، ويمنعهم ويعزهم ويذلهم، ومقتضى أنه رب: أنه يفعل أفعالاً سبحانه وتعالى لا يقدر أن يفعلها غيره. ولله الأسماء الحسنى، فتوحيد الأسماء والصفات: أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك) فالله واحد سبحانه وله أسماء حسنى كثيرة، يقول: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي) فالله عز وجل له الأسماء الحسنى، وفي الحديث: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة). إذاً: فتوحيد الأسماء والصفات يتعلق بأسمائه، وله أسماء كثيرة وصفات عالية عظيمة، كلها له وحده سبحانه وتعالى، فنصفه بما وصف به نفسه، ولا ندخل في صفاته سبحانه وتعالى متوهمين ولا متأولين ولا محرفين ولا نافين، ولكن نثبت له ما أثبت لنفسه سبحانه على المعنى الذي علمه وعلم خلقه إياه، فتفسير التوحيد: أن توحد الله سبحانه وتعالى في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته، فهو الإله الواحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكلها ترجع إليه وحده لا شريك له، ولا يشابهه فيها أحد من خلقه، فهو متعال عن الألقاب والأنساب والأشباه والنظائر سبحانه وتعالى.

تفسير قول الله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة)

تفسير قول الله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) وتفسير قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] أي: أولئك الذين يدعون من المشركين، يعني: هؤلاء الذين يطلب منهم المشركون النفع والضر يبتغون إلى ربهم الوسيلة، والمشركون عبدوا غير الله، واليهود عبدت عزيراً من دون الله، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] فالمسيح وعزير ممن يبتغون إلى ربهم الوسيلة، يعني: يعبدون الله ويتقربون إليه ويرجون المنزلة عنده سبحانه، ويتوسلون بالأعمال الصالحة للقبول عنده وللقرب منه سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] يعني: يسارعون إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، ويتسابقون إليه، سواء كان المسيح أو العزير أو الملائكة أو الجن، ولذلك جاء فيها من كلام بعض الصحابة كـ ابن عباس رضي الله عنهما أن أناساً من المشركين كانوا يعبدون الجن، فأسلم الجن وبقي هؤلاء على شركهم، والمعبودون الذين عبدوا من دون الله لم يرضوا بذلك، وعبدوا الله وحده، وهؤلاء المشركون ما زالوا في عبادتهم لهؤلاء الجن الذين أسلموا، قال سبحانه في هذه العبادة: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، والعبادة تكون على الرجاء والرهبة، فتحب الله عز وجل وتخاف منه، وهذا لا يكون إلا لله عز وجل، أي: كمال الحب مع كمال الخوف، وكمال الرغبة مع كمال الرهبة، فتحب ربك وأنت تخاف منه سبحانه وتعالى، فهؤلاء من ملائكة ومن رسل كرام عليهم الصلاة والسلام ومن جان عبدوا الله سبحانه وتعالى راجين رحمته خائفين من عقوبته، فالإنسان الذي يعبد الله حق العبادة يكون خائفاً منه سبحانه راجياً له، قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] يعني: المؤمن يحذر من عذاب الله، ومن اطلع على هذا العذاب منه، ولذلك (لما خلق الله سبحانه الجنة والنار أمر جبريل أن يذهب فينظر إلى الجنة، فنظر إليها ورجع قال: لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم خلق النار وأمره أن يذهب فينظر إليها، فنظر إليها ورجع، فقال لربه سبحانه: لا يدخلها أحد) فالله عز وجل جعل الجنة حولها المكاره، وحفت الجنة بالمكاره، وجعل النار حولها الشهوات، وحفت النار بالشهوات، وأمر جبريل أن يذهب فينظر فرجع فقال عن الجنة: أخشى أن لا يدخلها أحد من كثرة المكاره التي حولها، والنار من كثرة الشهوات التي تؤدي إليها قال: أخشى أن يدخلوها، يعني: كلهم. فالغرض: أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن عذابه وعن ناره أنها كانت محذورة، قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، فمن اطلع حذر، لذلك جبريل يقول: لو سمعوا عنها ما دخلوها، بسبب نسيان العذاب والشهوات الكثيرة التي يقدم الإنسان عليها وينسى ربه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)

تفسير قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) وقول الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27]، هذا إبراهيم إمام الحنفاء وأبو الأنبياء عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال لأبيه وقومه وهم على كفرهم: إنني براء مما تعبدون، يعني: أبرأ إلى الله مما تعبدون، ففيها التبرأ من الكفر ومن أصحابه، قال تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] إلا إله واحد أعبده وهو الله سبحانه الذي خلقني فهو يهدين، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] وجعل هذه الكلمة كلمة التوحيد لا إله إلا الله والتبرأ مما يعبد من دون الله سبحانه كلمة باقية في عقبه من الأنبياء ومن الخلق إلى يوم يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) كذلك قول الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، الحبر: هو العالم، والراهب: هو العابد، فهؤلاء أهل الكتاب اتخذوا علماءهم مشرعين يشرعون لهم مع الله سبحانه وتعالى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم كذلك قدوة يقتدون بهم فيما حرم الله فيحلونه، وفيما أحل الله فيحرمونه، فاتبعوهم في ذلك وصارت لهم ديانة، غيروا الملة والدين، كما فعل بولس في الملة النصرانية فأحل لهم كل شيء حرمه عليهم المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلا أشياء قليلة، فاتبعوه على ذلك وجعلوه رسولاً من رسل الله سبحانه وتعالى وكذبوا في ذلك، فاتبعوه وقد أحل لهم ما حرم عليهم المسيح صلوات الله وسلامه عليه. كذلك اليهود اتبعوا كبراءهم من أحلوا لهم ما حرم الله سبحانه، فإذا بهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعترفون بأنهم حرفوا في التوراة حين سألهم عن الرجم قائلاً لهم: (أما تجدون في كتابكم الرجم؟ فقالوا: لا)، وأشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأقسم عليهم بالله سبحانه، وجاء قارئهم يقرأ التوراة ووضع يده على آية الرجم حتى لا يقرأها، وهؤلاء هم اليهود الكذابون لعنة الله عليهم، فلما قال له أحد الجالسين: ارفع يدك، فرفع يده وقرأ آية الرجم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشهد الله سبحانه أنه أول من أقام ما أمر الله عز وجل به، وقد بدله أهل الكتاب. فإن أهل الكتاب حرفوا كتب الله باتباعهم الكبراء الذين فيهم، والبعض منهم برؤوسهم وبأهوائهم قالوا: إن فينا قبائل قوية وشريفة وفينا قبائل قليلة وضعيفة، فالشريف إذا سرق تركوه، والضعيف إذا سرق أقاموا عليه الحد، وأرادوا أن يضعوا حكماً من دون الله، فقالوا: نلغي الرجم الذي قاله الله ونسخم وجوههم، وننكسهم على دابة، ونفضحهم بين الناس، فهذا الذي شرعوه من دون الله سبحانه وتعالى، واتفقوا عليه، وكفروا بالله العظيم سبحانه، وبدلوا شرع الله واستحلوا ما حرم سبحانه وتعالى. كذلك قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فأهل الكتاب كان كتب عليهم الصيام كما كتب علينا نحن فإذا بهم يبدلونه ويحرفونه، يمرض أحد أبناء ملوكهم فينذر الملك لله سبحانه أنه إذا شفى الله ابنه أن يزيد في هذا الصوم، فزاد في الصيام أياماً؛ بسبب أن الله شفى ابنه، ويشرع لهم على ذلك بدلاً من أن يكون شهراً واحداً يقول: اجعلوه أربعين يوماً، كذلك إذا جاء الصيام في وقت الصيف، يجعلونه في الشهور المعتدلة في السنة ويجعلونه ستين يوماً، ويأكلون ويشربون في النهار، ويحرمون ما فيه الروح فقط دون غيره، فيفعلون ذلك معتقدين أن من حقهم أن يحلوا وأن يحرموا مع الله سبحانه، فكفروا بهذا الشيء، فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] يعني: مشرعين؛ لأن من صفات ربوبية الخالق سبحانه وتعالى أنه رب يفعل ويأمر، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] سبحانه وتعالى، أمره: افعل ولا تفعل، أمره: التشريع، أمره: كن فيكون، فمن جعل لأحد سوى الله سبحانه أن يأمر ويشرع فقد جعله إلهاً من دون الله وجعله رباً من دون الرب العظيم سبحانه وتعالى. ولذلك عدي بن حاتم لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع هذه الآية: يا رسول الله لسنا نعبدهم؟ فقال: (أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى) وأقر واعترف بأنهم يفعلون ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتلك عبادتهم)، إذاً: عبادة أهل الكتاب لأحبارهم ورهبانهم لم تكن بصلاة وصيام وركوع وسجود، وإنما كانت بطاعة في مخالفة أمر الله سبحانه، وباعتقاد أن هؤلاء يملكون أن يشرعوا من دون الله سبحانه وتعالى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول الله سبحانه {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] (وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين)، هذه القسمة تفهم القارئ ما الذي يقصد بهذه الآية، ومن يلحق بأمثال هؤلاء ومن الذي يخرج من الدين، ومن الذي لا يخرج منه، يقول: يكونون على وجهين، أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله)، يعني: الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله وهم عالمون بأنهم يفعلون خلاف ما قضى الله عز وجل به، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، إذا فعل الكبراء ذلك واتبعهم أشياعهم عليه معتقدين أنهم يملكون ذلك، وهو من حقهم ذلك. قال: (مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يصلوا ويسجدوا لهم، أي: ليس شرطاً أنه يصلي أو يسجد له، ولكن يعتقد أنه يملك أن يحل وأن يحرم، فالله يقول: هذا حرام، وهذا الإنسان يقول: لا، هذا حلال، الله يقول: هذا حلال، وهذا الإنسان يقول: هذا حرام، ومن اعتقد أن هذا يملك ذلك فقد كفر، ومن فعل أيضًا فقد كفر مع علمه بأنه خلاف ما قضى الله عز وجل به. يقول: (الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله) معناه: المعصية، وليس هو الكفر الذي يخرج الإنسان من الملة، فهو كفر دون كفر، إذْ علموا أن الله حرم ذلك وعلم هؤلاء المتبعون أنه ليس من حق أحد أن يحل وأن يحرم إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن لما وجدوا من أحل الشيء اتبعوه في ذلك، ليس لأنهم يملكون ذلك، ولا لأن الله يريد ذلك، ولا لأنه شرعه، ولا لأن هؤلاء يشرعون مع الله، فهم يعرفون أن هؤلاء بشر ولكن اتبعوهم حباً في المعصية، فهؤلاء هم الفريق الثاني، الذين لم يعتقدوا تحليل ما حرم الله، ولم يعتقدوا أن إنساناً يملك أن يحل ما حرم الله سبحانه ولا أن يحرم ما أحل الله. ويقول شيخ الإسلام: (أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ). إذاً: على ذلك فهؤلاء ليسوا كفاراً ولكنهم عصاة، اتبعوا اتباعاً للشهوة، لا لأن هؤلاء يملكون أن يحلوا وأن يحرموا مع الله سبحانه وتعالى، قال: (فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إنما الطاعة في المعروف)).

خطأ المجتهد

خطأ المجتهد على العموم: كل من أحل حراماً أو حرم حلالاً له قسمة، وهذا قسم من الأقسام، أي: من أوصله اجتهاده إلى أن هذا حلال، أو أن هذا حرام، كقياس مثلاً، أي: قاس شيئاً على شيء فأخطأ في قياسه، وظن أن هذا حلال أو أن هذا حرام، ليس عناداً لله سبحانه، ولا تطاولاً على دينه، ولا اعتقاداً أنه يملك التشريع والتحليل والتحريم، فهذا كما يقول شيخ الإسلام في هذا القسم: (إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسل، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. فعلى ذلك: إذا كان من أهل الاجتهاد فهو مأجور أجراً واحداً على اجتهاده، وإذا لم يكن من أهل الاجتهاد فهو آثم في ذلك. أما الصورة الأولى: أي: الذي أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله، لا يُظَنُّ أبداً أن هذا له أجر، كأن يقول: هذا حلال، هذا حرام، ولكن الذي يقيس كأن يقول: أحل الله لنا ما في الأرض جميعاً وحرم علينا أشياء، فجاء بشيء يشبه القمح، وقال: هذا حرام، قياساً على شيء من المحرمات مثلاً، فهذا ليس من الأول، أما أنه يأتي على ما أحل الله وأكله النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: هذا حرام، فهذا كفر بالله سبحانه؛ لأنه يحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى، لكن قد يقيس شيئاً ليعرف هل هذا من باب الحلال أم من باب الحرام فأخطأ وقاس على الحرام فحرم شيئاً، فعلى ذلك إذا كان هذا مجتهداً فله أجر على اجتهاده، أما أن يحرم ما هو منصوص على حله في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع فليس من حق أي إنسان أن يصنع ذلك، ولا يدخل تحت هذا الباب.

من تبع المجتهد وهو يعلم أنه مخطئ

من تبع المجتهد وهو يعلم أنه مخطئ والمجتهد إذا اجتهد وأخطأ، والذي تبعه علم أنه اجتهد وعلم أنه أخطأ في اجتهاده، فهل من حقه أن يتبعه؟ يقول شيخ الإسلام: من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا له نصيب من الشرك وإن لم يكن شركاً أكبر، ولكن فيه شيء من الشرك؛ لأنه علم أن هذه المسألة حرام واتبع فلاناً العالم وهو يعلم أنه أخطأ فيها، فترك اتباع الكتاب والسنة واتبع فلاناً من دون الله سبحانه، فهذا له نصيب من الشرك، وهذا الذي فعله ذمه الله سبحانه، قال: (لاسيما إن اتبع ذلك لهواه، ونصره باليد واللسان مع علمه أنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه) يعني: هذا من أنواع الشرك، والغالب في كثير من الناس من أتباع المذاهب أنهم يتبعون على هذا الوصل فيقول لك: مستحيل أن أبا حنيفة يخطئ، أو مستحيل أن الإمام الشافعي يخطئ، فإن قلت له: الحديث يقول خلاف ما يقول العالم، قال: لهم تأويل في هذا الشيء، فيكون حينها قد عرف الحديث وصحته ومع ذلك لم يتبعه وإنما اتبع الإمام الفلاني، فهذا فيه نصيب من الشرك وإن لم يكن خارجاً من دين الله سبحانه، ولكنه فيه شيء من الشرك.

اختلاف العلماء في جواز التقليد للقادر على الاستدلال

اختلاف العلماء في جواز التقليد للقادر على الاستدلال يقول: (ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلاف، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال)، يعني: الإنسان الذي يعرف الحق لا يجوز له أن يتركه، لكن اختلف العلماء في القادر على الاستدلال ولم يستدل، يعني: إنسان فقيه وجد إماماً من الأئمة اتبعه في ذلك مع قدرته هو على النظر في الأدلة، فلم يفعل ذلك، هل يأثم في ذلك أم لا يأثم؟ فالإنسان طالما عنده قدرة على النظر والفهم ينظر في دليل الإمام الذي قاله، فإن كان دليلاً ضعيفاً عمل بالصحيح الذي جاء في الكتاب وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه، قد يكون الإنسان يعرف الحق ولكن الظروف التي حوله تمنعه من إظهار هذا الحق الذي يعلمه، قال فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء ك النجاشي وغيره). فـ النجاشي أصحمة الذي كان ملكاً على الحبشة في عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه، عرف الحق واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرغمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، إذْ كان ملكاً في قومه، وسلب ملكه ثم رده الله عز وجل عليه، فعبد الله وأسلم وأظهر ذلك، وهذا كل ما يملكه، أما أنه يجبر أتباعه على ذلك فليس بيده، ولا يقدر على غيره، فهو معذور فيما لا يقدر عليه من ذلك. قال: (وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه، كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:199] وذكر عنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع، مما عرفوا من الحق) فـ النجاشي وأتباعه عرفوا الحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعوا قدر المستطاع، وقدر الطاقة، وفعلوا ما يمكنهم فعله. يقول: (وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه، أي: إذا اتبع إنساناً اجتهد سواء أصاب أو أخطأ، والذي اتبعه يعرف أن هذا مجتهد وهذا من أهل العلم وهذا من أهل الدين، فاتبعه على ذلك، ولا يعرف أن يميز، فكثير من الناس لا يقرأ ولا يكتب، أو إن كان يقرأ فلا يفهم هذا الذي في الكتاب ولا في السنة، فيسأل من يظنه أعلم الناس، ويتبعه على ذلك، وقد يخطئ هذا الذي يفتيه، ولكن هذا الذي اتبعه لا يملك سوى أن يتبعه، فليس عليه حرج في ذلك. يقول: (هذا الإنسان لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة) أي: إنسان نزل في بلد ولا يعرف اتجاه القبلة لا عن طريق الشمس ولا عن طريق القمر منازله، ولا يعرف الشمال من الجنوب، ولا تحديد القبلة، فسأل إنساناً أين القبلة؟ قال: هنا، فأخذ يصلي في هذا المكان، ثم تبين له خطؤه، فهذا معذور، ولا يلزمه إعادة الصلاة؛ لأنه فعل ما أمر به شرعاً، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] فسأل أهل البلد فدله إنسان مخطئ على القبلة فصلى بناءً على ذلك، فالصلاة صحيحة ولا تلزمه الإعادة.

حال من يتبع شخصا دون نظيره لهوى في النفس

حالُ من يتبع شخصاً دون نظيره لهوى في النفس يقول شيخ الإسلام: (وأما من قلد شخصاً دون نظيرة بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية) يعني: أحياناً الشخص يتبع فلاناً عصبية؛ لأنه يحبه، فيسمعه يجادل أو يناظر فيقول: كلامه صحيح، وإن قال هذا المناظر: خطأ، قال: خطأ، ويريد أن يلزم الناس به، فليس هذا من الدين، إنما دين الله عز وجل أن تبحث عن الحق وأن تنصر دين الله، يقول: (فهذا من أهل الجاهلية أي: الذي يتعصب لشخص دون سواه، فهو امرؤ فيه جاهلية. يقول شيخ الإسلام: (هذا إن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً) أي: لو فرضنا أن هذا الذي تحزب له وتعصب له كلامه صحيح لم يكن هذا مصيباً فيما فعل ولا مثاباً عليه؛ لأنه اتبع من غير علم، وإنما عصيبة فقط، وإن كان الذي اتبعه مخطئاً في ذلك. فهذا أيضًا آثم في ذلك، يقول: (كمن قال في القرآن برأيه فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار)، أي: من قال في القرآن برأيه من غير علم كأنه يقول: الله يقول: كذا، والقياس الأولى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحدكم، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فالذي يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالذي يكذب على غيره من البشر، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أشد وأفظع وأعظم. إذاً: من كذب عليه متعمداً هذا مخطئ وليتبوأ مقعده من النار، حتى وإن قال: إنما أكذب له، لا أكذب عليه، وأقرب الناس إلى الدين، مثل كثير من أهل البدع الذين يكذبون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويظنون أنهم يقربون الناس إلى العبادة، فبعض الناس يزعمون ذلك، مثل نوح بن أبي مريم، وهو رجل من الكذابين كذب على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضائل القرآن، يقول الحافظ العراقي فيه: وابن أبي عصمة إذ رأى الورى زعماً نأوا عن القرآن فافترى لهم حديثاً في فضائل السور عن ابن عباس فبئسما ابتكر فألف لهم أحاديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل القرآن، بزعمه أن الناس أعرضوا عن القرآن قال: فبئس ما ابتكر من أحاديث وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا في الحديث، فما بالك في القرآن، فإن كان الذي يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يتبوأ مقعده من النار، فالذي يفسر القرآن بغير علم فهو يكذب على الله فهو أولى بذلك، وهذا هو المعنى الذي ذكره شيخ الإسلام في قوله: (كمن قال في القرآن برأيه) كأنه يقصد ذلك، أنه يفسر ويعبر عن الله سبحانه بكلام كذب من رأيه هو. قال: (وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة) فعبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخرجهم من الدين، فهم أهل طمع في الدنيا بفعلهم ذلك، ففيهم من الشرك، وإن لم يكن الشرك أكبر يخرجهم من الدين. قال: (وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر)، يعني: ليس مخرجاً لهم من ملة الإسلام. فالإنسان لا يتعصب لعالم من غير معرفة دليله، سواء كان مخطئاً أو مصيباً فليس في الدين مثل ذلك.

تفسير قوله تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا)

تفسير قوله تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)). فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة:165] أنداد: جمع ند، والند: المثيل والنظير، يعني: جعل لله عز وجل مقابلاً له يعطيه صفات الله سبحانه وتعالى ويعبده من دون الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] أي: يحبون هؤلاء الأنداد كحب المؤمنين الله سبحانه وتعالى، أو يحبون هؤلاء الأنداد بنفس القدر الذي يحبون به الله سبحانه وتعالى. إذاً: فالمشركون وزعوا المحبة التي لا تكون إلا لله بين الله وبين الأصنام والأوثان ومن يعبدونهم من دون الله، فهم قسموا المحبة بين الله سبحانه وبين هؤلاء الذين عبدوهم من دون الله، فكفروا بالله وأشركوا به، والله أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقبل هذه المحبة حتى يكون الحب خالصاً له وحده لا شريك له، فيحب الله لأنه الإله الذي يحب، ولا يحب غيره على أنه إله. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] أي: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء في حبهم لله ولمعبوداتهم من دون الله سبحانه وتعالى. وذكر الله عز وجل جزاء المشركين يوم القيامة، فقال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:165 - 166]. فقوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] أي: لو يروا هذا العذاب العظيم وما يحدث فيه ويحدث منهم، من تبرؤ من هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله، وقراءة الجمهور: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] وقرأها نافع وابن وردان عن أبي جعفر بخلفه، وابن عامر ويعقوب: (ولو ترى) والخطاب للنبي صلى. فقوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] أي: إذ يرون بأعينهم العذاب، وقرأ ابن عامر: {إِذْ يُرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] بضم الياء يعني: يريهم الله سبحانه وتعالى هذا العذاب يوم القيامة فيرون أن القوة لله جميعاً، أو على القطع {إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165]، إذاً: يرون ذلك ويعلمون أن القوة لله جميعاً، أو يقول الله سبحانه في هذا الحال: {إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165] وهذه قراءة أبي جعفر ويعقوب، وبكسر (إن): {إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165]. ويوم القيامة سيرى المشركون ما كان من أمرهم في الدنيا، وما كان من شركهم بالله سبحانه، فإن الجزاء يوم القيامة، إذ يرون القوة لله وحده لا شريك له، لا قوة لأشياعهم وأتباعهم، ولا قوة لآلهتهم التي عبدوها من دون الله سبحانه، ورأوا أن الله شديد العذاب. قال الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} [البقرة:166] الآلهة والكبراء {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] ممن كانوا وراءهم يتبعونهم ويعبدونهم من دون الله، إذاً: تبرأ المتبوعون الذين هم السادة الكبراء والآلهة الباطلة التي عبدت من دون الله سبحانه من الذين اتبعوهم، والذين ساروا وراءهم في الدنيا. وقوله تعالى: {تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] أي: رأوا عذاب الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25] {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:26]. أي: لا يعذب عذاب الله عز وجل أحد، ولا يقدر أحد أن يعذب كعذاب الله سبحانه، ولا أن يوثق هؤلاء كما يوثقهم ربهم سبحانه، ويربطهم في نار جهنم والعياذ بالله، فهؤلاء يتبرأون ويقولون لله سبحانه: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63] والملائكة الذين عبدوا من دون الله يقولون: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41]. قال سبحانه: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، أي: ما كان في الدنيا من أسباب ومنافع تصل بين الناس، فيتصل الإنسان بالإنسان عن طريق النسب، وعن طريق المصاهرة ومن الأسباب الاحتياج، هذا يحتاج لذاك، وهذا يتقرب من هذا لمنفعة، فيقطع هذا كله يوم القيامة، وتقطعت بهم أسباب المواصلة فلم يعد يتصل بعضهم ببعض يوم القيامة، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:167] أي: التابعون {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:167] أي: لو نرجع ثانياً إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:167] أي: لو نحن نرجع مرة أخرى إلى الدنيا ونتبرأ من هؤلاء مثلما تبرأوا منا الآن، ولا مرجع إلى الدنيا مرة ثانية إنما هي مرة واحدة.

من الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

من الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله آية البقرة في الكفار الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] براءة الكافر والفاسق يوم القيامة لن تنفعه، أما في الدنيا إذا تبرأ الإنسان من الشرك والمشركين فتنفعه هذه البراءة يوم القيامة، أما في الآخرة فقد مضى الوقت، قال تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3]. قال المصنف رحمه الله تعالى: (ففي الآية: بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكاً لله في العبادة، واتخذه نداً من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال الله سبحانه: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]. قال شيخ الإسلام: (فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة لزم أن يكون محباً له، ومحبته هي الأصل في ذلك)، والمعنى: أن الإنسان لا يرغب إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فلما يدعو يقول: يا رب، فإذا رغب إلى غير الله فقد طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى ووقع في الشرك بذلك. يقول ابن القيم رحمه الله: (فتوحيد المحبوب: أن لا يتعدد محبوبه، أي: مع الله تعالى بعبادته له)، والمقصد هنا: الذي لا يكون إلا لله عز وجل، وهو حب يملأ قلب الإنسان، ويفضل ربه سبحانه على ما سواه ولا أحد معه سبحانه وتعالى، ويكون مع هذا الحب الخوف الشديد من الله سبحانه، فالإنسان قد يحب إنساناً في الدنيا ولكن لا يخاف منه، قد يخاف من إنسان ويرعب منه ولكن لا يحبه، لكن جمع كمال الحب مع كمال الخوف والذل، هذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، ولو أن الإنسان يخاف من ولي وقيل له: احلف بالله أنك لم تأخذ هذا الشيء، وقال: والله لم آخذ ذلك الشيء، فقيل له: احلف بفلان فخاف من ذلك، فهو يحبه ويخاف منه أن يعاقبه، فهذا مشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الحب والخوف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى. يقول ابن القيم رحمه الله: (وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما)، يعني: قوله: وإن سمي عشقاً في كلام أهل الدنيا وإلا فالتأدب مع الله سبحانه وتعالى أنه يحب بالألفاظ التي وردت في الكتاب وفي السنة، أما لفظة (عشق) لم تأتِ في القرآن ولا في السنة، فهو لا يقول: إنه قال ذلك عن الله، وإن سمي مثل ذلك، فالأدب مع الله أن لا نقول: غير ما قاله سبحانه وتعالى، فنحن نحب الله، والذين آمنوا يحبون الله سبحانه وهم أشد حباً لله، ولم يقل عشقاً لله سبحانه. يقول ابن القيم رحمه الله: (وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا لله ولا يحب إلا الله). وفي الحديث الصحيح: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) إذاً: لا ينفي أنه يحب غير الله وغير الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمحبة موجودة، فهو يحب المؤمنين ويحب أهل الإسلام، ويحب نصر المسلمين، وفي قلبه الحب لأهل الدين، ولكن المقصود هنا: كمال المحبة، وكمال المحبة لا تكون إلا لله وحده سبحانه وتعالى، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فهو يحب إنساناً لكونه مطيعاً لله، ويحبه لكونه أمر أن يحبه لأنه مسلم، ويحب زوجته؛ لأن الله جعل بينهما مودة ورأفة ورحمة منه سبحانه فيحب على ذلك، فهو يحب ما أحب الله ويحب بحبه لله سبحانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) وهذا من كمال إيمان الإنسان، ومن وجد هذه الثلاثة الأشياء وجد كمال الإيمان وحلاوته. فمن حب الله سبحانه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه: أن يحب في الله سبحانه. ومن كمال الإيمان أن يكره الكفر أهله، ويكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار، فيجتمع في قلبه الإيمان، ويكون قد ذاق حلاوته. يقول ابن القيم رحمه الله: (ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله تعالى، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته)، يعني: لا مانع أن يحب الناس، لكن يحب الناس حباً في الله سبحانه؛ لأنه أمر بذلك شرعاً، قال: (ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر)، يعني: يكره ما يكرهه الله، وأبغض الأشياء إلى الله الكفر وأهله، كذلك المؤمن يكره هذا الذي هو بغيض عند الله سبحانه وتعالى. يقول رحمه الله: (ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة). ثم قال: (وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها) أي: الذي تحبه لله تقدمه على كل شيء، إلى آخر كلامه رحمه الله. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وفي الصحيحين (عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟)) أعظم الذنوب: الشرك بالله سبحانه، (قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، يعني: والحال أنه قد خلقه، فكيف يكون ذلك؟! الله يخلق والله يرزق ثم تجعل له نداً في ذلك، فهذا من أعظم الذنوب التي يقع فيها الإنسان.

حرمة الأموال والدماء بكلمة التوحيد والكفر بما يعبد من دون الله

حرمة الأموال والدماء بكلمة التوحيد والكفر بما يعبد من دون الله قال المصنف رحمه الله تعالى: وفي الصحيح يعني: في صحيح مسلم: (من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل)، أنت تقول: لا إله إلا الله، يعني: لا أعبد إلا الله سبحانه وتعالى، فحصرت هذه العبادة أنها لا تكون إلا له وحده لا شريك له، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فهما متلازمان، يتلازم حبك لله مع بغضك للشرك بالله والكفر به سبحانه وتعالى، ويتلازم إيمانك بالله مع كفرك بالطاغوت، وبكل ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى فيقول: (من قال لا إله إلا الله وكفر ما يعبد من دون الله) فعبد الله وحده لا شريك له، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل في هذا الدين (حرم ماله ودمه وحسابه على الله). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، فالأصل أن يأتي الإنسان بكلمة التوحيد فيعصم دمه ويعصم ماله، ومن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة بهذه الكلمة دخل في هذا الدين، ولما دخل في هذا الدين نقول: عصم دمه وعصم ماله، إلا إذا ترك الصلاة وترك الزكاة وترك ما أمر الله عز وجل به؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ويقول أيضاً: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). إذاً: للدخول في الإسلام لا بد من قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقرار بما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، واليقين بذلك، الإتيان بشروط لا إله إلا الله المعروفة: العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة، وتارك الصلاة يعاقب، ولو وصل الأمر للمقاتلة؛ لكونه ترك أمراً من أمور الدين التي فرضها الله سبحانه وتعالى، كما قاتل الصحابة مانعي الزكاة، وسموهم مرتدين، وإن لم يكونوا كلهم مرتدين، فمن مانعي الزكاة من ارتد وجحد هذه الزكاة فهذا مرتد، ومنهم من قاتل ورفض أن يدفعها تأولاً منه أن الزكاة كان يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم، والذين مكان النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا مثله، فعلى ذلك لا نعطيها لهم، أو أنهم شحوا بها وبخلوا، أو أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوده كان يصلي علينا، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وهؤلاء ليسوا مثل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحابة قاتلوا الجميع، وسموا هذا القتال: قتال المرتدين، باعتبار أن البعض كانوا مرتدين، ولكن ليس الجميع، فمن بخل بالزكاة ليس كافراً، والذي تكاسل عن الصلاة اختلف العلماء فيه، هل هو كافر أم ليس كافراً، والذي جحد الصلاة ورفض أن يصلي وقوتل وفضل أن يقتل على أن يصلي فهذا لا يظن به الإيمان، لكن من ترك الصلاة يؤتى به ويعذر على ذلك ويحبس، فإن صلى وإلا قتل على تركه للصلاة. فالإسلام يعصم الدماء ويعصم الأموال إلا بالحق. إذاً: فهذا مسلم معصوم الدم، لكنه تارك للصلاة، فيؤمر بالصلاة، فإن صلى وإلا قتل؛ لأنه ليس معصوماً الدم الآن إذا ترك هذه الصلاة وأصر على تركها، كذلك الزكاة يؤمر بإيتاء الزكاة، وتركه للزكاة وهو مقر بها ليس معناه أن هذا الإنسان كافرٌ أو خارج من الدين، ولكن كونه يمنع ويقاتل عليها فهذا يشكك في إسلامه، فإذا كان يرفض دفع الزكاة ويقاتل وهو يرفض دفعها ويظن أن من حقه أن يمنعها أو أنها ليست فريضة فرضها الله سبحانه فهو كافر، لكن إذا كان الإنسان منعها تكاسلاً أو بخلاً وشحاً فهذا تؤخذ منه الزكاة ويعزر على ذلك وليس كافراً. كذلك في أمر الصلاة إذا كان متكاسلاً عنها، فالراجح: أنه ليس كافراً كفراً مخرجاً من الملة إلا أن ينكر الصلاة ويجحدها، لكن للحاكم أن يعزر هذا الإنسان، وقد يصل به الأمر إلى أن يقتل تارك الصلاة والمانع للزكاة. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله)، يعني: يقول: لا إله إلا الله، ويصاحبه الكفر بالطاغوت، والكفر بالمعبودات من دون الله، فإذا عبد الله، وتوسل ودعا ورجا وخاف من غير الله فيما لا يكون إلا لله عز وجل فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]، فالإيمان بالله وتوحيده يلازمه الكفر بالأصنام وبكل ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى. يقول: (حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد). ولا بد من هذا القيد؛ لأنه ليس لازماً أن يقول: لا إله إلا الله وأنا أكفر بما يعبد من دون الله، فلم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً أن يقول ذلك، فأنت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والآية تقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] فهذا مقتضى قول لا إله إلا الله، أي: إذا قال ذلك فاللازم له أنه يكفر بالطاغوت، إلا أن يصرح بخلاف ذلك، أي: يقول: لا إله إلا الله وهو يعبد من دون الله كذا وكذا، إذاً: فهذا لم يكفر بالطاغوت. وهذا هو الشرط المصحح لقوله: لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] فأمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك، ويخلصوا أعمالهم لله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعاً، ولكن لم يكفروا إجماعاً، فهم يقاتلون على ترك الصلاة، ولابد أن يفرق بين من يعترف بها ويتكاسل عنها وبين من يجحدها، فالذي يجحدها لم يدخل في دين الله عز وجل؛ لأن الله أمر بها، وهذا من المقطوع بعلمه في الدين، كذلك الزكاة، ولكن إن دخل في الإسلام وأقر بالصلاة وبالزكاة ولكنه تكاسل عن هذا أو ذاك لا يكفر بمجرد ذلك، ولكن يعزر ويحبس حتى يفعل ما أمر الله سبحانه وتعالى به. إذاً: فكلمة لا إله إلا الله وحدها تدخل الإنسان في دين الإسلام، فإذا ترك شيئاً مما جاء وعلم من الدين بالضرورة مستحلاً للترك، وأنه من حقه أن يشرع، ولا يريد هذا الذي أمر الله عز وجل به، فهذا من الكفر، أما إذا هو مقر بذلك، موقن أنه من عند الله ولكنه متكاسل، فالراجح: أنه ليس كافراً خارجاً من الملة على ذلك، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

تقسيم الميراث بين بعض الورثة دون آخرين

تقسيم الميراث بين بعض الورثة دون آخرين Q هل يجوز لامرأة أن تعطي أساورها الذهبية لبناتها بالتساوي حتى لا يرث أحد معهن، وهي ليس لها أبناء رجال، ولكن لها زوج؟ A هذه النية خطأ وخطر على الإنسان، أي: نية أن يعطي الميراث في حياته حتى لا يورث بعد حياته، فهذا غير جائز، ولكن العطية في غير مرض الموت تجوز للمرأة ويجوز للرجل، فلا بأس أن يعطي أولاده ويسوي بينهما، هذا أمر جائز، فالنبي صلى الله عليه وسلم في قصة النعمان بن بشير لما أراد أن ينفل ابنه نفله، فامرأته قالت: أشهد النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب يشهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد غيره؟ قال: نعم، قال: أكل ولدك أعطيت؟) والزوجة لم تدخل في العطية، قال: (أكل ولدك أعطيت؟ قال: لا، قال: أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فاعدل بينهم) وقال: (لا تشهدني على جور) فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا، فيجوز للرجل أن يعطي عطية لأولاده في حياته وهذا شيء جائز، وكذلك المرأة لبناتها فهذا جائز، لكن بغير هذه النية، أي: نية الحرمان من الميراث، يعني: لا تكون نيتها أن كل ميراثها من الذهب الذي معها تعطيه للبنات حتى لا يأخذ الزوج شيئاً منه فهذا غير جائز، لكن إن أعطت أشياء وتركت أشياء بغير هذه النية، أي: بقصد العطية للأولاد فهذا جائز، إلا أن يكون في مرض الوفاة.

كيفية استشعار مراقبة الله عز وجل والشعور بالخوف والحياء منه سبحانه

كيفية استشعار مراقبة الله عز وجل والشعور بالخوف والحياء منه سبحانه Q كيف أستشعر مراقبة الله عز وجل، يعني: الشعور بالخوف والحياء اللذين بمثابة الحاجز القوي الذي لا يمكن تخطيه وتجاوزه بالوقوع فيما حرم الله؟ A يستشعر الإنسان مراقبة الله سبحانه بما ذكره والنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (صلِّ صلاة مودع)، أي: يظن أن لا يصلي غيرها، إذاً: وأنت تصلي تظن أنك لن تصلي صلاة ثانية، وتراقب الله كأنه أمامك، وكأنك تنظر إليه أمامك، فلو أنك في عمل والمدير واقف أمامك، ستتقن العمل؛ لأنك تخاف من هذا المدير، ولله عز وجل المثل الأعلى، فلو استشعرت أنك واقف أمام الله الذي سيحاسبك على هذا الذي تفعل، فأنت مراقب لله، ومراقبة الله: دوام التذكر أن الله يراك، وأنه يقدر عليك، وأنه سيحاسبك، وكلما عمل الإنسان شيئاً كلما تلفظ بقول من الأقوال، وكلما استحضر ذلك استحضر مراقبة الله سبحانه، وإذا استحضرت ذلك استحييت من الله؛ لأنك تعلم أنه يقدر عليك، وأن الله يملي للإنسان فإذا أصر على ذلك أخذه أخذ عزيز مقتدر سبحانه وتعالى، فتستشعر الخوف من الله والحياء منه سبحانه وتعالى.

حكم القول: عزمت عليك بما عليك

حكم القول: عزمت عليك بما عليك Q في قول عائشة رضي الله عنها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق، يقول السائل: هل هذه الكلمة تعني: حلفتك، وهل هذا من الحلف بغير الله، وهو الحلف بحق الشخص؟ A كلمة عزمت عليك تأتي بمعنى الحلف، فإذا قال: عزمت عليك بالله فهو حلف بالله سبحانه وتعالى، وإذا قال: عزمت عليك فقط، رجعت إلى نية الإنسان، أي: هل مراده الحلق بالله سبحانه وتعالى أم ليس حلفاً؟ يعني: حسب ما يقصده الحالف وهذه الكلمة جاءت كثيراً في كلام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فهنا في قصة السيدة عائشة رضي الله عنها قالتها لـ فاطمة رضي الله عنها، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، قالت للسيدة فاطمة رضي الله عنها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، كأنها تقصد حلفت عليك بالله سبحانه وتعالى، وشددت عليك في هذا القسم ولي عليك من الحق أن تبري يميني، فهذا حق الإنسان المسلم. إذاً: فالحلف هنا ليس بغير الله سبحانه، وإنما هو بالله عز وجل، فكأن السيدة عائشة تحلف، وتعني بـ: عزمت، أقسمت عليك بما لي عليك من الحق فافعلي، إذاً: من حقوق المسلم على المسلم أن يعوده إذا مرض، وأن يشيع جنازته إذا مات، وأن يبره إذا أقسم.

رحمة الله الواسعة

رحمة الله الواسعة Q في الحلقة الماضية قلت: لا إله إلا الله لها سبعة شروط من حققها دخل الجنة وقلت: سيأتي يوم القيامة إنسان بتسع وتسعين صحيفة مد البصر كلها معاصٍ لم يعمل خيراً قط، فيقول: لا إله إلا الله وتتطاير الصحف ويربح، فلماذا دخل الجنة على الرغم من أنه لم يعمل خيراً قط؟ A أذكرك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن إنساناً كان عابداً لله سبحانه، وآخر كان عاصياً لله سبحانه، هذا عابد طيلة عمره، وذاك عاصٍ طيلة عمره، فالعابد يمر على العاصي ويقول: اتق الله، اتق الله، ولا يزال يقول له ذلك حتى قال له العاصي مرة من المرات: دعني وربي، ما أرسلت علي بوكيل دعني وربي، فلما قال ذلك قال العابد: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: (من هذا الذي يتألى علي أن لا أغفر له! قد غفرت له وأدخلتك النار). فلا يسأل الله عما يفعل سبحانه، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فلابد من التأدب مع الله سبحانه وتعالى. والحديث الذي عند الترمذي ورواه ابن ماجة وفيه: (أن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفه والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء). فرحمة ربي العظيم عظيمة، ومع ذلك أخبرنا في الحديث أن من المؤمنين من يدخل النار قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له ثغاء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فذكر البعير وذكر الشاة، وذكر الفرس، وذكر الإنسان، وذكر الرقاع، وذكر الصامت: الذهب أو الفضة، فيقول: (يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لكم شيئاً قد بلغتكم) فهؤلاء الذين جاءوا يحملون هذه المظالم ويدخلون بها النار، لم يكونوا يقولون: لا إله إلا الله صدقاً، فهناك فرق بين هذا الإنسان الذي قال: لا إله إلا الله بعلم ويقين، وإقرار وصدق ومحبة فيغفر له بذلك ما كان من ذنوبه، وبين من قالها بغير توفر شروطها، والله أعلم من يستحق الجنة ممن قال: لا إله إلا الله ومن يستحق النار من أهل لا إله إلا الله، وفي رواية ل ابن ماجة قال: (فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول الله عز وجل: هل تنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: يا رب لا، فيقول: أظلمتك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول: ألك عن ذلك حسنة؟ فيهاب الرجل)، فالرجل يخاف يوم القيامة، فأعماله في تسعة وتسعين سجلاً، ولم يقل: كلها معاصٍ وكبائر، ولكن سجلات الإنسان يُكتب فيها كل ما فعله من مباح ومكروه وحرام وطاعات، فيها كل ما فعل الإنسان، فكأن هذا الإنسان عرضت عليه السجلات فكانت مليئة بالسيئات ولم يقل: لم تكن له حسنة قط، حتى الإنسان الذي جاء به ربه سبحانه وقال: أعملت خيراً قط؟ قال: لا، قال أهل العلم: من الدهشة والحيرة نسي، وإلا فالله عز وجل قد ذكره أنه عمل حسنة في يوم من الأيام، (أنه كان يبايع الناس فينظر الإنسان الموسر ويتجاوز عن المعسر، فالله عز وجل قال: نحن أحق بذلك منك فتجاوز عنه)، ومع ذلك قال الرجل: إنه لم يعمل حسنة ولم يعمل خيراً قط؟ فهنا لم يعمل خيراً قط في ظنه، إذْ نسي مع الدهشة والخوف، ولفظ الحديث قال: (سيخلص رجلاً من أمتي) هذه رواية الترمذي، ورواية ابن ماجة: (يصاح برجل من أمتي) فيخاف الإنسان ويفزع لما يصاح وينادى به أمام الخلائق، وتعرض أمامه السجلات ولا يعرف شيئاً، ويظن أنها كلها سيئات، والإنسان إذا نظر في الدنيا أنه عصى الله سبحانه وتعالى، وجيء به يوم القيامة وتذكر ذلك، ذهب وهله، وذهب ذهنه، وذهبت ذاكرته، فلا يتذكر خيراً فعله، مع كونه أمام رب العالمين سبحانه وتعالى، فهنا الإنسان الذي أتى بكلمة لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه مقراً موقناً بها محباً لها ولأهلها، محباً لله سبحانه وتعالى، راضياً بدينه، مخلصاً في عمله، هذا تنفعه فهذا الكلمة يوم القيامة حتى وإن أتى بمعاصٍ كثيرة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. وصل اللهم وسلم على محمد وآله وصحابته أجمعين.

من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

شرح كتاب فتح المجيد - من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه من أنواع الشرك لبس الحلقة والخيط والرقى والتمائم، وهذا الشرك قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، بحسب ما يكون في قلب اللابس لذلك، وقد جاءت الأدلة الكثيرة على النهي عن ذلك والزجر عنه، صيانةً للتوحيد، وحفظاً لجنابه.

حكم لبس الحلقة والخيط والرقى والتمائم

حكم لبس الحلقة والخيط والرقى والتمائم

العلة من تحريم تعليق الحلقة والخيط

العلة من تحريم تعليق الحلقة والخيط الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. الباب السادس في كتاب التوحيد وهو: [باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه. وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، رواه أحمد بسند لا بأس به]. هذا الباب هو: (من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه)، أي: أن يظن الإنسان أنه إذا وضع شيئاً من حجر أو نحوه في يده أو على مكان في جسده به مرض أن هذا الشيء يكشف هذا المرض، وقد يقول: إنه ليس هو الذي يكشف هذا المرض ولكن الله الذي يكشف هذا المرض، فيتعلق بهذه الحلقة أو بهذا الخيط الذي وضعه، وهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وإذا أخذ شيئاً وهو يعلم أنه لا ينفع ولا يضر فيجعله على مكان الألم يظن أنه ينفعه فهو من الشرك كذلك. أما تداوي الإنسان بالأدوية التي جعلها الله عز وجل أسباباً للشفاء فليس من هذا الباب، فإذا علق إنسان خرطوماً على يده يعتقد أنه يأتي له بالحظ أو ينفعه في المرض الذي هو فيه، فهذا لا ينفع ولا يضر وهو من الشرك، لكن لو علقوا له خرطوماً فيه محلولاً ووصلوه بالوريد، فالظاهر أن هذا خرطوم وذاك خرطوم، وهذا متعلق وذاك متعلق، ولكن الأسباب التي أجراها الله عز وجل: أن هذا فيه شفاء بإذن رب العالمين وفيه دواء معلوم، أما ذاك الآخر فهو وهم من الإنسان، فيعتقد شيئاً لا يكون حقيقة، كذلك حين يلف إنسان خرقة على يده ويعتقد أن هذه الخرقة تنفع أو تضر. فهذا من الشرك. كذلك لو أن إنساناً أصيبت يده فوضع حولها الشاش والقطن. فهذه خرقة كالأولى، لكن الأولى كانت من الشرك لاعتقاده أنها تنفع وتضر، وأما الثانية فاعتقاده فيها أنها سبب جعله الله عز وجل مداواة للجرح، وأجرى العادة على أنها تنفع إذا وضعها بهذه الطريقة، وهو أن يلف الجبس على رجله. ففرق بين ما أجرى الله عز وجل به العادة أنه ينفع تطبباً، وبين ما لم تجر العادة بذلك، فيعتقد الإنسان أنه ينفع ويضر، وهو من الشرك بالله سبحانه وتعالى، كمن لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه. فإذا كان يعتقد أنه إذا وضع ذلك في هذا المكان أن الله سيرفع البلاء، وقد كان أجرى الأسباب أن هذا يرفع البلاء بإذن الله عز وجل لم يكن شركاً بالعادة التي أجراها الله عز وجل لذلك، مثل الجبس الذي يلفه على يده. وإذا أخذ وتراً قديماً كان على بعير أو قوساً وأراد أن يعلقه على البعير معتقداً أن هذا الوتر سيمنع المرض عن هذا البعير فهذا ليس من التطبب وليس دواءً، وقد يزعم أن هذا الشيء يرفع المرض ولكن لم يأذن الله عز وجل بذلك الشيء أن يكون سبباً في رفع المرض قبل ذلك، وقد يكون من وراء ذلك اعتقاد آخر وهو أن هذا الشيء القديم سيجذب الجن حتى يأتوا لشفاء هذا المريض، سواء أظهر ذلك الاعتقاد أو أخفاه. كما يعتقد بعض الناس فيما يعلقه من تمائم وغيرها أن الجن يعينونه أو يصرفون عنه الضر، وهذا أشرك بالله؛ لأنه اعتقد أن غير الله ينفع مع الله، أو يرفع البأس مع الله سبحانه، وقد لا يكون البلاء موجوداً ولكنه علق حلقة من أجل أن تمنعه مما يأتي، وكما يحصل من بعض الناس إذا اشترى بيتاً جديداً فإنه يذبح خروفاً على عتبة البيت، ويعتقد أن الدم الذي يسيل من الخروف هو قربان للجن حتى لا يؤذونه في يوم من الأيام، وقد لا يعتقد ذلك، ولكنه يقلد من يفعل هذا الشيء بزعم أن هذا ينفع أو يضر، وهذا من الشرك بالله تبارك وتعالى.

وجوب اعتقاد أن النفع والضر بيد الله

وجوب اعتقاد أن النفع والضر بيد الله قول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى فيها أن الذي ينفع ويضر هو الله، ولا شيء ينفع ويضر مع الله تبارك وتعالى. وهذه الآلهة والأصنام التي عبدوها من دون الله سبحانه إذا سئلوا عنها قال أهل الجاهلية: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، أي: إن أصل عبادتنا لله، ولكن هذه وسائط بيننا وبينه، وهم بهذا اتخذوا وسائط لم يأمر الله بها، فهم يعتقدون أنها ستقربهم من الله عز وجل، وكأنهم اتخذوها شريكاً لله سبحانه وتعالى مع علمهم بأنها لا تنفع نفسها أو تضرها فضلاً عن غيرها. ((قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ)) متعجباً من هؤلاء وما يعبدون: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، أي: أن هذه الأصنام والآلهة التي يعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تضر، وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] هذه قراءة الجمهور، وقراءة البصريين أبي عمرو ويعقوب ((هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّه)) أي: هل تقدر أن تكشف الضر الذي يريده الله عز وجل بعبده؟ و A لا: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38]، وأيضاً فيها قراءتان: ((هل هن ممسكات رحمَتِهِ))، و ((هل هن ممسكات رَحْمَتَهَ)) أي: هل يقدرن على أن يمسكن رحمة الله سبحانه ويمنعنها؟ {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] أي: الله هو الذي يكفيني {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] أي: أنا من المتوكلين على الله، والله يتوكل عليه كل متوكل ويعتمد عليه وحده في إصلاح شأنه وفي نفعه.

حجة أهل الجاهلية في عبادة آلهتهم

حجة أهل الجاهلية في عبادة آلهتهم يقول مقاتل في معنى هذه الآية فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا: أي: أنهم لا يعتقدون ذلك فيها. يعني: لما أمر الله عز وجل أن يسألهم عن ذلك، فلم يقدروا على الجواب إلا أن يقولوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]؛ لأنهم لا يعتقدون أنها تنفع أو تضر، ولكن يقولون: إنها تقربهم من الله، فهي واسطة بينهم وبين الله بزعمهم. يقول الله سبحانه: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53]، أي: أن أهل الجاهلية في وقت الرخاء ونزول الخير يدعون غير الله ويتقربون إلى الآلهة، فإذا مسهم الضر لجئوا إلى الله وجأروا إليه، قال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] يجأر أي: يرفع صوته بالاستغاثة بالله سبحانه وتعالى، ويطلب منه أن يكشف عنه الضر. {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل:54] أي: بعد أن يرتفع عنهم هذا الضر بفضل الله يرجع فريق منهم إلى الإشراك بالله سبحانه.

آثار الشرك على صاحبه

آثار الشرك على صاحبه ذكر المصنف في الباب عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر)، والصفر: النحاس، فقال: (ويحك ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، الحديث معناه صحيح لكن إسناده ضعيف، فهو من رواية الحسن عن عمران، وقد قالوا: إن الحسن لم يسمع من عمران، وإن أثبت الإمام الحاكم أنه سمع منه، لكن في إسناده أيضاً مبارك بن فضالة، وهو إن كان صدوقاً لكنه يدلس ويسوي، والتسوية شر أنواع التدليس، فالحديث ضعيف حتى ولو كان الحسن سمعه من عمران، وقد ساق إسناد هذا الحديث قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك -وهو مبارك بن فضالة - عن الحسن قال: أخبرني عمران، وفي هذه الرواية أن الحسن سمع من عمران، وإن كان لم يسمع الأحاديث التي يرويها عن عمران أو عبادة أو غيره. لكنه سمع منهم بعض الأحاديث، وبعضها دلسها عنهم، فالأحاديث التي سمعها منهم يقول فيها: أخبرني ولكن قوله أخبرني لا تنفع في هذا الحديث؛ لأن الراوي هو مبارك بن فضالة ومبارك كان مدلساً شر أنواع التدليس وهو تدليس التسوية، وقد عنعن هنا في روايته عن الحسن وهذا هو سبب ضعف الحديث. ومعنى الحديث: أنه لو مات وعليه هذه الحلقة وهو يعتقد أنها تنفع وتضر مع الله تبارك وتعالى فقد أشرك بالله، ولا يفلح المشرك إذا لقي الله سبحانه وتعالى، والله يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، ويقول لنا في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وكأنه يريد أن يقول: ينبغي على الإنسان المؤمن أن يحافظ على عبادة الله سبحانه وتوحيده، وأن يلجأ إلى الله وليس إلى غيره.

الله الحافظ والمعين

الله الحافظ والمعين وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك حتى الصغار من أصحابه، ففي الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه يقول: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك)، وفي رواية عند أحمد قال: (يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت: بلى)، يا غليم تصغير له، فقد كان صغيراً رضي الله عنه، والغلام: هو الصبي الذي كاد يبلغ، وهو المراهق الذي راهق الحلم، وكان عمره حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة، وهذا يدل على أنه كان صبياً رضي الله عنه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين أن يعلموا أولادهم التوحيد فيشب الصغير وهو يعرف توحيد الله سبحانه ولا يشرك به شيئاً. قال في رواية الترمذي: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)، ومعنى: حفظك لله أي: حفظك لدين الله ولأوامره ونواهيه وذلك بفعل الأوامر وترك المناهي، وأن تخاف من الله سبحانه وتعالى، فأنت حينئذ حافظ لكتابه ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ومحافظ على دينك، فالله عز وجل يحفظك ويحافظ عليك، ومعنى: (احفظ الله تجده تجاهك)، أي: في كل مأزق وفي كل شيء صعب وقعت فيه تجد الله عز وجل معك يحفظك، (إذا سألت فاسأل الله)، هنا يعلمه التوحيد، وأن يدعو الله عز وجل ولا يدعو أحداً سواه، قال: (وإذا استعنت فاستعن بالله)، أي: اعتقد أن الذي ينفعك ويعينك هو الله سبحانه، ولم ينف أن يستعين الإنسان بغيره فيما لا يقدر عليه، فالمؤمن يجعل الله عز وجل وكيله ويكون اعتماده كله عليه سبحانه، ولا يمنع أن يجعل وكيلاً له من الناس يقوم ببعض حوائجه، فهذا معنى وذاك معنى آخر، فالوكالة في الدنيا: أن يقيم الإنسان شخصاً نائباً عنه في أمر يقدر عليه أو لا يقدر، فالوكالة مبناها على النيابة والأمانة، مع الاعتقاد أنه إذا طلب من الناس أن يعينوه في حمل شيء أو تيسير شيء من الأمور أنهم أسباب وأن الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر الجميع على ذلك، فهو نعم الوكيل، ونعم الناصر، وهو الذي يقدر الأقدار، ولا نافع ينفع معه ولا ضار يضر معه سبحانه، إذا اعتقد ذلك فلا مانع أن يستعين بالناس فيما سخر الله بعضهم لبعض، وفيما جعل الله فيه بعضهم لبعض سخرياً، ولابد من الاعتقاد كذلك أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العبد إذا أراد شيئاً والله لا يريده فإنه لن يكون، وإذا أراده الله يسره به أو بغيره، فنتيجة أي عمل يقوم به العبد الله هو الذي يملكها وحده لا شريك له.

قدرة الله فوق كل قدرة

قدرة الله فوق كل قدرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين يجيش الجيوش لقتال الكفار في سبيل الله كان يعتقد بقول الله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فعلى المؤمن أن يأخذ بالأسباب في نصرة دين الله وبجمع المؤمنين للجهاد في سبيل الله، ولكن لابد من الاعتقاد أن النصر من عند الله وليس بأيدي هؤلاء. لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصحح مفاهيم الصحابة حين يخطئ بعضهم في الفهم مثل سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين ظن أنه من الأقوياء، وحين ظن أن الأقوياء من الصحابة فضل في القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم سيفاً شديداً قوياً وقال: أعطني هذا السيف، لعلك تعطيه من لا يبلي بلائي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فضعه من حيث أخذته)، فلما ظن سعد أن له قوة وأن له عاملاً من عوامل النصر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، فهل هنا بمعنى النفي، أي: ما تنصرون إلا بضعفائكم. وربما يقول قائل: إن القوي هو الذي يقاتل ويقهر عدوه، ولكن الحديث يقول غير ذلك، وهو أنكم إنما تنصرون بالضعفاء، فالضعيف في وقت القتال أشد الناس دعاءً لله عز وجل وتضرعاً واستغاثة به سبحانه، فيأتي النصر مع دعاء هذا الضعيف، ويكون هذا النصر في الأصل من عند الله سبحانه القائل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]، فينبغي على المسلمين أن يأخذوا بالأسباب ويجمعوا الجموع للجهاد في سبيل الله، وأن يعتقدوا أن هذه الأسباب التي يسر الله عز وجل لهم النصر بها، ليست وحدها النصر إنما النصر من عند الله سبحانه وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، أي: لو اجتمع الناس أن يضروا إنساناً ما قدروا إلا بشيء قد قدره الله، فينبغي على الإنسان ألا يتحسر ولا يغضب ويقول: لو كان كذا لكان كذا، فالله قد قدر له هذا الشيء أن يكون فما عليه إلا أن يرد أمره إلى الله سبحانه ويصبر على ما ابتلاه الله عز وجل به، وليعلم أن هذا من قدر الله سبحانه، وما كان ليفر من هذا القدر أبداً.

النجاة في الاعتصام بحبل الله

النجاة في الاعتصام بحبل الله قال صلى الله عليه وسلم: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، (رفعت الأقلام)، يعني: على ما انتهى من علم الله سبحانه وتعالى، وهو أن فلاناً يعيش قدر كذا، ويموت في يوم كذا، ويفعل كذا وكذا، فكل شيء هو فاعله إلى أن يموت قد كتب عند الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ، و (جفت الصحف)، أي: بما هو كائن ومكتوب، فما سيفعله ويقوله كله مكتوب عند الله لن يزداد في قوله ولا عمله شيء فوق ما كتبه الله سبحانه في كتابه. وفي رواية أخرى للإمام أحمد بسند حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك)، وفي الرواية الأولى: (تجده تجاهك)، والمعنى واحد، (تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصبي الصغير أن يتعرف إلى الله في الرخاء وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سرك أن يستجاب لك في البلاء فأكثر من الدعاء في الرخاء)، رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله، وفيه أنك إذا أحببت أن يستجيب الله عز وجل لك عندما تنزل بك بلية أو مصيبة فأكثر من الدعاء وعود لسانك عليه في وقت رخائك، ولا تتركه أبداً لا في رخاء ولا بلاء، فإذا كنت على ذلك فالله عز وجل يستجيب لك. وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة)، أي: تعرف إلى الله في الرخاء والله يعرفك في كل وقت، ومعنى المعرفة هنا: أنك في الرخاء إذا أكثرت من الطلب والعبادة ففي وقت شدتك لا يتركك الله عز وجل ترك المنسي، ولن يعاملك معاملة المنسيين، فعندما ترفع يدك تدعو ربك سبحانه فإن الملائكة تعرف ما تصنعه فتدعو لك، ويعرف الله عز وجل لك صنيعك في وقت الشدة فيعطيك. قال: (وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن)، أي: كل ما ستفعله حتى تلقى الله مكتوب عند الله عز وجل، ومن المستحيل أن يزاد في ذلك؛ لأن علم الله عز وجل لا يتغير. فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، فالذي كتبه الله عز وجل لك هو الذي يصيبك فلا تبتئس إذا لم يأتك الشيء الذي تتمناه، وكم رأينا من أناس يتمنون بقاء الشيء، ويكتب شكاوى وطلبات والتماسات من أجل حاجة يريدها ثم لا يحصل على شيء، وقد يكون الذي لا يتمناه ولا يريده حتى يموت على ذلك. فعلى المؤمن أن يأخذ بالأسباب، ويعلم أنه لن يأتيه شيء لم يكتبه الله عز وجل ولن يمنع شيئاً قد أراده الله سبحانه وتعالى، الله عز وجل ما ينفعه من أمر دينه وديناه. يقول: (وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً)، يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصبي الصغير هذا الكلام العظيم، وهذه من الحكم النبوية الكريمة الجليلة حتى ينشأ هذا الصغير وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فينطق بالحكمة، ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنه حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله تبارك وتعالى عنه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).

الصبر على المكاره في ذات الله

الصبر على المكاره في ذات الله يقول: (وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً)، أي: إذا أصبت بمصيبة فاصبر لأنك لا تملك شيئاً غير الصبر، فإذا تضجرت أو جزعت فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع). وإذا صبرت فإن لك أجر الصبر، وإن جزعت فلن تنتفع بشيء، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: إن الإنسان إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سلو البهائم، فالإنسان الكريم يبتلى فيتجلد ويصبر؛ لأنه يعرف أنها أزمة وستمر، ولا يوجد أزمة تبقى دائماً، فالله سبحانه سوف يزيحها عنه؛ لأنه يتوكل على الله ويعتصم به، فهذا هو صبر الكرام. وإما أن تسلو سلو البهائم، معنى ذلك: أن البهيمة إذا ضربها صاحبها فإنها تصرخ وفي النهاية تسكت وتنسى بعد ضرب وصراخ كثير، فهذا سلو البهائم، وهكذا فالإنسان بين الاثنين إن صبر فله الأجر عند الله، وإن جزع فله الجزع. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن في الصبر على ما تكره)، ما يكرهه الإنسان ينبغي أن يصبر عليه، أما ما يحبه فإن حبه له سيدفعه إلى الصبر عليه، ولكن الصبر على المكروه فيه الخير والأجر الكثير. قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)، هذه أشياء جعلها الله عز وجل معلقة على أشياء أخر، فإذا صبرتم نصركم الله وإذا اشتد الكرب جاء الفرج من عند الله سبحانه، ولذلك كانوا يقولون: اشتدي أزمة تنفرجي، أي: كلما تشتد الأزمة ويضيق الأمر يقترن الفرج وتحين النهاية، ويقول ربنا سبحانه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]، فكلما جاء العسر جاء معه يسران؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5]، فالعسر أتى معرفاً باللام في الآية الأولى والثانية فهو هو، أما اليسر فقد جاء منكراً في الآيتين هذا يسر وهذا يسر آخر، ولذلك جاء في الحديث: (لن يغلب عسر يسرين).

الأسباب المشروعة للعلاج

الأسباب المشروعة للعلاج ما ذكر في حديث عمران بن الحصين أن الذي علقه كان من الواهنة، وقالوا: إن المقصود بالواهنة: عرق في منكب الإنسان يحصل فيه ألم يصل إلى أطراف الأصابع أو من العضد إلى اليد، فكانوا يعلقون له هذا الشيء، فليس من العلاج أن يضع الإنسان على يده ذلك؛ لأن الله لم يجعله من الأسباب، ولكن هناك أسباباً أخرى يمكن أن تريحه من هذا الألم كأن يأخذ إبرة مثلاً فهي سبب من الأسباب المشروعة التي أجرى الله عز وجل العوائد فيها أنها سبب للشفاء. أو يضع قطعة حديد على الألم ثم يوضع في هذا الحديد كهرباء وتمرر على تلك اليد، وينزل الله عز وجل بها النفع، وأيضاً التدليك فإن الله عز وجل أجرى في العادة أنه ينفع الإنسان، وعلى الإنسان أن يعلم أن الشفاء من عند الله جعله في هذه الخاصية التي كانت سبباً للنفع، أما أن يعتقد الإنسان أن الآلة التي استخدمها هي التي تنفع سواء أراد الله أم لم يرد فهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهذا الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فيعلق أحدهم الحديد أو الأوتار زعماً منه أنها تمنع المرض قبل أن يأتي، والإنسان قد يفعل أشياء من ذلك ولا يكون شركاً بالله سبحانه، كأن يأخذ مصل إنفلونزا عندما يأتي فصل الشتاء، فالعادة التي أجراها الله سبحانه أن هذه تنفع بإذن الله، وقد يأخذ المصل ويكون المصل نفسه سبب إصابته بهذا المرض، وهذا المصل هو مكروبات مضعفة توضع في الجسم، فالله عز وجل يجعل الجسم يقاومها ويفرز المواد التي تمنعها، فيبقى مستعداً لمقاومة أي شيء بعد ذلك، كأنه وضع عدواً ضعيفاً داخل الجسم فتقوى الجسم بصد هذا العدو، والذي قوى هذا الجسم هو الله سبحانه وتعالى، فهذا ليس من الشرك، فالإنسان قد علم بالتجربة أن هذا ينفع بإذن الله، وقد يحدث ذلك النفع وقد لا يحدث، أما مجرد أخذ الحديدة ووضعها في مكان معين حتى يذهب المرض فهذا كأنه توكل على هذه الحديدة وأنها هي التي تذهب المرض.

حكم تعليق التمائم

حكم تعليق التمائم قال: وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله ل)، وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)، والرواية الأولى ضعيفة والثانية حسنة، ومعنى الحديث صحيح، فإن من تعلق تميمة فقد أشرك، والتمائم كما يقول المنذري: هي خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات. كأن يعلق خرزة زرقاء في بيته، أو يعلق خمسة وخميسة، أو يعلق في سيارته قرن من أجل أن تمنع عنه ضراً يظن أنه سينزل به أو في بيته أو سيارته. فالاعتقاد أن هذه الأشياء تنفعه أو تدفع الضر وتمنع العين والحسد شيء لم يشرعه صاحب هذه الشريعة العظيمة، ولكن شرع لنا غيره، كقراءة آية الكرسي، والرقية بفاتحة الكتاب، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، فهذه رقية مشروعة، وتلك أشياء مخترعة مبتدعة لم يأمرنا الله عز وجل بها، بل نهينا عنها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي ينفع ويضر هو الله سبحانه، وهو الذي يشرع لنا أسباباً شرعية تمنع الضر عن الإنسان إلا إذا قدره الله عز وجل له، فمن استخدمها فقد وحد الله؛ لأنه أخذ ما أتاه من عند الله سبحانه تبارك وتعالى وعمل به معتقداً أن الله وحده هو الذي ينفع ويضر، ومن تركها وأخذ بغيرها فكأنه يعتقد أن هذا الغير له أن يشرع مع الله عز وجل، فيقول له: اعبد هذا الحجر، وتوكل على هذا الصفر، وضع هذه الحديدة في مكان كذا، فترك أمر الله وأخذ أمر غيره، وأشرك به سبحانه؛ لأنه اعتقد أن هذا ينفع ويضر وقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فوقع في الشرك من حيث لا يحتسب. وهناك رواية أخرى عند الإمام أحمد وصححها الشيخ الألباني رحمه الله عن عقبة بن عامر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد)، جاء هؤلاء الرهط للنبي صلى الله عليه وسلم يبايعونه فبايع تسعة منهم وأمسك عن العاشر لم يبايعه صلى الله عليه وسلم، (فقالوا: يا رسول الله! بايعت تسعة وأمسكت عن هذا)، أي: لم تبايع هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن عليه تميمة). فالرجل كان عليه تميمة وهي علامة الشرك، وجاء يبايع على التوحيد، قال: (فأدخل يده فقطعها)، كأن الرجل كان يلبس على رقبته قلادة قد وضع فيها خرزة أو غيرها، فأدخل يده فقطعها فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من تعلق تميمة فقد أشرك). هذا الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم، وعليه فإن معاني الأحاديث السابقة صحيحة، ولكن الذي صح لفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم هو هذا الحديث الأخير وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك). يقول: [ولـ ابن أبي حاتم عن حذيفة -هذا موقوف على حذيفة رضي الله عنه-: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]]، وفي رواية عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيراً فقطعه أو انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فكأن حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل دخل على المريض الذي أصابته الحمى وقد ربط على ذراعه ربطتين ففهم حذيفة أن هذا الرباط وضعه الرجل من أجل أن يمنع الحمى، ولم تجر العادة أن الحمى تذهب بمثل ذلك، إنما الذي جرت به العادة أن يوضع المريض في إناء فيه ماء، وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن الحمى من فيح جهنم، وأن هذا الماء يطفئ نار الحمى، أما أن يعلق خيطاً على يده فكأنه اعتقد أن هذا الخيط ينفعه من هذه الحمى مع الله عز وجل، فـ حذيفة أخبره أن هذا من الشرك، قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. وروى وكيع عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده فوجد بها خيطاً فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، أي: أن الخيوط أو السيور كان يقرأ عليها، أو يدعى بدعوات أو غير ذلك، ثم تعطى له فيعلقها، ويظن أن الخيوط هي التي تنفع وليس الله سبحانه، وهذا لم تأت به الشريعة إنما الشرع هو أن تدعو للمريض أو تقرأ وتنفخ عليه. فقطع حذيفة ذلك وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك، أي: لو أنك مت والخيط على يدك لما كنت صليت عليك.

ما جاء في الرقى والتمائم

ما جاء في الرقى والتمائم قال: [باب ما جاء في الرقى والتمائم]. وهذا كالباب السابق الذي ذكر فيه أن من الشرك لبس الحلقة والخيط والتميمة والودع وما يعلق في البيوت أو السيارات ونحوها من الشرك بالله سبحانه وتعالى. الرقى: جمع رقية وهي أن يرقي إنسان آخر، كأن ينفث عليه بقراءة قرآن أو بدعاء معتقداً أن الله هو الذي يشفي، وآخذاً بأسباب مشروعة ليست ممنوعة، فيشفيه الله عز وجل بإذنه. والتمائم كما جاء في البخاري ومسلم عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً ينادي في الناس: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت). قوله: (لا يبقين في رقبة بعير قلادة)، القلادة: ما يقلد به الإنسان أو الدابة، أي: يجعل قلادة حول عنقه من حبل أو سلسلة أو نحوه. قوله: (من وتر أو قلادة إلا قطعت)، الوتر: هو الذي يكون في القوس بحيث يشده ويرمي به السهم. وكان أهل الجاهلية عندما يبقى عند أحدهم قوس يقطع منه الوتر القديم ويستبدله بآخر جديد، وهذا الوتر القديم فيه بركة فيربطه حول رقبة البعير حتى يمنع منه العين، وقد توارث الناس هذه العادة حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من معه فعلوا ذلك فأرسل إليهم: (أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر)؛ لأن الأصل أن تكون القلادة من وتر ثم عمم فقال: (أو قلادة إلا قطعت).

الهدي النبوي في القلائد

الهدي النبوي في القلائد الممنوع أن توضع القلادة بهذا الاعتقاد، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قلد هديه صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، فوضع قلادة من صوف فيها نعلان في رقبتها تكون علامة عليها إذا ضلت حتى تعرف أنها هدي للبيت فإذا وجدها أحدهم فإما أن يوصلها إلى البيت الحرام أو يذبحها إذا كانت بعيدة ويوزعها على الفقراء، هذه هي فائدة القلادة، والإشعار كذلك أن يأتي على سنام الجمل ويشق فيه بحديدة شقاً خفيفاً فإذا سال منه الدم مسح على سنام الجمل بحيث يكون واضحاً يعرف بذلك، فإذا ضلت ووجدها أحدهم عرف أنها هدي فيذبحها ويوزعها على الفقراء في ذلك المكان، وهذا هو السبب الذي من أجله قلد النبي صلى الله عليه وسلم البعير بنعلين وشق سنامه.

قلائد أهل الجاهلية وعلة تحريمها

قلائد أهل الجاهلية وعلة تحريمها أما القلائد التي كان يضعها أهل الجاهلية وبقيت إلى أن جاء الإسلام حتى نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت توضع لدفع الضر والحسد عن المال أو الجمل. وقد جاء عن الإمام مالك أنه سئل عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر، وكأن الإمام مالك يعني أن القلادة الممنوع منها هي الوتر فقط، والحديث ذكر المنع من الوتر أو أي قلادة أخرى، ولم يكن هناك فرق عند أهل الجاهلية بين أن تكون القلادة من وتر أو حبل يلف حول رقبة البعير أو نحوه يضعه في يده، فكلها مثل بعضها، فإن علقها في الرقبة كانت قلادة، وإن علقها في اليد كانت أساور، لا فرق بين ذلك كله طالما أن الاعتقاد أنها تنفع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أي مظهر من مظاهر الشرك، والذي جعل الإمام مالك رحمة الله عليه يقول: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر، هو تأدبه مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه أنه قلد هديه، وأيضاً ما جاء عن السيدة عائشة قالت: كنا نفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الإمام مالك خشي أن يظن أن القلادة ممنوعة، ومن ثم يأتي إنسان ويقول: إذاً كيف قلد النبي صلى الله عليه وسلم هديه؟ فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر، وكأنه يقصد أن غير الوتر من القلائد جائز على الصورة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يكون علامة للبعير حتى إذا ضل عرف الناس أنه هدي، ولا يعني من ذلك ما كان يفعله أهل الجاهلية، فهذا كله حرام بسبب الاعتقاد أن هذه تنفع أو تدفع الضر، وهذا هو القياس الصحيح الذي يحمل عليه قول الإمام مالك رحمه الله.

أقسام الرقى والتمائم وحكمها

أقسام الرقى والتمائم وحكمها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود والحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله. والرقى تنقسم إلى: رقية مشروعة كالرقية بفاتحة الكتاب والإخلاص والمعوذتين وغير ذلك من الأدعية المعروفة، وهذه ليست مقصودة في هذا الحديث، والقسم الثاني: الرقية المخترعة الممنوعة، وهي من رقى الجاهلية والتي فيها استعانة بغير الله من الجن ونحو ذلك، هذه هي التي قصد النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشرك بالله سبحانه. والتمائم: جمع تميمة، وهي الخرز الذي كانوا يجعلونه على أعناقهم أو أولادهم أو دوابهم يزعمون أنه يمنع الحسد، ويشفي من المرض، وينفع ويضر، فهذه العادة ومثلها مما يصنعه الناس من تعليق خرز أو خمسة وخميسة أو نحو ذلك ويزعمون أنه ينفع أو يضر كله من الشرك بالله.

معنى التولة وحكمها

معنى التولة وحكمها والتولة: سحر وهو أن تذهب المرأة إلى الساحر ليجعل لها سحراً يزعم أنه يحببها إلى زوجها فلا يتزوج عليها، وهذا من الشرك بالله سبحانه، وقد قال الله سبحانه عن هاروت وماروت: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، فمن السحر ما يفرقون به بين الرجل وأهله، ومنه ما يقربون به بزعمهم بين الرجل وأهله، وهذا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه من الشرك بالله سبحانه وتعالى. روى أبو داود: عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود وكان عبد الله بن مسعود رجلاً من الصحابة الأفاضل ومن فقهاء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وزوجته كانت من أغنياء الناس ومياسيرهم، وهي التي ذهبت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل من الممكن أن تعطي زكاتها لزوجها؟ فاستحيت أن تسأل هي بنفسها، فأرسلت من يسأل، فقال: (أي الزيانب؟ فقالوا: امرأة ابن مسعود فقال: لها أن تفعل ذلك)، وهو أن تعطي الزكاة لزوجها وأنه أحق من غيره. فـ زينب رضي الله عنها قالت: إن عبد الله رأى في عنقي خيطاً، أي: معلقاً في رقبتها ومن الممكن أن يكون لحاجة تريدها، ومن الممكن كذلك أن تعلقه اعتقاداً من الاعتقادات الشركية، فقال: ما هذا؟ قالت: خيط رقي لي فيه وهذا من الأسباب الممنوعة والغير مشروعة، وهو أن يؤتى بخيط ويرقى فيه بأي شيء ثم يعلق هذا الخيط وكأنه الذي ينفع ويضر. قالت زينب: فأخذه ثم قطعه، أي: من رقبتها، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، وفي رواية: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك. وفي رواية أخرى عند ابن ماجة أن زينب زوجة عبد الله بن مسعود قالت: كانت عجوز تدخل علينا من الحمرة، وكان لنا سرير طويل القوائم، وكان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوت، وصوت أي: رفع صوته شيئاً بحيث لا يزعج أهل البيت، وهذا من الأدب، فالرجل إذا دخل بيته ينبغي عليه ألا يدخل عليهم فجأة فقد يكونون على هيئة يستحيون أن يراهم عليها، فيشعرهم بصوته أنه دخل، والأفضل أن يدخل ويسلم. قالت: فلما سمعت العجوز صوته احتجبت منه، فجلس إلى جانبي، فمسني فوجد خيطاً فقال: ما هذا؟ فقلت: رقي لي فيه من الحمى، فجذبه فقطعه، وكأن هذه المرأة العجوز هي التي رقت رقية في هذا الخيط وعلقته في رقبتها، فبعد أن قطع هذا الخيط قال رضي الله عنه: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، فهذه من الشرك بالله سبحانه.

من صور الرقى الشركية

من صور الرقى الشركية الرقية الشركية هي أن ترقي على عود أو حبل وتعلقه، قالت زينب: فقلت: لقد كانت عيني تقذف، أي: تقذف بالدمع وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، أي: أذهب إليه، فإذا رقى سكنت، وهذه فتنة يختبر الله بها عباده هل سيثبتون على الإيمان أم لا، ومثلها أن يقال: إن فلاناً فيه صرع، وعندما يذهبون به إلى الكنيسة يذهب عنه الصرع، وعندما يأتي للصلاة يركبه العفريت ولا يدري كيف يصلي. وهذا ابتلاء وفتنة لأنه لم يتوكل هو وأهله على الله، إنما توكلوا على اليهود والنصارى فأضلهم الله سبحانه وتعالى، فعندما قالت زينب ذلك قال لها عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، فإذا كف اليهودي عن الرقية كان ينخسها بيده، أي: أن الشيطان هو الذي يفعل ذلك من أجل أن يأخذ منك أعظم شيء وهو التوحيد فتصيري مشركة، قال: إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً). كأنه يقول هنا: إن الشيطان كان ينخس بإصبعه في عينك ويفعل هذا الشيء. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم مثل هذا المعنى في قوله: (ما من مولود إلا والشيطان ينخس بإصبعه في جنبه، فيستهل صارخاً إلا ما كان من مريم عليها السلام وابنها المسيح عليه الصلاة والسلام، لما أتى الشيطان ليفعل ذلك جعل الله عز وجل حاجزاً وحجاباً بينه وبينهما، فما استطاع أن يفعل شيئاً)؛ لذلك كانت السنة أن المولود حين يولد يؤذن في أذنه، فأول ما يسمع الأذان وما فيه من كلمات التوحيد التي يسمعها الشيطان فيفر، والشاهد من هذا: أن ابن مسعود ذكر أن الشيطان كان يأتي وينخس بإصبعه في عين زوجته زينب فإذا رقى هذا اليهودي فإن الشيطان يبعد إصبعه عن عينها؛ وذلك حتى تعتقد أن رقياه تنفع وتضر، ثم قال لها: إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)، والحديث صحيح.

الرقية المشروعة وشروطها

الرقية المشروعة وشروطها جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في الرقية من العين والحمى، وإذا كانت الرقية تجوز من العين والحمى فهي جائزة في غير ذلك، ولابد أن تكون الرقية المشروعة بما جاء من القرآن أو من السنة أو بأدعية مفهومة معلومة، أما أن تكون بشيء لا يفهم ولا يعلم فهذا غير مشروع. جاء في صحيح مسلم عن عوف بن مالك أنه قال: (كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ قال: اعرضوا علي رقاكم)، ومعنى قوله: في الجاهلية: ما جاء من الرقى قبل القرآن والسنة، وقوله صلى الله عليه وسلم لهم: (اعرضوا علي رقاكم)، يريد أن يعلم ما هو الدعاء الذي يقولونه في الرقية. فعرضوا عليه الرقى التي كانوا يقولونها في الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)، إذاً: الرقية أن تدعو بدعاء مفهوم ليس فيه شرك، فبدل ما تقول: أذهب البأس يا رب الناس، تقوله: يا رب اشفه أو غير ذلك طالما أنه ليس في دعائك شرك.

الهدي النبوي في الرقى

الهدي النبوي في الرقى يقول الإمام الخطابي رحمه الله: كان عليه الصلاة والسلام قد رقى ورقي، فرقته في مرضه السيدة عائشة فكانت تأخذ بيديه صلى الله عليه وسلم وتنفخ فيهما بـ ((قل هو الله أحد)) و ((قل أعوذ برب الفلق)) و ((قل أعوذ برب الناس)) وتمسح جسده بيده الكريمة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الرقية وأجازها، وقد استرقوا لبني فلان من العين، فأمر أن يرقوهم. فإذا كانت الرقية بالقرآن أو بأسماء الله تعالى فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب؛ لأنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله شرك. يقول الشارح: ومن ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي كانوا يتعاطونها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به، وذلك كما يسمع من بعض الصوفية كلمات غير مفهومة في الرقية فتجد البعض يرقي ثم يقول: هذه البرهاوتية الصغرى أو البرهاوتية الكبرى، وهذه فيها اسم الله الأعظم، ولو فرضنا أن فيها اسم الله الأعظم سبحانه وتعالى فما الذي يجبرك على أن تدعو بها وليست بلغتك؟ وما يدريك أن فيها اسم الله الأعظم وأنت لا تفهم لغة هؤلاء، فقد تكون أدعية بالسريانية كما يذكر الشارح هنا حيث يقول: وذلك مثل قول أرباب الصوفية في أورادهم كركداً دهده أصبأ أهيا شراهية جلجلوت. وهذه كلمات لو فرضنا أن لها معنى عند أهلها، فما يدرينا أن هذا المعنى ليس من الكفر والاستعانة بغير الله سبحانه. والقرآن قد جاء فمنعنا أن نأخذ من غيره، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً أو صحيفة كتبها له بعض اليهود، قال: ما هذه؟ قال: صفحة من التوراة كتبها لي فلان أتعظ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليه: (أترجون أن يهدوكم وقد أضلهم الله)، أي: كيف يهدونكم وقد أضلهم الله، (والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وذلك أن القرآن قد نسخ كتاب موسى والكتب التي في أيدي اليهود، وفيه أضعاف أضعاف ما فيها من الحق، والحق الذي فيها منسوخ بالقرآن، فلا يجوز لإنسان مسلم أنه يتعاطى مثل هذه الرقى التي بغير كتاب الله سبحانه وبغير اللغة العربية. يقول السيوطي رحمه الله: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: الأول: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته. الثاني: أن تكون باللسان العربي، فلا تجوز الرقية بما كان في التوراة من لغة سريانية. الثالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، أي: أنت ترقي ولكن الذي ينزل الشفاء هو الله سبحانه وتعالى، فإذا شاء شفاه، وإذا لم يشأ لم يشفه، وعلى قدر يقين الراقي على قدر ما يأتي من فرج الله وفضله سبحانه وتعالى، وهذا من أهم الأشياء التي ينبغي أن تعتقد في الرقية.

حكم تعليق آيات من القرآن على المريض

حكم تعليق آيات من القرآن على المريض يقول المصنف رحمه الله: التمائم: شيء يعلق على الأولاد عن العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، أي: إذا كان يعمل كحجاب للناس فهذا حرام لا يجوز، أما إذا كتب آية وعلقها على المريض أو وضع مصحفاً بجوار هذا الإنسان المريض، فالراجح أنه ليس من الشرك، ولكنها لم تكن الوسيلة التي شرعها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك ذكر بعض السلف عن عبد الله بن عمرو أنه كان يفعل ذلك بآية الكرسي، فكان يعلمها من كبر من أولاده، ومن كان صبياً يكتبها في لوح ويعلقها له، قال بعضهم: يعلقها له من أجل أن يحفظها؛ لأنه كان صبياً صغيراً، فالكبير كان يحفظه إياها والصغير يعلقها له. فهذا العمل وإن صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لكنه مختلف فيه، والأرجح أنه لا ينبغي أن يفعل ذلك سداً للذريعة، وذلك أن بعضهم سيكتب آيات ويضعها في جيبه أو يعلقها، والثاني سيكتب حجاباً والثالث سيقول: فيه خاتم سليمان، فينفتح بذلك باب الشرك، فينبغي منعه سداً للذريعة، ويعلم الناس كيف يدعون الله عز وجل بما جاء في القرآن، وبما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الرقية، أو بما دعت به العرب بلسانهم وخلا من الشرك بالله سبحانه. يقول المصنف رحمه الله: [والرقى هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمى]. أي: أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من العين، وقال: (لا رقية إلا من عين أو حمى) أي: لا رقية أنفع من رقية العين أي: الحسد، والحمى: العقرب التي تلسع الإنسان، فإذا رقي فالله عز وجل يذهب ذلك عنه، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالرقية، وأنه رقى نفسه، فكان إذا نام صلى الله عليه وسلم رقى نفسه بالمعوذات كما سبق. يقول المصنف رحمه الله: [والتولة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته، وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه)]، والحديث حسنه الشيخ الألباني رحمه الله، وفيه: أن الإنسان الذي يتعلق شيئاً من تميمة أو ودع ويظن أن هذا ينفع مع الله عز وجل أو يضر أو أنها أسباب يجوز دفع المرض بها. يقول: (وكل إليه)، أي: يتركه الله سبحانه ينتظر الشفاء من هذا الذي علقه.

حكم من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع أو عظم

حكم من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع أو عظم روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع: لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء منه)، والحديث صحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن صنع هذه الأشياء، وقوله: (لعل الحياة تطول بك)، قالوا: فيه علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث طالت حياة رويفع إلى أن مات في سنة ست وخمسين رضي الله تبارك وتعالى عنه، أي: أنه عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستاً وأربعين سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومات ببرقة وهو أمير عليها وهو أنصاري رضي الله تبارك وتعالى عنه، قوله: فأخبر الناس أن من عقد لحيته، تعقيد اللحية كان من أفعال أهل الجاهلية التي يتعاظم ويفتخر بها بعضهم على بعض، فكانوا يظفرون اللحى كبراً، أو أنه من زي الأعاجم حيث كانوا يصنعونه تكبراً وعجباً فيفتلونها ويعقدونها، أو أن المعنى: أن الإنسان يعالج شعر لحيته كنوع من التفخيم لنفسه ليتعقد ويتجعد، قالوا: وهذا من أفعال أهل التأنيث، كالذي يهتم بشعر رأسه وشعر لحيته ويكثر من تسريحه فكأن هذا الأمر للنساء ليس للرجال، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا كله في اللحية وشعر الرأس. وكذلك حلق بعض الشعر وترك بعضه من أفعال أهل الجاهلية، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع وهو موجود الآن بكثرة بين الناس وهم يقلدون بصنيعهم هذا الغرب الكافر في صنيعهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الذي يصنع ذلك متشبهاً بالكفار أو مستكبراً على المؤمنين أنه بريء منه، قال: (فإن محمداً بريء منه). وقوله صلى الله عليه وسلم: (من عقد لحيته أو تقلد وتراً)، أي: أخذ الوتر ووضعه في الجمل من أجل أن يأتي له الحظ وحتى لا يحصل له مكروه، وقس على ذلك ما يلبسه الناس من أشياء يزعمون أنها تجلب الحظ، فبعضهم يلعب كرة ثم يضع تميمة من أجل أن تأتي له بالحظ ويغلب فيها، وهذه أشياء ذهبت بعقول المسلمين عن دين رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: (أو استنجى برجيع دابة)، نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فالدابة إما أن تكون مأكولة اللحم أو غير مأكولة اللحم، فإذا كانت غير مأكولة اللحم فالرجيع الذي يخرج منها نجس، فإذا استنجى إنسان بنجاسة فقد زاد النجاسة نجاسة، وهذا لا يجوز، ومن نجس نفسه متعمداً فقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان رجيع دابة مأكولة اللحم مثل البقرة فروثها طاهر، ولكن إذا استنجى به لوثه على دواب الجن، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العظام ورجيع الدواب المأكولة اللحم التي ذكر اسم الله عز وجل عليها يصير طعاماً للجن ولدواب الجن، وكل عظم ذكر اسم الله عز وجل عليه فإنه يصير لحماً مرة أخرى، ويكون طعاماً للجن، وقد طلب الجن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم طعاماً فأباح لهم كل عظم ذكر اسم الله عز وجل عليه يرجع إليهم أوفر ما يكون لحماً، فالذي يأخذ هذا العظم وينجسه فلا يأمن أن يدعو عليه الجن أو يفعلون به شيئاً فالطعام الذي أباحه النبي صلى الله عليه وسلم للجن يحرم على هذا الإنسان أن ينجسه، وإلا فقد برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم لدواب الجن رجيع دواب المسلمين يكون طعاماً وعلفاً لها، فالذي يستنجي بذلك كأنه يقذره عليهم ويمنعهم من استخدامه فاستحق أن يبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم.

ثواب من قطع تميمة من إنسان

ثواب من قطع تميمة من إنسان يقول المصنف رحمه الله: [وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة]، كأن سعيد بن جبير قاله من عنده أو أنه رفعه، فلو رفعه يكون مرسلاً، والمرسل هو مرفوع التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا من كلام سعيد بن جبير فليس له حكم المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة أنه لم يقل: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال لحكم عليه بالضعف؛ لعدم وجود الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقطوعاً والله أعلم.

من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

شرح كتاب فتح المجيد - من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما التبرك هو طلب البركة، وقد يكون مشروعاً وقد يكون ممنوعاً، فمن المشروع التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآثاره، ومنه طلب الدعاء من الصالحين؛ لأن السنة قد وردت بذلك. ومن الممنوع التبرك بآثار الصالحين، أو بقبورهم، وبالأشجار والأحجار وغيرها، وكثير من علماء وأئمة السلف لم يكفروا كثيراً من أهل البدع ممن اعتقد بأن التبرك بهذه الأشياء ينفع أو يضر مع أنهم قد يقعون في الكفر، فعذروهم لجهلهم، أو لأنهم متأولون فيما يعتقدونه ويفعلونه.

التبرك المشروع والتبرك الممنوع

التبرك المشروع والتبرك الممنوع بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال المصنف رحمه الله في كتاب التوحيد: [باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما. وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]. وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن. قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] لتركبن سنن من كان قبلكم) رواه الترمذي وصححه. هذا هو الباب التاسع في كتاب التوحيد، وفيه من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما. والتبرك هو: طلب البركة، وتفعل تفاعلاً: طلب شيئاً من آخر، فهنا التبرك: التفاعل الطلب، وهو أن يطلب البركة من غيره. والتبرك إما أن يكون بما جاء من كتاب الله سبحانه، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتطلب البركة باتباعك لكتاب الله، واتباعك لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وحبك لذلك، وبركة عظيمة أن تقرأ القرآن وتعمل به، وتقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتعمل بها. أو تتبرك بآثار من آثار النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد ثبت أن الصحابة كانوا يتبركون بآثاره صلوات الله وسلامه عليه، فإذا طلب الإنسان البركة من غير ذلك، فقد طلب الشيء ممن لا يقدر على تحقيقه، ولا يجوز لإنسان عاقل أن يفعله، فإذا ذهب إنسان إلى شجرة أو حجر واعتقد أن في هذه الشجرة بركة، أو أن في هذا الحجر بركة، وطلب منه شيئاً، فليعلم أن هذه الحجرة أو الشجرة لا تملك لنفسها شيئاً حتى تملكه لغيرها. ولما كان اتباع القرآن عبادة لله سبحانه وتعالى قال لنا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. وأصل البركة آتية من السماء ومن الأرض بأمر الله سبحانه وتعالى، فلا تأتي البركة إلا عن طريق أسباب شرعية، كالإيمان والتقوى، فالله يأمرنا بالإيمان، ويأمرنا بالتقوى حتى تأتينا البركة من السماء ومن الأرض. وتكون البركة باتباع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وبطاعته صلى الله عليه وسلم تفتح البركة من السماء والأرض، وقد جعل الله عز وجل في النبي صلى الله عليه وسلم خصائص عظيمة منها: أنه صلوات الله وسلامه عليه فيه بركة من الله سبحانه، فيدعو بالشيء فيتحقق بفضل الله عز وجل، ويتفل على شيء فيتحول بفضل الله عز وجل إلى شيء مبارك، فالله جعل البركة في ريقه وفي دعواته صلى الله عليه وسلم وفي رقيته عليه الصلاة والسلام وفيما يلبسه ويلامس بدنه صلى الله عليه وسلم، أما ثوب غير النبي صلى الله عليه وسلم فهو كغيره من الأثواب، لا نفع من ورائه إلا أن يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم فيكون فيه من أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فيجوز لنا أن نتبرك بذلك، فالصحابي يجد النبي صلى الله عليه وسلم يلبس ثوباً فيطلبه منه، ويقول: ما طلبته إلا ليكون كفناً لي؛ لأن الثوب مسه جسد النبي الطاهر صلوات الله وسلامه عليه فرجا البركة من ذلك. ولما كان الصحابة حول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحديبية تنخم فسقطت نخامته في يد أحدهم فأخذها ليمسح بها وجهه ويديه تبركاً بأثر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك إقراراً له. ولكن لا يجوز أن يفعل هذا من غير النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: تطلب البركة مما جاء من عند رب العالمين سبحانه وتعالى من كتاب وسنة، كذلك من آثار النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أن الصحابة فعلوا ذلك. ولا يجوز لإنسان أن يطلب البركة من غير النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يقصد بذلك الدعاء كأن يطلب من فلان أن يدعو له مثلاً، فدعاؤه بركة، فيرجو الفضل من الله عز وجل ببركة دعاء هذا، فهذا فعله الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما كانوا يستسقون فيطلبون من بعضهم أن يدعو الله عز وجل، وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه حين أمر العباس بن عبد المطلب أن يدعو لهم، وهذا توسل إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء. فطلب البركة أو الوسيلة بالسبب المشروع جائز، وبالسبب غير المشروع لا يجوز. فمن الأشياء الممنوعة أن تطلب البركة من حجر، أو من شجر، وهذا فعل المشركين الذين كفرهم الله عز وجل، وأخبر أنه لن يقبل أعمالهم ولن يغفر لهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].

تحريف مشركي العرب لأسماء الله سبحانه وتعالى

تحريف مشركي العرب لأسماء الله سبحانه وتعالى قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]. فقوله: (أَفَرَأَيْتُمُ) بمعنى: أخبروني عن هؤلاء: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى)، أي: القسمة بهذه الطريقة غير مرضية عندكم أنتم كبشر. وفي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قراءات، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى)، بتشديد التاء كأنه اسم فاعل، ولكل قراءة تفسير، فالقراءة الأولى بالتخفيف وهي قراءة جمهور القراء، فمعناها: أنهم حرفوا أسماء الله سبحانه وتعالى، وادعوا له الإناث، وهذه هي القسمة التي وصفها الله عز وجل بأنها قسمة ضيزى، فقال: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]، أي: قسمة فاسدة وجائرة كاذبة، وقسمة ظالمة لا يرضاها الإنسان لنفسه، فضلاً عن أن يرضاها لله سبحانه وتعالى، وهي قولهم: هؤلاء الذكور لنا، وهؤلاء الإناث لله سبحانه. تعالى الله عما يقولون علواً كبير، فهؤلاء المشركون ألحدوا في أسمائه سبحانه وتعالى، فحرفوا اسم الله وقالوا: اللات. والأصل هو الله، إلا أنهم جعلوا هذا الاسم أنثى فقالوا: (اللَّاتَ)، وسموا بها صنماً من أصنامهم، وكذلك (العزى)، شجرة من الأشجار، قالوا: إنها بدل العزيز، وكذلك مناة الثالثة الأخرى. فحرفوا أسماء الله سبحانه وتعالى وأطلقوها على أصنام لهم، يقولون: إن اللات صنم كانت لثقيف كما سيأتي. و (العزى) كان لقريش، وبني كنانة، و (مناة) لبني هلال، وقيل: كانت لهذيل وخزاعة. يقول الأعمش: سموا (اللَّاتَ)، من الإله، والعزى من العزيز، قال الطبري: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى فقالوا: اللات مؤنثة منه. وقالوا: الأصنام بنات الله، وأخذوا لأنفسهم الذكور، ودفنوا بناتهم في التراب لأنهن يجلبن لهم العار بزعمهم، فرفضوا البنات وجعلوها لله عز وجل، فجعلوا الأصنام على أسماء الإناث، وقالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات لله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. يقول: وقالوا كذلك: (العزى) من العزيز، يقول ابن كثير: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة في بيت في الطائف مغطاة بأستار ولها سدنة، وحولها فناء عظيم معظم عند أهل الطائف، فأهل ثقيف ومن تبعهم يفتخرون بها على غيرهم من العرب. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدم هذا البيت وحرقه بالنار، فأهل الكفر كانوا يعبدون أصناماً، وهذه الأصنام أو الأوثان كانت على هيئة جسد، أو على هيئة شجر، أو على هيئة بيوت أو صخر عظيم، وأصل هذه الصخرة كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كانت عند رجل يلت بها السويق للحجيج، فلما مات عكفوا على قبره، وهذا ذكره الإمام البخاري، وقال ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة، ويسلؤه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف الصخرة إعظاماً لصاحب السويق. وهناك روايات أخرى لهذه القصة وهي أن الرجل كان يصنع طعاماً للحجيج ليكرمهم فكانوا يحبونه، فلما توفي هذا الرجل عبدوا الصخرة التي كان يصنع عندها السويق، وهذا يدل على خفة عقولهم، فكيف يعبدون صخرة كان يعجن عليها الطعام؟! وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنه: كان الرجل يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، والسويق هو دقيق الشعير، أو دقيق السلت، وهو نوع من أنواع الحبوب بين الشعير وبين القمح، فكان يصنع لهم السويق ويعجنه بلبن، وبعد ذلك يغلبه، ثم يعطيه للحجيج، فكانوا إذا أكلوا منه يسمنون، فزعموا أن له فضلاً وعبدوا هذا المكان الذي كان يجلس فيه الرجل من دون الله سبحانه وتعالى فهذه هي اللات. إذاً: (اللَّاتَّ) بتشديد التاء، وهو الرجل الذي كان يلت السويق. واللَّات بتخفيف التاء هي الصخرة التي كانت تعبد من دون الله، فعبدوا الصخرة وعبدوا الرجل من دون الله سبحانه. أما وَالْعُزَّى فيقول ابن جرير الطبري: كانت شجرة عليها بناءٌ وأستار بين مكة والطائف في موضع اسمه نخلة يمر به الحجيج، وكانت قريش يعظمونها ويعبدونها من دون الله، ولذلك قال أبو سفيان للمسلمين في يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: بماذا نجيبه؟ فقال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم). فالعزى لا تنفع ولا تضر ولكن الله سبحانه وتعالى هو ولينا وهو الذي ينصرنا، وليس لكم نصير من دون الله سبحانه وتعالى. وجاء في الحديث الذي رواه النسائي، وابن مردويه من حديث أبي الطفيل: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، وكانت على ثلاث سمرات، -والسمر شجر الشوك- فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أرجع فإنك لم تصنع شيئاً، فرجع خالد رضي الله عنه فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى! يا عزى!) يدعون العزى من دون الله سبحانه، والسادن يطلق على خادم المعبد، فهؤلاء السدنة أمام هذه الشجرة أو هذا البيت. قال: (فأتاها خالد بن الوليد رضي الله عنه فإذا هي امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعلاها بالسيف فقتلها، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك العزى)، يعني: كأن هذه المرأة كانت كاهنة، فتجلس بداخل هذا البيت، فيأتون إليها وينادونها فتجيبهم فيظنون أن هناك إلهاً في هذا البيت، ويسألونها فتصدق في أشياء -كما ذكرنا قبل ذلك أن الشياطين يلقون عليها ما يأتون به من خبر السماء، ويزيدون في الخبر الصادق مائة كذبة فتكذب هي بهذه الأخبار وربما تصدق- فتكون فتنة للعباد. والحديث رواه الطبراني وفيه يحيى بن المنذر اختلفوا في توثيقه وتضعيفه. وأما (مناة) فكان بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وهو الإله الثالث، وكأنه تحريف لأسم من أسماء الله سبحانه: المنان، فسموا هذا الصنم منان، ثم أدخلوا عليه التأنيث. وقيل: لكثرة ما يمنى عندها من الدماء، فبدل أن يذبحوا في منى ذبحوا في هذا المكان وسموه بذلك، وكانوا يتبركون به. يقول الإمام البخاري رحمه الله في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها: إنها صنم بين مكة والمدينة. قال ابن هشام: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فهدمها عام الفتح. إذاً: الأصنام التي كانوا يعبدونها وهم في الجاهلية إما على هيئة صنم أو على هيئة بيت، أو على هيئة شجرة، فكلها أصنام عبدوها من دون الله سبحانه وتعالى. والغرض أن الصنم ليس معناه أنه الشاخص على هيئة الآدمي فقط، بل إن أي شيء يعبده الإنسان من دون الله سبحانه فهو صنم، وهو وثن، وإن كانوا يفرقون أحياناً بينهما فيقال: الصنم: ما كان على هيئة شخص، والوثن: أي شيء يعبد من دون الله سبحانه، أو يعكسون، لكن الغرض أن هذه الأشياء لم تكن بالضرورة على هيئة الأشخاص. فكل بيت يعبد من دون الله فهو صنم، وكل حجر يعبد من دون الله فهو صنم، وكل شجرة تعبد من دون الله فهي صنم كذلك، فهؤلاء عبدوا هذه الأشياء من دون الله سبحانه، يقول الله عز وجل مسفهاً لهم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:21]. أي: أقبلتم لأنفسكم الذكور وتبرأتم من البنات، وتنسبون إلى ربكم وخالقكم سبحانه ما تأنفون أنتم منه، أين عقولكم؟! {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]، أي: قسمة جائرة، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة قنبل عن ابن كثير (ضئزى) أي: جائرة. قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23]. يعني: هذه الأشياء التي زعمتم أنها آلهة ما هي إلا أسماء، وليس لها من حقيقة التسمية شيء، والله سبحانه وتعالى اسم ومسمى واحد، فالله الاسم، والله المسمى المألوه المعبود، وكل أسمائه سبحانه تدل على صفات حقيقة له، أما غيره من المخلوقين فيكون له اسم وقد لا يكون له حض ونصيب من هذا الاسم، فيكون الإنسان اسمه ممدوح مثلاً، ويكون مذموماً عند الناس، وهذا اسم على غير مسمى، كذلك الأوثان التي عبدوها قال الله عز وجل: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ} [النجم:23]، لا تتجاوز ذلك، كأسماء البشر، فيمكن للإنسان كبشر أن ينفع ويضر بإذن الله، ولكن هذه الأشياء لا تنفع نفسها ولا غيرها، قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، أي: ليس عليها حجة بأيديكم أنها من عند الله سبحانه. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23]، هي مجرد شهوات باطلة في أنفسهم يريدون بها الفخر لهم ولقبائلهم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]، أي: جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه هذا القرآن العظيم.

شرح حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)

شرح حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) يذكر المصنف رحمه الله حديثاً رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي وإن كان لم يسق لفظ الترمذي، ولكنه قريب مما ذكر هنا، وكذلك الشرح ذكر منه لفظ آخر. لفظ الترمذي في الحديث -وهو أيضاً عند الإمام أحمد - عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة توجه لقتال هوازن والطائف فخرج إلى حنين عليه الصلاة والسلام ومر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط كانوا يعلقون عليها أسلحتهم، وكان معه من جنود الإسلام من أهل المدينة عشرة آلاف مقاتل عليه الصلاة والسلام، وكان معه الطلقاء الذين دخلوا في الإسلام بعد دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وكانوا ألفي مقاتل، فدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومروا وهم ذاهبون ليجاهدوا معه عليه الصلاة والسلام على شجرة للمشركين تسمى: ذات أنواط. والنُوط أو النَوط الشيء الذي يعلق به، يقال: مناط الحكم، يعني: متعلق الحكم، وهذه ذات أنواط، يعني: ذات علائق، تعلق بها السيوف، فلما كان المشركون يذهبون للقتال يمرون على هذه الشجرة ويعلقون بها السيوف يرجون بذلك حصول البركة. فاعتقدوا أن الشجرة تنفع وتضر، وهذا كفر بالله وشرك به سبحانه. فقال هؤلاء: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ يعني: اصنع لنا شيئاً نتبرك به، وهكذا فالإنسان عندما يكون حديث عهد بالإسلام قد يتكلم بكلام الكفر ويعذر بجهله في ذلك. أما الصحابة الأفاضل الذين تربوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقولون ذلك، إنما يقول ذلك من كان إسلامه حديثاً، وجهل معنى الإسلام. فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سبحان الله! لقد قلتم كما قال قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]). لأن بني إسرائيل لما نجاهم الله سبحانه وتعالى من فرعون وجنوده، وأغرق فرعون أمامهم ونجاهم من البحر سرعان ما كفروا بربهم سبحانه أو طلبوا أشياء هي في حقيقتها شرك بالله، وذلك أنهم قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وذلك أن معاشرة الكفار تجعل في نفس الإنسان شيئاً من التشبه بهم، فقوم موسى كانوا في مصر، وأهل مصر عباد أوثان، فقد كانوا يعبدون الشمس من دون الله، ويعبدون فرعون، ويصنعون أصناماً للفراعنة ويعبدونها من دون الله. فلما خرج بنو إسرائيل من هناك كان موسى يدعوهم ويعلمهم عليه الصلاة والسلام فكأنهم حنوا لما كان عليه قبط مصر من عبادة الأصنام، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: نريد إلهاً مثلهم، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]. أي: إنكم تجهلون ربكم سبحانه وتعالى، وتقعون في الشرك بأقوالكم من حيث لا تدرون. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إنكم قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى). ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لتركبن سنة من كان قبلكم)، هذا اللفظ للترمذي، والحديث رواه أيضاً الإمام أحمد بألفاظ أخرى قريبة من هذا اللفظ، وشارح كتاب التوحيد يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله أكبر)، وهذه إحدى روايات الإمام أحمد والسُنن جمع، والسَنن مفرد، (قلتم: والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138])، وفي رواية قالوا: ونحن حدثاء عهد بكفر، فكأنه عذرهم صلى الله عليه وسلم، وإلا لقال لهم: قولوا: لا إله إلا الله مرة أخرى؛ حتى ترجعوا إلى الإسلام، ولكن كأنه عذرهم لما هم فيه من جهل.

فوائد من حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)

فوائد من حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) من فوائد هذا الحديث ما ذكره الشارح حيث قال: في هذا الحديث الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يباعده من رحمته. إن الإنسان إذا لم يتعلم دين الله سبحانه وتعالى فلعل عقله يدعوه إلى الشرك بالله فيقع فيه من حيث لا يدري، فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا حديثي عهد بكفر، ومع ذلك طلبوا منه أن يجعل لهم ذات أنواط، وهي شجرة يعلقون بها سيوفهم ويتبركون بها، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنهم وقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل حين قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138]. ومن الشرك والكفر بالله سبحانه أن يعتقد الإنسان ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم عذرهم واكتفى بأن بين لهم صلوات الله وسلامه عليه أنه شرك. يقول ابن أبي شامة: ومن هذا القسم ما قد عم البلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاكم أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. وهكذا فعباد القبور في كل مكان يعبدونها من دون الله سبحانه، ويرجون منها البركة، ولو كان أصحاب هذه القبور أحياءً لطلبوا من الله عز وجل النفع، وطلبوا منه كشف الضر، فكيف يترك هؤلاء ربهم ويذهبون إلى قبر لا يملك صاحبه لنفسه شيئاً، فضلاً عن أن يملكه لغيره. فالاعتقاد أن القبر ينفع أو يضر مع الله سبحانه من الكفر بالله، ومن الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، فلا يجوز لأحد أن يتوسل بقبر أو يطلب من القبر شيئاً، أو يتبرك به. ولكن الكثير من الناس يجهل هذا الشيء. ويذهب إلى مكان فيه رجل صالح، ويزعم أنه يصلي لله، ولا يطلب من هذا الصالح شيئاً ولكنه يذهب إلى هذا المكان رجاء البركة من الله بأن يأتي مصاحباً لهذا الرجل الصالح، فهذا من الشرك الأصغر. ففرق بين أن يعتقد أن هذا ينفع ويضر، وهذا من الشرك الأكبر، وبين أنه يعتقد أن الذي ينفعه أو يضره هو الله، ولكنه يرجو بركة هذا المكان، فهذا ليس من الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، وإنما هو من الشرك الأصغر. قال ابن القيم: ما أسرع أهل الشرك لاتخاذ الأوثان من دون الله سبحانه، يقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر، يعني: تقبل العبادة. فيذهب البعض فيتعبد عندها ويطلب منها ما لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). واستجاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وسخر من يقومون بحفظ قبره من أن يأتي أحد ويرفع يديه ويدعوه من دون الله. وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وحذرهم مما صنع هؤلاء. يقول الشارح هنا: وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون هذا الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة. فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، فمن الممكن أن يقع الشرك في هذه الأمة. وإن كان الله استجاب له فيما يتعلق بقبره صلى الله عليه وسلم إلا أن كثيراً من قبور الصالحين صارت أوثاناً تعبد من دون الله سبحانه وتعالى. ومن فوائد هذا الحديث: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، لهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم ما طلبوه منه كطلب بني إسرائيل، فهم يريدون شجرة يعلقون بها السيوف، وهذا تشبه بالمشركين، فالمشركون كانوا يتبركون بها حتى تنزل عليهم البركة، وينتصرون في الحرب، وهذا من الشرك بالله سبحانه؛ لأنهم اعتقدوا أن الشجرة تنفع أو تضر أو تعطي أو تمنع. وفي هذا الحديث أيضاً: علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم). أي: ستقلدونهم فيها، فتعبدون غير الله سبحانه، وقد وقع في هذه الأمة الكثير من ذلك، فكثير من الناس يذهبون فيطوفون بقبر البدوي، ويدعونه من دون الله سبحانه، وينذرون لـ أبي العباس، وللبدوي وللحسين ولغيرهم، والنذر لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لتركبن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن)، أي: أنكم تتبعونهم في شركهم وكفرهم وبدعهم وعوائدهم. وفي الحديث النهي عن التشبه بأهل الجاهلية، وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلون، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

حكم التبرك بآثار الصالحين

حكم التبرك بآثار الصالحين يقول الشارح هنا: إن ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع. ولكن التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآثاره فهذا وارد، والصحابة تبركوا بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو بنفسه أمر أبا طلحة أن يقسم شعره بين المسلمين، فأخذ أبو طلحة نصفه وقسم النصف الباقي بين الناس، فكانوا يتبركون بأثره عليه الصلاة والسلام من ريقه الطاهر من ثيابه التي يلبسها من أثر وضوئه عليه الصلاة والسلام، وذكرنا في الحديث السابق كيف أن أناساً أتوه من مكان بعيد وعندهم بيت يعبدون فيه غير الله سبحانه فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطهروه وأن يغسلوه بالماء، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ماء من وضوئه عليه الصلاة والسلام يتبركون به، فأعطاهم صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن المار يتبخر في أثناء الطريق، قال: (أمدوه فإنه لا يزيد إلا طيباً)، أي: زيدوا عليه من ماء الطريق، فبركة الماء الذي استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم وما زاد إلا طيباً، وفعلاً أخذوا هذا الماء وغسلوا الكنيسة أو المكان الذي كان يعبد فيه غير الله عز وجل، وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيه. وقد دلت الشريعة على جواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم، أما التبرك بآثار غير النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز؛ لأنه قياس مع الفارق، فلا أحد يساويه صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين يتبركون به صلى الله عليه وسلم وبآثاره لم يكونوا يتبركون بأثر أحد بعده، ولو جاز ذلك لفعلوه، لكنهم لم يفعلوا ذلك، وإنما اكتفوا بما كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقل أحد منهم: تبرك بأثر أبي بكر وهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بأثر عمر، ولا بأثر عثمان، ولا علي رضي الله تبارك وتعالى عنهم. فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ذلك. ولو كان من الخير أن يتبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم لفعله الصحابة أو بعضهم ولكن ذلك لم يحدث، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] وعلى ذلك فالعلماء الذين قالوا بجواز التبرك بآثار الصالحين إذا كان التبرك بدعوات الصالحين، كأن يدعو الصالح بالبركة، مع اعتقادهم أن الذي يبارك هو الله سبحانه وتعالى فهذا جائز، أما بأثر الصالح نفسه فهذا الأصل فيه المنع حتى يثبت الدليل؛ لأنه وسيلة وذريعة إلى الوقوع في الشرك بالله سبحانه. قد يأتي أناس ويظنون أن هذا رجل صالح، وأن أكله طيب يذكر فيه اسم الله سبحانه، فيأكلون من هذا الطعام فهذا لا بأس به، ولكن لعله يفتح على الناس بعد ذلك باباً من أبواب الشرك، فيظن أن هذا الطعام يجلب الخير أو يمنع الضر مثلاً. والتبرك بآثار الصالحين مسألة من مسائل الخلاف، وليست من مسائل الاتفاق، والخلاف فيها فيه نظر، إن كثيراً من العلماء قالوا: إذا جاز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم فليكن تبركاً بآثار غيره، ولكن باب سد الذريعة من الأبواب العظيمة في الشريعة، فلو انفتح باب التبرك بالصالحين سيفتح على الناس الشرك، لذلك يكتفى بالتبرك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط.

طلب المسلمين من النبي أن يجعل لهم ذات أنواط هل هو شرك أكبر أو أصغر؟

طلب المسلمين من النبي أن يجعل لهم ذات أنواط هل هو شرك أكبر أو أصغر؟ يقول الشيخ ابن عبد الوهاب في المسألة الحادية عشرة: إن الشرك فيه أكبر وأصغر، والشرك الأكبر يخرج صاحبه من الملة، والشرك الأصغر لا يخرج صاحبه من الملة، كأن يحلف أحدهم بالله سبحانه وتعالى ثم يقع على لسانه الحلف بغير الله، ولا يقصد تعظيماً له مع الله سبحانه، فهذا لا نقول له: خرجت من الملة، ولكن نقول له تأديباً: قل لا إله إلا الله، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من قال ذلك أن يقول: لا إله إلا الله. والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كأنه أخذ من الحديث الذي فيه أنهم كانوا حدثاء عهد بجاهلية، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، فقال: هذا شرك أصغر وليس من الشرك الأكبر. أما الشيخ: حامد الفقيه في تعليقه على الجملة فقال: ليس ما طلبوه من الشرك الأصغر، ولو كان منه لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم نظير ما فعله بنو إسرائيل، وأقسم على ذلك، بل هو من الشرك الأكبر، كما أن ما طلبه بنو إسرائيل من الشرك الأكبر. والشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: إن هذا من الشرك الأصغر، وليس من الشرك الأكبر. فالصحابة طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم شجرة يعلقون بها السيوف كما كان المشركون يعلقونها يرجون البركة، ويرجون النصر من الشجرة، فكأن المسلمين أرادوا ذلك فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الله أكبر إنها السنن! قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138])، فشبه ما قالوه بما قالته بنو إسرائيل، وقد يكون التشبيه كلياً، وهو أن هذا كهذا، فيكون قولهم من الشرك الأكبر، أو يكون جزئياً والمعنى: تشابهتم معهم في أنهم طلبوا شيئاً لا يجوز لهم طلبه، فكان هذا شركاً أصغر فيكون في حق بني إسرائيل شرك أكبر وفي حق هؤلاء شرك أصغر. لذلك ذهب الشيخ ابن عبد الوهاب إلى أنهم شابهوا بني إسرائيل في جزئية. والشيخ حامد الفقيه يقول: هذا من الشرك الأكبر، وليس كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفرهم، بل عذرهم بجهلهم، ثم إن ما فعله بنو إسرائيل صرحوا به وقالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138]، أي: إلهاً من دون الله نعبده، وكأن عقائد الفرعونيين كانت موجودة في قلوبهم، وإن كان موسى قد جاهدهم على التوحيد، ولكنهم سرعان أرادوا أن يرجعوا إلى ما كانوا يرونه من عبادة غير الله سبحانه، فطلبوا عبادة إله من دون الله سبحانه مجسماً يرونه، ومجرد أن ذهب موسى أربعين يوماً صنع لهم السامري عجلاً جسداً -من حلي كانت معهم- له خوار: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] وعبدوه من دون الله، وهذا هو الكفر الأكبر، فرجع موسى وأخذ برأس أخيه يجره إليه: كيف تركتهم يفعلون ذلك، فأجابه: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه:94]. كذلك قوله لبني إسرائيل: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، كأنهم جهلوا قدر الله سبحانه وتعالى، وجهلوا عبادته وحقه عليهم، فقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، ولم يكفرهم، فكذلك لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا معه ممن قالوا ذلك، وهذا فيه بيان أن الإنسان قد يطلب شيئاً لا يجوز له أن يطلبه، فيقع في الشرك بما طلب، ولكن يعذر بالجهل في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: قولوا لا إله إلا الله حتى ترجعوا إلى الإسلام، أو لم يقل: لقد ارتددتم عن الدين فارجعوا إليه مرة أخرى، ولذلك اعتبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا من الشرك الأصغر، وفي كتابه كشف الشبهات اعتبرها من الشرك الأكبر، وكأن له قولين في هذه المسألة.

العذر بالجهل في مسائل الشريعة وضوابطه

العذر بالجهل في مسائل الشريعة وضوابطه ومما جاء عن الشيخ محمد حامد الفقي في رسالة من رسائله قوله: إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر البدوي من العوام لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يكفر ولم يقاتل؟ وكأنه يرد على من يقول: أنتم تكفرون الناس، فبعض الناس عندما يدعى إلى التوحيد وترك الشرك يقول: أنتم تكفرون الناس، فيرد عليهم ويقول: نحن لم نكفر أولئك مع أن ما يفعلونه كفر، وعذرناهم نكفرهم لأنهم جهال لم يعرفوا حقيقة الأمر. وهنا دليل على مسألة العذر بالجهل، فالذي يقع في الشرك بالله سبحانه وهو يعلم أن هذا شرك فهو كافر خارج من دين الإسلام، أما الذي يقع فيه وهو لا يعلم ذلك، وإنما يعتقد أنه محسن وهو في حقيقة أمره مسيء في ذلك، وذلك لبعده عن العلماء وعن الأخبار الشرعية فيعذر بجهله. يقول الله سبحانه وتعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فالنبي صلى الله عليه وسلم منذر، قال الله له: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، أي: ولكل قوم مرسل يهديهم ويدلهم، فإذ لم يصلهم كلام الله عز وجل، ولم يبلغهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيعذرون في ذلك حتى يبلغهم هذا الدين العظيم. يقول الله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. أي: لا نعذب أحداً من الخلق حتى نبعث رسولاً معه رسالة، ولم يقل: حتى نبعث نبياً، بل رسولاً معه رسالة من عند رب العالمين يخبر الناس ويبلغهم، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. فجاء الذكر من عند رب العالمين على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبين للخلق ما جاء من هذا القرآن العظيم. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يتبعني إلا أدخله الله النار). ففيه أن الإنسان الذي تبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا يشترط أن يبلغه كل شيء فيها، ولكن يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسمع عن الرسالة، ويرفض أن ينظر في هذه الرسالة العظيمة وأن يتبعها، فيكون مآله إلى النار، والعياذ بالله. فمن لم يبلغه شيء من هذا الدين يعذر بالجهل، ومن بلغه شيء وجب عليه أن ينظر فيه، فإذا نظر فيه فقد سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولزمه اتباع هذا الدين. فإذا رفض ذلك ورده بعد أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فسوف يحاسبه الله عز وجل يوم القيامة على أنه رد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة على العذر بالجهل: ما رواه البخاري ومسلم عن رجل ممن كانوا قبلنا قال لبنيه: إذا أنا مت فحرقوني، ثم ذروني في يوم شديد الريح، فإنه إن يقدر الله عليه ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. فالرجل قال كلمة كفرية، وهي: إنه إن يقدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين؛ لأنه كان رجلاً مسرفاً على نفسه، ومن اعتقد أنه يقدر أن يهرب من الله أو يعجز الله سبحانه وتعالى فإنه يكفر بذلك. فلما مات أخذوه وأحرقوه، وفي يوم شديد الريح ذروا نصفه في البر ونصفه الآخر في البحر، فجمعه الله سبحانه وتعالى كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأمر الأرض أن تأتي بأجزائه منها، وأمر البحر أن يأتي بأجزائه منه، فالأرض والبر والبحر كلها جنود من جنود الله سبحانه، فقام الرجل بين يدي الله عز وجل فسأله ربه: (ما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل: خشيتك يا رب)، يعني: خوفي منك جعلني أجهل قدرك، فظن مع شدة خوفه من الله عز وجل أنه يقدر أن يهرب من الحساب بهذا الذي فعله فغفر الله له وعذره بجهله، وكذلك عذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بجهلهم، بل لما ذهب معاذ رضي الله عنه إلى الشام -وهو سلطان العلماء- وجد أهل الشام يسجدون لأحبارهم ورهبانهم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسجد له فقال: (ما هذا يا معاذ؟! قال: وجدتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق بذلك، قال: لا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعل، فالسجود لغير الله لا يجوز في شريعتنا، وإن كان قد يجوز في الشرائع التي من قبلنا، كما ذكر الله عز وجل أنه أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، وهذا سجود تحية. ولما جاء أبوا يوسف عليه الصلاة والسلام دخلوا عليه وإخوته وخروا له سجداً يحيونه، وذلك كان جائزاً في الشرائع من قبل، أما في شريعتنا فلا يجوز السجود إلا لله سبحانه. فلما فعلها معاذ، وفعلها غيره مع النبي صلى الله عليه وسلم نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعله، وأخبره أنه لا يجوز السجود إلا لله سبحانه، ولم يكفره بهذه الشيء الذي فعله رضي الله تعالى عنه. وكذلك الجواري اللاتي كن يغنين فقالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. ومن اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد وقع في الكفر بالله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما يعلمه الله عز وجل عن طريق الوحي، أما هو بذاته فلا يعرف الغيب عليه الصلاة والسلام، وقد أمره ربه سبحانه في القرآن أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، فمن ادعى أنه يعلم الغيب فكأنه يكذب كلام رب العالمين. فلما قالت الجارية ذلك نهاها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: (لا تقولي هذا، لا يعلم الغيب إلا الله، قولوا ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)، أي: لا يأخذكم في الوقوع في مثل هذا الأمر. والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أصحابه بعضاً مما وقعوا فيه بدافع جهل بعضهم، فلما مدح صلى الله عليه وسلم بشيء لا يصح أن يمدح به قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، ومع ذلك لم يكفرهم صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم بأن يعودوا إلى الإسلام من جديد، وإنما عذرهم في ذلك، فقد يكون القول والاعتقاد من الكفر الأكبر المخرج لصاحبه من الملة، ولكن مع ذلك يعذر صاحبه لكونه يجهل هذا الأمر، ولبعده عن بلاد المسلمين، أو لكون هذا الأمر مما لا يعلمه إلا القليل. إن من أنكر آية في كتاب الله عز وجل فقد كفر، ومن أنكر حكماً مجمعاً عليه فقد كفر، ولكن قد يعم الجهل في الناس فلا يعرفون أشياء هي في كتاب الله سبحانه، وعلى العموم من أنكرها فقد كفر، ولكن على الخصوص ينظر في هذا الذي ينكرها، هل يعلم أو لا يعلم. ففي عهد عمر رضي الله عنه قال رجل من أهل الشام أناس يحدثونه عن الزنا، فقال: زنيت البارحة، فقيل له: سبحان الله ما تقول؟ قال: زنيت البارحة وأعلموه أن الله عز وجل حرمه، فقال: ما علمته إلا الآن، فرفعوا الأمر إلى عمر رضي الله عنه فأخبرهم أنه إذا كان كما يقول فلا ترجموه. ورجل آخر وقع بجارية امرأته ظناً منه أنها تحل له، فرفعوا أمره إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فلما علم عمر أن هذا الرجل جاهل عذره بجهله ولم يقم عليه الحد، وإنما عزره وقال: إن عاد فارجموه. وليس معنى ذلك أن يفتح باب العذر بالجهل لكل من ارتكب جريمة أو معصية، ولكن يخوف ويعلم الحكم الشرعي، وأن هذا كفر مخرج من الملة، والواجب التوبة منه. وأيضاً لا يجوز لإنسان أن يكفر كل الناس، فلعله يكفر أباه وأمه، فإذا مات أبوه أو ماتت أمه يرث الاثنين، مع أنه إذا كانا كافرين فلا يجوز له أن يرثهما، ثم كيف يكفرهما ثم يدفنهما في مقابر المسلمين، مع أن الكافر لا يدفن في مقابر المسلمين، فالإنسان قد يقع بدعوة تشدد في شيء، ثم يناقض نفسه فيما ينبني عليه هذا الشيء الذي يقوله.

أقوال العلماء في مسألة العذر بالجهل

أقوال العلماء في مسألة العذر بالجهل من أقول الأئمة رضوان الله عليهم في هذه المسألة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحد من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول. أي: أن أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى التي جاءت في القرآن والسنة واجب على المسلمين أن يؤمنوا بها، ولا يجوز لهم أن يردوها، فإن خالف أحد ما جاء في القرآن والسنة من أسماء الله عز وجل وصفاته بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة. فمعذور بالجهل قال الشافعي؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه. والغرض من كلام الإمام رحمة الله عليه: أن الإنسان إذا لم يصله الخبر في الأمر فوقع في شيء يكفر به وهو لا يعلم فإنه يعذر بجهله في ذلك. يقول الخطابي في كتابه معالم السنن بعد أن ذكر حكم مانعي الزكاة: وأن الصحابة قاتلوهم، سواء من أنكر الزكاة فقاتلوه على أنه مرتد، أو من منعها متأولاً، فقاتلوا الجميع، ولكن لم يكفروا الجميع، وإنما كفروا من منعها إنكاراً لها فهذا مرتد عن دين الله سبحانه أما من تأول فيه فقوتل قتال البغاة. يقول رحمه الله: إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن آدائها هل يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قال: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين. يقول رحمه الله: الفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمن، يعني: أن الذين كانوا في عهد أبي بكر رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم عذروا بأسباب وأمور ليست موجودة الآن، فكانوا يتأولون ويقولون: إن الله يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي يأخذ من أموالنا، وقد مات صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يقوم مقامه. فعلى ذلك عذروا بجهلهم فلم يكفروا، ولكن من يقول ذلك في زماننا فلا يعذر بجهله، فقد استتب الأمر وعلم أن من أركان هذا الدين العظيم: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فمن أنكر الزكاة لا يقال عنه: إنه متأول كما تأول أولئك، فقد استقر الأمر وبلغ العلم للجميع في أمر الصلاة، وفي أمر الصوم, وفي أمر الزكاة. يقول رحمه الله: منها -أي: من الأسباب التي جعلت أولئك يعذرون بجهلهم- أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً، فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيها العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله. فمنكر الزكاة الآن لا يقال: إنه معذور، بل هو كافر، وكذلك الصلاة، فمن جحدها وأنكرها بعدما بلغه من كتاب الله سبحانه، ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بها، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة. يقول رحمه الله: هذا إذا كان العلم منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا، وتحريم الخمر، ونكاح المحارم، ونحوها من الأحكام. فهذه أشياء عرفها الجميع الخاص والعام، وانتشرت في بلام المسلمين، وإنما يعذر بجهلها من ليس في بلاد المسلمين ممن لم تبلغه فرضيتها، كالرجل الذي زنا وهو في الشام ولم يعلم أن الزنا حرام، فعذر بجهله في ذلك. يقول رحمه الله: إلا أن يكون رجلاً حديث العهد بالإسلام، ولا يعرف حدود الإسلام فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليهم. وقد يكون من أمور الدين ما هو مجمع عليه، ولكن لا يعلم ذلك جميع الناس، فلا يكفر من أنكرها. يقول رحمه الله: فأما ما كان الإجماع فيه معلوم من طريق علم الخاصة كتحريم الزواج بالمرأة على عمتها وخالتها، فمن أنكره جاهلاً لم يكفر. أي: ليس كل الناس يعرفون عدم جواز أن يتزوج الرجل المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها، وإن كان هذا الحكم مجمعاً عليه، فمن أنكر ذلك جاهلاً فلا يكفر، أما من جحد ذلك بعد معرفته الإجماع في المسألة فإنه يكفر. وكذلك من جهل أن القاتل عمداً لا يرث، وأنكر هذا الحكم فإنه لا يكفر، وإن كان هذا الحكم معروفاً عند العلماء، ولكنه ليس معروفاً عند آحاد الناس. وكذلك معرفة أن الجدة ترث السدس، فليس كل الناس يعرف أحكام المواريث، فحتى لو كان مجمعاً عليه وأنكره إنسان لجهله بالإجماع فإنه لا يكفر بذلك. وفي هذه المسألة كلام لـ ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني، يقول فيمن جحد الصلاة: الجاحد لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو ببادية بعيدة من الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره. فهذا معذور بجهله؛ لأنه وإن سمع بالإسلام إلا أنه لم يعرف الصلاة فأنكرها. ولذلك فإنه سيأتي يوم من الأيام لا يعرف الناس إلا لا إله إلا الله، فلا يعرفون صلاة ولا صوماً إلا هذه الكلمة يعرفها بعض عجائزهم. ولما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه هذا الحديث قال صلة بن زفر: وما تغني عنهم: لا إله إلا الله، فلم يرد عليه، ثم سأله ثانياً وثالثاً فالتفت إليه في الثالثة، وقال: تنقذه من النار. فهؤلاء لما كثر شرار الخلق ورفع علم الدين صاروا جهالاً لا يعرفون شيئاً عن الدين، وكما ذكرنا قبل أنه سيأتي يوم من الأيام -نسأل الله عز وجل ألا يدركنا- يرفع فيه العلم، ويرفع فيه القرآن، ويبقى في الأرض شرار الخلق، لا يعرف إلا القليل منهم كلمة لا إله إلا الله، سمعوها من أجدادهم ومن آبائهم. ومن كلام أهل العلم في العذر بالجهل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على البكري يقول: كنت أقول للجهمية من الحلولية الذين يزعمون أن الله يحل في الأشياء -حاشا الله تعالى عن ذلك- وكذلك النفاة الذين ينفون أن يكون الله تعالى فوق عرشه، يقول: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، فهذا بعض كلام الأئمة في أمر العذر بالجهل. والذي ينبغي أن ينتبه له في هذه المسألة أنه لا ينبغي فتح الباب في العذر بالجهل فتحاً كبيراً يجعل العوام يفعلون المعاصي، ويقعون في الكبائر والكفر بالله سبحانه، ويجعلهم يتهاونون بسبب هذه القاعدة. ولا يضيق الأمر فيكفر المسلمون، ولكن عند الحاجة لذلك، فالقاضي الذي يحكم في قضايا الكفر قد يحكم بالكفر على أناس ويأتي إلى إنسان بعينه فلا يكفره، وإنما يعذره بجهله. وفي قضية من القضايا يقول فيها: من فعل كذا فقد كفر، دون أن يكفر المعين بعينه، فلعله يكون له عذر من الأعذار عند الله سبحانه. والله أعلم.

ما جاء في الذبح لغير الله

شرح كتاب فتح المجيد - ما جاء في الذبح لغير الله إن الذبح تقرباً وتعظيماً عبادة عظيمة، فلا يجوز أن تصرف لغير الله تعالى؛ فالله هو المحيي، وهو المميت؛ لذا فهو المستحق للعبادات سبحانه، والعبد المسلم المؤمن يجعل حياته ومماته وذبحه وصلاته وجميع عباداته لله سبحانه، وضل قوم وهلكوا عندما صرفوا هذه العبادة وغيرها لغير الله من الأولياء والجن والملائكة وغير ذلك. فقد دخل النار رجل بسبب ذبحه ذبابة لغير الله، مع أنه أراد التخلص من شر بعض الناس، فكيف بمن يقرب القربان والذبائح إلى غير الله وهو خاشع ذليل منكسر!!!

حكم الذبح لغير الله

حكم الذبح لغير الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الذبح لغير الله، وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]. وعن علي رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض)، رواه مسلم. وعن طارق بن شهاب البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب قالوا له: قرب ولو ذبابة، فقرب ذبابة فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة)، رواه أحمد.

تفسير قوله تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي)

تفسير قوله تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي) هذا الباب هو الباب العاشر من كتاب التوحيد، وفيه ما جاء في الذبح لغير الله تبارك وتعالى، أي: ما حكم أن يذبح إنسان لغير الله سبحانه؟ فذكر قول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]. فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك، أي: إن عبادتي كلها وحياتي كلها ومماتي كله لله رب العالمين سبحانه، {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]. (قُلْ إِنَّ صَلاتِي (وهي نوع من أنواع العبادات كالصوم والزكاة والحج وغيرها من العبادات، وهي من أركان الإسلام، بل هي أعظم أركان الإسلام بعد التوحيد. قوله: (وَنُسُكِي) النسك: هو الذبح، فمن أعظم العبادات الصلاة والذبح، والصلاة عبادة بدنية والذبح عبادة مالية، فمن أعظم ما يكون من عبادات البدن الصلاة، ومن أعظم ما يكون من العبادات المالية الذبح لله سبحانه، فخص ثم عمم بعد ذلك، يعني: ليست هذه العبادة فقط، بل كل عباداتي لله رب العالمين سبحانه، ومحياي كله لله، فأحيا مطيعاً لله، عاملاً لله، عابداً لله، فمماتي يملكه الله، ومرجعي إلى الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] النسك قال مجاهد: هو الذبح في الحج والعمرة. وقال غيره من العلماء كـ سعيد بن جبير: النسك الذبح سواء كان في حج أو في عمرة أو في أضحية أو في غير ذلك من نذر ونحوه، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه. قوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] أي: وما آتيه في حياتي من أعمال وعبادات وما أموت عليه، فإن ذلك لله رب العالمين. وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] لها معانٍ، فالذي أحياني هو الله رب العالمين، والذي أعمل له ويعينني على هذا العمل الله رب العالمين، والذي أخلص له عملي وأتوجه إليه بعبادتي هو الله رب العالمين، فهذا في محياي. ومحيا وممات على وزن مفعل وهو مصدر ميمي، ومعناهما: حياتي ومماتي، فالحياة والموت كلها لله رب العالمين سبحانه، فمماتي يملكه الله سبحانه، والحساب بعد الممات والجزاء والثواب والعقاب بيد الله. وأيضاً مماتي ما أموت عليه في وقت وفاتي، فأموت على كلمة التوحيد وأموت على الإخلاص لله رب العالمين. قوله: (لله) هذا توحيد الألوهية، فالله وحده أتوجه إليه. قوله: (رب العالمين): فيه توحيد الربوبية، فالذي أفعل ما يريد والذي أحياني والذي أماتني، والذي شرع لي فأطعته في ذلك هو الرب سبحانه لا شريك له في ألوهيته ولا في ربوبيته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته العلا سبحانه.

اتفاق الأنبياء في العقيدة واختلافهم في الشرائع

اتفاق الأنبياء في العقيدة واختلافهم في الشرائع قوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:163] أي: أن تكون حياتي ومماتي وصلاتي ونسكي لله رب العالمين، {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] فأمر الله عز وجل بالإخلاص وهنا قال: {وَبِذَلِكَ} [الأنعام:163] أي: بإخلاص العبادة لله سبحانه وتوحيده: {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أول المسلمين في هذه الأمة، ومن قبله من الأنبياء كل نبي بعث إلى أمته فهو أول المسلمين في تلك الأمة، والإسلام هو دين الله رب العالمين الذي قال فيه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهو دين الله الذي بعث به الرسل، فكل الرسل دعوا أقوامهم إلى أن يسلموا أنفسهم لله وأن يتوجهوا بعباداتهم إليه. فكل نبي بعث بأن يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وصرح أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام بأنهم مسلمون لله سبحانه، وهذا تجده كثيراً في كتاب الله سبحانه. وقد دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه فقال: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، وهذا حين رفع القواعد من البيت، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] قائلين: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} [البقرة:127 - 128]. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء من بعده جميعهم، وقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، وذكر أيضاً: {وَوَصَّى بِهَا} [البقرة:132] أي: بهذه الوصية وبهذه الكلمة، وهي كلمة التوحيد والإسلام، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. إذاً: فقد قالها إبراهيم وقالها إسماعيل ووصى بها يعقوب بنيه أن يموتوا على الإسلام. وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ} [البقرة:136] أي: لله عز وجل: {مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. فكلمة الإسلام: هي التسليم لله سبحانه، وهي الحياة على هذا الدين والوفاة على هذا الذي أمر الله عز وجل به عباده، وانظر في سورة آل عمران إلى قول الله عز وجل: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} [آل عمران:52] وهم أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام، {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. فهذا الذي قاله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقاله إسماعيل كذلك قاله المسيح عليه الصلاة والسلام، وقاله الحواريون، قال الله سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111] فقالها الحواريون لله سبحانه. وقالها أيضاً نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد ذكر الله عز وجل في سورة يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} [يونس:71] أي: يدعو قومه، وقد كان نوح قبل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال لقومه: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:71 - 72]، فأمر نوح عليه الصلاة والسلام أن يكون من المسلمين، وقال ذلك لقومه. وكذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام في السورة نفسها: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]. إذاً: قالها نوح، وقالها إبراهيم، وقالها إسماعيل، وقالها يعقوب، وقالها موسى، وقالها المسيح ابن مريم، وقالها الحواريون. إن الإسلام هو دين رب العالمين سبحانه، وقد قال لنا سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فكلمة الإسلام جعلها الله أعظم وأحلى وأجمل كلمة، وكلمة التوحيد هي كلمة الإسلام، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، لا أحد أحسن من هذا. وإذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل لهم: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69]، فهذه الكلمة العظيمة التي قالها الأنبياء قالوها وهم يدعون الناس إلى هذا الدين العظيم: دين الإسلام. فكل الأنبياء يدعون إلى كلمة التوحيد، فالعقيدة واحدة لا تتغير ولا تتبدل، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، فهذه لا تتغير في كل الأديان، فالله عز وجل يأمر بهذا التوحيد العظيم في كل الأديان، ولكن تختلف الشرائع، فهناك أشياء يحلها الله لأقوام ويحرمها على آخرين بحسب أعمال العباد، فقد يضيق على بعض الأمم بسبب ظلمهم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161] فبكفرهم وبصدهم عن سبيل الله سبحانه، وأكلهم الربا، وأخذهم إياه، حرم الله سبحانه عليهم بعض الطيبات. وأما في ديننا فقد وسع لنا أمر الطيبات وأباح لنا كل الطيبات، ولم يحرم علينا شيئاً طيباً، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف:157] أي: بكل معروف، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157] أي: عن كل منكر، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] واللام في الطيبات لام الجنس فتعم كل الطيبات التي خلقها الله سبحانه، فهي حلال تفضلاً من الله على هذه الأمة. {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] يعني: جنس الخبائث، فكل ما كان خبيثاً فهو محرم علينا في ديننا، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، فالأغلال التي كانت على السابقين ليست علينا كما سيظهر في الأحاديث التي ستأتي. وقال هنا: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] يعني: في هذه الأمة، فهو عليه الصلاة والسلام أول من قال هذه المقالة ودعا الناس عليها عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]. والكوثر نهر عظيم في الجنة يشرب منه المؤمنون، ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من الثلج، وعدد آنيته كعدد النجوم، فهذا شيء عظيم جداً، ومن شرب منه لا يظمأ بعده أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يشربون منه. وقال هنا: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: إن أعطاك ربنا هذا الحوض العظيم في جنته كي تشرب منه وتسقي منه المؤمنين، فإن الواجب عليك والجزاء منك: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فعبر هنا بأعظم عبادتين؛ ولذلك عقب بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب والتسبب في ذلك، أي: لأننا أعطيناك الكوثر فتعبد لله بأعظم ما يكون من العبادة فصل لله وانحر واذبح لله سبحانه، فعرفنا بذلك فضل هاتين العبادتين: الصلاة لله عز وجل، والذبح لله سبحانه، فالصلاة عبادة بدنية، والذبح عبادة مالية، وفيها تعب بدني إن كان الإنسان يذبح بنفسه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أمره الله سبحانه أن يجمع بين هاتين العبادتين -وهما: الصلاة والنسك- الدالتين على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدة الله سبحانه، عكس أهل الكبر والنفرة. فالمستكبرون يتركون الصلاة، وإذا جاء وقت الأضحية أو غيرها فإنه لا يكلف نفسه أن يفعل ذلك. قال: عكس أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في الصلاة إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر؛ ولهذا جمعها الله عز وجل في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] الآية، قال: والنسك: الذبيحة لله عز وجل ابتغاء وجهه. فأجل الع

لعن النبي لأصناف من الناس في حديث علي بن أبي طالب

لعن النبي لأصناف من الناس في حديث علي بن أبي طالب وعن علي رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات)، وهذا الحديث سببه كما قال أبو الطفيل: قلنا لـ علي: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر له بشيء؛ لكون علي ابن عمه، ولكونه زوج ابنته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إليه في بيته كثيراً، وهو الذي رباه عليه الصلاة والسلام، إذاً فيكون قد أسرّ له بشيء لم يذكره لغيره. فقال علي رضي الله عنه: ما أسر إلي بشيء كتمه الناس وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يخص علياً بشيء من الشرع دون غيره من الناس، فقد قال له ربه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، ولو أنه كتم شيئاً عليه الصلاة والسلام فإنه لم يبلغ الرسالة، فقد أمره الله عز وجل بتبليغ كل شيء، فالشريعة تكون للجميع، وقد يسر لأحد أصحابه سراً في أن فلاناً هذا منافق، وهذا لن يعمل به المسلمون شيئاً، فهذا المنافق سيموت وسينتهي هذا الجيل، فالذين يأتون بعد ذلك لن يستفيدوا شيئاً من هذا الشيء، فيسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى البعض كما أسر لـ حذيفة بأسماء مجموعة من المنافقين، فكان حذيفة لا يصلي على هؤلاء إذا ماتوا، فهذا السر ليس من الأحكام التي يطالب الناس بالعمل بها ولذلك لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم لأحد غير حذيفة وجعله على وجه الإسرار، فهذا يكون فيه الإسرار، وأما الشريعة والتكليف والأعمال التي تقرب إلى الله والتي تباعد من الله فليس للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسرها لأحد من أصحابه، بل يجب أن يبلغ هذا إلى كل المؤمنين. قال علي رضي الله عنه: ولكن سمعته يقول: (لعن الله من ذبح لغير الله). إذاً: فالذبح إما أن يكون لله عز وجل، فهذا الذي يؤكل منه، وإما أن يكون لغير الله فهو ميتة وهو شرك بالله سبحانه، ولا يجوز لأحد أن يأكل منه. قال: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً)، وهذه فيها وجهان: (من آوى محدِثاً) و (من آوى محدَثاً)، وكلاهما صحيح، فالمحدِث: اسم فاعل، وهو الذي يحدث الحدث، كأن يقتل إنسان إنساناً ويهرب ويلجأ إلى قوم، فأخذوه بعدما قتل عمداً وعدواناً وأخفوه عندهم من أجل ألا يقتص منه، فهذا محدث أحدث حدثاً، والمحدث أيضاً قد يكون وقع في جرم يستحق عليه العقوبة، أو في ابتداع يستحق عليه التعزير، فيأتي إنسان ويأوي صاحب الحدث، (لعن الله من آوى محدثاً). والمحدَث -بالفتح- هي البدعة والشيء الذي أحدث في الإسلام ولم يكن قبل ذلك، فالذي يأوي المحدث الذي يدافع عن البدعة، والذي يأويها، والذي ينشرها بين الناس قد لعنه النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال: (لعن الله من آوى محدِثاً)، وكذلك (من آوى محدَثاً). وقال هنا في الحديث: (لعن الله من لعن والديه)، فالذي يلعن ويسب ويشتم والديه ويدعو عليهما هذا ملعون. قوله: (لعن الله من غير منار الأرض)، مثل أن يغير علامات الطريق، فالناس يعرفون أن الطريق يكون في السكة الفلانية، فيقوم إنسان ويغير علامات الطريق كي يتوه الناس. ويدخل في ذلك من يغير العلامات والحدود بينه وبين جاره، فأرضه تنتهي إلى العلامة الفلانية ثم تبدأ علامة جاره، فيذهب ويغير هذه العلامة ويزيد في حقه متراً أو مترين من أرض جاره. وجاء في رواية: (من غير تخوم الأرض)، وكأنها الحدود والعلامات التي تكون على الأرض.

معنى اللعن وحكمه

معنى اللعن وحكمه واللعن: هو الطرد من رحمة رب العالمين سبحانه، فإذا لعن الله أحداً فيكون قد حكم عليه بأنه مطرود من رحمته سبحانه، فاللعن: هو البعد عن رحمة الله سبحانه. وقالوا أيضاً: الإنسان اللعين والإنسان الملعون هو الذي استحق ذلك، وأصل اللعن كما يقول أبو السعادات بن الجزري: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء. فاللعن بين الناس هو السب، وكلمة اللعن كلمة خطيرة جداً، فالإنسان الذي يقول لإنسان آخر: لعنك الله، هذه اللعنة تضيق عنها أرجاء الأرض والسماء، فالكلمة تخرج من فم هذا الإنسان فلا تجد لها مكاناً، فتصعد إلى السماء فلا تجد مكاناً، وتنزل إلى الأرض فتضيق عنها الأماكن، فليس هناك إلا اثنان: القائل والمقول له، فإما أن يكون هذا الملعون يستحق أن تنزل عليه هذه الكلمة فتصيبه، وإما أنه لا يستحقها فترجع على قائلها، إلا أن يكون الذي قال ذلك هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فبينه وبين الله عز وجل عهد أنه أيما إنسان لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو دعا عليه وكان لا يستحق ذلك تحولت هذه اللعنة إلى رحمة من الله سبحانه، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لعن أحداً ففيه ما ذكرنا. والله عز وجل قد لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً، وأخبر باللعن على أقوام، فهل يجوز للإنسان أن يلعن هؤلاء الأقوام بأعيانهم أم بعمومهم؟ اختلف العلماء في ذلك، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:64]، إذاً فالكافر ملعون، لكن هل أقول لفلان الكافر: لعنة الله عليك؟ اختلف العلماء في ذلك، فرجح بعضهم الجواز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، والبعض الآخر من العلماء قالوا: الأحوط ترك ذلك؛ لأنك لا تدري فعلك تدعو عليه باللعنة والطرد من رحمة الله ثم هو يموت على غير ذلك، فلعله يسلم بعد ذلك فيموت على الإسلام، فلا تدعو على أحد بعينه باللعنة، فلعل هذا الإنسان يرحمه الله عز وجل ويتوب، وكم من أناس كانوا في الجاهلية كفاراً ومن أشد المؤذين للنبي صلى الله عليه وسلم ثم تاب الله عز وجل عليهم بعد ذلك فأسلموا. قالوا: ولا تقس نفسك على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يلعن من علم أن الله عز وجل قد لعنه، وهو لا ينطق عن الهوى، فإذا لعن إنساناً وكان هذا الإنسان يستحق ذلك فهو ملعون، وإن كان لا يستحق ذلك فهذا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، وتحول هذه اللعنة عند الله عز وجل إلى رحمة على هذا الإنسان. إذاً: فالراجح في ذلك أنك لا تدعو على أحد بعينه باللعنة، ولكن إذا لعنت فقل: لعنة الله على الكافرين، أو تلعن أشخاصاً قد لعنهم الله عز وجل وماتوا على ذلك كـ أبي لهب وأبي جهل وغيرهم من الذين من قبلهم، كقوم فرعون وجنوده، وهامان وقارون، فقد ماتوا على ذلك، وقد ذكر الله سبحانه في كتابه أنهم من رءوس الكفر، فيجوز أن نلعن هؤلاء، وأما الأحياء فإن كانوا على الكفر وما زالوا أحياءً فلعلهم يموتون على الكفر، ولعلهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل، إذاً فلا داعي للعنهم بأعيانهم، وكذلك الظلمة تقول فيهم: لعنة الله على الظالمين، ولعنة الله على المجرمين، ولعنة الله على الكافرين، لكن لا تلعن إنساناً بعينه.

خطورة الذبح لغير الله تعالى

خطورة الذبح لغير الله تعالى قوله: (لعن الله من ذبح لغير الله)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ظاهره أنه ما ذُبح لغير الله. فالإنسان الذي يذبح شيئاً لغير الله سبحانه مثل أن يقول: هذا الذبح للبدوي، وهذا الذبح لكذا، ويسمي من يذبح له بدلاً من أن يسمي الله سبحانه، أو يسمي الاثنين فيقول: هذا لله وللبدوي، أو هذا لله ولـ أبي العباس، فهذا من الشرك بالله سبحانه، ولا يكون الذبح إلا لله وحده لا شريك له، وكذلك غيرهم يذبحون ويقولون: باسم المسيح، فلا يجوز أكل ما ذكر اسم غير الله عز وجل عليه، هذا إن كان المسلم يعرف ذلك. ولذلك فذبائح أهل الكتاب قد أحلها الله عز وجل في كتابه بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، فطعام الذين أوتوا الكتاب المقصود به هنا باتفاق المفسرين: أنه ذبائح أهل الكتاب، فهذا مخصوص وليس على عمومه، فأهل الكتاب يأكلون الموقوذة، ويأكلون المذبوح وغير المذبوح، إذاً فالآية مخصوصة بما ذبح. الأمر الثاني: معلوم أن أهل الكتاب يعبدون غير الله سبحانه، فيتوجهون بالعبادة إلى المسيح، وإلى عزير، وإلى غير ذلك، فإذا ذبحوا وكان ذلك مما يحل لنا في ديننا جاز لنا أن نأكله طالما عرفنا أن هذا قد ذبح. وأما إذا كان ميتة أو خنزيراً أو شيئاً لا يحل لنا في ديننا حتى ولو ذبحوه فلا يجوز لنا أن نأكله، لكن إذا كان ما يحل لنا في ديننا فذبحه أهل الكتاب ولم نعرف هل ذكروا الله أو ذكروا غير الله ولم نسمع ذلك، فالراجح أنه يحل لنا أن نأكله. ومن باب أولى ما ذبحوه أمامنا ولم يذكروا عليه شيئاً فإنه يجوز لنا أن نأكله، لكن إن ذبح وسمعته يقول: باسم المسيح، أو باسم عزير فهذا لا يجوز لنا أن نأكله؛ لأن الله عز وجل قال لنا: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]. إذاً: لا يجوز للمؤمن أن يأكل مما ذكر اسم غير الله عز وجل عليه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال: باسم المسيح أو نحوه. يعني: أن من تقرب إلى الشيخ الفلاني كأن يذبح للبدوي يتقرب إليه بذلك هذا أعظم مما ذبحه إنسان نصراني وقال: باسم المسيح وليس على باله شيء، كأن يذبحها جزار من أجل أن يوزعها للناس أو يبيعها للناس، وليس من أجل أن يهديها للأموات ولا لغيرهم، فهذا حرام وهذا حرام، لكن الأول أشد؛ لأنه صرف عبادة لغير الله، فهذا مسلم لا يجوز له أن يذبح إلا لله عز وجل، وهو الآن توجه إلى غير الله سبحانه يرجو رضا هذا الغير، فهذا أعظم على قول ابن تيمية رحمه الله. يقول: كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله. يعني: لو أني ذبحت شاة وقلت: باسم الله، وذلك من أجل لحمها. أو من أجل البيع فهذا لا بأس به، لكن خير وأعظم منه أذبحها أضحية أو هدياً مع قولي: باسم الله، وتقربي بذلك إلى الله. يقول رحمه الله: فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله تعالى أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله سبحانه، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم حتى وإن قال: باسم الله. يعني: لو أن إنساناً ذبح من أجل الجن وتقرباً للجن، ولسانه يقول: باسم الله، فالعبرة هنا بما في قلبه، فهو يتقرب لمن بهذا الشيء؟ هو يتقرب إلى الجن بذلك، فلا يحل أكل مثل ذلك طالما أن قصد القلب والنية أنها لغير الله سبحانه حتى وإن قال بلسانه: باسم الله. يقول: كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور. أي: وإن كانوا يظهرون أمام الناس أنهم يعالجون بالقرآن، فتجد أحدهم يقول: أنا أعالج بالقرآن، ويقرأ أمامك القرآن لكنه بينه وبين نفسه يفعل أشياء يتقرب بها إلى الكواكب وإلى النجوم، فذبيحته إذا ذبح للجن حتى وإن ذكر اسم الله سبحانه لا تحل. يقول رحمه الله: كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال. يعني: أن الذين يذبحون ويتقربون إلى الكواكب، ويعملون لها البخور فهذا من الشرك بالله سبحانه. يقول رحمه الله: لكن يجتمع في الذبيحة مانعان -أي: ذبيحة هؤلاء- الأول: أنه مما أُهلّ به لغير الله. الأمر الثاني: أنه باعتقاده أن غير الله ينفع ويضر وبتقربه إلى ذلك قد خرج من دين الإسلام. أي: تحرم ذبيحة هؤلاء من وجهين. قال: ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن ذبائح الجن)، وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً ذبحوا ذبيحة، وانظر الآن ستجد بعض الناس إذا بنى بيتاً ذبح ذبيحة، وإذا أتى بسيارة ذبح ذبيحة، ويصر على أنه لا بد أن تكون الذبيحة على عتبة البيت، وقبل أن يضع الأساس يذبح في ذلك المكان، كأنه سيطهر المكان بذلك، مع أن دم الذبيحة نجس، والدم لا يعمل شيئاً، فيأخذ من الدم ثم يضعه بكفه على الحائط ويقول: خمسة وخميسة؛ من أجل أن يمنع عين العفاريت وعين الجن وعين الناس بهذا الشيء. وهذا الأمر كان يفعله أهل الجاهلية يتقربون إلى الجن بذلك، فكانوا إذا اشتروا داراً أو بنو داراً أو استخرجوا عين ماء ذبحوا ذبيحة خوفاً من أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح بذلك. فلو أن إنساناً ذبح بهذه النية فهذا الذبح لا يحل، ولكن قد يكون الإنسان لا يعرف ذلك، وإنما وجد أن الناس يعملون ذلك، فهم يذبحون عندما يشترون شقة، فهو اشترى شقة وذبح كما يفعلون وقصده لله عز وجل وليس لأحد آخر، فمثل هذا يكره ولا يحرم؛ لأنه لم يتقرب لغير الله عز وجل، ولم يستحضر ذلك، لكن نقول لمثل هذا: إذا كنت تريد أن تذبح لله عز وجل فلا تذبح على العمارة، ولا في المكان الذي ستضع فيه الأساس وتظن أن الدم الذي سينزل وسيطهر لك العمارة وسيحفظها، وإنما الذي يحفظ ذلك هو الله سبحانه. فنقول لهذا: لا تتشبه بهؤلاء في الذبح في هذا المكان واذبح في أي مكان آخر، اذبح عند الجزار، أو اذبح في بيتك، ولا داعي للذبح في هذا المكان الذي أخذته، ولا داعي لتنجيس هذا المكان؛ لأن هذا من التشبه بأهل البدع. يقول: ذكر إبراهيم المروزي أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله. أي: أن هذا شرك بالله عز وجل، لكن لو أنه فعل ذلك إكراماً لمن جاءه، وإظهاراً للمحبة بعمل الولائم، فهذا لا يحرم إلا إذا كان يتقرب بذلك إلى من يأتي إليه.

من الكبائر تسبب الإنسان في لعن والديه

من الكبائر تسبب الإنسان في لعن والديه وقال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (لعن الله من لعن والديه)، الوالدان: هما الأب والأم وإن علا الأب وكذلك الأم. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟) أي: كأنه عند العرب ما يتخيل أن واحداً يشتم أباه، والآن هناك من يضرب أباه، ومن يقتله، أو يذهب يحاكم أباه في المحاكم، فهذه الأمور ما كان الصحابة يتخيلون أبداً أن تكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فوضح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الشيء موجود في زمانهم، فقال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه)، إذاً: فالمتسبب بالشتم كالمباشر للشتم، وقد عرفت في فقه الجنايات أنه يقال: هذا مباشر للجناية، وهذا متسبب فيها. فالمباشر هو الذي يقوم بالضرب بنفسه، والمتسبب مثل أن يضع حجراً في الطريق فيمشي رجل فيتعثر بها، ومثال آخر للتسبب ما جاء في هذا الحديث. فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الصورة، فالذي يشتم أبويه مباشرة يكون مرتكباً لكبيرة من باب أولى. يقول هنا: (ويسب أمه فيسب أمه).

حكم إيواء المحدث

حكم إيواء المحدث ثم قال: (لعن الله من آوى محدثاً) أي: منعه من أن يؤخذ منه الحق الذي وجب عليه، قال: وآوى بمعنى: ضمه إليه وحماه. يقول أبو السعادات بن الجزري بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فبالكسر (محدِثاً) معناها: من نصر جانياً وأجاره من خصمه وحال بينه وبين القضاء عليه. وبالفتح (محدَثاً): البدعة نفسها. أي: من يدافع عن البدع. يقول ابن القيم رحمه الله: وهذه كبيرة تختلف باختلاف مراتب الحدث في نفسه. يعني: مثل أن يحدث إنسان حدثاً بأن ضرب إنساناً، وقالوا له: نقتص منك، فجاء رجل وحمى هذا الإنسان وقال: لا أحد يقتص منه، فهذه جناية، وهذا له نصيبه من عقوبة الله سبحانه، ولو أن هذا قتل عمداً وعدواناً فهذه جناية أعظم، فتختلف الجنايات وإيواء هذه الجنايات باعتبار الجرم، فهناك جرم يكون أكبر من جرم آخر. وكذلك البدع، فقد يأوي إنسان بدعة صغيرة، وقد تكون شيئاً عظيماً كبيراً، وقد تكون في أصول الدين وقد تكون في فروع الدين، فبحسب الحدث الذي أحدثه من آواه يكون قد أتى كبيرة من الكبائر، أو أتى ذنباً من الذنوب. يقول ابن القيم: وهذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم.

المعاني التي يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من غير منار الأرض)

المعاني التي يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من غير منار الأرض) قوله: (لعن الله من غير منار الأرض)، في رواية: (ملعون من غير تخوم الأرض)، وهذه الرواية في مسند الإمام أحمد قالوا: أي: معالم وعلامات وحدود الأرض، وواحدها تخم، وتجمع على تخوم. وقال بعض أهل العلم: المقصود بها هنا حدود الحرم، فمكة حرم، والمزدلفة حرم، ومنى حرم، فالذي يغير حدود الحرم ويدخل فيه شيئاً من الحل، أو يكون حلاً ويحكم عليه بأنه حرم، فهذا أيضاً ملعون على قول من الأقوال، فهو داخل تحت قوله: (من غير منار الأرض)، فكل مكان في الأرض فيه حدود وعلامات فمن غيّره فهو داخل تحته، فقيل: هو عام في جميع الأرض، وأراد المعالم التي يهتدى بها في الطريق، وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطع منه. مثل: إنسان عنده أرض بجانب أرض الجار، فيغير ويزحزح العلامة من أجل أن تكبر أرضه على حساب الجار، فتقديمها وتأخيرها هذا من التغيير. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين)، (طوقه) أي: يجعل هذه الأرض التي اغتصب منها شبراً أو سرق منها شبراً في عنقه طوقاً، والله على كل شيء قدير، ففي يوم القيامة يضخم هذا الإنسان حتى يسعه ذلك أن يكون طوقاً في رقبته، فعليه أن يحمل ذلك في عنقه!! لذلك على الإنسان أن يتفكر في ذلك قبل أن يأخذ حق الغير، فماذا سيعمل مع ربنا يوم القيامة؟! فهذا لا يحمل يوم القيامة مثل الذي أخذ من أرض واحدة، بل يحمل كما أخذ من سبع أراضين، أي: بعمق سبع أراضين، وإذا كان أخذ بعيراً، أو فرساً، أو شاة، فكل هذا يأتي يوم القيامة وهو يحمله على ظهره، وإن كان صامتاً من ذهب أو فضة فإنه يحمله على عنقه يوم القيامة، ثم ينادي: يا رسول الله! أغثني، فيقول: (لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلغتك قد بلغتك).

تفسير قول النبي: (لعن الله من آوى محدثا)

تفسير قول النبي: (لعن الله من آوى محدثاً) وهذا حديث آخر يذكره في هذا الباب، وهو حديث طارق بن شهاب البجلي، وطارق بن شهاب قيل: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، وقيل: سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو كبير فيكون على ذلك صحابياً، وقد يكون رواه عنه مباشرة أو رواه عن غيره فيكون من رواية الصحابي عن الصحابي، فهو مرسل صحابي، والحديث رجال إسناده ثقات، ولكن فيه الأعمش وهو مدلس وقد عنعن في هذا الحديث. والحديث يقول عنه ابن القيم: قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه -يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهذا الحديث ليس في المسند، وإنما هو في الزهد للإمام أحمد رحمه الله وكذلك في الزهد لـ ابن أبي عاصم. قال: حدثنا أبو معاوية، وأبو معاوية ثقة، قال: حدثنا الأعمش وهو ثقة أيضاً، واسمه سليمان بن مهران، عن سليمان بن ميسرة وهو ثقة أيضاً، لكن الأعمش قد عنعن هنا، فهذا مما يضعف به الحديث وإن كان رجال إسناده ثقات. وهذا الحديث فيه: (دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابة، فقرب ذبابة، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب فقال: ما كنت لأقرب شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة)، رواه أحمد في الزهد وليس في المسند. فحديث طارق بن شهاب هذا فيه أن رجلاً دخل الجنة في ذباب، وآخر دخل النار في ذباب، وقوله: (دخل الجنة رجل في ذباب) كأن هذا كان سبباً له في دخول الجنة كما فسرها بعدها. وقوله: (دخل النار رجل في ذباب) كأن هذا العمل هو الذي استحق به أن يدخل النار، ولو كان هناك عمل آخر أفظع من هذا العمل لذكره النبي صلى الله عليه وسلم. ولو قيل: كان كافراً وفعل ذلك، فأقول: الواضح أنه لم يكن كافراً، وأنه بهذا الفعل الذي فعله استحق عذاب رب العالمين سبحانه. وجاء في الحديث: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً)، هؤلاء الناس كفار، وقد صنعوا أصناماً، فأحد الاثنين مر بهذا الصنم فقالوا له: (قرب شيئاً، فقال: ليس عندي شيء أقربه قالوا: قرب ولو ذبابة، ومن أجل أن يفلت منهم من مضايقتهم فقرب ذبابة لهذا الصنم، فخلوا سبيله، وكأنه مات على ذلك فاستحق النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب شيئاً لأحد دون الله عز وجل فلما رفض ضربوا عنقه، فدخل الجنة، فقد كانت نية هذا الرجل متوجهة إلى الله سبحانه.

تخفيف الله عز وجل عن هذه الأمة ما لم يخففه عن الأمم السابقة

تخفيف الله عز وجل عن هذه الأمة ما لم يخففه عن الأمم السابقة وانظر هنا إلى ما قاله الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، فهذه كانت من الأصر والأغلال التي كانت على السابقين. فالله عز وجل ضيق على السابقين، والله يفعل كل شيء بحكمة سبحانه، فكل شيء عنده بحكمة، فهنا علينا أن نتعظ كيف رحمنا الله عز وجل بهذا الدين العظيم، وبهذا النبي الذي أرسله رحمة للعالمين، فهو رحمة لنا ورحمة بنا عليه الصلاة والسلام. ففي شرعنا قال تعالى عن المكره: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، إذاً: فالإنسان المكره في ديننا إذا كانوا سيقتلونه فقالوا له: اعمل وانطق بكذا وإلا سنقتلك، فإنه يجوز له أن ينطق ولو بكلمة الكفر فراراً من أن يقتل. وذكر المفسرون في الآية السابقة: (أن عماراً رضي الله عنه أخذه الكفار ووضعوه في الماء وغرقوه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقالوا له: إذا أردت أن تنجو فاذكر محمداً بسوء واكفر بدينه، فأعطاهم ما أرادوا، ثم ذهب يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم فما كان منه -وهو بالمؤمنين رءوف رحيم عليه الصلاة والسلام- إلا أن قال له: أخذوك فغطوك في الماء وقالوا: اذكر محمداً بسوء؟ قال: نعم يا رسول الله! وبكى رضي الله عنه، فقال: إن عادوا فعد). فطمأنه صلى الله عليه وسلم أنه ليس عليه في ذلك شيء؛ لأنه مكره على ذلك. وجاءت الآية في هذا المعنى في سورة النحل، وسورة النحل سورة مكية، وأما الذين من قبلنا فلم يكن لهم عذر في الإكراه على الكفر، وإنما أمرهم الله عز وجل بالثبات حتى لو قتلوا في ذلك. فهذا الذي قيل له: قرب ولو ذبابة فقال: إني لا أقرب شيئاً لغير الله، فقتلوه، فقد صبر على ذلك، فكان ذلك أعظم أعماله فدخل الجنة بذلك، وقد يكون هذا الإنسان قبل ذلك وقع في بعض الذنوب، لكنه لما رفض أن يقرب الذبابة وحافظ على مقام التوحيد كان ذلك سبباً رئيساً لدخوله الجنة. والعكس في هذا الأول الذي دخل النار في ذبابة، فكأنه لم يكن قبل ذلك يستحق أن يكون في النار، ولذلك يقول لنا الشيخ هنا في المسألة التاسعة: أنه دخل النار بسبب ذلك الفعل الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم. والمسألة الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لما قال: دخل النار في ذباب، فليس بعد الكفر ذنب، فلو كان كافراً أصلاً ما زاد شيئاً بأن يقرب ذبابة، لأنه كافر أصلاً، فدل هذا على أنه كان قبل ذلك على الإسلام، وأنه كان يستحق الجنة لولا ما فعل من تقريبه الذباب، فاستحق به أن يدخل النار. وهذا كان في الأمم السابقة، فمقام التوحيد عظيم عند الله عز وجل، وخفف علينا في أن المكره يجوز له أن يتلفظ ولو بلفظة الكفر طالما أنه مكره، فالله عز وجل يعفو عنه إذا كان الإكراه إكراهاً حقيقياً على هذا الإنسان. يقول: [فيه شاهد للحديث الصحيح: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك)]. فالجنة قريبة من الإنسان جداً لو أنه عمل صالحاً، والنار قريبة أيضاً لو أنه ترك الصالحات ووقع في المحرمات. وأيضاً جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يظن أن تبلغ ما بلغته تهوي به في النار سبعين خريفاً، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضا الله تبارك وتعالى) فيكون على العكس من ذلك. فالغرض: أن الإنسان قد يحتقر ذنباً من الذنوب ويكون هذا الذنب سبباً في دخول العبد النار، فأمر التوحيد أهم ما يكون، فالمسلم إذا وقع في شيء من الشرك عليه أن يراجع نفسه، ويوحد ربه سبحانه، ويقول: لا إله إلا الله. فإذا حلف بغير الله وهو لا يقصد أن يعظم غير الله ولكنها كلمة خرجت من لسانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقول: لا إله إلا الله، فكان الصحابة يفلت لسان أحدهم فيقول: واللات والعزى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله. ولا يستمرئ الإنسان أن يقع في الشرك بالله سبحانه، ويقول: هذا شيء بسيط، بل عليه أن يتذكر قصة هذا الرجل الذي قرب ذبابة وظن أنه شيء بسيط فدخل بسببه النار. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

ما جاء في الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره وما جاء في النذر لغير الله

شرح كتاب فتح المجيد - ما جاء في الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره وما جاء في النذر لغير الله لما كان خطر الشرك عظيماً على الإنسان حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه أشد التحذير، ومنع الوسائل والأسباب المؤدية إليه حتى لا يقع فيه المرء وهو لا يشعر. كما بين أن النذر لا يكون إلا لله وحده دون أحد من الخلق، وأن من نذر لغير الله لا يلزمه هذا النذر بشيء.

لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: يقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا في ما لا يملك ابن آدم)، رواه أبو داود وإسناده على شرطهما. هذا الباب الحادي عشر من كتاب التوحيد، والمقصود منه المحافظة على مقام التوحيد، وأن الإنسان المسلم لا يتشبه بالمشركين في شيء كانوا يفعلونه لئلا يؤدي به الأمر بعد ذلك إلى الوقوع فيما كانوا يفعلونه على ما كانوا ينوونه في أفعالهم، فكان المشركون لهم أعياد في الجاهلية، يعني: أماكن يجتمعون فيها ويعود عليهم الحول فيجتمعون فيها مرة ثانية وثالثة، وهذا أصل العيد، وهو الاجتماع سواء في المكان أو في الزمان. يقول هنا: باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله، والذبح عبادة وهو نسك، وسمي نسكاً من النسك وهو التعبد، يقول الله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. والصلاة هي العبادة البدنية والنسك هو العبادة المالية، والصلاة والنسك لا يكونان إلا لله وكذلك كل العبادات لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى. يقول المصنف: [وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين]. يعني: في هذا الأمر، والإنسان لو أنه أشرك بالله سبحانه وتعالى في شيء من العبادة أو في الذبح بأن جعله لغير الله فيكون في البداية متوجهاً لله عز وجل فيتشبه بالمشركين في شيء فعلوه، ثم بعد ذلك شيئاً فشيئاً حتى يتوجه لغير الله عز وجل بهذه العبادة كما يفعل الكثيرون من المشركين في عباداتهم لغير الله سبحانه. وكان الحديث الذي قبل ذلك في الرجل الذي قرب ذبابة والرجل الذي لم يقرب الذبابة، فقد كان هناك صنم للكفار وقالوا لرجل: قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فكان من أهل النار. وقالوا لرجل آخر: قرب ولو ذباباً. قال: ما كنت لأقرب شيئاً لغير الله سبحانه.

قدر التوحيد في قلب المؤمن

قدر التوحيد في قلب المؤمن إن قدر التوحيد في قلب المؤمن يجعله يمتنع عن التشبه بالمشركين في شيء حتى ولو كان مكرهاً وله مندوحة في فعل هذا الشيء ولا شيء عليه؛ لأنه مكره، ولكن حبه للتوحيد وقدر التوحيد في قلبه يجعله يصبر ولو على القتل وإن كان القرآن جعل الإنسان المكره معذوراً: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. فقدر التوحيد في قلب الإنسان المؤمن قدر عظيم جداً. فهو يفتدي توحيد الله سبحانه وتعالى وعبادة الله سبحانه والصبر عليها بنفسه وبماله وبكل شيء ليكون من أهل الجنة موحداً لله عز وجل. فالتوحيد عظيم القدر في قلب الإنسان المؤمن، فهو يحافظ على توحيده، ويحافظ على دينه وعبادته فقد يقلد الكفار في شيء وهو لا يقصد ولا يدري، ثم لعله بعد ذلك يقلد وهو يقصد فيقع في الشرك بالله سبحانه. وأول شرك حدث على وجه الأرض كان في عهد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أناساً صالحين، ثم مات هؤلاء الصالحون فأراد أقوامهم أن يخلدوا ذكراهم، فألقى الشيطان في قلوبهم أن اصنعوا لهم صوراً حتى تذكروهم فصنعوا الصور ومثلوا لهم التماثيل وفي النهاية عبدوهم من دون الله سبحانه. ثم مات القوم الذين يعرفون أن هذا باطل وأن هذه أصنام لا تنفع ولا تضر وإنما صوروها للذكرى، فجاء أولادهم فقالوا: كان آباؤنا يتبركون بهؤلاء، ثم ماتوا وجاء من بعدهم أولادهم فقالوا: كان آباؤنا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله. والإنسان في بداية الانحراف يكون انحرافه بسيطاً والزاوية المستقيمة لما تبدأ تنحرف تبدأ بشيء بسيط وكلما طال الخط كلما كبر الانحراف، حتى يصير هذا في وادٍ وهذا في واد آخر. لذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم ذرائع الشرك من أولها فلا تقع في الشرك ولا تقع في ذريعة تؤدي بك إلى الشرك. وهذا المقصود من الترجمة (لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله تبارك وتعالى).

شرح حديث: (أن رجلا نذر أن ينحر)

شرح حديث: (أن رجلاً نذر أن ينحر) الحديث الذي يتعلق بهذه الترجمة حديث ثابت بن الضحاك وهو حديث صحيح وفيه: أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة. يعني: في مكان اسمه بوانة والرجل نذر أن ينحر في هذا المكان، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية؟) لأن عهدهم قريب بالجاهلية، يعني: مكث النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشرة أعوام ثم توفي صلى الله عليه وسلم، فمن أسلم في هذا الحين فإنه يكون قريب عهد بجاهلية وقريب عهد بشرك، فلذلك كان يخاف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من التشبه بالمشركين والرجوع إلى عوائد المشركين. فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل الناس عن المكان الذي يريد الرجل أن يذبح فيه الإبل لله عز وجل ليوفي بنذره فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ فقالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟) أي: هل كان في هذا المكان الذي اسمه (بوانة) عيد من أعيادهم يجتمعون فيه، وأعياد الجاهلية كانت كثيرة وكان للأنصار يومان في الجاهلية يلعبون فيها في المدينة، والكفار بمكة كان لهم مثل ذلك فعبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فيها عيد من أعيادهم) والعيد من العود وهي أماكن يجتمعون فيها يعود الزمان كل سنة بمثلها، أو أنها اجتماع الناس في مكان ووقت معين أو أن الاجتماع نفسه يسمى عيداً.

تعريف العيد

تعريف العيد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العيد اسم لما يعود من اجتماع عام على وجه معتاد عائد، فهو اجتماع للناس كلهم على وجه يعتادونه في كل سنة مرة، أو في كل شهر مرة، وهكذا. يقول: إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر، والمراد به في هذا الحديث الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية. فالعيد يجمع أموراً منها أنه عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع الناس فيه، ومنها أنه تعمل فيه أعمال من العبادات والعادات. وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، أي: قد يوجد مكان يسمى العيد أو أنه يطلق على اجتماع الناس. يقول: وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً ويدلل عليها بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم. منها: ما رواه ابن ماجة بإسناد حسن: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في يوم الجمعة: إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيداً) ويوم الجمعة عيد بمعنى أنه يعود كل أسبوع فيجتمع المسلمون للصلاة فيه فجعله الله عز وجل عيداً للمسلمين. كذلك في اجتماع الأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنهما: والحديث في الصحيحين وفيه أنه شهد العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم. يعني: شهد أعمال العيد في هذا اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فالعيد نفسه لا يشهد، وإنما أعمال العيد هي التي تشاهد. كذلك يطلق على المكان كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً). واتخاذ القبر عيد هو بأن يجتمع عليه الناس لعبادة معينة تنافي توحيد الله سبحانه وتعالى، كأن يجتمعوا فيدعون النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن يدعوا الله سبحانه وتعالى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً) والحديث صحيح رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني. أيضاً: يكون العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً). وهذا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته فوجد عائشة رضي الله عنها ومعها جواري يغنين معها في يوم عيد، فالنبي صلى الله عليه وسلم ولاهن ظهره ونام وابتعد عن ذلك، ودخل أبو بكر فنهرهن وفرقهن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً). أي اتركهن فإن هذا عيد، فيطلق العيد على اليوم وعلى الاجتماع فيه وعلى ما يكون في هذا اليوم من أفعال. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه عيد من أعيادهم؟) أي: هذا المكان هل كان المشركون يجتمعون فيه على شيء من العبادات الباطلة سواء في زمن معين أو حتى مجرد اجتماع لعبادة غير الله سبحانه؟ فلما قالوا: (لا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك). لأن الإنسان قبل أن ينذر لا يلزمه شيء، والذبح لا يجب عليه إلا إذا كان في حج وكان متمتعاً أو قارناً، أو أتى بشيء مما يلزمه فيه الفدية من محظورات في الإحرام ونحو ذلك، أما غير ذلك فلا يجب الذبح على الإنسان إلا للنذر فإذا نذر وجب عليه أن يوفي بنذره. فهذا ألزم نفسه بهذا النذر أن ينحر إبلاً في مكان يقال له بوانة. وفي حديث آخر رواه أبو داود ولعله في نفس الحادثة عن سارة بنت مقسم الثقفية أنها قالت: سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت مع أبي في حجة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون: رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: جاء في حجة الوداع. قالت: فجعلت أبده بصري، يعني: جعلت أنظر إليه كأنها من مكان بعيد كانت تنظر إليه، فدنا إليه أبي وهو على ناقة ومعه درة كدرة الكتاب. قالت: فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية، يعني: المشي على المهل، فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه قالت: فوقف له عليه الصلاة والسلام واستمع منه، فقال: (يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم). في هذا الحديث ذكر أنه سينحر مجموعة من الأغنام، والحديث الأول ذكر أنه نذر أن ينحر إبلاً فلعله نفس الرجل أو غيره. فالغرض أنه بين سبب النذر فقد كان ينجب إناثاً فنذر لو أن الله وهبه ولداً أن ينحر إبلاً في هذا المكان أو يذبح غنماً فيه. الرواية هنا أنه كان سيذبح خمسين رأساً من الغنم في هذا المكان. قالت: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بها من الأوثان شيء؟ قال: لا. قال: فأوف بما نذرت لله). أي: طالما أن المكان لم يذبح فيه لغير الله عز وجل ولا كان فيه عيد من أعياد الجاهلية -حتى لا يتشبه بهؤلاء- فاذبح لله عز وجل في هذا المكان. وفيه: أن المسلم يحرص على عدم التشبه بالمشركين في شيء مما كانوا يصنعونه في جاهليتهم وكفرهم. وفيه أيضاً: طالما أنه نذر شيئاً مباحاً يجوز له أن ينذر فيه فيجب عليه الوفاء بهذا النذر الذي نذره. وأيضاً قالوا في هذا الحديث: إن المفتي إذا سمع شيئاً فلا يتعجل بالإجابة حتى يستفصل فلعله يكون وراء ذلك شر، فالرجل قال: أنا نذرت لو أني ولد لي ولد أن أذبح خمسين شاة في هذا المكان أو أنحر إبلاً في هذا المكان، والأصل الوفاء بالنذر، والله عز وجل مدح الذين يوفون بالنذر بقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، ولكن لما كانت أحوال الناس تختلف ومن الممكن أن يكون هذا المكان بالذات له في نفوس الناس شيء كشبهة من الشرك لذلك استفصل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هذا المكان كان فيه من أوثان الجاهلية؟ وهل كانوا يعبدون فيه غير الله سبحانه؟ وهل كان فيه عيد من أعياد الجاهلية؟ ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اذبح في هذا المكان بدون استفصال، فسيقول الناس: النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك، وقد كان آباؤنا على الصواب فإنهم كانوا يذبحون في هذا المكان لبركة المكان، فيتذكرون ما كان فيه من تماثيل وأصنام فيرجعون لعبادة الأصنام من دون الله سبحانه وتعالى، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وأخبر أنه سيرجع مرة ثانية وقال: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة وكان صنماً لدوس تعبده في الجاهلية بتبالة) ونساء دوس، أي: نساء قبيلة دوس فسيرجعن مرة أخرى يطفن بالأصنام في هذا المكان الذي هدم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وسيعود الناس إلى الشرك، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وحذر من الذرائع التي توقع الناس في الشرك بالله سبحانه وتعالى. وفي الحديث أيضاً: المنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله وهذا مأخوذ من باقي الحديث حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله) فلو كان هذا المكان فيه عيد من أعياد الجاهلية لمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الوفاء بالنذر فيه. إذاً: أنت نذرت أن تذبح في هذا المكان وكان فيه شرك بالله فلا يجوز لك أن توفي به في هذا المكان، لكن أصل النذر موجود إلا أن يكون النذر بذاته لغير الله فلا يجوز الوفاء به ويكفر عن هذا النذر. قال: (ولا فيما لا يملك ابن آدم). والإنسان لو نذر شيئاً لا يملكه لم يلزمه الوفاء به، ولا يجوز له أن ينذر بذلك كأن يقول: لله علي إن أعطاني كذا أن أعتق عبد فلان؛ لأن العبد الذي يملكه فلان أنت لا تملكه وقد لا تقدر على شرائه من سيده فيكون هذا النذر لا يجب عليك الوفاء به وعليك كفارة يمين في ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين). وكذلك فيما لا يطيق ابن آدم. فالإنسان إذا نذر شيئاً لا يطيقه أو نذر نذر معصية فيلزمه أن يكفر كفارة يمين. وجاء عن أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين). رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني بشواهده.

تفسير قوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا)

تفسير قوله تعالى: (لا تقم فيه أبداً) قال: [وقول الله عز وجل: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]]. (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) والآية تتعلق بمسجد بناه أهل النفاق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا} [التوبة:107] وهذا المسجد الذي بنوه سمي بمسجد الضرار، والذين اتخذوا المسجد إنما اتخذوه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل هم المنافقون، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كان يصلي فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع المؤمنين، وهؤلاء المنافقون أرادوا مكاناً يجتمعون فيه لوحدهم بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم يعملون فيه ما يريدون فبنوا مسجداً، وأرادوا -تمويهاً على الناس- أن يأتوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليصلي في المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً لغزوة تبوك لذلك لم يذهب ووعدهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا رجع سيصلي في هذا المكان، وقد بني هذا المسجد سنة تسع من الهجرة في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بنى هذا المسجد المنافقون ضراراً أي: مضارة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولكي يكيدوا لهم، ويتجسسوا على أخبارهم وإذا جاء أحد من جواسيس الروم وغيرهم أخفوه في هذا المكان وأطلعوه على أسرار المسلمين بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين. وأيضاً حتى يحزبوا الناس فحزب يصلي هنا وحزب يصلي هناك، وأيضاً ليبعدوا الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مواعظه وعن العلم الذي يؤخذ منه عليه الصلاة والسلام. فيكون ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فيكون الغريب من جواسيس الكفار والمشركين ينزل في هذا المكان بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو ورجع عليه الصلاة والسلام وأمر بهدم هذا المسجد. وقيل: إنه أحرقه عليه الصلاة والسلام والله أعلم، لكن الغرض أن الله عز وجل أنزل القرآن يفضح هؤلاء، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة:107] الآية، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108] والأصل المفترض أن المسجد موقوف لله عز وجل ولكن هذا المسجد لم يكن بنية سليمة، فإنه بني للضرار، وللأذى، ولتفريق المسلمين فلذلك نهاه الله عز وجل عن أن يصلي في هذا المسجد وإن كانت الرواية التي جاءت في تحريق المسجد إسنادها ضعيف لكنها مشهورة عند أهل السير فذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم فيه وأرسل إليه فهدمه والله أعلم بذلك. قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108] وانظر إلى كلمة أبداً فلم يأمره أن يجعله لأمر آخر. ولم يأمره أن يرسل إليه إماماً يأتم بالناس فيه لأنه بني للمضارة، فعاقب هؤلاء على ما صنعوا ليكون سبة عليهم ولعنة عليهم فيما صنعوا لتفريق المؤمنين. وحماية لجناب التوحيد وعبادة الله عز وجل نهى أن يصلي في هذا المكان أحد، حتى يعلم أن هذا مكان المنافقين الذي بنوه مضارة وأذى للمسلمين ومحادة لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام.

المسجد الذي أسس على التقوى

المسجد الذي أسس على التقوى ثم عظم الله شأن مسجد قباء ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. فالمسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، قالوا: هو مسجد قباء. وقالوا: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل غير ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل في المدينة على الأنصار خط في المكان الذي نزل فيه مسجداً عليه الصلاة والسلام، فأي مسجد خطه النبي صلى الله عليه وسلم وبناه فهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقد جاء في حديث أبي سعيد قال: (تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم. فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو مسجدي هذا). وقباء كان قبل المسجد النبوي ولكن أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسجده أنه أسس على التقوى من أول يوم وذلك لا ينافي أن قباء أيضاً كذلك وإنما فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على غيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مسجد قباء في كل سبت ويصلي فيه ركعتين صلوات الله وسلامه عليه ويقول: (صلاة في مسجد قباء كعمرة). وفي الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً). فذهب بعض أهل العلم إلى أنه هو المسجد الذي أسس على التقوى ومنهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغيرهم، والحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري يبين أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره. وإذا قيل: هو مسجد أسس التقوى فلا شك في أنه أسس على التقوى وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء كذلك أسس على التقوى من أول يوم وكان قبل بناء مسجده عليه الصلاة والسلام. فالغرض أن كلا المسجدين قد أسس على التقوى وقد مدح الله عز وجل قباء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الثاني وهو المسجد النبوي. قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. وقد روى الإمام أحمد وابن خزيمة عن عوين بن ساعدة الأنصاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم). وهذا بيان أن مسجد قباء أسس على التقوى؛ لأنه هنا متعلق بالآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] فالحديث هنا يبين أنه مسجد قباء أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟) والطهور بمعنى: التطهر، والطهور بمعنى: الآلة المستخدمة في التطهر. فيكون الطهور الوضوء أو الغسل أو التنظف بالاستنجاء ونحوه. والطهور: الماء الذي يستخدم في ذلك. فهنا أثنى عليهم الله عز وجل بالطهور، فقال هنا: (ما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو ذاك فعليكموه). والحديث له أسانيد حسنة وذكر الألباني في الإرواء أنه صحيح. والحديث فيه أن الله عز وجل قال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] وذكر في الحديث هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأهل مسجد قباء فدل على أن مسجد قباء مقصود بهذه الآية، ومسجد قباء الصلاة فيه ركعتين كعمرة لكنه لا يعدل فضيلة مسجده عليه الصلاة والسلام، فإذا كان مسجد قباء أسس على التقوى فمسجده من باب أولى فلذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا المسجد هو المسجد النبوي. فدل الحديثان على أن مسجد قباء أسس على التقوى ومسجده عليه الصلاة والسلام أيضاً أسس على التقوى. والمدح لأهل قباء وهم من الأنصار والأنصار كانوا معاشرين لليهود في المدينة، وكانت عادة القرشي أنه إذا أتى الغائط أو أتى البول استجمر بعده لقلة المياه عندهم، وقد علمهم النبي صلى الله عليه وسلم استخدام ثلاثة أحجار في التنزه وما كانوا يعتادون استخدام الماء في مكة لأنه إن وجد فيكون قليلاً ونادراً، لكن في المدينة كان أحدهم إذا أتى الغائط يستجمر بالحجر ثم يستنجي بالماء، وكأنه بالحجر يخفف وبالماء يزيل ما تبقى، فمدحهم الله عز وجل على حبهم للتطهر ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا: كنا نتبع الحجارة الماء، ليكون أنقى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو ذاك فعليكموه). ولما ذكر الله عز وجل مسجد الضرار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} [التوبة:107] والمنافقون كذابون، فكانوا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، بل سيكذبون على الله يوم القيامة. فقال الله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107] أي: يحلفون لك كذباً أنهم أسسوا هذا المسجد للتقوى وللعبادة والله يشهد إنهم لكاذبون، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].

لا بأس بتخصيص البقعة بالنذر إذا خلت من الموانع

لا بأس بتخصيص البقعة بالنذر إذا خلت من الموانع من المسائل التي ذكرها الشيخ في هذا الباب: (تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع). والمعنى: إذا نذرت لله سبحانه وتعالى فكأنك قيدت نفسك بعبادة من العبادات لله سبحانه وتعالى، والنذر منه النذير والنذارة فكأنك أخفت نفسك من عدم الوفاء بهذا الذي قطعته على نفسك به، وإذا قطعت على نفسك نذراً فإنه يلزمك أن توفي به. وإذا نذرت في بقعة معينة كأن تقول: لله علي نذر أن أطعم أهل مسجد كذا من الفقراء كذا أو أن أذبح في المكان الفلاني لأهله الفقراء. فإنه يلزمك الوفاء بما قيدت نفسك به إلا أن يكون هذا المكان فيه مظهر من مظاهر الشرك فلا يجوز لك أن تنحر فيه وانحر في أي مكان آخر. ولو أن إنساناً قال: لله علي أن أنحر إبلاً في المكان الفلاني وكان هذا المكان فيه عبادة لغير الله سبحانه كمولد من الموالد، أو بدعة من البدع، أو شرك بالله سبحانه وتعالى فلا يجوز له أن يوفي بالنذر في هذا المكان ويلزمه أن يوفي في مكان آخر.

الطاعة والمعصية تؤثران في مكانة المكان الذي وقعت فيه

الطاعة والمعصية تؤثران في مكانة المكان الذي وقعت فيه من المسائل التي ذكرها الشيخ هنا: (أن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة). ومقصده: أن عبادة الله عز وجل في أي مكان ترفع من قيمة هذا المكان، وإذا كان هذا المكان فيه شرك بالله عز وجل فإنه لا يكون له نفس المكانة التي كانت له قبل وقوع الشرك فيه، فأثرت المعصية على هذه البقعة من الأرض بأن يجتنب الإنسان الموضع لأنه كان يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى، وإن كانت المعصية أثرها على أصحابها والأرض لا تحمل من أوزار الناس شيئاً. قال: (وكذلك الطاعة). يعني: المكان الذي أسس على تقوى الله كانت النتيجة أن صلوا في هذا المكان وقوموا فيه، والمكان الذي أسس على مضارة المؤمنين ومحادة الله ورسوله كانت النتيجة (لا تقم فيه أبداً). هذا مقصد كلامه. وفيه أيضاً: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال، يعني: إذا سأل إنسان عن شيء موهم مشكل يمكن أن يكون له جواب متعارض فاصبر حتى تفهم المسألة ويزال عنك الإشكال لتجيب بالصواب. وفيه أيضاً: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله وإبعاده إلا ما ذكرناه قبل ذلك. فيه المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله، يعني: لا ينذر نذراً في مكان كان فيه شرك بالله، أو كان فيه عيد من أعياد الجاهلية، أو كان فيه وثن من أوثانهم، ولا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه معصية، وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصدهم. وكذلك الحذر من مشابهتهم في أفعالهم، وكما ذكرنا قبل ذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا بنى أحدهم بيتاً ذبح في مكان من البيت يتقرب للجن بذلك حتى لا يضروه، ومن فعل مثل هذا الآن بمثل هذه النية فإنه يتشبه بهم، وعلى الإنسان ألا يفعل أفعال هؤلاء كما قدمنا قبل ذلك، والذي يبني عمارة ويذبح فيها بقرة أو يذبح فيها شيئاً قد يعرف وقد لا يعرف أصل هذا العمل، فإن كان يعرف فقد شابه هؤلاء وقصد قصدهم، وإذا كان لا يعرف ينبه على ذلك وأنه لا ينبغي أن يذبح ويقلد المشركين في ما كانوا يصنعون. ومن المسائل أيضاً: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، وقد دل الحديث على أن الشيء الذي لا تملكه لا يجب عليك الوفاء به إذا نذرت فيه ولا يتم نذرك بذلك، والأفضل في ذلك أن تكفر عنه كفارة يمين، مثل أن يقول: لله علي إذا حدث كذا أن أذبح بقرة جاري، فهنا هو لا يدري أن جاره سيسمح له بذلك أو لا؟ وهل سيبيع له البقرة أو لا؟ إذاً: هو نذر شيئاً لا يقدر عليه، وفي هذه الحالة يكفر كفارة يمين.

باب من الشرك النذر لغير الله

باب من الشرك النذر لغير الله

أنواع النذر وحكم كل نوع

أنواع النذر وحكم كل نوع وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] فيها المدح للمؤمنين الذين يوفون بالنذر. والنذر منه ما هو جائز، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم. فالنذر الجائز نذر التبرر كأن يقول: لله علي أن أقوم هذه الليلة، أما النذر المكروه فهو نذر المعاوضة ونذر اللجاج، كأن يقول: يا رب! لو شفيت مريضي سأصوم لك ثلاثة أيام، كأنه يتعامل مع الله بهات وخذ، ستعطيني كذا سأعمل لك كذا، فهذه المعاملة لا ينبغي أن تكون مع الله عز وجل، فهو بذلك ينسى نعم الله عز وجل عليه وينظر إلى هذا الأمر فقط، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك وأخبر: (أن النذر لا يأتي بخير إنما يستخرج به من البخيل)، (النذر لا يأتي) يعني: لن تنال ما تريده بنذرك إلا أن يكون الله قدره لك، إذاً: سواء نذرت أو لم تنذر فسيحصل لك طالما أن الله قدره لك، وإذا لم يقدره لك فلن تحصل عليه سواء نذرت أو لم تنذر، (وإنما يستخرج به من البخيل) والإنسان ببخله يتعود على ذلك، وينسى أن الله أعطاه كل النعم العظيمة التي يعيش فيها ويتقلب فيها ليل نهار. وكره النبي صلى الله عليه وسلم هذا النذر الذي هو نذر المعاوضة، وإنما النذر الجائز المباح نذر التبرر، مثل إنسان يريد أن يلزم نفسه بقيام الليل فيقول: لله علي أن أقوم الليل هذه الليلة، فيقصد إلزام نفسه بهذه العبادة التي كانت مباحة ومستحبة وجائزة وليست واجبة فصارت بنذره واجبة عليه، فإذا وفى بنذره فإنه مأجور على ذلك. والنذر الممنوع منه نذر الشرك، ونذر المعصية، والنذر فيما لا يطيق ولا يقدر ابن آدم عليه كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم وفيها تفصيل. ومن الشرك النذر لغير الله، كأن يقول: سأذبح للبدوي كذا لو حصل كذا، وسأذبح لـ أبي العباس كذا لو حصل كذا، فنذر أن يذبح لغير الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له ذلك فالعبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]. وقال الله سبحانه يمدح المؤمنين: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] يخافون يوم القيامة الذي شره عريض واسع عظيم -نسأل الله العفو والعافية- فيوفون بالنذر. قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] أي: يعلمه فيجازيكم عليه على إحسانكم بالإحسان، يقول ابن كثير: يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات ومن النفقات والمنذورات ويتضمن ذلك المجازاة على ذلك. يقول: وإذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم كل ذلك شرك في العبادة. يعني: أن يأتي إلى قبر من القبور ويقول: يا سيدي فلان اعمل لي كذا، أو يكتب ورقة ويعلقها بالقبر، أو يضع رأسه على حديد القبر ويتكلم في السر كأنه يكلم صاحب القبر، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52]. وإن كان أسمع أهل القليب في يوم بدر وهذا كان خاصاً، لكن في غير ذلك الميت لا يسمع من الأحياء شيئاً إلا ما يبلغه الله عز وجل لهؤلاء الأموات عن طريق أرواح الأموات التي تأتي إليهم. فإن الأموات في قبورهم تأتي إليهم روح الإنسان المتوفى حديثاً فيسألونه: ما فعل فلان وفلان؟ فيقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية. فهم أموات لا يدرون شيئاً عما في الدنيا. فيقول لهم: تزوج فلان من فلانة وترك فلان فلانة وفعل فلان. فالغرض: أن الإنسان مهما دعا الأموات، ومهما كانوا من الصالحين أو من غيرهم فإنهم لا يسمعون الدعاء إنما الذي يسمع الدعاء ويستجيب هو الله عز وجل. قال الله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]. كان أهل الجاهلية إذا زرعوا وحصدوا قالوا: هذا نصيب ربنا سبحانه وتعالى من الزرع، ويفعلون مثلها في الأنعام ويقولون: هذا نصيب الصنم الفلاني والصنم الفلاني، فإذا اختلط هذا مع هذا جعلوه كله للأصنام، فما كان لله جعلوه لأصنامهم وما كان لأصنامهم لا يجعلونه لله عز وجل ويقولون: الله غني عن هذا وكأن الصنم فقير، ويعبدون هذا الفقير الذي يعرفون أنه لا يملك شيئاً، فإذا اختلطت الأنعام التي جعلوها لله بالأنعام التي جعلوها لأصنامهم جعلوها كلها للأصنام وقالوا: الله غني عن ذلك، وإذا كان الله سبحانه غني فلماذا تتركون عبادته لتعبدوا هذا الفقير بزعمكم؟ ساء ما يحكمون، قال الله سبحانه: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136].

حكم النذر لغير الله

حكم النذر لغير الله يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو في منزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات. والذي يحلف بغير الله معظماً غير الله سبحانه فإنه يشرك بالله سبحانه، فإذا حلف الإنسان وهو يقصد تعظيم هذا الشيء، كأن يحلف بالشمس والقمر أو بالأصنام فقد كفر الكفر الأكبر، وإذا كان هذا مما يجري على اللسان ولا يدري بذلك فيقال له: قل لا إله إلا الله لأنه وقع في الشرك الأصغر بذلك. ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: الحلف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، كذلك الناذر للمخلوقات فإن كلاهما شرك والشرك ليس له حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله). لقد كانوا قريب عهد بشرك فكان على لسانهم: واللات والعزى وكان يحلف الرجل بأبيه أو بأمه فنهاهم الله عز وجل عن ذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من حلف فليحلف بالله أو ليصمت). ثم قال: من نذر للقبور أو نحوها دهناً لتنور به وقال: إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين. فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، يعني: لا يجوز الوفاء بذلك، كأن يذهب إنسان إلى مكان فيه بدع وأناس يدعون غير الله كقولهم: المدد يا فلان، ويطلبون منه أن يمدهم، ومعنى أمدنا، أي: أعطنا، فتجده يقول: مدد يا بدوي، مدد يا أبو العباس، مدد يا آل البيت، وهؤلاء قد ماتوا وإن كانوا من الصالحين ومن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كـ العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيرهم من آل بيته ولكنهم ماتوا وأمرهم إلى الله عز وجل فأنت تنتفع بعلمهم وبما تركوه من تفسير وغيره. أما أن يعطيك مدداً فإنه لا يملك لنفسه فضلاً أن يملك لك، فالذي يطلب المدد من الأموات يطلب ما لا يعطيه إلا الله سبحانه وتعالى فهو مشرك بالله عز وجل. وحاشا لله سبحانه وتعالى أن يجعل واسطة بينك وبينه سبحانه، وقد قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]. يقول: والمجاورون لهذه القبور فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه الصلاة والسلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، الذي يجاور القبر ويكون خادماً له ويدعو الناس إلى النذر للميت، وكأن هذا الميت سينفعهم والذي ينفع ويضر هو الله والميت لا يملك لنفسه شيئاً ولا لغيره. قال الرافعي في شرح المنهاج: وأما النذر للمشاهد التي على القبور أو على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من الأولياء أو اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين؛ فإن قصد الناذر بذلك -وهو الغالب أو الواقع من قصور العامة- تعظيم البقعة والمشهد أو الزاوية أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد. والرافعي من أئمة الشافعية فيذكر أن الذي ينذر نذراً لقبر من القبور أو لمكان حله ولي من الأولياء أو مكان حله إنسان من الصالحين ويقصد بهذا النذر أن يتقرب به إلى هذا الصالح قال: وهو قصدهم الغالب قال: فهذا باطل غير منعقد؛ فإن معتقدهم - يعني: الناذرين- أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب بها النعماء. فتجده يقول: أنا عندما ذهبت إلى المكان الفلاني قضيتي نجحت، ولما ذهبت إلى سيدي فلان أو الشيخ فلان كسبت قضيتي، فيعتقدون أنه يطوف بغير الكعبة ويظن مع ذلك أنه بتقربه لهذا المكان سينجح في عمله. فهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى. قال: ويعتقدون أنه يستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح. قال: وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت ويقولون: إنها تقبل النذر كما يقوله البعض، يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض أو قدوم غائب، قال: فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من الشرك أن يستغاث بغير الله أو يدعى غيره

شرح كتاب فتح المجيد - من الشرك أن يستغاث بغير الله أو يدعى غيره إن الاستغاثة التي هي طلب التحول من حال إلى حال، وطلب التحول من الكروب والهموم والشدة إلى الفرج واليسر، لا يجوز طلبها إلا من الله سبحانه وتعالى، ومن ظن أن هناك من يفرج الكروب، ويزيل الشدائد غير الله فقد أشرك مع الله غيره. والاستغاثة تختلف عن الدعاء من بعض الوجوه فقط. فالاستغاثة لا تكون إلا من مكروب مهموم محزون، بخلاف الدعاء فقد يكون من مكروب ومن غير مكروب والدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ليحذر المسلم من الاعتداء فيه.

الاستغاثة وحكم صرفها لغير الله سبحانه وتعالى

الاستغاثة وحكم صرفها لغير الله سبحانه وتعالى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. هذا هو الباب الرابع عشر من كتاب فتح المجيد، وفيه من الشرك أن يستغيث المرء بغير الله، أو يدعو غيره. قال الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:106 - 107]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]. وروى الطبراني بإسناده، أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله). يستغيث الإنسان بمعنى: يطلب الغوث، فهو يطلب تحول ما هو فيه من ضنك وكرب وشدة، فيغيثه ويجيره مما هو فيه، فيحول شدة الكرب إلى فرج ويسر وإلى ما يحبه الله سبحانه وتعالى. فكأن الاستغاثة: طلب إزالة الشدة التي وقع فيها الإنسان، واستعان بالله سبحانه وتعالى عليها، أي: طلب المعونة من الله سبحانه وتعالى.

الفرق بين الاستغاثة والدعاء

الفرق بين الاستغاثة والدعاء يقول العلماء: الاستغاثة هي دعاء، ولكن بينهما عموم وخصوص، فالدعاء أعم والاستغاثة أخص، فالاستغاثة تكون من مكروب، مثل إنسان واقع في كرب فيستغيث ويستجير ويطلب إزالة هذا الكرب ورفع هذه الشدة عنه، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من الإنسان في وقت البلاء وفي وقت الرخاء، والاستغاثة من أنواع الدعاء. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجاب له في وقت البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء)، فإذا اعتاد الإنسان أن يدعو الله في الرخاء، كان جديراً أن يستجاب له في وقت نزول البلاء والشدة. ومن الشرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غير الله سبحانه.

معاني الدعاء

معاني الدعاء والدعاء له معنيان: فيأتي بمعنى التوحيد، وبمعنى التعبد، يقول تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، فادعوا الله أي وحدوا الله سبحانه وتعالى، وتوجهوا إليه وحده بالعبادة سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، أي: متضرعين مبتهلين إليه مخفين دعاءكم. والدعاء بالمعنيين مطلوب من العبيد، فيتقربون إليه سبحانه بالصلاة، فمعنى أن يصلي العبد لله عز وجل: أن يدعو الله سبحانه. وجاءت الشريعة فجعلت لفظة الصلاة لهذه العبادة التي فيها هيئات وأدعية وقراءة وفيها دعاء لله تبارك وتعالى، فالصلاة عبادة والصلاة دعاء، وهذا أصل تسمية الصلاة. فالغرض: أن الصلاة تأتي بمعنى الدعاء، وهنا الصلاة تشتمل على الدعاء وعلى غيره، فيصلي العبد ويدعو ربه في صلاته موحداً الله سبحانه طالباً من الله فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. أي: نتوجه إليك بالدعاء وبالعبادة، طالبين منك أن تعيننا، فهو مسألة، فيكون عبادة ومسألة في الدعاء.

أنواع الدعاء

أنواع الدعاء والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ومعنى دعاء العبادة: التوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وهذا يدخل فيه المسألة. والدعاء الآخر يكون مسألة الله سبحانه وتعالى، فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله سبحانه على من يدعو أحداً من دونه سبحانه وتعالى، وقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [المائدة:76]، فهم توجهوا إلى غير الله سبحانه فعبدوهم وطلبوا منهم، فطلبوا من اللاة، وطلبوا من العزى، ومن مناة، وطلبوا من غيرها من الأوثان التي اتخذوها آلهةً من دون الله، فقال الله موبخاً لهم، ومنكراً عليهم: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وقال سبحانه على لسان المؤمنين: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام:71]. أي: هل يعقل أن نطلب من غير الله سبحانه أن يكشف عنا ضراً، أو يجلب لنا نفعاً، مع أنه لا يستطيع أن ينفع نفسه ولا يضرها؟ قال: {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]، أي نستسلم ونذعن وننقاد ونطيع رب العالمين. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ} [يونس:106] وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه أن يفعل، {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة. فيقول له: أنت وأنت رسول الله لو غفلت ودعوت غير الله سبحانه لصرت من الظالمين، فغيره من باب أولى أن يكون كذلك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. والعبادة هي أن تتوجه إلى الله عز وجل بكل ما يحبه ويرضاه من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة، فالإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى، ويتقرب إليه بكل ما يحبه ويرضاه سبحانه وتعالى من أقوال وأفعال ونوايا. فلماذا تعبد الله تبارك وتعالى؟ A تعبده لأنه يستحق ذلك، وتعبده رغبة في ثوابه وجنته، وتعبده خوفاً من عقابه ونقمته. فإذاً: أنت وأنت تتوجه إليه بالعبادة فإن هذا التوجه يتضمن أنك خائف من عذابه، طالب لرحمته وجنته، فإذاً العبادة تتضمن المسألة، أي: أنه داخل في داخلها. والعبادة متضمنة للدعاء، والصلاة عبادة وهي تتضمن الدعاء بل إن من الدعاء ما هو واجب ولا تصح الصلاة بغيره مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي أنا أتوجه إليك يا رب! بهذه العبادة، وأطلب منك العون، وهذه مسألة فلو أنك لم تسأله ولم تقل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لم تصح صلاتك. فإذاً: الصلاة عبادة، وهي تتضمن الدعاء، وهذا معنى قول ابن تيمية رحمه الله: إن العبادة تتضمن الدعاء، وقال: كل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. فدعاء المسألة هو كأن يقول العبد: يا رب! ارزقني مالاً، ونحوه، فأنت تسأل الله عز وجل، وكونك تتوجه إليه وتقول: يا رب! ولم تطلب من أحد غيره، فأنت تعبد الله سبحانه وتعالى وحده، وحين تقول: يا ربي! يا من خلقتني! يا من ربيتني! يا من أعطيتني! يا قادر على الإعطاء والمنع! أعطني كذا. فكونك تطلب منه وحده فأنت تقر بأنه الرب الذي يملك ذلك سبحانه، فتتوجه إليه وحده فهو الإله المعبود، وهذا من دعاء المسألة الذي هو داخل في دعاء العبادة، إذاً: فكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وسنضرب أمثلة مما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، كقوله سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فالدعاء هنا هو أن تطلب من الله سبحانه متضرعاً مخفياً ذلك، فلا ترفع صوتك بالدعاء؛ لأنك لا تدعو أصم ولا غائباً، إنما تدعو سميعاً بصيراً قريباً سبحانه وتعالى. فالإنسان يدعو ربه متضرعاً له، متذللاً بين يديه سبحانه، خاشعاً متمسكناً. وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] المتعدي في دعاء الله سبحانه: هو الذي يطلب ما لا يكون لمثله. وكذلك الذي يصرخ في دعائه لربه سبحانه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً).

الإخلاص من أسباب استجابة الدعاء

الإخلاص من أسباب استجابة الدعاء قال الله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:40]، أي: من الذي تسألونه أن يكشف الكرب في هذا الوقت: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام:41]، والأصل أن يقول: (بل تدعونه)، فقدم المفعول على الفعل للاختصاص، يعني: أنه يدعى وحده لا شريك له، {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41] سبحانه وتعالى. ولاحظ قوله: (إِنْ شَاءَ)، أي: فإن شاء عجل لك ما تطلبه، وإن شاء لم يعطك عين الذي طلبت وأعطاك غيره، وإن شاء كشف عنك ضرك، وإن شاء جعل لك ذلك ثواباً في الآخرة، أما أن تطلب من الله شيئاً معيناً ولا تريد سواه فليس بلازم على الله أن يعطيك إياه، بل يعطيك ما يشاء سبحانه وتعالى. وهنا تظهر عزة الله وحكمته وعلمه سبحانه، فهو يعطيك ما يشاؤه سبحانه وتعالى، ولذلك لما كان المشركون يدعون غير الله سبحانه وتعالى، ويقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء لا يملكون لكم شيئاً، اطلبوا من الله سبحانه وتعالى، قالوا: نتوسل بهم إلى الله سبحانه {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فيسألونهم ويتقربون إليهم من أجل أن يوصلوا الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]. فربنا لا يحتاج إلى واسطة تكون بينه وبين العبد، بل إن العبد قريب منه. فالله سبحانه قال لنا: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:41]، أي: إذا جاء وقت الضر نسي المشرك شركه وتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يطلب من غيره سبحانه، وقد قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، أي: المسجد بيت الله سبحانه، فإذا طلبت فاطلب منه وحده، ولا تشرك به سبحانه لا في دعاء عبادة ولا في دعاء مسألة. وقال الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]، فانظر إلى قوله سبحانه: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) أي: لله عز وجل الدعوة الحق: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [الرعد:14] أي: يدعون الأنداد الذين اتخذوهم من دون الله وهم لا ينفعون ولا ينتفعون، ولا يملكون شيئاً، {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14]، وهنا تشبيه جملة بجملة، فشبه المشركين الذين يطلبون من آلهتهم أشياء وهي لا تعطيهم شيئاً، ولا تملك لهم شيئاً، كإنسان واقف أمام نهر، والنهر بعيد منه، وهو باسط يديه يقول للماء: تعال، والماء لا يأتي إليه، فالذي ينظر إليه يقول: هذا مجنون، إذ كيف يطلب من الماء أن يأتي إليه؟ فمثل هذا كمثل هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى آلهتهم، وهم يعرفون أنها لا تملك شيئاً. قال: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]، أي: في ذهاب وفي تيه وفي باطل، ولا يفلح صاحبه.

الدعاء يشمل أنواع التوحيد الثلاثة

الدعاء يشمل أنواع التوحيد الثلاثة وأمثلة دعاء المسألة في القرآن أكثر من أن تحصر، فأنت حين تقول: يا رب! اكشف عني هذا الضر، فهنا كأنك تقول: يا ربي! أنا أوحدك، وأنا أعبدك، وأنا مستيقن أنك وحدك الذي تملك ذلك، ولذلك أنا أتوجه إليك. ويدخل في هذا جميع أنواع التوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فأنت تجمعها عندما تقول: يا رب! أعطني، لا يملك أن يعطي إلا أنت، ولا يملك كشف الضر إلا أنت، فأنا أتوجه إليك بهذا الدعاء. فأنت عندما قلت: يا ربي! أتيت بتوحيد الربوبية، فهو وحده الرب الذي يملك ذلك. ولما قلت: أنا أتوجه إليك فأعطني. فيه توحيد الألوهية، ولما قلت: إنه لا يملك أن يعطي إلا أنت ولا يملك أن يمنع إلا أنت، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فهذا إقرار بصفاته سبحانه وهي أنه سبحانه الملك الذي يخلق والذي يرزق والذي يغفر سبحانه وتعالى، فلذلك دعاء المسألة يتضمن العبادة، وإن لم يكن في دعائك ذكر العبادة، إنما مقتضى دعاء المسألة أنك تعبد الله سبحانه وتعالى؛ لأنك توجهت إليه وحده. وقال سبحانه على لسان خليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [مريم:48 - 49]، قال: أعتزلكم وما تدعون، فذكر الدعاء وذكر العبادة، وكأنه يقول: الدعاء يتضمن العبادة، فاعتزلهم إبراهيم وقال: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [مريم:48 - 49]، فالدعاء كان عبادة لغير الله بفعلهم، وعبادة لله بفعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فصار الدعاء من أنواع العبادة. قال: وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14].

أسباب المروق من الدين هي ذاتها في القديم والحديث

أسباب المروق من الدين هي ذاتها في القديم والحديث وقال رحمه الله في رسالته السنية: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها الغلو في بعض المشايخ، ومنها الغلو في علي بن أبي طالب والغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الألوهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، إلى آخر كلامه رحمه الله. فالغرض هو بيان أنه وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من دخل في الإسلام ومرق منه كالمنافقين، أمثال عبد الله بن أبي ابن سلول، فقد دخل في الإسلام ثم كان في قلبه النفاق والغل والحقد على الإسلام، فلم ينفعه إسلامه. فكون الإنسان قال: لا إله إلا الله، ليس معناه أنه بهذه الكلمة -سواء فهم معناها أو لم يفهم معناها- ليس من الممكن أن يخرج من هذا الدين، بل من الممكن أن يخرج من الدين بأن يأتي ما يناقض الدين، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن أبي ابن سلول وأمثاله من المنافقين: لا إله إلا الله، ولم تنفعهم هذه الكلمة بسبب ما حوت قلوبهم من شرك وكفر بالله، وبغض للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. فكذلك في أي عصر من العصور يوجد المنافقون الذين يقولون: لا إله إلا الله، ويضمرون البغض للإسلام والمسلمين، فلا يقال لهم مسلمون، ولكن يقال مرقوا من دين الله عز وجل. كذلك إذا وجد من يقول: لا إله إلا الله ثم وقلد المشركين، فالمشركون كانوا يعبدون غير الله ظاهراً وباطناً، والمنافقون كانوا يعبدون الله ظاهراً، وفي الباطن يكفرون بالله سبحانه، فإذا كان الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر قد قال الله فيه أنه منافق في الدرك الأسفل من النار، فكيف بالإنسان الذي يظهر الإسلام ويظهر معه الشرك بالله سبحانه وتعالى، كهؤلاء الذين يغالون فيما يتقربون إليه من دون الله سبحانه وتعالى فيقولون: يا سيدي فلان! أعطني شيئاً. وهذا الشيء لا يطلب إلا من الله سبحانه. فالإنسان لو أنه طلب من إنسان حي شيئاً يملكه فأعطاه أو منعه فلا يقال: هذا شرك، كما لو ذهب إنسان إلى إنسان وقال: يا سيدي! أعطني كذا، فإنه لا شيء عليه، أما إذا توفي هذا الإنسان وجاء رجل يقول: يا سيدي فلان! أعطني كذا. فكيف يعطيه وهو لا يملك لنفسه شيئاً؟ وكيف يعطيه شيئاً وهو لا يملكه؟ فيقول لنا هنا: إن كثيراً ممن يزعمون أنهم على التوحيد، وأنهم أهل صوفية وغير ذلك، يتوسلون بغير الله، ويتقربون إلى غير الله سبحانه، بل وقد يذبحون لغير الله وينذرون له، وهذا مشاهد كثيراً، فترى أحدهم يقول: يا سيدي فلان! أعطني كذا لله علي أن أذبح لسيدي فلان كذا وكذا، فهم وجهوا العبادة -التي لا تكون إلا لله- إلى غير الله سبحانه. فقال: كالغلو في بعض المشايخ. بل والغلو في علي بن أبي طالب، فـ علي بن أبي طالب، وجد من غلا فيه وزعم أنه إله من دون الله، أو أنه هو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فحرقهم علي بن أبي طالب في زمنه؛ لأنهم ألهوه من دون الله سبحانه، وجاء من بعدهم من غلاة الشيعة من يزعم أن علياً إله، وأن الناس فيها أسماء وفيها صفات، وأن الاسم علي والحقيقة أنه الإله تعالى الله عز وجل عما يقولون علواً كبيراًَ. وكذلك الغلو في المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد زعم النصارى أنه الله، أو أنه ثالث ثلاثة، ثم زعموا له أشياء لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، فكل من غلا في نبي، أو في رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني أو أغثني أو ارزقني، فهذا كله من الشرك بالله سبحانه وتعالى. فالذين دعوا غير الله سبحانه، قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فزعموا أن الذي يملك النفع والضر هو الله، وأنهم ما يعبدون هؤلاء إلا ليقربوهم إلى الله سبحانه، والله عز وجل قال في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) لا يريد هذه العبادة التي تكون لله ولغير الله سبحانه، فالله عز وجل يقبل من العبادة ما كان موجهاً إليه وحده سبحانه وتعالى.

طلب الحوائج من الموتى من أنواع الشرك

طلب الحوائج من الموتى من أنواع الشرك قال ابن القيم رحمه الله: ومن أنواعه -يعني: من أنواع الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فهم يزعمون أن هؤلاء الموتى يملكون قضاء الحوائج، مع أن الله عز وجل قد قطع عنهم ما كان من أمر الدنيا، فصاروا لا يعرفون شيئاً من أمور الدنيا إلا ما يبلغهم الله سبحانه وتعالى من شيء. فهنا يقول ابن القيم: أن من أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم. وقال السبكي: إن المبالغة في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، فهنا لا بد من النظر في معنى هذه الكلمة، أي نوع من المبالغة؟ هل هي إظهار المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول رب العالمين، أم الاحترام الذي يليق به كبشر، أو أنه المبالغة في ذاته حتى يخرجوه عن حدوده البشرية فيجعلونه في منزلة الله سبحانه وتعالى، فيسمع ويجيب الناس حوائجهم، وهذا مما لا يحل لأحد أن يعتقده. لذلك يقول ابن عبد الهادي رداً عليه: إن أُريد بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً، حتى الحج إلى قبره والسجود له، والطواف به، واعتقاد أن النبي يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فالمبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك. فهذا قد أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى. وتفصيل الكلام: إذا وجد إنسان يقول أنه سيتوجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم للطواف به مثلاً، وإن كان لا يحدث مثل هذا والحمد لله، ولا يقدر عليه من يريد أن يفعل ذلك على أن يطوف بقبر النبي صلوات الله وسلامه عليه- ولكن إن اعتقد إنسان أنه يحل له أن يطوف بقبر نبي أو بقبر ولي أو غير ذلك فهذا من الشرك بالله سبحانه؛ لأنه يكون قد توجه بعبادة لغير الله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد).

اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب أو يدخل أحدا من الخلق الجنة بمشيئته

اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب أو يدخل أحداً من الخلق الجنة بمشيئته وكذلك اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، ومسألة اعتقاد علمه الغيب فيها تفصيل: فإذا كان الإنسان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لكونه نبياً أطلعه الله عز وجل على بعض الأشياء الغيبية فهذا صحيح، فقد أطلعه الله عز وجل على أشياء من علم غيبه سبحانه فرأى الجنة عليه الصلاة والسلام، ورأى النار وعرج به إلى السماء، فلا مانع من اعتقاد هذه الأشياء، بل من أصول هذا الدين أن يعتقد المسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، نزل عليه الوحي من السماء، ونزل عليه القرآن، نزل به جبريل من اللوح المحفوظ في السماء، فهو كونه نبياً قد مكنه الله عز وجل من أن يرى جبريل وأن ينظر إلى الجنة وأن ينظر إلى النار. وأما إذا كان يعتقد أن الغيوب التي حجبها الله سبحانه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، إن كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أيضاً فهو يكذب كتاب رب العالمين سبحانه الذي يقول: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ)) والذي يعتقد ذلك إنسان مشرك ضال. فكل نبي من أنبياء الله اسمه نبي، وصفته نبي، وكلمة نبي مأخوذة من النبوءة، والنبوءة هي: الإخبار بالمغيب، فالأنبياء يخبرون عن غيب، ويخبرون عن الله سبحانه وتعالى، والله غيب سبحانه، ويخبرون عن صفاته سبحانه وهي غيب بالنسبة لنا، فالذي يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أشياء من الغيب مثل: صفات الله الغيبية، فهذا صحيح، فهو قد علمها وبلغنا إياها، وقد عرفناها نحن أيضاً بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه من الغيوب التي أطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عليها وبلغها للأمة. أما أن يعتقد أنه صلى الله عليه وسلم يعرف الغيب الذي اختص الله به نفسه، فهذا من الشرك بالله سبحانه؛ لأن الله اختص بذلك لنفسه، ولم يطلع أحداً على ذلك، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً. ومن الشرك بالله اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز السجود له، مع نهيه عن ذلك صلوات الله وسلامه عليه، أو أنه يملك الغوث -لمن يطلب منه ذلك- من دون الله سبحانه وتعالى، أو أنه يقضي حوائج السائلين. وانظروا للجارية لما قالت في شعرها: وفينا نبي يعلم ما في غد أنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا يعلم ما في غد إلا الله)، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) صلوات الله وسلامه عليه. يقول: كذلك من يعتقد أنه صلى الله عليه وسلم يفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، فهو يشفع صلى الله عليه وسلم ليس فيمن يشاء هو، لكن فيمن يشاء الله سبحانه، يقول تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، لاحظ الفرق الدقيق بين الاثنين، فالله عز وجل يشفع ونبيه صلى الله عليه وسلم يشفع ويشفع المؤمنون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لمن قال له الله عز وجل: اشفع فيهم، ولمن حددهم له ربه سبحانه ممن مات لا يشرك بالله، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء، فلذلك قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، لا نبي ولا ولي ولا أحد أبداً يشفع عند الله إلا بإذنه. إذاً: ليس بمشيئته عليه الصلاة والسلام، ولكن بمشيئة رب العالمين حيث أذن له وقال: (اذهب فأخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) إذاً: بإذن الله سبحانه وبمشيئته وليس بمشيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يتبين لنا كذلك من حديث الشفاعة، كيف أنه يتوجه إلى ربه ويسجد تحت عرشه، فلما يسجد يتركه الله سبحانه وتعالى ما شاء أن يتركه، لبيان عزة رب العالمين سبحانه، ولبيان أنه وحده الذي يملك أن يأذن في الشفاعة أو عدمها. ثم يفتح على نبيه صلى الله عليه وسلم بمحامد يعلمه إياها لا يعرفها الآن، ولكن يوم القيامة يلهمه الله كيف يحمده فله الفضل أولاً وآخراً سبحانه وتعالى. فهذا المقصود من كلام ابن عبد الهادي. ومن الشرك قوله: ويدخل الجنة -أي النبي صلى الله عليه وسلم- من يشاء، فالله سبحانه هو الذي يملك أن يدخل من يشاء الجنة وأن يدخل من يشاء النار، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه الله عز وجل الشفاعة، ويحد له حدوداً أنه في الوقت كذا اشفع لهؤلاء، وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم يقول في النهاية: (شفع أنبيائي وشفعت ملائكتي، وشفع الأولياء ولم يبق إلا أرحم الراحمين -سبحانه وتعالى- فيقبض قبضة من أهل النار قد استوجبوا العذاب ويدخلهم الجنة سبحانه وتعالى) فهؤلاء ما شفع فيهم نبي ولا ولي ولا ملك ولا غيره، ولكن أرحم الراحمين سبحانه وتعالى أدخلهم الجنة بفضله وبرحمته سبحانه وتعالى.

كفر من قال: إن أرواح الأولياء تحضر بين الأحياء وتعلم ما هم فيه ولها تصرفات في الحياة

كفر من قال: إن أرواح الأولياء تحضر بين الأحياء وتعلم ما هم فيه ولها تصرفات في الحياة يقول: وفي الفتاوي البزازية من كتب الحنفية، قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم، يكفر؛ فهو يريد أن يسوق من كلام أئمة المذاهب، حتى لا يأتي إنسان يقول: أنتم حنابلة لذلك تقولون هذا الكلام، ونحن حنفية، فيأتي لهم بكلام الأحناف، حتى أنه قد استفاض في ذكر كلام الأحناف في هذه المسألة؛ لأن كثيراً من الناس في بلدان كثيرة يتبعون المذهب الحنفي، ويتبعون المذهب الشافعي وهكذا. فهو يذكر لهم أن هذا كلام أئمة الأحناف في زمانهم وأنهم قد قالوا هذا الشيء. فبعض الصوفية يقول: نحن قاعدون في مجلس وأرواح مشائخنا حاضرة معنا، وهذا كذب؛ لأن الله عز وجل يقبض هؤلاء الأموات، وإذا قبضهم لم يرسلهم سبحانه وتعالى حتى تقوم القيامة، فمن زعم أن الأرواح تحضر معهم فإنه يفتري على الله سبحانه، ويكذِّب بما ذكر الله سبحانه وتعالى. كذلك في كتاب الشيخ صنع الله الحنفي أحد الأحناف وهو متأخر والظاهر أنه كان في الدولة العثمانية فهذه الألقاب كان ظهورها في عصر الدولة العثمانية، فالمقصد أن هذا من الأحناف وقد رأى الشرك الذي يصنعه كثير من الناس في البلاد، فقال في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، كأن يقول: إن الولي الفلاني يتصرف في حياته وبعد وفاته، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهمهم تنكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن لهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة، والقطب: هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور. قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة. يقصد المؤلف من كلامه أن البعض من هؤلاء -وهذا يوجد في كتب الصوفية- يطلقون على فلان لقب القطب أو قطب من الأقطاب، أي: ولي من الأولياء، والقطب هو الغوث، وعليه المدار، مثل قطب الرحى الذي هو الخشبة التي بين المحورين، أو هي الخشبة المحورية التي تدور حولها الطاحونة، فيقولون: إن هذا هو القطب الذي يدور حوله العالم. فهذا القطب تفرد بهذا الشيء وحده، فأين الله سبحانه وتعالى؟ فقد نسبوا لغير الله التصرف في الكون بقولهم هذا، ويقولون: هؤلاء الأقطاب الأربعة في كل قطر من العالم فقد قسموا العالم أرباعاً، كل ربع يتصرف فيه قطب معين. فإذا كان القطب هو الذي يتصرف فأين الله سبحانه وتعالى؟! وما الذي يصنعه الله سبحانه وتعالى؟! فهم يشركون بالله سبحانه من حيث يعلمون أو يجهلون. يقول الشيخ هنا: لما فيه من روائح الشرك المحقق. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، أي: يكون في شق مخالف للشق الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مأخوذة من الخندق الذي يكون فيه المتقاتلون، فأهل الإيمان لهم خندق، وأهل الكفر كذلك، فالذي يشاقق الرسول كأنه ترك خندق النبي صلى الله عليه وسلم ونزل في خندق الكفار، فالذي يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين نتركه فيما هو فيه ونحمله ما تحمل من آثام، قال: {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]. ثم قال الشيخ صنع الله: وأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فهذا يرده قول الله سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالله وحده سبحانه وتعالى هو الذي يخلق ووحده الذي يأمر سبحانه، فما كان من شيء فالله خلقه، فأين الذي خلقوه من دون الله سبحانه وتعالى؟ وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المائدة:120] أي: التصرف في ملكوت السماوات والأرض لله، وقدم الجار والمجرور على الاسم في الآيتين، لاختصاصه سبحانه وتفرده بذلك، فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وأصلها الخلق والأمر له، وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المائدة:120]، والأصل أن يقال: ملك السماوات والأرض لله، ولكن لاختصاصه بذلك وتفرده وحده قدم الجار والمجرور. قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، فالله هو العلي وحده لا شريك له القادر على التصرف، وكل من دونه تحته سبحانه، سواء كانوا صالحين أو طالحين، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، سواء كانوا يعقلون أو لا يعقلون، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، رجالاً أو نساء كل من تدعون من دون الله، لا يملكون فتيلاً ولا نقيراً ولا قطرة ولا قطميراً، لا يملكون شيئاً، وعبر هنا بأحقر الأشياء التي ينظر الإنسان إليها، وهي النقرة أو تسمى النقير الذي في النواة، والفتلة التي داخل النقير واسمها الفتيل، والغشاء الرقيق الذي حول النواة اسمه القطمير، فهؤلاء لا يملكون نقيراً ولا قطميراً ولا فتيلاً، مع أنها من أهون الأشياء، فهذا الشيء الحقير الذي تحتقره هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يملكون أن يوجدوه، ولا يملكون أن يخلقوه فكيف بهذا الملكوت العظيم؟ وكيف يقال عنهم أنهم يتصرفون في هذا الكون؟ حاشا لله سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في ملكه. قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. يقول رحمه الله: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال الله جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فكما أنه جاء عليه الموت فسيجيء أيضاً على غيره عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42]، ولاحظ التعبير في هذه الآية، فالذي يموت لن يترك ليذهب أينما يشاء، بل يكون مقبوضاً عند الله سبحانه، فقد انقطع أمره عن الدنيا تماماً. إذاً: لا يمكن أن يرجع الولي إلى الدنيا ويتحكم في العالم بعد وفاته، ولا يمكن أن يقتل إنسان ثم ترجع روحه إلى الدنيا لتعمل على تخويف الناس، لا يوجد شيء من هذا، إنما هو من كذب هؤلاء، فالله يخبر أن الروح إذا ذهبت قبضها الله سبحانه وأمسكها، قال سبحانه: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، ومعناه: أن الذي يتحرك ويذهب ويجيء حي، وأن الذي ذاق الموت فهو لا يتحرك وقد صار إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يملك أن يرجع إلى الدنيا مرة ثانية، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، إذا مات ابن آدم انقطع عمله، والمقصود كل بني آدم بما فيهم الأنبياء والرسل والأولياء وجميع من خلقهم الله عز وجل من ذرية آدم، فإذا مات الإنسان ليس له من عمل بعد موته إلا ثلاثة أشياء، وهذا استثناء معناه الحصر في هذه الثلاثة فقط: (صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). وهذه الأعمال الثلاثة التي تبقى لهم إنما كانت منهم في حياتهم، فبعد أن مات لن يأتي ليعلم الناس، ولكن ينفعه من العلم ما استفاد منه الناس في حياته وبعد موته، وبعد أن مات لن يستطيع أن يرجع ويتصدق، ولكن ما جعله صدقة جارية فانتفع بها الناس بعد وفاته فله أجرها، وإذا كان له ولد فرباه وأحسن تربيته، فهذا هو الذي يدعو لأبيه وهذا هو الذي ينتفع به الميت بعد وفاته. ومفهوم الحديث أن غير هؤلاء لا ينتفع بها العبد.

المعجزة والكرامة والفرق بينهما

المعجزة والكرامة والفرق بينهما يقول صنع الله الحنفي: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه لا قصد لهم فيه، ولا تحدي ولا قدرة ولا علم كما في قصة مريم ابنة عمران وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني. المقصود أن الله سبحانه وتعالى جعل المعجزات لأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وجعل الكرامات يكرم بها من يشاء من عباده المؤمنين سبحانه وتعالى. وفرق بين المعجزة والكرامة، فالمعجزة يتحدى بها، كأن يطلب الكفار شيئاً من النبي صلى الله عليه وسلم ويتحدونه أن يفعله ويأتي به فيأتي بهذا الشيء الذي يجعله الله سبحانه وتعالى له آية، مثل انشقاق القمر، حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه وأشار إلى القمر فانشق، فهي معجزة وفيها التحدي وأصل المعجزة مأخوذ من التعجيز، والمقصود هنا الذي مبناه على التحدي. والكرامة من الله عز وجل يكرم بها من يشاء من خلقه سبحانه بما يشاء، كأن يكون عبد من عباد الله صالحاً فيكرمه الله بشيء لم يطلبه العبد، ولكن الله وهبه له سبحانه.

نماذج من أصحاب الكرامات

نماذج من أصحاب الكرامات ثم ساق ثلاثة أمثلة من أهل الكرامات، قصة مريم بنت عمران، فهي عليها السلام كانت صديقة ولم تكن نبية على الصحيح من أقوال أهل العلم، والله سبحانه وتعالى جعلها وابنها آيتين من آياته سبحانه وتعالى، فأكرمها بأن حملت بغير زوج، فقد حملت بالمسيح عليه الصلاة والسلام وليس لها زوج فليس للمسيح عليه السلام أب بل هو منها وحدها، فجعل الله عز وجل هذه آية لـ مريم قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران:45] فذكر أن المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام خلق بكلمة (كن) من الله سبحانه وتعالى. فكان هذا لـ مريم آية من الآيات وهي لم تطلب ذلك، ولم تسأل الله عزل وجل ذلك، ولكن أكرمها فجعلها لها آية وكرامة وابتلاء، وقال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، فكانت كرامة من الله عز وجل لـ مريم بنت عمران أن الله يرزقها في مكان صلاتها، وينزل عليها رزقاً من السماء إلى المحراب، وهذه كرامة يكرم الله عز وجل بها من يشاء من خلقه. والمثال الثاني: قصة أسيد بن حضير، وهو صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ من القرآن وكان يقوم لله سبحانه وتعالى فيصلي بما يحفظ، فقام مرة -كما جاء في صحيح البخاري وغيره- يصلي لله عز وجل ليلة من الليالي في مربضه وهو المكان الذي يربط فيه الحصان، وكان ابنه يحيى قريباً من الحصان، فقرأ من سورة البقرة، فإذا به يجد شيئاً مثل السرج ينزل من السماء، ووجد الحصان ينفر من مكانه، فإذا به يقرأ، وإذا بهذا الشيء ينزل وإذا بالحصان يزداد في النفور، ثم إنه انقطع عن القراءة فارتفع هذا الشيء الذي نزل من السماء. يقول وهو يحكي القصة: (فخشيت أن يطأ يحيى، فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة، كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم). فهذه ملائكة نزلت من السماء لحسن تلاوته وإخلاصه وتعبده بالليل، ولو ظل يقرأ حتى الفجر لأصبح الناس ينظرون إلى الملائكة، فهذا أسيد بن حضير أكرمه الله بكرامة، وهو لم يطلب هذه الكرامة، ولم يسأل ربه ذلك، ولكن الله أعطاه ذلك. يقول الشيخ صنع الله: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة. أي: من يغالي في المشايخ، ويقول: إنهم يتصرفون في العالم، أو أن الله جعل لهم التصرف في بلدة معينة، أو في جزء من الأرض معين، فيقول الشيخ: هذا من الكذب، فلم يجعل الله سبحانه وتعالى لأحد أن يتصرف في شيء من خلقه سبحانه، بل هو الذي يتصرف في أمور الكون كلها وحده لا شريك له. ثم ذكر أن الكرامة شيء يكرم الله عز وجل به أولياءه لا قصد لهم فيها، والتصرف فيه قصد، فهو يقصد أنه يتصرف في كذا ويتصرف في كذا ويعمل كذا وهذا يتنافى مع الكرامة، فلم يجعل الله لهم ذلك، فالكرامة أن يكرم الله من يشاء من عباده بشيء لا قصد لهم فيه كما ذكرنا في قصة مريم عليها السلام أن الله أكرمها بأن جعل لها رزقاً في محرابها من عنده سبحانه: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]. الكرامة الثالثة: وكانت لـ أبي مسلم الخولاني، وأبو مسلم الخولاني رجل من المخضرمين أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في اليمن ولكنه لم يره، وكان الأسود العنسي قد تنبأ في اليمن واسمه الأسود بن قيس ولقبه ذو الحمار، فبعث الأسود إلى أبي مسلم الخولاني، وقال له: أتشهد أني رسول الله؟ وقد أسلم أبو مسلم رضي عنه، فيقول أبو مسلم: لا أسمع ما تقول، فيقول الأسود العنسي لـ أبي مسلم: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول أبو مسلم: نعم صلوات الله وسلامه عليه، فيكرر عليه الأسود: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، يعني: كلامك سخيف ولا يستحق الجواب عليه، فإذا به من غيظه يأمر بإيقاد نار ليضع أبا مسلم الخولاني فيها، فأوقدوا له ناراً ووضعوه فيها، فنجاه الله سبحانه وتعالى ولم تحرقه النار، فإذا بهذا الأسود يطرده من اليمن فيتوجه أبو مسلم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلما وصل إليه وعرف بقصته رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم صلى الله عليه وسلم. فهذه كرامة من الله عز وجل لـ أبي مسلم الخولاني، هو لم يطلبها ولكن الله أكرمه بهذا الشيء، فهذه كرامات لأولياء الله سبحانه، ولم نسمع أن هؤلاء قد قالوا: نحن نتصرف في الكون أو ظن أحد منهم أن لهم تصرفات في الكون.

الفرق بين الاستغاثة الممنوعة والاستغاثة المشروعة

الفرق بين الاستغاثة الممنوعة والاستغاثة المشروعة يقول رحمه الله: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، -يعني بالأولياء- فهذا أقبح مما قبله وأبدع، لمصادمته قوله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، ثم ينكر الله على المشركين الذين جعلوا هؤلاء آلهة مع الله، فيقول: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] وفي بداية الآية يقول الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، فلم يقل: نبياً ولا ولياً ولا إنساناً ولا جاناً ولكن الله عز وجل وحده هو الذي يجيب المضطرين. فمن زعم أن المكروب له أن يلجأ إلى فلان من الناس ليرفع عنه الكرب فإنه مشرك بالله ويدعو إلى الشرك به سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام:64]، أي: من كل ما يقع فيه الإنسان من بلاء ونحوه، قال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:63 - 64]. يقول المصنف: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية. يعني: لو أن إنساناً وجد نفسه في مشكلة كأن يكون حوله الأعداء فيستغيث بالمسلمين ليغيثوه فهذا جائز، ولو أنه ناداهم مثل أن يقول: يا للمسلمين! يا فلان! تعال، من أجل أن يساعده فيما هو فيه، فهذا جائز، أما أن يطلب من بشر ما لا يكون إلا من رب البشر سبحانه سواء كان حياً أو ميتاً فهذا هو الشرك بالله سبحانه وتعالى. ولذلك يقول: وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق فهذه من خصائص الله سبحانه، ولا يجوز لأحد أن يطلب من أحد من البشر مثل هذا. ثم ذكر بعد ذلك قول الله عز وجل: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقد سبق أن ذكرنا معناها. وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، فإذا ادعى إنسان أن غير الله يكشف الضر فإنه يكذّب ما قاله الله سبحانه، فالله وحده هو الذي يكشف الضر، والله وحده هو الذي يستجيب للمضطر إذا دعاه، قال تعالى: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]. وكذلك قال الله لهؤلاء المشركين على لسان إبراهيم في سورة العنكبوت: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]، فالرزق لا يطلب إلا من عند الله سبحانه، فمن ظن أن غير الله يعطيه رزقه فقد اعتقد الشريك لله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]. فإذاً: هم يدعون هؤلاء الآلهة من دون الله، والآلهة غافلة عنهم لا تدري عنهم شيئاً، فإذا جاءوا يوم القيامة تبرءوا منهم، وكذلك الذين يعبدون عزيراً من دون الله، والمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، يأتون يوم القيامة فيتبرأ منهم عزير ويتبرأ منهم المسيح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله سبحانه: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5] يعني: في الدنيا، فإذا جاءوا يوم القيامة تبرءوا منهم، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6].

فضل الدعاء

فضل الدعاء وقد ساق الشارح أحاديث في الدعاء وأن الدعاء عبادة لله سبحانه وتعالى، منها قول أنس رضي الله عنه مرفوعاً: (الدعاء مخ العبادة)، وقد ذكرنا هذا الحديث وأنه ضعيف؛ لأن في إسناده ابن لهيعة وهو مدلس، والراوي عنه الوليد بن مسلم وهو مضطرب وعلى هذا فالحديث بهذه الصيغة ضعيف. لكن صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة)، فذكر الدعاء وأخبر أنه عبادة لله سبحانه. وكذلك في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، فإذا طلبت فلا تطلب من غير الله، ولكن اطلب من الله وهذا حديث حسن رواه الترمذي وغيره، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ). فإذا كان القلب مستيقناً بالإجابة أعطى الله للعبد مسألته، وإذا كان العبد لاهياً غافلاً يدعو باللسان وليس في قلبه الموافقة لما يقوله بلسانه فلا يستحق الإجابة، وهذا الحديث هو حديث حسن. وكذلك جاء في حديث آخر: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، رواه الترمذي وحسنه الشيخ الألباني. إذاً: الدعاء عبادة لله عز وجل، فإذا دعوت فادع الله سبحانه وحده، فالله يفرح بعبادة عبده له كدعائه له، ويستجيب سبحانه وتعالى له، فإذا ترك الدعاء غضب الله عز وجل عليه. وكذلك جاء في الحديث الآخر: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)، رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وحسنه الألباني، ففيه أن من أعظم ما تعبد به ربك سبحانه أن تدعوه. كذلك ذكر الشارح حديثاً لا يصح عنه صلى الله عليه وسلم وهو: (الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض) وهذا حديث موضوع لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً ذكر حديث: (اسألوا الله كل شيء حتى الشسع إذا انقطع)، والشسع هو الذي يمسك نعل الإنسان في قدمه، وهذا لا يصح مرفوعاً، إنما يصح من قول عائشة رضي الله عنها وهو حديث حسن موقوفاً على عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فيجب عليك أن تتعود على الدعاء حتى في أقل الأشياء، فإذا انقطع حذاؤك فادع ربك سبحانه وتعالى. فالدعاء عبادة تتقرب بها إلى الله وتؤجر عليها وتثاب من الله سبحانه وتعالى، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم! إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان) إلى آخره، وكذلك قوله: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد)، فهذا من دعاء النبي لربه سبحانه والذي فيه الطلب وفيه التعظيم لله سبحانه والعبادة له. وهذا حديث أخير ذكره في المتن وهو حديث ضعيف قال: روى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) والحديث في إسناده ابن لهيعة وفيه أيضاً رجل مجهول وهو الراوي عن عبادة بن الصامت، فالحديث لا يصح. ورواه الإمام أحمد بلفظ آخر، وفيه أن القائل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يقام إلا لله)، فنهاهم عن أن يقوموا للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم يطلبون منه شيئاً، وهو أن يغيثهم من المنافق الذي آذاهم، ولكن ليكونوا على أماكنهم ويطلبوا من النبي صلوات الله وسلامه عليه ما شاءوا، وإسناده أيضاً ضعيف. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1