فتح العلي الحميد في شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد

مدحت آل فراج

مقدمة

مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فقد كثر الجدال، وعم النزال حول مسألة «حكم تكفير المعين»، وتجاذبتها اتجاهات متباينة، وتناحرت حولها فرق مختلفة، والأمر مرشح لتفاقم ومزيد اشتعال. فهذا فريق قد أفرط وغلا، وأراد إلغاء شروط التكفير وشطب موانعه، وظن أن كل من وقع في قول أو فعل قد نص العلماء على أنه من نواقض الإسلام، ومن الأمور المكفرة أنه كافر، دون نظر منهم إلى أن هذا المكفر يناقض أصل الدين، أم أصول الاعتقاد، أم فروع الشريعة القطعية ... وكذلك دون نظر منهم إلى حال المكلف هل كان حديث عهد بإسلام؟ أم نشأ ببادية بعيدة عن سماع التكليف؟ وهل كان جاهلاً جهلا يعذر به؟ أم كان

مخطئًا؟ أم كان ذاهلاً عن اعتقاده؟ وترتب على هذا: أن حكموا بالكفر، وأجروا أحكامه على أناس من المسلمين، ومن ثم تبرءوا من قوم قد أمرهم الله بموالاتهم، واستحل بعضهم دماء معصومة، ونهبوا أموالا غير مهدرة ..... ومن نافلة القول: أن نبين عظم هذا الذنب، وأن صاحبه على خطر عظيم. ويكفينا هنا ذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الغني عن التفسير. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما» (¬1). **** وقابل هؤلاء فريق فرط وجفا، ووضع شروطا وموانعًا للكفر والذي نفسي بيده قد لا تنطبق على إبليس اللعين وأرادوا إقفال باب الردة وشطب أحكامها ... وحتى لا يظن ظان أني أبالغ فإليكم نص واحد منهم في كتاب متداول مطبوع. قال صاحب الكتاب بعد أن ذكر نواقض الإسلام العشرة للإمام محمد بن عبد الوهاب -دون عزو له- بل زاد في نصوصها أمورا أفسدتها، وأبطلت مراد الإمام تمام من ذكرها، وقبل أن أذكر نص الكاتب أذكر بأن الإمام محمد ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (6104)، وصحيح مسلم (60)، ومسند أحمد (5644)، واللفظ له.

ابن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- لم يجعل مانعًا من إجراء حكم الكفر على كل من وقع في واحد منها إلا الإكراه، الإكراه فقط. فقال -رحمه الله تعالى- قبل ذكر النواقض: «اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة» (¬1) ثم ذكرها، ثم قال في خاتمتها: «ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، ومن أكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على محمد» (¬2). وأما الكاتب (¬3) عفا الله عنا وعنه فقد قال بل ذكر النواقض: «ونرى أن هناك أمورًا إذا طرأت على المسلم أخرجته من الإسلام، ذلك إذا فعلها عامدًا، مختارًا غير مكره، ولا متأول ولا جاهل». ثم قام بذكر النواقض على الوجه المذكور آنفًا ثم قال بعدها: «وكل هذه النواقض من فعلها جادًا أو هازلاً، أو خائفًا كفر. إلا أن يكون جاهلاً، أو مكرهًا، أو مخطئًا، أو متأولاً مجتهدًا». وكل مسلم وقع في شيء مما سبق، فإنه يجب على الناس إقامة الحجة عليه، وإظهار البرهان له على أن فعله كفر، فإن تبين بعد إقامة الحجة عليه أنه مصر على فعله - عنادًا واستكبارًا وجحودًا- فإنه يحكم بكفره. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 91 - 93). (¬2) الدرر السنية (10/ 91 - 93). (¬3) أعتذر للقارئ بأني سوف أحتفظ باسم الكاتب والكتاب لأن المقصود البيان وليس التشهير، والكتاب من منشورات «دار الزاحم بالرياض».

ونحن الآن لسنا في مقام الرد، ولكن في مقام ضرب مثل على ما قلناه، فالكاتب هنا اشترط شروطا لإجراء حكم الكفر والردة لا تنطبق على إبليس اللعين. فقد اشترط إقامة الحجة، وإظهار البرهان، ثم إن تبين بعد ذلك «إصراره» أي إذا فعل الكفر بعد ذلك ولم يكن مصرًا عليه فلا يكفر فيا لها من فضحية عافانا الله وكاتبها وجميع المسلمين من كل سوء. ثم أضاف إلا الإصرار أن يكون المصر معاندًا، مستكبرًا، جاحدًا وإبليس اللعين لم يكن جاحدًا، وكيف يجحد، وقد كان الله -جل في علاه- هو الذي يخاطبه بنفسه الكريمة دون إرسال رسول إليه. فالكفر عند هؤلاء لا يكون إلا بالاعتقاد كسلفهم من غلاة المرجئة، وأما عن أهل السنة فيقع بالقول، وبالفعل، وبالاعتقاد، وترتب على ما أراد هذا الفريق: تمييع التوحيد في نفوس الأمة، بسبب تهوين أمر ضده ونقيضه الشرك الأكبر. الحكم بالإسلام على أناس كافرين، ومرتدين عن الملة. إصباغ الشرعية على الطواغيت وأعوانهم. تمييع أصل من أصول الإسلام، وركن من أركان الإيمان، وهو وجوب البراءة من المشركين والمرتدين، لأن من حكم بالإسلام عليهم فلابد وحتمًا سوف يقوم بموالاتهم ونصرتهم. ولكن يجب هنا التفريق بين من قام بنصرة المرتدين على ردتهم ومن أجلها وبين من قام بنصرتهم لأجل إسلامهم -في زعمه- في أمور لا تمس

ردتهم بحال من الأحوال (¬1). ومن نافلة القول: أن نبين عظم هذا الذنب، وأن أصحابه على خطر عظيم؛ قال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في نواقض الإسلام العشرة: «الناقض الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعًا» (¬2). ولقد حذر الله عباده من موالاة الكافرين، وأبان أن من فعل هذا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، وأنه مقطوع من الصلة والولاية والنصرة الربانية، وأنه يكون بهذا مرتدًا عن الإسلام، ومنسلخًا عن الإيمان. قال الله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. وبين الفريقين، فريق توسط بينهما، فجنب الهوى، واستفرغ الوسع، وانطرح بين يدي ربه يسأله السداد والتوفيق والهداية .... فنظر في نصوص الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها واعتمد الشروط والضوابط والموانع التي قررتها الشريعة في هذا المسألة، بغير إفراط ولا تفريط، وبدون جفاء ولا غلو. ¬

_ (¬1) يوجد تفصيل واضح لهذه المسألة وما تفرع عليها في شرحنا لهذا الكتاب المبارك. (¬2) الدرر السنية (10/ 91) أخي القارئ هذه القاعدة لها شروط وضوابط ومناطات مختلفة مذكورة في هذا الكتاب.

ومسألة «تكفير المعين» مسألة عظيمة ينبغي أن يوليها المسلم جل همه، ويصرف لها غالب بحثه ونظره ليظفر ويتيقن بالحق فيها، وينجو من خطر الزلل. فالحق فيها غال نفيس، وهو بين زلتين عظيمتين، بين تكفير مسلم بغير حق، والحكم بالإسلام على كافر بغير هدى. وبين إجراء أحكام التكفير على من لم يستحقها من المسلمين، وإجراء أحكام الإسلام على الكافرين. وبين البراءة ممن أمرك الله بموالاتهم، وموالاة من أمرك الله بمعاداتهم ... فالأمر عظيم وجد خطير. ولما رأينا كثيرًا من دعاة الفريقين قد أوغلوا في ذكر هذه المسألة الخطيرة بغير حق، وطرحوها على العامة بطريقة قد تعود بآثار سلبية على كثير منهم، بل وقد تقرب بجملة منهم إلى الوقوع في محذور من محذورات نواقض الإسلام، لما رأينا هذا وسمعناه وتحققناه، ترسخ لدي وجوب تقديم شيء لعلي أعذر به أمام الله، ثم أمام نفسي وأمتي. وكنت دائما أتذكر قول أمير المؤمنين -علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما حرق الزنادقة: إني إذا رأيت أمرًا منكرًا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرًا (¬1) ¬

_ (¬1) قال الحافظ: رويناه من حديث أبي طاهر المخلص، وإسناده حسن الفتح (12/ 270).

وبعد تفتيش وطول بحث، استقر الأمر بداية على شرح رسالة في صلب الموضوع، قد كتبها صاحبها لأجله، وسماها بـ «مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد» للإمام المجدد، العالم الرباني، الإمام محمد بن عبد الوهاب، الذي جدد الله به التوحيد وأصاب به الشرك في مقتل. ... سبب تأليف الرسالة: وكان سبب تأليف رسالة «مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد» كما جاء في مقدمتها: أن أهل حريملا قد ارتدوا عن الإسلام فارتاب في حكمهم بعض أدعياء العلم آنذاك، فسئل الشيخ الإمام أن يكتب كلامًا ينفعه الله به. وكانت ردة أهل حريملا بسبب بغضهم لأهل التوحيد ومعاداتهم وقتالهم، فقام بجهادهم كتائب التوحيد، وفتحوها عنوة، وغنموا أموالها، وقسمها الإمام محمد بن عبد الوهاب بنفسه بين المسلمين (¬1). فعند ذلك ثارت ثارات غلاة المرجئة كعادتهم، وبدأ يدب الشك في نفوس المرتابين، والريب في قلوب الزائغين، وصرح القوم بأن المعين من المسلمين لا يمكن تكفيره، إن فعل ما فعل من النواقض، لأنه يقول: «لا إله إلا الله» وينتسب للإسلام .... فعند ذلك غار الإمام وحق له، وسل قلمه الهمام ليبين حقيقة هؤلاء الأدعياء المنسوبين ظلمًا للعلم والعدل بزعمهم، وأظهر -رحمه الله تعالى- ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ نجد (106 - 110)، وسوف يأتي ذكر ذلك بالتفصيل في بداية الكتاب.

حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مسألة حكم تكفير المعين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة من بعده، والمسلمين من بعدهم مازالوا يكفرون المعين من المسلمين إذا أحدث ردة باتخاذه إلهًا مع الله، أو موالاته لأعداء الله، أو استهزائه بشيء من شرائع الإسلام، أو رده لحكم من أحكام القرآن، أو مجرد تبديل الحاكم لشيء من أحكام الإسلام أو تكذيبه لنص واحد من نصوص الوحيين، أو استحلاله لمحرم معلوم بالاضطرار حرمته ... وبين -رحمه الله تعالى- بتوسط بالغ شروط وضوابط وموانع «تكفير المعين»، وأكد بإصرار شديد -تراه في كل صفحة من صفحات الرسالة- على براءة الإمام الرباني، علامة الأمة، الإمام ابن تيمية، أكد براءته التامة مما يفترى عليه من غلاة المرجئة، الذي وصموه بأنه لا يكفر المعين بإطلاق حتى تقام الحجة، وتزال الشبهة. فهذه الرسالة على صغر حجمها تعتبر بمثابة مذكرة تفسيرية في شرح وبيان منهج الإمام الأكبر ابن تميمة في مسألة من أخطر مسائل الاعتقاد في مسألة «حكم تكفير المعين». ابن تيمية ذاك العالم الرباني، الذي مازال -من العلماء- يحمل راية المسلمين في أرض المعركة الرهيبة القائمة بين المسلمين من جهة، وبين الطواغيت والكفار والمرتدين والزنادقة من جهة أخرى.

عملي في هذا الكتاب * عزو الآيات والأحاديث والآثار والنقول عن العلماء إلى مصادرها. * شرح ما غمض من متن الرسالة، أو احتاج إلى مزيد دلائل من نصوص الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها -رحمهم الله تعالى-. ولقد أعطيت رقمًا متسلسلاً لنقاط الشرح، بلغت -بفضل الله العزيز الوهاب- بضعًا وخمسين نقطة. * تقوية بعض مسائل الشرح بنقول أخرى من مصادر متباينة من كتب أهل العلم الربانيين، ومن تراث إمام الدعوة وأحفاده، ليتيقن القارئ الكريم من صحة تلك المسائل والدلائل التي جاءت تحتها. * بعض مسائل الشرح كانت في حاجة ماسة إلى بحث مستفيض بسبب كثرة التلبيس الحاصل عليها من علماء السوء، ومرتزقة الأقلام، ومن أساتذة لي أعناق النصوص من أجل تطويعها لأسيادهم وكبرائهم. ولكن ترتب على هذا: البعد الكبير كثيرًا بين فقرات الرسالة الذهبية، ومن ثم العناء الشديد في متابعتها، والانتفاع بتسلسلها لاسيما وهي من أفضل وأنجع ما في الكتب في مسألة تكفير المعين. وجمعًا بين فائدة المتن والشرح، قمت بعرض الرسالة كاملة في بداية الكتاب بغير شرح ثم قمت بعرضها بعد ذلك كمتن في بداية الصفحات مع عرض الشرح المستفيض له تحته، حتى يستفيد القارئ من الرسالة، ولا يتضرر بالبعد الكبير بين فقراتها، ثم يعود فيستفيد مرة أخرى -إن شاء الله- من الشرح المستفيض لفقراتها ومباحثها.

الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب فارس ميداننا اليوم هو الإمام محمد بن عبد الوهاب، الإمام العلامة، المجاهد الصابر الداعي إلى الله على بصيرة، المجدد للأمة أمر دينها في القرن الثاني عشر الهجري. كلامنا عليه سوف يكون مقتضبًا لأن ترجمته سوف تأتي مفصلة -بمشيئة الله وعونه-. نشأ -رحمه الله- في بيت علم وفضل، وتلقى العلوم كغيره على يد علماء وقته. وعندما بلغ مرتبة فيها يستطيع بها الحكم على أهل عصره وبيئته، وجد البون شاسعًا بين دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالته وبين واقع أمته، لاسيما في أبواب العقائد والمنهج. فالعامة غارقون في بحار البدع والخرافات والشركيات، فالشرك سيطر على كثير منهم في الربوبية والألوهية، وبلغ حدًّا لم يبلغه شرك أهل الجاهلية الأولى، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وأصبح بينهم دينًا يعض عليه بالنواجذ. ومما زاد المصيبة ضررًا: أن علماء وقته كانوا مشغولين بدراسة مسائل الفقه، ودقائق علم الكلام، الذي خرج من تحت عباءته شتى ألوان البدع في العقائد والأحكام، وكانوا أيضًا منصرفين تمامًا عن بيان الشرك وأحكامه. فعند ذلك عزم الإمام على خوض غمار معركة التغيير، تغيير المنكرات في العقائد والمناهج، والعمل على تصحيح عقائد العامة، وإرجاعهم إلى التلقي من مصادر الهدى، القرآن والسنة والإجماع، وسيرة الصحابة الكرام

الأبرار -رضي الله عنهم جميعًا-. فلما فعل، لم يملك أعداء الدين إلا أن يشمروا عن ساق العداء لمن جاء يريد هدم أصول التقليد والخرافات والشركيات التي بثوها في العامة، وروجوا لها، ثم اجتهدوا بكل ما أوتوا من تلبيس في تصحيح إسلام كل من وقع في الشرك والتنديد بدعوى أنه يقول: «لا إله إلا الله»، وينتسب لأهل القبلة. وكان موقف الإمام إزاء هذا: مواصلة العمل في الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة وتحقيق الكفر بكل ما يعبد من دونه، وألف في ذلك الكتب، وراسل العلماء والأمراء، وأجاب عن شبهات أهل الزيغ، وفند أباطيل أهل الريب، فاستجاب لدعوته من كان رائده الحق، ورده وعانده من كان دافعه التعصب للباطل، لاسيما أهل السوء من علماء التلبيس، الذين صرخت العامة فيهم إذا كان ما يقوله ابن عبد الوهاب حقًا فكيف تركتمونا عليه دون بيان ونكير؟ وكيف تركتم آباءنا يموتون على شيء يستحقون به الخلود في عذاب السعير؟ فقام علماء السوء والتلبيس قومة رجل واحد في وجه الحق، الذي سوف يهز مكانتهم، ويشوه صورتهم القبيحة، ويفضح باطنهم الخبيث ويخرج العامة من تحت سلطانهم الغير مقدس، السلطان الملعون الذي يسوقون به مريديهم لتحقيق شهواتهم وملذاتهم، وكل هذا باسم الدين، والدفاع عن المقدسات زعموا، ألا لعنة الله على الظالمين. فلما كان كذلك لم يجد الإمام المجدد بدًا من جهاد هؤلاء بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، بعد أن قيض الله للحق سيف محمد بن سعود -رحمه الله تعالى-.

فقامت ساق الحرب بين أولياء التوحيد وأعدائه، واستمرت سجالاً بينهم ردحًا من الزمان، ثم كان النصر لأهل التوحيد العاملين به والداعين إليه، والمجاهدين دونه. وبقدر الحفاظ على التوحيد وأحكامه يأتي النصر والظفر والثبات عليه. وبقدر التغيير والتلون فيه يأتي الانحسار وتبدل الحال والانكسار ... واستمر الإمام المجدد على هذه الحالة الموصوفة آنفًا حتى لقي ربه -سبحانه وتعالى- عن عمر يناهز إحدى وتسعين سنة. فرحمه الله من إمام رباني، وطيب ثراه، وجعلنا من أعوانه وأنصاره على الحق الذي بثه في الأمة، وأحيا به القلوب بعد موتها. وختامًا: أرجو منك أخي القارئ ألا تنساني في دعوة صالحة لعلها تكون سببًا في صلاح الحال والاستقامة على مراغمة الأعداء وإياك أن تنسى النصح والتوجيه والإرشاد في إصلاح الخلل، وتقويم الزلل. وأسأل الله سبحانه وتعالى، وجل في علاه: أن يجعل كل عملي صالحًا، ولوجهه خالصًا، ولا يجعل لأحد من دونه في ذلك شيئًا، وأسأله تعالى أن يجعل في هذا الكتاب ذخرًا طيبًا لي ولأهلي ولأولادي في الدنيا والآخرة. كتبه مدحت بن الحسن آل فراج أبو يوسف 14/ 4/1428هـ ص. ب 7612 - الرياض 11472 E-abo-yosef2003@hotmail. com

ترجمة الإمام الفذ الإمام محمد بن عبد الوهاب

ترجمة الإمام الفذ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى 1115هـ- 1206هـ هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف، التميمي. ولد رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية في بلدة العيينة، من بلدان نجد. تلقى في طفولته العلم في بلدته العيينة، فحفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقاد الذهن، سريع الحفظ، فصيحًا فطنًا؛ روى أخوه سليمان أن أباهما كان يتوسم فيه خيرًا كثيرًا، ويتعجب من فهمه وإدراكه مع صغر سنه، وكان يتحدث بذلك ويقول: إنه استفاد من ولده محمد فوائد من الأحكام. وكتب والده إلى بعض إخوانه رسالة نوه فيها بشأن ابنه محمد، وأثنى فيها عليه، وعلى حفظه وفهمه وإتقانه، ذكر فيها أن ابنه بلغ الاحتلام قبل أن يكمل اثنتي عشرة سنة من عمره، وأنه رآه حينئذ أهلاً للصلاة بالجماعة لمعرفته بالأحكام، فقدمه أبوه ليؤم الناس. وزوجه وهو ابن اثنتي عشرة سنة بعيد بلوغه؛ ثم أذن له بالحج فحج وقصد مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقام فيها شهرين ثم رجع بعد أن أدى الزيارة.

وكان والده آنذاك قاضي العُيَيْنَة، فقرأ عليه في الفقه على مذهب الإمام أحمد وكان رحمه الله -على صغر سنه- كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام وكان -لسرعة كتابته- يكتب في المجلس الواحد كراسًا من غير أن يتعب فيحار من يراه لسرعة حفظه، وسرعة كتابته. فشرح الله صدره بمعرفة التوحيد ومعرفة نواقضه التي تضل عن سبيله فأخذ ينكر تلك البدع المستحدثة من الشرك الذي كان قد فشا في نجد، مع أن بعض الناس كان يستحسن ما يقول، غير أنه رأى أن الأمر لن يتم له على ما كان يريد، فرحل في طلب العلم إلى ما يليه من الأمصار، حتى بلغ فيه شأوًا فاق فيه شيوخه. فبدأ بحج بيت الله الحرام، ثم أقام في المدينة المنورة حينًا أخذ فيه العلم عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني وأجازه من طريقين، وهو والد إبراهيم بن عبد الله مصنف كتاب «العذب الفائض في علم الفرائض» وكذلك أخذ عن الشيخ محمد حياة السندي المدني. ثم خرج من المدينة إلى نجد، وقصد البصرة في طريقه إلى الشام، وفي البصرة سمع الحديث والفقه من جماعة كثيرين، وقرأ بها النحو وأتقنه، وكتب الكثير من اللغة والحديث. وكان في أثناء مقامه في البصرة ينكر ما يرى ويسمع من الشرك والبدع، ويحث على طريق الهدى والاستقامة، وينشر أعلام التوحيد، ويعلن للناس أن الدعوة كلها لله: يكفر من صرف شيئًا منها إلى سواه؛ وإذا ذكر أحد بمجلسه شارات الطواغيت والصالحين الذين كانوا

يعبدونهم مع الله نهاه عن ذلك وزجره، وبين له الصواب، وقال له: إن محبة الأولياء والصالحين إنما هي باتباع هديهم وآثارهم، وليست باتخاذهم آلهة من دون الله؛ وكان كثير من أهل البصرة يأتون إليه بشبهات يلقونها عليه فيجيبهم بما يزيل اللبس، ويوضح الحق، ويكرر عليهم دائما أن العبادة كلها لا تصلح إلا لله، وكان بعض الناس يستغربون منه ذلك، ويعجبون لما يظهر لهم من شدة إنكاره لعبادة الصالحين والأولياء والتوسل بهم عند قبورهم، ومشاهدهم، وكانوا يقولون: إن كان ما يقوله هذا الإنسان حقا فالناس ليسوا على شيء. فلما تكرر منه ذلك آذاه بعض أهل البصرة أشد الأذى، وأخرجوه منها وقت الهجيرة، فاتجه إلى الشام ولكن نفقته التي كانت معه ضاعت منه في الطريق؛ فانثنى عائدًا إلى نجد؛ ومر في طريقه إليها بالأحساء ونزل فيها على الشيخ العالم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي؛ ثم اتجه منها إلى بلدة حريملا -وكان أبوه عبد الوهاب قد انتقل إليها من العُيَيْنَة سنة تسع وثلاثين ومائة وألف بعد أن توفي حاكمها عبد الله بن معمر، وتولى بعده ابن ابنه محمد بن حمد الملقب خرفاش، فعزل الشيخ عبد الوهاب عن قضاء العيينة لنزاع بينهما. فأقام الشيخ محمد في حريملا مع أبيه يقرأ عليه سنين، إلى أن توفي أبوه سنة (1153هـ) ثلاث وخمسين ومائة وألف؛ فأعلن دعوته، واشتد في إنكاره مظاهر الشرك والبدع وجد في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبذل النصح للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام، وجدد سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يخش في الحق لومة لائم وحذر الناس، والعلماء منهم خاصة تحقق وعيد

الله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159]. فذاع ذكره في جميع بلدان العارض: في حريملا والعُيَيْنة والدَّرْعية والرياض ومنفوحة؛ وأتى إليه ناس كثيرون، وانتظم حوله جماعة اقتدوا به، واتبعوا طريقه، ولازموه، وقرءوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير، وصنف في تلك السنين «كتاب التوحيد». وانقسم الناس فيه فريقين: فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه؛ وفريق عاداه وحاربه وأنكر عليه وهم الأكثر. وكان رؤساء أهل حريملا قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكان كل فريق يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يَزَعُ الجميع؛ وكان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين كثر تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يمنعوا عن الفساد ونفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه سرًا بالليل، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا. فانتقل الشيخ من حريملا إلى العُيَيْنة، ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر، فأكرمه وتزوج فيها الجوهرة بنت عبد الله بن معمر. ولما عرض على عثمان دعوته اتبعه وناصره، وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره، وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء، والأشجار التي يعظمونها ويتبركون بها

كقبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة، وكشجرة قريوة وأبي دجانة والذيب. فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى تلك الأماكن بالمعاول، فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنة وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة: ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم. وهكذا لم يبق وثن في البلاد التي تحت حكم عثمان، وعلت كلمة الحق، وأحييت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما شاع ذلك واشتهر، وتحدثت به الركبان أنكرته قلوب الذين حقت عليه كلمة العذاب، وقالوا مثلما قال الأولون: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فتجمعوا على رده، والإنكار عليه ومخاصمته ومحاربته، فكتبوا إلى علماء الأحساء والبصرة والحرمين يؤلبونهم عليه، فناصرهم في ذلك أهل الباطل والضلال من علماء تلك البلاد، وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع والسنة، وجهله وغوايته، وأغروا به الخاصة والعامة، خصوصًا السلاطين والحكام وادعوا أن ليس للشيخ وأصحابه عهد ولا ذمام، لرفضه سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتغييره أحكام الدين، وخوفوا الحكام والولاة منه، وزعموا أنه يملأ قلوب الجهال والطغام بكلامه ويغويهم بطريقته، فيخرجون على حكامهم وولاتهم ويعلنون العصيان. والشيخ -رحمه الله- صابر على ما يقولون، محتسب أجره عند الله،

يتعزى بما قاساه قبله الموحدون، وما لقيه المؤمنون من أنواع البلاء، وما سعى لهم به أهل الشرك والضلال. وهذه سنة الله تعالى في عباده جارية في جميع الأزمان، يختبر بها المؤمنين ويمتحن بها الصابرين فقد قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]. ولم يزل الشيخ رحمه الله مقيمًا في العيينة: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلم الناس دينهم، ويزيل ما قدر عليه من البدع ويقيم الحدود، ويأمر الوالي بإقامتها حتى جاءته امرأة من أهل العيينة زنت، فأقرت على نفسها بالزنا، وتكرر ذلك منها أربعًا فأعرض الشيخ عنها، ثم أقرت وعادت إلى الإقرار مرارًا؛ فسأل عن عقلها، فأخبر بتمامه وصحته، فأمهلها أيامًا، رجاء أن ترجع عن الإقرار إلى الإنكار، فلم تزل مستمرة على إقرارها بذلك، فأقرت أربع مرات في أيام متواليات، فأمر الشيخ رحمه الله والوالي برجمها لأنها محصنة: بأن تشد عليها ثيابها وترجم بالحجارة على الوجه المشروع، فخرج الوالي عثمان بن معمر وجماعة من المسلمين فرجموها حتى ماتت وكان أول من رجمها عثمان نفسه؛ فلما ماتت أمر الشيخ أن يغسلوها وأن تكفن ويصلى عليها. فلما جرت هذه الحادثة كثرت أقاويل أهل البدع والضلال، وطارت قلوبهم خوفًا وفزعًا، وانخلعت ألبابهم رهبًا وجزعًا، وتطاولت ألسنة العلماء عليه ينكرون ما فعل مع أنه لم يعد الحكم بالمشروع بالسنة والإجماع.

فلما أعياهم رد ما أفحمهم به الشيخ من حجج، عدلوا إلى ردها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم سليمان آل محمد رئيس بني خالد والأحساء، فأغروه به، وصاحوا عنده وقالوا: إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور، ويبطل العشور والمكوس. فلما خوفوه بذلك كتب إلى عثمان بن معمر أمره بقتله أو إجلائه عن بلده، وشدد عليه، وهدده بأنه إن لم يفعل ذلك قطع عنه خراجه الذي عنده في الأحساء -وكان خراجًا كثيرًا- وأوعده باستباحة جميع أمواله لديه. فلما ورد على عثمان كتاب سليمان استعظم الأمر فآثر الدنيا على الدين وأمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخروج من العيينة. فخرج الشيخ سنة سبع أو ثمان وخمسين ومائة وألف من العُيَيْنَة إلى بلدة الدَّرْعية. فنزل في الليلة الأولى على عبد الله بن سويلم، ثم انتقل في اليوم التالي إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم. فلما سمع بذلك الأمير محمد بن سعود، قام من فوره مسرعًا إليه ومعه أخواه: ثنيان ومشاري، فأتاه في بيت أحمد بن سويلم، فسلم عليه وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده. فأخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما دعا إليه، وما كان عليه صحابته رضي الله عنهم من بعده، وما أمروا به وما نهوا عنه، وأن كل بدعة ضلالة وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانًا. ثم أخبره بما عليه أهل نجد في زمنه من مخالفتهم لشرع الله وسنة رسوله بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والظلم.

فلما تحقق الأمير محمد بن سعود معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، قال له: يا شيخ إن هذا دين الله ورسله الذي لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد؛ ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك، والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنها وتستبدل بنا غيرنا. والثانية: أن لي على الدرعية قانونًا (¬1) آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئًا. فقال الشيخ: أما الأول فابسط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم؛ وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منهم. فبسط الأمير محمد يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقام الشيخ ودخل معه البلد واستقر عنده. ومن أشهر الذين عاونوه وناصروه من إخوان الأمير ووزرائه وأعوانه من أهل الدرعية: ثنيان بن سعود، ومشاري بن سعود، وفرحان بن سعود، والشيخ أحمد بن سويلم، والشيخ عيسى بن قاسم، ومحمد الحزيمي، وعبد الله بن دغيثر، وسليمان الوشيقري، وحمد بن حسين، وأخوه محمد، وغيرهم. ¬

_ (¬1) هو ما يدفعه الضعيف للقوي ليحميه ويدافع عنه، ويسمى: الخفارة والقانون في كلام أهل نجد.

وقد بقي الشيخ رحمه الله سنتين في الدرعية: يناصح الناس ويهديهم إلى سبيل الحق. وفي خلالهما تسلل إليه شيعته الذين في العُيَيْنَة، منهم: عبد الله بن محسن، وأخواه: زيد وسلطان المعامرة (¬1)، وعبد الله بن غنَّام، وأخوه موسى؛ وهاجر معهم خلق كثير من رؤساء المعامرة المخالفين لعثمان بن معمر في العُيَيْنَة، ومعهم أناس ممن حولهم من البلاد، حين علموا أن الشيخ استقر في الدَّرعية ومُنع ونصر. فلما علم عثمان بن معمر بكل ذلك ندم على ما فعل من إخراج الشيخ، وعدم نصرته، وخاف منه أمورًا فركب في عدة رجال من أهل العُيَيْنَة ورؤسائها، وقدم على الشيخ في الدَّرعية، وأراده على الرجوع معه، ووعده النصر والمنعة، فقال الشيخ: ليس هذا إلي، إنما هو إلى محمد بن سعود، فإن أراد أن أذهب معك ذهبت، وإن أراد أن أقيم عنده أقمت، ولا أستبدل برجل تلقاني بالقبول غيره، إلا أن يأذن لي. فأتى عثمان إلى محمد بن سعود، فأبى عليه، ولم يجد إلى ما أتى إليه سبيلاً، فرجع إلى بلده مضمرًا العداوة والشر والغدر، وإن كان يبدي مشايعة الحق ونصرة الشيخ والأمير محمد؛ إلى أن تكرر منه المكر، وظهر نفاقه، وانكشف أمره، فقام بقتله جماعة من أهل التوحيد، بعد أن انقضت صلاة الجمعة في مصلاه بمسجد بالعيينة سنة ثلاثة وستين بعد المائة والألف. وكاتب الشيخ بدعوته أهل البلدان ورؤساءهم ومدعي العلم فيهم، فمنهم من قبل الحق واتبعه، ومنهم من اتخذه سخريًا واستهزءوا به، ونسبوه إلى الجهل ¬

_ (¬1) المعامرة: بنو معمر.

تارة، وإلى السحر تارة أخرى، ورموه بأشياء هو بريء منها جميعًا. وبقي رحمه الله يدعو إلى سبيل ربه بالحجة الواضحة وبالموعظة الحسنة، فلم يبادر أحدًا بالتكفير، ولم يبدأ أحدًا بالعدوان، بل توقف عن كل ذلك ورعًا منه، وأملاً في أن يهدي الله الضالين؛ إلى أن نهضوا عليه جميعهم بالعدوان، وصاحوا في جميع البلاد بتكفيره هو وجماعته وأباحوا دماءهم، ولم يثبتوا دعواهم الباطلة بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله، ولم يكترثوا بما ارتكبوا بحقه من الزور والبهتان، وما اتبعوه من وسائل لإجلائه وجماعته من البلاد ومطاردتهم بالتعذيب والاضطهاد. أجل لم يأمر -رحمه الله- بسفك دم ولا قتال على أكثر أهل الضلالة والأهواء حتى بدأوه بالحكم عليه وأصحابه بالقتل والتكفير فأمر الشيخ حينئذ جماعته بالجهاد، وحض أتباعه عليه، فامتثلوا لأمره. وكان دائمًا يتضرع إلى الله الذي خصه بهذا الفضل أن يشرح للحق صدور قومه، وأن يكفيه بحوله وقوته شرورهم، ويصرف عنه أذاهم. وكان يسير معهم دائمًا بسيرة الصفح، ويشملهم بالعفو، ولم يكن أحب إليه من أن يأتيه أحدهم بالمعذرة فيبادر بالمغفرة؛ ولم يعامل أحدًا بالإساءة بعد أن غلب وظهر، ولو مكنهم الله تعالى منه لقطعوا أوصاله، وأوقعوا به أقبح المثلة والنكال، ولقد كان -رحمه الله- يعلم ذلك، ولكنه لم ينتصر لنفسه بعد التمكن والظهور حين جاءوا وافدين عليه منقادين قسرًا أو طوعًا إليه، بل أخذته الرحمة بهم، فأعرض عما أتوه بحقه، وكأنه لم يصدر عليه منهم شيء، وأبدى لهم البشاشة والملاطفة، ومنحهم بره ومعروفه وإكرامه؛ وهذا الشأو لا يدركه إلا البررة الكرام، والعلماء

الأعلام ممن جملهم الله تعالى بالتقوى والمعرفة والهداية. وقد بقي الشيخ بيده الحل والعقد والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه فلما فتح الله الرياض واتسعت ناحية الإسلام، وأمنت السبل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز بن محمد بن سعود وفوض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكن عبد العزيز لم يكن يقطع أمرًا دونه ولا ينفذه إلا بإذنه. وكان رحمه الله يحيي غالب الليل قائمًا؛ يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن، وكان من دأبه التأني والتثبت في تنفيذ الأحكام، لا يميله الهوى عن الشرع، ولا تصده عداوة عن الحق، بل يحكم بما ترجح له وجه الصواب فيه، فإن وجد نصًا في كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التزمه ولم يعدل عنه، وإلا رجع إلى كتب الأئمة الأربعة، وأخذ نفسه بدقة المراجعة والتحقيق للنص، وشدة البحث والكشف والتنقيب. ومع ما أفاض الله على بيت المال من الأموال التي كانت تجبى، فقد كان رحمه الله زاهدًا متعففًا، لا يأكل من ذلك المال إلا بالمعروف؛ وكان سمحًا جوادًا لا يرد سائلاً، فلم يخلف -رحمه الله- شيئًا من المال يوزع بين ورثته، بل كان عليه دين كثير، أوفاه الله عنه. وقد اختاره الله تعالى إلى جواره في يوم الاثنين آخر شهر شوال سنة ست بعد المائتين والألف، وله من العمر نحو اثنتين وتسعين عامًا، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأدخله جناته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، كفاء

ما أحيا من شرع الله، وجدد من سنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام. (مؤلفاته رحمه الله): - كتاب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد. - كتاب الكبائر. - كتاب كشف الشبهات. - كتاب السيرة المختصرة. - كتاب السيرة المطولة. - كتاب مختصر الهدي النبوي. - كتاب مجموع الحديث على أبواب الفقه. - كتاب مختصر الشرح الكبير. - كتاب مختصر الإنصاف. وله -غير هذه الكتب- رسائل كثيرة: بعضها مطول، وبعضها مختصر (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر: تاريخ نجد/ 81 - 91.

متن رسالة مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد

بسم الله الرحمن الرحيم مما قال الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة. لما ارتد أهل حريملا فسئل الشيخ أن يكتب كلامًا ينفعه الله به. فقال -رحمه الله تعالى-: «بسم الله الرحمن الرحيم، روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي - رضي الله عنه - قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفيًا جُرَءَاءُ عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: وما أنت؟ قال: «أنا نبي» قلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله»، فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء» فقلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حر وعبد» , قال: «ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه»، فقلت: إني متبعك، قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا. ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني»، قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله! أتعرفني؟ قال: «نعم، أنت

الذي لقيتني بمكة» قال: قلت بلى، فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة، قال: «صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد له الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح؛ ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار». وذكر الحديث. قال أبو العباس -رحمه الله تعالى-: فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت الغروب، معللاً ذلك النهي: بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار. ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله. وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسمًا لمادة المشابهة. ومن هذا الباب: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدًا. ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله انتهى كلامه.

فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا، فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير وهذا فسر به قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ} [الأنفال: 22]. أي: حرصًا على تعلم الدين «لأسمعهم» أي: لأفهمهم، فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدل منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين. فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب: هو عدم الحرص على تعلم الدين. فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا الطلب فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأسًا فإن حضر أو استمع فكما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2]. وفيه من العبر أيضًا أنه لما قال: «أرسلني الله» قال: بأي شيء أرسلك؟ قال بكذا وكذا. فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية والدعوة النبوية: هي توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان، ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة

وتجريد السيف، فتأمل زبدة الرسالة. وفيه أيضًا أنه فهم المراد من التوحيد، وفهم أنه أمر كبير غريب ولأجل هذا قال: من معك على هذا؟ قال: «حر وعبد» فأجابه: إن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل قد يملأ الأرض. ولله در الفضيل بن عياض -رحمه الله- حيث يقول: «لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين» وأحسن منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]. وفي «الصحيحين» أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة، وفي الجنة واحد من كل ألف. ولما بكوا من هذا لما سمعوه قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين». قال الترمذي حسن صحيح. فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام ومن اتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في «صحيح مسلم» أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» تبين له الأمر وانزاحت عنه الحجة الفرعونية. {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه: 51].

والحجة القرشية. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ} [ص: 7]. وقال أبو العباس -رحمه الله تعالى- في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]. ظاهره أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله. فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقربًا به إليه لحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة. وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة وتصريحه أن المنافق يصير مرتدًا بذلك، وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين. وقال أيضًا في الكتاب المذكور: وكانت الطواغيت الكبار، التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات لأهل الطائف. ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحًا يلت

السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره. وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبًا من عرفات، وكان هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، وأما مناة فكانت لأهل المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء. ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: «الله أكبر إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم». فأنكر - صلى الله عليه وسلم - مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ إلى أن قال: فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق مثل مسجد يقال له: مسجد الكف فيه تمثال كف يقال: إنه كف علي بن أبي طالب حتى هدم الله ذلك الوثن، وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد وفي الحجاز منها مواضع ثم ذكر كلامًا طويلاً في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند القبور فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك، ذكر ذلك الشافعي وغيره وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد كأبي بكر الأثرم وعللوا بهذه العلة وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ

آَلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. ذكر هذا البخاري في صحيحه، وأهل التفسير كابن جرير وغيره. ومما يبين صحة هذه العلة: أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجسًا. وقال عن نفسه: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»، فعلم أن نهيه عن ذلك، كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها سدًا للذريعة، لئلا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها، وكلا الأمرين قد وقع، فإن من الناس من يسجد للشمس، وغيرها من الكواكب، ويدعوها بأنواع الأدعية. وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف بعض المشهورين فيه كتابًا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما، ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت، والجبت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين، كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية؟

ومثل أبي معشر وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهما أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام والفخر هو الذي ذكره الشيخ في الرد على المتكلمين، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين. وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. وتأمل أيضًا ما ذكره في اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها، وتأمل قوله على حديث ذات أنواط هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم. قال رحمه الله تعالى: أنا من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى انتهى كلامه. وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية. وصرح - رضي الله عنه - أيضًا أن كلامه أيضًا في غير المسائل الظاهرة. فقال في الرد

على المتكلمين، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرًا قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر الميسر، ثم تجد كثيرًا من رءوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي «يعني الفخر الرازي» قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين انتهى كلامه. فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله. لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. على أن الذي نعتقده، وندين لله به، ونرجو أن يثبتنا عليه: أنه لو غلط هو، أو أجل منه في هذا المسألة، وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين، أو يزعم أنه على حق، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر، الذي بينه الله ورسوله، وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو غلط من غلط، فكيف -والحمد لله- ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافًا في هذا المسألة، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه: 51]- أو حجة قريش: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ} [ص: 7].

قال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتاله، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام، أو السنة قد يمرق أيضًا من الإسلام في هذه الأزمنة وذلك بأسباب: منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]. وعلي بن أبي طالب حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خُدَّتْ لهم عند باب كندة فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له، لا يجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل: المسيح، والملائكة، والأصنام لم

يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون صورهم، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة -ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات ثم قال-: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: «أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده»، ونهى عن الحلف بغير الله وقال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، وقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما صنعوا وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كانت تعظيم القبور.

ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملاً إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة». والإله هو: الذي تؤلهه القلوب عبادة له، واستعانة به ورجاء له وخشية وإجلالاً انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل: أول الكلام وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيًا أو وليًا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، هل يكون هذا إلا في المعين؟ والله المستعان. وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من

محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسان «ديدنًا له» إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فهذا حال من اتخذ من دون الله وليًا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له ثم ذكر الشيخ -يعني ابن القيم رحمه الله- فصلاً طويلاً في ذكر هذا الشرك الأكبر. ولكن تأمل قوله: «وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره» يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. وذكر في آخر

هذا الفصل أعني الفصل الأول في الشرك الأكبر -الآية التي في سورة سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ: 22]- إلى قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. وتكلم عليها، ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثًا هذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية». هذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجرد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانًا فالله المستعان. فصل وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. ثم قال الشيخ -يعني ابن القيم رحمه الله تعالى- بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر:

ومن أنواع هذا الشرك: سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. الميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياء المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا أو أنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35، 36].

وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى كلامه. والمراد بهذا: أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول، والثاني صريحًا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها: أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه، وآخر ما صرح به قوله آنفًا: وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر، إلى آخره. فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد، بل الإلحاد. ولكن تأمل قوله -أرشدك الله- وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين إلى آخره، وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعاده فهو منهم وإن لم يفعله. وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر. فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع معاداته له، ومقته له فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه، وعن طريقته، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك؟ وقد قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57].

فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد، ومعاداة المشركين بالخوف على أهله وعياله، فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة؟ ولكن الأمر كما تقدم عن عمر - رضي الله عنه -: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يفهم معنى القرآن، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57]. ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب. كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده يقول: بيني وبينكم أهل هذه الأقطار، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم كذا وكذا. فإذا كان يريد التحاكم إليهم، ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس فكيف أيضًا يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة؟ ما أحسن قول أصدق القائلين: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 7 - 9]، {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]. فرحم الله امرأ نظر لنفسه وتفكر فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله، من معاداة من أشرك بالله من قريب أو بعيد، وتكفيرهم، وقتالهم حتى يكون الدين لله. وعلم ما حكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام، وما حكم به في ذلك الخلفاء الراشدون، كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيرهم لما

حرقهم بالنار، مع أن غيرهم من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق، والله الموفق. وقال أبو العباس أحمد ابن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم، قال: وكل شر في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا فتدبر هذا فإنه نافع جدًا. ولهذا كان رءوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك، أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد. وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة، أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك. وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه. فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهًا دون ما سواه، وهذا هو معنى قول: «لا إله إلا الله» انتهى كلام الشيخ. فتأمل -رحمك الله- هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جدًا،

ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين حال من أقر بهذا الدين وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك، إما بغضًا، أو إيثارًا للدنيا مثل تجارة، أو غيرها فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3]، وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [النحل: 107]. فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن المخالف به باطل، وأنه الشرك بالله غَرَّ هذا الكلام ضعيف البصيرة. وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملا، ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، يستدلون بالكثرة على حسن ما هم فيه من الدين، ويفعلون، ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها. فإذا قالوا: التوحيد حق، والشرك باطل، وأيضًا لم يحدثوا في بلدهم أوثانًا جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق ولا يضرهم عنده ما هم عليه من السب لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال، واليد واللسان، فالله المستعان. وقال أبو العباس أيضًا في الكلام على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قال الصديق لعمر - رضي الله عنه -: والله

لو منعوني عقالاً أو عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة، وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق - رضي الله عنه - عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما يتوقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، وأما قتل المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم» انتهى. فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة. فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين. قال رحمه الله بعد ذلك: «وكفر هؤلاء وإدخالهم في الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة». ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال، عمن قصد اتباع الحق: إجماع الصحابة على قتل مانعي الزكاة، وإدخالهم في أهل الردة، وسبي ذراريهم، وفعلهم فيهم ما صح عنهم وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين. فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع؛ أعني المدعين للإسلام، وهي أوضح الوقعات التي وقعت من العلماء عليهم من عصر

الصحابة -رضي الله عنهم- إلى وقتنا هذا. وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرك إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى انتهى كلامه. والمراد منه قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع. وقال أيضًا في كتاب الفنون: «لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس وأباحك الميتة سدًا لرمقك وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل وخرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك. أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك عنه منهمكًا ولما أمرك تاركًا؟ وعلى ما زجرك مرتكبًا؟ وعن داعيه معرضًا، ولداعي عدوه فيك مطيعًا؟

يعظمك وهو هو، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حط رتبة عباده لأجلك وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك. هل عاديت خادمًا طالت خدمته لك لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي؟ فإن لم تعترف اعتراف العبد «للمولى» فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي. ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان!! بينما هو بحضرة الحق سبحانه، وملائكة السماء سجود له، ترامى به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفر. ما أوحش زوال النعم، وتغير الأحوال والحور بعد الكور، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابدًا لله في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها». انتهى كلامه. والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله، ومثله بأنواع. منها: السجود للشمس أو للقمر، ومنها: السجود للصورة، كما في الصور التي في القباب على القبور، والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض، كما فسر به قوله تعالى: {وَادْخُلُوا

الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154]. قال ابن عباس: أي ركعًا. وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في إنكار تعظيم القبور: «وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه: مناسك المشاهد، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام» انتهى. وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد، فقد رأيت ما قال فيه بعينه فكيف ينكر تكفير المعين؟ وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير فذكر منه قليلاً من كثير. أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا الباب من أغلظ الكلام، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال: مصيحف أو مسيجد، وصلى صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك وقال في النهر الفائق: واعلم أن الشيخ قاسمًا قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي فلك من الذهب، أو الفضة، أو الشمع، أو الزيت كذا باطل إجماعًا لوجوه -إلى أن قال-: وقد ابتلي الناس بذلك لا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي انتهى كلامه. فانظر إلى تصريحه أن هذا كفر مع قوله: إنه يقع من أكثر العوام، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته.

وقال القرطبي: -رحمه الله- لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال: هذا حرام بالإجماع، وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام جمال الملة أن مستحل هذا كافر، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله. فقد رأيت كلام القرطبي، وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص، مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير. وقال أبو العباس -رحمه الله-: حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرًا ذكيًّا. فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخارى جملة كفر ابن سينا، وهو رجل معين مصنف يتظاهر بالإسلام. وأما كلام المالكية في هذا فهو أكثر من أن يحصر، وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى، والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس، وقد ذكره القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفًا، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه. وأما كلام الشافعية فقال صاحب الروضة رحمه الله: إن المسلم إذا ذبح للنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر. وقال أيضًا: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، وكل هذا دون ما نحن فيه.

وقال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا سألت فاسأل الله» ما معناه: أن من دعا غير الله فهو كافر، وصنف في هذا النوع كتابًا مستقلاً سماه: الإعلام بقواطع الإسلام، ذكر فيه أنواعًا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين، وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه. وتمام الكلام في هذا أن يقال الكلام هنا في مسألتين: الأولى: أن يقال: هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين، ومع كثير من الأحياء والأموات، والجن، من التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر، الذي فعله قوم نوح، ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم، فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب ينكر عليه ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله، أم هذا شرك أصغر، وشرك المتقدمين نوع غير هذا؟ فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه، كابن إسماعيل وابن خالد، مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة. وتارة يقولون: لا يكفر إلا من كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتارة يقولون: إنه شرك أصغر، وينسبونه لابن القيم -رحمه الله- في

المدارج كما تقدم. وتارة لا يذكرون شيئًا من ذلك، بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة. وجواب هؤلاء كثير من الكتاب والسنة والإجماع؛ ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر، وأيضًا إقرار غيرهم من علماء الأقطار، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بدًا من الإقرار به لوضوحه. المسألة الثانية: الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر، ولكن لا يكفر به، إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب الرسول، والقرآن واتبع يهودية أو نصرانية، أو غيرها. وإلا فالمسألة الأولى، قل الجدال فيها، ولله الحمد لما وقع إقرار علماء الشرك بها. فاعلم: أن تصور هذا المسألة تصورًا حسنًا يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين. الأول: أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها من التكفير، لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها، وكذب الرسول والقرآن فهو كافر، وإن لم يعبد الأوثان كاليهود، فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول: لا إله إلا الله، ويصلي ويفعل

كذا وكذا لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة، أو العمى، أو العرج، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع. الوجه الثاني: أن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرك، وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية، فلا يتصور أنك تقول لرجل، ولو من أجهل الناس وأبلدهم: ما تقول فيمن عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك مع أنه يدعي أنه مسلم متبع؟ إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول أن هذا كافر من غير نظر في الأدلة، أو سؤال أحد من العلماء، ولكن لغلبة الجهل، وغربة العلم، وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من الملحدين اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق، فلا تحقرها، وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت ويجعلك أيضًا من الأئمة الذي يهدون بأمره». فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها، ويزيد المؤمن يقينًا ما جرى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه رضي الله عنهم، والعلماء بعدهم -رحمهم الله- فيمن انتسب إلى الإسلام كما ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث البراء - رضي الله عنه -، ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله؛ ومثل همه بغزو بني المصطلق، لما قيل: إنهم منعوا الزكاة. ومثل قتال الصديق وأصحابه رضي الله عنهم لمانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين، ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر - رضي الله عنه - على

تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا، لما فهموا من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا} [المائدة: 93]. حل الخمر لبعض الخواص، ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان - رضي الله عنه - على تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم. ومثل تحريق علي - رضي الله عنه - أصحابه لما غلوا فيه، ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه، مع أنه يدعي أنه يطالب بدم الحسين وأهل البيت. ومثل إجماع التابعين، ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم، وهو مشهور بالعلم والدين، وهلم جرا من وقائع لا تعد ولا تحصى. ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره: كيف تقاتل بني حنيفة وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويصلون ويزكون؟ وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا، وهلم جرا إلى زمن بني عبيد القداح، الذين ملكوا المغرب ومصر والشام وغيرهما، ومع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة، والجماعة، ونصب القضاة، والمفتين لما أظهروا الأقوال والأفعال ما أظهروا، لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم، ولم يتوقفوا فيه، وهم في زمن ابن الجوزي والموفق، وصنف ابن الجوزي كتابًا لما أخذت مصر منهم سماه: النصر على مصر.

ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين: أن أحدًا أنكر شيئًا من ذلك، أو استشكله لأجل ادعائهم الملة، أو لأجل قول لا إله إلا الله، أو لأجل شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ولكن من فعله، أو حسنه، أو كان مع أهله، أو ذم التوحيد، أو حارب أهله لأجله، أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول: لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام، هذا ويستدلون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها الإسلام هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم، أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه، ولكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته: أقاويل لا تُعزى إلى عالم فلا ... تساوي فلسًا إن رجعت إلى النقد ولنختم الكلام في هذا النوع بما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال: باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان ثم ذكر بإسناده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» وذو الخلصة صنم لدوس يعبدونه فقال - صلى الله عليه وسلم - لجرير بن عبد الله: «ألا تريحني من ذي الخلصة»؟ فركب إليه بمن معه فأحرقه وهدمه ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره قال: «فبرَّك على خيل أحمس ورجالها خمسًا». وعادة البخاري -رحمه الله- إذا لم يكن الحديث على شرطه ذكره في الترجمة، ثم أتى بما يدل على معناه مما هو على شرطه، ولفظ الترجمة وهو قوله: «يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان» لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة،

والله سبحانه وتعالى أعلم ولنذكر من كلام الله تعالى وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام أئمة العلم جُملاً في جهاد القلب واللسان ومعاداة أعداء الله وموالاة أوليائه، وأن الدِّين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول: باب في وجوب عداوة أعداء الله من الكفار والمرتدين والمنافقين وقول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] إلى قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم أخي أن ما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السُّنَّة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشدَّ بك ظهر أهل السنَّة، وقواك عليهم بإظهارهم عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مستترين فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج

والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سُّنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحيا شيئًا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين»، وضم بين أصبعيه، وقال: «أيّما داع إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة» فمتى يدرك أجر هذا بشيء من علمه؟ وذكر أيضًا أن لله عند كل بدعة كِيدَ بها الإسلام وليًا لله، يذبُّ عنها وينطق بعلاماتها، فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من كذا وكذا» وأعْظَمَ القولَ فيه، فاغتنم ذلك وادعُ إلى السُّنَّة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة، يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيردُّ الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفًا من نبيك - صلى الله عليه وسلم -، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب، فإنه جاء في الأثر «من جالس صاحب بدعة نُزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام» وجاء: «ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى». وقد وقعت اللعنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفًا ولا عدلاً ولا فريضة ولا تطوعًا وكلما ازدادوا اجتهادًا وصومًا وصلاةً ازدادوا من الله بعدًا فارفض مجالسهم، وأذلهم وأبعدهم، كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى بعده انتهى كلام أسد – رحمه الله تعالى -.

واعلم – رحمك الله – أن كلامه، وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معاداة أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تخرج عن الملّة، لكنهم شددوا في ذلك وحذروا منه لأمرين. الأول: غلظ البدعة في الدين في نفسها، فهي عندهم أجلُّ من الكبائر، ويعاملون أهلها بأغلظ ما يعاملون به أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس: أن الرافضي عندهم ولو كان عالمًا عابدًا أبغض وأشد ذنبًا من السنِّي المجاهر بالكبائر. الثاني: أن البدع تجر إلى الرِّدة الصريحة، كما وجُد من كثير من أهل البدع. فمثال البدع التي شددوا فيها: مثل تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن عبدالله عند قبر رجل صالح، خوفًا مما وقع من الشرك الصريح، الذي يصير به المسلم مرتدًا، فمن فهم، فهم الفرق بين البدع، وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة، ومجاهدة أهلها، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله، وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة:74]. وقال ابن وضَّاح: «في كتاب البدع والحوادث» بعد حديث ذكره: أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة.

قال رحمه الله: إن فتنة الكفر هي الردة، يحلُّ فيها السبي والأموال. وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي ولا الأموال، وقال رحمه الله أيضًا: أخبرنا أسد أخبرنا رجل، عن ابن المبارك: قال: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًا من أوليائه يذب عنه وينطق بعلاماتها فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله. قال ابن المبارك: وكفى بالله وكيلا، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف، قال: لأن أردَّ رجلاً عن رأي سيءٍ أحب إلي من اعتكاف شهر. أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي قال: كان بعض أهل العلم يقولون: لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة، ولا صدقة، ولا صيامًا، ولا جهادًا، ولا حجًا، ولا صرفًا، ولا عدلاً، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم، قال: ولو كانوا مُستَتِرينَ ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك عنهم سترًا، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها أو بالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا به، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة، يعتصم بها على مصرٍّ ملحد. ثم روى بإسناده قال: جاء رجل إلى حذيفة، وأبي موسى الأشعري قاعد فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قُتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة فقال: رويدك، وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق

حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يُصب الحق ولم يوفِّقُهُ الله للحق فهو في النار، ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا»، ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال، لا تجالس صاحب بدعة فإنه يُمرض قلبك. ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموه وإني واثق بنفسي. فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال: من أتى صاحب بدعة ليوقِّره فقد أعان على هدم الإسلام. أخبرنا أسَدٌ قال: حدثنا كثير أبو سعيد قال: من جلس إلى صاحب بدعة نُزِعَتْ منه العصمة، ووكِلَ إلى نفسه. أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون، قال أيوب – وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب. أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا زيد، عن محمد بن طلحة قال: قال إبراهيم: لا تجالسوا أصحاب البدع ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم، أخبرنا أسد بالإسناد، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدُكم مَنْ يخالل». أخبرنا أسد، أخبرنا مؤمل

ابن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: دخل على محمد بن سيرين يومًا رجل فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن أقرأها ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه ثم قال: أُحَرِّجُ عليك إن كنت مسلمًا لما خرجت من بيتي. قال: فقال: يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج. قال: قال: فقام بإزاره يشده عليه، وتهيأ للقيام، فأقبلنا على الرجل فقلنا: قد حَرَّج عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلاً من بيته؟ قال: فخرج فقلنا: يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج. قال: إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكنني خفت أن يلقي في قلبي شيئًا، أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع. أخبرنا أسد قال: أخبرنا ضمرة، عن سودة قال: سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول: ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه قال: فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال: تصديقه في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه». أخبرنا أسد قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن زيد، عن أيوب قال: كان رجل يرى رأيًا فرجع عنه، فأتيت محمدًا فرحًا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أنَّ فلانًا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظروا إلى ما يتحوَّل، إن آخر الحديث أشدُّ عليهم من أوله (يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه) ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفِّه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفًا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده ليجيئن

أقوام يدفنون الدِّين كما دفنت هذه الحصاة. أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده، عن أبي الدرداء قال: لو خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم إليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم. قال عيسى - يعني الراوي عن الأوزاعي - فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان. أخبرنا محمد بن سليمان بإسناده، عن علي أنه قال تعلموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان يُنكر الحق فيه تسعة أعشارهم. أخبرنا يحيى بن يحيى بإسناده، عن أبي سهل بن مالك، عن أبيه أنه قال: ما أعرف منكم شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده، عن أنس قال: أعرف منكم شيئًا مما أدركت عليه الناس إلاَّ النداء بالصلاة. حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده، عن أنس قال ما أعرف منكم شيئًا كنت أعهده على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس قولكم: لا إله إلا الله. أخبرنا محمد بن سعيد قال: نا أسد بإسناده، عن الحسن قال: لو أن رجلاً أدرك السلف الأول، ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًًا قال: ووضع يده على خدِّه، ثم قال: إلا هذه الصلاة؛ ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرا - ولم يدرك هذا السلف الصالح - فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحنُّ إلى ذكر

صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحنُّ إلى ذكر هذا السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم، ويقتصُّ آثارهم، ويتبع سبيلهم ليعوَّض أجرًا عظيمًا، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى. حدثني عبد الله بن محمد بإسناده، عن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلاً نُشِرَ فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة. أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده، عن أم الدرداء قالت: دخل عليَّ أبو الدرداء مغضبَا فقلت له: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئًا إلاَّ أنهم يصلون جميعًا، وفي لفظ: لو أن رجلاً تعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده ما عرف منه شيئًا. حدثني إبراهيم بإسناده، عن عبد الله بن عمرو قال: لو رجلين من أوائل هذه الأمة خليًا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم، ولا يعرفان شيئًا مما كانا عليه. قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة - رضي الله عنه - تلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1، 2]. فقال: والذي نفسي بيده إن الله ليخرجون اليوم من دينهم أفواجًا كما دخلوا فيه أفواجًا. قف تأمل رحمك الله: إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة. فكيف يغتر المسلم بالكثرة، أو تشكل عليه، أو يستدل بها على الباطل.

ثم روى ابن وضاح بإسناده عن أبي أمية قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تصنع في هذه الآية قال: أية آية؟ قال قول الله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحًّا مطاعًا، وهوى مُتَّبَعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودَعْ عنك أمر العوام. فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهنَّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قيل: يا رسول الله أجر خمسين منهم، قال: أجر خمسين منكم» ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «طوبى للغرباء ثلاثًا، قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يبغضهم أكثر ممن يحبهم». أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن المعافري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «طوبى للغرباء الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر، ويعملون بالسُّنَّة حين تُطفأ». أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا أسد بإسناده عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بدأ الإسلام غريبًا، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس»، نا محمد بن يحيى، نا أسد بإسناده عن عبد الرحمن، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» هذا آخر ما نقلته من كتاب

البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح – رحمه الله -: فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها، وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وقع من زمن طويل حتى قال ابن القيم – رحمه الله – الإسلام في زماننا أغرب منه في أول ظهوره، فتأمل هذا تأملاً جيدًا لعلك أن تسلم من هذه الهُوَّة الكبيرة، التي هلك فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسواد الأكبر، والنفرة من الأقل، فما أقل من سلم منها، ما أقله ما أقله!! ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسُّنته ويقتدون بأمره – وفي رواية – يهتدون بهديه ويستنون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» انتهى ما نقلته والحمد لله رب العالمين. وقد رأيت للشيخ تقي الدين رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه، لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلَّص من السجن: أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعتها، قال – رحمه الله تعالى – الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا

الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد وصلت الورقة التي فيها. رسالة الشيخين الناسكين القدوتين، أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعلهم ممن ينصر به السلطان، سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان، وسلطان القدرة والنصرة باللسان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهم من الأقران، ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السر والإعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لا بد من الفتنة لكن من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان، فقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 1 – 4]. فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب، وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميِّز بين الصادق والكاذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله.

فقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14 – 15]. وأخبر سبحانه وتعالى بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف، وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وأخبر سبحانه أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]. فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر والشكر كان جميع مع يقضي له من

القضاء خيرًا له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له». والصبار الشكور هو المؤمن، الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشرِّ حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يقضي به إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك من الأمور العظيمة، التي هي محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان، فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، كما يحبُ ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والله المسؤول: أن يثبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة، وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين، الذين أمرنا بجهادهم، والإغلاظ عليهم في كتابه المبين، انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس – رحمه الله – في الرسالة المذكورة وهي طويلة. ومن جواب له – رحمه الله – لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز. فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيرًا أو قليلاً، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحلَّ ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًالا يُغسل، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن بين المسلمين.

وحكم المرتد أشر من حكم اليهودي والنصراني، وسواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة، أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع في الطريق، وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة، متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية: [المائدة: 93]. فاتفق عمر وعليّ وغيرهما من علماء الصحابة - رضي الله عنهم - على أنهم إن أقروا بالتحريم جُلِدُوا، وإن أصرُّوا على الاستحلال قُتلوا، انتهى ما نقلته من كلام الشيخ - رحمه الله تعالى -. فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعيَّن إذا جاهر بسبِّ دين الأنبياء، وصار مع أهل الشرك، ويزعم أنهم على الحق، ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد، ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه إلى الإسلام، انظر كيف كفَّر المعيَّنَ، ولو كان عابدًا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلَّها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة، واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قُدامة وأصحابه إن لم يتوبوا، وكلامه في المعين، وكلام الصحابة في المعين، فكيف بما نحن فيه، مما لا يساوي استحلال الحشيشة جزءًا من ألف جزء منه. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا

سبب تأليف رسالة مفيد المستفيد

(1/ش) انظر رحمك الله إلى قوله: «بعض من يدعي العلم» وأمعن فيه النظر تجد أن هذه الصفة متطابقة تمامًا على أهل الإرجاء الخبيث، الذين يريدون أن يغلقوا باب الردة ونواقض الإسلام، حتى لا يقوموا المقام الذي أمرهم الله به تجاه الردة والمرتدين، من البراءة منهم، وجهادهم حتى يرجعوا إلى الإسلام، أو يقتلوا حسمًا لمادة شرهم. (2/ش) بعد ما منّ الله على إمام الدعوة، الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - بفهم قضية التوحيد قولاً وعملاً واعتقادًا، وبعد ما تيقن أنها زبدة دعوة الرسل أجمعين، وبعد ما أدرك أن نصوص القرآن في الأمر بالتوحيد، وفي النهي عن الشرك، وأن نصوص القرآن في محاربة الشرك والمشركين شيعة الطواغيت، لم تكن في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثًا ولم تكن في قوم كانوا فبانوا ... بعد هذا بدأ الإمام في دعوة قومه إلى التوحيد بإفراد الله بالعبادة، مع البراءة من المشركين وشركهم، ولم يظهر وقتئذ العداوة والجهر بالتكفير، وأحكامه لمن وقع في الشرك، حتى غلب على ظنه أن الدعوة قد بلغت، وأن

الحجة قد ماتت، وبذلك يستحق المخالف أن يقتل ويعاقب ويعذب امتثالاً لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. وهذا كان دأبه في بداية دعوته، مراعاة لأحوال الناس وتقديرًا لغربة الإسلام، وانتظارا للفيئة وللنقلة المذهلة المرادة لقومه من الشرك إلى التوحيد. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالة بعث بها إلى عبد الله بن عيسى: «ولولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول، وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شأن آخر، بل والله الذي لا إله إلا هو، لو يعرف الناس الأمر على وجهه، لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله، ووجوب قتلهم، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد في نفسي حرجًا، ولكن إن أراد الله أن يتم هذا الأمر، تبين أشياء لم تخطر لكم على بال» (¬1). ولقد سلّ الله لإمام الدعوة سيف الأمير محمد بن سعود - رحمه الله تعالى - لغزو الشرك وهدم حصونه وقلاعه، فسار المسلمون تحت راية التوحيد يقاتلون المعاندين من الكفار والمشركين، وكانوا كلما فتحوا قرية أقاموا فيها التوحيد، ودعوا أهلها إليه، وأمروا عليهم من يقيم حكم القرآن وشريعة الإسلام، والتي من أهم شرائعها: قتال الناس حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 54).

قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فإذا استقر التوحيد وأحكامه في تلك القرية قاتلوا بها من بعدها ... ولا شك أن قتال المرتدين عن التوحيد، أو الشرائع، أو الشعائر من أهم وأظهر خصائص هذا الدين، قال الله تعالى متوعدًا المرتدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]. والآن نفسح المجال للإمام الشيخ حسين بن غنام -رحمه الله تعالى- في كتابه الرائع «تاريخ نجد» المسمى «روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام» ليبين لنا سبب ردة أهل «حريملا» وعلة قتالهم، ولكن قبل الشروع في المقصود لا بد أن نشير إلى أن الشيخ ابن غنام كان معاصرًا لإمام الدعوة، بل وكان من أتباعه المقربين إليه، وقد كتب هذا المرجع الذهبي الهام بطلب من الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وبهذا أصبح هذا الكتاب الفريد في بابه أصح واصدق ما كتب عن تاريخ الدعوة المباركة، وكل من كتبوا بعده حول هذا الموضوع فهم عيال على الشيخ حسين بن غنام، ولذلك فلقد تعين النصح بوجوب الاهتمام بهذا الكتاب، من قبل الذين يريدون فهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومراحلها التي مرت بها.

سبب ردة أهل حريملا

قال الشيخ حسين بن غنام -رحمه الله تعالى- في كتابه النفيس: «وفي شوال من هذه السنة (1165 هـ) ارتد أهل «حريملا» - وكان قاضيها سليمان ابن عبد الوهاب، أخا الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكان الشيخ حين علم أن أخاه يسعى في الفتنة، ويُلقي على الناس الشبهات قد أرسل إليه كتبًا ينصحه فيها، ويؤنِّبه على ما كان يصنع، ويحذَّره العاقبة، فأرسل سليمان إلى الشيخ رسالة زخرف فيها القول، وأكد فيها العهد، وذكر له أن لن يقيم في حريملا يومًا واحدًا إن ظهر من أهلها ارتداد». ولكنه لم يلبث أن كشف عن غدره، ومكره، وحسده لأخيه، وغيرته منه، فنقض العهد. وتألّب أهل حريملا على من فيها من أهل التوحيد والإيمان فحاربوهم، وعزلوا والي البلدة وأميرها محمد بن عبد الله بن مبارك، بعد أن أصابه، منهم رجل اسمه ابن وحشان، ثم أخرجوه من البلد مع أولاده، وفرَّ معه غيره من أهل الدين، منهم: عزوان بن مبارك، وابنه مبارك بن عدوان، وعثمان ابن عبد الله أخو الأمير، وعلي بن حسن، وناصر بن جديع، وغيرهم. فأتوا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والأمير محمد بن سعود فأخبروهما بما حدث، وشرحوا لهما الأمر. وبعد ذلك بأيام أرسلت قبيلة محمد بن عبد الله بن مبارك -وهم آل حمد الذين في حريملا- إليه أن يعود، وتعهدوا بنصرته والقيام معه، فاستشار الشيخ والأمير ابن سعود، فلم يستحسنا عودته، وقال له الأمير: إن كنت لا بدَّ

فاعلاً فخذ معك مددًا مني يعينونك إن تكشَّف لك الغدر. ولكن محمد بن عبد الله بن مبارك أبي ذلك وعاد بمن معه، وكان دخوله حريملا ليلاً، فلما تبيَّن أهل البلد في الصباح عودته، اجتمعت عليه القبيلة الأخرى في البلد المعروفة بآل راشد، ومعهم أهل حريملا وحصروهم في البيت؛ ثم قتلوا الأمير، وقتلوا معه ثمانية آخرين، وهرب منهم مبارك بن عدوان إلى الدرعية. ثم جدَّ أهل حريملا بعد ذلك في الاستعداد للحرب، ولم يكن لهم همٌّ بعد إتيانهم ذلك المنكر إلا البناء حول البلد وتسويرها، مخافة الهجوم عليهم، وتدمير البلد. ثم أرسلوا إلى مشاري بن معمر ليدخل معهم في هذا الأمر، فأبى، وأنكر عليهم مسعاهم. وبقوا على تلك الحال بقية العام، ثم عادوا في سنة 1166هـ على أهل الدرعية فلم يفوزوا بشيء، وغزاهم المسلمون عدة مرات ... (ثم تحدث الشيخ عن ردة أهل منفوحة، وما حلّ بهم جراء مفارقتهم لدينهم إلى أن قال - رحمه الله تعالى) وحين رأى الشيخ محمد بن عبد الوهاب تظاهر بعض أهل البلاد بالضلال، وارتداد من ارتدَّ منهم عن التوحيد، جمع في هذه السنة (1167 هـ) أهل الإسلام من بلادهم، ووعظم وبيَّن لهم سُنَّة الله فيما يجري على أهل التوحيد من أهل الفجور والشرك وكشف لهم معاني الآيات الواردة في القرآن بذلك، وبشَّرهم بالنصر والظفر إن

سبب قتل سليمان بن خويطر

استقاموا على الدين وثبتوا عليه، وأمرهم بالرجوع إلى الله، والتوبة، وصدق النيَّة. فتصدقوا بصدقات كثيرة، وسألوا الله النصر. ثم إن السيايرة في بلدة ضرمي، وهم المعروفون بآل سيف، صقر وإخوته غرتهم قوتهم بعد أن قتلوا إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن وأبناءه، فخاضوا في الباطل، وهمُّوا بقتل أميرهم، فأخبره بذلك النذير، واحتقروا أهل الدين، فكثرت فيهم الظنون، وذكروا عنهم أنهم يتعاونون مع الأعداء، وأنهم غير مأمونين. فرفعوا أمرهم إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والأمير محمد بن سعود فقالا: نحن نجهل حالهم، فإن كنتم تحققتم منهم شيئًا فامضوا فيهم بعلمكم، فبادر إليهم أمير ضرمى وجماعته فقتلوهم صبرًا. وفي هذه السنة أيضًا قُتل سليمان بن خويطر، وسبب ذلك أنه قدم بلدة حريملا خفية - وهم إذ ذاك بلد حرب - فكتب معه قاضي البلدة سليمان بن عبد الوهاب - أخو الشيخ - كتابًا إلى أهل العيينة، ذكر فيه شبهًا مريبة، وأقاويل محرَّفة، وأحاديث مُضلَّة، وأمره أن يقرأه في المحافل والبيوت. فألقى بذلك في قلوب بعض أهل العيينة شبهات غيرت قلوب مَنْ لم يتحقق الإيمان، ومن لم يعرف مصادر الكلام، فأمر الشيخ به أن يقتل فقُتل. وفي هذه السنة ارتد رجلٌ اسمه «الغفيلي» في قصر من قصور بلدة ضرمى، وأرسل إلى إبراهيم بن سليمان رئيس ثرمداء يخبره بذلك ويستنجد به، فأرسل إليه إبراهيم جيشًا وخيلاً لتطمئن نفسه. فلما علم بذلك محمد بن

فتح المسلمون حريملا عنوة

عبد الله، أمير ضرمى أرسل إلى الأمير محمد بن سعود يخبره به، فجهزَّ الأمير ابن سعود من فوره جيشًا من أهل العيينة وأهل الدرعية، وبادروا بالسير إلى قصر ضرمي، وسار معهم محمد بن عبد الله أمير ضرمي وأغلبُ قومه. فلما اقتربوا من البلد كمنوا في زرع ذرة هناك، فلما مضى هزيع من الليل سمعوا وقع حوافر الخيل، فبادروهم بالقتال فانهزموا. وقتل من أهالي ثرمداء ممن أقبل معهم سبعين رجلا، وأسر أناس منهم: عبد الكريم بن زامل رئيس بلد وثيثية. ثم فتح المسلمون حريملا عنوة، فقد سار إليها عبد العزيز بن محمد بن سعود في نحو ثمانمائة رجل، ومعهم من الخيل عشرون فرسًا فأناخ شرقي البلد ليلاً، وكمن في موضعين، فصار عبد العزيز ومعه عدة من الشجعان في «شعيب عوجا» وكمن مبارك بن عدوان، مع مائتي رجل في «الجزيع» فلما أصبحوا شنُّوا الغارة، فخرج إليهم أهل البلد، فاشتد بينهم القتال، فلما خرج عليهم الكمين الأول صبروا حتى بدا لهم الكمين الثاني فلم يملكوا إلا الفرار فتفرقوا في الشعاب والجبال، وقتل المسلمون منهم مائة رجل، وغنموا كثيرا من الذخائر والأموال، وقُتِل من المسلمين سبعة. ودخل المسلمون البلدة، وأعطى عبد العزيز بقية الناس الأمان، وصارت البلدة فيئًا من الله، ودورها ونخيلها غنيمة للمسلمين. وفي هذه الوقعة هرب قاضي البلدة سليمان بن عبد الوهاب - أخو الشيخ

ترجمة الصحابي عمرو بن عبسة - رضي الله عنه

(¬1) ماشيًا حتى وصل إلى سدير سالمًا. وولى عبد العزيز مبارك بن عدوان أميرًا على البلد، وأعطاه نفائس الأموال، وخيره ما شاء من البيوت والبساتين ولكنه لم يحفظ نعمة الله، فارتدَّ بعد ذلك على ما سيجيء بيانه. ثم أقبل عبد العزيز بالأموال والغنائم إلى الدرعية، فقسمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب متبعًا بذلك سنة رسول الله، وما كان يصدر عن السلف. وكان فتح حريملا يوم الجمعة لثمان خلت من جمادى الأولى سنة 1168 هـ» (¬2). (3/ش) عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه، كنيته (أبو نجيح) صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رابع أربعة أو خامس خمسة في الإسلام، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاد قومه بعد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك. وظل مقيمًا بها حتى مضت بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد ذلك وكان قبل إسلامه يعتزل عبادة الأصنام ويراها إفكًا وضلالة (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (832) - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب إسلام عمرو بن عبسة، وسنن البيهقي الكبرى (4178)، باب ذكر الخبر الذي يجمع النهي عن الصلاة في جميع هذه الساعات. (¬2) تاريخ نجد للشيخ حسين بن غنام - تحقيق د/ ناصر الدين أسد (106 - 110). (¬3) انظر: تهذيب الكمال للحافظ المزي - تحقيق د. بشار عواد (22/ 118 وما بعدها).

التزام طاعة النبي r شرط في صحة الإسلام وقبوله

(4/ش) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «قوله: «فقلت له: ما أنت» هكذا هو في الأصول «ما أنت»، وإنما قال: ما أنت، ولم يقل: من أنت؟ لأنه سأل عن صفته لا عن ذاته، والصفات مما لا يعقل» (¬1). (5/ش) قوله «إني متبعك» ليس المقصود اتباع طاعتك وشريعتك لأن عقد الإسلام لا يثبت إلا بهذا. فالدخول في الإسلام لا بد فيه من الإقرار مع الالتزام لله بوحدانيته في ربوبيته وألوهيته، ولنبيه رضي الله عنه بوحدانيته في الطاعة والاتباع. (التزام طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط في صحة الإسلام وقبوله). قال العلامة الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - الرجل الميت الحي ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 95).

الذي مازال يقود معركة الصراع الضروس بين المسلمين والمشركين: «ويعلم أنه لو قدر أن قومًا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنَّا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي، ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئًا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضًا ونقاتلك مع أعدائك». هل كان يتوهم عاقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك» (¬1). وقال أيضًا - رحمه الله تعالى -: «وأيضًا فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نشهد إنك لرسول الله ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي: نعلم ونجزم أنك رسول الله. قال: فلم لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من يهود. فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (7/ 287).

تعريف الإسلام

وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم. فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين فكانوا كفارًا في الباطن وهؤلاء قالوا غير ملتزمين ولا منقادين فكانوا كفارًا في الظاهر والباطن (¬1). وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى- تعليقًا على قصة وفد نصارى نجران: «وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله بأنه نبي لم يدخله في الإسلام، ما لم يلتزم طاعته ومتابعته فإذا تمسَّك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردة منه، ونظير هذا قول الحبرين ... قالا: نشهد إنك نبي. قال: فما يمنعكما من اتباعي. قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود» (¬2) ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ومن تأمَّل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك. وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة، والإقرار، والانقياد، والتزام طاعته، ودينه ظاهرًا، وباطنًا» (¬3). وقال أيضًا: رحمه الله: «وعلى هذا فإنما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الإسلام، لأنه مجرد الإقرار والإخبار بصحة رسالته ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (7/ 561). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (36543)، والآحاد والمثاني (2465). (¬3) زاد المعاد (3/ 42).

التزام أحكام الإسلام شرط في صحته

لا يوجب الإسلام إلا أن يلتزم طاعته ومتابعته. وإلا فلو قال: أنا أعلم أنه نبي، ولكن لا أتبعه، ولا أدين بدينه كان من أكفر الكفّار، كحال هؤلاء المذكورين، وغيرهم. هذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين، وأئمة السنة: أن الإيمان لا يكفي فيه قول اللسان بمجرده، ولا معرفة القلب مع ذلك، بل لابد فيه من عمل القلب، وهو حب الله ورسوله، وانقياده لدينه، والتزام طاعته، ومتابعة رسوله وهذا خلاف من زعم: أن الإيمان هو مجرد معرفة القلب، وإقراره» (¬1). وقال الحافظ ابن حجر: «وفي قصة أهل نجران من الفوائد: أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام» (¬2). من هذه النقول نعلم: أن قول الصحابي الجليل عمرو بن عبسة رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إني متبعك) المقصود به: «إني متبعك على إظهار الإسلام في بلد الله الحرام معك، وليس المقصود بـ (إني متبعك) أي الاتباع والطاعة التي لا يثبت عقد الإسلام إلا بالإقرار به، وهذا أمر مجمع عليه بين سلف الأمة وأئمتها، خلافًا للمرجئة الذين يقولون بأن الإيمان هو مجرد الإقرار والتصديق، دون الطاعة والاتباع. قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - تأكيدًا على هذا المعنى: «قوله: ¬

_ (¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 94). (¬2) فتح الباري (7/ 697).

فقلت إني متبعك قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني» معناه: قلت له إني متبعك على إظهار الإسلام هنا وإقامتي معك، فقال لا تستطيع ذلك لضعف شوكة المسلمين، ونخاف عليك من أذى كفار قريش، ولكن قد حصل أجرك فابق على إسلامك، وارجع إلى قومك، واستمر على الإسلام في موضعك حتى تعلمني ظهرت فأتني، وفيه معجزة للنبوة، وهي إعلامه بأنه سيظهر (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 96).

حرمة مشابهة الكفار

(6/ش) «حرمة مشابهة المشركين وعاقبتها الوخيمة». من المعلوم من الدين بالضرورة حرمة مشابهة المشركين والزنادقة والمبتدعة والمتفلسفة .. فالمشابهة في الأقوال والأعمال والعادات في الظاهر مظنة المحبة والموالاة والنصرة في الباطن. ولمّا كان أوائل هذه الأمة قد باينوا سبيل المجرمين بكليتهم، باينوها بأقوالهم وأعمالهم ومعتقداتهم، حتى غدت البراءة من الشرك وأهله سمة بارزة لهم في واقعهم وسلوكهم، ومن ثم كانت سبيلهم هي السُّنة المحضة، وصراطهم هو الحق الفاصل، وهديهم هو الترجمة الحرفية العملية لنصوص القرآن والسُّنة. وسار أبناء المسلمين على هذا فترة من تاريخ الأمة، كانت فترة نقية ناصعة البياض، تملكوا فيها البلاد والعباد، البلاد بالقرآن والعباد بالإيمان، هذه صفحة من صفحات تاريخ المسلمين. وسطرت صفحة أخرى عندما بدأ فرقان المفاصلة بين المسلمين والمشركين يضعف، وباطل المشابهة بينهما ينبت وينمو ويقوى. بدأ أعداء الإسلام من بني جلدتنا يشككون في قوة الأمة على منازلة خصومها، ثم طرحوا حلاً خلاصته: هو العمل الدؤوب على ذوبان الحد الفاصل بين أولياء الله وأعدائه، عن طريق فتح باب المشابهة لأعداء الدين في

آيات في الولاء ليست بحاجة إلى تفسير

الأقوال والأعمال والمعتقدات والعادات .. ومن بلاء الله لهذه الأمة - وله سبحانه الحكمة البالغة - فقد كان الجو مهيئًا والتربة معدة لسريان هذا المخطط الخبيث في مفاصل جسدها، وذلك بسبب ضعف الوازع العقدي لدى كثير من أبناء الأمة. وكنا ننتظر انتفاضة مباركة من العلماء والدعاة والكُتّاب ... للوقوف صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص، ليقي المسلمين من لسعات هذا المخطط المسموم، ولكن رأينا كثيرًا منهم يتسابقون في إضفاء الشرعية، وتكريس المصيبة العظمى على رؤوس العباد، وفي جنبات البلاد. ونسي بعضهم، وتناسى أكثرهم نصوص القرآن والسُّنة المحرمة لمشابهة الكفار والمرتدين، والقاضية بردة من والاهم ونصرهم على المسلمين، ولو كان من أجل دنيا فانية أو متاع زائل ... قال الله تعالى -وسيظل هذا النص يتلى إلى قيام الساعة على رغم أنف أعداء الله وعلماء السوء -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 51 - 53]، وهذه الآيات وما في معناها، قراءتها

تفسير قوله r: (من تشبه بقوم فهو منهم).

تفسيرها، لأنها ليست في حاجة إلى بيان. فوالذي نفسي بيده لو تليت هذه الآيات على أعجمي لا يعرف من العربية إلا معاني ألفاظها لعلم المراد بها. عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬1). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى - معلقًا عليه: «ففيه دلالة على: النهي الشديد، والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا، ولا نقر عليها» (¬2). وقال الإمام الصنعاني - رحمه الله تعالى -: «والحديث دال على أن من تشبه بالفساق كان منهم، أو بالكفار، أو المبتدعة في أي شيء مما يختصون ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (4031) وهو حديث صحيح، حسنه الحافظ في الفتح (10/ 271)، وقال في موضع آخر، «وقد ثبت أنه قال: من تشبه بقوم فهو منهم. كما تقدم معلقًا في كتاب الجهاد، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصله أبو داود» الفتح (10/ 274) وجود إسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/ 231) وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل/ 248 برقم (1269). (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 206) عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا} الآية [البقرة 104].

التشبه بالكفار دائر بين المعصية والكفر.

به، من ملبوس أو مركوب أو هيئة، قالوا: فإذا تشبه بالكفار في زي، واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر؛ فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، منهم من قال: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب» (¬1). وقال علامة الأئمة ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم - أي الكفار -؛ وإن كان ظاهره يقتضي: كفر المتشبه بهم؛ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (¬2)». وقال أيضًا في النهي عن مشابهة الظلمة، فكيف بالكفرة: «وقد كره أحمد رضي الله عنه: لبس السواد في الوقت الذي كان شعار الصلاة والجند، واستعفى الخليفة المتوكل من لبسه لما أراد الاجتماع به فأعفاه بعد مراجعة، وكان هذا الزي إذ ذاك شعار أهل طاعة السلطان في إمارة ولد العباس رضي الله عنه. وكان من لم يلبسه ربما أُتهم بمعصية السلطان، والخروج عليه ... وسأله رجل - أي: الإمام أحمد - عن خياطة الخز الأسود؟ فقال: إذا علمت أنه لجندي فلا تخطه. وسأله رجل أخيط السواد؟ قال: لا. ¬

_ (¬1) سبل السلام (1/ 234). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم - تحقيق محمد حامد الفقي/ 83.

وسئل عن المرأة تأمر زوجها أن يشتري لها ثوب خز أسود؟ فقال: هو للمرأة أسهل. قيل له: فأي شيء ترى للرجل؟ قال: لا يروع به. قيل: فترى للخياط أن يخيط له؟ قال: إذا خاطه فأيش قد بقي؟!! قد أعانه. «قال ابن تيمية معلقًا على نصوص الإمام أحمد». وهذا لأنه كان لباس الولاة والأمراء وأعوانهم، مع ما كانوا فيه من الظلم والكبرياء، وإخافة الناس وترويعهم، ولم يكن يلبسه إلا أعوان السلطان. فلما كان - أي لباس السواد آنذاك - معونة على الظلم والشر وإيذاء المسلمين، صارت خياطته وبيعه بمنزلة، بيع السلاح في الفتنة، وكره أن يلبسه الرجل إذ ذاك لأنه من تشبه بقوم فهو منهم، ولأنه يصير بذلك من أعوان الظلمة. أو يخاف عليه أن يدخل في أعوانهم. وفي معنى هذا: كل شعار وعلامة يدخل بها المرء في زمرة من تكره طريقته، بحيث يبقى كالسيما عليه، فإنه ينبغي اجتنابها وإبعادها» (¬1). ¬

_ (¬1) شرح العمدة في الفقه - لابن تيمية - تحقيق د/ سعود صالح العطيشان (4/ 385 - 386).

مشابهة الكفار أصل دروس دين الله وشرائعه

مشابهة الكفار والمشركين أصل كل بلاء ومصيبة حلت على أتباع الرسل والنبيين - صلوات ربي وسلامه عليهم -، ولا يستفحل هذا الداء العضال في أمة إلا ويردها على أعقابها، ويركسها في حمئة الجاهلية، ومن ثم ينفتح باب الردة عن التوحيد والملة الحنيفية. يقول فذّ العلماء، العالم الرباني ابن تيمية في بيان أن مشابهة الكفار قد آلت بالعرب إلى الوقوع في الشرك، والردة عن الملة الحنيفية، دين إبراهيم الخليل عليه السلام، وأن أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي هو بسبب الوقوع في مشابهة الكفار والمرتدين، وأيضا: ففي الصحيحين: عن الزهري عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: «البحيرة: التي يُمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيبونها لآلهتهم، لا يُحمل عليها شيء». وقال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يَجُرُّ قُصْبَه في النار، كان أولَ من سَيَّب السوائب» (¬1). وروى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت عمرو بن لُحّيِّ بن قمعة بن خندف، أخا بني كعب، وهو يجر قُصْبَه في النار» (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3333) باب قصة خزاعة. (¬2) صحيح مسلم (50).

والبخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة» (¬1). هذا من العلم المشهور: أن عمرو بن لحي هو أول من نَصَب الأنصاب حول البيت. ويقال: إن جلبها من البلقاء من أرض الشام، متشبهًا بأهل البلقاء. وهو أول من سَيَّب السائبة. ووصل الوصيلة. وحم الحامي. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «رآه يجر قصبه في النار» وهي الأمعاء، ومنه سمي القَصَّاب بذلك، لأنها تشبه القَصَب. ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم، على شريعة التوحيد والحنيفية السمحة، دين أبيهم إبراهيم فتشبهوا بعمرو بن لحي، وكان عظيم أهل مكة يومئذ، لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش، وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله، وإليها الحج، ما زالوا معظَّمين من زمن إبراهيم عليه السلام. فتشبه عمرو بمن رآه في الشام. واستحسن بعقله ما كانوا عليه، ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيمًا لله ودينًا (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3332). (¬2) لم يكن عمرو بن لحي حرم هذه الأنعام والحرث تحريمًا مطلقًا على كل أحد ولكنه جعلها وقفًا وحبسًا على أوليائهم وأوثانهم، وعلى سدنتها والعاكفين عندها. «والبحيرة» و «السائبة»، و «الوصيلة» و «الحامي» أسماء لكل نوع منها. فالبحيرة: التي بحرت أذنها، أي شقت وسمة لها وتخصيصها من غيرها من بقية الأنعام، حتى تعرف بذلك أنها خاصة بفلان من آلهتهم. والسائبة: المسيبة. ترعي حيث تشاء لا تمنع. لأن لها حقًّا في كلأ كل أحد، كما لمن سميت باسمه وحبست له من هذا الحق في مال الجميع. والوصيلة: التي وصلت بولادتها الإناث متتابعات. والحامي: الذي حمى ظهره لأنه نسل من ضرابه عشرة أبطن. والحرث: من أنواع الطعام الذي يصنع في أعياد الآلهة وموالدها. وهذا كله موجود اليوم فيمن يتسمون المسلمين: يحرمون الشاة على أهليهم وأنفسهم إلا إذا جاء موعد نذرها لفلان من الأولياء، أو في مولده. وكذلك بقية ما يصنعون من الأطعمة؛ قاله الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله تعالى- في تعليقه على الكتاب محل النقل.

فكان ما فعله أصل الشرك في العرب أهل دين إبراهيم، وأصل تحريم الحلال، وإنما فعله متشبهًا فيه بغيره من أهل الأرض. فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشركُ بالله عز وجل، وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام، وأقام التوحيد، وحلل ما كانوا يحرمونه. وفي سورة الأنعام من عند قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} إلى آخر السورة، خطاب مع هؤلاء الضرب. ولهذا يقول تعالى في أثنائها: {وَقَالَ الَّذِينَ

عاقبة البدعة ودعاة الفتنة.

أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلاَ آَبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]. ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم ترك الأمور المباحة تدينا، وأصل هذا التدين: هو من التشبه بالكفار، وإن لم يقصد المتدين التشبه بهم. فقد تبين لك: أن من أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي: التشبه بالكافرين، كما أن من أصل كل خير: المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم. ولهذا عظم وقعُ البدع في الدين، وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين؟ ولهذا جاء في الحديث: «ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها» (¬1)، (¬2). والآن قد ظهر للأمة على عجالة خطورة مشابهة الكفار والمرتدين، وتبين عظم المآل الخبيث الذي ينتظر أصحاب هذه المعصية الشنيعة. ومن ثم ينبغي على كل الموحدين من أبناء أمتنا أن يقفوا متيقظين ومتربصين بدعاة الفتنة، الذين يحاولون جاهدين العمل على ذوبان الحد ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده عن غضيف بن الحارث الثماني (17011)، وجود إسناده الحافظ في الفتح (13/ 253)، وحسنه السيوطي، في الجامع الصغير (7790)، وعزاه الهيثمي إلى أحمد والبزار، وقال فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث، مجمع الزوائد (1/ 447). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم.

الفاصل بين المسلمين والمشركين، وبين أهل السُّنة والرافضة، وبين دعاة الحق، ودعاة الضلالة ... وأخيرًا أذكر: باستحالة استواء منازل الأبرار مع منازل الفجَّار فيا أيها الناس سيروا في أي طريق شئتم، فأي طريق سلكتم وردتم على أهله. فمن سلك طريق أهل الله ورد عليهم ففاز وصار من السعداء. ومن سلك طريق الفجَّار ورد عليهم فخسر وصار من الأشقياء. والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم، والعبد يبعث على ما مات عليه ...

تفسير قوله تعالى:} إن شر الدواب عند الله الصم {الآية.

(¬1) (7/ش) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 20 - 23]. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ 63 - 64.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له؛ ولهذا قال: {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أي: بعد ما علمتم مما دعاكم إليه {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} قيل: المراد: المشركون. واختاره ابن جرير. وقال ابن إسحاق: هم المنافقون؛ فإنهم يُظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك. ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة، فقال {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ} أي: عن سماع الحق {الْبُكْمُ} عن فهمه، ولهذا قال: {الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله عز وجل فيما خلقها له وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ولهذا شبههم بالأنعام في قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. وقال في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وقيل: المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش روي عن ابن عباس ومجاهد، واختاره ابن جرير، وقال محمد بن إسحاق: هم المنافقون.

قلت: ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا؛ لأن كلاً منهم مسلوب الفهم الصحيح، والقصد إلى العمل الصالح. ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، لو فرض أن لهم فهمًا، فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أي: لأفهمهم وتقدير الكلام: ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم؛ لأنه يعلم أنه {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي: أفهمهم {لَتَوَلَّوْا} عن ذلك قصدًا وعنادًا بعد فهمهم ذلك، {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عنه» (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (4/ 33 - 34).

إفراد الله بالعبادة هو زبدة الرسالة

(¬1) (8/ش) صدق رحمه الله ما أفقهه من إمام. فإن سيف المسلمين لا يجرد إلا من أجل إفراد الله بالعبادة ولوازم ذلك، وكذا لا يجرد إلا لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله. فإذا كان ¬

_ (¬1) المقصود بـ «لأفهمهم» أي: لأفهم المراد عن الله، وليس المقصود لأفهمهم معاني دلالات النصوص.

بعض الدين لله، وبعضه لغير الله وجب تجريد السيف البتار ليكون الدين كله لله. وأيضا يجب القتال حتى تكسر شوكة المشركين، ويأمن المسلمون على دمائهم وأعراضهم. قال الإمام السرخسي - رحمه الله تعالى - بعد حديثه عن مراحل تشريع الجهاد: «فاستقر الأمر على فرضية الجهاد مع المشركين، وهو فرض قائم إلى قيام الساعة. وعن سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى - قال: بعث الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة سيوف. سيف قاتل به بنفسه عبدة الأوثان. وسيف قاتل به أبو بكر رضي الله عنه أهل الردة، قال تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]. وسيف قاتل به عمر رضي الله عنه المجوس وأهل الكتاب. قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية. وسيف قاتل به علي رضي الله عنه المارقين والناكثين والقاسطين» (¬1). وقال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - ومتع الأمة بآثاره: «قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ ¬

_ (¬1) المبسوط (6/ 123).

وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال الله عز وجل في غير أهل الكتاب: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فحقن الله دماء من لم يدن دين أهل الكتاب من المشركين بالإيمان لا غيره. وحقن دماء من دان دين أهل الكتاب بالإيمان، أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون. والصغار أن يجري عليهم الحكم لا أعرف منهم خارجًا عن هذا» (¬1). وقال الإمام ابن تيمية في وجوب القتال حتى يكون الدين كله لله. «فإن التتار يتكلمون بالشهادتين، ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين. وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة أو الباطنة المعلومة، فإنه يجب قتالها فلو قالوا: نشهد ولا نصلي قوتلوا حتى يصلوا. ولو قالوا: نصلي ولا نزكي قوتلوا حتى يزكوا. ولو قالوا: نزكي ولا نصوم ولا نحج قوتلوا حتى يصوموا رمضان ويحجوا البيت. ولو قالوا: نفعل هذا لكن لا ندع الربا، ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى، ونحو ذلك قوتلوا حتى يفعلوا ذلك كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّهِ} (¬2)». ¬

_ (¬1) الأم (4/ 405). (¬2) مجموع الفتاوى (22/ 51).

(¬1) (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3170)، (4464)، وصحيح مسلم (379) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) سنن الترمذي (3168) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وقال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (5/ 322).

دائما الحق مع قليل الناس

(¬1) (8/ش) لا شك أن كل داع للتوحيد عندما يواجه أهل الباطل من المشركين يحتجون عليه بقلة أتباعه، وبكثره أتباعهم، وأن ما يقوله ويقرره من وجوب إخلاص التوحيد، ووجوب إفراد الخالق سبحانه بأعمال القلب والجوارح، وبأعمال الظاهر والباطن ... يحتج المشركون على بطلان دعوة التوحيد - بزعمهم - بأنهم لم يسمعوا بهذا من آبائهم، الذين هم محل الثقة لديهم، ويتبجحون بأن دينهم - الباطل - قد ورثوه كابرًا عن كابر، وأنه لو كان باطلاً لصرح بهذا علماؤهم وعبادهم ... ، فلما لم يفعلوا دلّ ذلك على استحسانهم له، وأنه الحق الذي لا ينبغي العدول عنه!! وكم احتج المشركون على إمام الدعوة بهذه الحجج الزائفة، وذلك بسبب إفلاسهم وخلوهم من الحجج الصادقة والبينات الدامغة. فالشرك ليس له أي دليل صحيح صريح من عقل ولا نقل، وفي الفطر ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (232)، ومسند أحمد (16736).

تفسير قوله تعالى:} قد كانت لكم أسوة حسنة {الآية.

السليمة البراهين الباهرة على إفكه وبطلانه. فكان الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - يحشد ويسوق براهين دعوته من نصوص الكتاب والسُّنة، ويؤكد على أن التوحيد هو الدين الموروث من ملل الأنبياء جميعًا، وأن الله ما خلق السموات والأرض، ولا أنزل الكتب، وأرسل الرسل، إلا ليعبد - جل جلاله - وحده ولا يشرك به شيئًا. وعلى ذلك قامت ساق العداوة بين الإمام وقومه من المشركين، كما قامت من قبل، وستقوم بين كل داع للتوحيد، وأعداء الحق من المشركين والطواغيت. وعلينا أن نَعْلم، ونُعلِّم أن الأسوة في هذه المعركة قد نص القرآن عليها. فقال سبحانه في محكم التنزيل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وقد نص الإمام الطبري إمام المفسرين على الإطلاق: على أن (الذين معه) هم: الأنبياء. فملة الأنبياء جميعًا: هي البراءة من المشركين، ومباينة الكافرين، ومعاداتهم مع ترك موالاتهم. وأن هذه العداوة والبغضاء والمفاصلة بيننا وبينكم مستمرة أبدًا حتى توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا معا تعبدون معه من الآلهة

والأرباب والطواغيت والأنداد ... قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى -: «قال ابن زيد في قول الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، قال: الذين معه الأنبياء ... وقوله: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. يقول: حين قالوا لقومهم، الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت. يا أيها القوم إنا برآء منكم، ومن الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد. وقوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} يقول جل ثناؤه، مخبرًا عن قول أنبيائه لقومهم الكفرة: {كَفَرْنَا بِكُمْ}: أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم وما تعبدون من دون الله أن تكون حقا، وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا على كفركم وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا، ولا هوادة {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. حتى يقول: تصدقوا بالله وحده فتوحدوه وتفردوه بالعبادة (¬1). ألا إن معالم الطريق قد بانت، فهل من مشمر عن ساق الجد، فالطريق طويل، والدرب موحش، والأعداء متربصون، والعاقبة كؤود ... فلابد من زاد فيا الله «أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين». ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (12/ 259).

ويا الله «لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب». ويا ربنا تول أمرنا، واسلل سخيمة صدورنا، وثبت أقدامنا، واجعلنا مطمئنين بوعدك، مجاهدين في سبيلك، ندور مع كتابك حيث دار، غير آبهين بكيد الفجَّار، وظلم الطواغيت ...

(¬1) ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم/ 259.

حكم الذبح لغير الله، وحكم الذابح.

(9/ش) أخي القارئ -رحمني الله وإياك - انظر إلى تعليق الشيخ - رحمه الله - على قول العالم ابن تيمية، وأمعن فيه النظر. «وهو الذي ينسب إليه أعداء الدين أنه لا يكفر المعين». التهمة المعدة سلفًا لدعاة التوحيد من قبل أعداء الدين: أنتم تكفرون المعين، أنتم تكفرون المسلمين، أنتم خوارج، أنتم غلاة ... بعد أن يضيق دعاة الفتنة والضلالة ذرعًا بدعاة التوحيد والهداية، يبدأون بكيل التهم جزافًا لأنهم يشعرون بأن البساط بدأ يسحب من تحت أقدامهم. فأعداء التوحيد دائمًا يقفون بالمرصاد لدعاته من أجل أن يشوشوا عليه. فبعض هؤلاء ينزعج كثيرا من دراسة كتب التوحيد دراسة تطبيقية عملية، ويصرخ قائلا لماذا تسمعون الناس هذه النصوص من القرآن والسُّنة التي واجه بها النبي - صلى الله عليه وسلم - مشركي قريش؟!! الناس اليوم مسلمون لأنهم نطقوا بالشهادتين، وهو -بزعمه- زبدة المراد، والمراد فقط من القيام بالتوحيد. وطالما أن الناس قد نطقوا بالشهادتين فلا سبيل البتة لخروجهم من هذا الدين لأن تكفير المعين له شروط لا بد أن تتحقق، وموانع لا بد أن تنتفي، ولا يمكن أبدًا أن تتوفر هذه الشروط في معين، كما أنه لا يمكن أن تنتفي موانع التكفير عن معين أيضا.

وأبسط ما يواجه به هذا الحزب من أعداء الله الآتي ذكرهم: * أن المنافقين قد نطقوا بالشهادتين، والتزموا في الظاهر شرائع الإسلام إلا أنهم مع ذلك في الدرك الأسفل من النار خالدين فيها أبدًا. * ألم تنطق جماهير أهل الكتاب يومًا بما تعصم به دماؤهم وأموالهم وكانوا عندئذ مسلمين. ثم بعد ذلك خرجوا من دين الله، وصاروا مرتدين عن أصل ملتهم. * ألم يترك إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - يومًا ما العرب على التوحيد الخالص حنفاء عن الشرك، وكانوا يعبدون الله مخلصين له الدين. ثم بعد ذلك انتكسوا على أعقابهم، وخرجوا من دينهم إلى الشرك البواح بسبب التقليد والاتباع لإمام الكفر في وقته عمرو بن لحي - عليه لعنة الله - الذي ضل بدوره بسبب تقليده لأئمة الشرك في الشام، ذلك المحل الذي كان يفترض فيه أنه محل العلم الإلهي، وتراث الأنبياء آنذاك!! * ألم يترك آدم أبو البشر - عليه السلام - ذريته على التوحيد الخالص، وكانوا مستسلمين لله بالطاعة والعبادة. ثم ارتد جيل منهم في وقت ما إلى الشرك الصراح بسبب التقليد والجهل والاتباع لأئمة الكفر. فأرسل الله نوحًا -عليه السلام- لينذر المشركين من قومه من قبل أن يحل بهم العذاب الأليم.

حكم تكفير المعين بين الإفراط والتفريط

وهكذا كانت القصة تتكرر مع كل نبي أرسله الله إلى قومه. * ألم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل مرتدين في حياته؟ وهذا أفضل من طلعت عليه الشمس من البشر - بعد النبيين - أبو بكر الصديق رضي الله عنه ألم يقاتل المرتدين بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقاتل معه الصحابة كلهم، فكان هذا من أبلغ طرق وقوع الإجماع في تاريخ الأمة. ألم يقاتل والصحابة من ورائه المرتدين، الذين آمنوا بنبوة مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي؟ ... ألم يقاتل المرتدين عن شرائع الإسلام لظنهم الخبيث أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس بنبي لأنه مات؟ وقالوا كذبًا: لو كان نبيًا ما مات!!! ألم يقاتل المرتدين عن الانقياد لحكم الله في الزكاة فقط، دون غيرها من أحكام الله؟ ولم يفرق رضي الله عنه في قتاله بين الطوائف الثلاث. * ألم يعقد العلماء منذ أن صنفوا في علم الحديث والفقه والعقيدة بابًا للردة وأحكامها ... (حكم تكفير المعين بين الإفراط والتفريط) نعود للحديث عن مسألة حكم تكفير المعين فنقول: لا شك أن هذه المسألة الخطيرة قد تنازع وتخاصم في الكلام حولها ثلاث طوائف من الناس.

الطائفة التي غلت في التكفير والرد عليها

الطائفة الأولى: غلت وأفرطت في أحكام التكفير، فكفرت من لم يكفره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجت كثيرًا من المسلمين من دينهم بغير حق، تارة عن طريق سلوك منهج الخوارج المحض في تكفير فاعل الكبيرة. وتارة عن طريق التأويل الفاسد لفهم نقول عن بعض العلماء في تكفير من لم يكفر الكافر، فقالوا: بالتسلسل في هذه المسألة دون مراعاة لتحقيق المناط المنضبط، ودون اعتبار لحال الناس الذين كٌفِّروا بسبب عدم تكفيرهم للمشركين من قبل هؤلاء العلماء، ودون تثبت في هل توفر هذا الحال، ووجدت تلك العلل التي كفر بها العلماء، من شك في كفر الكافر في كل من كفروه هم بسبب عدم تكفيرهم للمشركين أم لا؟!! وبعضهم نص: على أن الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد أدخل تكفير المشركين في تعريفه لأصل الدين ولحد الإسلام، ومن ثَمَّ فكل من لم يكفر المشركين فهو كافر مثلهم لأنه لم يأت بحد الإسلام، ولم يحقق أصل الدين. فنقول: صدقتم في أن الشيخ محمد -رحمه الله- قد نصَّ في بعض المواضع على هذا، ولكن لابد في هذا المقام من التفريق بين مدلول أصل الدين الذي تطابقت عليه النصوص من الكتاب والسنة، والذي أخذ عليه الميثاق، وفطر عليه العباد، والمتمثل في إفراد الله بالعبادة مع الكفر والبراءة من كل معبود سواه، وبين مدلول ومعنى الأصل الذي يخاطب به «عالم ما» قومه ليخرجوا به من الكفر الذي هم متلبسون به.

تفسيرنا لنص محمد بن عبد الوهاب على أن تكفير المشركين من أصل الدين

فهذا قد يختلف من قوم إلى قوم، ومن مكان إلى مكان، والضابط فيه هو مخاطبتهم بالقدر من تحقيق التوحيد، الذي يبرأون به من الكفر الذي هم واقعون فيه، ولكن هذا القدر لا يكون مطالبًا به كل الطوائف من المشركين إلاَّ من وقع منهم في مثل ما وقع فيه المشركون من قوم هذا «العالم» تمامًا. وهذا يستلزم الاجتهاد من قبل الراسخين في العلم لتحديد المناط الذي من أجله خاطب هذا «العالم» قومه بوجوب تكفير المشركين حتى يصح لهم أصل دينهم. فقد يكون قد قام بقومه من قواطع أعلام الكفر، من عبادة غير الله، وإنكار البعث، والاستهزاء بالشرائع، مع قيام الحجة عليهم بقدر لا يبقي عذرًا لواحد من العوام، فضلا عن الخواص في عدم تكفيرهم. فقد تحدث الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - عن طوائف من قومه أنهم قد أقروا بأن ما يدعوهم إليه دين الله، وأن ما هم عليه هو الشرك الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه، ثم بعد ذلك لا يرفع أحدهم رأسًا ولا يعبأ بتغيير ما هو عليه من الشرك والكفر بدين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فهذا مثلاً من المناطات التي يجب على كل موحد تكفير من كان واقعًا في مثله، وإلا وقع هو في الردة عن أصل الملة. ولكن هذا لا يعطينا الحق في مطالبة كل مسلم بتكفير كل من أشرك بالله من هذه الأمة، وإلا اعتبرناه كافرًا مثلهم.

ولكن لنا الحق، وكل الحق في تكفير كل من أشرك بالله فعبد معه إلهًا غيره، ممن ينتسب ظلمًا وزورًا لدين الإسلام، إلا أن يكون مكرهًا وقلبه مطمئنًا بالإيمان. لأن المرء، لا يكون مسلمًا إلا بإفراد الله بالعبادة قولاً وعملاً واعتقادًا. فالإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولا يمكن أن يجتمعا في عبد، ولو كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة أبدًا، لأنه لا يحل أحدهما في قلبه إلا طرد الآخر منه مباشرة. والآن أسوق مثالاً على هذه المسألة الخطيرة ليتبين به حقيقة المراد ومطلوبه. عندما حارب أبو بكر رضي الله عنه المرتدين ومكنه الله من رقابهم، فطلب بعضهم العودة إلى الإسلام، فعرض الصديق عليهم التوبة من كفرهم قائلاً: «تشهدون على قتلانا أنهم في الجنة، وعلى قتلاكم أنهم في النار، ففعلوا» (¬1). فالشهادة على قتلاهم بالنار تعني: انخلاعهم من الكفر الذي أحدثوه، وبراءتهم من أهله. ¬

_ (¬1) السُّنة للخلال (475)، ومصنف ابن أبي شيبة (28945)، وسنن البيهقي (16538).

ولكن هل كل من أراد الدخول في الإسلام من كافة طوائف الكفر في عهده رضي الله عنه كان يقول له: دخولك في هذا الدين يستلزم منك: الشهادة بالنار على كل من مات من قومك كافرًا؟!! وهل فهم كل عالم وداع بعد التصديق رضي الله عنه أن كل من أراد الدخول في الإسلام من كافة الملل والنحل فعليه أن يفعل هذا؟!! وبناء على هذا: فمطالبة الإمام محمد بن عبد الوهاب لبعض الطوائف من قومه بوجوب تكفير المشركين حتى يصح أصل دينهم هو حق لا ريب فيه ولكنه كان بسبب ما حكينا عنه وعنهم من قبل وقررناه. ولكن لا يلزم من هذا القول بالسلسلة في كل من لم يكفر الكافر. والمقام ليس مقام إسهاب، ولن مقام اختصار، وتذكير ببعض رؤوس الأقلام عن المسائل التي سيجري البحث عنها في أثناء الشرح لهذه الرسالة المباركة. وإليك أخي القارئ بعض النقول عن إمام الدعوة لترى من خلالها وصف المشركين في زمانه من بني قومه، ووصف المجادلين عنهم فتعلم لماذا نص إمام الدعوة في تعريفه لأصل الدين وحد الإسلام على وجوب تكفير المشركين. لأن الشك في كفرهم قد وصل لحالة عادت بالفساد والبطلان على

أصل الدين بالكلية وعلى حدّ الإسلام بالنقض والإلغاء لكل من وقع في الشك في كفرهم. فالمشركون في زمانه قد كذبوا بالبعث وأنكروا الشرائع كلها، واستهزؤوا بمن أقر بها، وعادوا التوحيد بعد إقرارهم بأنه دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... ولا شك في كفر من لم يكفر أمثال هؤلاء، وأن توبته ورجوعه إلى الإسلام لا تكون إلا بالإقرار بالتوحيد قولاً وعملاً واعتقادًا مع تكفير المشركين والبراءة منهم ومن شركهم. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «العلماء في زماننا، يقولون: من قال لا إله إلا الله فهو المسلم حرام المال والدم، لا يكفر ولا يقاتل، حتى إنهم يصرحون بذلك في البدو الذين يكذبون بالبعث، وينكرون الشرائع كلها، ويزعمون: أن شرعهم الباطل هو حق الله؛ ولو يطلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله لعدوه من أكبر المنكرات. ومن حيث الجملة: إنهم يكفرون بالقرآن من أوله إلى آخره، ويكفرون بدين الرسول - صلى الله عليه وسلم - كله مع إقرارهم بذلك، وإقرارهم: أن شرعهم أحدثه آبائهم لهم، كفر شرع الله، وعلماء الوقت يعترفون بهذا كله، ويقولون: ما فيهم من الإسلام شعرة، لكن من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم حرام المال والدم، ولو كان ما معه من الإسلام شعرة. وهذا القول، تلقته العامة عن علمائهم، وأنكروا ما بينه الله ورسوله، بل كفروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة، وقالوا: من كفر مسلمًا فقد

كفر؛ والمسلم عندهم: الذي ليس معه من الإسلام شعرة؛ إلا أنه يقول لا إله إلا الله. فاعلم رحمك الله: أن هذه المسألة أهم الأشياء عليك، لأنها هي الكفر والإسلام، فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل الله على رسوله، كما ذكرنا لك من القرآن والسنة والإجماع، وإن صدقت الله ورسوله، عادوك وكفروك، وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى بعد أن ساق الأدلة على تكفير من عبد غير الله تعالى من هذه الأمة: «الموضع السادس: قصة الردة بعد موته - صلى الله عليه وسلم -، فمن سمعها ثم بقي في قلبه مثقال ذرة من شبهة الشياطين -الذي يسمون العلماء- وهي قولهم: هذا هو الشرك، لكن يقولون لا إله إلا الله، ومن قالها لا يكفر بشيء. وأعظم من ذلك وأكبر: تصريحهم بأن البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة، ولكن يقولون: لا إله إلا الله، وهم بهذه اللفظة إسلام، وحرم الإسلام مالهم ودمهم، مع إقرارهم أنهم تركوا الإسلام كله، ومع علمهم بإنكارهم البعث، واستهزائهم بمن أقر به، واستهزائهم بالشرائع، وتفضيلهم دين آبائهم مخالفًا لدين النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومع هذا كله، يصرح هؤلاء الشياطين المردة الجهلة أن البدو إسلام، ولو ¬

_ (¬1) الدرر السنية (9/ 385 – 386).

جرى منهم ذلك كله، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله أيضا، ولازم قولهم: أن اليهود إسلام لأنهم يقولونها؛ وأيضًا: كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود بأضعاف مضاعفة، أعني البوادي المتصفين بما ذكرنا. والذي يبين ذلك من قصة الردة، أن المرتدين افترقوا في ردتهم، فمنهم من كذَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وقالوا: لو كان نبيًا ما مات؛ ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقر بنبوة مسيلمة، ظنًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك، فصدقهم كثير من الناس، ومع هذا: أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر. فإذا عرفت أن العلماء أجمعوا أن الذين كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وشتموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة في حال واحد، ولو ثبت على الإسلام كله، ومنهم من أقر بالشهادتين، وصدَّق طليحة في دعواه النبوة؛ ومنهم من صدَّق العنسي صاحب صنعاء، وكل هؤلاء أجمع العلماء أنهم مرتدين. ومنهم أنواع أخر، منهم الفجاءة السلمي لما وفد على أبي بكر رضي الله عنه، وذكر له أنه يريد قتال المرتدين، ويطلب من أبي بكر أن يمده، فأعطاه سلاحًا ورواحل، فاستعرض السلمي، المسلم والكافر يأخذ أموالهم، فجهز أبو بكر جيشًا لقتاله، فلما أحس بالجيش، قال لأميرهم: أنت أمير أبي بكر، وأنا

أميره ولم أكفر، فقال إن كنت صادقًا فألق السلاح، فألقاه فبعث به إلى أبي بكر، فأمر بتحريقه بالنار وهو حي. فإذا كان هذا حكم الصحابة في هذا الرجل، مع إقراره بأركان الإسلام الخمسة، فما ظنُّك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة واحدة، إلا أنه يقول: لا إله إلا الله بلسانه، مع تصريحه بتكذيب معناها، وتصريحه بالبراءة من دين محمد - صلى الله عليه وسلم -،ومن كتاب الله، ويقولون هذا دين الحضر، وديننا دين آبائنا، ثم يفتي هؤلاء المردة الجهَّال أن هؤلاء المسلمون، ولو صرحوا بذلك كله، إذا قالوا: لا إله إلا الله، سبحانك هذا بهتان عظيم. وما أحسن ما قاله واحد من البوادي، لما قدم علينا وسمع شيئًا من الإسلام، قال: أشهد أننا كفار – يعني هو وجميع البوادي – وأشهد أن المطوع الذي يسمينا إسلامًا أنه كافر، وصلى الله على سيدنا محمد» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى بعد أن بين أحوال وكفر الطواغيت المعبودة في بلده: «إذا عرفتم ذلك، فهؤلاء الطواغيت، الذين يعتقد الناس فيهم، من أهل الخرج وغيرهم، مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس، كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا، لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل، أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 117 – 119).

حكم موالاة المشركين والمرتدين.

ولا يصلي خلفه. بل لا يصح دين الإسلام، إلا بالبراءة من هؤلاء، وتكفيرهم، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] (¬1). وغالى أيضًا بعض الإخوة بسبب: الحكم بردة من والى المشركين، ولم يفرقوا في هذا المقام بين من تولى المشركين المباينين للملة، وبين المرتدين، الذين قد اشتبه حالهم على بعض المسلمين بسبب علماء السوء، ودعاة الإرجاء الخبيث، فقالوا: بإسلامهم خطأ، ثم والوهم على ما يرونه فيهم من طاعة فقط دون ما وقعوا فيه من كفر وعصيان، وذلك نتيجة لحكمهم عليه بأنهم مسلمون، ولأن الله قد أمرهم بموالاة المسلمين فنقول وبالله التوفيق. أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن لم أقل بردة من والى الكفار والمشركين والمرتدين، بعد ما سمعت قول ربي سبحانه وتعالى وجل في علاه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وبعد سماعي لقول نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبَّه بقوم فهو منهم) (¬2) فإذا كان هذا حكم المتشبه بهم، فكيف بمن والاهم، ونصرهم على المسلمين؟!! وهل تمكن عبَّاد الصليب، واليهود، والشيوعيون اليوم من رقاب المسلمين ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 52 - 53). (¬2) تقدم تخريجه وكلام العلماء حوله فليراجع ثم.

الطائفة التي جفت في التكفير، والرد عليها

ودمائهم ومقداساتهم في أي بلد غزوه من بلدان المسلمين، إلا بموالاة المنافقين الجبناء والمرتدين الخبثاء، ونصرتهم لهم على المسلمين الصادقين. ولكن ينبغي التفريق في هذا المقام بين عبد تبين له كفر طائفة وردتها، ثم والاها ونصرها على المسلمين، فهذا يحكم عليه بالكفر والردة، وإن كان فعل هذا من أجل دنيا فانية أو متاع زائل. وبين عبد التبس عليه حكم مسلم وقع في ناقض فارتد، إلا أن الأول قال بإسلام المرتد بسبب انتشار وتسيد فكر الإرجاء الخبيث، ثم قام بعد ذلك بموالاته ونصرته بسبب ظنه أنه مازال مسلمًا، لكن هذا مقيد بأن يواليه على ما عنده من طاعة، دون ما وقع فيه من إحداث وكفر وعصيان، وإلا كان أمره مترددًا بين المعصية والكفر، بحسب ما والاه عليه من شعب الكفر والعصيان. الطائفة الثانية: جفَّت وفرطت في أحكام التكفير، وهم غلاة المرجئة وأفراخهم في القديم والحديث. ومن نافلة القول أن نقرر: أن مذهب المرجئة في الإيمان يتمثل في: النطق باللسان بكلمة التوحيد، وهو قول اللسان، وتصديق القلب بمعنى الشهادتين، وهو قول القلب، وأخرجوا أعمال الجوارح من الإيمان، وكذا أعمال القلوب، وإن أدخلها بعضهم في مسمى الإيمان، ولكن نصهم على إخراج أعمال الجوارح دليل على عدم اعتبارهم لأعمال القلوب، لأن أعمال الظاهر هي لوازم أعمال الباطن.

ومن ثمّ وقعوا في بدعة فصل الظاهر عن الباطن، ونصوا على أن الرجل قد يفعل الكفر في الظاهر، ويكون مؤمنًا في الباطن إلا أن يكون فعل الظاهر دليلاً على الاستحلال والتكذيب في الباطن، فالكفر عندهم لا يقع إلا بالتكذيب لأن الإيمان هو التصديق. وتقرر عندهم: أن العبد قد يترك الفرائض كلها، وينتهك كافة المحرمات، ويكون مع هذا مؤمنا كامل الإيمان، بل إيمانه كإيمان الملائكة والنبيين والصديقين. فكانت هذه البدعة من أضر البدع على الأمة، وفتحت أبواب الكفر والفسوق والمعاصي على مصراعيها. وحصل التحام قوي بين الطواغيت ودعاة هذه البدعة، لأنهم دائمًا مؤهلون لإضفاء الشرعية على أفعالهم، ومستعدون للقيام بتخدير العامة حتى لا يقومون المقام الذي ينبغي عليهم تجاه الطواغيت والمشركين والزنادقة والمرتدين ... وهذه الفرقة قد وضعت شروطًا لابد أن تتحقق، وموانع لابد أن تنتفي لتكفير المعين لا تنطبق إلا على المكذب للحق، والمعتقد للكفر. فالكفر عندهم خصلة واحدة، هي التكذيب والاعتقاد، ولا يمكن أن يقع بالقول، أو بالعمل لأن الإيمان هو التصديق والاعتقاد. وقدامى المرجئة كانوا أحسن حالاً من أتباعهم اليوم. لأنهم كانوا يكفرون في

منهج أهل السنة في حكم تكفير المعين

الظاهر كل من نصَّ الشرع على كفره، ويجرون عليه أحكام الردة، لكن يتوقفون في الباطن فإن كان مصدقًا بقلبه نجا يوم القيامة، وإلا هلك، وتلك بدعة فصل الظاهر عن الباطن. أما مرجئة اليوم، فقد قطعوا بنجاة فاعل الشرك في الظاهر والباطن، وفي الدنيا والآخرة إلا أن يكون مكذبًا ومستحلاً، وأجروا عليه جميع أحكام الإسلام في الدارين. ولقد اتفق أئمة السلف على ذم قدامى المرجئة وضللوهم وصاحوا بهم من أقطار الأرض، فكيف لو رأوا مرجئة (¬1) عصرنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. الفرقة الثالثة: هم أهل السنة والجماعة، الذين داروا مع الحق وحده حيث دار، فتوسطوا كعادتهم، فكانوا بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، فكفروا من كفره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ووضعوا شروطا لابد أن تتوفر، وموانعًا لابد أن تنتفي في حق تكفير المعين، إلا أن هذه الشروط، وتلك الموانع كانت مستقاة كعادتهم من دلالة نصوص القرآن والسنة بفهم صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - أئمة المسلمين، وبفهم من سار على دربهم من العلماء الربانيين، الذين لهم قدم صدق في بيان الحق ونصرة هذا الدين. ¬

_ (¬1) يستثنى من هذا مرجئة الفقهاء.

المشركون الذين عبدوا مع الله غيره يكفرون بأعيانهم

(المشركون الذين عبدوا مع الله غيره يكفرون بأعيانهم): كل من عبد غير الله، واتخذ معه إلهًا آخر فيجب تعيينه بالكفر إلا أن يكون مكرهًا. نعم قد يرد في بعض نصوص الأئمة أنهم لا يكفرون أحدًا من المسلمين بعينه إلا أن تكون قد قامت عليه الحجة الرسالية. فهذا حق وصدق، ولكن سوف ترى أن تقييدهم هذا بقولهم من المسلمين دال على إخراج المشركين من هذه القاعدة لأن المشرك لا يدخل في عداد المسلمين، كيف لا وقد نصوا على ذلك في تعريفهم لحد الإسلام، الذي يعصم به الدماء والأموال. وقبل هذا فنصوص القرآن والسُّنة متواترة على هذا المعنى الجلي الواضح: قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّهِ} وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. وقال سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. وقال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ

الانخلاع من الشرك إلى التوحيد شرط في صحة الإسلام وقبوله

الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]. وكان كل رسول يبدأ دعوته لقومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]. والتوبة في هذه الآية، وفي نظائرها: هي التوبة من الشرك، مع الالتزام بأحكام الإسلام بإجماع المفسرين قال الإمام القرطبي رحمه الله: «{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ} أي: عن الشرك، والتزموا أحكام الإسلام. {فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فهم إخوانكم في الدين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: حرَّمت هذه الآية دماء أهل القبلة» (¬1). وهذا نص في الموضوع من حبر الأمة: أن الانخلاع من الشرك مع الالتزام بأحكام الإسلام هو الذي يعصم به دماء الناس. وقال ابن تيمية رحمه الله: «فعلق الأخوة في الدين: على التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. والمعلق بالشرط ينعدم عند عدمه. فمن لم يفعل ذلك فليس بأخ في الدين، ومن ليس بأخ في الدين فهو كافر، لأن المؤمنين أخوة» (¬2). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن (10/ 121). (¬2) شرح العمدة في الفقه (4/ 73).

وأما نصوص السُّنة المطهرة فالمعنى فيها واضح يقدر وضوحه في نصوص القرآن. فالتوبة من الشرك مع الانقياد لأحكام الإسلام هو الحد الذي يعصم به الدماء، والأموال في الظاهر والله يتولى السرائر. قال - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (¬2). وعندما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية إلى علي ليقاتل بها قال رضي الله عنه: (يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علام نقاتلهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك انفذ حتى ننزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الله - عز وجل - وإلى رسوله حتى يكونوا مثلنا) (¬3) الحديث. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (2786)، وصحيح مسلم (33). (¬2) متفق عليه، صحيح البخاري (25)، صحيح مسلم (36). (¬3) متفق عليه: صحيح البخاري (2783)، وصحيح مسلم (34) ومسند أبي يعلى (7527).

شروط عصمة الدم والمال

ودمه، وحسابه على الله) وفي رواية (من وحَّد الله) (¬1) ثم ذكر مثله. قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: «اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول لا إله إلا الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله. فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لابد من قولها، والعمل بها. قال المصنِّف - أي الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع. قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلابد في العصمة من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّهِ}، والفتنة هنا: الشرك. فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق بحاله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (37، 38) ومسند أحمد (15915).

علة قتال مانعي الزكاة

الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]. فأمر بقتالهم على فعل التوحيد، وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين الظاهرة فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها، أو فعل شيء منها فالقتال باق بحاله إجماعًا ولو قالوا: لا إله إلا الله. وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - علق العصمة بما علقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا من دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) (¬1). وفي الصحيحين عنه قال: (لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه؛ فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) (¬1) لفظ مسلم. فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها. فكان ذلك هو الصواب، واتفق عليه الصحابة، ولم يختلف فيه منهم اثنان، إلا ما كان من عمر حتى رجع إلى الحق، وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة. وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) (¬2). فهذا الحديث كآية براءة بين فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء، فإذا فعلوه وجب الكف عنهم إلا بحقه. فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار، والدخول في الإسلام وجب القتال حتى يكون الدين كله لله. بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها، وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك وجب قتالهم إجماعًا، ولم تعصمهم لا إله إلا الله، ولا ما فعلوه من الأركان. ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (6526)، وصحيح مسلم (32). (¬2) سبق تخريجه.

مجرد النطق بالشهادتين لا يعصم هؤلاء

وهذا من أعظم ما بين معنى لا إله إلا الله، وأنه ليس المراد منها مجرد النطق. فإذا كانت لا تعصم من استباح محرمًا، أو أبى عن فعل الوضوء مثلاً، بل يقاتل على ذلك حتى يفعله، فكيف تعصم من دان بالشرك، وفعله، وأحبه، ومدحه، وأثنى على أهله، ووالى عليه، وعادى عليه، وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله، وتبرأ منه وحارب أهله، وكفرهم، وصد عن سبيل الله، كما هو شأن عبَّاد القبور. وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا الله وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد. ذكر التنبيه على كلام العلماء في ذلك فإن الحاجة داعية إليه لدفع شبه عباد القبور في تعلقهم بهذه الأحاديث، وما في معناها، مع أنها حجة عليهم بحمد الله لا لهم. قال أبو سليمان الخطَّابي في قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف. وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: «لا إله إلا الله» تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه.

حكم الطائفة الممتنعة من التزام شرائع الإسلام

فأما غيرهم، ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفي في عصمته بقوله: «لا إله إلا الله» إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة). وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في الرواية الأخرى: (ويؤمنوا بي وبما جئت به) (¬1). وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام، فقال: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، من هؤلاء القوم، أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه. كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم. فأيّما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، وليس مطلق الاستسلام بغير قيد

قال وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وقيل هذا كثير في كلام العلماء. والمقصود التنبيه على ذلك، ويكفي العاقل المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد، فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو أتى بجميع الدين، وهو صريح في كفر عباد القبور، ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا حتى يكون الدين لله وحده. فإذا كان من التزم شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر، أو الربا، أو الزنا يكون كافرًا يجب قتاله، فكيف بمن أشرك بالله، ودعي إلى إخلاص الدين لله والبراءة، والكفر بمن عبد غير الله، فأبى عن ذلك، واستكبر، وكان من الكافرين» (¬1). فهذه نصوص الكتاب والسنة بفهم فحول علماء الأمة قاضية بأن المشرك لاحظ له، ولا نصيب في الإسلام. وأما نصوص العلماء في تعريف الإسلام، والقدر الذي ينبغي تحقيقه من العبد حتى يعصم دمه وماله فقد مرَّ بعضها، وإليكم بعضًا آخر منها، ولكن قبل الشروع في المقصود، فنريد أن نلفت نظر القارئ الكريم إلا ملاحظة تخصيص كلام العلماء في تعريفهم للإسلام بأنه: الاستسلام لله وحده بالتوحيد، وأنه ليس مطلق الاستسلام بغير قيد. ¬

_ (¬1) تيسير العزيز الحميد/ 118 - 122.

لا يصح إسلام أحد إلا بتحقيق التوحيد

لأنه لو كان كذلك، فقد يظن بعض أفراخ المرجئة: أن المشرك قد حقق الاستسلام لله، لظنه أن بفعل الشرك يتقرب به زلفى بين يدي رب الأرض والسموات، لأن علماءه وشيوخه أفهموه: أن الشرك هو زبدة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ففعله استسلامًا - في ظنه - لأمر الله، ومتابعة لهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الهراء والافتراء يكفي في رده: نصوص القرآن والسنة، التي نصت على وجوب إفراد الله بالعبادة، مع الكفر بكل ما يعبد من دونه من الآلهة والأنداد والأوثان والطواغيت، وسوف ترى أخي القارئ في نقول الأئمة وعلماء الأمة، النص الواضح على أن تحقيق التوحيد بإفراد الله بالعبادة هو أصل الدين، ولا يصح إسلام أحد إلا به، وأن من جهل هذا فهو في حاجة إلى تعلمه حتى يصح له الدخول في هذا الدين. قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فإن التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة والنار، وهو ثمن الجنة، ولا يصح إسلام أحد إلا به» (¬1). وقال أيضا -رحمه الله تعالى- معرفًا الإسلام: "هو الاستسلام لله لا لغيره، بأن تكون العبادة والطاعة له والذل، وهو حقيقة لا إله إلا الله" (¬2). وقال أيضًا: «والإسلام: هو الاستسلام لله وحده، وهو أصل عبادته وحده ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (24/ 235). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 239).

الإسلام ضد الشرك ونقيضه

وذلك يجمع معرفته، ومحبته، والخضوع له» (¬1). وقال أيضًا في الفرق بين معنى الإسلام والإيمان: «وحقيقة الفرق أن الإسلام دين، والدين مصدر دان يدين دينًا، إذا خضع وذل ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو: الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده وعبد معه إلهًا آخر لم يكن مسلمًا، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلمًا، والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له، والعبودية له هكذا قال أهل اللغة، أسلم الرجل إذا استسلم» (¬2). وقال أيضًا: رحمه الله تعالى - «وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا لغيره كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ} [الزمر: 29] الآية. فمن لم يستسلم لله فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره، فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك» (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (20/ 115). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 63). (¬3) مجموع الفتاوى (10/ 14). (¬4) أخي القارئ انظر إلى قول ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الإسلام ضد الشرك» نجد أنه نص في أن من عبد غير الله لا يمكن أن يكون مسلمًا، وإلا دخلنا في جحد العقليات بتجويز أن يجتمع الشيء مع ضده في آن واحد.

الإسلام يجمع معنيين

وقال أيضًا - رحمه الله تعالى - مبينًا وناصًا على أن الشرك ضد الإسلام: «ولما كان الدين عند الله هو الإسلام والإسلام هو الاستسلام لله وحده. وله ضدان: الإشراك، والاستكبار. فالمستكبر استكبر عن الإسلام له والمشرك استسلم لغيره وإن كان قد استسلم له. فمعنى الأحد: يوجب الإخلاص لله المنافي للشرك، ومعنى الصمد: يوجب الاستسلام لله وحده المنافي للاستكبار» (¬1). وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في قوله سبحانه حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} الآية [البقرة: 128]. قال: «قال ابن جرير: يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك» (¬2). وقال الإمام البغوي: «ربنا واجعلنا مسلمين لك»: موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك» (¬3). وقال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والإسلام يجمع معنيين: أحدهما: الاستسلام والانقياد، فلا يكون متكبرًا. ¬

_ (¬1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 309). (¬2) تفسير القرآن العظيم (1/ 446). (¬3) معالم التنزيل (1/ 150).

شروط صحة الإسلام وقبوله

والثاني: الإخلاص من قوله تعالى: {وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ} الآية [الزمر: 29]، فلا يكون مشركًا، وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين» (¬1). وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والإسلام: هو توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه فيما جاء به. فمالم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا فهو كافر جاهل» (¬2). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «ولفظ الإسلام: يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك؛ ومن لم يستسلم له فهو مستكبر» (¬3). وقال أيضًا: «إن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهو أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل، لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين. ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه كائنًا من كان؛ وهذا: هو الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي: تتضمن كمال الذل والحب، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (28/ 174). (¬2) طريق الهجرتين/ 411. (¬3) الدرر السنية (2/ 83).

وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينًا سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين. وقد جمع ذلك في سورتي الإخلاص، أي: العلم والعمل والإقرار، وقد اكتفى بعض أهل زماننا بالإقرار وحده، وجعلوه غاية التوحيد، وصرفوا العبادة التي هي مدلول: لا إله إلا الله للمقبورين، وجعلوها من باب التعظيم للأموات، وأن تاركها قد هضمهم حقهم وأبغضهم، وعقهم، ولم يعرفوا أن دين الإسلام هو الاستسلام لله وحده، والخضوع له وحده، وأن لا يعبد بجميع أنواع العبادة سواه» (¬1). وقال أيضًا - رحمه الله تعالى - معرفًا الإسلام: «هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله» (¬2). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله - رحمهما الله تعالى - معرفًا الإسلام: «هو الاستسلام لله تعالى، والانقياد له بفعل التوحيد، وترك الشرك» (¬3). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمهما الله تعالى -: «فلا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، لا يحصل إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له، ودلت عليه، وقبوله، والانقياد للعمل به، وهي كلمة الإخلاص المنافي ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 518). (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (1/ 83). (¬3) تيسير العزيز الحميد / 110.

من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك بالإجماع

للشرك، وكلمة التقوى» (¬1). وقال الشيخ سلمان بن عبد الله -رحمهما الله تعالى- مؤكدًا على أن الانخلاع من الشرك شرط في صحة وقبول الإسلام بالإجماع: «فاعلم أن العلماء أجمعوا على أنَّ من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك، ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلَّى وصام. إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين: أن لا يعبد إلا الله. فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما، كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون. ومجرد التلفظ بالشهادتين لا يكفي في الإسلام بدون العمل معناها واعتقاده إجماعًا» (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمهما الله تعالى -: «أما النطق بها -أي بالشهادتين- من غير معرفة لمعناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه، من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع» (¬3). ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (1/ 90). (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (1/ 7). (¬3) فتح المجيد / 36.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم مؤكدًا على هذا المعنى: «فإن كثيرًا من الناس ينتسبون إلى الإسلام، وينطقون بالشهادتين ويؤدون أركان الإسلام الظاهرة، ولا يكتفي بذلك في الحكم بإسلامهم، ولا تحل ذكاتهم، لشركهم بالله في العبادة بدعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم وغير ذلك من أسباب الردة عن الإسلام. وهذا التفريق بين المنتسبين إلى الإسلام أمر معلوم بالأدلة من الكتاب السنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها» (¬1). هذه نصوص القرآن والسُّنة، وتلك نقول سلف الأمة وأئمتها، قد سقنا طرفًا منها مع قصد الاختصار في سردها، وإلا لو أردنا التوسع في عرض هذه المسألة المهمة فوالذي نفسي بيده لقررتها في مجلد ضخم. وما ذاك إلا لتعلم أخي القارئ أن المشرك الذي عبد مع الله إلهًا غيره، ليس له حظ ولا أدنى نصيب في الإسلام. فالإسلام نقيض الشرك وضده، ومن ثم كان يستحيل عليهما الاجتماع معًا في قلب امرئ أبدًا، ولذلك كان الانخلاع من الشرك، والبراءة من أهله مع التزام أحكام الشريعة شرطًا في عصمة الدماء والأموال، وإجراء أحكام الإسلام. ولقد جاء هذا المعنى في نصوص الوحيين بفهم علماء الأمة متواترًا، حتى غدا قاعدة كلية، وأصلاً راسخًا ينبغي رد المتشابه من نصوص الشريعة إليه. ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 41).

منهج ابن تيمية وابن عبد الوهاب في تكفير المعين

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. (عدم تكفير ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب للمعين هو فيما دن نقض التوحيد بالشرك): تكلم ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن حكم تكفير أهل البدع والأهواء، وعرض الخلاف في تكفيرهم، ثم رجَّح عدم التكفير، وذكر أن سبب التنازع في هذه المسألة هو تعارض النقول عن الأئمة المتقدمين، أمثال عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط وأحمد بن حنبل ونظرائهم، وبين - رحمه الله تعالى - أن التكفير له شروط وموانع، وأن إطلاقه لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع وأخذ يحشد الأدلة على هذه المسألة والتي منها الأحاديث التي أخبرت بأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير. ثم قال - رحمه الله تعالى - «وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان والخير وإن كان قليلاً، وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ. ومعلوم قطعًا: أن كثيرًا من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان

بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ الكلام فيمن يكن كذلك. ثم أخذ الإمام في عرض اختلاف السلف في بعض المسائل العلمية الخبرية، وأنهم قد اتفقوا على عدم التكفير فيها، ثم أخذ في حشد النصوص القرآنية التي تنص على أن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة الرسالية، ثم قال: فمن كان قد آمن بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمن به تفصيلاً، إما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، واعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله ورسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه الحجة التي يكفر مخالفها ... وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهَّال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفَّار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة

حكم الخطأ في المسائل العلمية الخبرية

الحجة وإزالة الشبهة» (¬1). انظر - رحمني الله وإياك - كيف يقيد الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى - عدم تكفير المعين بكونه محققًا للإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو بأقل درجاته حتى يستحق أن يكون من أهل القبلة، ومن ثم يتمتع برخص أهلها، وأنه ليس لأحد أن يكفر أحدًا من «المسلمين» وإن أخطأ وغلط حتى تقوم عليه الحجة. وقد تبين لك من قبل من خلال نصوص هذا الإمام المستفيضة: أن الإيمان والإسلام لا يصح إلا بترك الشرك إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة، مع الانقياد لأحكام الشريعة. وهذا يدل على أن نصوصه في عدم تكفير المعين ليست في الشرك الأكبر لأن المشرك لا يدخل في عداد المسلمين ولا المؤمنين. وتحدث - رحمه الله تعالى - عن الخطأ في بعض المسائل العلمية الخبرية، مثل الاستواء والنزول فقال: «فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد، من أهل الإيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وباليوم الآخر، والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالا من الرجل - أي الذي أمر أولاده بسحقه بعد موته -، فيغفر الله ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (12/ 485 - 501).

شروط التمتع برخص أهل القبلة

خطأه، أو يعذبه، إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه. وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الخطأ في هذا فعظيم (¬1). ويعود ابن تيمية فيؤكد على أن رخص أهل القبلة، من العفو عن الخطأ والنسيان، وحديث النفس، ونحوها لا يتمتع بها إلا رجل مؤمن بالله واليوم الآخر، وأما من فسد إيمانه بقادح من قوادح الردة عن أصل الدين، فهذا ليس من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين بالله، ومن ثم فهو لا يتمتع برخص أهل القبلة. قال - رحمه الله تعالى -: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به. والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد، المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان، فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث، لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة، ويكون بمنزلة المنافقين فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله. وهذا فرق بين يدل عليه الحديث، وبه تأتلف الأدلة الشرعية، وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، كما دل عليه الكتاب والسنة. فمن صح إيمانه عفي له عن الخطأ والنسيان، وحديث النفس، كما ¬

_ (¬1) الاستقامة (1/ 165).

الفرق بين التكلم بكلمتي الإيمان والكفر مع عدم قصد معناهما

يخرجون من النار، بخلاف من ليس معه الإيمان، فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه» (¬1). ولا شك في أن الشرك بالله قادح وناقض من نواقض الإيمان، وأن من تكلم بكلمة الإيمان، وهو غير قاصد لحقيقتها من إفراد الله بالعبادة مع الكفر بكل ما يعبد من دونه، فهذا إيمانه باطل ولا يصح، وقد يكون سبب عدم قصده لحقيقتها هو الجهل بمعناها، لأنه لا يمكن أن يقصد العبد شيئًا وهو جاهل به. قال ابن تيمية: «ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع، والرجل لا يصدر عنه فساد العمل إلا لشيئين: إما الحاجة، وإما الجهل» (¬2). فحكم الإيمان لا يثبت لصاحبه إلا إذا تكلم بكلمة الشهادتين، مع قصده لحقيقتها، وهذا بخلاف التكلم بكلمة الكفر، فإن التكفير يقع على صاحبه، ولو لم يرد حقيقتها، بل ولو تكلم العبد بكلمة الكفر دون اعتقاد حقيقتها كفر ظاهرًا وباطنًا. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «إن كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صح كفره ولم يصح إيمانه. فإن المنافق قصد ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (10/ 760 - 761). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 53).

تفسير محمد بن عبد الوهاب لكلام ابن تيمية في عدم تفكير المعين

بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة فلم يصح إيمانه؛ والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صح كفره باطنًا وظاهرًا. وذلك لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدًا لحقيقتها وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادًا ولا هازلاً. فإذا تكلم بالكفر أو الكذب جادًا أو هازلاً. كان كافرًا أو كاذبًا حقيقة، لأن الهزل بهذه الكلمات غير مباح فيكون وصف الهزل مهدرًا في نظر الشرع لأنه محرم، فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها» (¬1). وبعد هذه النقول عن العلامة ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يحق لنا أن نؤكد على عدم تكفيره للمعين إلا بعد قيام الحجة، هو مقيد بعدم الوقوع في نقض التوحيد الذي هو أصل الدين. وهذا المعنى ظاهر واضح جلي في نصوص ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وأتباعه ... رحمهم الله جميعًا. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب مؤكدًا على أن عدم تكفير ابن تيمية للمعين إلا بعد إقامة الحجة مقيد بعدم الوقوع في الشرك والردة، وأنه في المسائل الجزئية، فقال في رسالة بعث بها إلى واحد لبس عليه علماء الإرجاء ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى (6/ 64 - 65).

بكلام ابن تيمية في حكم تكفير المعين. «وأما عبارة الشيخ: التي لبسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرًا من المشاهير بأعيانهم، فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر، إلا إذا قامت عليه الحجة. فإن كان المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه: أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليه الحجة بالقرآن، مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25]، وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]. وإذا كان كلام الشيخ، ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كان من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم، في مسائل الصفات أو مسألة القرآن أو مسألة الاستواء أو غير ذلك: مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه، ويسبون من خالفه. فلو قدرنا أنَّها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين، مذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، ثم يحكي مذهب

تأويل عبد الرحمن بن حسن لموقف ابن تيمية وابن عبد الوهاب في حكم تكفير المعين

الأشعري ومن معه، فكلام الشيخ في هذا النوع، يقول: إن السلف كفَّروا النوع، وأما المعين. فإن عرف الحق وخالف كفر بعينه، وإلاَّ لم يكفر» (¬1). وبين الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن أن عدم تكفير ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ابتداء للمعين من المشركين كان من باب السياسة الشرعية، ومراعاة لمصلحة الدعوة والمدعوين، وحتى لا يأنف المشركون عن ترك الشرك إذا سمعوا كفرهم على رؤوس الأشهاد فقال رحمه الله تعالى: "بقي مسألة حدثت تكلم فيها شيخ الإسلام ابن تيمية وهي عدم تكفير المعين ابتداء لسبب ذكره رحمه الله تعالى أوجب له التوقف في تكفيره قبل إقامة الحجة عليه. قال رحمه الله تعالى: ونحن نعلم بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأحد أن يدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميِّت ولا إلى ميِّت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم مع جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يخالفه. انتهى. قلت: فذكر رحمه الله تعالى ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم على التعيين خاصة إلا بعد البيان والإصرار فإنه قد صار أمة واحدة، ولأن من ¬

_ (¬1) الدر السنية (10/ 69 - 70).

بيان إسحاق وعبد اللطيف بن حسن لموقف ابن تيمية وابن عبد الوهاب في حكم تكفير المعين

العلماء من كفره بنهيه لهم عن الشرك في العبادة فلا يمكنه أن يعاملهم إلا بمثل ما قال، كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في ابتداء دعوته. فإنه إذا سمعهم يدعون زيد بن الخطاب رضي الله عنه قال: الله خير من زيد تمرينًا لهم على نفي الشرك بلين الكلام. ونظرًا إلى المصلحة وعدم النفرة. والله سبحانه وتعالى أعلم» (¬1). وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله تعالى - في رسالته الذهبية، الموسومة بـ: (حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة). "فقد بلغنا وسمعنا من فريق ممن يدَّعي العلم والدين، وممن هو بزعمه مؤتم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب: أن من أشرك بالله وعبد الأوثان لا يطلق عليه الكفر والشرك بعينه. وذلك أن بعض من شافهني منهم بذلك سمع من بعض الإخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغاث به، فقال له الرجل: لا تطلق عليه الكفر حتى تعرفه. (ثم تكلم عن سبب خطئهم هذا فقال): رغبوا عن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - قدس الله روحه - ورسائل بنيه، فإنها كفيلة بتبيين جميع هذه الشبه جدًا كما سيمرُّ. ومن له أدنى ¬

_ (¬1) مجموعة التوحيد / 196.

معرفة إذ رأى حال الناس اليوم ونظر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحيَّر جدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك أن بعض من أشرنا إليه، بحثته عن هذه المسألة فقال: نقول لأهل هذه القباب التي يعبدونها ومن فيها: فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك، فانظر ترى وأحمد ربك واسأله العافية. فإن هذا الجواب من بعض أجوبة العراقي (¬1) التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف. وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهم، فقال: نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف، ومستندنا ما رأينا في بعض رسائل الشيخ محمد - قدس الله روحه - على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبِّه. فانظر ترى العجب، ثم اسأل الله العافية وأن يعافيك من الحَور بعد الكَور، وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - أنه ذات يوم يقرر على أصل الدين ويبين ما فيه، ورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث، حتى جاء بعض الكلمات التي فيها، ما فيها فقال الرجل: ما هذه كيف ذلك؟ فقال الشيخ: قاتلك الله ذهب حديثنا ¬

_ (¬1) هو داود بن جرجيس، أحد المنافحين عن الشرك وأهله، والمناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وقد ردَّ عليه الشيخان عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله جميعًا وأسكنهم فسيح جناته.

العلماء لا يذكرون التعريف عند تكفير المشرك

منذ اليوم لم تفهم ولم تسأل عنه فلما جاءت هذه السقطة عرفتها، أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر أو كما قال ... (العلماء لا يذكرون التعريف عند تكفير المشرك ...): ومسألتنا هذه وهي: عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي أصل الأصول، وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية كالصرف والعطف. وكيف يعرفون عباد القبور وهم ليسوا بمسلمين ولا يدخلون في مسمى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، «ومن يشرك بالله فقد حبط عمله» (¬1) إلى غير ذلك من الآيات، ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح، وهو: أن ¬

_ (¬1) لا توجد آية في القرآن بهذا الترتيب.

حكم أهل الفترة

الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن، نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول. بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية، لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة ... (رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة): قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدَّس الله روحه في الرسالة التي كتب إلى أحمد بن عبد الكريم صاحب الأحساء، أحد الصلحاء أولاً، وقبل أن يفتتن، فنذكر منها شيئًا لمشابهة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا نصُّها: «من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبد الكريم سلام على المرسلين (¬1) والحمد لله رب العالمين، أما بعد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكالاً تطلب إزالته، ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام شيخ الإسلام أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام، وعلى أي شيء يدل كلامه على أن من عبد الأوثان عبادة اللات والعزى، وسبَّ دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه، بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح بن ¬

_ (¬1) أخي: تأمل كيف أن الشيخ لم يحيّه بتحية الإسلام، وذلك لأنه كان يرى كفره وردته عن الإسلام، وانظر ما بعده تجده فيه.

حب الدنيا قد يؤول إلى الشرك

عبد الله وأمثالهما، كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة فضلاً عن غيرهما، هذا صريح واضح في كلام ابن القيم وفي كلام الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخا، وسبَّ دين الرسول، بعدما أقرَّ وشهد به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقرَّ بها. وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم، ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه وإنما أخاف عليك من قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، والشبهة التي دخلت عليك من أجل هذه البضيعة التي في يدك تخاف أن تضيع أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين وشاك في رزق الله، وأيضًا قرناء السوء. وأنت والعياذ بالله تنزل درجة أول مرة في الشك، وبلد الشرك، وموالاتهم، والصلاة خلفهم». انتهى كلامه - رحمه الله تعالى-. فتأمل قوله في تكفير هؤلاء العلماء، وفي كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف، وأنه صريح في كلام ابن القيم - رحمه الله تعالى -، وفي حكايته عن صاحب الرسالة، وحكم عليه بآية المنافقين، وأن هذا حكم عام ... ثم قال الشيخ - أي محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن الإسلام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كالذين في زمن

عدم تكفير ابن تيمية للمعين ليس في الشرك والردة

أبي بكر رضي الله عنه حكموا عليهم بالردة بمنع الزكاة، وكأصحاب علي وأهل المسجد الذين بالكوفة، وبني عبيد القدَّاح، كل هؤلاء حكموا عليهم بالردة بأعيانهم، ثم قال: وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرًا من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها: بأن المعيَّن لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعيَّن يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم: أن قيامها ليس معناه أن يفهم (¬1) كلام الله ورسوله، مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به، فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]. (المقالات الخفية، والمسائل الجزئية، هي التي لا يكفر المعيَّن فيها إلا بعد إقامة الحجة). وإذا كان كلام الشيخ ليس في الردة والشرك بل في المسائل الجزئيات ثم ¬

_ (¬1) المراد بفهم كلام الله هنا، أن يتفطن العبد إلى مراد الله من الدليل، ويستوعب وجه الاستدلال منه، وليس المقصود أن يفهم دلالة الألفاظ، ويدرك معانيها أي: البيان. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...} [إبراهيم: 4]. والدليل على ذلك: أن القرآن لو قرئ كاملاً على أعجمي بدون ترجمان لم تقم عليه الحجة بيقين. هذا والله أعلى وأعلم.

ماذا فعل علم الكلام بأصحابه؟

قال: يوضح ذلك أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين، فأين نسبتك أنه لا يكفر أحدًا بعينه. وقال أيضًا في كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم لما ذكر عن أئمتهم شيئًا من أنواع الردة والكفر قال - رحمه الله تعالى -: وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن يقع في طوائف منهم في هذه الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعث بها وكفّر من خالفها، مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام. ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وكثير منهم تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، إلى أن قال: وأبلغ من ذلك أن منهم من صنَّف في الردة، كما صنف: الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. هذا لفظه بحروفه، فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤسائهم فلانًا وفلانًا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على الردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه من أكابر أئمة الشافعية، هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر ولو دعا عبد القادر في الرخا والشدة، ولو أحب عبد الله بن عوف، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته لأبي حديدة.

وقال شيخ الإسلام أيضًا: بل كل شرك في العالم إنما حدث عن رأي بني جنسهم، فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما، فقد رجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعًا. فتدبر هذا فإنه نافع جدًا، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد، بل يسوِّغون الشرك ويأمرون به، وهم إذا ادَّعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالفعل، انتهى كلامه رحمه الله. فتأمل كلامه واعرضه على ما غرَّك به الشيطان من الفهم الفاسد الذي كذبت به الله ورسوله وإجماع الأمة، وتحيزت به إلى عبادة الطاغوت، فإن فهمت هذا، وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء إلى من الهداية بيده، فإن الخطر عظيم، فإن الخلود في النار جزاء الردَّة الصريحة ما يساوي بضيعة تربح تومان أو نصف تومان، وعندنا أناس يجوعون بعيالهم ولا شحذوا. وقد قال الله في هذه المسألة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60]. انتهى كلام الشيخ من الرسالة المذكور بحروفه مع بعض الاختصار، فراجعها من التاريخ فإنها نافعة جدًا ...

مجرد بلوغ القرآن حجة على المشركين

(مجرد بلوغ القرآن حجة على إفراد الله بالعبادة): ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ - رحمه الله تعالى - إلى عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم لما سألاه عن قول شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر. فأجاب بقوله: إلى الأخوين عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: ما ذكرتموه من كلام الشيخ كل من جحد كذا وكذا، وأنكم تسألون عن هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة أم لا؟ فهذا من العجب العجاب كيف تشكُّون في هذا، وقد وضحت لكم مرارًا: أن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو الذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي وضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي: القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]. وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر.

تحريف العراقي وأذنابه لنصوص ابن تيمية

فتأمل كلام الشيخ ونسأل الله أن يرزقك الفهم الصحيح وأن يعافيك من التعصب، وتأمل كلام الشيخ رحمه الله أن كل من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة وإن لم يفهم ذلك، وجعله هذا هو السبب في غلط من غلط وأنه عل التعريف في المسائل الخفية، ومن حكينا عنه جعل التعريف في أصل الدين. وهل بعد القرآن والرسول تعريف؟!! ثم نقول: هذا اعتقادنا نحن ومشايخنا نعوذ بالله من الحور بعد الكور، وهذه المسألة كثير جدًا، من مصنفات الشيخ رحمه الله، لأن علماء زمانه من المشركين ينازعون في تكفير المعين ... فهذا شرح حديث عمرو بن عبسة من أوله إلى آخره كله في تكفير المعين (¬1)، حتى أنه نقل فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن من دعا عليًّا فقد كفر ومن لم يكفِّره فقد كفر، وتدبر ماذا أودعه من الدلائل الشرعية، التي إذا تدبَّرها العاقل المنصف - فضلاً عن المؤمن - عرف أن المسألة وفاقية ولا تشكل إلا على مدخول عليه في اعتقاده ... قال الشيخ عبد اللطيف - رحمه الله - على قول العراقي: قد كفَّرتم الحرمين وأهلها، فذكر كلامه وأجاب عنه إلى أن قال: قال العراقي: ومن المعلوم أن المنع من تكفير المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب وإن أخطئوا من أحق الأغراض الشرعية، وهو إذا اجتهد فله أجران إن أصاب، وإن أخطأ ¬

_ (¬1) المقصود بهذا: رسالتنا المباركة، التي هي محل الشرح، والموسومة: بـ (مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد).

المشرك ليس من عداد المسلمين، وهذا بيت القصيد

فله أجر واحد. انتهى كلام العراقي. والجواب أن يقال: هذا الكلام من جنس تحريفه الذي قررناه، في هذا تحريفين: أحدهما: أنه أسقط السؤال وفرضه في التكفير في المسائل التي وقع فيها نزاع وخلاف بين أهل السنة والجماعة والخوارج والروافض، فإنهم كفروا المسلمين وأهل السُّنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه وأصَّلوه ووضعوه وانتحلوه - وأسقط - هذا خوفًا من أن يقال دعا أهل القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم من هذا الباب ولم يتنازع فيها المسلمون، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفر، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية وجعلها مما لا خلاف في التكفير بها، فلا يصح حمل كلامه هنا على ما جزم هو بأنه كفر مجمع عليه، ولو صح حمل هذا العراقي لكان قوله قولاً مختلفًا وقد نزهه الله وصانه عن هذا فكلامه متفق يشهد بعضه لبعض. إذا عرفت هذا عرفت تحريف العراقي في إسقاطه بعض الكلام وحذفه، وأيضًا فالحذف لأصل الكلام يخرجه عن وجهه وإرادة المقصود. التحريف الثاني: أن الشيخ رحمه الله قال: أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من مسمًَّى المسلمين، كما سننقل من كلامه في الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون في المسلمين في مثل هذا الكلام، فذكر كلامًا فيما أخطأ من المسلمين في بعض الفروع إلى أن قال: فمن اعتقد

حكم من كفر المسلمين لهواه

في بشر أنه إله أو دعا ميتًا وطلب منه الرزق والنصر والهداية وتوكل عليه وسجد له، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. انتهى. فبطل استدلال العراقي وانهدم من أصله كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولاً لمن يدعو الصالحين ويستغيث بهم مع الله ويصرف لهم من العبادات مالا يستحق إلا الله، وهذا باطل بنصوص الكتاب والسُّنة وإجماع علماء الأمة. ومن عجيب جهل العراقي أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً، فإن دعوى العراقي لإسلام عبَّاد القبور تحتاج دليلاً قاطعًا على إسلامهم، فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم والتفريع ليس مشكلاً. ومعلوم أن من كفر المسلمين لهواه كالخوارج والرافضة، أو كفَّر من أخطأ في المسائل الاجتهادية أصولاً وفروعًا فهذا ونحوه مبتدع ضال مخالف لما عليه أئمة الهدى ومشايخ الدين. ومثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا يكفر أحدًا بهذا الجنس ولا من هذا النوع، وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز وجاءت به السنة الصحيحة وأجمعت على تكفيره الأمة، كمن بدَّل دينه وَفَعل فِعلَ الجاهلية، الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين ويدعونهم، فإن الله كفَّرهم وأباح دماءهم، وأموالهم وذراريهم بعبادة غيره نبيًّا أو وليَّا أو صنمًا، لا فرق في الكفر بينهم كما دل عليه الكتاب العزيز والسنة المستفيضة، وبسط هذا يأتيك مفصلاً، وقد مرَّ بعضه.

ابن القيم وتكفير المعين

وقال وقد سئل عن مثل هؤلاء الجُهَّال، فقرر: أن من قامت عليه الحجة وتأهَّل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور، وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أدري ما حاله. وقد سبق من كلامه ما فيه كفاية، مع أن العَلامة ابن القيم - رحمه الله جزم بكفر المقلدين لمشايخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهَّلوا لذلك وأعرضوا ولم يلتفتوا، ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل، فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة لرسول من الرسل. وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمَّى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم - وسيأتيك كلامه-، وأما الشرك فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقي، مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقاء الإسلام ومسمَّاه مع بعض ما ذكره الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عبادة الصالحين ودعائهم ولكن العراقي يفر من أن يسمِّي ذلك عبادة ودعاء، ويزعم أنه توسل ونداء، ويراه مستحبًا وهيهات أين المفر؟ والإله الطالب، حيل بين العير والنزوات بما منَّ الله من كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما جاء به محمد عبده ورسوله من الحكمة والهدى والبيان لحدود ما أنزل الله عليه، ولا يزال الله سبحانه وتعالى يغرس لهذا الدين غرسًا تقوم به

حجته على عباده، ويجاهدون في بيان دينه وشرعه من ألحد في كتابه ودينه، وصرفه عن موضوعه إلى آخر ما ذكر. فتأمل قوله رحمه الله: دعاء القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم ليست من هذا الباب ولم يتنازع فيها المسلمون، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفِّر كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمة نفسه وجعله مما لا خلاف بالتكفير به ولا يصح حمل كلامه هنا، على ما جزم هو بأنه كفر. قلت: ويدل عليه كلامه المتقدم: أن من دعا عليًا فقد كفر، ثم قال: التحريف الثاني الذي قال في أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من مسمَّى المسلمين» (¬1). هذا معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المسألة. فهم يعينون بالكفر كل من عبد غير الله باتخاذه إلهًا سواه، وإن صلى وصام وزعم الإسلام. ولا يشترط أن يسمِّي توجهه لغير الله عبادة، ولا من عبده إلهًا، لأن الأحكام تدور مع الحقائق والمعاني دون الأسماء والألفاظ المجردة عن دلائلها فلو شرب شارب الخمر وسماه بغير اسمه فهو شارب للخمر، ولو زنا زان وسمى فعله نكاح متعة فهو زان، ولو تعامل مراب بالربا وسمى تعامله بيعًا فهو مراب ... ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 114 - 1132).

هل يعذر حديث العهد بفعل الشرك؟

وإحدى الدلائل على ذلك: قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] الآية، فأهل الكتاب لم يسموا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، ولكن لمّا أنزلوهم، منزلة الرب في التحليل والتحريم نزل النص القرني بحقيقة الأمر، وإن فرّ أصحابه من اسمه الشنيع. وإذا قامت على المشرك الحجَّة في الدنيا فهو كافر في أحكام الدنيا والآخرة. وإن كانت الحجة لم تقم عليه فهو كافر في أحكام الدنيا لا في أحكام الثواب والعقاب. وأما ما دون أصل الدين من الأصول والفروع فهو يخضع لضوابط التكفير المقررة من نصوص الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها، فلا يقع الكفر في استحلال أو رد شيء منها إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. وأما إذا وقع المسلم في استحلال أو رد أمر معلوم بالضرورة من الدين، وكان مثله يعلمه فهو كافر مرتد عن الإسلام. وأما حديث العهد بالإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة فإن وقع في مكفر، دون الشرك الأكبر، فهو معذور حتى تقام عليه الحجة، ما لم يكن مثله من بني جنسه يعلم بطلان ما وقع فيه، مثل نصراني أسلم حديثًا وكان يعيش بين المسلمين، فإن استحل ترك الصلاة، وادعى الجهل، فلا يقبل عذره لأن وجوب الصلاة ما زال معلومًا بالاضطرار من دين المسلمين، ومثله من بني جنسه لا يجهل ذلك.

تفسير قوله تعالى:} أفرأيتم اللات والعزى {الآية

(¬1) (10/ش) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى مبينًا أحوال هذه الطواغيت، وأحوال عابديها من المشركين، في أثناء شرحه لقوله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20]. «يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة، التي بناها خليل الرحمن - عليه الصلاة والسلام - {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ} وكان «اللات» صخرةً بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدنَة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش». قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، فقالوا اللات، يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، وحكى عن ابن عباس، ومجاهد والربيع بن أنس: أنهم قرؤوا «اللات» بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلاً يَلُتُّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم/ 313 - 405 اختصارًا.

حكم من سبق لسانه بالحلف بغير الله تعالى

قبره فعبدوه. وقال البخاري: حدثنا مسلم -هو ابن إبراهيم- حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء، عن ابن عباس: {اللاَّتَ وَالْعُزَّى} قال: كان اللات رجلاً يلت السَّويق، سويق الحاج (¬1). قال ابن جرير: وكذا العُزَّى من العزيز، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش تعظمها، كما قال أبو سفيان يوم أُحد: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم) (¬2). وروى البخاري من حديث الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالى أقامرك، فليتصدق» (¬3). وهذا محمول على من سبق لسانه إلى ذلك، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية، كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بَكَّار وعبد الحميد بن محمد قالا: حدثنا مَخْلَد، حدثنا يونس، عن أبيه، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى، فقال لي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4859). (¬2) صحيح البخاري (4043). (¬3) صحيح البخاري (4860).

طواغيت كفار قريش، وكيف كانت نهايتها

أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجرا! فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وانفث عن شمالك ثلاثًا، وتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم لا تعد) (¬1). وأما «مناة» فكانت بالمُشَلَّل - عند قُدَيد، بين مكة والمدينة - وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها نحوه (¬2). وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها. قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحُجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوفاتها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم - عليه السلام -، ومسجده، فكانت لقريش وبني كنانة العُزّى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها ¬

_ (¬1) سنن النسائي (3716، 3717) وسنن ابن ماجه (2097)، وصححه ابن حبان (4364)، ومسند أحمد (590) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين في تحقيقه للمسند (1/ 183). (¬2) صحيح البخاري (4861).

بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. قلت: بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد رضي الله عنه فهدمها، وجعل يقول: يَا عُزّ، كُفْرَانَك لا سُبْحَانَك ... إني رأيت الله قَدْ أهَانَك وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر، أخبرنا ابن فُضَيْل، حدثنا الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْلِ قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئًا» فرجع خالد، فلما أبصرته السَّدَنة -وهم حَجَبتها- امعنوا في الحِيَل وهم يقولون: «يا عزى، يا عزى» فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: «تلك العزى» (¬1). قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سَدَنتها وحجباها بني مُعتب. قلت: وقد بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف. ¬

_ (¬1) النسائي في السنن الكبرى (11547)، ومسند أبي يعلى (902)، وعزاه الهيثمي في المجمع للطبراني، وقال: فيه يحيى بن المنذر وهو ضعيف (10255).

قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشلَلَ بقديد، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها أبا سفيان صخر بن حرب - رضي الله عنه - فهدمها، ويقال: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. قال: وكانت ذو الخَلَصة لدَوس وخَثعم وبَجِيله، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة. قلت: وكان يقال لها: الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية. فبعث إليه رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرير بن عبد الله البجلي فهدمه. قال: وكانت فَلْس لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من سَلمى وأجا. قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرّسُوب والمخْدَم، فَنفَّله إياهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهما سيفا علي. قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام، وذكر أنه كان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه، وهدما البيت. قال ابن إسحاق: «وكانت «رُضَاء» بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر بن ربة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:

ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّة ... فَتَرَكْتُها قفرًا بِقَاع أسحَمَا (¬1) هذه كانت آلهة المشركين، وتلك كانت أحوالهم المتردية في أوحال الجاهلية ولكن لمّا سطع نور النبوة، وأشرقت شمس الرسالة، خرج من بين ظهراني أهل الجاهلية الأولى: أفضل جيل عرفه التاريخ. ولقد رأينا كيف بدد نور التوحيد ظلمات الشرك، وكيف قهر بريق الإيمان سواد الكفر ... ورحم الله الإمام مالك حيث قال: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينًا» (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم (7/ 455 - 457). (¬2) انظر: مناسك الحج والعمرة للألباني/ 46.

شرح حديث ذات أنواط

(¬1) (12/ش) لقد شغب كثير من أفراخ المرجئة بمعنى باطل توهموه من هذا الحديث المبارك، من أجل تصحيح إسلام المشركين، والقول بإيمانهم. فقالوا بزعمهم: الصحابة وقعوا في الشرك الأكبر وكانوا جاهلين فعذروا بجهلهم ... فيا فرح الرافضة لو سمعوا بهذا الكلام الخبيث السمج في لفظه ومعناه. ولو فقه القوم لعلموا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عقب طلب الحدثاء العهد بالكفر أن يجعل لهم ذات أنواط: (سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2180)، وقال: حسن صحيح، ومسند أحمد (20892).

أركان التشبيه وشروطه

{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وهذا لفظ الترمذي، وفي رواية أحمد: (قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ}). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كما قال موسى) تشبيه لطلبهم بطلب قوم موسى -عليه السلام-. والتشبيه له أربعة أركان: المشبه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه ومن المعلوم أن المشبه به أقوى وأعلى رتبة من المشبه وأن المشبه دون المشبه به في وجه الشبه. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى -: «حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل» (¬1). وقال العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى -: «ورتبة المشبه به أعلى من رتبة المشبه. وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مدمن الخمر كعابد وثن (¬2)، ونظائر ذلك» (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري (1/ 20). (¬2) جاء الحديث بعدة روايات، وهو بمجموعها حديث صحيح، انظر سنن ابن ماجه (3375)، وصحيح ابن حبان (5347)، والقول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد للحافظ ابن حجر/ 78 - 79، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5861). (¬3) عدة الصابرين/91.

وأورد الحافظ في الفتح وأقره أن: «شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «الأصل أن المشبه به أعلى درجة من المشبه» (¬2). وقال الإمام الكرماني رحمه الله تعالى: «شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى» (¬3). وبعد هذه النقول ندرك أن طلب بعض حدثاء العهد بالكفر من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط هو دون طلب قوم موسى -عليه السلام- منه: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} وذلك بسبب التفاوت المستفاد من التشبيه الواقع في الحديث. قال الشيخ المباركفوري في شرحه لهذا الحديث: (قوله «لما خرج» أي عن مكة، كما في رواية لأحمد «إلى حنين» كزبير موضع بين الطائف ومكة، «يقال لها ذات أنواط» قال الجزري في النهاية: هي اسم شجرة بعينها كانت للمشركين «ينوطون بها سلاحهم» أي: يعلقونه بها، ويعكفون حولها. ¬

_ (¬1) الفتح (8/ 534). (¬2) الفتح (9/ 583). (¬3) عمدة القاري (22/ 308).

قول الإمام الشاطبي في المسألة

فسألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك. وأنواط جمع: نوط، وهو مصدر سمي به المنوط انتهى. «سبحان الله» تنزيهًا وتعجبًا «هذا» أي: هذا القول منكم، (كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) لكن لا يخفى ما بينهما من التفاوت المستفاد من التشبيه حيث يكون المشبه به أقوى) (¬1). وقال الإمام الشاطبي رحمه الله في ذات المعنى: «فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها» (¬2) يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به، إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها. فالذي يدل على الأول قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» الحديث فإنه قال فيه: (حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لاتبعتموهم) (¬3). والذي يدل على الثاني قوله: «فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، قال -عليه السلام-: (هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهًا) الحديث. فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه، فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه ¬

_ (¬1) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/ 339). (¬2) صحيح البخاري (6888). (¬3) صحيح البخاري (6889).

قول الإمام محمد بن عبد الوهاب في المسألة

والله أعلم» (¬1). فهذا النص من الإمام الأصولي يدل على أن: القوم لم يطلبوا الشرك الأكبر بل مجرد المشابهة، وأنه يشبه طلب بني إسرائيل لا أنه هو بنفسه، وأنه لا يلزم التشابه بينهما بالكلية، فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه، ما لم ينص عليه من كل وجه. ولذلك قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تعليقًا على هذه القصة: «فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، فيكف بما هو أطم من ذلك مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه» (¬2). وهذا النقل مرّ معنا في الرسالة محل الشرح، واستشهد به محمد بن عبد الوهاب وأقره. وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب معلقًا على حادثة ذات أنواط في كتابه التوحيد: «باب، من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما». وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ¬

_ (¬1) الاعتصام للشاطبي (2/ 245 - 246). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (/314).

عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر، إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، لتركبن سنن من قبلكم» رواه الترمذي، وصححه. فيه مسائل: الأول: تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا. الثالثة: كونهم لم يفعلوا. الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه. الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل. السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم. السابعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذرهم في الأمر بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم)، فغلظ الأمر بهذه الثلاث. الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني

حكم ردة الحديث عهد بالإسلام

إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}. التاسعة: أن نفي هذا معنى لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة. الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا. الثانية عشرة: قولهم ونحن حدثاء عهد بكفر، فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب خلافًا لمن كرهه. الرابعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: (إنها السنن). الثامنة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا. التاسعة عشرة: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما من ربك؟ فواضح. وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب. وأما ما دينك؟ فمن قولهم: (اجعل لنا) إلى آخره.

العشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. الحادية والعشرون: أن المتنقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) (¬1). فانظر إلى قول الإمام في مسائله: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بذلك. فالمتقرر لديه رحمه الله تعالى أن من وقع في الشرك الأكبر، ولو كان حديث عهد بكفر فقد ارتد عن الإسلام، لأن العبد لا يكون مسلمًا إلا بإفراد الله بالعبادة مع الكفر بكل ما يعبد من دونه، ولذلك علل -رحمه الله تعالى- ما وقعوا فيه أنه من الشرك الأصغر لأنهم لم يرتدوا به، فلو كان من الأكبر لارتدوا عن الإسلام. فإن قال قائل: فلماذا شبه طلبهم بطلب قوم موسى -عليه السلام-: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} فنقول: هو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أجعلتني لله ندًا)، وفي رواية: (أجعلتني لله عدلاً، قل ما شاء الله وحده) لرجل قال له: «ما شاء الله وشئت» (¬2)، ¬

_ (¬1) كتاب التوحيد /128. (¬2) مسند أحمد (2430)، وسنن ابن ماجة (2117)، والسنن الكبرى للنسائي (10825)، وحسن إسناده الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (7/ 123)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139).

الشرع أمر بحسم موارد الشرك

وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مدمن الخمر كعابد وثن) (¬1)، ونظائر هذه الأحاديث كثيرة. ومن نافلة القول أن نقرر: أن علماء الأمة وأئمتها قد نصوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد من هذه النصوص سد الذرائع الموصلة للشرك الأكبر، وحسم موارده ليبقى التوحيد شامخًا في نفوس أبناء الأمة، ويظل مصونًا من خدوش الشرك ووسائله. قال الإمام العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان هذا المعنى الجليل: «وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم موارد الشرك إذ هذا تحقيق قولنا: (لا إله إلا الله) فإن الإله هو الذي تألهه القلوب لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والرجاء والخوف. حتى قال لهم: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)، وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: (أجعلتني لله ندًا بل ما شاء الله وحده) (¬2)، وقال: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) (¬3) وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)» (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) متفق عليه، صحيح البخاري (2679)، وصحيح مسلم (1646). (¬4) سنن أبي داود (3251)، وصححه ابن حبان (4358)، وصححه الألباني في السلسلة (2042). (¬5) مجموع الفتاوى (1/ 136).

ما السبيل حيال التعارض في الظاهر بين قاعدة كلية ونص جزئي؟

وقال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في ذات المعنى: «قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد)، وذم الخطيب الذي قال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى» (¬1) سدًا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ. ولهذا قال للذي قال له ما شاء الله وشئت: (أجعلتني لله ندًا) فحسم مادة الشرك، وسد الذريعة إليه في اللفظ، كما سدها في الفعل والقصد، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها» (¬2). نعود إلى المراد من الحديث فنقول: إن الذين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط، كانوا حدثاء عهد بكفر، وأنهم طلبوا ولم يفعلوا، ونص العلماء على أن طلبهم كان لمجرد مشابهة المشركين، وليس لاتخاذ إله يعبد مع الله. وقد قدمنا الآيات والأحاديث الواردة في شأن عصمة الدماء والأموال، وبينّا أنها بفهم سلف الأمة وأئمتها قد غدت قاعدة كلية متواترة تنص على أن العبد حتى ينتقل من الكفر إلى الإسلام، وحتى يصح له أصل دينه وإيمانه لا بد أن يقر ويلتزم بالتوحيد قولاً وعملاً واعتقادًا وولاءً وبراءً. ومن ثم فإذا جاءت بعض النصوص الجزئية تتعارض في ظاهرها مع ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (48)، وسنن أبي داود (1097). (¬2) إعلام الموقعين (3/ 146).

منطوق هذه القاعدة الكلية، فينبغي أن تتنزل على مقتضاها ومؤداها، امتثالاً لقول المولى جل في علاه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. ونحن نجزم بأن القوم لم يطلبوا الشرك الأكبر بيقين، إذا كيف يجهلونه، وقد كان معلومًا علمًا متواترًا بينهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث بإيجاب التوحيد، وتحريم الشرك بالله في عبادته وطاعته. فمن أول يوم جهر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصاح بأعلى صوته في آذان المشركين: بعيب دينهم، وتسفيه عقولهم، وتكفير آبائهم، الذين ماتوا على الشرك قبل بعثته. فإذا كان المشكرون لا يجهلون هذا، فهل يتصور أن يقع في الجهل به صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!!! سبحانك هذا بهتان عظيم. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «قال يونس عن ابن إسحاق ثم إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد: من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بلى إني رسول الله، ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق أدعوك يا أبا بكر، إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته).

حرمة الشرك والعقوبة عليه ما زالت معلومة من دين الرسل

وقرأ عليه القرآن فلم يقر ولم ينكر، فأسلم، وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق» (¬1). فكفار قريش قد علموا من أول يوم من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قد أرسل بحرمة الشرك وتكفير المشركين، فكيف يخفى على صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين به ما لا يخفى على مشركي قريش الكافرين به؟!! ونص العلامة ابن قيم الجوزية على أن من مات على الشرك قبل البعثة فهو في النار، معللاً ذلك بأن حرمة الشرك، والعقوبة عليه كانت معلومة من دين الرسل، ومتداولة بين الأمم فقال -رحمه الله تعالى-: «من مات مشركًا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلومًا من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم، قرنًا بعد قرن. فلله الحجة البالغة. على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (3/ 27).

فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم» (¬1). فانظر رحمك الله تعالى قول الإمام تجده نصًا في المسألة، فإذا كان الوعيد على الشرك معلومًا لكفار قريش قبل البعثة، فكيف بالعلم به بعد البعثة المحمدية، بل وفي أواخر عهد النبوة في وقت غزوة حنين، فكيف بعلمه في ذلك الوقت بين المؤمنين. وقال الإمام مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حمدان بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلاً قال: «يا رسول الله أين أبي؟ قال: (في النار)، فلما قفى دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار)» (¬2). قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث، ناصًا على أن كفار قريش كانت الحجة مقامة عليهم، قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف بالأمر بعد بعثته الشريفة. «باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين». قوله: «أن رجلاً قال يا رسول الله أين أبي؟ قال: (في النار)، فلما قفى دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (3/ 588). (¬2) صحيح مسلم (203).

فيه: أن مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين. وفيه: أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم، وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم» (¬1). وقال الإمام القرطبي مؤكدًا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين من أول يوم التوحيد، وضده من الشرك والتنديد، وعاقبة كل منهما: «ولم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة» (¬2). فالتوحيد ما زال معلومًا بين المشركين قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جهر به وبأحكامه من أول يوم من بعثته الشريفة، إلا أن بعض السفهاء أصروا على أن يكون التوحيد في غربة بعد بعثته، وأن صحابته الكرام ما زالوا يقعون في الشرك الأكبر واحدًا تلو الآخر، وسوف يعلمون في أرض المحشر من أولى بأطهر جيل عرفه التاريخ نحن أم هم؟!! ولا تظن أخي القارئ أن في المسألة خلاف، فالقرآن فاصل بيننا وبينهم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 79). (¬2) تفسير القرطبي (19/ 186).

المشركون كانوا يعلمون معنى: لا إله إلا الله فكيف كان علم الصحابة به!!

في أن المشركين كانوا يعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بوجوب التوحيد، وبحرمة ضده من الشرك والتنديد إلا أنهم أبوا أن يقروا بأنه دين الله لتكبر السادة، وجهل الأتباع الذين هم تبع لتقريرات السادة والكبراء فكيف بصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يليق بهم الجهل بأصل دينهم، الذي عرفه أبو جهل، وأبو لهب، وأمية بن خلف ونحوهم. قال الإمام الطبري مبينًا علم المشركين بالتوحيد: «وقوله: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]، يقول: وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: محمد ساحر كذاب أجعل محمد المعبودات كلها واحد يسمع دعاءنا جميعنا ويعلم عبادة كل عابد عبده منا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}: أي إن هذا لشيء عجيب. كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، قال: عجب المشركون أن دعوا إلى الله وحده وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعًا إله واحد ما سمعنا بها في الملة الآخرة» (¬1). ولقد كان مشركو قريش إذا سمعوا التوحيد كفروا به، وإذا سمعوا الشرك آمنوا به، فهل يعقل أن يكفروا ويؤمنوا بشيء لا يعلمونه!!! قال الإمام الطبري، إمام المفسرين -رحمه الله-: (ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير). وفي هذا الكلام متروك استغنى بدلالة الظاهر من ذكره عليه، وهو: ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (10/ 551).

فأجيبوا: أن لا سبيل إلى ذلك، هذا الذي لكم من العذاب أيها الكافرون {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12]، فأنكرتم أن تكون الألوهية له خالصة، وقلتم: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}. (وإن يشرك به تؤمنوا) يقول: وإن يجعل لله شريك تصدقوا من جعل ذلك له: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} يقول: فالقضاء لله العلي على كل شيء الكبير الذي كل شيء دونه متصاغرًا له اليوم» (¬1). وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى مؤكدًا على هذا المعنى في تفسير لقوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4]. «يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيرًا ونذيرًا كما قال عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2]، وقال جل وعلا ههنا: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}، أي بشر مثلهم وقال الكافرون: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} أي: أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟ أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى، وتعجبوا من ترك الشرك بالله، ¬

_ (¬1) تفسير الإمام الطبري (11/ 45).

فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان، وأشربته قلوبهم. فلما دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خلع ذلك من قلوبهم، وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك، وتجبروا وقالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} [ص: 5، 6]، وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين: {امْشُوا} أي: استمروا على دينكم {وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ}، ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد. وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} قال ابن جرير: إن هذا الذي يدعونا إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم، والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه» (¬1). فإذا عرفت هذا فأصغ سمعك لمجدد الدين في وقته، الإمام محمد بن عبد الوهاب، الذي اشتدت، وسوف تشتد محنته من أعداء الدين، ومن المشركين وأئمة الإرجاء الخبيث، اسمعه وهو يقرر علم المشركين، بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف بأصحابه الكرام، ثم انتهى إلى أنه لا خير في رجل جهال المشركين أعلم منه بـ (لا إله إلا الله)، قال رحمه الله تعالى: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع أنواع العبادة كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم (7/ 53).

معنى كلمة ((الإله))

يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو الذي أحل دمائهم وأموالهم. عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله. فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكًا، أو نبيًا، أو وليًا، أو شجرًا، أو قبرًا، أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله هو: الخالق الرزاق المدبر، فإنهم يقرن أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ: السيد. فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها، لا مجرد لفظها. والكفار والجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه. فإنه لما قال لهم قولوا: (لا إله إلا الله) قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها، من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني.

كفار قريش كانوا أعلم بـ (لا إله إلا الله) من مشركي زماننا

والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق، ولا يرزق ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله. فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سحمان في ذات المعنى: «إن الكفار الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله، وأنها تنفي جميع ما يعبد من دون الله، وتثبت العبادة لله وحده لا شريك له، ولهذا لما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قولوا لا إله إلا الله) قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فأبوا عن التلفظ بهذا. وأما عباد القبور اليوم، فإنهم يشهدون: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ومع ذلك يدعون الأنبياء والأولياء والصالحين، ويستشفعون بهم في المهمات والملمات، ويلجؤون إليهم في جميع الطلبات والرغبات، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفان، ويزعم هذا (¬2) وأضرابه من الجهال: أنهم مسلمون بمجرد التلفظ بالشهادتين، والانتساب إلى الإسلام، سبحانك هذا بهتان عظيم» (¬3). بعد هذا البيان لنقول: لكل من اتهم، أو جوز وقوع أي واحد من ¬

_ (¬1) مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 155). (¬2) أحد المدافعين عن إسلام المشركين المزيف. (¬3) الدرر السنية (10/ 498).

الصحابة في الشرك الأكبر: الموعد بيننا: الوقوف بين يدي رب الأرض والسماوات. وأما من جوز هذا على نبي الله موسى بن عمران -عليه السلام- استنادًا منهم إلى إلقائه الألواح عند غضبه، كل هذا ليصحح إسلامًا مزيفًا للمشركين، الذين عدلوا بالله غيره .. فقول هؤلاء أردأ وأخس من أن يرد عليهم، وكفى به فضحًا لعوراتهم المخزية، وسوف يعلمون حين تحشر البهائم: أي منقلب ينقلبون. نعود فنقرر: أن الأدلة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها قد أبانت: أن المشرك لا يعد من المسلمين، ولو كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وأن بعد هذا القول عن المقرر من الأدلة، كبعد الذين يريدون أن يجمعوا بين الشرك الأكبر والإسلام، وبين الكفر والإيمان في آن واحد، ويأبى الله ورسوله الحكم بالإسلام لمن أشرك برب الأرض والسماوات، وعدل به غيره، واتخذ إلهًا سواه.

شرك قوم نوح -عليه السلام-

(¬1) (¬2) (13/ش) هذا هو أول شرك وقع على وجه الأرض، وكان الناس قبله مسلمين، ولربهم موحدين، حتى دخل عليهم الشيطان اللعين من باب الغلو في الصالحين، فلقد كان بين آدم ونوح -عليهما السلام- عشرة قرون كاملة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4636). (¬2) تفسير الطبري (12/ 253).

تفسير قوله تعالى:} كان الناس أمة واحدة {الآية

على التوحيد والإسلام، وكان الناس متفقين عليه، ثم دب الشرك فيهم عندما انتشر الجهل بينهم، وتنسخ العلم بالتوحيد، فعند ذلك اختلف الناس فبعث الله النبيين ليحكموا بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، فنصوا على أن الشرك افتراء على الله، وأنه ذنب عظيم تجب التوبة منه، وإلا صار أهله من أصحاب النار خالدين فيها أبدًا. وكذلك نص الأنبياء: على أن الجنة لا تدخلها إلا نفس موحدة لله بالعبادة، ومستسلمة له بالطاعة، وهكذا فصلوا في اختلاف الناس. قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: «قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، أخبرنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» (¬1). قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا»، ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (2/ 347).

ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار، عن محمد بن بشار، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (¬1)، وكذا روى أبو جعفر الرازي، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، قال: كانوا على الهدى جميعًا فاختلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، فكان أول نبي بعث نوحًا. وهكذا قال مجاهد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما أولاً. وقال العوفي عن ابن عباس: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، يقول: كانوا كفارًا: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، والقول الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما أصح سندًا ومعنى، لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا -عليه السلام- فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، ولهذا قال تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). ¬

_ (¬1) المستدرك (4009)، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري (2/ 596). (¬2) تفسير القرآن العظيم (1/ 573 - 574).

حكم الشرك قبل قيام الحجة

(الشرك قبل قيام الحجة ذنب وسيئة وتجب التوبة منه بعد قيامها): فأول شرك وقع على وجه الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين، فأرسل الله نوحًا -عليه السلام- لينذر قومه ويحذرهم العذاب الأليم على فعل الشرك، وأمرهم بالتوبة منه، وبين لهم أنه ذنب عظيم تجب التوبة منه، حتى ولو وقع هذا الذنب بسبب الجهل وعدم العلم. وهكذا الأمر في كتاب الله من أوله إلى آخره، تخاطب الرسل أقوامها الذي عبدوا غير الله على أنهم مشركون، من قبل أن تقام عليهم الحجة، وتطالبهم بالتوبة من هذا الذنب العظيم، ولو كان أصحابه متردين في ظلمات الجهل، ويحسبون أنهم بفعله مهتدون، إلا أن العقاب على الشرك لا يكون إلا بعد قيام الحجة الرسالية. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: في بيان أن فعل الشرك ذنب عظيم، حتى ولو لم تقم الحجة على أصحابه، وأنه تجب التوبة منه بعد قيام الحجة، لأن حسن التوحيد وقبح الشرك أمر ثابت في النفوس، ومعلوم بالعقل. قال رحمه الله تعالى: «وأيضًا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه -أي قبل مجيء الرسالة- فلو كان كالمباح المستوي الطرفين، والمعفو عنه، وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه

كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة؛ وهذا كقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 1 - 3]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 1 - 4]. فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذارها إياهم. وقال عن هود -عليه السلام-: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 65]، وكذلك قال لوط -عليه السلام- لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]. فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول: ما كانت فاحشة ولا قبيحة ولا سيئة حتى نهاهم عنها. ولهذا قال لهم: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]، وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون ولكن أنذرهم بالعذاب.

وكذلك قول شعيب -عليه السلام-: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]، بين أن ما فعلوه كان بخسًا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول المجبرة أن ظلمهم ما كان سيئة إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال، من الأكل والشرب وغير ذلك. كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل، من الشرك والظلم والفواحش. وهكذا إبراهيم الخليل -عليه السلام- قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41 - 42]، فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضًا: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 16، 17]، فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي. وكذلك قول الخليل -عليه السلام- لقومه أيضًا: {مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * -إلى قوله- أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 85 - 96]. فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95] أي: وخلق ما تنحتون فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه

حسن التوحيد وقبح الشرك معلوم بالعقل

بأيديكم وتدعون رب العالمين. فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلم بالعقل لم يخاطبهم بهذا، إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعنى قبحه: كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه كما تقوله المجبرة (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى في شرحه لكتاب التوحيد، مبينًا كيفية وقوع الشرك في قوم نوح -عليه السلام-، والفوائد المترتبة على هذه القصة، والعبر المستفادة منها: «قوله في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم عبدت» (¬2). قوله وفي الصحيح، أي: صحيح البخاري، وهذا الأثر اختصره المصنف ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (11/ 679 - 683). (¬2) تقدم تخريجه.

أما «ود» فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما «سواع» فكانت لهذيل، وأما «يغوث» فكانت لمراد، ثم لبني غطيف، بالجرف عند سبأ، وأما «يعوق» فكانت لهمدان، وأما «نسر» فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح إلى آخره (¬1). وروى عكرمة والحاكم وابن إسحاق نحو هذا، قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة فصورهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم (¬2) ... قوله: «ونسي العلم» (¬3) ورواية البخاري «وتنسخ» (¬4) وللكشميهني «ونسخ العلم» (¬5) أي: درست آثاره بذهاب العلماء، وعم الجهل، حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنًا منهم أنه ينفعهم عند الله. قوله: «عبدت» لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تفسير الطبري (12/ 253). (¬3) صحيح البخاري (4336)، وانظر فتح الباري (8/ 669). (¬4) صحيح البخاري (4336)، وانظر فتح الباري (8/ 669). (¬5) صحيح البخاري (4336)، وانظر فتح الباري (8/ 669).

معبودهم في الحقيقة كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62]. وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك .. قوله: «ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم» أي: طال عليهم الزمان وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانًا تعبد من دون الله، كما ترجم (¬1) به المصنف -رحمه الله تعالى- فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام، الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور، واتخذوهم شفعاء، وهذا أول شرك حدث في الأرض. قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها (¬2) اهـ. قال ابن القيم رحمه الله: «وما زال يوحي الشيطان إلى عباد القبور ويلقي ¬

_ (¬1) والباب هو: «ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين». (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن (21/ 261، وما بعدها).

خطوات الشيطان في إضلال عباد القبور

إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلها من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يُسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا ومنسكًا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من تجريد التوحيد وأن لا يعبد إلا الله. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]، وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]» اهـ كلام ابن القيم رحمه الله.

وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله. ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات، وإثباتها على ما يليق بجلال الله، وعظمته، وكبريائه. ومنها: مضرة التقليد. ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمًا وعملاً، بما يدل عليه الكتاب والسنة، فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة» (¬1). ¬

_ (¬1) فتح المجيد/ 210 - 212.

حكم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد

(¬1) (13/ش) قال الإمام البغوي في تفسيره لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]. «قال عكرمة: هم صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله، وقال ¬

_ (¬1) رواه مالك مرسلاً في موطئه (414)، وعبد الرزاق في مصنفه موصولاً (1587)، وكذا ابن أبي شيبة (7544)، والحميدي (1025)، والحديث صحيح انظر الثمر المستطاب للألباني 361.

تفسير قوله تعالى:} ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب {الآية

أبو عبيدة: هما كل معبود يعبد من دون الله، قال الله تعالى: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال عمر: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية: الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن. وروي عن عكرمة: الجبت بلسان الحبشة: شيطان. وقال الضحاك: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف، دليله قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرمادي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن عوف العبدي، عن حيان، عن قطن بن قبيصة، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العيافة والطرق والطيرة من الجبت) (¬1). وقيل: الجبت: كل ما حرم الله، والطاغوت: كل ما يطغي الإنسان» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (20623)، وأبو داود في سننه (3408)، والطبراني في المعجم الكبير (941)، وعبد الرزاق في مصنفه (19502)، وحسن إسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (35/ 192)، وجوده عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد /275، وسليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد /348. (¬2) تفسير البغوي (1/ 234).

منهج ابن تيمية وابن عبد الوهاب في تكفير المعين

وتأمل أيضًا ما ذكره في اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها، وتأمل قوله على حديث ذات أنواط، هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما هو أطم من ذلك الشرك عينه؟ فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم. قال رحمه الله تعالى: أنا من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامة عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى (¬1) انتهى كلامه. وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 229).

(15/ش) هذا قيد مهم من كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب لكلام الإمام العلامة ابن تيمية، وهو أن عدم تكفير ابن تيمية للمعين حتى تقوم الحجة مخصوص بالمسائل الخفية لا الظاهرة. وينضم إلى هذا كلام العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، الذي نقلناه من قبل، وهو أن عدم تكفير ابن تيمية وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب للمعين ليس في الوقوع في الشرك الأكبر، لأنهم يقولون: نحن لا نكفر أحدًا من المسلمين وقع في أمر مكفر إلا بعد قيام الحجة، وهم قد نصوا على أن المشرك ليس من عداد المسلمين، لأن الإسلام هو ترك الشرك، والانخلاع منه إلى إفراد الله بالعبادة. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤكدًا على هذا المعنى في رسالة بعث بها إلى أحمد بن عبد الكريم يحذره فيها من الامتناع عن تكفير المشركين، ويوضح له فيها منهج ابن تيمية في هذا، وأن كلام الشيخ في عدم تكفير المعين ليس في الشرك والردة، وأنه عام في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع .... قال رحمه الله تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن

عبد الوهاب، إلى أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. أما بعد: وصل مكتوبك، تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالاً تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ -أي ابن تيمية- أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام. وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، انه لا يكفر بعينه. بل العبارة صريحة واضحة في تكفيره مثل ابن فيروز وصالح بن عبد الله وأمثالهما، كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة، فضلاً عن غيرهما، هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن، الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها. وليس في كلامي هذا مجازفة، بل أنت تشهد به عليهم، ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وأنا أخاف عليك من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، والشبهة التي دخلت عليك، هذه البضيعة التي في يدك، تخاف تضيع أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين، وشاك في رزق الله، وأيضًا قرناء السوء، أضلوك

كما هي عادتهم. وأنت -والعياذ بالله- تنزل درجة درجة، أول مرة في الشك وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين من غير إكراه، لكن خوفًا ومداراة. وغاب عنك قوله تعالى في عمار بن ياسر وأشباهه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [النحل: 106، 107]. فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه. والإكراه لا يكون على العقيدة بل على القول والفعل، فقد صرح بأن من قال المكفِّر أو فَعَلَه فقد كفر، إلا المكره بالشرط المذكور، وذلك: أن ذلك بسبب إيثار الدنيا، لا بسبب العقيدة. فتفكر في نفسك، هل أكرهوك، وعرضوك على السيف مثل عمار، أم لا؟ وتفكر: هل هذا بسبب أن عقيدته تغيرت، أم بسبب إيثار الدنيا؟ ولم يبق عليك إلا رتبة واحدة، وهي: أنك تصرح مثل ابن رفيع، تصريحًا بمسبة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس، وأبي حديدة،

لماذا ترك النبي r قتل المنافقين؟

وأمثالهما، ولكن الأمر بيد مقلب القلوب. (نصيحة جليلة) فأول ما أنصحك به: أنك تفكر، هل هذا الشرك الذي عندكم، هو الشرك الذي ظهر نبيك - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه أهل مكة؟ أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه؟ أم هذا أغلظ؟ فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه، وعدم البراءة من أهله. فتفكر هل هذه مسألة مشكلة؟ أو مسألة الردة الصريحة التي ذكرها أهل العلم في الردة؟ ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت، كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر. أما استدلالك بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده، تكفير المنافقين وقتلهم، فقد صرح الخاص والعام، ببديهة العقل، لو يظهرون كلمة واحدة، أو فعلاً واحدًا من عبادة الأوثان، أو مسبة التوحيد الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أنهم يقتلون أشر قتلة. فإن كنت تزعم: أن الذين عندكم، أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين

الأدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة

الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتبرؤوا من الشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية تظهر على صفحات الوجه، أو فلتات اللسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول، وقتلوا الطواغيت، وهدموا البيوت المعبودة فقل لي. وإن كنت تزعم: أن الشرك الذي خرج عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر من هذا فقل لي. وإن كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفر، ولو أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سب دين الأنبياء، وسماه دين أهل العارض، وأفتى بقتل من أخلص لله الدين، وإحراقه، وحل ماله، فهذه مسألتك، وقد قررتها وذكرت: أن من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا لم يقتلوا أحدًا، ولم يكفروه من أهل الملة. (الأدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة) أما ذكرت قول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60]-إلى قوله- {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61]. واذكر قوله: {سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91]، إلى قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ...} [النساء: 91].

واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80]. واذكر ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه شخص رجلاً معه الراية إلى من تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله (¬1). فأي هذين أعظم؟ تزوج امرأة الأب؟ أو سب دين الأنبياء بعد معرفته؟ واذكر أنه قد همَّ بغزو بني المصطلق، لما قيل إنهم منعوا الزكاة، حتى كذب الله من نقل ذلك (¬2). واذكر قوله في أعبد هذه الأمة، وأشدهم اجتهادًا: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» (¬3). واذكر قتال الصديق وأصحابه مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم. ¬

_ (¬1) عن يزيد بن البراء عن أبيه قال: «لقيت عمي، ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله»؛ رواه أبو داود (3865)، واللفظ له والترمذي (1362)، والنسائي (3279)، وابن ماجة (2607)، وأحمد (17867)، وصححه ابن حبان (4112)، والحاكم (2776). (¬2) انظر تفسير الطبري، والقرطبي وابن كثير عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية. (¬3) سبق تخريجه.

واذكر إجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة وكفرهم وردتهم، لما قالوا كلمة في تقرير نبوة مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا، والمسألة في صحيح البخاري وشرحه، في الكفالة (¬1). واذكر إجماع الصحابة لما استفتاهم عمر - رضي الله عنه -، على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص، مستدلاً بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري - كتاب الكفالة/ باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها. وقال الحافظ -رحمه الله تعالى- معلقًا على هذه الحادثة: «قال جرير أي ابن عبد الله البجلي والأشعث أي ابن قيس الكندي لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفلهم، فتابوا وكفلهم عشائرهم وهذا أيضًا مختصر من قصة أخرجها البيهقي بطولها من طريق أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: صليت الغداة مع عبد الله بن مسعود فلما سلم قام رجل فأخبره: أنه انتهى إلى مسجد بني حنيفة فسمع مؤذن عبد الله بن النواحة يشهد: أن مسيلمة رسول الله. فقال عبد الله علي بابن النواحة وأصحابه فجيء بهم، فأمر قرظة بن كعب فضرب عنق ابن النواحة، ثم استشار الناس في أولئك النفر، فأشار عليه عدي بن حاتم بقتلهم، فقام جرير والأشعث فقالا: بل استتبهم وكفلهم عشائرهم، فتابوا وكفلهم عشائرهم، وروى ابن أبي شيبة من طريق قيس ابن أبي حازم أن عدة المذكورين: كانت مائة وسبعين رجلاً» فتح الباري (4/ 470).

وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]، مع كونه من أهل بدر (¬1). وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في علي مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر، وردتهم وقتلهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهم أحياء، فخالفه ابن عباس في الإحراق، وقال: يقتلون بالسيف، مع كونهم من أهل القرن الأول، أخذوا العلم عن الصحابة. واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم، على قتل الجعد بن درهم، وأمثاله، قال ابن القيم: شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع ادعائه الإسلام، وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام، لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد، ملوك مصر وطائفتهم، وهم يعدون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن أبي العز -رحمه الله تعالى- في شرحه على الطحاوية: «إن قدامة ابن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها، هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] الآية فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة رضي الله عنهم، على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لقدامة: أخطأت استك الحفرة أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر» شرح العقيدة الطحاوية /316.

صفة إقامة الحجة

والمفتين، وأجمع العلماء على كفرهم وردتهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، يجب قتالهم (¬1) ولو كانوا مكرهين، مبغضين لهم. واذكر كلامه -أي كلام ابن تيمية- في الإقناع وشرحه في الردة، كيف ذكروا أنواعًا كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرًا من عقائد أهل التوحيد نسأل الله العفو والعافية، هذا لفظه بحروفه، ثم ذكر قتل الواحد منهم، وحكم ماله. هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة، إلى زمن منصور، إن هؤلاء: يكفر أنواعهم لا أعيانهم؟ وأما عبارة الشيخ: التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرًا من المشاهير بأعيانهم، فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة. فإن كان المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه: أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر - رضي الله عنه -، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25]، وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ ¬

_ (¬1) قوله: (يجب قتالهم) أي قتال الساكنين في هذه الدار، يؤكده ما بعد.

كلام ابن تيمية ليس في الشرك والردة

يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]. وإذا كان كلام الشيخ ليس في الشرك والردة، بل في مسائل الجزئيات سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات، أو مسألة القرآن، أو مسألة الاستواء، أو غير ذلك مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره ويرجحونه، ويسبون من خالفه. فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين، مذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه، فكلام الشيخ في هذا النوع، يقول: إن السلف كفروا النوع، وأما المعين، فإن عرف الحق وخالف كفر بعينه، وإلا لم يكفر» (¬1). وقال الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان -رحمهم الله تعالى-: «وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، في غير موضع: أن نفي التكفير بالمكفرات، قوليها وفعليها فيما يخفى دليله، ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به: نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النزاع بين الأمة» (¬2). ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 290 - 296). (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 66).

وقال الشيخ سليمان بن سحمان: «وشيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- قد صرحا في غير موضع أن الخطأ والجهل قد يغفرا لمن لم يبلغه الشرع، ولم تقم عليه الحجة، في مسائل مخصوصة، إذا اتقى الله ما استطاع، واجتهد بحسب طاقته. وأين التقوى وأين الاجتهاد، الذي يدعيه عباد القبور، والداعون للموتى والغائبين؟!!» (¬1). ¬

_ (¬1) كشف الأوهام والالتباس - لسليمان بن سحمان /48.

الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية

(¬1) (15/ش) كم أدخل المتكلمون من الشر على المسلمين في أمور دينهم، وذلك بسبب إعراضهم عن دلالات نصوص الوحيين، وتكلفهم طرقًا للوصول إلى الحق -بزعمهم- لم ينزل الله بها سلطانًا، ولذلك شاعت الردة فيهم تارة عن أصل الدين، وتارة عن بعض شرائعه، وقد يظهر هذا بعضهم، ويكتمه آخرون خوفًا من سيف الشرع الحكيم. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (18/ 54 - 55)، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 54، وما بعده).

وكان هدي السلف معهم متمثلاً في محاصرتهم لكبت شرهم، واستئصال بدعهم، حتى لا يشوشوا على العامة من المسلمين في أمور دينهم. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «في الرد على بعض أئمة أهل الكلام لما تكلموا في المتأخرين من أهل الحديث، وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم، ودقة علومهم فيها، فقال رحمه الله تعالى: لا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول، وآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وقد رأيت من هذا عجائب. لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل. فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر؛ ولك كل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم. وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها، تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر، وما أحسن قول الإمام أحمد: ضعيف الحديث خير من الرأي. وقد أمر الشريخ أبو عمرو بن الصلاح بانتزاعه مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحرًا في الفنون الكلامية والفلسفية

منه، وكان من أحسنهم إسلامًا، وأمثلهم اعتقادًا. ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة سواء كانت حقًا أو باطلاً، إيمانًا أو كفرًا، لا تدرك إلا بذكاء وفطنة فلذلك يستجهلون من لم يشركهم في علمهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم إذا كان منه قصور في الذكاء والبيان. وهم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29، 30] الآيات. فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم منها ما يستفيد به الإيمان الواجب، فيكون كافرًا زنديقًا منافقًا جاهلاً ضالاً مضلاً ظلومًا كفورًا، ويكون من أكابر أعداء الرسل، ومنافقي الملة، من الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31]. وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق، ويكون مرتدًا، إما عن أصل الدين، أو بعض شرائعه، إما ردة نفاق، وإما ردة كفر. وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق. فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال. وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور

الظاهرة، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعث بها، وكفر من خالفها. مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله، من الملائكة، والنبيين، وغيرهم. فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود، والنصارى، والمشركين، ومثل تحريم الفواحش، والربا، والخمر، والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيرًا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين. وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، ويعودون كرؤوس القبائل، مثل الأقرع، وعيينة، ونحوهم، ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه. ففيهم من كان يتهم بالنفاق، ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك. فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة؛ وتارة يعود إليها، ولكن مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق والحكايات عنهم بذلك مشهورة. وقد ذكر ابن قتيبة عن ذلك طرفًا في أول مختلف الحديث، وقد حكى أهل المقالات بعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبو عبد الله الشهرستاني، وغيرهم.

وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين، والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك، ومنفعته، ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام. وجميع ما يأمرون به من العلوم والأعمال والأخلاق لا يكفي في النجاة من عذاب الله، فضلاً أن يكون موصلاً لنعيم الآخرة» (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (18/ 52 - 55).

حكم تفضيل المشركين على الموحدين

فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله. لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. على أن الذي نعتقده، وندين لله به، ونرجو أن يثبتنا عليه: أنه لو غلط هو، أو أجل منه في هذه المسألة، وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين، أو يزعم أنه على حق، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر، الذي بينه الله ورسوله، وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو غلط من غلط، فكيف -والحمد لله- ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافًا في هذه المسألة، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه: 51]، أو حجة قريش: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ} [ص: 7]. قال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج (¬1)، ومروقهم من الدين، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم قال: فإذا كان ¬

_ (¬1) قال الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السُّنة: «صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه»، قال ابن تيمية معلقًا عليه: «وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها» مجموع الفتاوى (3/ 279)، والأحاديث التي جاءت في ذم الخوارج متواترة. انظر مجموع الفتاوى (4/ 500). قال إمام المحدثين، الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو =

الغلو من أعظم أسباب المروق من الدين

على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه، ممن انتسب إلى الإسلام مَنْ مرق منه، مع عبادته العظيمة، حتى أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتاله، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام، أو السنة قد يمرق أيضًا من الإسلام في هذه الأزمنة وذلك بأسباب: منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]. وعلي بن أبي طالب حرَّق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خُدَّتْ لهم عند باب كندة فقذفهم فيها (¬1)، واتفق الصحابة على قتلهم لكن ¬

_ = يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال يا رسول الله: اعدل! فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» فقال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله: ائذن لي فيه فأضرب عنقه. فقال: «دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس» قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم، وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به حتى نظرت إليه على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته صحيح البخاري (3610)، وصحيح مسلم (1064). (¬1) صحيح البخاري (6922)، وسنن الترمذي (1458)، ومسند أحمد (2420).

التوحيد هو أصل الدين

ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعبدَ وحده لا شريك له، ولا يُجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل: المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون صورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله رسله تنهى أن يُدعى أحدٌ من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة -ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات ثم قال-: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ

حماية النبي r لجناب التوحيد

وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده» (¬1)، ونهى عن الحلف بغير الله وقال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (¬2)، وقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما صنعوا (¬3) وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد» (¬4)، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» (¬5). ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أنه من سَلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه، صحيح البخاري (1330)، صحيح مسلم (531). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) مسند أحمد (8449)، ومسند أبي يعلى (469)، ومصنف عبد الرزاق (6726)، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (2/ 97).

تفسير قوله r: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).

فلا يُشبَّه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملاً إلا به ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة (17/ش)» (¬1). والإله هو: الذي يألهه القلب عبادة له واستعانة به ورجاء له وخشية وإجلالاً. انتهى كلامه رحمه الله تعالى (¬2). (17/ش) المقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»، أي من كان عالمًا بمعناها وعاملاً بمقتضاها، ثم نطق بها في آخر حياته. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3116)، ومسند أحمد (22180)، والحاكم في المستدرك (1299)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (9280). (¬2) مجموع الفتاوى اختصارًا من (3/ 383 - 400).

فهذا الحديث مطلق، وقد قيدته غيره من النصوص مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» (¬1). قال العالم الرباني، الإمام النووي رحمه الله تعالى: «وأما معنى الحديث، وما أشبهه فقد جمع فيه القاضي عياض رحمه الله كلامًا حسنًا، جمع فيه نفائس فأنا أنقل كلامه مختصرًا، ثم أضم بعده إليه ما حضرني من زيادة. قال القاضي عياض رحمه الله: اختلف الناس فيمن عصى الله تعالى من أهل الشهادتين. فقالت المرجئة: لا تضره المعصية مع الإيمان. وقالت الخوارج: تضره ويكفر بها. وقالت المعتزلة: يخلد في النار إذا كانت معصيته كبيرة، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر ولكن يوصف بأنه فاسق. وقالت الأشعرية: بل هو مؤمن، وإن لم يغفر له عذب، فلا بد من إخراجه من النار وإدخاله الجنة. قال: وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة، وأما المرجئة فإن احتجت بظاهره قلنا: محمله على أنه غفر له، أو أخرج من النار بالشفاعة، ثم أدخل الجنة. فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دخل الجنة» أي: دخلها بعد مجازاته بالعذاب. وهذا لا بد من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (26)، ومسند أحمد (434).

العصاة، فلا بد من تأويل هذا لئلا تتناقض نصوص الشريعة. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وهو يعلم» إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة: إن مظهر الشهادتين يدخل الجنة، وإن لم يعتقد ذلك بقلبه. وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «غير شاك فيهما» وهذا يؤكد ما قلناه. قال القاضي وقد يحتج به أيضًا من يرى: أن مجرد معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين، لاقتصاره على العلم. ومذهب أهل السنة: أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين، لا تنفع إحداهما، ولا تنجي من النار دون الأخرى، إلا لمن لم يقدر على الشهادتين لآفة بلسانه، أو لم تمهله المدة ليقولها، بل اخترمته المنية. ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ إذ قد ورد مفسرًا في الحديث الآخر: «من قال لا إله إلا الله»، و «من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله». وقد جاء هذا الحديث، وأمثاله كثيرة في ألفاظها اختلاف، ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف. فجاء هذا اللفظ في هذا الحديث وفي رواية معاذ عنه - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، وفي رواية عنه - صلى الله عليه وسلم -: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة»، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله إلا حرمه الله على النار»، ونحوه في حديث عبادة بن الصامت وعتبان

ابن مالك، وزاد في حديث عبادة: «على ما كان من عمل»، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «لا يلقى الله تعالى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة»، و «إن زنى وإن سرق» وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: «حرم الله على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى»، وهذه الأحاديث كلها سردها مسلم رحمه الله في كتابه (¬1)، فحكى عن جماعة من السلف رحمهم الله، منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي. وقال بعضهم: هي مجملة تحتاج إلى شرح، ومعناه من قال الكلمة، وأدى حقها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصري. وقيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم، والتوبة، ومات على ذلك، وهذا قول البخاري. وهذه التأويلات إنما هي إذا حملت الأحاديث على ظاهرها، وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل تأويلها على ما بينه» (¬2). ولا أدل على ذلك من حديث أبي طالب عند وفاته، قال إمام المحدثين، الإمام البخاري في صحيحه: حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه، أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل ¬

_ (¬1) انظر: صحيح مسلم، كتاب الإيمان. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 218 - 219).

عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل فقال: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنه»، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ونزلت {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]» (¬1). فهذا أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية قد فقها في دين الله، ما لم يفقهه أذناب المرجئة، فعلما -لعنة الله عليهما- أن النطق بكلمة التوحيد يعني: الانخلاع والبراءة والرغبة عن ملة الكفر، يعني: الانخلاع من الالتزام بكافة الشرائع المنسوخة والفاسدة إلى الالتزام بشرائع الإسلام وحده. يعني: التحول من ولاء إلى ولاء، ومن براء إلى براء آخر. يعني: الشهادة ببطلان كافة الملل والمذاهب الأخرى، والشهادة على أصحابها بالكفر في الدنيا، والخلود في النيران في الآخرة. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في تعليقه على حديث أبي طالب: «ولمعرفتهم معنى هذه الكلمة: نهوا أبا طالب، عن أن يقولها عند موته، لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (3884)، وصحيح مسلم (24).

قال له أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ علموا أنه لو قالها لترك عبادة غير الله وأنكرها، لمعرفتهم ما دلت عليه من النفي والإثبات؛ قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36]. وأما: هذه الأمة؛ فلما كثر الشرك فيهم، كما كثر في أولئك، وبنيت المساجد على القبور، وعبدت؛ وبنيت المشاهد على اسم من بنيت باسمه من الصالحين وعبدت، صاروا يقولون: لا إله إلا الله، والشرك قد قام في قلوبهم، واتخذوه دينًا، فأثبتوا ما نفته هذه الكلمة من عبادة غير الله، وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص» (¬1). وهنا يبرز سؤال: هب أن طاغوتًا من الطواغيت معلن بالكفر البواح، ثم قبل موته نطق بالشهادتين فهل يحكم له بالإسلام إذا كان منتسبًا لهذا الدين وقت تلبسه بالطغيان؟ والجواب: إن كان قد تبرأ من الكفر الذي كان واقعًا فيه قبل موته، ثم نطق بالشهادتين في آخر حياته فهذا نحكم له بالإسلام في الدنيا، ونرجو له النجاة في الآخرة. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (2/ 215).

حكم مانعي الزكاة

وأما إذا لم يعلن البراءة الواضحة من الكفر والنواقض التي كان متلبسًا بها، فلا نحكم له بالإسلام إذا نطق بالشهادتين قبل موته. وإذا كان قد تاب في الباطن، ولم يعلنها في الظاهر لسبب يمنعه من هذا فهذا ينفعه عند الله في الآخرة، ولكن في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر. فهاهم مانعو الزكاة قاتلهم أبو بكر الصديق وأصحابه رضي الله عنهم قتال مرتدين، وهم ينطقون بقول: (لا إله إلا الله)، ولم تنفعهم لأنهم قد قاموا بنقضها، فقتلوا وهم ينطقون بها. وهذه كانت شبهة الفاروق عمر حتى أزالها بفضل الله صديق الأمة الأول أبو بكر رضي الله عنهما. وقال قولته المشهورة: «والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه»، فجعل المبيح للقتال: مجرد المنع عن أداء الزكاة لا جحد وجوبها، وسوف يأتي ذلك بالتفصيل في أثناء شرح هذه الرسالة المباركة بحول الله وقوته.

حال المشركين مع آلهتهم

فتأمل: أول الكلام وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيًا أو وليًا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، هل يكون هذا إلا في المعين؟ والله المستعان. وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسان «ديدنا له» إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ

تفسير قوله تعالى:} ألا لله الدين الخالص {الآية.

لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] (17/ش). فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم (17/ش) ما أثقل هذه الآية على المشركين، الذين عبدوا مع الله غيره، ولم يخلصوا دينهم له سبحانه. فالله جل في علاه أعلمنا وأنبأنا: أن التوحيد دينه الصحيح المتقبل، وأن الشرك دين باطل مردود، ولو كان صاحبه يزعم أنه يتقرب به إلى الله زلفى، ويبتغي به عنده منزلة. فهذه حجة كفار قريش وأتباعهم لو كان المشركون يفقهون. قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى- في بيان معنى الآية: «قوله تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، يعني: الخالص من الشرك، وما سواه ليس بدين الله الذي أمر به. وقيل: المعنى لا يستحق الدين الخالص إلا لله.؟ {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: آلهة. ويدخل في هؤلاء اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى لقوله: المسيح ابن الله، وجميع عُباد الأصنام» (¬1). ¬

_ (¬1) زاد المسير في علم التفسير (7/ 161).

تفسير قوله تعالى:} قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله {الآية

عند الله، وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له» (¬1) ثم ذكر الشيخ -يعني ابن القيم رحمه الله- فصلاً طويلاً في ذكر هذا الشرك الأكبر. ولكن تأمل قوله: «وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره» يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد (¬2) وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. وذكر في آخر هذا الفصل أعني الفصل الأول في الشرك الأكبر -الآية التي في سورة سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ: 22]- إلى قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] (18/ش). (18/ش) لو فقه الناس دلالة هذه الآية العظيمة لعلموا بطلان الشرك، ولقطعت مواده وأسبابه وأصوله من قلوبهم، ومن على جوارحهم. فجميع المخلوقات من إنس وجن وملائكة وغيرهم، لا يملكون مثقال ذرة في هذا الكون العظيم، ولا يوجد لأحد منهم شرك فيه، فعلام إذًَا يدعون من دون الله؟!! فقد يقول أحد المشركين أرجو شفاعتهم؟ فالجواب: أنه لا يستطيع أحد مهما -علت مرتبته- أن يشفع في أحد إلا من بعد إذن الله. ¬

_ (¬1) مدارج السالكين (1/ 339 - 340). (¬2) سوف يأتي بمشيئة الله ذكره واسمه من الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه فيما بعد.

والله -جل في علاه- لا يأذن إلا لموحد مؤمن أن يشفع في موحد عاص فكفى بنور هذه الآية تجريدًا للتوحيد، واجتثاثًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. قال إمامنا، الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]، فبين سبحانه أن من دعي من دون الله من جميع المخلوقات، من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء، وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى. فنفى بذلك وجوه الشرك، وذلك أن من يدعون من دونه إما أن يكون مالكًا، وإما أن لا يكون مالكًا؛ وإذا لم يكن مالكًا، فإما أن يكون شريكًا، وإما أن لا يكون شريكًا. وإذا لم يكن شريكًا، فإما أن يكون معاونًا، وإما أن يكون سائلاً طالبًا، فالأقسام الأول الثلاثة وهي الملك والشركة والمعاونة منتفية. وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه. كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ

عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]» (¬1). وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: «فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع؛ والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مترتبًا متنقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها» (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة القبور والاستنجاد بالمقبور لابن تيمية /5 - 6. (¬2) مدارج السالكين (1/ 342 - 343).

بالجهل تنقض عرى الإسلام.

(20/ش) يا أهل البصيرة، ويا أصحاب القلوب الحية علموا أبناء الإسلام الجاهلية ليتقوها، عرفوهم الشرك ليستقيموا على التوحيد، بينوا لهم الكفر ليعتصموا بالإيمان، أخبروهم بالمعصية ليعضوا على الطاعة. دلوهم على المجاهدين في سبيل الله لينصروهم ويوالوهم، وعلى أئمة الكفر والزندقة ليكفروا بهم ويتبرأوا منهم. بينوا سبيل المجرمين والطواغيت ليجتمع أهل الإسلام على النكاية بهم وحربهم ... إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم.

وإن تتولوا عن البيان العظيم، فسوف يستبدل الله بكم غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم. قال الله تعالى متوعدًا المدبرين عن دينه، الموالين لأعدائه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

الشرك الأصغر

فصل وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن هكذا وكذا، وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. ثم قال الشيخ -يعني ابن القيم رحمه الله تعالى- بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر. ومن أنواع هذا الشرك: سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا

الشرك تنقص بالخالق سبحانه

تُعْبدُ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا أو أنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35، 36]. وما نجا مِنْ شَرَكِ هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى كلامه (21/ش). (21/ش) هذا هو حال المشركين في كل زمان ومكان، عدلوا بالله غيره، واستبدلوا الشرك بالتوحيد، والكفر بالإيمان، والعصيان بالطاعة وحب المخلوق بحب الخالق، وخوف المخلوق بالخوف من الخالق .. حتى تملكهم الشرك، وأشربته قلوبهم قال الله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] الآية. حتى بلغ الأمر بهم إلى درجة الاستهزاء بالتوحيد ودعاته، مع وجود الإصرار التام على المضي قدمًا في سبيل الشرك والتنديد، وبذل كل ما يملكون من مادي ومعنوي للصد، وللحد من انتشار وغلبة التوحيد على

تفسير قوله تعالى:} قل أبالله وآياته {الآية

النفوس، الذي هو أصل دين النبيين، وزبدة رسالة المرسلين -صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين-. قال ابن تيمية: «في الكلام على قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبالرسول كفر، من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة، فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطًا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات. وأيضًا فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم. والضالون مستخفون بتوحيد الله تعالى بدعاء غيره من الأموات، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا} [الأنبياء: 36] الآية. فاستهزأوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد، لما في أنفسهم من عظيم الشرك. وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. فمن أحب مخلوقًا مثل ما يحب الله فهو مشرك، ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله.

فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانًا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء، ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبًا، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا. وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى: أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره، أو غير قبره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر، ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك؟!! وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم مضاهاة لمشركي العرب، الذين ذكرهم الله في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] الآية، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، ويقولون: الله غني وآلهتنا فقيرة. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر، الذي يعظمه يبكي عنده، ويخشع، ويتضرع ما لا يحصل له مثله في الجمعة، والصلوات الخمس، وقيام الليل فهل هذا إلا من حال المشركين لا الموحدين؟!! ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات، بل يستثقلونها، ويستهزئون بها، وبمن يقرؤها، مما حصل لهم به أعظم نصيب من قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.

والذين يجعلون دعاء الموتى أفضل من دعاء الله، منهم من يحكي: أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وأن بعض المأسورين دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وآخر قال: قبر فلان الترياق المجرب. ومنهم من إذا نزل به شدة لا يدعو إلا شيخه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، وقد قال تعالى للموحدين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]» (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (15/ 50).

حكم من لم يعاد المشركين

والمراد بهذا: أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر، وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول، والثاني صريحًا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها: أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر، الذي بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه، وآخر ما صرح به قوله آنفًا: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلى آخره. فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد، بل الإلحاد. ولكن تأمل قوله -أرشدك الله- وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين، إلى آخره، وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله (21/ش). (21/ش) قال الإمام العلامة ابن تيمية في وجوب البراءة من الشرك وأهله حتى يصح إيمان العبد وإسلامه: «فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا من عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنًا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام وكل معبود سوى الله، كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى

الشك في كفر كافر

وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر (23/ش). تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وقال الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، وقال الخليل لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27]، وقال الخليل وهو إمام الحنفاء، الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78، 79]» (¬1). (23/ش) ما زال العلماء جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن يقررون كفر من شك في كفر الكافر، وأنه ناقض من نواقض الإسلام يخرج صاحبه من الملة بالكلية. ولكن لهذا شروط منها: أ- أن يكون الكفر الذي وقع الكافر فيه كفرًا أكبر مجمعًا عليه، فلا يدخل في هذا الكفر المختلف فيه ألبتة. ب- أن يكون كفر هذا الكافر معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، بحيث يكون الشك فيه بمثابة الشك في نص صحيح ثابت بالتواتر. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 128).

جـ- أن تقام الحجة، وتزال الشبهة، فإن استمر الشك بعد ذلك حكم بالكفر على صاحبه. ولكن نريد أن نسجل هنا أمرًا مهمًا نصحًا للأمة، وبراءة للذمة: أن هناك بعض مناطات من الكفر الأكبر، فيها من الاستهزاء والسخرية والعناد لرب الأرض والسموات ما يجعل مجرد الشك فيها كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، ويكون صاحبها مرتدًا عن دين الإسلام. وفي بعضها من الجهل والغفلة وسوء الاعتقاد ما يصير مجرد الشك فيها خطرًا عظيمًا على دين صاحبه، وقد يذهبه بالكلية. فالحاصل: أن صور الشك في كفر الكافر ليست على درجة واحدة، وليست على رتب متساوية، حتى يكون الحكم فيها وعليها واحدًا. وهذا يدل على أن تكفير المشركين المستند إلى البرهان والدليل من أعظم دعائم الدين، فبه ينقمع الشرك وأهله، وبه ينفصل سبيل المؤمنين عن سبيل المجرمين، وبه يتحقق أجل أصول الملة، المتمثل في الكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك والمشركين. ولا أدل على ذلك من كون الشرع حكم على أن من شك في كفر الكافر يكون كافرًا مرتدًا. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في معرض الحديث عن متى يصح

التكفير، ومتى لا يصح: «وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرًا بواحًا، كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله، ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله، مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]. فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى، وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، مؤمنًا بما جاءت به رسله، مجتنبًا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه. والتكفير: بترك هذه الأصول وعدم الإيمان بها، من أعظم دعائم الدين، يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام. وغالب ما في القرآن: إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى، وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا

صفة الكافر بالطاغوت

من دونه الآلهة والأرباب، وهذا بيِّن بحمد الله» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله من جني، أو إنسي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك، وتشهد عليه بالكفر والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك، أو أخوك. فأما من قال: أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة والقباب على القبور، وأمثال ذلك فهذا كاذب في قوله لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله ولم يكفر بالطاغوت» (¬2). وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: «وأنت يا من منَّ الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئًا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم. كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ ¬

_ (¬1) الدرر السنية (12/ 261). (¬2) الدرر السنية (2/ 121).

رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الحق، لكن: لا أتعرض اللات، والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله ما عليَّ منهم، لم يصح إسلامه (¬1). وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد -رحمهم الله تعالى- في أثناء جواب لهما: المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم لكن لا أقدر أن أكفر أهل لا إله إلا الله، ولو لم يعرفوا معناها. ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أعترض للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها. الجواب: أن الرجل لا يكون مسلمًا، إلا إذا عرف التوحيد ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه، وآمن به وبما جاء به. فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال: لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلمًا، بل هو ممن قال الله فيهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ ¬

_ (¬1) الدرر السنية (2/ 109).

معنى قوله r: " وكفر بما يعبد من دون الله".

بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151]. والله سبحانه وتعالى: أوجب معاداة المشركين، ومنابذتهم، وتكفيرهم، فقال: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} الآيات [الممتحنة: 1] والله أعلم» (¬1). وقال عبد الرحمن بن حسن: «ووسم تعالى أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الآيات، فلا بد من تكفيرهم أيضًا، وهذا هو مقتضى: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص، فلا يتم معناها. إلا بتكفير من جعل لله شريكًا في عبادته، كما في الحديث الصحيح: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله». وقوله: «وكفر بما يعبد من دون الله»: تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك، أو تردد، لم يعصم دمه وماله. فهذه الأمور هي تمام التوحيد، لأن لا إله إلا الله قيدت في الأحاديث بقيود ثقال، بالعلم، والإخلاص، والصدق، واليقين، وعدم الشك، فلا يكون ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 139، 140).

المرء موحدًا إلا باجتماع هذا كله، واعتقاده، وقبوله، ومحبته، والمعاداة فيه والموالاة» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمهما الله تعالى-: «فإن جادل مجادل في أن عبادة القباب، ودعاء الأموات مع الله ليس بشرك، وأن أهلها ليسوا بمشركين بان أمره، واتضح عناده وكفره» (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «لو عرف العبد معنى: لا إله إلا الله لعرف أن من شك، أو تردد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت» (¬3). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: «إن فعل مشركي الزمان عند القبور، مع دعاء أهل القبور، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والذبح والنذر لهم، وقولنا: إن هذا شرك أكبر، وأن من فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بلا شك، وقول الجهال: إنكم تكفرون المسلمين فهذا ما عرف الإسلام، ولا التوحيد. والظاهر: عدم صحة إسلام هذا القائل، فإن لم ينكر هذه الأمور التي ¬

_ (¬1) الدرر السنية (2/ 205، 206). (¬2) الدرر السنية (8/ 127، 128). (¬3) الدرر السنية (11/ 523)، بتصرف يسير.

يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئًا فليس بمسلم» (¬1). وإليكم نصوص العلماء في تكفير من شك في كفر الكافر، أو قال بالتوقف فيه، أو صحح مذهبه، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد بطلان كل دين سواه. قال محمد بن سحنون: «أجمع العلماء على أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر» (¬2). وقال الإمام القاضي عياض، وهو ينص على أنواع وجمل من النواقض: «وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب، أو خص حديثًا مجمعًا على نقله مقطوعًا به مجمعًا على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم. ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك» (¬3). ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 60). (¬2) نقله القاضي عياض في كتابه الشفا (2/ 188)، وابن تيمية في الصارم المسلول /9. (¬3) الشفا (2/ 236).

حكم من شك في كفر غلاة الرافضة.

وقال العلامة الإمام ابن تيمية في معرض حديثه عن الرافضة الخبثاء: «أما من اقترن بسبه دعوى أن عليًا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرائيل في الرسالة فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون: القرامطة، والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سبًا لا يقدح في عدالتهم، ولا في دينهم -مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك - فهذا هو الذي يستحق التأديب، والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك. وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقًا، فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ، ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إلا نفرًا قليلاً، يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضًا في كفره، لأنه كذب بما نصه القرآن في غير موضع، من: الرضى عنهم، والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين.

فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسُّنة كفار، أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارًا أو فساقًا؛ ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارهم. وكفر هذا مما يعلم باضطرار من دين الإسلام. ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه زنديق» (¬1). وفي سؤال ورد على ابن تيمية في حكم من شك في كفر فرعون مستشهدًا هذا الشاك بقول الله تعالى في حق عن فرعون عند غرقه: {آَمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] الآية. فأجاب -رحمه الله تعالى-: «الحمد لله كفر فرعون وموته كافرًا وكونه من أهل النار هو مما علم بالاضطرار من دين المسلمين، بل ومن دين اليهود والنصارى، فإن أهل الملل الثلاثة متفقون على أنه من أعظم الخلق كفرًا. ولهذا لم يذكر الله تعالى في القرآن قصة كافر كما ذكر قصته في بسطها، وتثنيتها، ولا ذكر عن كافر من الكفر أعظم مما ذكر من كفره، واجترائه، وكونه أشد الناس عذابًا يوم القيامة. ولهذا كان المسلمون متفقين على أن من توقف في كفره، وكونه من أهل النار، فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا؛ فضلاً عمن يقول: ¬

_ (¬1) الصارم المسلول /590، وما بعدها.

حكم من شك في كفر اليهود والنصارى.

أنه مات مؤمنًا. والشك في كفره، أو نفيه أعظم منه في كفر أبي لهب ونحوه، وأعظم من ذلك في أبي جهل، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، ونحوهم، ممن تواتر كفرهم، ولم يذكر باسمه في القرآن» (¬1). وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام العشرة: «الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر» (¬2). وقال العلامة علي القاري في بيان حكم من شك أو توقف في كفر اليهود أو النصارى أو أهل الحلول والاتحاد: «فقد نص العلامة ابن المقري كما سبق: أن من شك في كفر اليهود والنصارى، وطائفة ابن عربي فهو كافر، وهو أمر ظاهر، وحكم باهر. وأما من توقف فليس بمعذور في أمره، بل توقفه سبب كفره. فقد نص الإمام الأعظم، والهمام الأقدم في الفقه الأكبر: أنه إذا أشكل على الإنسان شيء من دقائق علم التوحيد فينبغي له أن يعتقد ما هو الصواب عند الله تعالى، إلى أن يجد عالمًا فيسأله، ولا يسعه تأخير الطلب، ولا يعذر بالوقف فيه، ويكفر إن وقف انتهى. ¬

_ (¬1) جامع الرسائل /203 - 204. (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 62).

وقد ثبت عن أبي يوسف أنه حكم بكفر من قال: لا أحب الدباء، بعدما قيل له: إنه كان يحبه سيد الأنبياء، فكيف بمن طعن في جميع الأنبياء، وادعى أن خاتم الأولياء أفضل من سيد الأصفياء، فإن كنت مؤمنًا حقًا، مسلمًا صدقًا، فلا تشك في كفر جماعة ابن عربي، ولا تتوقف» (¬1). وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: «القرآن كلام الله -عز وجل- من قال مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر» (¬2). وقال الإمامان أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، وهما يتحدثان عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك، فقالا: «أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته ... ومن زعم: أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، كفرًا ينقل عن الملة؛ ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر» (¬3). وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مستحسنًا لقول واحد من الأعراب: «وما أحسن ما قاله واحد من البوادي لما قدم علينا، وسمع شيئًا من الإسلام، ¬

_ (¬1) الرد على القائلين بوحدة الوجود لعلي القاري الحنفي /155. (¬2) أخرجه الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه السنة بإسناد حسن (1/ 112). (¬3) اعتقاد أهل السنة - للالكائي (1/ 176 - 178).

قال: أشهد أننا كفار - يعني هو وجميع البوادي - وأشهد أن المطوع الذي يسمينا إسلامًا أنه كافر، وصلى الله على سيدنا محمد» (¬1). وقال الشيخ أبا بطين -رحمه الله تعالى-: «وقد أجمع المسلمون على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، أو شك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال» (¬2). ونذكر هنا بعضًا من مناطات الكفر البواح، الذي لنا من الله فيه برهان، وسوف ترى أخي القارئ وجوب تكفير أصحابها، وإلا وقع «غالبًا» الكفر على الشاك، أو المتوقف في تكفيرهم. قال محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: «إن المرتدين افترقوا في ردتهم، فمنهم من كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعوا إلى عبادة الأوثان وقالوا: لو كان نبيًا ما مات؛ ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقر بنبوة مسيلمة ظنًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك فصدقهم كثير من الناس. ومع هذا: أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر» (¬3). ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 119). (¬2) الدرر السنية (12/ 69، 70). (¬3) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 62).

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-: «وأما قول من يقول: إن من تكلم بالشهادتين ما يجوز تكفيره، وقائل هذا القول لا بد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله، في مثل من أنكر البعث، أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سمَّاهم الله في كتابه، أو قال: الزنا حلال، أو نحو ذلك، فلا أظن يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم إلا من يكابر ويعاند. فإن كابر وعاند وقال: لا يضر شيء من ذلك، ولا يكفر به من أتى بالشهادتين فلا شك في كفره، ولا كفر من شك في كفره، لأنه بقوله هذا مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين، والأدلة على ذلك ظاهرة بالكتاب والسنة والإجماع. فمن قال: إن التلفظ بالشهادتين لا يضر معهما شيء، أو قال: من أتى بالشهادتين وصلى وصام لا يجوز تكفيره، وإن عبد غير الله فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين كما قدمنا، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك كثيرة، مع الإجماع القطعي الذي لا يستريب فيه من له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن التقليد والهوى يعمي ويصم. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]» (¬1). ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 250).

وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى: «وأما من يقول: إن من تكلم بالشهادتين لا يجوز تكفيره، فقائل هذا القول لا بد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله في مثل: من أنكر البعث، أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سماهم الله تعالى في كتابه؛ أو قال: الزنا حلال، أو اللواط، أو الربا ونحو ذلك، أو أنكر مشروعية الأذان، أو الإقامة، أو أنكر الوتر، أو السواك، ونحو ذلك. فلا أظنه يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم إلا أن يكابر أو يعاند، فإن كابر أو عاند، فقال: لا يضر شيء من ذلك، ولا يكفر به من أتى بالشهادتين فلا شك في كفره، ولا في كفر من شك في كفره، لأنه بقوله هذا مكذب لله ولرسوله ولجميع المسلمين؛ والأدلة على كفره ظاهرة من الكتاب والسنة والإجماع» (¬1). نعود فنقرر ما قلناه وفصلناه من قبل: أن تكفير المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ليس من أصل الدين، الذي يجب على كل عبد القيام به حتى يصح إسلامه، ويقبل إيمانه. وكذلك نقرر في المقابل: أن عدم تكفير المشركين قد يصل في بعض أحواله ومناطاته إلى أن يكون مناقضًا للإسلام بمجرده، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة، وإزالة الشهبة. ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 68).

حكم من شك في كفر أهل الاتحاد والوجود.

سئل ابن تيمية: «ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين، وهداة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- في الكلام الذي تضمنه كتاب فصوص الحكم، وما شاكله من الكلام الظاهر في اعتقاد قائله أن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق، وأن ما ثم غير، كمن قال في شعره: أنا وهو واحد ما معنا شيء. ومثل: أنا من أهوى ومن أهوى أنا. ومثل: إذا كنت ليلى وليلى أنا. وكقول من قال: لو عرف الناس الحق ما رأوا عابدًا ولا معبودًا. وحقيقة هذه الأقوال لم تكن في كتاب الله عز وجل، ولا في السنة، ولا في كلام الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين. ويدعي القائل لذلك: أنه يحب الله -سبحانه وتعالى-، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] الآية. والله -سبحانه وتعالى- ذكر خير خلقه بالعبودية في غير موضع، فقال تعالى عن خاتم رسله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، وكذلك قال في حق عيسى -عليه السلام-: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] الآية. فالنصارى كفار بقولهم مثل هذا القول في عيسى بمفرده، فكيف بمن

يعتقد هذا الاعتقاد تارة في نفسه، وتارة في الصور الحسنة من النسوان والمردان، ويقولون: إن هذا الاعتقاد له سر خفي، وباطن حق، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص الخواص من الخلق. فهل في هذه الأقوال سر خفي يجب على من يؤمن بالله، واليوم الآخر، وكتبه، ورسله أن يجتهد على التمسك بها، والوصول إلى حقائقها كما زعم هؤلاء؟ أم باطنها كظاهرها؟ وهذا الاعتقاد المذكور هو حقيقة الإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به، أم هو الكفر بعينه؟ وهل يجب على المسلم أن يتبع في ذلك قول علماء المسلمين ورثة الأنبياء والمرسلين، أم يقف مع قول هؤلاء الضالين المضلين، وإن ترك ما أجمع عليه أئمة المسلمين، ووافق هؤلاء المذكورين؟ فماذا يكون من أمر الله له يوم الدين؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الكريم. فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية -رحمه الله-: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين ما تضمنه كتاب فصوص الحكم، وما شاكله من الكلام فإنه كفر باطنًا وظاهرًا، وباطنه أقبح من ظاهره، وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة وأهل الحلول وأهل الاتحاد، وهم يسمون أنفسهم المحققين، وهؤلاء نوعان: نوع: يقول بذلك مطلقًا كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله، مثل: ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي، والششتري،

والتلمساني، وأمثالهم، ممن يقول: إن الوجود واحد. ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين، خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، ويقولون بذلك في المسيح عيسى، والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وطائفة من أهل بيته، والحاكمية الذين يقولون بذلك في الحاكم، والحلاجية الذين يقولون بذلك في الحلاج، واليونسية الذين يقولون: بذلك في يونس، وأمثال هؤلاء، ممن يقول بإلهية بعض البشر، وبالحلول والاتحاد فيه، ولا يجعل ذلك مطلقًا في كل شيء». ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان، والمردان، أو بعض الملوك، أو غيرهم. فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى، الذين قالوا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. أما الأولون فيقولون بالإطلاق، ويقولون: النصارى إنما كفروا بالتخصيص. وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض ما في أقوال النصارى، ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة. فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه فهذا كله كفر باطنًا وظاهرًا بإجماع كل مسلم.

ومن شك في كفر هؤلاء، بعد معرفة قولهم، ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود، والنصارى، والمشركين» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى في حكم أهل الحلول والاتحاد، ومن جادل عنهم، أو شك في كفرهم: «وكذلك قوله -أي ابن عربي- أن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام، لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنًا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله. كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وقال الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، وقال الخليل لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27] وقال الخليل، وهو إمام الحنفاء، الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 362 - 368).

الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79]. وهذا أكثر وأظهر عند أهل الملل من اليهود والنصارى، فضلاً عن المسلمين من أن يحتاج أن يستشهد عليه بنص خاص. فمن قال: إن عباد الأصنام لو تركوهم، لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء فهو أكفر من اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى. فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلاً من الحق، بقدر ما ترك منها. (وأخذ الشيخ يتكلم عن صور كفرهم الشنيعة إلى أن قال): ولم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر، ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لم يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتبعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم. ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقًا منافقًا؛ وإما جاهلاً ضالاً. وهكذا هؤلاء الاتحادية فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أظلم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم، ومخالفتهم لدين المسلمين.

ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو، أو من قال: إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق. بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم. فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول، والأديان على خلق المشايخ، والعلماء، والملوك، والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله. فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم، ويترك دينهم، كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال، ويبقون لهم دينهم، ولا يستهين بهم إلا من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية. ولهذا هم يريدون دولة التتار، ويختارون انتصارهم على المسلمين، إلا من كان عاميًا من شيعهم، واتبعهم فإنه لا يكون عارفًا بحقيقة أمرهم. ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويجعلونهم على حق، كما يجعلون عباد الأصنام على حق، وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر. ومن كان محسنًا للظن بهم، وادعى أنه لا يعرف حالهم، عرف حالهم، فإن لم يباينهم، ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم، وجعل منهم.

وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة فإنه من رؤوسهم، وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيًا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدًا لها باطنًا وظاهرًا، فهو أكفر من النصارى. فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلاً، كان عن تكفير النصارى بالتثليث، والاتحاد أبعد والله أعلم» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى بعد أن سرد جملاً من عقائد القرامطة الباطنية الزنادقة: «وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم، ولا موافقًا لهم على ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين، والموالي لهم، الناصر لهم، بمنزلة أتباع الاتحادية، الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق. فمن كان مسلمًا في الباطن، وهو جاهل معظم لقول ابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظمًا للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد» (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 128 - 133). (¬2) الفتاوى الكبرى (3/ 495).

حديث العهد بالإسلام يعذر في الأمور الخفية.

وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالة بعث بها إلى بعض الإخوان يقرر فيها كفرهم بسبب شكهم في كفر الطواغيت وأتباعهم، وذلك لكونه قد وضحه مرارًا لهم من قبل، أي قد أقام عليهم الحجة في ذلك، فقال رحمه الله تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم، إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ -أي ابن تيمية- كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة؛ وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، ويكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه القرآن قد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]. وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع -وقد قامت عليهم-، وفهمهم إياها

حكم من شك في كفر الطواغيت.

نوع آخر؛ وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظر قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم»، وقوله: «شرُّ قتلى تحت أديم السماء»، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو: التشدد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها. وكذلك قتل علي - رضي الله عنه - الذي اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف، على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. إذا علمتهم ذلك؛ فإن هذا الذي هم فيه كفر، الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون انه ليس ردة، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين. وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور أن يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض

بعض من مناطات الشك في كفر كافر

الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام» (¬1). وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى عن: حكم الأفعال الشركية التي تفعل عند القبور، والأعياد المقامة عليها، فأجاب: «الجواب وبالله التوفيق: اعلم أن هذه الأفعال هي من دين الجاهلية، التي بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإنكارها وإزالتها ومحو آثارها، لأنها من الشرك الأكبر، التي دلت الآيات المحكمات على تحريمه، وهذه الأعياد تشبه أعياد الجاهلية، فمن اعتقد جوازه وحله، وأنه عبادة ودين، فهو من أكفر خلق الله وأضلهم، ومن شك في كفره بعد قيام الحجة عليهم فهو كافر» (¬2). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمهما الله تعالى-: «وأما قول السائل: فإن كان يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبهم -أي: في أهل بلد مرتدين، وهكذا كان نص السؤال- ما حكمه؟ فالجواب: لا يخلو ذلك عن أن يكون شاكًا في كفرهم أو جاهلاً به، أو يقر بأنهم كفرة هم وأشباههم، ولكن لا يقدر على مواجهتهم وتكفيرهم، أو يقول: غيرهم كفار، لا أقول إنهم كفار؛ فإن كان شاكًا في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد فإنه كافر بإجماع العلماء، على أن من شك في كفر الكافر فهو كافر. ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 70 - 71). (¬2) الدرر السنية (10/ 439، 440).

وإن كان يقر بكفرهم، ولا يقدر على مواجهتهم بتكفيرهم فهو مداهن لهم، ويدخل في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وله حكم أمثاله من أهل الذنوب. وإن كان يقول: أقول غيرهم كفار، ولا أقول هم كفار، فهذا حكم منه بإسلامهم، إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام، فإن لم يكونوا كفارًا فهم مسلمون؛ وحينئذ فمن سمى الكفر إسلامًا، أو سمى الكفار مسلمين، فهو كافر فيكون هذا كافرًا» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سحمان: «ثم لو قدر أن أحدًا من العلماء توقف عن القول بكفر أحد من هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية، أو الجهال المقلدين لعباد القبور أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور، ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي ولا بد أن يغلط، فقط غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر وفي غير ذلك، وكما غلط غيره من الصحابة. وقد ذكر شيخ الإسلام في رفع الملام عن الأئمة الأعلام: عشرة أسباب في العذر لهم فيما غلطوا وأخطأوا، وهم مجتهدون. وأما تكفيره -أعني المخطئ والغالط- فهو من الكذب والإلزام الباطل، فإنه لم يكفر أحد من العلماء أحدًا إذا توقف في كفر أحد لسبب من ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 73).

تفسير قوله تعالى:} وقالوا إن نتبع الهدى {الآية.

فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع معاداته له، ومقته له، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم، ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه، وعن طريقته، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك؟ وقد قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] (23/ش). الأسباب، التي يعتذر بها العالم إذا أخطأ ولم يقم عنده دليل على كفر من قام به هذا الوصف، الذي يكفر به، من قام به بل إذا بان له، ثم بعد ذلك عاند وكابر وأصر» (¬1). (23/ش) قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: «يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] أي: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين، أن يقصدونا بالأذى، والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا. قال الله تعالى مجيبًا لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا} يعني: هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد آمين، وحرم معظم آمن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟» (¬2). ¬

_ (¬1) كشف الأوهام والالتباس (69 - 70). (¬2) تفسير القرآن العظيم (6/ 247).

حقيقة المدافعين عن المشركين.

فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد، ومعاداة المشركين بالخوف على أهله وعياله، فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة؟ ولكن الأمر كما تقدم عن عمر - رضي الله عنه -: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يفهم معنى القرآن، وأنه أشرف وأفسد من الذين قالوا: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57]. ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب. كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده يقول: بيني وبينكم أهل هذه الأقطار، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم كذا وكذا. فإذا كان يريد التحاكم إليهم، ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف أيضًا يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة؟ ما أحسن قول أصدق القائلين: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 7 - 9] {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]. فرحم الله امرأً نظر لنفسه، وتفكر فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله، من معاداة من أشرك بالله من قريب أو بعيد، وتكفيرهم، وقتالهم حتى يكون الدين لله.

التوحيد الذي جاءت به الرسل

وعلم ما حكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام، وما حكم به في ذلك الخلفاء الراشدون، كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره لما حرقهم بالنار (¬1)، مع أن غيرهم من أهل الأوثان، الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق، والله الموفق. وقالوا أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم، قال: «وكل شر في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا، فتدبر هذا فإنه نافع جدًا. ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد. وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة، أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك. وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

تفسير قوله تعالى:} إلا من أكره {.

وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه. فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبد الله وحده، ويتخذ إلهًا دون ما سواه، وهذا هو معنى قول «لا إله إلا الله» (¬1) انتهى كلام الشيخ. فتأمل -رحمك الله- هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جدًا، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين حال من أقر بهذا الدين، وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك، إما بغضًا له، أو إيثارًا للدنيا مثل تجارة، أو غيرها فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3]، {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [النحل: 107] (24/ش). (24/ش) ما أشد وقع هذه الآيات على المرجئة وأذنابهم لو كانوا يعلمون فأساطين الإرجاء قرروا قديمًا وحديثًا الكفر بعد الإيمان لا يكون إلا بتغيير الاعتقاد، أي: بالتكذيب والاستحلال والجحود، ومحله قول القلب فقط دون ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (18/ 57) وما بعدها.

عمله وأعمال الجوارح، لأن الإيمان عندهم هو التصديق. وأما أهل السنة والأثر: فالإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد، والكفر يقع بالقول وإن تعرى عن الاعتقاد، وبالفعل وإن تجرد عن الاعتقاد، وبالاعتقاد ولو لم يصاحبه قول أو عمل. والآيات تنص على أن من كفر بالله من بعد إيمانه يكون كافرًا إلا أن يكون مكرهًا على فعل الكفر في الظاهر، وقلبه يكون مطمئنًا بالإيمان في الباطن. فدل ذلك على أن من فعل الكفر بسبب الخوف، أو الطمع، أو مداراة لأهله، أو مشحة بوطنه، أو فعله على وجه المزح واللعب .. دل ذلك على أنه يكون كافرًا مرتدًا عن الملة، ولو لم يتغير اعتقاده بصحة دين الإسلام، وببطلان كل ما دونه من الأديان. وفي هذا أبين الدلالة على فساد مذهب المرجئة الخبيثة من وجهين: الوجه الأول: أن الكفر عندهم لا يقع إلا بتغيير الاعتقاد، والإكراه على ذلك لا يملكه أي واحد من البشر كائنًا من كان. فالإكراه لا يتصور وقوعه إلا على الأقوال أو الأفعال، فدل ذلك على أن العبد إذا قال الكفر أو فعله - دون اعتقاد له - يكفر إلا أن يكون مكرهًا، وقلبه مطمئن بالإيمان. الوجه الثاني: تعليل الله لكفر المرتدين عن الإيمان أنه بسبب حبهم للحياة الدنيا، وإيثارها على الآخرة.

كثيرا ما يقع الكفر بسبب إيثار الحياة الدنيا دون تغير الاعتقاد في الباطن

أي أن حب العاجلة قد يحمل العبد على فعل الكفر فيكفر دون أن يغير اعتقاده بصحة الإسلام، وببطلان كل ما دونه من الأديان. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والكافر قد لا يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر. يبين ذلك قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل: 106 - 109]، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه، وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا. ومعلوم: أن باب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل، ليس هو من باب الحب والبغض. وهؤلاء -أي غلاة المرجئة- يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة. والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن

الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق. وأيضًا فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]، أي: لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قول النبي: «يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا» (¬1)» (¬2). وقال محمد بن عبد الوهاب: «قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [النحل: 106 - 107] الآية، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره، مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفًا، أو طمعًا، أو مداراة، أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض، إلا المكره. فالآية تدل على هذا من جهتين. الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (118)، وسنن الترمذي (2195)، ومسند أحمد (7687). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 559/560).

ومعلوم: أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره عليه أحد. والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ}. فصرح أن هذا الكفر والعذاب، لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه: أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين» (¬1). وقال الإمام الطبري مبينًا أن إيثار الحياة الدنيا هو الذي أحل بالمرتدين عن الإيمان سخط الله وأليم عقابه: قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. «يقول -تعالى ذكره-: حل بهؤلاء المشركين غضب الله، ووجب لهم العذاب العظيم من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الآخرة، ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته، مع إصرارهم على جحودها» (¬2). وضرب إمام الدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب مثلاًَ رائعًا يبين به كفر من قال الكفر لأجل الدنيا، ولو لم يعتقد حقيقته في الباطن، ولم يتغير اعتقاده ¬

_ (¬1) كشف الشبهات /41. (¬2) تفسير الطبري (7/ 652).

الكفر عند أهل السنة يقع بالقول، وبالفعل، وبالاعتقاد.

في الباطن، فقال -رحمه الله تعالى-: «لو نقدر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلمًا عظيمًا في أموالهم وبلادهم، ومع هذا خافوا استيلاءهم على بلادهم ظلمًا وعدوانًا، ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج، وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم إلا أن يقولوا: نحن معكم على دينكم ودنياكم، ودينكم هو الحق، ودين السلطان هو الباطل، وتظاهروا بذلك ليلاً ونهارًا، مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج، ولم يتركوا الإسلام بالفعل. لكن لما تظاهروا بما ذكرنا، ومرادهم دفع الظلم عنهم، هل يشك أحد أنهم مرتدون في أكبر ما يكون من الكفر والردة؟ إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل، مع علمهم أنه حق، وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب» (¬1). وهذا مثل رائع عملي دال على أن الكفر يقع عند أهل السنة بالقول ولو لم يصاحبه اعتقاد، وبالفعل وإن تجرد عن تغير الاعتقاد، ويكون بالاعتقاد من التصديق والتكذيب، والحب والبغض، ولو لم يقارنه قول أو عمل. وأما من قال نظريًا الكفر يقع بالقول، وبالعمل، وبالاعتقاد، ثم عمليًا تراه لا يوقعه إلا بالجحود والاستحلال فهذا يكون من رؤوس أئمة الجهمية الخبيثة، ويجب على الموحدين أن يفضوا أيديهم منه في مسائل تلقي الإيمان والكفر. وقبل الانتقال عن ذكر مسألة الإكراه على الكفر، نذكر بأن المحققين من العلماء أوجبوا على المكره استخدام المعاريض قدر المستطاع، وما ذاك إلا ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 116 - 117).

من أكره على الكفر فعليه بالمعاريض قدر المستطاع

لعظم الكفر والردة بعد الإيمان. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: «قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ومتى لم يكن كذلك كان كافرًا؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها». مثاله: أن يقال له اكفر بالله فيقول باللاهي فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: اكفر بالنبي فيقول: هو كافر بالنبي مشددًا، وهو المكان المرتفع من الأرض، ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة، فيقصد أحدهما بقلبه، ويبرأ من الكفر، ويبرأ من إثمه (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (12/ 443 - 444).

مناط تكفير مانعي الزكاة

فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن المخالف له باطل، وأنه الشرك بالله غَرَّ هذا الكلام ضعيف البصيرة. وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملا، ومن وراءهم يصرحون: بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، يستدلون بالكثرة على حسن ما هم فيه من الدين، ويفعلون، ويقولون: ما هو من أكبر الردة وأفحشها. فإذا قالوا: التوحيد حق، والشرك باطل، وأيضًا لم يحدثوا في بلدهم أوثانًا جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق، ولا يضرهم عنده ما هم عليه من السبِّ لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك، وذبهم دونه بالمال، واليد، واللسان، فالله المستعان. وقال أبو العباس أيضًا في الكلام على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يُعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما والله لو منعوني عقالاً أو عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه»، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة، وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق - رضي الله عنه -

هل يشهد على من مات على الكفر بالنار؟

عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما يتوقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، وأما قتل المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم» (¬1) انتهى. فتأمل كلامه -رحمه الله- في تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار، وسبي (26/ش) حريمه وأولاده عند منع الزكاة. فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين. قال -رحمه الله- بعد ذلك: «وكفر هؤلاء وإدخالهم في الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة». (26/ش) طلع علينا في هذا الزمان بعض من يزعم السلفية: بأنه لا يجوز الحكم على من مات على الشرك بالنار، ولو كان من أئمة الكفر، من النصارى واليهود ونحوهم ... فتحيرنا، وحق لنا هذا. فهم لا يريدون تكفير المعين من المشركين، ولا يريدون تحقيق البراءة منهم، ثم من مات أيضًا على كفره، ولو كان مباينًا لملة المسلمين لا يريدون أن نحكم عليه أيضًا بالنار. ثم تراهم قد توغلوا بعنف في الحكم على كثير من مناطات الشرك الأكبر بأنه من الشرك الأصغر العملي، الذي لا يخرج صاحبه من الملة. ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل قاموا بشن الغارة على دعاة التوحيد، ¬

_ (¬1) انظر مجموع الفتاوى (28/ 472، 519)، والفتاوى الكبرى (2/ 31)، (3/ 534)، وشرح العمدة في الفقه لابن تيمية (4/ 62).

ورموهم بالعظائم ونالوا من أعراضهم. فسبحان الله ما أعظم هذا الإشكال، وما أشد تلك المعضلة. ولم يدر هؤلاء أنهم يسعون في تهوين أمر الشرك في نفوس العباد شاءوا ذلك أم أبوا، ذاك الذنب الذي حرم الله على أصحابه الجنة، وأوجب لهم به الخلود في النيران، وحجب المولى -جل في علاه- مغفرته العظيمة، وعفوه -الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه- عن أن ينال هذا الذنب الأكبر الأعظم. واستشهد القوم بقول الإمام الطحاوي في عقيدته: «ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا». ولو رجعنا إلى قول الإمام الطحاوي، لوجدناه يتحدث عن أهل القبلة، الذين ماتوا في الظاهر على التوحيد والإيمان، فهل بجرؤ أحد على الحكم على أمثال هؤلاء بأنهم من أهل النار، سبحانك هذا بهتان عظيم. قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-: «وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين .... ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، ونصلي على من مات منهم. ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى» (¬1). ¬

_ (¬1) العقيدة الطحاوية /45.

وقال ابن أبي العز الحنفي مبينًا هذا المعنى في شرحه: «يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر الصادق - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم، لأن الحقيقة باطنة، وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين» (¬1). فإذا كان هذا في حق من مات من أهل القبلة على التوحيد والإيمان، فلماذا يتوسع هؤلاء -وهذا دأبهم دائمًا في مثل هذه المسائل فانتبه- في جعل هذا الحكم ينطبق على المرتدين، وعلى أئمة الكفر المباينين للملة، فضلاً عن اتباعهم، من المقلدة لهم، والمقتدين لآثارهم. والرد على هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول: ما قاله صديق الأمة، أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في وجوب الشهادة على أعيان القتلى المرتدين بالنار، وكان في محضر من الصحابة، وانقضى عصرهم، ولم يظهر له مخالف في هذا فكان إجماعًا. وقد ذكرت هذا الوجه أولاً بسبب وروده في متن الرسالة محل الشرح. ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية /378.

تفسير قوله تعالى:} ما كان للنبي والذين آمنوا {الآية.

الوجه الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، فالآية نص في أن الكافر إذا مات على كفره فقد تبين لنا أنه من أهل النار، وأنه يعين بذلك. قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: «يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا به: {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا} يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم {أُولِي قُرْبَى} ذوي قرابة لهم {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله، وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله» (¬1). وقال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «ومعنى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفارًا» (¬2). والعبرة في هذه المسألة بالخواتيم، فمن مات على الكفر حكمنا به عليه وشهدنا له بالنار في الظاهر، والله يتولى السرائر. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (6/ 487). (¬2) زاد المسير في علم التفسير (3/ 509).

الأحكام تناط بالمظان والظواهر دون القطع واطلاع السرائر

قال الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى- في هذه الآية: «ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان حكم عليه به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله» (¬1). وقال أيضًا -رحمه الله تعالى- مؤكدًا على هذا المعنى في أثناء تفسيره لقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] الآية. بعد عرضه لحديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - لما قتل متأولاً الرجل الذي نطق بالشهادتين بعدما علاه بسيفه. قال القرطبي: «وفي هذه من الفقه باب عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطلاع السرائر» (¬2). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في قصة موت أبي طالب: «فهذا شأن من مات على الكفر -أي الخلود في النار- فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلا؛ والأحاديث الصحيحية، والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك» (¬3). الوجه الثالث: عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (10/ 401). (¬2) تفسير القرطبي (7/ 51). (¬3) الإصابة في تمييز الصحابة.

تبشير الكفار بالنار في قبورهم

قال: «في النار» فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وبوب الإمام النووي له بابًا: «بيان أن من مات على الكفر فهو في النار»، وقال فيه: «أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين» (¬2). الوجه الرابع: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: «إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان. فأين هو؟ قال: «في النار»، قال: فكأنه وجد من ذلك. فقال يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» قال فأسلم الأعرابي بعد. وقال: لقد كلفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار» (¬3). وقال الإمام السندي -رحمه الله تعالى- في شرحه لسنن ابن ماجه على هذا الحديث: والجواب: -أي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عام في كل مشرك (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (203). (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 79). (¬3) سنن ابن ماجة (1573) وصحح إسناده البوصيري في الزوائد، وهو من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجاء أيضًا من رواية سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وعزاها الهيثمي في الزوائد للبزار والطبراني في الكبير وقال: ورجاله رجال الصحيح المجمع (1/ 315)، وصحح الألباني رواية ابن ماجة، انظر صحيح ابن ماجة (1278). (¬4) شرح سنن ابن ماجة (1/ 113).

وقال العلامة علي القاري الحنفي فيه: «وفي هذا التعميم دلالة واضحة، وإشارة لائحة بأن أهل الجاهلية كلهم كفار، إلا ما خص منهم بالأخبار عن النبي المختار - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). وقال الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- معلقًا عليه: «وإذا زار قبر الكافر فلا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬2). وكان سلفنا الصالح، وأئمة الهدى إذا حكموا بالكفر على واحد، حكموا له بالخلود في النيران إذا مات عليه، وأجروا عليه أحكام التكفير، لأن باب الحكم بالكفر على معين، والشهادة له بالنار إن مات عليه واحد. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والجهمية عند كثير من السلف، مثل عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام احمد، وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه عند هؤلاء هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية. وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر؛ ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر؛ ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول - صلى الله عليه وسلم - /75. (¬2) تلخيص أحكام الجنائز/ 83.

ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين: أحدها: أنه كفر ينقل عن الملة، قال: وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: أن هذا قالوه على سبيل التغليظ. وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء، فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث، كأبي حاتم، وأبي زرعة، وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد» (¬1). وقال الإمام الفقيه ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: «ولا تجوز الصلاة على كافر لقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}. ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم نصل عليه. قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي ويشهدهما من أحب» (¬2). وقال الإمام ابن أبي العز مؤكدًا على أن المعين من الكفار إذا مات على كفره فإنه يشهد له بالنار: «وعن أبي يوسف -رحمه الله- أنه قال: ناظرت ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (12/ 486 - 487). (¬2) الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل (1/ 362).

الخلود في النار حكم الكافر بعد الموت

أبا حنيفة -رحمه الله- مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر. وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت» (¬1). فهذه بعض من نصوص السلف في أهل البدع المغلظة. فمن حكم منهم عليهم بالكفر، حكم للميت على هذه البدعة المكفرة بالخلود في النار، وامتنعوا من الصلاة عليه والدعاء له، ومن دفنه في قبور المسلمين، ومن القيام على قبره، إلى غير ذلك من أحكام الكفر الثابتة من الشرع الحكيم. وقبل الانتقال من هذه المسألة المهمة، نذكر بأن المحذور فيها هو الشهادة على من مات على الكفر بالنار على وجه القطع واليقين، فهذا لا يكون إلا فيمن أخبر الوحي فيه بذلك. وأما ما دون ذلك فنحن نشهد له بغلبة الظن لظاهر حاله عند موته، ولأن الأحكام كما قدمنا من قبل منوط إجراؤها بالظواهر وغلبة الظن، دون اليقين والقطع، وإلا تعذر العمل بها. وبالله التوفيق، ومنه وحده العون والسداد. ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية/ 316.

ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال، عمن قصد اتباع الحق: إجماع الصحابة على قتل مانعي الزكاة، وإدخالهم في أهل الردة، وسبي ذراريهم، وفعلهم فيهم ما صح عنهم، وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين. فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع؛ أعني المدعين للإسلام، وهي أوضح الوقعات، التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا. وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: «لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرك إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى انتهى كلامه. والمراد منه قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع. وقال أيضًا في كتاب الفنون: لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك بقطع يد مسلم في

لابد من العداوة في الله

سرقته، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًا لرمقك وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل، خرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك. أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك عنه منهمكًا، ولما أمرك تاركًا؟ وعلى ما زجرك مرتكبًا؟ وعن داعيه معرضًا، ولداعي عدوه فيك مطيعًا؟ يعظمك وهو هو، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حط رتبة عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك. هل عاديت خادمًا طالت خدمته لك لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي؟ فإن لم تعترف اعتراف العبد «للمولى» فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي. ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان!! بينما هو بحضرة الحق سبحانه، وملائكة السماء سجود له، ترامي به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس، أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفر. ما أوحش زوال النعم وتغير الأحوال والحور بعد الكور، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابدًا لله

تفسير قوله:} ادخلوا الباب سجدا {الآية

في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها. انتهى كلامه. والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله، ومثله بأنواع: منها السجود للشمس أو للقمر، ومنها السجود للصورة، كما في الصور التي في القباب على القبور، والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض كما فسر به قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154]. قال ابن عباس: أي ركعًا (27/ش). (27/ش) قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: «حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] أنه أحد أبوب بيت المقدس وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: {سُجَّدًا} فإن ابن عباس رضي الله عنهما كان يتأوله بمعنى الركع. حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: ركعًا من باب صغير. حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال: حدثنا أبو أسامة، عن سفيان عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: أمروا أن يدخلوا ركعًا.

قال أبو جعفر: وأصل السجود الانحناء لمن سجد له معظمًا بذلك فكل منحن لشيء تعظيمًا له فهو ساجد ... فذلك تأويل ابن عباس قوله: {سُجَّدًا} ركعًا لأن الراكع منحن وإن كان الساجد أشد انحناء منه (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (1/ 338).

أقوال العلماء من المكفرات

وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه: مناسك المشاهد، ولا يخفى أن هذه مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام» (¬1) انتهى. وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المصنفين يقال له: ابن المفيد، فقد رأيت ما قال فيه بعينه فكيف ينكر تكفير المعين؟ وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير فذكر منه قليلاً من كثير. أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا الباب من أغلظ الكلام، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال: مصيحف أو مسيجد، وصلى صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك وقال في: النهر الفائق، واعلم أن الشيخ قاسما قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي فلك من الذهب، أو الفضة، أو الشمع، أو الزيت كذا باطل إجماعًا لوجوه -إلى أن قال- ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاده هذا كفر -إلى أن قال-: وقد ابتلي الناس بذلك لا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي انتهى كلامه. فانظر إلى تصريحه أن هذا كفر مع قوله إنه يقع من أكثر العوام، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته. ¬

_ (¬1) انظر: إغاثة اللهفان (1/ 197).

وقال القرطبي: -رحمه الله- لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال: هذا حرام بالإجماع وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام جمال الملة أن مستحل هذا كافر، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله. فقد رأيت كلام القرطبي، وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص، مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير. وقال أبو العباس -رحمه الله-: حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرًا ذكيًا (¬1). فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخارى جملة: كفر ابن سينا، وهو رجل معين مصنف يتظاهر بالإسلام. وأما كلام المالكية في هذا فهو أكثر من أن يحصر، وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى، والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس، وقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفًا، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه. وأما كلام الشافعية فقال صاحب الروضة رحمه الله: إن المسلم إذا ذبح للنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (9/ 40).

كتاب المرتد في المذهب الشافعي والمذهب الحنفي

وقال أيضًا: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، وكل هذا دون ما نحن فيه. قال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا سألت فاسأل الله» ما معناه: أن من دعا غير الله فهو كافر، وصنف في هذا النوع كتابًا مستقلاً سماه: الإعلام بقواطع الإسلام، ذكر فيه أنواعًا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين، وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه» (28/ش). (28/ش) بعدما قام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بعرض نبذ يسيرة، ومختصرة لكل مذهب من المذاهب الأربعة على حدة في مسألة تكفير المعين، رأيت أن نبين مسائل الردة، ونواقض الإسلام، وما يصير به المسلم مرتدًا عن دينه، من كل مذهب من المذاهب الأربعة. ولا شك أن من أوجب الواجبات أن يعرف العبد: جمل وتفاصيل مسائل الردة والنواقض حتى يعصم دينه من الارتكاس في حمأة الكفر، وحتى يحقق قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] وحتى يستطيع أن يقوم بأوجب الواجبات بعد التوحيد المتمثل في موالاة المؤمنين، والبراءة من الكافرين والمرتدين. وسوف نعرض أولاً لكتاب المرتد من المذهب الشافعي والحنفي معًا جمعهما الإمام النووي -رحمه الله تعالى: فقال: «كتاب الردة، هي أفحش أنواع الكفر، وأغلظها حكمًا، وفيه بابان:

الأول: في حقيقة الردة، ومن تصح منه، وفيه طرفان. الأول: في حقيقتها، وهي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، قال الإمام: في بعض التعاليق عن شيخي أن الفعل بمجرده لا يكون كفرًا (1)، قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته للتنبيه على غلطه (¬1). ¬

_ (¬1) الذي يقول عن النواقض التي يكفر بها العبد: أنها ليست في ذاتها مكفرة، ولكنها دلالة وأمارة على الكفر هو الجهم بن صفوان، ومن نحا نحوه في قضية الإيمان فالإيمان عنده هو التصديق، ومن ثم لا يكفر إلا المكذب. فإذا جاءت دلالة من دلالات الكفر التي يمكن أن تجتمع مع التصديق في الباطن، كسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلاً قال هذه علامة وأمارة على الكفر، أي: لم يكفر بها ولكن علمنا بها خلو قلبه من التصديق، بمنزلة شهادة الشهود وإقرار المقر على نفسه، بمعنى أنه لو جاء رجل وأقر على نفسه كذبًا بفعل الفاحشة أقمنا عليه الحد بإقراره في الظاهر، ويكون في الباطن بريئًا من اقتراف هذا الذنب. وكذلك عنده دلالات الكفر التي يمكن أن تجتمع مع التصديق نقيم بها حد الكفر على أصحابها في الظاهر، ثم إن كان مصدقًا في الباطن نجا يوم القيامة، وهذه بدعة فصل الظاهر عن الباطن، ولقد نصر هذا القول الإمام الأشعري، واستشرت هذه البدعة في الأمة في وقت ما، حتى غلبت على كثير من علماء وأمراء وعباد ودعاة وقضاة الأمة. ولقد قام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ببذل جهود مضنية للتصدي، وإبطال هذه البدعة الشنيعة، وصاح على أهلها، ونادى عليهم بالضلال. ولذلك فلن تجد أنقى من تراث هذا الإمام الفذ العبقري العملاق في تقرير مسائل الكفر والإيمان، ومن تبعه كتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، ومن تبنى منهجه بكل شمول وصدق وعدل وشفافية في تقرير مسائل الكفر والإيمان، مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده -رحمهم الله تعالى- ولذلك تجد الحرص الشديد من إمام الدعوة بالاستشهاد الدائم المتواصل بنصوص الإمام العلامة ابن تيمية في كل كتبه ورسائله وفتاويه، وما تقدم ذكره هو حال الجهمية القدماء، يكفرون المعين في الظاهر دون الباطن. أما من ورثهم في هذه الأزمان، فيحكمون على فاعل الشرك الأكبر بالإسلام في الظاهر والباطن، ويقطعون بنجاته في الدنيا والآخرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. انظر: مجموع الفتاوى (7/ 557 وما بعدها).

وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر على اعتقاد أو عناد أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفي ما هو ثابت للقديم بالإجماع، ككونه عالمًا قادرًا، أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع، كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال كان كافرًا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل، أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو كذبه، أو جحد آية من القرآن مجمعًا عليها، أو زاد في القرآن كلمة واعتقد أنها منه، أو سب نبيًا، أو استخف به، أو استحل محرمًا بالإجماع، كالخمر والزنا واللواط، أو حرم حلالاً

بالإجماع، أو نفى وجوب مجمع على وجوبه، كركعة من الصلوات الخمس، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كصلاة سادسة وصوم شوال، أو نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة، أو ادعى النبوة بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -، أو صدق مدعيًا لها، أو عظم صنمًا بالسجود له، أو تقرب إليه بالذبح باسمه، فكل هذا كفر. قلت: قوله: إن جاحد المجمع عليه يكفر، ليس على إطلاقه، بل الصواب فيه تفصيل سبق بيانه في باب تارك الصلاة عقب كتاب الجنائز، ومختصره أنه إن جحد مجمعًا عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة، كفر إن كان فيه نص، وكذا إن لم يكن فيه نص في الأصح، وإن لم يعلم من دين الإسلام ضرورة بحيث لا يعرفه كل المسلمين، لم يكفر، والله أعلم. قال المتولي: ولو قال للمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر، لأنه سمى الإسلام كفرًا، والعزم على الكفر في المستقبل كفر في الحال، وكذا التردد في أنه يكفر أم لا فهو كفر في الحال، وكذا التعليق بأمر مستقبل، كقوله: إن هلك مالي أو ولدي تهودت أو تنصرت. قال: الرضا بالكفر كفر، حتى لو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة التوحيد فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأنه يرتد، فهو كافر بخلاف ما لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: لا رزقه الله الإيمان فليس بكفر، لأنه ليس رضا بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد الأمر والعقوبة عليه.

قلت: وذكر القاضي حسين في «الفتاوى» وجهًا ضعيفًا، أن من قال لمسلم: سلبه الإيمان كفر. والله أعلم. ولو أكره مسلمًا على الكفر، صار المكره كافرًا، والإكراه على الإسلام والرضا به، والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام. ومن دخل دار الحرب: وشرب معهم الخمر، وأكل لحم الخنزير، لا يحكم بكفره، وارتكاب كبائر المحرمات ليس بكفر، ولا ينسلب به اسم الإيمان، والفاسق إذا مات ولم يتب لا يخلد في النار. فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله اعتناء تام بتفصيل الأقوال والأفعال المقتضية للكفر، وأكثرها مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه، فنذكر ما يحضرنا مما في كتبهم. منها: إذا سخر باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو بوعده، كفر، وكذا لو قال: لو أمرني الله تعالى بكذا لم أفعل، أو لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها، أو لو أعطاني الجنة ما دخلتها. قلت: مقتضى مذهبنا والجاري على القواعد أنه لا يكفر في قوله: لو أعطاني الجنة ما دخلتها، وهو الصواب والله أعلم. ولو قال لغيره: لا تترك الصلاة، فإن الله تعالى يؤاخذك، فقال: لو آخذني الله بها، مع ما بي من المرض والشدة، ظلمني أو قال المظلوم:

هذا بتقدير الله تعالى، فقال الظالم: أنا أفعل بغير تقدير الله تعالى كفر، ولو قال: لو شهد عندي الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم كفر، ولو قيل له: قلم أظفارك فإنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا أفعل وإن كانت سنة، كفر. قلت: المختار أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد استهزاء والله أعلم. واختلفوا فيما إذا قال الطالب ليمين خصمه، وقد أراد الخصم أن يحلف بالله تعالى: لا أريد الحلف بالله تعالى، إنما أريد الحلف بالطلاق والعتاق، والصحيح أنه لا يكفر، واختلفوا فيمن نادى رجلاً اسمه عبد الله، وأدخل في آخره حرف الكاف الذي يدخل للتصغير بالعجمية، فقيل: يكفر، وقيل: إن تعمد التصغير كفر، وإن كان جاهلاً لا يدري ما يقول، أو لم يكن له قصد، لا يكفر، واختلفوا فيمن قال: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت، وأكثرهم على أنه لا يكفر، قالوا: ولو قرأ القرآن على ضرب الدف أو القضيب، أو قيل له: تعلم الغيب، فقال: نعم، فهو كفر، واختلفوا فيمن خرج لسفر، فصاح العقعق (¬1) فرجع هل يكفر؟ قلت: الصواب أنه لا يكفر في المسائل الثلاث، والله أعلم. ولو قال: لو كان فلان نبيًّا آمنت به -كفر، وكذا لو قال: إن كان ما قاله الأنبياء صدقًا نجونا، أو قال: لا أدري أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنسيًا أم جنيًّا، أو قال: إنه جن، أو صغر عضوًا من أعضائه على طريق الإهانة. ¬

_ (¬1) العقعق: اسم طائر معروف، وصوته العققة (لسان العرب) (2/ 495).

واختلفوا فيما لو قال: كان طويل الظفر، واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمدًا، أو مع ثوب نجس، أو إلى غير القبلة. قلت: مذهبنا ومذهب الجمهور، لا يكفر إن لم يستحله والله أعلم. ولو تنازع رجلان، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر: لا حول لا تغني من جوع، كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال: إنه يكذب، أو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: باسم الله تعالى، استخفافًا باسم الله تعالى كفر، ولو قال: لا أخاف القيامة، كفر، واختلفوا فيما لو وضع متاعه في موضع وقال: سلمته إلى الله تعالى، فقال له رجل: سلمته إلى من لا يتبع السارق إذا سرق. ولو حضر جماعة، وجلس أحدهم على مكان رفيع تشبهًا بالمذكرين، فسألوه المسائل وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمخراق، أو تشبه بالمعلمين فأخذ خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان، وضحكوا واستهزؤوا، وقال: قصعة ثريد خير من العلم، كفر. قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبه، والله أعلم. ولو دام مرضه واشتد فقال: إن شئت توفيتني مسلمًا، وإن شئت توفيتني كافرًا، صار كافرًا، وكذا لو ابتلي بمصائب، فقال: أخذت مالي، وأخذت ولدي، وكذا وكذا، وماذا تفعل أيضًا، أو ماذا بقي ولم تفعله كفر، ولو غضب على ولده أو غلامه، فضربه ضربًا شديدًا، فقال رجل: لست بمسلم،

فقال: لا متعمدًا كفر، ولو قيل له: يا يهودي، يا مجوسي، فقال: لبيك كفر. قلت: في هذا نظر إذا لم ينو شيئًا (¬1)، والله أعلم. ولو أسلم كافر، فأعطاه الناس أموالا، فقال مسلم: ليتني كنت كافرًا فأسلم فأعطى، قال بعض المشايخ: يكفر. قلت: في هذا نظر، لأنه جازم بالإسلام في الحال والاستقبال، وثبت في الأحاديث الصحيحة في قصة أسامة - رضي الله عنه - حين قتل من نطق بالشهادة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل يومئذ» (¬2) ويمكن الفرق بينهما، والله أعلم. ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الخمر، أو لا يحرم المناكحة بين الأخ والأخت لا يكفر، ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الظلم أو الزنا، وقتل النفس بغير حق كفر، والضابط أن ما كان حلالاً في زمان فتمنى حله لا يكفر. ولو شد الزنار على وسطه كفر، واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس ¬

_ (¬1) هناك كثير من الصور التي اختلف العلماء في كفر أصحابها، ولكن على المؤمن العاقل أن لا يقع فيها، لأنه يربأ بنفسه أن يقال له قد وقعت في أمر اختلف العلماء فيه، فبعضهم كفروك به، وبعضهم فسقوك وجرموك. ثم ماذا لو أخذ بقول من لم يكفره، ثم يوم القيامة، يوم الفصل بين الناس كان الحكم حكم من كفروه!! (¬2) صحيح مسلم (97).

على رأسه، والصحيح أنه يكفر، ولو شد على وسطه حبلاً، فسئل عنه، فقال: هذا زنار، فالأكثرون على أنه يكفر، ولو شد على وسطه زنارًا، ودخل دار الحرب للتجارة كفر، وإن دخل لتخليص الأسارى لم يكفر. قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألة التمنى، وما بعدها إذا لم تكن نية، والله أعلم. ولو قال معلم الصبيان: اليهود خير من المسلمين بكثير، لأنهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم كفر، قالوا: ولو قال: النصرانية خير من المجوسية كفر، ولو قال المجوسية شر من النصرانية، لا يكفر. قال: الصواب أنه لا يكفر بقوله: النصرانية خير من المجوسية إلا أن يريد أنها دين حق اليوم (¬1) والله أعلم. قالوا: ولو عطس السلطان، فقال له رجل: يرحمك الله، فقال آخر: لا تقل للسلطان هذا، كفر الآخر. قلت: الصواب أنه لا يكفر بمجرد هذا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وهذا كفر بإجماع المسلمين. قلت: وكم من الزنادقة اليوم يريدون أن يجعلوا الدين النصراني والدين اليهودي دينًا صحيحًا متقبلاً، وأن الأديان طرق إلى الله كالمذاهب في الإسلام، وهذا كفر معلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد وقع الإجماع على كفر اليهود والنصارى، وعلى كفر من شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم وسوف يأتي ذكره إن شاء الله.

كتاب المرتد في المذهب المالكي

قالوا: ولو سقى فاسق ولده خمرًا، فنثر أقرباؤه الدراهم والسكر، كفروا. قلت الصواب أنهم لا يكفرون، والله أعلم. قالوا: ولو قال كافر لمسلم: اعرض علي الإسلام، فقال: حتى أرى، أو اصبر إلى الغد، أو طلب عرض الإسلام من واعظ، فقال: اجلس إلى آخر المجلس كفر، وقد حكينا نظيره عن المتولي قالوا: ولو قال لعدوه: لو كان نبيًا لم أؤمن به، أو قال: لم يكن أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من الصحابة كفر، قالوا: ولو قيل لرجل: ما الإيمان؟ فقال: لا أدري كفر، أو قال لزوجته: أنت أحب إلي من الله تعالى كفر. وهذه الصور تتبعوا فيها الألفاظ الواقعة في كلام الناس، وأجابوا فيها اتفاقًا أو اختلافًا بما ذكر، ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها، وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء» (¬1). وقال الإمام القاضي عياض -رحمه الله تعالى- في بيان مذهب المالكية في نواقض الإسلام، ومسائل الردة: «فصل، في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه وما ليس بكفر، اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع ولا مجال للعقل فيه، والفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية، أو عبادة أحد غير الله، أو مع الله فهي كفر، كمقالة الدهرية، وسائر فرق أصحاب الاثنين، من الديصانية، ¬

_ (¬1) روضة الطالبين وعمدة المفتين (1/ 64 - 70).

والمانوية، وأشباههم من الصابئين, والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا بعبادة الأوثان، أو الملائكة، أو الشياطين، أو الشمس، أو النجوم، أو النار، أو أحد غير الله، من مشركي العرب وأهل الهند والصين والسودان وغيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب، وكذلك القرامطة، وأصحاب الحلول، والتناسخ، من الباطنية الطيارة ومن الروافض، وكذلك من اعترف بإلهية الله ووحدانيته، ولكنه اعتقد أنه غير حي، أو غير قديم، وأنه محدث، أو مصور، أو ادعى له ولدًا، أو صاحبة، أو والدًا، أو متولد من شيء، أو كائن عنه، أو أن معه في الأزل شيئًا قديمًا غيره، أو أن ثم صانعًا للعالم سواه، أو مدبرًا غيره فذلك كله كفر بإجماع المسلمين، كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين، وكذلك من ادعى مجالسة الله، والعروج إليه، ومكالمته، أو حلوله في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة، والباطنية، والنصارى والقرامطة. وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم، أو بقائه، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة، والدهرية، أو قال بتناسخ الأرواح، وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص، وتعذيبها أو تنعمها فيها بحسب زكائها وخبثها، وكذلك من اعترف بالإلهية والوحدانية، ولكنه جحد النبوة من أصلها عمومًا، أو نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - خصوصًا، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك فهو كافر بلا ريب، كالبراهمة، ومعظم اليهود، والأروسية من النصارى، والغرابية من الروافض، الزاعمين أن عليًا كان المبعوث إليه جبريل،

وكالمعطلة، والقرامطة والإسماعيلية، والعنبرية من الرافضة، وإن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم. وكذلك من دان بالوحدانية، وصحة النبوة، ونبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به، ادعى في ذلك المصلحة بزعمه، أو لم يدعها فهو كافر بإجماع، كالمتفلسفين، وبعض الباطنية، والروافض، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع، وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان، ويكون من أمور الآخرة والحشر؛ والقيامة؛ والجنة، والنار ليس منها شيء على مقتضى لفظها، ومفهوم خطابها، وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم. فمضمون مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل، والارتياب فيما أتوا به، وكذلك من أضاف إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - تعمد الكذب فيما بلغه وأخبر به، أو شك في صدقه أو سبه، أو قال إنه لم يبلغ أو استخف به، أو بأحد من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم، أو قتل نبيًا، أو حاربه فهو كافر بإجماع. وكذلك نكفر من ذهب مذهب بعض القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيرًا ونبيًّا، من القردة والخنازير والدواب والدود وغير ذلك، ويحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة، وفيه من الإزراء على

هذا المنصف المنيف ما فيه، مع إجماع المسلمين على خلافه، وتكذيب قائله. وكذلك نكفر من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم، ونبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولكن قال: كان أسودًا، أو مات قبل أن يلتحي، أو ليس الذي كان بمكة، والحجاز، أو ليس بقرشي، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة، نفي له، وتكذيب به. وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا - صلى الله عليه وسلم -، أو بعده، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، فكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة، وكالبزيغية، والبيانية منهم القائلين بنبوة بزيغ وبيان، وأشباه هؤلاء، أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها، كالفلاسفة، وغلاة المتصوفة، وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه، وإن لم يدع النبوة أو أنه يصعد إلى السماء، ويدخل الجنة، ويأكل من ثمارها، ويعانق الحور العين، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين وأنه أرسل كافة للناس، واجتمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد به دون تأويل ولا تخصيص، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعًا إجماعًا وسمعًا.

وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب، أو خص حديثًا، مجمعًا على نقله، مقطوعًا به، مجمعًا على حمله على ظاهره، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم. ولهذا نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك. وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لم تقدم عليًا وكفرت عليًا إذ لم يتقدم، ويطلب حقه في التقديم، فهؤلاء قد كفروا من وجوه، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ قد انقطع نقلها، ونقل القرآن إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة، ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على مقتضى قولهم، وزعمهم أنه عهد إلى علي - رضي الله عنه -، وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم، لعنة الله عليهم، وصلى الله على رسوله وآله. وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحًا بالإسلام مع فعله ذلك الفعل، كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب والنار، والسعي إلى الكنائس والبيع مع أهلها والتزيي بزيهم،

من شد الزنانير، فحص الرؤوس (¬1) فقد أجمع المسلمون أن هذا لا يوجد إلا من كافر، وأن هذه الأفعال علامة على الكفر، وإن صرح فاعلها بالإسلام. وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا، مما حرم الله بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة، وبعض غلاة المتصوفة. وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقينًا بالنقل المتواتر من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووقع الإجماع المتصل عليه، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وسجداتها، ويقول إنما أوجب الله علينا في كتابة الصلاة على الجملة، وكونها خمسًا، وعلى هذه الصفات والشروط لا أعلمه، إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي، والخبر به عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خبر واحد. وكذلك أجمع على تكفير من قال من الخوارج: إن الصلاة طرفي النهار، وعلى تكفير الباطنية في قولهم: إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم، والخبائث والمحارم أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم، وقول بعض المتصوفة: إن العبادة وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها، ¬

_ (¬1) قوله وفحص الرؤوس بفاء مفتوحة وحاء وصاد مهملتين في الصحاح، وفي الحديث فحصوا عن رؤوسهم: كأنهم حلقوا وسطها وتركوها مثل أفاحيص القطا انظر لسان العرب. مادة «فحص».

وإباحة كل شيء لهم، ورفع عهد الشرائع عنهم، وكذلك إن أنكر منكر مكة، أو البيت، أو المسجد الحرام، أو صفة الحج، أو قال الحج واجب في القرآن، واستقبال القبلة كذلك، ولكن كونه على هذه الهيئة المتعارفة، وأن تلك البقعة هي مكة، والبيت، والمسجد الحرام لا أدري هل هي تلك أو غيرها؟ ولعل الناقلين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرها بهذه التفاسير غلطوا ووهموا، فهذا ومثله لا مرية في تكفيره، إن كان ممن يظن به علم ذلك، وممن خالط المسلمين، وامتدت صحبته لهم، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، فيقال له سبيلك أن تسأل عن هذا الذي لم تعلمه بعد كافة المسلمين فلا تجد بينهم خلافًا، كافة عن كافة إلى معاصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أن هذه الأمور كما قيل لك، وأن تلك البقعة هي مكة، والبيت الذي فيها هو الكعبة، والقبلة التي صلى لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، وإن صفات الصلوات المذكورة، هي التي فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشرح مراد الله بذلك، وأبان حدودها فيقع ذلك العلم كما وقع لهم، ولا ترتاب بذلك بعد، والمرتاب في ذلك والمنكر بعد البحث، وصحبة المسلمين كافر باتفاق، ولا يعذر بقوله لا أدري، لا يصدق فيه، بل ظاهره التستر على التكذيب، إذ لا يمكن أنه لا يدري. وأيضًا فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم والغلط فيما نقلوه من ذلك، وأجمعوا أنه قول الرسول وفعله، وتفسير مراد الله به، أدخل الاسترابة في جميع الشريعة إذ هم الناقلون لها، وللقرآن، وانحلت عرى الدين كرة، ومن قال هذا كافر، وكذلك من أنكر القرآن، أو حرفًا منه، أو غير شيئًا منه، أو زاد

فيه، كفعل الباطنية، والإسماعيلية، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ليس فيه حجة، ولا معجزة، كقول هشام الفوطي، ومعمر الصيمري: إنه لا يدل على الله، ولا حجة فيه لرسوله، ولا يدل على ثواب، ولا عقاب، ولا حكم، ولا محالة في كفرهما بذلك القول، وكذلك نكفرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة له، أو في خلق السماوات والأرض دليل على الله لمخالفتهم الإجماع، والنقل المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باحتجاجه بهذا كله، وتصريح القرآن به، وكذلك من أنكر شيئًا، مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس، ومصاحف المسلمين، ولم يكن جاهلاً به، ولا قريب عهد بالإٍسلام، واحتج لإنكاره، إما بأنه لم يصح النقل عنده، ولا بلغه العلم به، أو لتجويز الوهم على ناقله، فنكفره بالطريقين المتقدمين، لأنه مكذب للقرآن، مكذب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه تستر بدعواه. وكذلك من أنكر الجنة، أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواترًا، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب: معنى غير ظاهره، وأنها لذات روحانية، ومعان باطنة، كقول النصارى، والفلاسفة، والباطنية، وبعض المتصوفة، وزعم أن معنى القيامة الموت، أو فناء محض، وانتقاض هيئة الأفلاك، وتحليل العالم، كقول بعض الفلاسفة، وكذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم: إن الأئمة أفضل من الأنبياء.

فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار والسير والبلاد، التي لا يرجع إلى إبطال شريعة، ولا يفضي إلى إنكار قاعدة من الدين، كإنكار غزوة تبوك، أو مؤتة، أو وجود أبي بكر وعمر، أو قتل عثمان، أو خلافة علي رضي الله عنهم، مما علم بالنقل ضرورة، وليس في إنكار وجحد شريعة، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك، وإنكار وقوع العلم له، إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة، كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل، ومحاربة علي من خالفه. فأما إن ضعف ذلك من أجل تهمة الناقلين، ووهم المسلمين أجمع، فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة. فأما من أنكر الإجماع المجرد، الذي ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع، فأكثر المتكلمين، ومن الفقهاء، والنظار في هذا الباب قالوا: بتكفير كل من خالف الإجماع الصحيح، الجامع لشروط الإجماع، المتفق عليه عمومًا، وحجتهم قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (¬1) وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2863) وقال: حديث حسن صحيح غريب، ومسند أحمد (17132) وصححه ابن خزيمة (1895)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (259)، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين، وقال الذهبي في التلخيص: على شرطهما، وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله ثقات، رجال الصحيح خلا علي ابن إسحاق، وهو ثقة / مجمع الزوائد (9094)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.

وذهب آخرون إلى الوقوف عن القطع بتكفير من خالف الإجماع، الذي يختص بنقل العلماء، وذهب آخرون إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع الكائن عن نظر، كتكفير النظام بإنكاره الإجماع، لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به خارق للإجماع. قال القاضي أبو بكر: القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده، والإيمان بالله هو العلم بوجوده (¬1)، وأنه لا يكفر أحد بقول ولا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله، فإن عصى بقول، أو فعل نص الله ورسوله، أو أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر، أو يقوم دليل على ذلك فقد كفر، ليس لأجل قوله أو فعله، لكن لما يقارنه من الكفر. فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور: أحدها: الجهل بالله تعالى. والثاني: أن يأتي فعلاً، أو يقول قولاً يخبر الله ورسوله أو يجمع المسلمون أن ذلك لا يكون إلا من كافر، كالسجود للصنم، والمشي إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم، أو يكون ذلك القول أو الفعل ¬

_ (¬1) هذه هي عقيدة الجهم بن صفوان في الإيمان، والتي نصرها الإمام الأشعري، ثم رجع عنها إلى قول أهل السنة في الإيمان، وانظر ما قلناه في هامش صفحتي (294، 295).

لا يمكن معه العلم بالله، قال: فهذان الضربان، وإن لم يكونا جهلاً بالله، فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان. فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية، أو جحدها مستبصرًا في ذلك، كقوله: ليس بعالم، ولا قادر، ولا مريد، ولا متكلم، وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة له تعالى، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها، وأعراه عنها، وعلى هذا حمل قول سحنون: من قال: ليس لله كلام فهو كافر، وهو لا يكفر المتأولين كما قدمناه. فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ههنا، فكفره بعضهم، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري وغيره، وقال به أبو الحسن الأشعري مرة؛ وذهب طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان، وإليه رجع الأشعري. قال: لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادًا يقطع بصوابه، ويراه دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقاله حق. واحتج هؤلاء بحديث السوداء، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طلب منها التوحيد لا غير (¬1)، وبحديث القائل: «لئن قدر الله علي» وفي رواية فيه: «لعلي ¬

_ (¬1) جاء احد الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد عتق أمته السوداء فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أين الله؟) قالت: في السماء، قال: (من أنا؟) قالت: أنت رسول الله، قال: (اعتقها فإنها مؤمنة) صحيح مسلم (537)، وسنن النسائي (1203)، وسنن أبي داود (795).

أضل الله ثم قال: فغفر الله له» (¬1). قالوا: ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات، وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل، وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه منها: أن قدر بمعنى، قدر، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه، بل في نفس البعث، الذي لا يعلم إلا بشرع، ولعله لم يكن ورد عندهم به شرع يقطع عليه، فيكون الشك فيه حينئذ كفرًا، فأما ما لم يرد به شرع فهو من مجوزات العقول. أو يكون قدر بمعنى: ضيق، وسيكون ما فعله بنفسه إزراء عليها، وغضبًا لعصيانها. وقيل: إنما قال: ما قاله وهو غير عاقل لكلامه، ولا ضابط للفظه، مما استولى عليه من الجزع والخشية، التي أذهبت لبه فلم يؤاخذ به. وقيل: كان هذا في زمن الفترة، وحيث ينفع مجرد التوحيد. وقيل: بل هذا من مجاز كلام العرب، الذي صورته الشك، ومعناه التحقيق، وهو يسمى تجاهل العارف، وله أمثلة في كلامهم كقوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (7506)، وصحيح مسلم (2756).

فأما من أثبت الوصف، ونفى الصفة فقال: أقول عالم ولكن لا علم له، ومتكلم ولكن لا كلام له، وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة، فمن قال: بالمآل لما يؤديه إليه قوله، ويسوقه إليه مذهبه كفره، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم، إذ لا يوصف بعالم إلا من له بعلم فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قولهم، وهكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل، من المشبهة، والقدرية، وغيرهم. ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم ولا ألزمهم موجب مذهبهم، لم ير إكفارهم، قال: لأنهم إذا وقفوا على هذا، قالوا: لا نقول ليس بعالم، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتموه لنا، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر، بل نقول: إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه. فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك، والصواب ترك إكفارهم، والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران، وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم، ووراثاتهم، ومناكحاتهم، ودياتهم، والصلاة عليهم، ودفنهم في مقابر المسلمين، وسائر معاملاتهم، لكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب، وشديد الزجر، والهجر حتى يرجعوا عن بدعتهم، وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم، فقد كان نشأ على زمن الصحابة، وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال، من القدر ورأي الخوارج، والاعتزال، فما أزاحوا لهم قبرًا،

كتاب المرتد في المذهب الحنبلي

ولا قطعوا لأحد منهم ميراثًا، لكنهم هجروهم، وأدبوهم بالضرب، والنفي والقتل على قدر أحوالهم، لأنهم فساق ضلال عصاة، أصحاب كبائر عند المحققين، وأهل السنة، ممن لم يقل بكفرهم منهم، خلافًا لمن رأى غير ذلك والله الموفق للصواب. قال القاضي أبو بكر: وأما مسائل الوعد، والوعيد، والرؤية، والمخلوق (¬1)، وخلق الأفعال، وبقاء الأعراض، والتولد، وشبهها من الدقائق، فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح، إذ ليس في الجهل بشيء منها، جهل بالله تعالى، ولا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئًا منه، وقد قدمنا في الفصل قبله من الكلام، وصورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى» (¬2). وقال الإمام الحجاوي المقدسي مبينًا مذهب الحنابلة في نواقض الإسلام، ومسائل الردة: «باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ولو مميزًا طوعًا، ولو هازلاً. فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته، أو اتخذ له صاحبة، أو ولدًا، أو ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها، أو جحد نبيًا، أو كتابًا من كتب الله أو شيئًا منه، أو جحد الملائكة، أو البعث، أو ¬

_ (¬1) أي القول بمسألة خلق القرآن. (¬2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (2/ 282 - 295).

سب الله، أو رسوله، أو استهزأ بالله، أو كتبه، أو رسله. قال الشيخ (¬1) أو كان مبغضًا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقًا، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم كفر إجماعًا انتهى. أو سجد لصنم، أو شمس، أو قمر، أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، أو وجد منه امتهان القرآن أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف، أو مختلق، أو مقدور على مثله، أو إسقاط لحرمته، أو أنكر الإسلام، أو الشهادتين، أو أحدهما كفر؛ لا من حكى كفرًا سمعه ولا يعتقده؛ أو نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقًا من غير قصد لشدة فرح، أو دهش، أو غير ذلك. كقول من أراد أن يقول: «اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فقال أنت عبدي وأنا ربك» (¬2). ومن أطلق الشارع كفره فهو كفر لا يخرج به عن الإسلام: «كدعواهم لغير أبيهم»، «وكمن أتى عرافًا فصدقه بما يقول» فهو تشديد وكفر، لا يخرج به عن الإسلام» (¬3). ¬

_ (¬1) هو ابن تيمية -رحمه الله تعالى-. (¬2) صحيح مسلم (2747). (¬3) هذا محمول بلا ريب على الأحاديث التي تأولها العلماء أنها في الشرك الأصغر كالأمثلة التي ضربها المصنف.

وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، أو القرآن، أو النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو يعبد الصليب، ونحو ذلك على ما ذكروه في الإيمان، أو قذف النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أمه، أو اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو سخر بوعد الله، أو بوعيده، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، أو قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة فهو كافر. وقال الشيخ: من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك، أو يرضاه، أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة، أو طاعة فهو كافر. وقال في موضع آخر: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر صار مرتدًا. وقال: قول القائل ما ثم إلا الله: إن أراد ما يقوله أهل الاتحاد: من أن ما ثم موجود إلا الله، ويقولون: أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد، ونحو ذلك من المعاني، وكذلك الذين يقولون: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطًا بالمخلوقات، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال: من اعتقد أن لأحد طريقًا إلى الله، من غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو لا يجب عليه اتباعه، وأن له أو لغيره خروجًا عن اتباعه وأخذ ما بعث به، أو قال: أنا

محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من الأولياء من يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، أو أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه فهو كافر. وقال: من ظن أن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] بمعنى قدر فإن الله ما قدر شيئًا إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله فإن هذا من أعظم الناس كفرًا بالكتب كلها. وقال: من استحل الحشيشة كفر بلا نزاع، وقال: لا يجوز لأحد أن يلعن التوراة، ومن أطلق لعنها يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء، وأما من لعن دين اليهود، الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس عليه في ذلك، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم، بما يبين أن قصده ذكر تحريفها، مثل أن يقال: نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيه، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة، والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله. فصل- وقال: ومن سب الصحابة، أو أحدًا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليًا إله، أو نبي، وأن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، وكذلك من زعم أن القرآن ينقص منه شيء

وكتم، أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهذا قول القرامطة، والباطنية، ومنهم التناسخية، ولا خلاف في كفر هؤلاء كلهم، ومن قذف عائشة رضي الله عنها، بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، ومن سب غيرها من أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ففيه قولان: أحدهما: أنه كسب واحد من الصحابة. والثاني: وهو الصحيح أنه كقذف عائشة رضي الله عنها. وأما من سبهم سبًا لا يقدح في عدالتهم، ولا بدينهم مثل: من وصف بعضهم ببخل، أو جبن، أو قلة علم، أو عدم زهد، ونحوه فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يكفر. وأما من لعن وقبح مطلقًا فهذا محل الخلاف، أعني: هل يكفر أو يفسق، توقف أحمد في كفره، وقتله، وقال: يعاقب، ويجلد، ويحبس حتى يموت، أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك، وقيل: يكفر إن استحله؛ والمذهب يعزر، كما تقدم أول باب التعازير. وفي الفتاوى المصرية: يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل؟ وقال: أما من جاوز ذلك كمن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب أيضًا في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر، انتهى ملخصًا من الصارم المسلول.

ومن أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر، لقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40]، وإن جحد وجوب العبادات الخمس، أو شيئًا منها، ومنها الطهارة؛ أو حل الخبز واللحم والماء، أو أحل الزنا ونحوه، أو ترك الصلاة، أو شيئًا من المحرمات الظاهرة، المجمع على تحريمها كلحم الخنزير، والخمر، وأشباه ذلك أو شك فيه، ومثله لا يجهله -كفر. وإن استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر، وإن كان بتأويل كالخوارج، لم يحكم بكفرهم، مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، متقربين بذلك إلى الله تعالى، وتقدم في المحاربين. والإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت مع الاستطاعة، وصوم رمضان؛ فمن أنكر ذلك، أو بعضه لم يكن مسلمًا. ومن ترك شيئًا من العبادات الخمس تهاونًا، فإن عزم على أن لا يفعله أبدًا استتيب -عارفًا- وجوبًا كالمرتد، وإن كان جاهلاً عرف، فإن أصر قتل حدًا ولم يكفر، إلا بالصلاة إذا دعي إليها، وامتنع، أو شرط أو ركن مجمع عليه فيقتل كفرًا، وتقدم في كتاب الصلاة. ومن شفع عنده في رجل فقال: لو جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيه ما قبلت منه. إن تاب بعد القدرة عليه قتل، لا قبلها» (¬1). ¬

_ (¬1) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (4/ 297 - 301).

النواقض العشرة

ونختم هذه المسألة بذكر النواقض العشرة، التي ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب، وبين في خاتمتها أنها لا مانع من وقوع الكفر على أصحابها إلا الإكراه، والإكراه فقط فقال -رحمه الله تعالى-: «اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة: الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن، أو القباب. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، كفر إجماعًا. الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر إجماعًا. الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به، كفر إجماعًا، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]. السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ

إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102]. الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخصر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. ولا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، ومن أكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على محمد» (¬1). ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 91 - 93).

أنواع في المجادلة عن المشركين والرد عليها

وتمام الكلام في هذا أن يقال الكلام هنا في مسألتين: الأولى: أن يقال: هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين, ومع كثير من الأحياء والأموات، والجن، من التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر، الذي فعله قوم نوح، ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم؟ فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب، ينكر عليهم ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله، أم هذا شرك أصغر، وشرك المتقدمين نوع غير هذا؟ فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه، إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه، كابن إسماعيل وابن خالد، مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة. وتارة يقولون: لا يكفر إلا من كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتارة يقولون: إنه شرك أصغر، وينسبونه لابن القيم - رحمه الله- في المدارج كما تقدم. وتارة لا يذكرون شيئًا من ذلك، بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم العلماء الذين يجب

تفسير قوله تعالى:} ولو كان من عند غير الله {الآية

رد الأمر عند التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة (29/ش). وجواب هؤلاء كثير من الكتاب والسنة والإجماع، ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر، وأيضًا إقرار غيرهم من علماء الأقطار، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بدًّا من الإقرار به لوضوحه. (29/ش) هذا الاضطراب والتضارب، والتباين في المواقف والأحكام دليل واضح على البطلان، والإفك والبهتان، لأنه لو كان حقًا لائتلف، واتسق، وشهد بعضه لبعض. قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. قال الإمام الطبري: «يعني جل ثناؤه بقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجة الله عليه في طاعتك، واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق. فإن ذلك لو كان من عند غير الله، لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض» (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (4/ 182).

بما كفرنا الطواغيت

المسألة الثانية: الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر ولكن لا يكفر به، إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب الرسول، والقرآن، واتبع يهودية، أو نصرانية، أو غيرها (30/ش). (30/ش) قال الإمام محمد بن عبد الوهاب في دحض هذه الشبهة وإخمادها في أثناء رسالة بعث بها لأحد المجادلين عن المشركين، يبين له فيها أنه لم يكفر إلا من وقع في الشرك الأكبر، وعاقبة المجادلة بالباطل عمن عبد غير الله فقال -رحمه الله تعالى-: «وإنما كفرنا هؤلاء الطواغيت، أهل الخرج، وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم، منها: أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط. ومنها: أنهم يدعون الناس إلى الكفر. ومنها: أنهم يبغضون عند الناس دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويزعمون أن أهل العارض كفروا لما قالوا: لا يعبد إلا الله، وغير ذلك من أنواع الكفر. وهذا أمر أوضح من الشمس لا يحتاج إلى تقرير، ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال، الذي يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك، ودين آبائهم، وإلا فهؤلاء الجهال لو أن مرادهم اتباع الحق عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون. وأما المسألة الثالثة: وهي من أكبر تلبيسك، الذي تلبس به على العوام أن أهل العلم، قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق، ولكن ليس هذا

تكفير المشركين والمرتدين أمر موروث عن الصحابة

ما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زنى، أو من سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر. واما أهل السنة فمذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت واتباعهم إلا بالشرك، وأنت رجل من أجهل الناس تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر. فإذا كنت تعتقد ذلك فما تقول: في المنافقين الذين يصلون ويصومون ويجاهدون؟ قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. وما تقول في الخوارج الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أينما لقيتموهم فاقتلوهم» أتظنهم ليسوا من أهل القبلة؟ ما تقول: في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره، فأضرم لهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نارًا فأحرقهم بها. وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما أنكر تحريقهم بالنار، وقال: يقتلون بالسيف، أتظن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟ أم أنت تفهم الشرع وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفهمونه؟ أرأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة قال أبو بكر لا نقبل توبتكم حتى تشهدوا: أن قتلانا في الجنة، وقتلاكم

في النار، أتظن أن أبا بكر وأصحابه لا يفهمون، وأنت وأبوك الذين تفهمون؟ يا ويلك أيها الجاهل الجهل المركب إذا كنت تعتقد هذا، وأن من أم القبلة لا يكفر. فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة، التي ذكرها العلماء في باب حكم المرتد؟ التي كثير منها في أناس أهل زهد وعبادة عظيمة؟ ومنها طوائف ذكر العلماء أن من شك في كفرهم فهو كافر، ولو كان الأمر على زعمك لبطل كلام العلماء في حكم المرتد إلا مسألة واحدة وهي الذي يصرح بتكذيب الرسول، وينتقل يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا، ونحوهم هذا هو الكفر عندك» (¬1). ¬

_ (¬1) مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (1/ 232 - 234).

وإلا فالمسألة الأولى، قل الجدال فيها، ولله الحمد، لما وقع إقرار علماء الشرك بها. فاعلم: أن تصور هذه المسألة تصورًا حسنًا يكفي في إبطالها، من غير دليل خاص لوجهين: الأول: أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها في التكفير، لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها، وكذب الرسول والقرآن فهو كافر، وإن لم يعبد الأوثان كاليهود، فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول: لا إله إلا الله، ويصلي، ويفعل كذا وكذا، لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة، أو العمى، أو العرج، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع. الوجه الثاني: أن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية، فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو أجهل الناس وأبلدهم: ما تقول فيمن عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك مع أنه يدعي أنه مسلم متبع، إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول أن هذا كافر من غير نظر في الأدلة، أو سؤال أحد من العلماء، ولكن لغلبة الجهل، وغربة العلم، وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من

هل المشرك لا يكفر إلا بعد إقامة الحجة؟

الملحدين اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق، فلا تحقرها، وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية، لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت، ويجعلك أيضًا من الأئمة الذين يهدون بأمره» (31/ش). (31/ش) أخي القارئ انظر إلى قول الإمام محمد: «الوجه الثاني: أن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح». فهذا الكلام ونظائره قد يطير به فرحًا كثير من أهل الإرجاء، ممن لم يفقهوا وجه دلالته ومراده من كلام الأئمة، مثل ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب وأتباعه -رحمهم الله جميعًا- فهؤلاء العلماء لا يكفرون من عبد غير الله إلا بعد إقامة الحجة، والكفر المنفي هنا: هو الكفر المعذب عليه، أي الذي يستحق صاحبه به العذاب في الدنيا والآخرة. وفي المقابل نص هؤلاء الأئمة: على أن من عبد غير الله فإنه يكون مشركًا، ويعين بذلك، ولو لم تقم عليه حجة البلاغ، ولا يمكن أن يعين بوصف الإسلام، لأن الإسلام «هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله، واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بذلك فليس بمسلم، ولم يكن كافرًا معاندًا فهو كافر جاهل» (¬1). فتعريف هؤلاء الأئمة للإسلام أخرج المشركين، وعباد القبور منه. ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين لابن القيم (1/ 608).

الكفر يستخدم بعدة اعتبارات

(الكفر يستخدم بعدة اعتبارات) وهؤلاء العلماء يستخدمون لفظ الكفر بعدة اعتبارات، وبحسب ما يتعلق به من الأحكام، وذلك لأن الاسم الواحد قد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به. فلا يجب إذا ثبت أو نفي في حكم معين أن يكون كذلك في بقية الأحكام، وهذا أمر مشهور في كلام العرب. فالكفر قبل قيام الحجة له حد وأحكام، وبعد قيام الحجة له حد وأحكام أخر. وعليه فأحيانًا ينفون وقوع الكفر إلا بعد قيامها، وهم مع ذلك النفي يحكمون على فاعل الشرك الأكبر بالشرك، وخروجه من عداد المسلمين، وبالكفر الغير معذب عليه. قال الإمام العلامة ابن تيمية في بيان هذا المعنى الهام: «وجماع الأمر أن الاسم الواحد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا ثبت أو نفي في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام، وهذا في كلام العرب وسائر الأمم، لأن المعنى مفهوم. مثال ذلك: المنافقون قد يجعلون من المؤمنين في موضع، وفي موضع آخر يقال: ما هم منهم. قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] الآية. فهنالك جعل هؤلاء المنافقين الخائفين من العدو ... الناكلين عن الجهاد،

الناهين لغيرهم، الذامين للمؤمنين -منهم. وقال في آية أخرى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] وهؤلاء: ذنبهم أخف، فإنهم لم يؤذوا المؤمنين ولا بنهي، ولا سلق بألسنة حداد، ولكن حلفوا بالله أنهم من المؤمنين في الباطن بقلوبهم، وإلا فقد علم المؤمنين أنهم منهم في الظاهر فكذبهم الله، وقال: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وهناك قال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}. فالخطاب: لمن كان في الظاهر مسلمًا مؤمنًا، وليس مؤمنًا بأن منكم من هو بهذه الصفة، وليس مؤمنًا بل أحبط الله عمله فهو منكم في الظاهر لا الباطن. ولهذا لما استؤذن النبي في قتل بعض المنافقين قال: (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) (¬1) فإنهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق ... وكذلك: الأنساب مثل كون الإنسان أبًا لآخر أو أخاه، يثبت في بعض الأحكام دون بعض. فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه لما اختصم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة بن الأسود في ابن وليدة زمعة، وكان عتبة بن أبي وقاص قد فجر بها في الجاهلية، وولدت منه ولدًا، فقال عتبة لأخيه سعد: إذا قدمت مكة فانظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني. فاختصم فيه هو، وعبد بن زمعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سعد: «يا رسول الله ¬

_ (¬1) متفق عليه صحيح البخاري (3518)، وصحيح مسلم (2584).

ابن أخي عتبة، عهد إلي أخي عتبة فيه إذا قدمت مكة، انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه ابني، ألا ترى يا رسول الله شبهه بعتبة؟». فقال عبد: «يا رسول الله أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراش أبي». فرأى النبي شبهًا بينًا بعتبة، فقال: (هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة) (¬1) لما رأى من شبهه البين بعتبة ... فتبين أن الاسم الواحد ينفي في حكم، ويثبت في حكم، فهو أخ في الميراث وليس بأخ في المحرمية (¬2)». فالكفر الذي ينفيه ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى- عمن وقع في عبادة غير الله، وهو الكفر الذي يستحق صاحبه العقوبة في الدارين، القتل في الدنيا، والخلود في النيران في الآخرة؛ وهذا لا يكون إلا بعد قيام الحجة الرسالية؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «فإن حال: الكافر لا تخلو من أن يتصور الرسالة أو لا، فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها، وعدم إيمان بها، كما قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (2053)، وصحيح مسلم (1457). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 418 - 419).

عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136]. لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة، والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة ... فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر، وليس كل كافر مكذبًا، بل قد يكون مرتابًا إن كان ناظرًا فيه، أو معرضًا عنه بعد أن لم يكن ناظرًا فيه، وقد يكون غافلاً عنه لم يتصوره بحال، لكن عقوبة هذا موقوفة على تبليغ المرسل إليه» (¬1). فانظر -رحمني الله وإياك- إلى قول الإمام في أول النقل فإن حال الكافر لا تخول من أن يتصور الرسالة أو لا ثم قال: وأما الكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وقوله: العقوبة متوقفة على تبليغ المرسل إليه فأشار الإمام إلى وجود كفر ثابت قبل بلوغ الرسالة، وإلى وجود كفر آخر لا يثبت إلا بعد بلوغها، وهو الكفر المعذب عليه. وقال -رحمه الله تعالى- منكرًا على من يقول: أن حسن التوحيد، وقبح الشرك، وإمكان المعاد لا يعلم بالعقل: «وكثير من هؤلاء يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل: كالمعاد وحسن التوحيد، والعدل، والصدق، وقبح الشرك، والظلم والكذب. والقرآن يبين: الأدلة العقلية الدالة على ذلك، وينكر على من لم يستدل ¬

_ (¬1) مجموعه الفتاوى (2/ 78 - 79).

بها، ويبين أنه بالعقل يعرف: المعاد، وحسن عبادته وحده، وحسن شكره، وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع ... فتارك الواجب وفاعل القبيح، وإن لم يعذب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابها ما يكون جزاءه، وهذا جزاء من لم يشكر النعمة، بل كفرها أن يسلبها فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد. والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك ينقص النعمة ولا يزيد، مع أنه لا بد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار» (¬1). انظر إلى قول الشيخ أن العقل يعلم به حسن التوحيد والمعاد وقبح الشرك، ولذلك فالكفر ثابت لمن عبد غير الله قبل قيام الحجة لمخالفة حجية العقل والفطرة وهذا الكفر ينقص النعمة ولا يزيد، والكفر بعد الحجة موجب للعذاب. ونقل -رحمه الله تعالى- عن الإمام محمد بن نصر المروزي وأقره قال: «قالوا: أي: أهل السنة: ولما كان العلم بالله إيمانًا، والجهل به كفرًا، وكان العلم بالفرائض إيمانًا، والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر؛ لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (16/ 252 - 253).

ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك -فلم يكن جهلهم بذلك كفرًا، ثم أنزل الله عليهم الفرائض، فكان إقرارهم بها والقيام بها إيمانًا، وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرًا، وبعد مجيء الخبر، من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرًا، والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر» (¬1). انظر لهذا النقل فالجهل بالله كفر قبل الخبر وبعد الخبر، والمقصود الجهل بتوحيده، والدليل على ذلك: قوله أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إليهم. ومن المعلوم بيقين أن الإقرار هنا: هو الإقرار بتوحيد الإلهية لا بتوحيد الربوبية فقط، الذي لا يفرق بين الموحدين والمشركين. إذًا فالجهل بالله كفر قبل الخبر وبعد الخبر، لكن قبل الخبر ينقص النعمة ولا يزيد، ومحرم على أصحابه دخول الجنة، وإن ماتوا على ذلك لا يصلى عليهم، ولا يستغفر لهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين لأنهم مشركون وليسوا بمسلمين، إلا أنهم لا يعذبون في الدارين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية، وهذا هو الكفر بعد الخبر، وهو الكفر المعذب عليه، وكما أنهم لا يعذبون فهم أيضًا لا ينعمون. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (7/ 325).

لله دينه وعبادته، ودعاه مخلصًا له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره، كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالاً من المشرك، فلا بد من عبادة الله وحده، هذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينًا غيره. ولكن لا يعذب الله أحدًا حتى يبعث إليه رسولاً، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك، ولا مستكبر عن عبادة ربه. فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب الله بالنار أحدًا إلا بعد أن يبعث إليه رسولاً» (¬1). فمن هذه النقول للشيخ تبين: أنه لا يحكم بالإسلام للمشرك الجاهل ألبتة، إلا أنه لا يحكم عليه بالعذاب في الدارين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية وهم قبلها مشركون، وليسوا بمسلمين. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس وإلا وفي القرآن ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (14/ 476 - 477).

بيان معناه، فإن القرآن جعله الله شفاءً لما في الصدور، وبيانًا للناس فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إما ألا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه، فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن ههنا يقع الشرك، وتفريق الدين شيعًا، كالفتن التي تحدث السيف. فالفتن القولية والعملية هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة عنهم، كما قال مالك بن أنس: إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء، ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم، قال أحمد في خطبته: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم، فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه: 123]. فأهل الهدى والفلاح هم: المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون في كل زمان ومكان. وأهل العذاب والضلال هم: المكذبون للأنبياء. يبقى أهل الجاهلية، الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء، فهؤلاء في: ضلال وجهل وشرك وشر، لكن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ

عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. فهؤلاء لا يهلكهم الله، ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولاً، وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا، فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة» (¬1). ففي هذا النقل يبرهن فيه شيخ الإسلام على أن أهل الهدى والفلاح هم: المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون. وأهل العذاب والضلال هم: المكذبون للأنبياء، وهذا هو الكفر المعذب عليه. يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء، إذًا فهم لم يكذبوا فلم يقعوا في الكفر المعذب عليه، بيد أنهم لم يتبعوهم أيضًا، ووقعوا في الإشراك بالله. فهؤلاء في ضلال وجهل وشرك وشر، إلا إنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة الرسالية. وهذا هو الكفر قبل الحجة وبلوغ الخبر. ويلاحظ أن هذا النقل في الأمة المحمدية، ولا يجرؤ أحد أن يقول إنهم ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (17/ 307).

مشركون على الإطلاق دون التعيين، لأنه لو كان كذلك لما قال عنهم الشيخ: إنهم يمتحنون في العرصات، لأنهم لو كانوا مسلمين لدخلوا الجنة دون امتحان، فثبوت الامتحان لهم دال على أنهم مشركون على التعيين. وقال أيضًا رحمه الله: «وأصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله وجماع ذلك: الإيمان بخاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالإيمان به يتضمن: الإيمان بجميع كتب الله ورسله. وأصل الكفر والنفاق هو: الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة» (¬1). قلت: فهذا هو الكفر الذي ينفيه ابن تيمية في الكليات والجزئيات والأصول والفروع، وهو الكفر المعذب عليه، لأنه لا تكليف إلا بشرع، والشرع لا يلزم إلا بالبلاغ مع انتفاء المعارض، إلا كفر التنقص والاستهزاء فأهله معذبون عليه بإطلاق، لأنه لا يتصور جهله ولا التعبد به. سئل الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- عن قوم داوموا على الرياضة مرة، فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (11/ 186).

إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف، لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة!!! فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأجاب: «لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شر من قول اليهود والنصارى ... والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء، الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين والمستمسكين ببقايا من الملل، كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام. فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه ... وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر «وأخذ يدلل على هذا إلى أن قال» فقد تبين: أن هذا

القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت. وأما قول القائل: هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقال: هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا، بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين، لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت، بل لا يصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله، وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له، ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه» (¬1). انظر -رحمك الله- إلى هذه الفتوى، فإنه قرر في أولها: أنهم أكفر أهل الأرض، وأكفر من اليهود والنصارى، وأنهم أخبث من المشركين، ثم قام بنفي الكفر عنهم بعد ذلك لقلة العلم وغلبة الجهل، وهذا هو الكفر المعذب عليه، ثم أثبت بعد هذا أنهم كفار بجميع الكتب والرسل وكفار بإلهية الله، وهذا هو الكفر قبل الخبر وقيام الحجة. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (11/ 401 - 413).

وقال ابن القيم رحمه الله: «في الرد على الإمام ابن عبد البر في إنكار: أحاديث الامتحان لأهل الفترات مستشهدًا بقوله: «ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافرًا أو غير كافر .. جوابه من وجوه: أحدها أن يقال: هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان فإن الكفر هو: جحود ما جاء به الرسول، فشرط تحققه بلوغ الرسالة؛ والإيمان هو: تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر وهذا أيضًا مشروط ببلوغ الرسالة، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه. فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارًا ولا مؤمنين، كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين. فإن قيل: فأنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا، من: التوارث والولاية والمناكحة. قيل: إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا، لا في الثواب والعقاب كما تقدم بيانه» (¬1). فقد نص الإمام ابن القيم في هذا النقل: على انتفاء الكفر المعذب عليه إلا بعد قيام الحجة، وأصحابه كفار في أحكام الدنيا لا في أحكام الثواب والعقاب، هذا مع قوله قبل ذلك أن الشرك ثابت لأصحابه لا يحتاج إلى ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (2/ 656).

اسم المشرك ثبت قبل الرسالة

رسول، فالحجة عليه العقل والفطرة، وكذا قرر شيخه ابن تيمية. وقال -رحمه الله- في كتاب طريق الهجرتين: «الطبقة الرابعة عشر» قوم: لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا ولا يميز، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئًا أبدًا، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئًا. ثم قال في الطبقة «السابعة عشر»: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، ولهم حكم أوليائهم» (¬1). قلت: فعندما نفى ابن القيم الكفر عن أطفال المشركين، نفاه باعتبار ما يترتب عليه من العقوبة في الدارين، وعندما أثبته لنفس الطائفة أثبته باعتبار ما يجري عليهم من أحكام الكفر في الدنيا. وأما نصوص ابن تيمية، وابن القيم في ثبوت وصف الشرك لمن عبد غير الله، ولو لم تقم عليه حجة البلاغ، وأن الحجة على الشرك هو العقل والفطرة، فإليكم بعضًا منها: قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فإنه يشرك بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أندادًا قبل الرسول» (¬2). ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين / 387، 411. (¬2) مجموع الفتاوى (20/ 38).

العقل الفطري حجة بمجرده في بطلان الشرك

وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: «وقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]: وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه لو قدر أنهم -أي المشركين- لم يكونوا عارفين: بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه، حتى في الصناعات، والمساكن، والملابس، والمطاعم إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم: الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذا العادة الأبوية. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (1385)، وصحيح مسلم (2658).

فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها. وهذا يقتضي أن نفس «العقل» الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليه بدون هذا» (¬1). وقال ابن القيم في ذات المعنى: «أن يقولوا -أي المشركون- {إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] وهم آباؤنا المشركون، أي: أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات، والمساكن، والملابس، والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه. ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم، فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. ¬

_ (¬1) درء التعارض (4/ 331 - 332).

عباد القبور والمشركون ليسوا من عداد المسلمين

فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم: الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها. وهذا يقتضي أن نفس «العقل» الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا» (¬1). قلت: فالمشركون وعبَّاد القبور، وإن كانوا جاهلين ومتأولين، فليسوا بمسلمين عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده، امتدادًا لمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم. ولذلك فعندما يطلقون القول بالعذر فهم يستثنون منه عباد القبور، وأمثالهم من المشركين لعدم دخولهم في عداد المسلمين لديهم. ولقد كانت أحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، على النحو الآتي: من كان عاملاً بالإسلام، وتاركًا للشرك فهو مسلم. ومن كان واقعًا في عبادة غير الله سبحانه، فهذا ظاهره الكفر، ونفوض حكمه في الباطن إلى الله تعالى، لاحتمال كونه لم تقم عليه حجة البلاغ. ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (2/ 1011 - 1012).

أقوال أئمة الدعوة فيمن عبد غير الله، ولم تقم عليه الحجة الرسالية

فإن مات على ذلك، فلا يتصدق عنه، ولا يضحى له، ولا يستغفر له، ولا يحكم ببراءة ذمته من الطاعات، كالحج مثلاً، إن قام به حال شركه، لأن تحقيق الإسلام شرط من شروط قبول الطاعات، وهو منتف لديه. ومن مات منهم مجهول الحال فلا يحكمون بإسلامه، لأنه لم يكن أصلاً لديهم للحكم به على أقوامهم، وكذا لا يحكمون بكفره، لأنهم يعتقدون أن الله لم يكلفهم بذلك. فمن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنة، ومن كان كافرًا في الظاهر والباطن، خلده الله في ناره، ومن لم تبلغه الدعوة منهم، وكان واقعًا في الشرك الأكبر، فحكمه حكم أهل الفترات، وليس بمسلم على أية حال. وكذلك حكم أئمة الدعوة في أموال أهل زمانهم: بحكم أموال الكفار الأصليين، أي: يستحقون التوارث فيما بينهم، ثم من أسلم منهم على شيء من المال فهو له، ولم يقولوا: بردة أقوامهم، لأن المرتد لا يرث ولا يورث، وطرد ذلك القول: يجعل جميع أموال الناس في زمانهم مستحقة لبيت المال، لأنهم مرتدون، وورثوها عن آبائهم المرتدين، وكذا الأموال التي بأيدي المسلمين، حتى يثبت أحدهم أن أباه لم يكن مرتدًا. وكذلك سلك أئمة الدعوة مع أقوامهم في الدعوة والقتال: مسلك الكفار الأصليين، الذين لم تقم عليهم حجة البلاغ، فلا يقاتلونهم حتى يبلغوهم إياها، فمن قبلها ودان بالإسلام قاتلوا به من وراءه، ومن أباها قاتلوه قتال

المشركين، ولما تحققوا من ظهور دعوتهم، وبلوغها لمن حولهم من الديار، لم يتوجب عليهم الدعوة قبل القتال. ولقد وردت أسئلة على أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر -رحمهم الله جميعًا- منها: «وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد: «الإسلام يهدم ما قبله» (¬1)، وفي رواية: «يجب ما قبله» (¬2)، وفي حديث حجة الوداع: «ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» (¬3) إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله، إذا قال: أو فعل ما يكون كفرًا جهلاً منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أو لا؟ فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله، أو عدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرًا فهو مسلم، بل نقول: عمله عمل الكفار، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (121)، ومسند أحمد (17112). (¬2) مسند أحمد (17109)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات. المجمع (15890)، وصححه الألباني في مختصر الإرواء (1280). (¬3) أبو داود (3334)، والترمذي (307)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (3055)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2852).

وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية، وقد ذكر أهل العلم، أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار، ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام جب ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره (¬1)، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟ فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام، فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه إذا فعل شيئًا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام: «أسلمت على ما أسلفت من خير» (¬2). وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط ¬

_ (¬1) انظر أخي القارئ ففي أول الفتوى قالوا: لا نحكم لكفره حتى تقام الحجة، وهنا قالوا: قتله في حال كفره. (¬2) متفق عليه، صحيح البخاري (1436)، وصحيح مسلم (123).

صحته: الإسلام فكيف نحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره إلا بعد قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين» (¬1). وسئل الشيخ حمد بن ناصر -رحمه الله تعالى-: عن قول الفقهاء: إن المرتد لا يرث ولا يورث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟ فأجاب: «أما من دخل في دين الإسلام ثم ارتد فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح، وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية، وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول: الأصل إسلامهم، والكفر طارئ عليهم. بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، هم كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله: «فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (¬2). فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول: الأصل الإسلام، والكفر طارئ، بل نقول: هم الكفار الأصليون، ولا يلزمنا ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 94 - 96). (¬2) تقدم تخريجه.

على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم. بل نقول: من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام، تاركًا للشرك، فهو مسلم. أما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، أما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله تعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. «حكم مجهول الحال» وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]. فمن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنة. ومن كان كافرًا أدخله الله النار. ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله تعالى. وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية.

وأيضًا فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا بما حكم به الفقهاء في المرتد: أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال: لا يرث ولا يورث يجعل ماله فيئًا لبيت مال المسلمين، وطرد هذا القول أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث. وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون، فإذا أسلموا فمن أسلم على شيء فهو له، ولا تتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا الموارث ولا غيرها. وقد روى أبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام» (¬1)، وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة بن أبي مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أسلم علي شيء فهو له» (¬2) ونص أحمد على مثل ذلك، كما تقدم عنه في رواية مهنَّا. واعلم أن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث، أحد الأقوال في المسألة، ¬

_ (¬1) أبو داود (2914)، وابن ماجة (2415)، وصححه الألباني في مختصر الإرواء (1717). (¬2) نسبه الألباني إلى سعيد بن منصور، وقال رواه من طريقين، وحسنه الألباني، انظر إرواء الغليل (6/ 156).

وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشافعي. والقول الثاني: أنه لورثته المسلمين، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وهو قول جماعة من التابعين، وهو قول الأوزاعي، وأهل العراق. والقول الثالث: أن ماله لأهل دينه الذي اختاره، إن كان منهم من يرثه، وإلا فهو فيء، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب داود بن علي، وصلى الله على محمد» (¬1). وقال الشيخ حمد بن ناصر، بعد أن بيَّن أن الله أرسل الرسل لئلا تكون للناس حجة عليه بعد إرسالهم، وأنَّ عبادة الله وحده لا شريك له معلومة بالضرورة من الدين، وأن الحجة عليها مجرد بلوغ القرآن، فقال رحمه الله تعالى: «إذا تقرر هذا، فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالهم الشرك، لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، وانقاد لها، ووحد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمر الله به، وتجنب ما نهاه عنه، فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة، في كل زمان وفي كل مكان. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 335 - 337).

وأما من كانت حاله حال أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل عليه، فهذا لا يقال: إنه مسلم لجهله، بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله فظاهره الكفر، فلا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تخفي الصدور. «تكفير المعين، أي: الكفر المعذب عليه، لا يكون إلا بعد إقامة الحجة» ولا نقول: فلان مات كافرًا، لأنا نفرق بين المعين وغيره، فلا نحكم على معين بكفر، لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره، بل نكل ذلك إلى الله، ولا نسب الأموات، بل نقول: أفضوا إلى ما قدموا، وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به، بل الذي أمرنا به أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، ونقاتل من أبى عن ذلك، بعدما ندعوه إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أصر وعاند كفرناه، وقاتلناه. فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المعين وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نخص معينًا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث: من لعن السارق، وشارب الخمر، فنلعن من لعنه الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملة، ولا نخص شخصًا بلعنة، يبين ذلك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن شارب الخمر جملة، ولما وجد رجلاً قد شرب، قال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به النبي

- صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا انه: يحب الله ورسوله» (¬1) (¬2). وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا: «فيمن مات على التوحيد، وإقامة قواعد الإسلام الخمس وأصول الإيمان الستة، ولكن كان يدعو وينادي ويتوسل في الدعاء إذا دعا ربه، ويتوجه بنبيه في دعائه معتمدًا على الحديثين الذين ذكرناهما، أو جهلاً منه وغباوة، كيف حكمهم؟ فالجواب: أن يقال: قد قدمنا الكلام على سؤال الميت والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه، وبين التوسل به في الدعاء، وأن سؤال الميت والاستغاثة به في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله تعالى ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية على تحريمه، وتكفير فاعله، والبراءة منه، ومعاداته. ولكن في أزمنة الفترات، وغلبة الجهل لا يكفر الشخص المعين بذلك حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر، بخلاف من فعل ذلك جهالة منه ولم ينبه على ذلك. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6780). (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 99 - 100).

فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه، فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة. وأما من مات وهو يفعل الشرك جهلاً لا عنادًا، فهذا نكل أمره إلى الله تعالى، ولا ينبغي الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وذلك لأن كثيرًا من العلماء يقولون: من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، كما قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فإذا بلغه القرآن، وأعرض عنه، ولم يبحث عن أوامره ونواهيه فقد استوجب العقاب، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] وقال تعالى: {وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ} [طه: 99 - 101]. وأما المبحث الرابع: في تقسيم مواريث من مات على ذلك، وما حصل منهم من الإتلافات، وما وقع بينهم من القتل وغيره، ما حكمه؟ فالجواب: أن تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك والجهل تقر على ما هي عليه، ولا ترد القسمة في الإسلام، ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية لم ينزع من يده في الإسلام، لأن الإسلام يجب ما قبله. وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء من ذلك، وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين، أكثرهم حاله

كحال أهل الجاهلية الأولى، وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها تخالف أحكام الشرع في المواريث والدماء والديات وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم، وتملكوه من المظالم، ونحوها. وأما الديون والأمانات فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم» (¬1). وقال الشيخان حسين وعبد الله ابنا محمد بن عبد الوهاب -رحم الله الجميع- في الجواب على مسألة وردت عليهم، ضمن مسائل عدة: «المسألة الثالثة عشرة»: فيمن مات قبل الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة ما الحكم فيه؟ وهل يلعن أو يسب أو يكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة وبين من أدركها ومات معاديًا لهذا الدين وأهله؟ «الجواب: أن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفًا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته ¬

_ (¬1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، القسم الأول من الجزء الأول/ 78 - 80.

وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقًا كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» (¬1)، إلا إن كان أحد من أئمة الكفر، وقد اغتر الناس به فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية، والله أعلم» (¬2). «وسئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم هل داره كفر وحرب على العموم؟ فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به: أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدًا دان بدين الإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى. وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1393)، وسنن النسائي (1910)، وسنن أبي داود (4253)، ومسند أحمد (24296). (¬2) الدرر السنية (10/ 142).

يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره ونقاتله، ونشن عليه الغارة، بل بداره. وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا بل الذي نتحقق ونعتقده: أن أهل اليمن، وتهامة، والحرمين، والشام، والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص العبادة لله. وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله، من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، وأنا نأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات، ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارون (¬1) وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي يوم خيبر، لما أعطاه الراية، وقال: «أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام» (¬2)، فهو عند أهل العلم على الاستحباب. وأما إذا قدرنا: أن أناسًا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، فإن ¬

_ (¬1) الحديث متفق على صحته، وانظر: صحيح البخاري (2541)، وصحيح مسلم (1730). (¬2) سبق تخريجه.

الواجب دعوتهم أولاً قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم» (¬1). وقال الشيخ عبد العزيز «قاضي الدرعية»، ومن حوله من العلماء، في رسالتهم المسماة: «المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية»: «وأما السؤال الثاني: وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره كفر وحرب على العموم إلخ ... فنقول وبالله التوفيق: «الذي نعتقده وندين الله به: أن من دان بالإسلام وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ولم نكفر أحدًا دان بالإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده فقد كذب وافترى. وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام فهذا نكفره، ونقاتله، ونشن عليه الغارة. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (9/ 352 - 353).

وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحققه ونعتقده: أن أهل اليمن، وتهامة، والحرمين، والشام، والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا: أنا نأمر بإخلاص الدين والعبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله، من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفان. وإنا نأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات. ومثل هؤلاء لا يجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارون (¬1)، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة (¬2). وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - يوم خيبر -لما أعطاه الراية- وقال: «أنفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام» (¬3)، فهو عند أهل العلم على الاستحباب. وأما إذا قدرنا أن أناسًا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا أن الواجب دعوتهم أولاً قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه، صحيح البخاري (2541)، وصحيح مسلم (1730). (¬2) يقصد بهذا فتح مكة. (¬3) سبق تخريجه.

دماؤهم وأموالهم. وأما قولكم: من أجاب الدعوة وحقق التوحيد وتبرأ من الشرك هل تلزمه الهجرة وإن لم يكن له قدرة؟ فنقول: الهجرة تجب على كل مسلم لا يقدر على إظهار دينه ببلده إن كان قادرًا على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. وأما من لم يقدر على الهجرة فقد استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء: 98]. وأما السؤال الثالث وهو قولكم: قد ورد: «الإسلام يهدم ما قبله» (¬1)، وفي رواية: «يجب ما قبله» (¬2)، وفي حديث حجة الوداع: «ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» (¬3) إلخ ... وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرًا جهلاً منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أو لا؟ ¬

_ (¬1) سبق تخريجهم. (¬2) سبق تخريجهم. (¬3) سبق تخريجهم.

فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم (¬1)، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم. وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرًا فهو مسلم بل نقول: عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه. وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار، ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجب ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره، والله أعلم ... وأما قولكم وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر، وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد جاهلاً؟ فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه، إذا ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي حتمًا: ولكن لا نحكم بأنه مسلم. والدليل على ذلك: قوله بعد هذا: لا يقال إن لم يكن كافرًا فهو مسلم ... ولا أدل على ذلك من هدر دمه، إذا قوتل في حالة كفره.

فعل شيئًا من أفعال البر، وأفعال الخير أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام: «أسلمت على ما أسلفت من خير» (¬1). وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته: الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجه، وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة، وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج ليسقط الفرض عنه بيقين» (¬2). قلت: خلاصة زبدة النقول السابقة نعرضها من خلال كلام الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن، الذي نقلها بدوره عن الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، فقال: «ومسألتنا هذه وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي: أصل الأصول، وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 107 - 111).

قتل، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية كالصرف والعطف. وكيف يعرفون عباد القبور وهم ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمى الإسلام وهل يبقى مع الشرك عمل؟! والله تعالى يقول: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، «ومن يشرك بالله فقد حبط عمله» (¬1) إلى غير ذلك من الآيات. ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح، وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول؛ بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية، لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة ... ¬

_ (¬1) يلاحظ أن هذه ليست بآية، ولا جزء من آية؛ ولعل الشيخ قصد قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].

-إلى أن قال نقلاً عن أخيه العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن قوله- مع أن العلامة ابن القيم -رحمه الله- جزم بكفر المقلدين لمشايخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق، ومعرفته، وتأهلوا لذلك وأعرضوا، ولم يلتفتوا. ومن لم يتمكن، ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة، ممن لم تبلغه دعوة لرسول من الرسل، وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم، وسيأتيك كلامه وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله، وقاعدته الكبرى شهادة أن لا إله إلا الله ... -إلى أن قال في ص160 - وتفطن أيضًا فيما قال الشيخ عبد اللطيف فيما نقله عن ابن القيم: أن أقل أحوالهم «أي من فعلوا الشرك جاهلين» أن يكونوا مثل أهل الفترة الذين هلكوا قبل البعثة، ومن لم تبلغه دعوة نبي من الأنبياء إلى أن قال: وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم، وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله، وقاعدته الكبرى شهادة أن لا إله إلا الله؟ «ثم قال في ص 163 بعد أن سرد كلام العلامة ابن القيم في أهل الفترات

من كتابه: طريق الهجرتين السابق نقله». فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع فإنه -رحمه الله- لم يستثن إلا من عجز عن إدراك الحق، مع شدة طلبه، وإرادته له. فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام، وابن القيم، وأمثالهما من المحققين. وأما العراقي (¬1) وإخوانه المبطلون فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترسًا يدفعون به الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين، كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين. وإلى الله المصير، وهو الحاكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون» (¬2). ¬

_ (¬1) أحد أشد المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والمنافحين عن إسلام المشركين. (¬2) عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين الرسالة السادسة/ 149 - 163.

تفسير قوله تعالى:} إن جاء فاسق بنبأ فتبينوا {الآية.

فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها، ويزيد المؤمن يقينًا، ما جرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، والعلماء بعدهم -رحمهم الله- فيمن انتسب إلى الإسلام، كما ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث البراء - رضي الله عنه -، ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله (¬1)، ومثله همه بغزو بني المصطلق، لما قيل: إنهم منعوا الزكاة (32/ش). (32/ش) قال الله تعالى في شأن هذه القصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: «وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده، من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي، أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي - رضي الله عنه - يقول: «قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت يا رسول الله: أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول لم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات (¬1) قومه، فقال لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وقت لي وقتًا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -أي: خاف-، فرجع حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله: إن الحارث قد منعني الزكاة، وأراد قتلي، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعث البعث إلى الحارث - رضي الله عنه -، وأتى الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث، وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال - رضي الله عنه -: لا والذي بعث محمدًا بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على ¬

_ (¬1) أي: زعمائهم وسادتهم.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: «منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟»، قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشيت أن يكون كانت سخطة الله تعالى ورسوله. قال: فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6 - 8]- إلى قوله- {حَكِيمٌ} (¬1) (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (17731)، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات (11352)، وقال ابن تيمية: «هذه القصة معروفة من وجوه كثيرة» مجموع الفتاوى (7/ 248). (¬2) تفسير ابن كثير (7/ 370 - 371).

أمثلة على تكفير المشركين والمرتدين.

ومثل قتال الصديق وأصحابه رضي الله عنهم لمانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين، ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر - رضي الله عنه - على تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا، لما فهموا من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُم اتَّقُواْ وَآمَنُواْ} [المائدة: 93]. حل الخمر لبعض الخواص (¬1)، ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان - رضي الله عنه - على تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم (¬2). ومثل تحريق علي - رضي الله عنه - أصحابه لما غلوا فيه، ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه، مع أنه يدعي أنه يطالب بدم الحسين وأهل البيت (33/ش). (33/ش) المختار بن أبي عبيد الثقفي كان من أئمة الضلال، ورؤوس الإلحاد، وكان على رأي عبد الله بن سبأ، وادعى النبوة، وأنه يوحى إليه، قتله مصعب بن الزبير فأراح المسلمين من شره. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرج الإمام الطحاوي هذه القصة في كتابه شرح معاني الآثار، فقال رحمه الله تعالى: «حدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثني علي بن معبد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا عاصم بن بهدلة، قال: حدثني أبو وائل، قال: حدثني ابن مغير السعدي، قال: خرجت أطلب فرسًا لي ... =

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في ذكر المدعين للنبوة: «ثم كان أول من خرج منهم المختار بن أبي عبيد الثقفي غلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، فأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتبعهم فقتل كثيرًا ممن باشر ذلك، أو أعان عليه. فأحبه الناس، ثم إنه زين له الشيطان أن ادعى النبوة، وزعم أن جبريل يأتيه. فروى أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن رفاعة بن شداد قال: «كنت (¬1) ¬

_ (¬1) = بالسحر فمررت على مسجد من مساجد بني حنيفة فسمعتهم يشهدون: أن مسيلمة رسول الله!! قال: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فذكرت له أمرهم، فبعث الشرط فأخذوهم فجيء بهم إليه، فتابوا، ورجعوا عما قالوا، وقالوا: لا نعود فخلى سبيلهم. وقدم رجلاً منهم يقال له: عبد الله بن النواحة فضرب عنقه. فقال الناس: اخذ قومًا في أمر واحد، فخليت سبيل بعضهم، وقتلت بعضهم، فقال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا فجاء ابن النواحة، ورجل معه يقال له: حجر بن وثال وافدين من عند مسيلمة. فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتشهدان أني رسول الله؟» فقالا: أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله؟ فقال لهما: «آمنت بالله وبرسوله، لو كنت قاتلاً وفدًا لقتلتكما» فلذلك قتلت هذا. قال الإمام الطحاوي: فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قد قتل ابن النواحة، ولم يقبل توبته، إذ علم أن هكذا خلقه يظهر التوبة إذا ظفر به، ثم يعود إلى ما كان عليه إذا خلي» شرح معاني الآثار (4/ 204).

أبطن شيء بالمختار فدخلت عليه يومًا، فقال: دخلت وقد قام جبريل قبل من هذا الكرسي». وروى يعقوب بن سفيان بإسناد حسن، عن الشعبي، أن الأحنف بن قيس أراه كتاب المختار إليه يذكر أنه نبي؛ وروى أبو داود في السنن من طريق إبراهيم النخعي قال: قلت: لعبيدة بن عمرو أترى المختار منهم قال: أما إنه من الرؤوس. وقتل المختار سنة بضع وستين» (¬1). وقال أيضًا -رحمه الله-، بعد أن ذكر عبد الله بن سبأ الملعون: «وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولما غلب على الكوفة، وتتبع قتلة الحسن فقتلهم أحبته الشيعة، ثم فارقه أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب» (¬2). وقال ابن تيمية في شأنه: «وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سيكون في ثقيف كذاب ومبير» (¬3). فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان يظهر موالاة أهل البيت، والانتصار لهم، قتل عبيد الله بن زياد أمير العراق، الذي جهز السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنهما، ثم إنه أظهر الكذب، وادعى النبوة، وأن جبريل عليه السلام ينزل عليه، حتى قالوا لابن عمر وابن ¬

_ (¬1) فتح الباري (6/ 617). (¬2) فتح الباري (9/ 167). (¬3) صحيح مسلم (2545)، ومسند أحمد (25728).

عباس -رضي الله عنهم- قالا: لأحدهما: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه ينزل عليه. فقال: صدق. قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222]، وقالوا للآخر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال: صدق {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]» (¬1). وقال أيضًا في حقه: «والمختار كان كذابًا يدعي النبوة، وإتيان جبريل إليه، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس فإن هذا كفر، وإن كان لم يتب منه كان مرتدًا، والفتنة أعظم من القتل» (¬2). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في أثناء سرده للأدلة على كفر من عبد غير الله: «الدليل الرابع: ما وقع في زمن الصحابة، وهي قصة المختار بن أبي عبيد، وهو رجل من التابعين، مصاهر لعبد الله بن عمر، ومظهر للصلاح، فظهر في العراق، يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل ابن زياد ومال إليه من مال لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم، فاستولى على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة، والأئمة من أصحاب ابن مسعود، وكان هو الذي يصلي بالناس الجماعة والجمعة، لكن في آخر أمره، زعم أنه يوحى إليه. فسير عليه عبد الله بن الزبير جيشًا، فهزم جيشه، وقتلوه، وأمير الجيش ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 194). (¬2) منهاج السنة (2/ 70).

الجعد بن درهم

مصعب بن الزبير، وتحته امرأة أبوها أحد الصحابة، فدعاها مصعب إلى تكفيره فأبت، فكتب إلى أخيه عبد الله يستفتيه فيها، فكتب إليه إن لم تبرأ منه فاقتلها، فامتنعت فقتلها مصعب. وأجمع العلماء كلهم: على كفر المختار، مع إقامته شعائر الإسلام، لما جنى على النبوة؛ فإذا كان الصحابة قتلوا المرأة، التي هي من بنات الصحابة لما امتنعت من تكفيره، فكيف بمن لم يكفر البدو، مع إقراره بحالهم؟ فكيف بمن زعم أنهم هم أهل الإسلام، ومن دعاهم إلى الإسلام أنه هو الكافر؟! يا ربنا نسألك العفو والعافية» (¬1). (34/ش) الجعد بن درهم كان رأسًا من رؤوس الضلالة، زعم أن كلام الله مخلوق، وأول صفات الله على مقتضى هواه وعقله الفاسد حتى قتله خالد بن عبد الله القسري على زندقته. قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن الحافظ الذهبي -رحمهما الله تعالى-: «الجعد بن درهم عداده في التابعين، مبتدع ضال، زعم: أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر والقصة مشهورة. انتهى. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (9/ 391 - 392).

وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة منها: أنه جعل في قارورة ترابًا وماء فاستحال دودًا، وهوام فقال: أنا خلقت هذا لأني كنت سبب كونه. فبلغ ذلك جعفر بن محمد فقال: ليقل: كم هو، وكم الذكران منه والإناث إن كان خلقه، وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره، فبلغه ذلك فرجع» (¬1). وقال الإمام اللالكائي: أخبرنا محمد بن عمر بن محمد بن حميد، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الصمد، قال: ثنا محمد بن الوليد، قال: نا القاسم بن أبي سفيان، قال: ثنا عبد الصمد بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه، عن جده قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري يخطب يوم النحر، فقال: من كان منكم يريد أن يضحي فلينطلق فليضحي فبارك الله في أضحيته، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم: أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، سبحانه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه» (¬2). وقال ابن تيمية مبينًا أن موت الجعد والجهم وغيلان كان على الزندقة: «فهذا الذي أثنى على الحلاج ووافقه على اعتقاده ضال من وجوه: ¬

_ (¬1) لسان الميزان (2/ 105). (¬2) اعتقاد أهل السنة (2/ 319).

العبيديون من أشر أهل الأرض على مدار التاريخ

وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا، وهلم جرا إلى زمن بني عبيد القداح، الذين ملكوا المغرب ومصر والشام وغيرها، ومع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة، والجماعة، ونصب القضاة، والمفتين، لما أظهروا الأقوال والأفعال ما أظهروا، لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم، ولم يتوقفوا فيه، وهم في زمن ابن الجوزي، والموفق، وصنف ابن الجوزي كتابًا لما أخذت مصر منهم سماه: النصر على مصر (35/ش). أحدها: أنه لا يعرف فيمن قتل بسيف الشرع على الزندقة أنه قتل ظلمًا، وكان وليًا لله. فقد قتل الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وغيلان القدري، ومحمد بن سعيد المصلوب، وبشار بن برد الأعمى، والسهروردي، وأمثال هؤلاء كثير، ولم يقل أهل العلم والدين في هؤلاء: إنهم قتلوا ظلمًا، وإنهم كانوا من أولياء الله، فما بال الحلاج تفرد عن هؤلاء» (¬1). (35/ش) العبيديون، من أشر أهل الأرض على مدار تاريخ البشرية، كانوا يدعون العصمة في أئمتهم، وأنهم أصحاب العلم الباطن، الذي يراد ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 485).

منه: إبطال علم النبوات وكافة الرسالات. وكانوا يظهرون الإسلام، والتزام شرائعه، إلا أن علماء الأمة، وأئمتها، وعامتها قد شهدوا بأنهم كانوا كفارًا منافقين زنادقة، حتى أن قبورهم كانت تتميز عن قبور المسلمين. دخلوا على المسلمين من باب التشيع، وهو الباب الخبيث الذي يمر منه كل شر وبلية على الإسلام وأهله، على مر العصور والدهور. أطفأوا نور الإسلام في بلاد مصر لمدة مائتي عام، حتى صارت دار كفر وردة أعظم من دار مسيلمة الكذاب. أظهروا الرفض والكفر البواح في دورهم، ودلوا الكفار على عورات المسلمين، وهذا دومًا دأبهم مع أتباع الملة الحنيفية. وبالجملة فمن حكم بإيمانهم بعد معرفة حالهم فهو كافر مرتد مثلهم. سئل علم الأئمة، وعلامة الأمة، الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «مسألة: عن المعز معد بن تميم الذي بنى القاهرة والقصرين هل كان شريفًا فاطميًّا؟ وهل كان هو وأولاده معصومين؟ وأنهم أصحاب العلم الباطن؟ وإن كانوا ليسوا أشرافًا: فما الحجة على القول بذلك؟ وإن كانوا على خلاف الشريعة: فهل هم بغاة أم لا؟ وما حكم من نقل ذلك عنهم من العلماء المعتمدين الذين يحتج بقولهم؟ ولتبسطوا القول في ذلك.

الجواب: الحمد لله أما القول بأنه هو، أو أحد من أولاده، أو نحوهم كانوا معصومين من الذنوب والخطأ، كما يدعيه الرافضة في الاثنى عشرة فهذا القول شر من قول الرافضة بكثير. ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم بالإيمان والتقوى، أو بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وقال عن إخوة يوسف -عليه السلام- {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81]. وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم، ولا ثبوت إيمانهم، وتقواهم فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطن. إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة وأئمتها وجماهيرها، أنهم كانوا منافقين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.

فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نزاع مشهور، فالشاهد لهم بالإيمان، شاهد لهم بما لا يعلمه، إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم، مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم. وكذلك النسب قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب والعامة، وغيرهم. وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس، وأيامهم، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهم، كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه، فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم. وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين، حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي، وأبو شامة وغيرهم من أهل العلم بذلك، حتى صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية علي أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء. وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه المعتمد فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم

وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية، قال: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض، وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة، الذين لا يفضلون على علي غيره، بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله، يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة. فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة؟!! والرافضة الإمامية -مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة نعم- يعلمون أن مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين، ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شر من مقالة الغالية، الذين يعتقدون إلهية علي - رضي الله عنه -. وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف ... وأما سؤال القائل إنهم أصحاب العلم الباطن، فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل على أنهم زنادقة منافقون، لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر، فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل أكثر المشركين على أنه كفر أيضًا، فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر والنواهي والأخبار ...

وبالجملة فعلم الباطن الذي يدعون، مضمونه: الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل هو جامع لكل كفر، لكنهم فيه على درجات. فليسوا مستوين في الكفر إذ هو عندهم سبع طبقات، كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه ... ومن وصاياهم في الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم: أنهم يدخلون على المسلمين من باب التشيع، وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف وأضعفها عقلاً وعلمًا، وأبعدها عن دين الإسلام علمًا وعملاً. ولهذا دخلت الزنادقة على الإسلام من باب المتشيعة قديمًا وحديثًا، كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة، كما جرى لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما، بل كما جرى بتغير المسلمين مع النصارى وغيرهم. فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم نقلوه إلى الرفض والقدح في الصحابة، فإن رأوه قابلاً نقلوه إلى الطعن في علي وغيره، ثم نقلوه إلى القدح في نبينا وسائر الأنبياء. وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة، لما جاهد البساسري خارجًا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، واتفق مع المستنصر العبيدي، وذهب يحشر إلى العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق: شعار الرافضة؛ كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر.

وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم، كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف وأذنوا على المنار: حي على خير العمل، حتى جاء الترك السلاجقة، الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلى مصر، وكان من أواخرهم الشهيد نور الدين محمود، الذي فتح أكثر الشام واستنقذه من أيدي النصارى، ثم بعث عسكره إلى مصر لما استنجدوه على الإفرنج، وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين، الذي فتح مصر فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام. وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقتل. كما حكى ذلك إبراهيم بن سعد الحبال، صاحب عبد الغني بن سعيد، وامتنع من رواية الحديث خوفًا أن يقتلوه. وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينار وإردب، وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة، بل يتكلم فيها بالكفر الصريح. والمعز بن تميم بن معد أول من دخل القاهرة منهم في ذلك، فصنف كلامًا معروفًا عند أتباعه، وليس هذا المعز بن باديس فإن ذاك كان مسلمًا من أهل السنة، وكان رجلاً من ملوك المغرب، وهذا بعد ذاك بمدة. ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة، بقيت البلاد المصرية مدة

دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان، حتى قالت فيها العلماء: إنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب. والقرامطة الخارجين بأرض العراق، الذين كانوا سلفًا لهؤلاء القرامطة ذهبوا من العراق إلى المغرب، ثم جاؤوا من المغرب إلى مصر. فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة، وهم أعظم كفرًا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب، ونحوه من الكذابين. فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء. ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين، كما يميز بين قبور المسلمين والكفار فإن قبورهم موجهة إلى غير القبلة. ومن علم حوادث الإسلام، وما جرى فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين، علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذي بعث الله به رسوله أعظم من عداوة التتار، وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدًا، بل إبطال جميع المرسلين، وأنهم لا يقرون بما جاء به الرسول عن الله ولا من خبره ولا من أمره، وأن لهم قصدًا مؤكدًا في إبطال دعوته، وإفساد ملته، وقتل خاصته، وأتباع عترته. وأنهم في معاداة الإسلام بل وسائر الملل: أعظم من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل، كإثبات الصانع والرسل والشرائع واليوم الآخر، ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل،

كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150، 151]. «حكم من انضم إليهم جاهلاً بحالهم» وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم، ولا موافقًا لهم على ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين، الموالي لهم الناصر لهم، بمنزلة أتباع الاتحادية الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم، ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق. فمن كان مسلمًا في الباطن, وهو جاهل معظم لقول ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم. وكذا من كان معظمًا للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد. فإن نسبة هؤلاء إلى الجهمية، كنسبة أولئك إلى الرافضة والجهمية، ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير. ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية، وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي ولا جهمي صريح، ولكن لا يفهم كلامهم، ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين. وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا والله أعلم» (¬1). ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى (3/ 487 - 502).

وعندما كتب الإمام السيوطي -رحمه الله تعالى- كتابه «تاريخ الخلفاء» لم يذكر منهم العبيديين، اعتذر عن ذلك بذكر أسباب: منها: «أنهم غير قريشيين، وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام، وإلا فجدهم مجوسي. قال القاضي عبد الجبار البصري: اسم جد الخلفاء المصريين سعيد، وكان أبوه يهوديًا حدادًا نشابة. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: القداح جد عبيد الله الذي يسمي علماء النسب، وسماهم جهلة الناس الفاطميين. قال ابن خلكان: أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله جد خلفاء مصر، حتى إن العزيز بالله ابن المعز في أول ولايته صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد هناك ورقة فيها هذه الأبيات: إنما سمعنا نسبًا منكرا ... يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما تدعي صادقًا ... فاذكر أبًا بعد الأب السابع إن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع أو دع الأنساب مستورة ... وادخل بنا في نفسك الواسع فإن أنساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع وكتب العزيز إلى الأموي صاحب الأندلس كتابًا سبه فيه وهجاه، فكتب إليه الأموي: «أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك» فاشتد ذلك

على العزيز فأفحمه عن الجواب - يعني أنه دعي لا تعرف قبيلته. قال الذهبي: المحققون متفقون على أن عبيد الله المهدي ليس بعلوي، وما أحسن ما قال حفيده المعز صاحب القاهرة، وقد سأله ابن طباطبا العلوي عن نسبهم، فجذب سيفه من الغمد وقال: هذا نسبي، ونثر على الأمراء والحاضرين الذهب، وقال: هذا حسبي. ومنها: أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له، والخير منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: كان المهدي عبيد الله باطنيًا خبيثًا، حريصًا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه، أباحوا الخمر والفرج وأشاعوا الرفض. وقال الذهبي: كان القائم بن المهدي شرًا من أبيه زنديقًا ملعونًا، أظهر سب الأنبياء، وقال: وكان العبيديون على ملة الإسلام شرًا من التتر. وقال أبو الحسن القابسي: إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعباد أربعة آلاف رجل. ليردوهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فيا حبذا لو كان رافضيًا فقط، ولكنه زنديق.

وقال القاضي عياض: سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد -يعني خلفاء مصر- على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال: يختار القتل، ولا يعذر أحد في هذا الأمر. كان أول دخولهم قبل أن يعرف أمرهم، وأما بعد فقد وجب الفرار، فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته. لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز؛ وإنما أقام من أقام من الفقهاء على المباينة لهم، لئلا تخلو للمسلمين حدودهم فيفتنوهم عن دينهم. وقال يوسف الرعيني: أجمع العلماء بالقيروان على أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة، لما أظهروا من خلاف الشريعة. وقال ابن خلكان: وقد كانوا يدعون على المغيبات، أخبارهم في ذلك مشهورة، حتى إن العزيز صعد يومًا المنبر فرأى ورقة فيها مكتوب: بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة إن كنت أعطيت علم غيب ... بين لنا كاتب البطاقة وكتبت إليه امرأة قصة فيها: بالذي أعز اليهود بميشا، والنصارى بابن نسطور، وأذل المسلمين بك إلا نظرت في أمري، وكان ميشا اليهودي عاملاً بالشام، وابن نسطور النصراني بمصر.

ومنها: أن مبايعتهم صدرت، والإمام العباسي قائم موجود سابق البيعة، فلا تصح إذ لا تصح البيعة لإمامين في وقت واحد، والصحيح المتقدم. ومنها: أن الحديث ورد بأن هذا الأمر إذا وصل إلى بني العباس لا يخرج عنهم حتى يسلموه إلى عيسى بن مريم، أو المهدي، فعلم أن من تسمى بالخلافة، مع قيامهم خارج باغ. فلهذه الأمور لم أذكر أحدًا من العبيديين، ولا غيرهم من الخوارج وإنما ذكرت الخليفة المتفق على صحة إمامته، وعقد بيعته» (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ الخلفاء/ 11 - 14.

هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين

ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين: أن أحدًا أنكر شيئًا من ذلك، أو استشكله لأجل ادعائهم الملة، أو لأجل قوة لا إله إلا الله، أو لأجل شيء من أركان الإسلام إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك، ولكن من فعله، أو حسنه، أو كان مع أهله، أو ذم التوحيد، أو حارب أهله لأجله، أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول: لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام، هذا ويستدلون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها الإسلام، هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم، أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه، ولكن الأمر كما قال اليمني (¬1) في قصيدته. أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوي فلسًا إن رجعت إلى النقد ولنختم الكلام في هذا النوع بما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال: باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان ثم ذكر بإسناده: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» (¬2) وذو الخلصة صنم لدوس يعبدونه فقال - صلى الله عليه وسلم - لجرير بن عبد الله: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟»، فركب إليه بمن معه فأحرقه وهدمه ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره قال: «فبرك ¬

_ (¬1) هو الإمام محمد بن الأمير الصنعاني. (¬2) متفق عليه، صحيح البخاري (7116)، وصحيح مسلم (2476).

كيف طرأ الشرك على الموحدين؟

على خيل أحمس ورجالها خمسًا» (¬1). وعادة البخاري -رحمه الله- إذا لم يكن الحديث على شرطه ذكره في الترجمة، ثم أتى بما يدل على معناه مما هو على شرطه، ولفظ الترجمة وهو قوله: «يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان»، لفظ حديث (¬2) أخرجه غيره من الأئمة، والله سبحانه وتعالى أعلم (36/ش). (36/ش) من المهم والمهم جدًا أن يتعلم المؤمن كيف تغير الزمان، وتبدل الدين، وطرأ الشرك على عباد الله الموحدين. فأوائل هذه الأمة لما قاموا بالتوحيد الصافي -من دخن الشرك- قولاً وعملاً واعتقادًا خرجوا وأخرجوا الناس من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية. ثم بدأ العلم في الذهاب بقبض العلماء، وأخذ الجهل في الانتشار، وقل الناصحون، وتعاون شياطين الإنس والجن على إفساد الناس، فعملوا على فتح باب الشرك على مصراعيه، عن طريق فتح الباب لذرائعه وأسبابه ووسائله مثل: بناء المشاهد على القبور، والصلاة في المساجد المبنية عليها، والتوجه إلى الله بالأموات، وكثرة الحلف بغير الله، واتخذت التولة والتمائم، وغلب على الناس الشرك في الألفاظ والمقاصد والنيات، وقل الأمر ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (2857)، وصحيح مسلم (2476). (¬2) بحثت عنه فلم أجده، والحافظ ابن حجر في الفتح لم يذكر حديثًا بهذا اللفظ تحت ترجمة الباب، انظر فتح الباري (13/ 76).

بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثر ثم غلب التشبه بالمشركين، والتسني بسنة أهل الكتاب في كثير من المعتقدات والأعمال والعادات، وموافقتهم في الأعياد، وعادت ثم سادت البدع والمحدثات، ومعلوم أن البدع بريد الكفر والمروق من الملة. فتغير بذلك الزمان وعادت عبادة الأوثان والأنداد، وغلب على العامة عبادة الأموات، والتحاكم إلى الطواغيت، حتى صارت فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرق قصدها، نشأ فيه الصغير، وهرم عليها الكبير حتى ظنوها سنة، فإذا جاء من يريد تغييرها قالوا: أراد تغيير السنة!!! إلا أن الله قد قيض لدينه من يحفظه، وينصره، ويحافظ على شعائره، ويقوم على ثغوره، ويجاهد أعداءه بماله ونفسه وقلبه وبنانه .. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (4291)، والحاكم في المستدرك (8593)، وصححه وسكت عنه الذهبي، والطبراني في الأوسط (6527)، قال العجلوني: سند الطبراني رجاله ثقات اهـ، كشف الخفاء (1/ 281)، وصححه الألباني في السلسلة، وقال أشار الإمام أحمد إلى تصحيحه. السلسلة الصحيحة (599).

المسلمين يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة» (¬2). قال الإمام الرباني ابن قيم الجوزية في العبر المستفادة من هدم وثن ذي الخلصة: «ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا؛ فإنها شعائر الكفر والشرك وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركًا عندها وبها والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وغلب الشرك على أكثر ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1037)، ومسند أحمد (16331). (¬2) صحيح مسلم (1923)، ومسند أحمد (14193).

النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين» (¬1). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (3/ 443).

باب في وجوب عداوة أعداء الله من الكفار والمرتدين والمنافقين

ولنذكر من كلام الله تعالى وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام أئمة العلم جملاً في جهاد القلب واللسان ومعاداة أعداء الله وموالاة أوليائه، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول: باب في وجوب عداوة أعداء الله من الكفار والمرتدين والمنافقين وقول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]. إلى قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] (37/ش). ـــــــــــــــــــــــــــــــ (37/ش) هذا من الفقه الدقيق لهذا الإمام العظيم، فبعد بيانه للتوحيد ووجوب الالتزام به، والشرك وحرمة الوقوع فيه، بدأ الشيخ يعرض للقضية الخطيرة الحية دائمًا، القضية التي ينقسم بها الناس إلى حزبين لا ثالث لهما، حزب الله، وحزب الشيطان ...

طبيعة العلاقة بين أولياء الله وأعدائه

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ (الولاء والبراء) أبى الله -جل في علاه- للعصبة المؤمنة إلا أن يكونوا حربًا لأعدائه وسلمًا لأوليائه. فكل عبد التزم بالتوحيد قولاً وعملاً واعتقادًا فلا بد أن يأتي بلازمه -إن كان صادقًا- من موالاة المسلمين والبراءة من الشرك وأهله قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. فهذه الآية وفي معناها الكثير الكثير -قد فصلت وبينت حدود العلاقة بين المسلمين والكافرين، ونصت على أن الملة التي توارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض، والتي جعلها إمام الحنفاء -إبراهيم الخليل- كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين، هذه الملة تتشخص في حتمية البراءة من الشرك وأهله- ولو كانوا من أقرب الناس نسبًا وصهرًا- حتى ينخلعوا من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النفاق إلى الإخلاص، ومن التولي إلى الطاعة ... فعندئذ تنقلب العداوة إلى المحبة، والبغضاء إلى المودة، والبراءة إلى النصرة. قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: «وقطع -الله سبحانه- الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى، وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين، فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم ليكون المؤمن لذلك من الحذرين، فقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53]، ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وأنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 1، 2] وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء، ومن معه من المؤمنين، إذ تبرأوا ممن ليس على دينهم امتثالاً لأمر الله، وإيثارًا لمرضاته

حكم موالاة الكفار

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وما عنده. فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين، وحذره نفسه أشد التحذير. فقال: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]» (¬1). وقال علامة الأمة ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مبينًا أن موالاة الكفار تناقض الإيمان، وتوجب الردة عن الإسلام: «فصل في الولاية والعداوة فإن المؤمنين أولياء الله وبعضهم أولياء بعض؛ والكفار أعداء الله وأعداء المؤمنين، وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين. فأما موالاة المؤمنين فكثيرة، كقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا} [المائدة: 55] إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (1/ 487 - 489).

..................................................................... ــــــــــــــــــــــــــــــــــ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] إلى قوله: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63] وقال: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة] إلى آخر السورة، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]، وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]، وقال: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4]، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا

..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ خَاسِرِينَ} [المائدة: 51 - 53]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] إلى تمام الكلام، وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 78 - 81]، فذم من يتولى الكفار من أهل الكتاب قبلنا، وبين أن ذلك ينافي الإيمان: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} إلى قوله: {سَبِيلاً} [النساء: 138 - 141]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 144 - 145]. وقال عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، كما قال عن الكفار المنافقين من أهل الكتاب: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}

موالاة الكفار سبب للارتداد على الأدبار

.................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ [البقرة: 76] وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} [المجادلة: 14] نزلت في تولي اليهود من المنافقين، وقال: {مَا هُمْ مِنْكُمْ} ولا من اليهود، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} إلى قوله: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [الممتحنة] وقال: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر: 11]، إلى تمام القصة وقال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 26]. وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم؛ ولهذا ذكر في «سورة المائدة» أئمة المرتدين عقب النهي عن موالاة الكفار» (¬1). وقال الإمام ابن قيم الجوزية مبينًا حرمة الشرك والأحكام المترتبة عليها، والتي من أعظمها قطع موالاتهم: «والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى، وأنكرها له، وأشدها مقتًا لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 348) وما بعدها.

موالاة المسلمين لا تصلح إلا بالبراءة من المشركين

............................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، منعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ولرسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدًا. وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الشرك، فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده» (¬1). ... «موالاة المسلمين لا تصلح إلا بالبراءة من المشركين» قد يظن بعض السذج وضعاف النفوس: أن موالاة المسلمين تكفيهم في هذا المقام، دون القيام بحق الله في وجوب البراءة من المشركين، وآلهتهم. ولو فقهوا لعلموا: أن الموالاة لا تصلح إلا بالمعاداة، وأن هذا هو لازم الاستمساك بالملة الحنيفية، التي عليها الموحدون من كافة الأمم. ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان: (1/ 60).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: «فلا تصلح الموالاة إلا بالمعاداة، كما قال تعالى: عن إمام الحنفاء المحبين أنه قال لقومه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] فلم تصلح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة. فإن ولاية الله لا تصح إلا بالبراءة من كل معبود سواه، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26 - 28] أي: جعل هذه الموالاة لله والبراءة من كل معبود سواه كلمته باقية في عقبه، يتوارثها الأنبياء، وأتباعهم بعضهم عن بعض، وهي كلمة لا إله إلا الله، وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة، وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد، وهي محض حق الله على جميع العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم، والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشور الذي لا تدخل الجنة إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ يتعلق بسببه، وهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام، وبها ينقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر من دار السلام، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسنة» (¬1). وقال علامة الأمة الإمام ابن تيمية في بيان أن الولاء لله لا يكون إلا بالبراءة من أعدائه: «وأما موادة عدوه فإنها تنافي المحبة. قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، فأخبر: أن المؤمن الذي لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما في الحديث المتفق عليه: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬2) لا تجد موادًا لمن حاد الله ورسوله، فإن هذا جمع بين الضدين لا يجتمعان، ومحبوب الله ومحبوب معادية لا يجتمعان. فالمحب له لو كان موادًا لمحاده لكان محبًا لاجتماع مراد المتحادّين المتعاديين وذلك ممتنع، ولهذا لم تصلح هذه الحالة إلا لله ورسوله، فإن يجب على العبد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يكون مؤمنًا إلا بذلك، ولا تكون هذه المحبة مع محبة من يحادّ الله ورسوله ويعاديه أبدًا، ¬

_ (¬1) الجواب الكافي/ 138. (¬2) متفق عليه، صحيح البخاري (15)، وصحيح مسلم (44).

موالاة المسلمين والبراءة من المشركين أصل من أصول الإسلام بالإجماع

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ فلا ولاء لله إلا بالبراءة من عدو الله ورسوله» (¬1). «موالاة المسلمين، والبراءة من المشركين أصل من أصول الإسلام بالإجماع» قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمهما الله تعالى-: «قال شيخنا -رحمه الله تعالى- إمام الدعوة الإسلامية، والداعي إلى الملة الحنيفية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله وحده، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. والنهي عن الشرك بالله في عبادته، والتغليظ فيه، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله» (¬2). وقال أيضًا -رحمه الله-: «أجمع العلماء سلفًا وخلفًا، من الصحابة والتابعين، والأئمة، وجميع أهل السنة: أن المرء لا يكون مسلمًا إلا بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة والقدرة، وإخلاص الأعمال كلها لله» (¬3). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: «قال شيخ الإسلام: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. ¬

_ (¬1) قاعدة في المحبة/89 - 90. (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (1/ 434 - 435). (¬3) الدرر السنية (11/ 545).

كيفية النجاة من الشرك الأكبر

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ فتأمل: أن الإسلام لا يصح إلى بمعاداة أهل الشرك، وإن لم يعادهم فهو منهم، ولو لم يفعله» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله تعالى-: «والقرآن من أوله إلى آخره، يبين لكم كلمة الإخلاص: «لا إله إلا الله»، ولا يصح لأحد إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة، من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له؛ والموالاة في ذلك» (¬2). وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-: «قال الإمام ابن القيم: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقت المشركين إلى الله. فانظر رحمك الله إلى قول الإمام يتبين لك: أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم، وإن لم يفعله والله أعلم» (¬3). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمهما الله تعالى-: «والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، ولكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 107). (¬2) الدرر السنية (2/ 270). (¬3) عقيدة الموحدين، رسالة الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة 234.

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكن متبعًا لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركًا من التوحيد أصولاً وشعبًا، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه، وكل هذا يؤخذ من شهادة: لا إله إلا الله» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمهما الله تعالى-: «وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «وكفر بما يعبد من دون الله» (¬2)، فهذا شرط عظيم لا يصح قول: لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من قال: لا إله إلا الله معصوم الدم والمال، لأن هذا هو معنى: لا إله إلا الله، فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دل عليه، من ترك الشرك، والبراءة منه وممن فعله. فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى من فعل ذلك صار مسلمًا معصوم الدم والمال، وهذا معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]» (¬3). ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 396). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) فتاوى الأئمة النجدية (1/ 436 - 437).

حكم معاداة المشركين

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد -رحمهم الله تعالى- في أثناء جواب لهما: «المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم، ولكن لا أقدر أن أكفر أهل لا إله إلا الله، ولو لم يعرفوا معناها، ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها. الجواب: أن الرجل لا يكون مسلمًا إلا إذا عرف التوحيد، ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به، وآمن به وبما جاء به. فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال: لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلمًان بل هو ممن قال الله فيهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151]» (¬1). وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمهم الله تعالى-: عمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم؟ ¬

_ (¬1) الدرر السنية (10/ 139 - 140)

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ فأجاب: هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم لا يقال له: عرف التوحيد وعمل به، والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم. وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة، غير مسألة وجود العداوة، فالأول يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، والثاني لا بد منه لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن، فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله. فإذا كان أصل العداوة في قلبه، فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير» (¬1). وقال علامة الأمة، الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مبينًا أن الإيمان لا يصح إلا بالبراءة من الشرك، وأن أهل الملل متفقون على ذلك: «فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنًا حتى يتبرأ من عبادة ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 359).

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ الأصنام، وكل معبود سوى الله. كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]» (¬1). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: «وأنت يا من مَنَّ الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئًا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل: لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الحق، لكن لا أتعرض اللات، والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله ما عليَّ منهم، لم يصح إسلامه» (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 128). (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 57).

موالاة المشركين ردة عن الدين، ومروق من ملة المسلمين

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ «موالاة المشركين ردة عن الدين، ومروق من ملة المسلمين» إن الأدلة على كفر المسلم إذا والى المشركين، ولو لم يشرك كثيرة عديدة من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بفهم سلف الأمة وأئمتها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51 - 52]. وهل هناك في الدلالة أوضح من هذه الآية على كفر من والى المشركين، ولو كان بسبب متاع زائل، أو دنيا فانية، أو خوف دوائر الدهر .. وأما الذين حصروا مناط الموالاة المكفر في: موالاة المشركين من أجل دينهم وحبًا له فقط، فقد قالوا منكرًا من القول وزورًا. وهذا القول لو تصور على حقيقته لأغنى ذلك عن إبطاله ورده، إلا أننا بسبب غربة الدين، وقلة الناصحين، وندرة العلماء الربانيين نجد أنفسنا مضطرين للرد عليه، وتفنيد باطله، فأقول مستعينًا بالخبير العليم: هذا القول ألغى تأثير موالاة المشركين في الكفر والردة عن الدين، فالعبد إذا والى المشركين، ولم يكن يعتقد دينهم في الباطن أو يحبه لم يكن كافرًا عند أصحاب

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ هذا القول ولو لم يوالهم، واعتقد دينهم في الباطن يكون كافرًا، وعليه أصبحت موالاة المشركين لا تأثير لها وجودًا وعدمًا في الكفر والردة عن الملة. ويلزم من هذا: اتهام القرآن بأنه قد ربط الكفر في الموالاة بوصف غير مؤثر فيها، وغفل عن ذكر الوصف المؤثر فيه. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 5]، وقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 6]، وقال: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، وقال: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] .. ولو طرد أصحاب هذا القول أصلهم هذا في جميع المكفرات لكانوا موافقين لغلاة المرجئة، الذين لا يكفرون إلا باعتقاد الكفر فقط، ولو لم يلتزموا هذا، لوقعوا في التناقض الدال على الإفك والبطلان. وبعض الذين ينادون بهذا القول، سولت لهم أنفسهم أنهم يستطيعون أن يبرهنوا على أنه لا يوجد ناقص للإسلام عنوانه: موالاة المشركين، وضربوا بنصوص القرآن والسنة وكلام علماء الأمة عرض الحائط، ولم يبالوا بمخالفتهم لأمر معلوم بالاضطرار من الدين، ومن حوادث وأيام تاريخ الأمة. كيف لا، وقد ملأ علماء

موالاة المشركين من أجل الدنيا كفر مخرج من الملة

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ الأمة مصنفاتهم في التوحيد والتفسير والعقيدة والفقه والحديث والفتاوى ... بردة من والى المشركين، أو كان معهم في حربهم على المسلمين برأي أو مال، ولو كان من أجل متاع زائل أو دنيا فانية. (موالاة المشركين من أجل الدنيا كفر مخرج من الملة) وسوف تأتيك أخي القارئ -بمشيئة الله وعونه- نصوص العلماء متضافرة على ردة من عاون المشركين المحاربين على المسلمين بأي نوع من أنواع المساعدة، ولو كان معتقدًا لدين الإسلام في الباطن، ولم يقع في الشرك في الظاهر، إلا أنه قام بموالاة الكفار على المسلمين قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51 - 52]. قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- مبينًا ردة من والى الكفار على المسلمين، ولو كان بسبب الدنيا، وخوف الدوائر: «إن الله -تعالى ذكره- نهى المؤمنين جميعًا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرهم، وأخبر: أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان.

تفسير قوله تعالى:} نخشى أن تصيبنا دائرة {.

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك، وذلك قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}. الآية. وأما قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فإنه عني بذلك: أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم، وأن النصارى كذلك بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم، معرفًا بذلك عباده المؤمنين: أن من كان لهم أو لبعضهم وليًا، فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حرب، فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض ولليهودي والنصراني حربًا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب، ومنهم البراءة، وأبان قطع ولايتهم. تأويل الكلام إذا: فترى يا محمد الذين في قلوبهم مرض، وإيمان بنبوتك، وتصديق ما جئتهم به من عند ربك {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} يعني: في اليهود والنصارى، ويعني بمسارعتهم فيهم: مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}، يقول هؤلاء المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى خوفًا من دائرة تدور علينا من عدونا، ويعني بالدائرة الدولة، كما قال الراجز: «ترد عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا»

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: أن تدول للدهر دولة فنحتاج إلى نصرتهم إيانا فنحن نواليهم لذلك. وقد يحتمل أن يكون الأمر الذي وعد الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي به هو الجزية؛ ويحتمل أن يكون غيرها. غير أنه أي: ذلك كان فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله ومما يسوء المنافقين ولا يسرهم، وذلك أن الله -تعالى ذكره- قد أخبر عنهم أن ذلك الأمر إذا جاء أصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين» (¬1). وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: «ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذي هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ثم قال: -أي ابن أبي حاتم- حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عثمان بن عمر، أنبأنا ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (4/ 615).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك وريب ونفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: يبادرون إلى موالاتهم في الباطن والظاهر. {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك» (¬1). وقال الإمام السيوطي -رحمه الله تعالى- في سبب نزول الآيات: «أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: «لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وكان أحد بني عوف من الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي بن سلول، فخلعهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. وفيه، وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أسلم عبد الله بن أبي بن سلول ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم (3/ 132).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال: إن بيني وبين قريظة والنضير حلفًا، وإني أخاف الدوائر فارتد كافرًا، وقال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله ورسوله فنزلت» (¬1). وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: «قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي: يعضدهم على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} بين تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي، ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة» (¬2). وقال الإمام الشوكاني مبينًا أن حكم هذه الآية عام لجميع المسلمين، ومطالب به كل المؤمنين: «قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا}، الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة، وقيل المراد بهم المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه، وقد كانوا يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك. والأولى أن يكون خطابًا لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا فقط، فيدخل المسلم والمنافق، ويؤيد هذا قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} والاعتبار بعموم اللفظ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد. والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في ¬

_ (¬1) الدر المنثور (3/ 98). (¬2) تفسير القرطبي (6/ 217).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ المصادقة والمعاشرة والمناصرة ... {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ}، أي: فإنه من جملهم وفي عدادهم، وهو وعيد شديد، فإن المعصية الموجبة للكفر، هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تعليل للجملة التي قبلها، أي: أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر، كمن يوالي الكافرين .. وأخرج عبد بن حميد عن حذيفة قال: ليتق أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا، وهو لا يشعر. وتلا: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}» (¬1). وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى مبينًا عموم حكم هذه الآية لجميع المؤمنين: «اختلفوا في نزول هذه الآية، وإن كان حكمها عامًا لجميع المؤمنين ... قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: نفاق يعني عبد الله بن أبي، وأصحابه من المنافقين، الذي يوالون اليهود: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} في معونتهم وموالاتهم {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} دولة يعني: أن يدول الدهر دولة فنحتاج إلى نصرهم إيانا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا، وقيل: نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه. ¬

_ (¬1) فتح القدير (2/ 73 - 74).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ من جذب وقحط فلا يعطونا الميرة» (¬1). وقال الإمام ابن تيمية مبينًا أن موالاة الكفار المنهي عنها في هذه الآيات تقع غالبًا بسبب الدنيا، دون أن يمس ذلك اعتقاد الموالي لهم بصحة الإسلام، قال هذا في معرض الرد على الجهمية: «ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلاً بالحق حتى قالوا: هو لا يعرف أن الله موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين، ونحن والناس كلهم يرون خلقًا من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان: إما معاداة أهلهم، وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا أن لا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق ودينهم باطل. وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق، وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله، لظنه أن ذلك يجلب له منفعة، ويدفع عنه مضرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * ¬

_ (¬1) تفسير البغوي (1/ 67).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 51 - 53]. والمفسرون متفقون: على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام، وفي قلبه مرض خاف أن يغلب أهل الإسلام، فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم: أن محمدًا كاذب واليهود والنصارى صادقون» (¬1). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- مبينًا كفر المسلم إذا والى المشرك، ولو لم يشرك: «اعلموا: أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح، إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين، ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر، من كلام الله -عز وجل-، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام أهل العلم كلهم» (¬2). وقال أيضًا في نواقض الإسلام العشرة: «الناقض الثامن مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}» (¬3). وتحدث الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن نواقض الإسلام فذكر منها: ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 111 - 112). (¬2) الدرر السنية (10/ 8 - 9). (¬3) عقيدة الموحدين/ 457.

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ الأمر الثاني من النواقض: انشراح الصدر لمن أشرك بالله وموادة أعداء الله، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 107]، فمن فعل ذلك، فقد أبطل توحيده ولو لم يفعل الشرك بنفسه، قال الله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. قال شيخ الإسلام: أخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا، فمن واده فليس بمؤمن، قال: والمشابهة مظنة الموادة فتكون محرمة. الأمر الثالث: موالاة المشرك، والركون إليه، ونصرته، وإعانته باليد، أو اللسان، والمال، كما قال تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 86]، وقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]، وقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] وهذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين في هذه الأمة، فانظر أيها السامع أين تقع من هذا الخطاب وحكم هذه الآيات» (¬1). وقال الشيخ حمد بن عتيق: «قد دل القرآن والسنة على أن المسلم إذا ¬

_ (¬1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 441 - 443).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن دينه. فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]، مع قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وأمعن النظر في قوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وأدلة هذا كثيرة» (¬1). لا شك أن التوحيد مناقض ومضاد للشرك من كل وجه، وهكذا ينبغي أن تكون العلاقة بين أهل التوحيد وأهل الكفر المحاربين، وأن يكون الفرق بين المعسكرين كالفرق بين معتقد كل منهما. فالمسلم مطالب دومًا بتميزه عن المشرك، وأن يكون هذا التميز تحت راية الله وحدها، داخل معسكر العصبة المؤمنة الموحدة لربها بالألوهية والربوبية، والمفردة له بالطاعة والعبادة. ولما كان ذلك كذلك، صار لا فرق في حس المؤمن، في تحقيق البراءة من المشركين، من أن يكونوا من ذوي قربى، أم غير ذلك. ومن ثم كان مستحيلاً على المؤمن بالله واليوم الآخر أن يواد أعداء الله، ولو كانوا أقرب الناس إليه. لأن حب الله لا يجتمع مع حب أعدائه في قلب ¬

_ (¬1) مجموعة الرسائل والمسائل (1/ 745 - 746).

تفسير قوله تعالى:} لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر {الآية

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ واحد، بل متى حل أحدهما طرد الآخر منه. قال الله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. قال الإمام البغوي -رحمه الله تعالى-: «قوله عز وجل: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين، وأن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان من عشيرته» (¬1). وقال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مبينًا أن موالاة المشركين من أضداد الإيمان، وأنها تعود عليه بالفساد والبطلان: «قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، بين سبحانه أن الإيمان -له لوازم وله أضداد موجودة- يستلزم ثبوت لوازمه وانتفاء أضداده ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله» (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير البغوي (8/ 62). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 106).

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أيضًا في ذات المعنى: «ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة، كان يستدل بها عليها: كما في قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} فأخبر أن من كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر لا يوجدون موادين لأعداء الله وسله، بل نفس الإيمان ينافي مودتهم، فإذا حصلت الموادة دل ذلك على خلل الإيمان. وكذلك قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]» (¬1). ونختم الكلام على هذه الآية بكلام صاحب الظلال، الشهيد الحي -نحسبه والله حسيبه- الرجل الذي أرعب الله به الطواغيت وأتباعهم حيًّا وميتًا: «وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. إنها المفاصلة الكاملة بين حزب لله وحزب الشيطان، والانحياز النهائي للصف ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 160).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ المتميز، والتجرد من كل عائق وكل جاذب، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد. {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين: ودًا لله ورسوله وودًا لأعداء الله ورسوله! فإما إيمان أو لا إيمان. أما همًا معًا فلا يجتمعان. {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ... فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان: إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين: لواء الله ولواء الشيطان. والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها، حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان، فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر، التي لا تربط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد. ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر، وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم. متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة. وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم

تفسير قوله تعالى:} قد كانت لكم أسوة حسنة {الآية.

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ في ميزان الله» (¬1). (طبيعة العلاقة بين المسلمين والكفار) نعود فنؤكد على أن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكفار والمحاربين: هي إظهار العداوة والبغضاء والبراءة، حتى يتبرأوا من كفرهم وينخلعوا من شركهم إلى الملة الحنيفية، ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، فهذا حكم الله الذي تعبد به المؤمنين إلى يوم القيامة. قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- فيها: «يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين، وعداوتهم، ومجانبتهم، والتبري منهم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، أي: وأتباعه الذي آمنوا معه. {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ} أي: تبرأنا منكم، {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} أي: بدينكم، وطريقكم، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} يعني: وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم، فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم، {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي: إلى أن توحدوا ¬

_ (¬1) تفسير الظلال (7/ 155).

حكم الإكراه على موالاة المشركين وحدوده.

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد» (¬1). وقال الإمام أبو بكر الجصاص -رحمه الله تعالى-: «قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية، وقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قيل فيه: الأنبياء، وقيل: الذين آمنوا معه فأمر الله الناس بالتأسي بهم في إظهار معاداة الكفار، وقطع الموالاة بيننا وبينهم بقوله: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، فهذا حكم قد تعبد المؤمنون به» (¬2). «حكم الإكراه على موالاة المشركين وحدوده» إذا خاف المسلم من شر الكفار وكانوا غالبين ظاهرين، فرخص له أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه، وبجوارحه لا بقلبه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا أو مالاً حرامًا، ومن غير أن يظهر الكفار على عورات المسلمين، فإن فعل غير ذلك، ووالى الكفار من دون المؤمنين اختيارًا فقد انقطعت كل الروابط والصلات بينه وبين الله لارتداده عن دينه، ولنصرته للكفار على المؤمنين. قال الله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم (8/ 87). (¬2) أحكام القرآن (9/ 51).

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ثم توعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: من يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله. وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا تلعنهم) (¬1). وقال الثوري: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء، والضحاك، والربيع بن أنس، ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]» (¬2). وقال الإمام البغوي مبينًا حد التقية، والمحاذير التي ينبغي عدم الوقوع فيها عند الاضطرار إليها: «قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عورة المسلمين. {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي ¬

_ (¬1) ذكره البخاري معلقًا في صحيحه في كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس. (¬2) تفسير القرآن العظيم (2/ 30).

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ شَيْءٍ} أي: ليس من دين الله في شيء، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} يعني: إلا أن تخافوا منهم مخافة ... ومعنى الآية: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا أو مالاً حرامًا، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} [النحل: 106] ثم هذا رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم، وأنكر قوم التقية اليوم. قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في بدو الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، وأما اليوم فقد أعز الله الإسلام، فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم؛ وقال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: إن الحسن كان يقول لكم: التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان، فقال سعيد: ليس في الإسلام تقية، إنما التقية في أهل الحرب {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار، وارتكاب المنهي عنه، ومخالفة المأمور» (¬1). وقال الإمام الشنقيطي -رحمه الله تعالى- مبينًا حدود التقية، وكيفية استخدامها: «قوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ ¬

_ (¬1) تفسير معالم التنزيل (2/ 25).

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة. ومن يأتي الأمور على اضطرار ... فليس كمثل آتيها اختيارًا ويفهم من ظواهر هذه الأبيات: أن من تولى الكفار عمدًا اختيارًا، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- في ذات المعنى السابق: «وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة، والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب؛ لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، فمن والى الكافرين من دون المؤمنين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب ¬

_ (¬1) أضواء البيان (1/ 437).

رسالة للعلامة سليمان في حكم من والى المشركين خوف الدوائر

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ الكافرين، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار، وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم والركون إليهم، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين، قال الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: تخافوهم على أنفسكم، فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان، وإظهار ما به تحصل التقية» (¬1). وقال الإمام أبو بكر الجصاص في باين حدود العلاقة بين المؤمنين والكافرين، ومتى تجوز التقية «قال ابن عباس رضي الله عنهما: «نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يلاطفوا الكفار -ثم أخذ في ذكر آيات وأحاديث دالة على حرمة موالاة المشركين حتى قال- فهذه الآي والآثار دالة: على أنه ينبغي أن يعامل الكفار بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة، ما لم تكن حالا يخاف فيها على تلف نفسه، أو تلف بعض أعضائه، أو ضررًا كبيرًا يلحقه في نفسه، فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد ... وقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} يعني: أن تخافوا تلف النفس وبعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها» (¬2). وهذا الإمام العلامة سليمان بن عبد الله يحشد عددًا من الأدلة الصحيحة ¬

_ (¬1) تفسير السعدي (1/ 127). (¬2) أحكام القرآن (3/ 388).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ الصريحة في كفر من والى المشركين خوف الدوائر، أو لأجل دنيا فانية، وبين -رحمه الله- ردة كل من وقع في هذا الأمر الشنيع، ولو لم يتغير اعتقاده في الباطن بصحة الإسلام وببطلان كل ما دونه من الأديان، قال الشيخ سليمان ابن عبد الله -رحمهما الله تعالى-: «بسم الله الرحمن الرحيم اعلم رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفًا منهم، ومدارة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم؛ وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين، هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم، وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها؛ بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله. فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان. وقد أجمع العلماء: على أن من تكلم الكفر هازلاً أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفًا وطمعًا في الدنيا، وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك بعون الله وتأييده. الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى، وكذلك المشركين لا يرضون عن

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يتبع ملتهم، ويشهد أنهم على حق، ثم قال: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120] وفي الآية الأخرى: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لو يوافقهم على دينهم ظاهرًا من غير عقيدة القلب، لكن خوفًا من شرهم ومداهنة، كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب، أنهم على حق وهدى مستقيم، فإنهم لا يرضون إلا بذلك. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] فأخبر تعالى أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، ولم يرخص في موافقتهم خوفًا على النفس والمال والحرمة. بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم، أنه مرتد، فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها، فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون. الدليل الثالث: قوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ

تفسير قوله تعالى:} إلا أن تتقوا منهم تقاة {الآية.

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحابًا من دون المؤمنين، وإن كانوا خائفين منهم وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء، أي: لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} وهو: أن يكون الإنسان مقهورًا معهم لا يقدر على عداوتهم، فيظهر لهم المعاشرة وقلبه مطمئن بالبغضاء والعداوة، وانتظار زوال المانع، فإذا زال رجع إلى العداوة والبغضاء، فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من غير عذر، إلا استحباب الدنيا على الآخرة، والخوف من المشركين، وعدم الخوف من الله؟ فما جعل الله الخوف منهم عذرًا، بل قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. الدليل الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، فأخبر تعالى: أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفًا منهم. وهذا هو الواقع، فإنهم لا يقنعون ممن وافقهم إلا بالشهادة أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم؛ ثم قال تعالى:

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ {بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] فأخبر تعالى أنه ولي المؤمنين وناصرهم، وهو خير الناصرين، ففي ولايته وطاعته كفاية وغنية عن طاعة الكفار. فياحسرة على العباد الذي عرفوا التوحيد ونشؤوا فيه ودانوا به زمانًا، كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين وخير الناصرين، إلى ولاية القباب وأهلها، ورضوا بها بدلاً من ولاية من بيده ملكوت كل شيء، بئس للظالمين بدلاً .. الدليل الخامس: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 106 - 107] فحكم تعالى حكمًا لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان له عذر خوفًا على نفس أو مال أو أهل أم لا، وسواء كفر بباطنه وظاهره، أم بباطنه دون ظاهره، وسواء كفر بفعاله أو مقاله، أو بأحدهما دون الآخر، وسواء كان طامعًا في دنيا ينالها من المشركين أم لا، فهو كافر على كل حال، إلا المكره، وهو في لغتنا: المغصوب. فإذا أكره إنسان على الكفر، أو قيل له أكفر وإلا قتلناك، أو ضربناك، أو أخذه المشركون فضربوه، ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم، جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان، أي ثابتًا عليه معتقدًا له، فأما إن وافقهم بقلبه، فهو كافر ولو كان مكرهًا.

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ وظاهر كلام أحمد: أنه في الصورة الأولى، لا يكون مكرهًا حتى يعذبه المشركون، فإنه لما دخل عليه يحيى بن معين وهو مريض، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار، وقال الله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال يحيى: لا يقبل عذرًا، فلما خرج يحيى، قال أحمد: يحتج بحديث عمار، وحديث عمار مررت بهم وهم يسبونك، فنهيتهم فضربوني، وأنتم: قيل لكم نريد أن نضربكم؛ فقال يحيى: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك. ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين الشارحين صدورهم بالكفر، وإن كانوا يقطعون على الحق، ويقولون: ما فعلنا هذا إلا خوفًا، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. ثم أخبر تعالى: أن سبب هذا الكفر والعذاب، ليس بسبب الاعتقاد للشرك، أو الجهل بالتوحيد، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الآخرة؛ وعلى رضا رب العالمين، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} فكفرهم تعالى، وأخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا، ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة، هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنهم الغافلون؛ ثم أخبر خبرًا مؤكدًا محققًا: أنهم في الآخرة هم الخاسرون.

تفسير قوله تعالى:} ومن الناس من يعبد الله على حرف {الآية.

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ الدليل السادس: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] فأخبر تعالى: أن من الناس من يعبد الله على حرف، أي على طرف، فإن أصابه خير، أي نصر وعز وصحة وسعة وأمن وعافية، ونحو ذلك اطمأن به، أي ثبت، وقال: هذا دين حسن ما رأينا فيه إلا خيرًا، وإن أصابته فتنة، أي: خوف ومرض وفقر ونحو ذلك انقلب على وجهه، أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى أهل الشرك. فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء. فإنهم قبل هذه الفتنة يعبدون الله على حرف، أي: على طرف، ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات، فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم، وأظهروا الموافقة للمشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين، فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا، فخسروا: {الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} هذا مع أن كثيرًا منهم في عافية ما أتاهم من عدو، وإنما ساء ظنهم بالله، فظنوا أنه يديل الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله، كما قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23]. وأنت: يا من مَنَّ الله عليه بالثبات على الإسلام، احذر أن يدخل في قلبك شيء من الريب، أو تحسين هؤلاء المرتدين، وأن موافقتهم للمشركين وإظهار

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ طاعتهم رأيًا حسنًا، حذرًا على النفس والأموال والمحارم، فإن هذه الشبهة هي التي أوقعت كثيرًا من الأولين والآخرين في الشرك بالله، ولم يعذرهم الله بذلك، وإلا فكثير منهم يعرفون الحق ويعتقدونه بقلوبهم، وإنما يدينون لله بالشرك للأعذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، أو لبعضها، فلم يعذر بها أحدًا ولا ببعضها، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. الدليل السابع: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 25 - 28] فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم: أنهم من بعدما تبين لهم الهدى ارتدوا على علم فلم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، وغرهم الشيطان بتسويله وتزيين ما ارتكبوه من الردة. الدليل الثامن: قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] فأخبر تعالى: أنك لا تجد من كان يؤمن بالله

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ واليوم الآخر يواد من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار، وقد قال تعالى في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]. ففي هاتين الآيتين: البيان الواضح أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر، خوفًا على الأموال والآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر ونحو ذلك مما يعتذر به كثير من الناس، إذا كان لم يرخص لأحد في موالاتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم، خوفًا منهم وإيثارًا لمرضاتهم، فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء وأصحابًا، وأظهر لهم الموافقة على دينهم خوفًا على بعض هذه الأمور، ومحبة لها، ومن العجب: استحسانهم لذلك، واستحلالهم له، فجمعوا مع الردة استحلال الحرام ... وأيضًا: فليس الخوف بعذر كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] فلم يعذر الله - تبارك وتعالى- من يرجع عن دينه عند الأذى والخوف، فكيف بمن لم يصبه أذى ولا خوف، وإنما جاء إلى الباطل محبة له وخوفًا من الدوائر، والأدلة على هذا كثير، وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته. وأما من أراد الله فتنته وضلالته، فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}

حكم إطلاع الكفار على عورات المسلمين

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ [يونس: 96، 97] فنسأل الله الكريم المنان: أن يحينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمته وهو أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد» (¬1). هذا هو هدي القرآن، وفقه شريعة الرحمن، وتلك هي نصوص علماء الأمة وأئمتها. تنص وترشد وتبين: ما يجوز فعله وما لا يجوز، وقت علو الكفار وغلبتهم على المسلمين. فيجوز للمسلم المستضعف إذا خاف على نفسه تلف عضو من أعضائها أن يظهر بعض الملاطفة، والموالاة بظاهره وجوارحه، دون باطنه وقلبه، بقدر يدفع به عن نفسه شر الكفار وأذاهم. ولكن لا يجوز له بحال أن يعين -فضلاً عن أن يباشر- على سفك دم حرام، أو أخذ مال حرام، أما من يقوم بنصرة الكفار ودلهم على عورات المسلمين، أو يسهل لهم هذا حتى يأمن هو على نفسه وماله وعرضه، وحتى تسلم له دنياه ... فمن فعل هذا فليس من الله في شيء لارتداده عن دينه، ولمروقه من ملة المسلمين. وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء لسعيه في معاداة دينه، وإطفاء نور شريعته، وإظهار شرائع الكفار عليها. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 121 - 143).

حكم من قاتل في صوف المشركين ضد المسلمين

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وليس من المؤمنين في شيء لسعيه في محاربتهم، والعمل على كسر شوكتهم، ولعلو أهل الكفر عليهم. «حكم من قاتل في صفوف المشركين ضد المسلمين» طرح الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- مسألة ثم قام بالإجابة عليها بالتفصيل، فقال رحمه الله تعالى: «مسألة: من صار مختارًا إلى أرض الحرب، مشاقًا للمسلمين أمرتد هو بذلك أم لا؟ ومن اعتضد بأهل الحرب على أهل الإسلام -وإن لم يفارق دار الإسلام- أمرتد هو بذلك أم لا؟ ثم أخذ يذكر الأدلة على جوابه حتى قال -رحمه الله تعالى-: فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من: وجوب القتل عليه متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبرأ من مسلم (¬1). وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه، لأنه ¬

_ (¬1) يشير بذلك إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» الحديث. أخرجه الترمذي (1604)، وأبو داود (2274)، والنسائي (4698)، روي مرسلاً وموصولاً ورجح الإمام البخاري إرساله، انظر سنن الترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2304).

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ مضطر مكره. وقد ذكرنا: أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازمًا على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم، لأن الوليد بن زيد كان نذر دمه إن قدر عليه، وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور. وكذلك: من سكن بأرض الهند، والسند، والصين، والترك، والسودان، والروم، من المسلمين، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر، أو لقلة مال، أو لضعف جسم، أو لامتناع طريق، فهو معذور. فإن كان هناك محاربًا للمسلمين معينًا للكفار بخدمة، أو كتابة فهو كافر، وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم، فما يبعد عن الكفر، وما نرى له عذرًا، ونسأل الله العافية. وليس كذلك: من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية، ومن جرى مجراهم، لأن أرض مصر والقيروان، وغيرهما فالإسلام هو الظاهر، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام، بل إلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارًا. وأما من سكن في أرض القرامطة مختارًا فكافر بلا شك، لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام - ونعوذ بالله من ذلك.

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر، فهو ليس بكافر، لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال، من التوحيد، والإقرار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والبراءة من كل دين غير الإسلام، وإقامة الصلاة، وصيام رمضان، وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان والحمد لله رب العالمين. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين» (¬1) يبين ما قلناه، وأنه عليه السلام إنما عني بذلك دار الحرب، وإلا فقد استعمل -عليه السلام- عماله على خيبر، وهم كلهم يهود. وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم -لإمارة عليهم، أو لتجارة بينهم- كافرًا، ولا مسيئًا، بل هو مسلم حسن، ودارهم دار إسلام لا دار شرك، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها، والحاكم فيها، والمالك لها. ولو أن كافرًا مجاهدًا غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم، إلا أنه هو المالك لها، المنفرد بنفسه في ضبطها، وهو معلن بدين غير الإسلام لكفر بالبقاء معه كل من عاونه، وأقام معه - وإن ادعى أنه ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2274)، وسنن الترمذي (1604)، ورجح الإمامان أبو داود والترمذي تبعًا لجبل الحفظ الإمام البخاري إرساله، وقد رواه البيهقي موصولاً، انظر السلسلة الصحيحة (636).

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ مسلم - لما ذكرنا. وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين، أو على أخذ أموالهم، أو سبيهم، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع، فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافرًا، لأنه لم يأت شيئًا أوجب به عليه كفرًا: قرآن أو إجماع، وإن كان حكم الكفار جاريًا عليه فهو بذلك كافر على ما ذكرنا، فإن كانا متساويين، لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافرًا -والله أعلم- وإنما الكافر الذي برئ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المقيم بين أظهر المشركين. وبالله تعالى التوفيق» (¬1). وقال الإمام أبو بكر الجصاص: «قال الحسن بن صالح: من أقام في أرض العدو، وإن انتحل الإسلام، وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين. وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم، وهو يقدر على الخروج، فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه، وقال الحسن إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام، فهو مرتد بتركه دار الإسلام» (¬2). ¬

_ (¬1) المحلى بالآثار (12/ 122 - 127). (¬2) أحكام القرآن (5/ 26).

حكم من قفز من المسلمين إلى معسكر التتار

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وورد سؤال على علامة الأمة، الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في حكم التتار، الذين امتنعوا عن تحكيم شرائع الإسلام مع إقرارهم بالإسلام ونطقهم للشهادتين، وما حكم من يقاتل مختارًا في صفوفهم من المسلمين، فبين الشيخ -رحمه الله- أن الرافضة الخبثاء الجبناء يقاتلون دومًا مع المشركين -أيًا كان دينهم- ضد المسلمين، ونص على أن كل من قفز من المسلمين إلى معسكر التتار فحكمه حكمهم في الكفر والقتال بل وأشد، لأنه قد استقر في الشريعة أن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي، وإليكم نص السؤال: «ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على بيان الحق المبين، وكشف غمرات الجاهلين والزائغين في هؤلاء التتار، الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة، وتكلموا بالشهادتين، وانتسبوا إلى الإسلام، ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا؟ وما الحجة على قتالهم، وما مذاهب العلماء في ذلك؟ وما حكم من كان معهم، ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين الأمراء وغيرهم؟ وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرهًا؟ وما حكم من يكون مع عسكرهم، من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ والتصوف ونحو ذلك؟ فأجاب رحمه الله بعد أن بين كفر التتار، ووجوب قتالهم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واتفاق أئمة المسلمين، ثم قال: «والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين، والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين، وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة، يعرفها عموم الناس، وكذلك في الحروب التي بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام، قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين، وأنهم عاونهم على أخذ البلاد لما جاء التتار. وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل، وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين، كان ذلك عيدًا ومسرة عند الرافضة. ودخل في الرافضة: أهل الزندقة والإلحاد من النصيرية والإسماعيلية، وأمثالهم من الملاحدة القرامطة وغيرهم، ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك. الرافضة جهمية قدرية، وفيهم من الكذب والبدع والافتراء على الله ورسوله أعظم مما في الخوارج المارقين، الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ وسائر الصحابة رضي الله عنهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما في مانعي الزكاة، الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم ... فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمهم به النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وذكر أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس. والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين، والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين؛ فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكفار مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار، فكانوا أعظم مروقًا عن الدين من أولئك المارقين بكثير كثير. وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض، ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين، كما قاتلهم علي - رضي الله عنه - فكيف إذا ضموا إلى ذلك من أحكام المشركين كنائسًا وجنكسخان ملك المشركين ما هو من أعظم المضادة لدين الإسلام. وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام. وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة: مرتدين، مع كونهم يصومون ويصلون، ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله، قاتلاً للمسلمين.

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله، المحادون لله ورسوله، المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام، ودروس شرائعه. فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت، هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز، ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه. فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة: بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة. منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي. ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي، الذي ليس هو من أهل القتال فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة ومالك وأحمد. ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد. ومنها أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام.

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه، ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار، ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين، من الترك ونحوهم. وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين، مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم. وبهذا يتبين: أن من كان معهم، ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك، الذي كانوا كفارًا. فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالاً ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع، مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قتلهم الصديق، وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقهًا أو متصوفًا أو تاجرًا أو كاتبًا أو غير ذلك. فهؤلاء شر من الترك، الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع، وأصروا على الإسلام. ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك، وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء، الذين ارتدوا عن بعض الدين، ونافقوا في بعضه، وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (28/ 426) وما بعدها.

حكم المسلم إذا صار مع المشركين على المسلمين، ولو لم يشرك

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (قال شيخ الإسلام: أي ابن تيمية- في اختياراته: من جمز (¬1) إلى معسكر التتار، ولحق بهم، ارتد، وحل دمه وماله" (¬2) وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: " إن الأدلة على كفر المسلم إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على المسلمين ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر، من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم المعتمدين (¬3). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله- رحمهما الله- في أثناء رده على سؤال ورد عليه، يريد فيه صاحبه معرفة الحد الفاصل بين الولاء المكفر للمشركين، وغير المكفرِّ، فقال- رحمه الله تعالى-: " فالجواب: إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم، ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] (¬4) ¬

_ (¬1) جمز: أي ذهب ... وقد جاء في حديث ماعز - رضي الله عنه - " فلما أذلقته الحجارة جمز" أي أسرع هاربًا من القتل. انظر لسان العرب، مادة "جمز". والحديث متفق على صحته، صحيح البخاري (5270)، وصحيح مسلم (1691). (¬2) فتاوى الأئمة النجدية (1/ 443). (¬3) الرسائل الشخصية/ 272 (¬4) مجموع الرسائل والمسائل (1/ 475)

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ وتحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن بعض أنواع أعدائه الذين سل السيف عليهم، فقال رحمه الله: النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه، لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضًا كافر وفيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]. النوع الرابع: من سلم من هذا كله لكن، أهل بلده يصرحون: بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك ويسعون في قتالهم، وعذره أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضًا كافر، لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه مخالفتهم إلا بذلك فعل. وأما موافقته على الجهاد معهم بماله ونفسه، مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فأكبر مما ذكرناه بكثير، فهذا أيضًا كافر ممن قال الله فيهم {سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} [النساء: 91] والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (¬1). ¬

_ (¬1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/ 301.

حكم الانحياز إلى أعداء الله سبحانه

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان والدويش ومن تبعهم، حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب، وأصحابه - رضي الله عنهم - حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟ فأجابوا: هؤلاء الذي ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم. فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى- في الاختيارات: من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم ارتد، وحل دمه وماله. فإذا كان هذا في مجرد اللحوق بالمشركين، فكيف بمن اعتقد مع ذلك: أن جهادهم وقتالهم لأهل الإسلام دين يدان به، هذا أولى بالكفر والردة. وأما استدلالهم، بقصة جعفر وأصحابه، لما هاجروا إلى الحبشة فباطل، فإن جعفرًا وأصحابه لم يهاجروا من مكة إلا وهي إذ ذلك بلاد كفر، وقد آذاهم المشركون وامتحنوهم في ذات الله وقد عذبوا من عذبوا من الصحابة، كصهيب، وبلال، وخباب، ومن أجل عبادتهم الله وحده لا شريك له، ومجانبتهم عبادة اللات

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ على والعزى، وغيرهما من الأوثان، فلما اشتدت عليهم الأذية أذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى الحبشة، ليأمنوا على دينهم. وأما هؤلاء: فقد خرجوا من بين ظهراني المسلمين، وانحازوا إلى الكفار والمشركين، وجعلوا بلاد المسلمين بلاد كفر، بمنزلة مكة حين هاجر جعفر وأصحابه منها، ولا يستدل بقصة جعفر والحالة هذه، إلا من أضل الناس وأعماهم وأبعدهم عن سواء السبيل. وأما قول السائل: إنهم يرون أن جميع المسلمين، وولى أمرهم، وعلماءهم، ليسوا حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم وخروجهم من الإسلام بعدما انتسبوا إليه، وادعوا أنهم من أنصاره، والمهاجرين إليه، فسبحان من طبع على قلوب أعدائه، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى. وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته إلا مغصوبين، فهذا أيضاَ من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم. وأما قول السائل: إنهم فعلوا ما فعلوا مع المسلمين، من القتل والنهب، مستحلين لذلك .. إلى آخر السؤال؟ فجوابه: أن من استحل دماء المسلمين وأموالهم، كما نص عليه العلماء في "باب حكم المرتد".

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــ وأما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، يدعي أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم، لأنه صوب رأيهم، واعتقدوا ما اعتقدوه، لا سيما بعد علمه بما صدر منهم. وأما الدهينة، والخضري، وولد فيصل بن حميد، وأتباعهم، الذي قدموا من عند ولد الشريف، يدعون إلى ولايته، فهؤلاء لاشك في ردتهم والحال ما ذكر، لأنهم دعاة الى الدخول تحت ولاية المشركين، فيجب على جميع المسلمين جهادهم وقتالهم، وكذلك من آواهم ونصرهم، فحكمه حكمهم. فهذا حكم أئمة الدعوة فيمن قاتل مع المشركين ضد المسلمين، وفيمن دعا الناس إلى الدخول تحت ولاية المشركين ونصرتهم. وقد عدّ بعض علماء نجد ثلاثة أمور، كل واحد منها يوجب الجهاد لمن اتصف بها، جاء فيها: الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لما اتصف به، مظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام اختياراَ منه فقد كفر.

تفسير قوله تعالى:} فما لكم في المنافقين فئتين {الآية

............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ " قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في نواقض الإسلام، الثامن: مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة 51]. فمن اتصف بشئ من هذه الصفات، مما ينقض الإسلام، أو منه شيئاَ من شعائر الإسلام الظاهرة، أو امتنع عن أداء شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجاهد حتى يقر بذلك ويلتزمه. (¬1) ونزيد حكم مسألة القتال في صفوف المشركين وضوحًا، لأنها اليوم ذات شأن عظيم في دنيا المسلمين، فنقول: لما تقابل المسلمون بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين بقيادة أبي سفيان في غزوة أحد، انخزل عبد الله بن أبي بن سلول، ومعه ثلث الجيش، وتولوا مدبرين عن نصرة المسلمين، فنزل قوله تعالى {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء 88 - 90]، فحكم القرآن بكفرهم، وردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وأموالهم، ونزل فيهم أيضًا قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا ¬

_ (¬1) الدرر السنية (9/ 289 - 292)

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166، 167]، فحكم القرآن بكفرهم ونفاقهم، وأنكر على المسلمين اختلافهم فيهم فرقتين، وكيف لا تجتمع كلمتهم على كفرهم وردتهم. وهذا في حق من انخزل عن نصرة المسلمين لإضعافهم، فكيف بمن قاتل مع المشركين مختارًا ضد المسلمين، وكان حكم الكفر جاريًا عليه؟!! فهؤلاء إن لم يكونوا كفارًا فلا نعلم كفارًا على وجه الأرض، وهؤلاء إن لم يكونوا مرتدين عن دين المسلمين فلا نعلم مرتدين على مر التاريخ. قال الله تعالى في محكم التنزيل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا}. قال أبو جعفر الطبري: يعني -جل ثناؤه- بقوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}: فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين؟!! {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم (¬1). وقال الإمام الشوكاني- رحمه الله تعالى-: " الاستفهام في قوله تعالى" فَمَا لَكُمْ} للإنكار، واسم الاستفهام مبتدأ، وما بعده خبره. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (8/ 8).

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى: أي شيء كائن لكم {فِي الْمُنَافِقِينَ} أي: في أمرهم وشأنهم حال كونكم {فِئَتَيْنِ} في ذلك. وحاصله: الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين ... وقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} معناه: ردهم إلى الكفر" (¬1) وقال الإمام أبو بكر بن العربي - رحمه الله-: أخبر الله سبحانه وتعالى أن الله رد المنافقين إلى الكفر، وهو الإركاس، وهو عبارة عن الرجوع إلى الحالة المكروهة، كما قال في الروثة: إنها رجس، أي: رجعت إلى حالة مكروهة؛ فنهى الله سبحانه وتعالى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلقوا فيهم بظاهر الإيمان، إذا كان أمرهم في الباطن على الكفر، وأمرهم بقتلهم حيث وجدوهم، وأينما ثقفوهم؛ وفي هذا دليل على أن الزنديق يقتل، ولا يستتاب لقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء 89]. وقال الإمام أبو بكر الجصاص: وقوله تعالى {أَرْكَسَهُمْ} قال ابن عباس - رضي الله عنه - ردهم؛ وقال قتادة {أَرْكَسَهُمْ} أهلكهم. وقال غيرهم {أَرْكَسَهُمْ} نكسهم؛ قال الكسائي: {أَرْكَسَهُمْ} وركسهم بمعنى. ¬

_ (¬1) فتح القدير (2/ 186)

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما المعنى في ردهم في حكم الكفار من الصغار والذلة، وقيل من السبي والقتل لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق، وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه قبل من إضمار الكفر، قاله الحسن (¬1). قال الحافظ ابن كثير، في وصفه لغزوة أحد: ((قال ابن إسحاق حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي، والد جابر بن عبد الله فقال: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمانكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله -أعداء الله- فسيغني الله عنكم نبيه - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167]، يعني: أنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالا ¬

_ (¬1) أحكام القرآن (4/ 465)

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ لاتبعناكم، وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه. وهم الذين أنزل الله فيهم: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} الآية، وذلك أن طائفة قالت نقاتلهم، وقال آخرون: لا نقاتلهم كما ثبت وبين الصحيح (¬1) (¬2). ويبين علامة الأمة، الإمام ابن تيمية: أن الذين انخزلوا مع ابن أُبي- عليه لعنة الله- لم يكونوا كلهم من قبل منافقين، ولكنهم نافقوا وكفروا بهذا الفعل، فقال رحمه الله تعالى: قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166 - 167]. فقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} ظاهر فيمن أحدث نفاقًا، وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقًا ثانيًا، وقوله {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}، يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم، بل إما أن يتساويا، وإما أن يكونوا للإيمان أقرب، وكذلك كان. فإن ابن أبي لما انخزل عن ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول لا. فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» متفق عليه، صحيح البخاري (1884، 4050)، وصحيح مسلم (1384). (¬2) البداية والنهاية (4/ 16).

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد انخزل معه ثلث الناس، قيل كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن، إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق. فإن ابن أبي كان مظهرًا لطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان به، وكان كل يوم جمعة يقوم خطيبًا في المسجد يأمر باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس -إن ظهر- وكان معظمًا في قومه كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم، فلما جاءت النبوة بطل ذلك، فحمله الحسد على النفاق، وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعوا إليه، وإنما كان هذا في اليهود. فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بدينه، وقد أظهر الله حسنه ونوره مالت إليه القلوب، لا سيما لما نصره الله يوم بدر، ونصره على يهود بني قينقاع صار معه الدين والدنيا، فكان المقتضى للإيمان في عامة الأنصار قائماََ، وكان كثير منهم يعظم ابن أُبي تعظيمًا كثيرًا ويواليه، ولم يكن ابن أُبي أظهر مخالفة توجب الامتياز، فلما انخزل يوم أحد، وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان أو كما قال، انخزل معه خلق كثير منهم من لم ينافق قبل ذلك. وفي الجملة ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا (¬1) ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 120).

حادثة حاطب -رضي الله عنه- وحكم ما وقع عليه

............................................................ ــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أيضًا - رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب، فلما كان يوم أحد غلب نفاقهم فصاروا إلى الكفر أقرب (¬1). ... ((حادثة حاطب - رضي الله عنه -، وحكم ما وقع فيه)) لقد حاول كثير من المنهزمين أن يتترسوا بهذه الواقعة، وينفذوا من خلالها إلى أنه لا يوجد ناقض من نواقض الإسلام عنوانه: موالاة الكافرين ونصرتهم على المسلمين. وأرادوا أن يجعلوا هذه الحادثة بفهمهم هم قاعدة كلية ينبغي رد النصوص- التي تفوت الحصر- من الكتاب والسُّنَّة إليها. ولكن أهل السنة والجماعة تتقرر القواعد الكلية عندهم من نصوص كثيرة من القرآن والسُّنَّة، ثم بعد ذلك ينزلون ويفهمون ما خالف- في الظاهر- مقتضاها على ضوء ما تقرر من معنى القواعد الكلية. على سبيل المثال: قد تقرر من نصوص الكتاب والسُّنَّة أن الإيمان قول وعمل، وانعقد عليه الإجماع حتى صار معلومًا بالاضطرار من الدين. ثم جاء نص في ظاهره مخالفة ما تقرر من مقتضى هذه القاعدة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في حق الجهنميين ((فيقبض- أي أرحم الراحمين سبحانه وتعالى- قبضة من النار ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (2/ 123).

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط (¬1). الحديث وهنا نحن أمام منهجين: أ- منهج أهل السُّنَّة والعدل: فيقولون بمقتضى القاعدة المقررة من نصوص تفوق الحصر، من الكتاب والسُّنَّة بفهم سلف الأمة وأئمتها، وهو أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال من الإيمان، ثم بعد ذلك يحاولون الجمع بين مقضى القاعدة وهذا النص الجزئي، فإن تعذر ذلك، عملوا بمقتضى القاعدة الكلية وتركوا العمل بمقتضى النص الجزئي، لئلا يتركوا العمل بالنصوص الكثيرة المقررة للقاعدة الكلية. ب- منهج أهل البدع والظلم: يجعلون معنى النص الجزئي قاعدة كلية، ثم يقومون برد النصوص الكثيرة إليها. فيقولون هنا: هذا الحديث يقطع بخروج الأعمال من الإيمان، ومن ثم فالإيمان هو الاعتقاد والقول فقط دون الأعمال. وأهل السُّنَّة يقولون هنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لم يعملوا خيرًا قط» يطلق على من عمل أعمالاً من أعمال البر، إلا أنها قليلة تكاد لا تذكر في جانب الأعمال السيئة الأخرى، ولا أدلّ على ذلك من حديث الرجل الذي قتل مائة نفس فعندما اختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، قالت ملائكة العذاب: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (183)

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ ((لم يعمل خيرًا قط)) (¬1). مع أن الرجل ذهب إلى الراهب ليسأله عن التوبة، ثم ذهب إلى العالم ليسأله عن التوبة بعد ندمه على قتل الراهب، ثم امتثل وعمل كل ما قاله العالم له من شروط التوبة ... وكل ذلك من أعمال البر، لكنها بجانب سيئاته ومعاصيه، فكأنه لم يعمل خيرًا قط. قال الإمام ابن رجب الحنبلي- رحمه الله تعالى- " والمراد بقوله: (لم يعملوا خيرًا قط) من أعمال الجوارح، وإن كان أصل التوحيد معهم" (¬2). قلت ولا شك أن التوحيد قول وعمل واعتقاد، وهذا دليل على فعل بعض الأعمال الصالحة. وقد ساغ في لغة العرب أن يؤتى بلفظ الكل ويكون المراد به البعض لا الكل. قال الإمام الحافظ ابن عبد البر-رحمه الله تعالى- في بيان هذه القاعدة المهمة، في أثناء شرحه لحديث الرجل الذي أمر بذرّ نفسه، والمعروف بحديث القدرة: «روي من حديث أبي رافع، عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: قال رجل (لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد) وهذه اللفظة إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها؛ لأنه محال غير جائز أن يُغفر للذين يموتون وهم كفار، لأن الله - عز وجل- قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن ¬

_ (¬1) متفق عليه، انظر البخاري (347)، وصحيح مسلم (2766). (¬2) التخويف من النار/259.

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــ مات كافرً، وهذا ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة. وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث: لم يعمل حسنة قط، أو لم يعمل خيرًا قط لم يعذبه إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير. وهذا سائغ في لسان العرب، جائز في لغتها أن يؤتى بلفظ الكل، والمراد البعض» (¬1). نعود لحادثة حاطب ابن أبي بلتعة- فنقول بوجوب فهمهما، وردّ معناها إلى ما تقرر من معنى النصوص المستفيضة في مسألة موالاة الكفار، والحكم بالردة على أصحابها، ولو كانوا ما وقعوا في نصرتهم ومظاهرتهم إلا بسبب عرض من الدنيا زائل بعلة الخوف من غائلة دوائر الدهر، ونحو ذلك. وقد تقدم بعض من هذه النصوص وما سكتنا عنه فهو مثله أو أكثر. وإليكم قصة حاطب - رضي الله عنه -، عن عبيد الله بن أبي رافع، وكان كاتبًا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعت عليًّا يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزيير والمقداد، فقال «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها»، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: هلمي الكتاب، قالت: ما عندي من كتاب، فقلت: لتخرجن ¬

_ (¬1) التمهيد (18/ 40)

.............................................................

.............................................................

.............................................................

.............................................................

.............................................................

.............................................................

.............................................................

.............................................................

.............................................................

............................................................

خواطر حول القصة

وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح (¬1): أخبرني غير واحد: أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله يبدك وصاروا ببدعتهم مستترين، فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحيا شيئًا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) (¬2)، وضم بين إصبعيه، وقال: «أيما داع إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة» (¬3) فمتى يدرك أجر هذا بشىء من علمه؟ وذكر أيضًا أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًا لله، يذب عنها وينطق بعلاماتها، فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ¬

_ (¬1) كتاب البدع لابن وضاح (1/ 8) (¬2) بحثت عنه فلم أجده. (¬3) سنن ابن ماجة (205)، قال الإمام السندي في شرحه لسنن ابن ماجة: وفي الزوائد إسناده ضعيف لضعف سعد بن سنان، وله شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، صححه الترمذي.

التحذير من أهل البدع

وأوصاه: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من كذا وكذا) (¬1) وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفه وجماعه، يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك (38/ش)، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة؛ كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ ــــــــــــــــــــــــــــــ (38/ش) ما أعظم وأعذب هذه النصيحة الجليلة، فينبغي أن يضعها الدعاة إلى التوحيد والسنة نصب أعينهم. فيجب العمل على إعداد وتربية كوادر من صفوة طلبة العلم على منهج التوحيد، وفهم حقيقة الصراع الأبدي الضروس بين الإسلام والكفر، وبين السنة والبدعة، ومن ثم تتجه هذه الصفوة إلى الأمة بمنهج الإسلام الفريد وتقوم بتحصين أبنائه ضد مخططات الطواغيت والعلمانيين، والحداثيين والمنافقين والمرتدين والزنادقة والملحدين .... وهذا من شأنه أن يعمل على استمرارية بيان الحق، وظهور الفرقان بين التوحيد والشرك، وأيضًا يعمل على شل مخططات علماء السوء الهادفة إلى تركيع الأمة لأعدائها، وكذلك يعمل على ربط الناس بالحق، وأنه قديم ومستمر حتى يفصل الله بين أهله وأعدائه، ولا يربط الناس بأشخاص، فإذا ذهبوا أو غيبوا ذهب معهم ما قالوه وأصلوه. ¬

_ (¬1) المحفوظ في هذا هو لعلي - رضي الله عنه - حين أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية لفتح خيبر، انظر صحيح البخاري (4310)، وصحيح مسلم (2406).

الحائر، فتكون خلفًا لنبيك - صلى الله عليه وسلم -، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب، فإنه جاء في الأثر: «من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام» وجاء: «ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى». وقد وقعت اللعنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفًا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعًا، وكلما ازدادوا اجتهادًا وصومًا وصلادة ازدادوا من الله بعدًا (¬1) فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم، كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى بعدده انتهى كلام أسد - رحمه الله تعالى-. واعلم - رحمك الله - أن كلامه، ما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معاداة أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تخرج عن الملة، لكنهم شددوا في ذلك وحذروا منه لأمرين: الأول: غلظ البدعة في الدين في نفسها، فهي عندهم أجلُّ من الكبائر ويعاملون أهلها بأغلظ ما يعاملون به أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس: أن الرافضي عندهم ولو كان عالمًا عابدًا أبغض ¬

_ (¬1) انظر مصداق هذا في الأحاديث الواردة في شأن الخوار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقهم: (يقرءون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم)، صحيح مسلم (1066)، أبو داود (4139)، ومسند أحمد (668).

يجب العمل على إعداد وتربية كوادر من صفوة الأمة

وأشد ذنبًا من السني المجاهر بالكبائر (39/ش). ــــــــــــــــــــــــــــــ (39/ش) «الرافضة»: من أخس وأجهل وأكذب الطوائف الداخلة في الإسلام، وأكثرهم قد دخل فيه مستصحبًا للكفر، وبه خرج منه. «أصل دينهم» من إحداث الزنادقة، وكان مقصودهم به الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل. ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام، ونقض عراه، وإفساد قواعده، فأيامهم في الإسلام كلها سود، سود الله وجوههم، ووجوه من تولاهم في الدنيا والآخرة، آمين. أشبه الناس باليهود، يعادون خيار المؤمنين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، ويوالون المشركين واليهود والنصارى والمنافقين، فهم دائمًا على أعدى أعداء الأمة، والتاريخ قديمًا وحديثًا خير شاهد، ودماء المسلمين التي سفكت على أيديهم في أمس واليوم خير دليل. منهم دخل على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، الملاحدة من بابهم ولجوا، والكفار بطريقهم وصلوا الى الاستيلاء على بلاد الإسلام، ولذلك فسيف الموحدين الأطهار عليهم مسلول إلى يوم البعث والنشور. لا يوجد منافقون ومرتدون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم، وديارهم أكثر البلاد منكرًا من الظلم والفواحش والبهتان، ولاؤهم مصروفًا كاملاً لأعداء الإسلام، ومشى بعضهم مع النصارى حاملاً لصليبهم من غير استحياء ساعة نصرهم على أهل الشام، وباعوا لهم بعضًا من المسلمين ببيع العبيد.

.................................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمة تشهد على الرافضة بأنها أكذب الطوائف، حتى إن العامة لا تعرف في مقابلة السُّني إلا الرافضي، ولذلك كانوا عند جماهير الأمة نوعًا آخر وجنسًا مختلفًا عن المسلمين، أي ملتهم ملة أخرى منابذة لملة المسلمين. وإلى الله المشتكى من الذين ينادون بالتقارب بين المسلمين والرافضة، فهذا كحال الذين ينادون بالتقارب بين المسلمين والنصارى، وبين المؤمنين والكافرين، وبين المخلصين والمنافقين. لا يوثق لهم بتوبة لأن دينهم قائم على التقية، فأبعد الله قومًا يظهرون ما لا يبطنون لجنبهم وخورهم. قال علامة الأمة ابن تيمية- فاضح الرافضة والملاحدة- في وصف القوم وحكمهم: «فإن الأدلة إما نقلية وإما عقلية، والقوم من أضل الناس في المنقول والمعقول في المذاهب والتقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. والقوم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنَّه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل، ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأحاديث والأخبار بين المعروف بالكذب أو الغلط أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم بالآثار.

الرافضة جنس آخر مختلف عن جنس المسلمين

................................................................ ــــــــــــــــــــــــــــــــ وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد، وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات. فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية، وتارة يتبعون المجسمة والجبرية، وهم من أجهل هذه الطوائف بالنظريات، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين من أجهل الطوائف الداخلين في الإسلام، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد. فملاحدة الإسماعيلية والنصيرية، وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا، وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، واستولوا بهم على بلاد الإسلام، وسبوا الحريم، وأخذوا الأموال، وسفكوا الدم الحرام، وجري على الأمة بمعاونتهم من فساد الدين والدنيا ما لا يعلمه إلا رب العالمين. «أصل دينهم من إحداث الزنادقة» إذا كان أصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين، الذين عاقبهم في حياته على أمير المؤمنين - رضي الله عنه -، فحرق منهم طائفة بالنار، وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار، وتوعد بالجلد طائفة مفترية فيما عرف عنه من الأخبار. وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقًا وعلمًا وعملا وتبليغًا، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين. وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله، ولهذا كانوا يظهرون ذلك

أصل دينهم من إحداث الزنادقة

............................................................... ــــــــــــــــــــــــــــــــ بحسب ضعف الملة، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة، لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين لنوع من الشبهة والجهالة، المخلوطة بهوى فقبل معه الضلالة وهذا أصل كل باطل ... «الرافضة دوما تتبرأ من المسلمين وتتولى الكافرين» فمن خرج عن الصراط المستقيم كان متبعًا لظنه وما تهواه نفسه، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس، ففيهم جهل وظلم، لا سيما الرافضة فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلمًا، يعادون خيار أولياء الله تعالى من بعد النبيين، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوعهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين، وأصناف الملحدين، كالنصيرية والإسماعيلية، وغيرهم من الضآلين، فتجدهم أو كثيرًا منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار، واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، سواء كان الاختلاف بقول أو عمل، كالحروب التي بين المسلمين وأهل الكتاب والمشركين، تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن ...

الرافضة دوما تتبرأ من المسلمين، وتتولى الكافرين

.............................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــ «دخلوا في الإسلام رغبة عنه، ومقتًا لأهله» روى أبو حفص بن شاهين في كتاب اللطيف السنة، حدثنا محمد بن أبي القاسم بن هارون، حدثنا أحمد بن الوليد الواسطي، حدثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه قال: قال لي الشعبي: أحذركم هذه الأهواء المضلة، وشرها الرافضة، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتًا لأهل الإسلام، وبغيًا عليهم. قد حرقهم على - رضي الله عنه - بالنار، ونفاهم إلى البلدان، منهم عبد الله بن سبأ يهودي من يهود صنعاء، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن ياسر نفاه إلى خازر. «الرافضة أشبه الناس باليهود» وآية ذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي. وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال، وينزل سيف من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي، وينادي مناد من السماء. واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم، وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم ... وكذلك الرافضة واليهود تبغض جبريل، ويقولون: هو عدونا من الملائكة وكذلك الرافضة يقولون: غلط جبريل بالوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة: النصارى ليس لنسائهم

الرافضة أشبه الناس باليهود

............................................................... ــــــــــــــــــــــــــــــــ صداق إنما يتمتعون بهن تمتعًا، وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة، ويستحلون المتعة. وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا حواري عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، ولا تجاب لهم دعوة، دعوتهم مدحوضة، وكلمتهم مختلفة، وجمعهم متفرق، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله .... «لا يوثق بهم في توبة» وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد، وتعمد الكذب كثير فيهم، وهم يقرون بذلك حيث يقولون: ديننا التقية. وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه. وهذا هو الكذب والنفاق، ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق فهم في ذلك كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. إذ ليس في المظهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم، واعتبر ذلك بالغالية من

لا يوثق لهم بتوبة

................................................................ ــــــــــــــــــــــــــــــــ النصيرية وغيرهم، وبالملاحدة الإسماعيلية وأمثالهم. وتكلم الشيخ رحمه الله عن اعتقادهم بعصمة الأئمة حتى قال: - وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون، الذين شيوخهم الكبار، أكفر من اليهود النصارى والمشركين، وهذا دأب الرافضة دائمًا يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك. «أخس وأضل قوم في الموالاة والمعاداة» فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويوالوان الكفار والمنافقين. وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة: 14، 15]، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18، 19]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21]، {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ

أخس وأضل قوم في الموالاة والمعاداة

............................................................... ــــــــــــــــــــــــــــــــ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] فهذه الآيات نزلت في المنافقين؛ وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة، حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) (¬1). أخرجاه في الصحيحين. {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81] وقال تعالى: {* لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 78، 80]. «ديارهم أظلم الديار، وجنسهم مختلف عن جنس المسلمين» وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل ديارهم أكثر البلاد منكرًا من الظلم والفواحش وغير ذلك، وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم، فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار، كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (934)، صحيح مسلم (58).

.................................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ}، ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر، حتى أن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل، الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام، يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقطعون الطريق استحلالاً لذلك، وتدينا به، فقاتلهم صنف من التركمان، فصاروا يقولون: نحن مسلمون. فيقولون: لا أنتم جنس آخر. فهم بسلامة قلوبهم علموا أنهم جنس آخر، خارجون عن المسلمين، لامتيازهم عنهم. وقد قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهذا حال الرافضة، وكذلك {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 16 - 22]، وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين، ولهذا لما خرج الترك والكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دمائهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها، كانت الرافضة معاونة لهم على قتل المسلمين، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة، كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتل المسلمين، وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائمًا يوالون الكفار من

ديارهم أظلم الديار

................................................................ ــــــــــــــــــــــــــــــــ المشركين واليهود والنصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم ... «الرافضة أشهر الطوائف بالبدعة والكذب» وهذا الذي ذكرناه- أي من كذبهم- معروف عند أهل العلم قديمًا وحديثًا كما قد ذكرنا بعض أقوالهم، حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك: الدين لأهل الحديث، والكذب للرافضة، والكلام للمعتزلة، والحيل لأهل الرأي، أصحاب فلان، وسوء التدبير لآل أبي فلان. وهو كما قال: فإن الدين هو ما بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأعلم الناس به أعلمهم بحديثه وسنته، وأما الكلام فأشهر الطوائف به هم المعتزلة، ولهذا كانوا أشهر الطوائف بالبدع عند الخاصة. وأما الرافضة فهم المعروفون بالبدعة عند الخاصة والعامة، حتى أن أكثر العامة لا تعرف في مقابلة السني إلا الرافضي، لظهور مناقضهم لما جاء به الرسول -عليه السلام- عند الخاصة والعامة، فهم عين على ما جاء به، حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم، إذا قالت لهم الرافضة: نحن مسلمون. يقولون: أنتم جنس آخر. ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين، الذين يعرف كل أحد معاداتهم، من اليهود والنصارى والمشركين مشركي الترك، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين، وسادات المتقين، وهم الذين أقاموه وبلغوه ونصروه. ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد

.................................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام، وأما قصة الوزير ابن العلقمي، وغيره كالنصير الطوسي مع الكفار، وممالأتهم على المسلمين فقد عرفها الخاصة والعامة. وكذلك من كان منهم بالشام ظاهروا المشركين على المسلمين، وعاونوهم معاونة عرفها الناس. وكذلك لما أنكسر عسكر المسلمين لما قدم غازان ظاهروا الكفار النصارى، وغيرهم من أعداء المسلمين، وباعوهم أولاد المسلمين، بيع العبيد وأمواله، وحاربوا المسلمين محاربة ظاهرة، وحمل بعضهم راية الصليب!!! وهم كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديمًا على بيت المقدس، حتى استنقذه المسلمون منهم، وقد دخل فيهم أعظم الناس نفاقًا، من النصيرية والإسماعيلية ونحوهم، ممن هو أعظم كفرًا في الباطن ومعاداة لله ورسوله من اليهود والنصارى. فهذه الأمور وأمثالها مما هي ظاهرة مشهورة، يعرفها الخاصة والعامة، توجب ظهور مباينتهم للمسلمين، ومفارقتهم للدين، ودخولهم في زمرة الكفار والمنافقين، حتى يعدهم من رأي أحوالهم جنسًا آخر غير جنس المسلمين. فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق والغرب قديمًا وحديثًا هم الجمهور، والرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام، ونقض عراه، وإفساد قواعده.

الرافضة أشهر الطوائف بالبدعة والكذب

............................................................... ــــــــــــــــــــــــــــــــ «أيام الرافضة في الإسلام كلها سوء» والرافضة من أجهل الناس بدين الإسلام، وليس للإنسان منهم شئ يختص به إلا ما يسر عدو الاسلام، ويسوء وليه، فأيامهم في الإسلام كلها سود، وأعرف الناس بعيوبهم وممادحهم أهل السنة، لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها عرفتها كما قال تعالى في اليهود: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [المائدة: 13] ولو ذكرت بعض ما عرفته منهم بالمباشرة، ونقل الثقات، وما رأيته في كتبهم لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير (¬1). فهذا بعض يسير من كلام إمام خبير بهذه الطائفة النجسة، ولا يظن ظان أن هذا كان في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثا، وإلا فاسألوا المسلمين اليوم في العراق، وأفغانستان، وإيران، وباكستان، ودول الخليج ... يخبرونكم بما لم تسمعوا وتعلموا: من انتقام وحقد وغل وبغض هذه الطائفة- الملعونة- للمسلمين والمؤمنين. وما يحصل اليوم من جرائم، وسفك لدماء الموحدين، وهتك لأعراض الطاهرات من نسائنا، واستحلال للأموال، ومعاونة ومؤازرة لأهل الكفر قاطبة ¬

_ (¬1) السفر العظيم، منهاج السنة، الكتاب الذي مازال أهل السنة يتوارثونه بينهم لاتقاء شر الرافضة، انظر (10/ 1 - 60)، و (3/ 376) وما بعدها، و (7/ 414) وما قبلها.

.................................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــ على الاستيلاء على ثغور وبلدان المسلمين ... لخير شاهد وأعظم دليل على صدق وعدل أئمتنا، العلماء الربانيين، الذين حذروا الأمة من شر هذه الطائفة، وأنه لا تكون بلية على الإسلام وأهله إلا وهم من ورائها ومعبر خصب لها، ومن هؤلاء الأئمة النصحة: الشعبي، وعبد الله بن المبارك، ومالك وأحمد، والشافعي، وابن تيمية، وابن القيم وابن كثير ... فرحمهم الله من أئمة صادقين، ورحمهم الله من أئمة أن همهم الأكبر الحفاظ على ثغور الأمة، والحفاظ على عقائد العامة، والعمل على صيانة أعراض ودماء وأموال المسلمين ... ورحمهم الله من أئمة تجردوا للجهاد عن الإسلام وأهله بألسنتهم وأيديهم وأموالهم وقلوبهم، فلم يضيعوا كما ضيع كثير من المتأخرين حدود ومعالم وقواعد الصراع بين الحق والباطل، بسبب صفقة خاسرة عقدها أئمة الضلال مع رؤوس الطغيان والإلحاد. وأخيرًا أوجه موعظة نصحًا للأمة وبراءة للذمة: عليكم بالحق العتيق، وهدي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - المترجم عمليًا في سيرة العلماء الربانيين، وبه فقط زنوا الناس لتعرفوا علماء الاستقامة من علماء الضلالة. فنحن أمة ممتدة بحقها إلى آدم عليه السلام، وإلى الأنبياء بعده من ولده، وعلى رأسهم الخليلان، إبراهيم ومحمد، عليهما الصلاة وأزكى التسليم.

تفسير قوله تعالى:} ولقد قالوا كلمة الكفر {

الثاني: أن البدع تجر إلى الردة الصريحة كما وجُد من كثير من أهل البدع. فمثال البدع التي شددوا فيها: مثل تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، خوفًا مما وقع من الشرك الصريح، الذي يصير به المسلم مرتدًا، فمن فهم، فهم الفرق بين البدع، وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة، ومجاهدة أهلها، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله، وهذا هو الذي أنزلت فيه الآيات المحكمات مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة: 74] (40/ش). ــــــــــــــــــــــــــــــــ فسيرة أهل الحق واضحة وبينة ومحفوظة، وضاربة بعمق في جذر تاريخ البشرية، ومحفوظة، ليحيا من حي عن بينة ... ويهلك من هلك عن بينة. اللهم بلغت ... اللهم فاشهد ... اللهم فاشهد .... اللهم فاشهد .... (40/ش) قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} نص قطعي الثبوت والدلالة على أن الكفر والردة عن الإسلام يقع بكلمة، وهذا من أدلة أهل السنة القائلين: بأن الكفر يقع بالقول وبالعمل، وبالاعتقاد. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في أثناء رده على غلاة

................................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــ المرجئة من المتأخرين: «قال الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة: 74]. أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون» (¬1). ¬

_ (¬1) كشف الشبهات/32.

هدي السلف في مواجهة البدع وأهلها

وقال ابن وضَّاح «في كتاب البدع والحوادث» (¬1) بعد حديث ذكره: أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الكفر وفتنة الضلالة. قال رحمه الله: إن فتنة الكفر هي الردة، يحل فيها السبي والأموال وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي ولا الأموال، وقال رحمه الله أيضًا (¬2). أخبرنا أسد، أخبرنا رجل، عن ابن المبارك، قال: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًّا من أوليائه يذب عنه وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله. قال ابن المبارك: وكفى بالله وكيلاً، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف (¬3)، قال: لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إلى من اعتكاف شهر. أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي قال: كان بعض أهل العلم يقولون: لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صدقة، ولا صيامًا، ولا جهادًا، ولا حجًا، ولا صرفًا ولا عدلاً، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم. قال: ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك عنهم سترًا، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها أو بالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا به، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة، يعتصم بها على مصرٍّ ملحد. ¬

_ (¬1) كتاب البدع (1/ 272). (¬2) كتاب البدع (1/-3 - 181). (¬3) هو عبد الكريم أو أمية.

ثم روى بإسناده قال: جاء رجل إلى حذيفة، وأبو موسى الأشعري قاعد فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قُتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة فقال: رويدك، وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يُصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار، ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا، ثم ذكر بإسناد عن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة فإنه يُمرض قلبك. ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به، فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموه وإني واثق بنفسي. فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال: من أتى صاحب بدعة ليوقِّره فقد أعان على هدم الإسلام. أخبرنا أسد قال: حدثنا كثير أبو سعيد قال: من جلس إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه. أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل

الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون. قال أيوب- وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب. أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا زيد، عن محمد بن طلحة قال: قال إبراهيم: لا تجالسوا أصحاب البدع ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم. أخبرنا أسد بالإسناد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) (¬1). أخبرنا أسد، أخبرنا مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: دخل على محمد بن سيرين يومًا رجل فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن أقرأها ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه ثم قال: أُحَرِّجُ عليك إن كنت مسلمًا لما خرجت من بيتي. قال فقام بإزاره يشده عليه، وتهيأ للقيام، فأقبلنا على الرجل فقلنا: قد حَرَّج عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلاً من بيته؟ قال فخرج. فقلنا يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (7685)، وأخرجه الحاكم، وقال صحيح إن شاء الله، ووافقه الذهبي على لفظة المستدرك (7230). وعزاه العجلوني إلى أبي داود والترمذي وقال: حسنه البيهقي. وتساهل ابن الجوزي فأورده في الموضوعات، وخطأه الزركشي، وحسنه الحافظ، انظر كشف الخفاء (2/ 1278)، وحسنه الألباني، انظر كتاب الإيمان لابن تيمية بتحقيقه/55.

قال إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكنني خفت أن يلقي في قلبي شيئًا، أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع. أخبرنا أسد قال: أخبرنا ضمرة، عن سودة قال سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول: ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه قال: فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال: تصديقه في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه) (¬1). أخبرنا أسد قال أخبرنا موسى بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن زيد، عن أيوب قال كان رجل يرى رأيًا فرجع عنه، فأتيت محمدًا فرحًا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانًا ترك رأيه الذي كان يَرى. فقال: انظروا إلى ما يتحوَّل، إن آخر الحديث أشدُّ عليهم (¬2) من أوله (يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه) (¬3) ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفِّه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفًا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الِّدين كما دفنت هذه الحصاة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (7562) (¬2) أي على الخوارج، ونحوهم من أهل البدع والأهواء. (¬3) سبق تخريجه.

أخبرنا محمد بن سعيد بإسناد، عن أبي الدرداء قال: لو خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم إليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم. قال عيسى: يعني الراوي عن الأوزاعي - فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان. أخبرنا محمد بن سليمان بإسناده، عن علي أنه قال: تعلموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان يُنكر الحق فيه تسعة أعشارهم. أخبرنا يحيى بن يحيى بإسناده، عن أبي سهل بن مالك، عن أبيه أنه قال: ما أعرف منكم شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده، عن أنس قال: ما أعرف منكم شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده، عن أنس قال ما أعرف منكم شيئًا كنت أعهده على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس قولكم لا إله إلا الله. أخبرنا محمد بن سعيد قال: نا أسد بإسناده، عن الحسن قال: لو أن رجلاً أدرك السلف الأول، ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا قال: ووضع يده على خدِّه، ثم قال: إلا هذه الصلاة؛ ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرا -ولم يدرك هذا السلف الصالح- فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى

دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحنُّ إلى ذكر هذا السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم ويقتصُّ آثارهم، ويتبع سبيلهم ليعوَّض أجرًا عظيمًا، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى. حدثني عبد الله بن محمد بإسناده، عن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلاً نُشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة. أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده، عن أم الدرداء قالت دخل عليَّ أبو الدرداء مغضبا، فقلت له: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئًا إلا أنهم يصلون جميعًا. وفي لفظ: لو أن رجلاً تعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده ما عرف منه شيئًا. حدثني إبراهيم بإسناده، عن عبد الله بن عمرو قال: لو رجلان من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم، ولا يعرفان شيئًا مما كانا عليه. قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة - رضي الله عنه - تلا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1، 2]. فقال: والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجًا كما دخلوا فيه أفواجًا. قف تأمل رحمك الله: إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة، فكيف يغتر المسلم بالكثرة، أو تشكل عليه، أو يستدل بها على الباطل.

ثم روى ابن وضاح (¬1) بإسناده عن أبي أمية قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تصنع في هذه الآية فقال: أية آية؟ قال قول الله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. قال: أما والله قد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحًا مطاعًا وهوى مُتبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام. فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قيل يا رسول الله أجر خمسين منهم، قال أجر خمسين منكم» (¬2) ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طوبى للغرباء ثلاثًا، قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يبغضهم أكثر ممن يحبهم (¬3). ¬

_ (¬1) البدع لابن وضاح. (¬2) سنن أبي داود (4341)، وسنن الترمذي وقال: حسن غريب 358، وصححه ابن حبان (385)، وقال الألباني: صحيح لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (3172). (¬3) نسبه الهيثمي في المجمع إلى مسند أحمد، والأوسط للطبراني، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف -المجمع (12191).

أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن المعافري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «طوبى للغرباء الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر، ويعملون بالسُّنَّة حين تُطفأ» (¬1). أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا أسد بإسناده عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بدأ الإسلام غريبًا، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس) (¬2)، نا محمد بن يحيى، نا أسد بإسناده عن عبد الرحمن، أنه سمع رسول الله يقول: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) (¬3) هذا آخر ما نقلته من كتاب البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح - رحمه الله - (41/ش). ــــــــــــــــــــــــــــــ (41/ش) هذا سبيل أهل السُّنَّة والجماعة في معاملة أهل البدع والشقاق، حتى يظل المنهج القويم الذي تركه لنا رسولنا الأمين - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا واضحًا نقيًا من شوائب البدع والمحدثات. وحتى يظل الطريق مسدودًا أمام أهل الزندقة ¬

_ (¬1) لم أجد له ذكر إلا في كتاب الاعتصام للشاطبي أثناء كلامه على حديث الغربة، ولم يزد على قوله، وفي رواية لابن وهب، ثم ساق هذه الرواية انظر: الاعتصام (1/ 12). (¬2) بحثت عنه فلم أجده بهذا اللفظ. (¬3) مسند أحمد (16736)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1273).

رسالة لمحمد بن عبد اللطيف في حكم السلام على الرافضة والمبتدعة

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ والإلحاد، الذين يريدون نشر البدع والضلالات لتوهين شوكة الأمة، ولفتح باب الشرك والكفر على مصراعيه، لأن البدع تجر أصحابها جرًا إلى الردة والخروج من الملة. وعليه فينبغي أن يُعامل أهل البدع اليوم، لا سيما الرافضة المارقين من الملة بما هم أهله، حتى يظل التوحيد صافيًا من دَخن الشرك، وتدوم السُّنَّة خالصة من غبار البدعة. «سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، أقامه الله مناضلاً عن الدين الحنيف: رجلان تنازعا في السلام على الرافضة والمبتدعين، ومن ضاهاهم من المشركين، وفي مواكلتهم ومجالستهم، فقال أحدهما: هو جائز، لقول عالمي: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، ووفد على عمر بن عبد العزيز: كثير عزَّة، وهو متَّهم بالتشيُّع، ورسول عمر وفد على جبلة الغساني بعد ردته. وقال الآخر: لا يجوز لدليل آيات الموالاة، ولقوله تعالى: {وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] والسلام على عباد الله الصالحين، وأن ترك السلام على الفاسق وأهل المعاصي سُنَّة، وهؤلاء أشرُّ حالاً وعقيدة منهم. فأجاب: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة والمشركين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجَّلين، محمد وآله وصحبه والتابعين.

لا يستقيم دين العبد إلا بمعاداة أعداء الله، وموالاة أوليائه

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ أما بعد: فقد سألني من لا تسعني مخالفته، عن هذا السؤال المذكور أعلاه، بما عليه أهل التحقيق من أئمة الإسلام، والهداة الأعلام، وما نعتقده في ذلك وندين الله به؟ فنقول: اعلم وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى، أنه لا يستقيم للعبد إسلام ولا دين، إلا بمعاداة أعداء الله ورسوله، وموالاة أولياء الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تميلوا إليهم في المودة ولين الكلام، وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم، وقال بعض العلماء: من مشى غليهم ولم ينكر عليهم، عُدَّ من الراكنين إليهم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ فالواجب على من أحب نجاة نفسه، وسلامة دينه، أن يعادي من أمره الله ورسوله بعداوته، ولو كان أقرب قريب، فإن الإيمان لا يستقيم إلا بذلك والقيام به، لكنه من أهم المهمات، وآكد الواجبات. إذا عرفت هذا: فمواكلة الرافضي، والانبساط معه، وتقديمه في المجالس، والسلام عليه، لا يجوز لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة بين المسلمين والمشركين، بقوله: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. والسلام تحية أهل الإسلام بينهم، فإذا سلَّم على الرافضة، وأهل البدع، والمجاهرين بالمعاصي، وتلقَّاهم بالإكرام والبشاشة، وألان لهم الكلام، كان ذلك موالاة منه لهم، فإذا وادّهم وانبسط لهم مع ما تقدَّم جمع الشر كله، ويزول ما في قلبه من العداوة والبغضاء، لأن إفشاء السلام سبب لجلب المحبة، كما ورد في الحديث: (ألا أدلكم على ما تحابون به)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (أفشوا السلام بينكم) (¬1)، فإذا سلَّم على الرافضة والمبتدعين وفسَّاق المسلمين، خلصت مودته ومحبته في حق أعداء الله وأعداء رسوله. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (54)، وسنن الترمذي (2510) والحديث رواه المصنف بمعناه. والله أعلم.

تحذير السلف من موادة أهل البدع والمعاصي

«تحذير السلف من موادة أهل البدع والمعاصي». وعن قتادة عن الحسن: ليس بينك وبين الفاسق حُرمة، وقال الحسن: لا تُجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك، وقال النخعي: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلِّموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم. فانظر -رحمك الله- إلى كلام السلف الصالح، وتحذيرهم عن مُجالسة أهل البدع والإصغاء لهم، وتشديدهم في ذلك، ومنعهم من السلام عليهم. فكيف بالرافضة: الذين أخرجهم أهل السُّنَّة والجماعة من الثنتين والسبعين فرقة؟ مع ما هم عليه من الشرك البواح، من دعوة غير الله في الشدة والرخاء، كما هو معلوم من حالهم، ومواكلتهم والسلام عليهم - والحالة هذه - من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، فيجب هجرهم والبعد عنهم، والهجر مشروع لإقامة الدين، وقمع المبطلين، وإظهار شرائع المرسلين، وردع لمن خالف طريقتهم من المعتدين. قال البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه: «باب من لم يسلِّم على من ارتكب ذنبًا، ولم يرد سلامه، حتى تتبيَّن توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي» (¬1). قال ابن حجر في الفتح (¬2): وابتداء الكفار بالسلام، أجازه طائفة من العلماء ¬

_ (¬1) أورده الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الاستئذان. (¬2) انظر: فتح الباري (11/ 40).

.................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنعه طائفة، قال: والحق مع المانعين، إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية، وكذلك أهل البدع والمعاصي المجاهرين بها، يمنع من ابتدائهم بالسلام والرد عليهم، قال المهلَّب: ترك السلام على أهل المعاصي والبدع، سُّنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم. وقال النووي: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنبًا عظيمًا ولم يتب منه، لا يسلَّم عليهم، ولا يرد عليهم السلام، كما قاله جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري بقصة كعب، انتهى. فانظر: يا طالب الحق إلى ما قاله البخاري، واستدل به، وإلى قول صاحب الفتح: والحق مع من منع، وإلى قول المهلب والنووي، ووازن بين أقوالهم، وبين قول من أجازه وأباحه وجادل عليه، تعرف أنه لا بصيرة له، ولا معرفة له بأصول الشرع وأقوال العلماء، وأما قول صاحب الفتح: إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية، فالمصلحة هي أن يُرجى بها إسلام غيره، أو تأليفه، أو غير ذلك، وأما المصالح الدنيوية فلا تترتب عليها الأمور الشرعية، ولا تناط بها أحكامها، ولا تُجعل سلَّمًا وذريعة إلى الجمع بين ما فرَّق الله ورسوله بينهما. وقال البغوي - رحمه الله - في كتاب السُّنَّة: وأما هجر أهل المعاصي وأهل الريب والبدع في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر علامات توبتهم وأماراتها.

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن القيم (¬1) - رحمه الله تعالى - في الهدي النبوي: وفي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السلام على هؤلاء الثلاثة، يعني كعبًا وصاحبيه، من بين من تخلَّف عنه، دليل عل صدقهم، وكذب المنافقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب - إلى أن قال - وفيه دليل أيضًا: على هجران الإمام، والعالم، والمطاع، لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له - إلى أن قال -: وفي إشارة الناس للنبطي الذي يقول: من يدل على كعب ابن مالك؟ دون نطقهم له، تحقيق لمقصود الهجر، وإلا لو قالوا له صريحًا كعب بن مالك، لم يكن ذلك سلامًا، ولا يكونون به مخالفين للنهي، لكن لفرط تحريهم وتمسكهم بالأمر، إذ لم يذكروه بصريح اسمه. وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع، نوع مكالمة، لا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بالسلام، وهي ذريعة قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع، وهذا أحسن وأفقه، انتهى كلامه رحمه الله تعالى -. فانظر إلى قوله: وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته، وهو يسمع، نوع مكالمة ... إلخ، فإذا كان في ذكره باسمه نوع مكالمة، فكيف بمن ابتدأ المشرك والعاصي والمبتدع بالسلام، وأظهر له الإكرام، وأكثر عنه الجدال، والخصام! ¬

_ (¬1) زاد المعاد (3/ 506).

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) - رحمه الله -، وقد سئل عن الهجر المشروع، ومن يجب هجره أو يجوز هجره، قال في أثناء كلامه: ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف أقوامًا ويهجر آخرين، وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالا من المهجورين، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا كانوا خيرًا من المؤلفة قلوبهم، لكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، وكانت المصلحة الدينية في تأليفهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، وفي هجرهم عزّ الدين، وتطهير لهم من ذنوبهم. انتهى كلامه رحمه الله. فانظر: أيها المنصف بعين الإنصاف، واحذر التعصب والاعتساف إلى ما قاله شيخ الإسلام، من أن في هجرهم عزا للدين، هذا إذا كانوا مسلمين لكنهم أصحاب معاص واقتراف لبعض الأوزار، فيجب هجرهم واعتزالهم حتى يقلعوا، وأما المشرك والمبتدع: فلا نزاع في هجرهما ولا خلاف فيه إلا عند من قلَّ حظه ونصيبه، من العلم الموروث عن صفوة الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم ... - ثم اتخذ في سرد الأدلة على وجوب الإنكار على أهل البدع والمعاصي حتى قال - فتأمل رحمك الله ما ذكره هذا الإمام - أي الإمام البخاري -: من الأحاديث والآثار الدالة على وجوب هجر أهل المعاصي، وأن ذلك هو هديه وسنَّته، فمن أعرض عنهما، ونبذهما وراء ظهره، فقد خاب سعيه وضل عمله، فلا نجاة للخلق ولا سعادة ولا كفاية ولا هداية، إلا باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - واتباع ما ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (28/ 203 - 210) ومحل الشاهد في/ 206.

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ جاء به، ورفض ما خالفه، وهجر من نكب عن سنَّته، وإن كان الحبيب المواتيا {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] ... فمن أكرم من تلك نحلته، وتلك طريقته، كان دليلاً على عدم فقهه، وبصيرته في دين الإسلام، وعدم فرقه بين عابدي الرحمن وعابدي الأوثان، والضدان عنده يجتمعان، فلضعف بصيرته، نهج هذا المنهج، وأعرض عن الحق بعدما اتضح وأبلولج، فيخشى عليه أن يحشر يوم القيامة معهم، ويكون من جملتهم، كما كان في الدين من أصدقائهم ومعاشريهم، عياذًا بك اللَّهم من تلك الأحوال والأعمال، التي تؤول بصاحبها إلى الخزي والوبال، وسوء المنقلب في الحال والمآل. وأكثر الخلق إنما يحمله على الوقوع في تلك الورطات، الحرص على تحصيل الدنيا، والتقرب عند أهلها، وتسليك حاله معهم، ولو فسد عليه دينه وانهدم إيمانه، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللَّهُمَّ يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك. - وأخذ الشيخ يسرد الأدلة الدالة على حرمة موالاة المشركين حتى قال - وأما حكم الرافضة - فيما تقدَّم - فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في «الصارم المسلول» (¬1): ومن سبَّ الصحابة، أو أحدًا منهم، واقترن بسبه أن جبرائيل غلط في الرسالة، فلا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في ¬

_ (¬1) الصارم المسلول (3/ 590 إلى آخر الكتاب).

الرافضة اليوم حالهم وحكمهم أقبح من سلفهم الخبثاء

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــ كفره؛ ومن قذف عائشة فيما برأها الله منه، كفر بلا خلاف - إلى أن قال -: وأما من لعن أو قبَّح - يعني الصحابة (¬1) رضي الله عنهم - ففيه الخلاف، هل يفسق أو يكفر، وتوقف أحمد في تكفيره وقال: يعاقب ويجلد ويحبس، حتى يموت أو يتوب. قال - رحمه الله - وأما من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب أيضًا في كفر قائل ذلك، بل لا ريب في كفر من لم يكفره، انتهى كلامه - رحمه الله -. فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما الآن، فحالهم أقبح وأشنع، لأنهم أضافوا إلى ذلك الغلو في الأولياء والصالحين، من أهل البيت وغيرهم، واعتقدوا فيهم النفع والضر في الشدة والرخاء، ويرون أن ذلك قربة تقربهم إلى الله، ودين يدينون به، فمن توقف في كفرهم والحالة هذه، وارتاب فيه، فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليراجع دينه قبل حلول رمسه (¬2) ... وأما مجرد السلام على الرافضة، ومصاحبتهم ومعاشرتهم، مع اعتقاد كفرهم وضلالهم، فخطر عظيم، وذنب وخيم، يخاف على مرتكبه من موت قلبه ¬

_ (¬1) المقصود هنا: «بعضهم» أو «آحادهم» أما لعنهم جميعًا فلا شك أنه ردة فاحشة، واقرأ ما بعده تجده فيه. (¬2) الرمس، المقصود به هنا: الطمس، والدفن.

.................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ وانتكاسه، وفي الأثر: إن من الذنوب ذنوبًا عقوبتها موت القلوب، وزوال الإيمان. فلا يجادل في جوازه إلا مغرور بنفسه، مستعبد لفلسه، فمثل هذا يقابل بالهجر، وعدم الخوض معه في هذه المباحث، التي لا يدريها إلا من تربَّى بين يدي أهل هذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية، وتلقى عنهم أصول دينه، لأن ضدهم لا يؤمن أن يلقي عليك شيئًا من الشبه الفاسدة، التي لا تشكك في الدين وتوجب لك الحيرة، وما أحسن ما قيل: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. وأما قول المنازع: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، فهذا معاكسة وتصحيف، ليس الشأن في أخذ الهدية أو ردها، إنما الشأن والنزاع في ابتداء الكفار والمبتدعين والعصاة بالسلام، وعدم النفرة منهم، ولا يستدل بهذا على جواز السلام والمواكلة إلا من هو جاهل بالأحكام الشرعية، والسيرة النبوية، وسيرته - صلى الله عليه وسلم - وسيرة خلفائه وأصحابه من بعده ومن سلك منهاجهم من الصفوة، يخالف ما استدل به. وقبول الهدية نوع، والسلام نوع آخر، أما الهدية فقد قبلها - صلى الله عليه وسلم -، وقبلها أصحابه، والسلف الصالح من بعدهم، ولا ينكر على من قبل، ولا على من رد، ولو كانت الهدية من مشرك، وأما ترك السلام والهجر فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هجر مرتكب الذنب ولم يرد عليه، وكذلك في مكاتباته للمشركين، لا يبدؤهم بالسلام، كما

نصيحة جليلة

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ يعرف ذلك من له خبرة بسيرته وهديه، كما مرَّ في الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا تحتمل التأويل. وأما الوفود والرسل، فكانوا يفدون عليه - صلى الله عليه وسلم - ويعطيهم الجوائز ويخاطبهم باللين، ويدعوهم بدعاية الإسلام، وهم على كفرهم، فلا يستدل بذلك على: جواز السلام على المشركين والمبتدعين، ومن يتولاهم من فسَّاق المسلمين، إلا من هو من أجهل الخلق بأصول الشريعة. وأما شيخه الذي يدعي أنه على طريقته، فالمعروف عندنا من أخلاقه وسيرته: الغيرة والغلظة والشدة على أعداء الله وأعداء رسوله، والتحذير منهم ومن موالاتهم. وأما أنت أيها المنازع، فالواجب عليك تقوى الله تعالى، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، والاقتداء بالسلف الصالح، والاهتداء بهديه من، وعدم الانبساط مع من هبَّ ودبَّ، لأن الواجب على المنتسب للطلب، والمتزيي بزي أهل العلم، أعظم مما يجب على غيره، فليكن لك بصيرة ونُهمة بمعرفة أصل الأصول، وزبدة دعوة الرسل، والبحث عما يضاد هذا الأصل وينقضه، أو ينقص كماله الواجب، والوقوف عند أوامر الرب ونواهيه، والبعد عن الرذائل والقبائح .. فالحق مرحمة، والجدال والخصام ملحمة، فهذا آخر ما تيسر إيراده، وفيه الكفاية لمن أراد الله هدايته» (¬1). ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 437 - 453).

غربة الإسلام وأهل الحق

فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها، وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وقع من زمن طويل حتى قال ابن القيم - رحمه الله - الإسلام في زماننا أغرب منه في أول ظهوره، فتأمل هذا تأملاً جيدًَا لعلك أن تسلم من هذه الهُوَّة الكبيرة، التي هلك فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسواد الأكبر، والنفرة من الأقل، فما أقل من سلم منها، ما أقله ما أقله (42/ش)!!!. ــــــــــــــــــــــــــــــ (42/ش) ألا ما أشد غربة أهل التوحيد والسُّنَّة اليوم. فالمؤمنون الموحدون الذين استقاموا على السنة غرباء ما أشد غربتهم، غرباء في ديارهم، غرباء في عشائرهم، غرباء بين أبنائهم وآبائهم وإخوانهم ... وكلما ازدادت الفتن والبلايا، وكلما كثر تلبيس علماء السوء ازدادت غربتهم، وعظمت محنتهم. شردوا من أوطانهم، وحيل بينهم وبين أهليهم ومساكنهم، وتربص بهم أعداء الله في كل مكان حلّوا فيه، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، إلا أن قلوبهم قد اتسعت بقدر ما حلّ فيها من الإيمان بالله، والجهاد في سبيله. في كل لحظة من أعمارهم يدفعون ثمن غربتهم باهظًا، رماهم المخالفون بأقبح الألفاظ، وكانوا لهم أشنع التهم، واستحلوا دماءهم وأعراضهم وأموالهم ... وما نقموا منهم إلا أنهم ثبتوا على الدين الصحيح، ولم يبدلوا ولم يميعوا ولم يداهنوا، بل وداروا مع القرآن حيث دار، في وقت يدور الناس فيه مع السلطان والطواغيت وفتن الدنيا وحظوظ النفس ... حيث دارت.

.................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ أبو إلا الانطلاق: من إفراد الله بالتوحيد والطاعة مع البراءة من الشرك وأهله، وعليه عقدوا ولاءهم وبراءهم. وقد علموا أن الثمن المبذول سيكون رهيبًا، بيد أنهم متيقنون من ربح بيعهم، وثقل ثفقتهم، وعلو كعبهم على كل من عاداهم. قبضوا على دينهم في وقت غربته فاشتعل في أيديهم كالجمر، وكلما ازداد حرارة ولهيبًا ازدادوا تمسكًا واستقامة. لم يبحثوا عن الأمن في الدنيا، بل جل همهم مصروف للبحث عن الأمن في الآخرة. وهذه الغربة لا وحشة على أصحابها لأنهم بما يتنعمون، ويستعذبون كل ما يلاقون جزاء التمسك بدينهم، والعض بالنواجذ على هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. اللهم هون على المؤمنين بك غربتهم، وثبتهم على الحق الخالص حتى الممات. قال الإمام ابن قيم الجوزية في وصف الغربة، وحال أصحابها: «فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]

.................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم كما قيل: فليس غريبًا من تناءت دياره ... ولكن من تنأين عنه غريب ... وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقًّا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده. فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه. ومن صفات هؤلاء الغرباء الذي غبطهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله

معنى قوله r: (هم النزاع من القبائل) الحديث

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــ بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم، فلغربتهم بين الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم. ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هم «النزَّاع من القبائل» (¬1): أن الله سبحانه بعث رسوله، وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان ونيران وعباد صور وصلبان ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبًا، وكان من أسلم منهم، واستجاب لله ولرسوله غريبًا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته. فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعًا من القبائل، بل آحادًا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء حقًا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجًا. فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريبًا كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (3988) ومسند أحمد (3596)، وسنن الدارمي (2755) وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح ابن ماجه (3223).

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسُّنته ويقتدون بأمره - وفي رواية - يهتدون بهديه ويستنون بسنته، ثم إنها تخلُف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (¬1) انتهى ما نقلته والحمد لله رب العالمين (43/ش). ــــــــــــــــــــــــــــــ فالإسلام الحقيقي غريب جدًا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس» (¬2). (43/ش) قد تطابقت الأمة جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن وجوبه ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر به قوام الدين، وحفظ الملة، وتحقيق هوية الأمة، وكذا الأخذ على يد الظالم، وإلا عمّ العقاب الصالح والطالح قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وهو غير ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (50)، ومسند أحمد (4148). (¬2) مدارج السالكين (3/ 195 - 168).

أهميته للأمة

محصور بأصحاب الولايات فقط، بل جائز فعله لآحاد المسلمين، بشرط أن لا يجلب ضررًا أشد من ضرر وجود المنكر، وعلى هذا كان تاريخ المسلمين. وعلى قدر حفظ الأمة وفروع هذا الباب يكون الثبات والنصر والعلو على الأعداء، وعلى قدر التضييع يكون الانسلاخ من الملة وكسر الشوكة، وتسلط الأعداء. قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: «والحديث دال: على أن مراتب إنكار المنكر ثلاث. فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله - عز وجل - أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته ولا يهابنَّ من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3] واعلم أن الأجر على قدر النصب» (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 22 - 26).

هو فرض على كل مسلم

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى-: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده، وإن لم يقدر بيده فبلسانه وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولابد، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل فلا إيمان له». ومن خاف القتل أو الضرب أو ذهاب المال، فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط، ويسكت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط. ولا يبيح له ذلك: العون بلسان، أو بيد على تصويب المنكر أصلاً، لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9]. وقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (¬1)». قلت: ومن هذا نتيقن أن مراتب إنكار المنكر ثلاث، أولها باليد فإن لم يستطع العبد كان الإنكار باللسان، فإن لم يستطع كان الإنكار بالقلب ولا بد، لأنه فرض لازم لا يسقط عن أي أحد ألبتة، وإلا فعدم بغض المعصية المجمع على حرمتها بالقلب مؤذن بذهاب الإيمان بالكلية، إذ لا إيمان لمن لم ينكر ¬

_ (¬1) المحلى بالآثار (8/ 423).

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ المنكر بقلبه. وهذا مقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (¬1). قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في وجوب الأمر بالمعروف وأهميته: «وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين ... قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين. فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية والله أعلم. ثم إنه إنما يأمرون وينهى من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه ... واعلم أن هذا الباب، أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدًا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه. وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (50) ومسند أحمد (4148).

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬1)». وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان أن من لم ينكر المنكر بقلبه فقد مرق من الدين بالكلية: «ومن الإيمان بما أمر: فعل ما أمر، وترك ما حظر، ومحبة الحسنات، وبغض السيئات، ولزوم هذا الفرق إلى الممات. فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السَّيئ المنهي عنه، لم يكن معه من الإيمان شيء. كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (¬2)، وكما قال في الحديث الصحيح عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 23 - 24). (¬2) صحيح مسلم (49)، وسنن الترمذي (2137)، وسنن النسائي (4922)، وسنن أبي داود (963). (¬3) سبق تخريجه.

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر، الذي يبغضه الله ورسوله لم يكن معه من الإيمان شيء» (¬1). وقال الإمام ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: «وأما إنكاره بالقلب فلابد منه. فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه، وقد روي عن أبي جحيفة قال: قال علي رضي الله عنه: إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم. فمن لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر نكس، فجعل أعلاه أسفله. وسمع ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر. فقال ابن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض، لا يسقط عن أحد؛ فمن لم يعرفه هلك. وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب الطاقة. وقال ابن مسعود يوشك من عاش منكم أن يرى منكرًا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره» (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (8/ 367). (¬2) جامع العلوم والحكم/321.

رسالة للشيخ الإمام ابن تيمية بعث بها من السجن

وقد رأيت للشيخ تقي الدين رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه، لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلص من السجن، أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعتها، قال - رحمه الله تعالى - (¬1): الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد فقد وصلت الورقة التي فيها. رسالة الشيخين الناسكين القدوتين، أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعلهم ممن ينصر به السلطان، سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان، وسلطان القدر والنصرة باللسان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهم من الأقران، ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السر والإعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل ¬

_ (¬1) انظر مجموع الفتاوى (3/ 211 - 214).

الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيل الله

كتابه على أنه لا بد من الفتنة لكل من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان فقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 1 - 4]. فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب، وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله (44/ش). ــــــــــــــــــــــــــ (44/ش) هذا مفرق طريق دومًا بين المؤمنين والمنافقين، وبين الصادقين والكاذبين، وبين المستقيمين والناكثين على أعقابهم. فزكاة الإيمان الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، لأن الله كتب وقضى بأن دينه لن يقوم إلا بالجهاد في سبيله؛ والصراع قائم ومستمر إلى قيام الساعة بين أهل الحق والعدل وأهل الباطل والظلم قال تعالى في محكم التنزيل: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم) (¬1). وكل من شكك في هذه الحقيقة فاتهموه في دينه كائنًا من كان. فقضاة ¬

_ (¬1) متفق عليه، صحيح البخاري (2852)، ومسلم (1873).

الدين لا يقوم إلا بالجهاد

................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ النفاق اليوم يريدون تمييع حقيقة الصراع الضروس بين المسلمين والكفار من جانب المسلمين فقط، وفي الجانب الآخر يظل على أشده من أعداء الله، فهيهات هيهات أيها المجرمون. فوالذي أنفس المؤمنين بيده نحن في نحوركم قبل أن نكون في نحو أسيادكم من الكفار على اختلاف مذاهبهم وتباين مللهم. قال علامة الأمة الإمام ابن تيمية مبينًا أهمية الجهاد، وأن الدين لا يقوم إلا به: «اعلم: أن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأكمل لأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وجعله على شريعة من الأمر، وأمره أن يتبعها، ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون، وجعل كتابه مهيمنًا على ما بين يديه من الكتب، ومصدقًا لها، وجعل له شرعةً ومنهاجًا وشرع لأمته سُنن الهدى. ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد كتاب يهدي به، وحديد ينصره كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. «فالكتاب» به يقوم العلم والدين، و «الميزان» به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض. «والحديد» به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين. ولهذا كان في الأزمان المتأخرة «الكتاب» للعلماء والعباد. و «الميزان» للوزراء والكتَّاب وأهل الديوان «الحديد» للأمراء والأجناد.

الجهاد مع كل بر وفاجر

.............................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ والكتاب له الصلاة، والحديد له الجهاد، ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في عيادة المريض: (اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوًّا) (¬1)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)» (¬2) (¬3). فالدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولهذا فقد شرع مع كل بر وفاجر. ولولا الجهاد لظهر الكفَّار بالفساد في الأرض، وعملوا على تعطيل أحكام الإسلام وسعوا بالبغي والظلم بين العباد. ولهذا ولغيره الكثير سيظل فرض الجهاد باقيًا إلى قيام الساعة - على رغم أنف المنافقين والذين في قلوبهم مرض - ليدفع الله بأهل الحق والعدل أهل الباطل والظلم. قال الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن في معرض الرد على من زعم ¬

_ (¬1) سنن أبي (2701)، ومسند أحمد (6312)، وصححه ابن حبان (2974)، والحاكم وقال على شرط مسلم المستدرك (1273)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (264). (¬2) سنن الترمذي وقال: حسن صحيح (2616)، وسنن ابن ماجه (3973)، ومسند أحمد (21008)، وقال الألباني: صحيح لغيره، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2866). (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 211).

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ أن الجهاد لا يصح إلا بإمام: «ومعلوم: أن الدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد مع كل بر وفاجر، تفويتًا لأدني المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكابًا لأخف الضررين لدفع أعلاهما، فإن ما يدفع بالجهاد من فساد الدين، أعظم من فجور الفاجر، لأن بالجهاد يظهر الدين ويقوى العمل به وبأحكامه، ويندفع الشرك وأهله حتى تكون الغلبة للمسلمين، والظهور لهم على الكافرين، وتندفع سورة أهل الباطل، فإنهم لو ظهروا لأفسدوا في الأرض بالشرك والظلم والفساد، وتعطيل الشرائع والبغي في الأرض. ويحصل بالجهاد مع الفاجر من مصالح الدين ما لا يحصى، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم» (¬1). ولو ترك الجهاد معه لفجوره لضعف الجهاد، وحصلت الفرقة والتخاذل، فيقوى بذلك أهل الشرك والباطل، الذين غرضهم الفساد وذهاب الدين، فإذا ابتلي الناس بمن لا بصيرة له ولا علم ولا حلم، ونزل المشركون وأهل الفساد من قلبه منزلة أهل الإسلام لطمع يرجوه منهم، أو من أعوانهم، وأعانهم على ظلمهم، وصدقهم في كذبهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا. ويقال أيضًا: كل من أقام بإزاء العدو وعاداه، واجتهد في دفعه، فقد جاهد ولا بد، وكل طائفة تصادم عدو الله، فلا بد أن يكون لها أئمة ترجع إلى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (111)، ومسند أحمد (7744) دون قوله: «وبأقوام لا خلاق لهم» والزيادة في مسند أحمد (19555).

أحق الناس بالإمامة من أقام الدين، الأمثل فالأمثل

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــ أقوالها وتدبيرهم، وأحق الناس بالإمامة منه أقام الدين الأمثل فالأمثل، كما هو الواقع، فإن تابعه الناس أدّوا الواجب، وحصل التعاون على البر والتقوى، وقوي أمر الجهاد، وإن لم يتابعون أثموا إثمًا كبيرًا بخذلانهم الإسلام. وأما القائم به: فكلما قلت أعوانه وأنصاره، صار أعظم لأجره، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، كما قال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} [الحج: 78]، وقال: {والذين جاهدوا فينا} الآية [العنكبوت: 69]. وقال: {أذن للذين يقاتلون} الآية [الحج: 39]، وقال: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم} الآية [المائدة: 54]، وقال: {فاقتلوا المشركين} الآية [التوبة: 5]، وقال: {كم من فئة} الآية [البقرة: 249]، وقال: {يا أيها النبي حرض المؤمنين} الآية [الأنفال: 65]، وقال: {كتب عليكم القتال} الآية [البقرة: 216]. ولا ريب: أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة، والمخاطب به المؤمنون؛ فإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها منعة، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه، لا يسقط عنها فرضه بحال، ولا عن جميع الطوائف، لما ذكرت من الآيات، وقد تقدم الحديث (لا تزال طائفة) الحديث. فليس في الكتاب والسنة: ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال، ولا يجب على أحد دون أحد، إلا ما استثنى في سورة براءة (¬1)، وتأمل ¬

_ (¬1) يشير إلى قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 91 - 93].

................................................................. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا} الآية [المائدة: 56]، وكل يفيد العموم بلا تخصيص، فأين تذهب عقولكم عن هذا القرآن؟» (¬1). ¬

_ (¬1) الدرر السنية (8/ 201 - 203).

خسارة المنقلب على وجهه عند الفتنة

فقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14، 15] وأخبر سبحانه وتعالى بخسران المنقلب على وجه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف، وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وأخبر سبحانه أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين فقال تعالى: {يَا أَيْهَا الّذِيْنَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان؛ كما قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ

حكم من استحل الحشيشة

............................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]. فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يقضي له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي الله للمؤمنين من قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له» (¬1). والصبّار الشكور هو المؤمن، الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يقضي به إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة، التي هي محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان، فالحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا، كما يحبُ ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والله المسؤول: أن يثبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة، وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين، الذين أمرنا بجهادهم، والإغلاظ عليهم في كتابه المبين، انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس - رحمه الله - في الرسالة المذكورة وهي طويلة. ومن جواب له رحمه الله لما سئل عن الحشيشة ما يجب من يدعي أن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2999)، ومسند أحمد (22798).

أكلها جائز؟ فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيرًا أو قليلاً، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحلَّ ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا لا يُغسَّل، ولا يُصلَّي عليه، ولا يُدفن بين المسلمين. وحكم المرتد أشرّ من حكم اليهودي والنصراني، وسواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة، أو للخاصة الذين يزعمون: أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع في الطريق، وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة، متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93]. فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة - رضي الله عنهم - على أنهم إن أقروا بالتحريم جُلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا، انتهى ما نقلته من كلام الشيخ - رحمه الله تعالى - (¬1). فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعيَّن؛ إذا جاهر بسب دين الأنبياء، وصار مع أهل الشرك، ويزعم أنهم على الحق، ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه إلى الإسلام، انظر كيف كفر المعين، ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى (34 - 214).

نهاية الرسالة

ولو كان عابدًا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلَّها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة، واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قُدامة وأصحابه إن لم يتوبوا (¬1)، وكلامه في المعين، وكلام الصحابة في المعين، فكيف نحن فيه، مما لا يساوي استحلال الحشيشة جزءًا من ألف جزء منه. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. ــــــــــــــــــــــــــــــ اللهم ربنا لك الحمد على ما أنعمت به وتفضلت، من عونك العظيم على شرح وبيان هذه الدرة المسماة بـ «مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد للإمام المجدد، الإمام الرباني محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وطيب ثراه، وجزاه خيرًا على ما قدم من نفع عام للإسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) انظر ص 207 - 208، 381.

الكتاب في سطور

الكتاب في سطور * ردة أهل حريملا كانت سببًا في تأليف رسالة «مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد». * كان قلم الشيخ معايشًا لواقع أمته، قائمًا على ثغورها، مسلولاً على أعدائها. * ردة أهل حريملا كانت بسبب بغضهم لأهل التوحيد ومعاداتهم وقتالهم. * فتح المسلمون حريملا عنوة، وغنموا أموالها، وقسمها الإمام محمد بن عبد الوهاب بنفسه بين الموحدين. * المشركون دومًا على ضلالة، وليسوا على شيء. * أرسل الله سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء. * التزام طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط في صحة الإسلام وقبوله. * حرمة مشابهة الكفار والظلمة حرمة قطعية، وقد تؤول إلى الانسلاخ التام من الملة، والردة عن أصل الدين. * خياطة لباس الظلمة وبيعه لهم، بمنزلة بيع السلاح وقت الفتنة. * إن من أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي، التشبه بالكافرين. * استقر الأمر في الشريعة على فرضية الجهاد ضد المشركين، وهو فرض قائم إلى قيام الساعة. * القتال في الإسلام واجب حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.

* لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. * الذبح لغير الله، يحرم الذبيحة، ويرتد الذابح به عن الملة. * المشرك الذي اتخذ مع الله إلهًا آخر يُعيّن بالكفر إلا أن يكون مكرهًا. * شروط عصمة دماء المشركين وأموالهم: النطق بالشهادتين، مع العمل بمقتضاهما. * مجرد التلفظ بالشهادتين لا يكفي في الإسلام، بدون العلم بمعناهما، واعتقاده إجماعًا. * الشرك ضد الإسلام ونقيضه، والضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكذا النقيضان. * الإسلام: هو الاستسلام لله وحده بالخضوع لطاعته، مع عدم الشرك به في طاعته أحدًا، ولا في عبادته سواه. * الإسلام: هو توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا فهو كافر جاهل. * الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. * عدم تكفير ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب للمعين مقيد ومخصوص بالأمور التي يشترط فيها إقامة الحجة، وليس في نقض التوحيد بالشرك، لأن المرء لا يكون مسلمًا إلا بتحقيق التوحيد مع البراءة من الشرك وأهله.

* إن كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتها، صح كفره ولم يصح إيمانه. * حجة الله: هي القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ويجب التفريق بين قيام الحجة وفهمها. * لم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة، والعقوبات لأهل الشرك متداولة بين الأمم، جيلاً بعد جيل وقرنًا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على الشرك وأهله. * من كفر المسلمين لهواه كالخوارج والرافضة، أو كفّر عامة من أخطأ المسائل الاجتهادية أصولاً وفروعًا، فهذا مبتدع ضال مخالف لما عليه سلف الأمة وأئمتها. * أول شرك وقع على وجه الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين، وأعان عليه ومرره بين العباد تنسخ العلم وانتشار الجهل، وهكذا أمر الشرك دومًا. * الشرك قبل قيام الحجة ذنب تجب التوبة منه بعد العلم والبيان بإخلاص التوحيد لله. * حسن التوحيد وقبح الشرك أمر ثابت في نفسه قبل الرسالة وبعدها، ومعلوم بالعقل والفطرة. * لعن الله من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، فكيف بقبور الصالحين. * الغلو من أعظم أسباب المروق من الإسلام. * تعظيم القبور كان من أكبر أسباب عبادة الأوثان.

* إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. * الشرك الأصغر قد يصل إلى الشرك الأكبر بحسب حال صاحبه ومقصده. * اتفق أهل الملل على أن العبد لا يكون مؤمنًا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله. * إن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، فإن لم يعادهم فهو منهم ولو لم يفعله. * من دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. * أجمع العلماء: على كفر من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن شك في كفره وعذابه كفر. * أجمع المسلمون: على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، أو شك في كفرهم. * من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر. * من تكلم بالكفر كفر، إلا في حال الإكراه مع اطمئنان قلبه بالإيمان. * من تكلم بالكفر كفر، سواه فعله خوفًا، أو طمعًا، أو مداراة، أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح ... إلا المكرَه. * قد يقع الكفر، ليس بسبب تغير الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة للكفر ... وإنما سببه: أن لصاحبه حظا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين.

* قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر، فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض قدر المستطاع، وما ذاك إلا لعظم الكفر بعد الإيمان. * الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعي الزكاة قتال مرتدين، وشهدوا على قتلاهم بالنار لمجرد منع الزكاة وليس لأجل جحدها. * لا نشهد لمعين مات من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا عن علم، ولكن نرجوا للمحسنين، ونخاف على المسيئين. * ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم له بها. فإن مات على الإيمان حكم له به؛ وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله. * الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطّلاع السرائر. * من مات على الكفر نشهد له بالنار على التعيين، ولكن على وجه غلبة الظن المناط به إجراء الأحكام، وليس على وجه اليقين. * الردة عن الإسلام تقع بالقول، وبالفعل، وبالاعتقاد. * اسم المشرك ثبت قبل الرسالة لمن أشرك بربه، وعدل به، وجعل له أندادًا. * جعل الله -جل في علاه- في فطر بني آدم قدرًا من التوحيد يتبينون به بطلان الشرك، وهو التوحيد الذي شهدنا به على أنفسنا، ونحن في عالم الذر قبل الخلق. * العقل الفطري الذي به تعرف التوحيد، حجة في بطلان الشرك، ولا يحتاج ذلك إلى رسول.

* العذاب على فعل الشرك في الدارين لا يكون إلا بعد إقامة الحجة. * من ادعى أن للكتب الإلهية بواطن تخالف ظواهرها فهو كافر زنديق باتفاق المسلمين واليهود والنصارى. * شر الباطنية دخل على المسلمين من باب التشيع، وهو الباب الخبيث الذي دخلت منه كل بلية على الإسلام وأهله. * دار مصر في عهد العبيديين كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب. * القرامطة ودعاة علم الباطن أشد عداوة للمسلمين من التتار، وهم أكفر من اليهود والنصارى، أرادوا إبطال دعوة النبيين، وإفساد ملة المرسلين. * من كان مسلمًا في الباطن، وهو جاهل معظم لقول أهل الحلول والاتحاد فهو منهم. * لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها من شعائر الكفر والشرك. * تبرأ الله – جل في علاه – ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين وحذره نفسه أشد التحذير، وأحبط عمله، وجعله من الخاسرين. * أوجب الله الموالاة بين المؤمنين، وبيّن أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكافرين، وبين أن ذلك منتفٍ في حق المؤمنين، وأنه حال للمنافقين. * موالاة الكفار تنافي الإيمان منافاة الضد للضد. * لا تصلح موالاة المؤمنين إلا بمعاداة الكافرين، فلا ولاء لله إلا بالبراءة من أعدائه.

* من قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل «لا إله إلا الله» ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، فهذا لا يكون مسلمًا. * مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ناقض من نواقض الإسلام والإيمان. * لا بد من بغض المشركين والبراءة منهم حتى يصح الدخول في الإسلام. * لو قال رجل: أنا اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الحق، لكن لا أتعرض اللات والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله ما علي منهم، لم يصح إسلامه. * ليتقي أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًّا، وهو لا يشعر. * من والى الكفار خوف الدوائر فهو كافر، ولو كان مصدقًا بالإسلام في الباطن، وقاطعًا ببطلان دين الكفار والمشركين. * إيمان المؤمنين يفسد ويبطل بموالاة الكافرين، ولو كانوا أولي قربى. * أمر الله المسلمين: بمصارمة الكافرين، وعداواتهم، ومجانبتهم، والتبري منهم. * إذا خاف المسلم من سفك دمه من الكفار المحاربين، فرخص له أن يُظهر لهم قدرًا من الموالاة -في الظاهر من غير اعتقاد لها في الباطن- يكف به شرهم بشرط أن لا يعين: على سفك دم حرام، أو مال حرام، أو يدل الكفار على عورات المسلمين. * من لحق بدار الكفر والحرب مختارًا، محاربًا للمسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها.

* النبي - صلى الله عليه وسلم - بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. * إذا لحق المسلم بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام، فهو مرتد بتركه دار الإسلام ولحوقه بدار الحرب. * الرافضة تحب دولة الكفار والمشركين، وظهورهم على المسلمين والمؤمنين. * الرافضة لم تكتف بخذلان المسلمين حتى قاتلوا مع الكفار ضدهم. * كل من قفز مختارًا من جند المسلمين إلى جند الكفار فحكمه حكمهم في الكفر والقتال. * استقرت السنة: على أن عقوبة المرتد أعظم وأشد من عقوبة الكافر الأصلي. * الأدلة على كفر المسلم إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على المسلمين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام أهل العلم المعتمدين. * إن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولا، وغضبًا لله ورسوله ودينه، لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفر ذلك، بل ولا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده، بشرط أن يكون ضابطًا ضبطًا جيدًا لأحكام التكفير وشروطه وموانعه. * الرافضة من أضل الناس في المنقول والمعقول، ومن أكذبهم في النقليات، وأجهلهم في العقليات. * الرافضة أدخلوا على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد.

* أصل دين الرافضة من إحداث الزنادقة المنافقين. * الرافضة طعنوا في صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والطعن فيهم طعن في دين رب العالمين. * الرافضة دأبهم دومًا: البراءة من المسلمين، والتولي للكافرين. * لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم. * أشبه الناس باليهود، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله. * ليس في المظهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة من الرافضة، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر ما يوجد فيهم. * ديارهم أكثر البلاد ظلمًا، وجنسهم مختلف تمامًا عن جنس المسلمين، أي أن ملتهم مباينة ومضاداة لملة المسلمين. * يسفكون دماء المسلمين، وينهبون أموالهم مستحلين لذلك، لأنهم يعتقدون أن المسلمين أشد كفرًا وضررًا عليهم من اليهود والنصارى المشركين، ولذلك تراهم دائمًا يوالون الكفار، ويعاونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم. * العامة لا تعرف في مقابلة السني إلا الرافضي، وما ذاك إلا لظهور مناقضتهم لما جاء به رسولنا العظيم - صلى الله عليه وسلم -، ولسعيهم الدؤوب في العمل على إبطال دينه، ونقض عراه، وإفساد قواعده.

* انهزم المسلمون يومًا أمام النصارى، فباعوهم أولادنا بيع العبيد وأموالنا، ومشى بعضهم حاملاً لراية الصليب. ألا لعنة الله على الظالمين. * معاداتهم وضررهم على دين الإسلام والمسلمين أشد وأعمق من عداوة وضرر اليهود والنصارى والمشركين، ومن كان شاكًّا فليسأل التاريخ، ولينظر اليوم في أحوال المسلمين. * أيامهم في الإسلام كلها سود، وأعرف الناس بعيوبهم أئمة أهل التوحيد والسنة، ولا تزال تطلّع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم. * الرافضة - عليهم لعائن الله تترا - أخرجهم أهل السُّنَّة عن الثنتين والسبعين فرقة، وزاد أواخرهم الشرك في الربوبية والألوهية، ووصلوا فيه لحد لم يبلغه أهل الجاهلية الأولى. * البدع قد تجر أصحابها إلى الردة الصريحية، والمباينية التامة عن الملة. * لا تجالس صاحب البدعة فإنه يمرض قلبك. * من وقّر أهل البدع فقد أعان على هدم الإسلام. * تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله. * طوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسده الناس. * أهل الغربة في الإسلام هم أهل الله وخاصته، فبها يتنعمون، وبها يتلذذون. * الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض لازم على كل مسلم، إن قدر بيده فبيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان.

خاتمة الشرح

* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يختص بأصحاب الولايات فقط، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. * يشترط في الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالمًا بما يأمر وينهى. * إذا ترتب على إنكار المنكر منكر أشد فهو منكر وغير مشروع. * يوشك من عاش منكم أن يرى منكرًا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. * الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيل الله. * الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم. * ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله. * الواجب على كل مسلم: تقوى الله تعالى، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والاقتداء بالسلف الصالح، والاهتداء بهديهم، مع العمل الدؤوب على إخراج الإسلام من غربته الثانية إلى الظهور والعلو والتمكين. ... وبهذا تكون قد انتهينا من شرح هذه الرسالة المباركة، فإن وُفقت فمن الله، وإن كانت الأخرى فمني ومن الشيطان، والله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - منها بريئان. اللَّهم إني أعلم أني لي ذنوبًا كبارًا، اللهم فلا تجعلها حائلا ومانعًا من وصول الحق وبيانه والانتفاع به، فإنك يا ربنا تعلم خائنة الأعين وما تُخفي

الصدور، وتعلم مدى التلبيس الحاصل اليوم من علماء السوء وأئمة الضلال. اللهم فاجعل هذا الكتاب نبراسًا مضيئًا للسالكين إليك في درب الحق من أجل الوصول إلى طاعتك ورضوانك، ومن أجل إرغام أنوف أعدائك ... اللهم هذا البيان، ومنك الإعانة، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك يا علي يا عظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين كتبه أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج 19/ 4/1428 هـ ص. ب 7612 - الرياض 11472 E- abo_ yosef2003@hotmial. com

فهرس أهم المراجع والمصادر

فهرس أهم المراجع والمصادر - القرآن الكريم - صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري أبو الحسين - موطأ مالك، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر - مسند أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث بن شداد أبو داود - سنن النسائي، أحمد بن شعيب بن علي بن سنان - سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الترمذي - سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني أبو عبد الله. - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الفضل بن بهرام - سنن البيهقي الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي - السنن الكبرى، أحمد بن شعيب بن علي بن سنان النسائي - مصنف ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم العبسي أبو بكر بن أبي شيبة. - الآحاد والمثاني، أحمد بن عمرو بن الضحاك الشيباني - صحيح ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي. - صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري - المستدرك على الصحيحين محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري. - مسند أبي يعلى، أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي. - مسند الحميدي، عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي. - مصنف عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني أبو بكر - -

- المعجم الكبير والأوسط والصغير، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي. - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري أبو جعفر. - تفسير القرآن العظيم إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء. - الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي. - معالم التنزيل، الحسين بن مسعود الفراء البغوي. - زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي. - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني. - أحكام القرآن، محمد بن إدريس الشافعي أبو عبد الله. - أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر. - أحكام القرآن محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بأبي بكر بن العربي. - أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي. - في ظلال القرآن سيد قطب. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان عبد الرحمن بن ناصر السعدي. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. - صحيح مسلم بشرح النووي محي الدين يحيى بن شرف النووي أبو زكريا - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري. - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري. - -

- شرح معاني الآثار: أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي. - تهذيب الكمال، يوسف بن الزكي عبد الرحمن أبو الحجاج المزي. - الإصابة في تميز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - لسان الميزان، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. - القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني. - السنة، أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال أبو بكر. - السنة، عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة هبة الله بن الحسين بن منصور اللالكائي أبو القاسم - العقيدة الطحاوية أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي. - شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي. - تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (إخبار الأحياء بأخبار الإحياء). - عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الرحمن العمري المعروف بـ: العراقي. - زوائد سنن ابن ماجه، أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري. - كتب أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس - مجموع الفتاوى - الفتاوى الكبرى - منهاج السنة النبوية - دار تعارض العقل والنقل - الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -

- اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم - الاستقامة - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية - قاعدة في المحبة - شرح العمدة في الفقه - زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور - جامع الرسائل - كتب محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بـ (ابن قيم الجوزية) - زاد المعاد في هدي خير العباد - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان - إعلام الموقعين عن رب العالمين - أحكام أهل الذمة - مدارج السالكين - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين - مفتاح دار السعادة - طريق الهجرتين وباب السعادتين - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - كتب أئمة الدعوة - الدرر السنية - مجموعة التوحيد - تاريخ نجد - -

- كتاب التوحيد - مجموع مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب - كشف الشبهات - الرسائل الشخصية لمحمد بن عبد الوهاب - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد - كشف الأوهام والالتباس - مجموع الرسائل والمسائل النجدية - فتاوى الأئمة النجدية حول قضايا الأمة المصيرية - كتب ناصر الدين الألباني - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - مختصر إرواء الغليل - صحيح الجامع - السلسلة الصحيحة - الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب - صحيح سنن ابن ماجه - صحيح سنن الترمذي - صحيح سنن أبي داود - تلخيص أحكام الجنائز - صحيح الترغيب والترهيب - تحقيق كتاب الإيمان لابن تيمية - -

- مناسك الحج والعمرة في الكتاب السنة - كتاب البدع أبو عبد الله محمد بن وضاح القرطبي - الاعتصام، إبراهيم بن موسى الشاطبي أبو إسحاق - الأم، محمد بن إدريس الشافعي - المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أبو بكر - روضة الطالبين وعمدة المفتين، محي الدين يحيى بن شرف النووي أبو زكريا - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد. - الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، موسى الحجاوي المقدسي أبو النجا - المحلى بالآثار، علي بن أحمد بن سعيد حزم الأندلسي - الفروع، محمد بن مفلح المقدسي. - سبل السلام شرح بلوغ المرام، محمد بن الأمير الصنعاني - الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، عياض بن موسى ابن عياش أبو الفضل المشهور بالقاضي عياض. - أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، علي بن سلطان محمد القاري. - الرد على القائلين بوحدة الوجود، علي بن سلطان محمد القاري. - البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء. - تاريخ الخلفاء، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. - تاريخ نجد، حسين بن غنام، تحقيق د/ ناصر الدين أسد. - التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، عبدالرحمن بن أحمد بن رجب أبوالفرج - جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب أبو الفرج. - لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري.

كتب أخرى صدرت للمؤلف العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي. آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد كيف تدعو ملحدًا فتاوى الأئمة النجدية حول قضايا الأمة المصيرية المختصر المفيد في عقائد أهل التوحيد سلسلة تقريب تراث شيخ الإسلام ابن تيمية في العقائد والأحكام (الرسالة الأولى).

§1/1