فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري

عبد السلام العامر

مقدمة الكتاب

مقدِّمة الكتاب الحمد لله الكبير المتعال ذي الفضل والجلال. تكرّم على عباده بمزيد الفضل والإنعام. والصلاة والسلام على خير الأنام. وعلى آله وصحبه الطيّبين الكرام. وبعد. فإنَّ كتاب " عمدة الأحكام من كلام خير الأنام " للحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله (¬1). مما عمَّ خيرُه. وكثر بين أهل العلم نفعه. لِمَا تَميّز به الكتاب بِأمرين هامّين. الأمر الأول: صحة الأحاديث الواردة فيه. حيث اشترط مصنّفه الاقتصار على ما اتفق عليه الشيخان رحمهما الله. (¬2) الأمر الثاني: اختصاره (¬3) وشموله لجميع كتب الفقه. ¬

_ (¬1) تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي الجمَّاعيلي المقدسي الحنبلي رحمه الله. ولد سنة 541 هـ بجمَّاعيل. قال ابن النجار: حدَّث بالكثير وصنَّف في الحديث تصانيف حسنة , وكان غزير الحفظ من أهل الإتقان والتجويد , قيّماً بجميع فنون الحديث. وقال ابن كثير: رحم الله الحافظ عبد الغني فقد كان نادراً في زمانه في الحديث وأسماء الرجال. توفي رحمه الله يوم الاثنين سنة 600 هـ دفن في مقبرة القرافة بمصر. (¬2) سوى أحاديث قليلة. أوردها الشارح. وهي مما انفرد بها أحدُ الشيخين. كما سُننبّه عليها إن شاء الله في التعليق على الكتاب. ونبّه عليها الشارح أيضاً وغيره ممن شرح الكتاب. (¬3) بلغتْ أحاديث الكتاب 426 حديثاً. واختلاف المحقِّقين في عدِّه سببه روايات الحديث التي يُوردها المصنف, فبعضهم يضمُّها لأصل الحديث, وبعضهم يجعلُ لها رقماً خاصاً والأمر واسع.

ولذا اهتمّ به أهل العلم , واعتنوا به. وتناولوه حفظاً وشرحاً وتعليقاً على مرِّ السنين التي تلتْ تأليفَ الكتاب إلى عصرنا هذا. ولذا بلغتْ شروحُه العشرات ما بين مختصَر ومتوسط وموسَّع. منها المطبوع. ومنها المخطوط. ومنها المفقود. وأفضل هذه الشروح المطبوعة. كتاب (إحكام الأحكام) لابن دقيق العيد. المتوفى سنة 702 هـ. مع حاشيته للصنعاني. والجوانب الأُصولية واضحة جلية في هذا الشرح. وكتاب (رياض الأفهام) لعمر بن علي الفاكهاني. المتوفى سنة 734 هـ وكتاب (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام) لابن الملقن , المتوفى سنة 804 هـ وهو من أفضلها وأوسعها. وأكثرها فوائد. قال حاجي خليفة في كشف الظنون: وهو مِن أحسن مصنفاته. وكتاب (كشف اللثام) للسفاريني. المتوفى سنة 1188 هـ. وكتاب (تيسير العلام) لعبد الله البسام. المتوفى سنة 1424 هـ. وهو من الشروح المعاصرة الشهيرة , ويمتاز بحسن ترتيبه. وغيرُها كثير. رحمة الله عليهم جميعاً. وقد تميّز كلُّ شرحٍ بميزةٍ لا توجد في غيره , واتفقت هذه الشروح على الاهتمام بالجانب الفقهي للحديث أكثر من غيره , وذلك أنَّ كتاب " عمدة الأحكام " أُلّف من أجل بيان الأحكام الفقهية من

صحيح السنة النبوية. وعندما أَنظر في هذه الشروح أثناء شرحي للكتاب , لابدَّ وأنْ أرجع إلى شرح الحديث في كتاب " فتح الباري " للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله (¬1) فأجد فيه ما لا أجده في شروح العمدة. مما يشفي العليل ويروي الغليل. سواء التي تقدّمت الفتحَ أو تأخرتْ عنه. لِمَا تميَّز به " فتح الباري " من جمعٍ للروايات , ونقدٍ للأسانيد , ورفع للإشكالات , وبيانٍ للمبهمات , ونقدٍ وتحريرٍ للإجماعات , وتحرير لأقوال المذاهب المشهورة , والروايات المنثورة. وهذا ظاهرٌ جليٌ في شرح ابن حجر رحمه الله. ولذا لا تكاد تجدُ عالِماً شرحَ العمدة أو غيرهَ من كتب السنة - ممن جاء بعده - إلاَّ كان عالةً عليه في النقل بلفظه أو معناه. لكنْ أكثر ما يُشكل أنَّ الإمام البخاري رحمه الله فرّق الأحاديث في صحيحه حسب استنباطه لِفقه الحديث , فرُبَّما أورد الحديث في أكثر ¬

_ (¬1) أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين ابن حجر: من أئمة العلم والتاريخ. أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة. (773 - 852) ولَعَ بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلتْ له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه , وأصبح حافظَ الإسلام في عصره. قال السخاوي: انتشرت مصنفاتُه في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر , وكان فصيح اللسان، راويةً للشعر، عارفاً بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه. وولي قضاء مصر مرَّات ثم اعتزل. الأعلام للزركلي (1/ 178).

من خمسة عشر موضعاً أو تزيد. فيضطر الحافظ ابنُ حجر أنْ يذكرَ مناسبةَ الحديث وفقهه في كل موضع. ولذا عسُر الاطلاع على كلام ابن حجر في الفتح لتفرّقه وشتاته حسب إيراد البخاري للحديث. ولذلك كثُرتْ إحالات الشارح في كتابه. (¬1) وللحافظ اطّلاعٌ واسعٌ على شروح العُمدة لأهل العلم الذين تقدّموه كابن العطَّار والفاكهاني وابن دقيق وابن الملقن , وينقل عنهم كثيراً. خصوصاً ابن دقيق العيد. فتارةً ينقدهم. وتارةً يُقرُّ لهم. وتارةً يزيدُ عليهم. ومما يدلُّ على اطِّلاعه ما قاله ابن حجر عن كتاب " تيسير المرام في شرح عمدة الأحكام " لأبي عبد الله محمد بن أحمد التلمساني. المتوفى سنة 781 هـ. قال: جمعَ فيه بين كلام ابن دقيق العيد وابن العطار والفاكهاني وغيرهم. (¬2) بل إنَّ ابن حجر ينقُد المقدسيَّ مُصنِّفَ العمدة. فيذكر أوهامَه التي حصلتْ له. سواء في عزو الحديث , أو ذِكْر ألفاظٍ ليست في الصحيحين أصلاً , فيبيّن الوهم. ويذكر الصواب. ¬

_ (¬1) وقد تتَّبع أبو صهيب أحمد العدوي جزاه الله خيراً هذه الإحالات فجمعَهَا في كتابٍ أسماه " غبطة القاري في بيان إحالات فتح الباري " في مجلّد كبير. (¬2) نقله حاجي خليفة في " كشف الظنون "

أولا

فمَنِ اطَّلع على هذا الشرح الذي جمعتُه من فتح الباري. توهَّم أنَّ ابن حجر رحمه الله شرحَ العمدةَ نفسَها. فلمَّا رأيت هذا استعنتُ بالله في جمعِه , ولَمِّ شتاته. وأسميته: فتح السلام شرح عُمدة الأحكام. وكان عملي فيه كالآتي: أولاً: الوقوف على كل موضع أورد البخاريُّ الحديثَ فيه , ثم النظر في كلام ابن حجر في الفتح وإثباته في الشرح مع تنقيحه وترتيبه (¬1). ثانياً: لم أقتصر على ما يُورده ابن حجر في شرحه لأحاديث العمدة , بل أنظر في كلام الشارح في جميع كتابه " فتح الباري " فيما يتعلَّق بالحديث. كغريب الحديث , أو تراجم الصحابة (¬2). فربّما ترك الشارحُ الكلامَ على جزءٍ من الحديث اكتفاءً بما ذكره في شرح أحاديث أخرى ليست في العمدة - وإن لم يُحِلْ عليها - فأتتبّعها وأُثبتها في الشرح. ثالثاً: درَجَ الحافظ في شرحِه بذكر فوائد وتنبيهات وتكميلات ¬

_ (¬1) وكانت بداية شروعي في جمع هذا الشرح. في العشرين من شهر جمادى الأولى في سنة 1433 من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) إنْ وجدتُّ في الفتح ترجمةً للصحابي أوردتها , وإلَّا نقلتُ في الحاشية ترجمةً موجزةً من كتاب " الإصابة في معرفة الصحابة ". للشارح رحمه الله.

رابعا

تخصُّ الحديث. أثناء الشرح أو آخره مما يزيد الشرح حلاوةً وجمالاً , فاقْتديتُ بالشارح فضمَّنتُ الشرحَ بعض الفوائد والتكميلات والتنبيهات من الشرح لَها تعلُّق بالحديث مما ذكره في مواضع أخرى. رابعاً: حاولت تقليل حواشي الكتاب. فالشارح رحمه الله قد وفَى وكَفى في شرحه لجميع ألفاظ الحديث. إلاَّ أنَّ الشارح ربّما ذكر أحاديث دون عزو , فرأيتُ من المناسب عزوها إلى مصادرها مع ذِكر الحكم على الحديث صحةً وضعفاً من كلام الْمُتقدّمين , فإنْ رأيتُ حُكماً للشارح في موضع آخر من الفتح , أو في كُتبِه الأخرى ذكرته حتى تتم الفائدة. فصاحب الدار أولى من غيره. فإنْ عزا الشارحُ الحديثَ أو حكَمَ عليه اقتصرتُ عليه. إلاَّ إن كان في أمر يحتاج إلى بيان. خامساً: أوردتُّ كلام الشارح بنصّه دون تصرّف البتة (¬1). وإنما أدخلت في بعض المواضع. عبارة القول الأول. القول الثاني. وهكذا. إذا أورد الشارح أقوال الفقهاء. وكذا الأُوجه والأجوبةَ التي يوردها ¬

_ (¬1) ربّما أدخلت بعض الحروف على بعض الكلمات للربط بين كلامَي الشارح إذا جمعتُ كلامه من عدّة مواضع. وكذا أوردتُّ الأحاديث التي يُحيل عليها الشارح من صحيح البخاري دون أنْ يذكرها , فأثبتُّها في الشرح حتى يتمَّ الكلام.

سادسا

الشارح إثناء مناقشته للمسائل الفقهية والحديثية. (¬1). سادساً: نبَّهت على الأخطاء المطبعية الواقعة في الفتح. وكذا الأوهام أو المسائل العقدية التي وقعتْ للشارح رحمه الله. ونقلتُ أيضاً تعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله على الفتح. سابعاً: خرَّجتُ أحاديث العمدة مقتصراً في العزو على الصحيحين فقط. مع ذكر أسانيدها بالتفصيل حتى يتمكن القارئ من معرفة ما يدور عليه الحديث من الرجال أثناء كلام الشارح على الأسانيد , فالشارح - في الغالب - يعزو الروايات للرجال دون الْمُخرِّجين. ثامناً: ذكرت ترجمة مختصرة للشرَّاح الذين يتكرر نقل ابن حجر عنهم. واللهَ أسأل أن ينفع بهذا الجمع المبارك عموم طلاَّب العلم. وكتبه. أبو محمد عبد السَّلام بن محمَّد العامر. غفر الله له. بتاريخ 19/ 5 / 1435 للهجرة. القصيم. بريدة. البريد الإلكتروني [email protected] ¬

_ (¬1) هذا في بعضها , ففي كثيرٍ من المواضع يذكر الشارح هذه العبارات بنفسه.

كتاب الطهارة

كتاب الطّهارة قوله: (كتاب الطهارة) هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب الطهارة. وكتاب: مصدر، يقال كتب يكتب كتابة وكتاباً، ومادّة كتب دالةٌ على الجمع والضّمّ، ومنها الكتيبة والكتابة، استعملوا ذلك فيما يجمع أشياء من الأبواب والفصول الجامعة للمسائل. والضّمّ فيه بالنّسبة إلى المكتوب من الحروف حقيقة وبالنّسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز. والباب موضوعه المدخل , فاستعماله في المعاني مجاز.

الحديث الأول

الحديث الأول 1 - عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنّما الأعمال بالنّيّات. وفي رواية: بالنّيّة , وإنّما لكل امرئٍ ما نوى , فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله , فهجرتُه إلى الله ورسوله , ومَن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبُها أو امرأةٍ يتزوّجُها , فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه. (¬1) قوله: (عمر بن الخطاب) أي ابن نفيل - بنون وفاء مصغر - ابن عبد العزى بن رياح - بكسر الراء بعدها تحتانية وآخره مهملة - ابن عبد الله بن قرط بن رزاح - بفتح الراء بعدها زاي وآخره مهملة - ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب، وعددُ ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد، بخلاف أبي بكر. فبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكعبٍ سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية. وأُمُّ عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة - ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة - ووقع عند ابن منده , أنها بنت هشام أخت أبي جهل , وهو تصحيف نبَّه عليه ابن عبد البر وغيره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري رقم (1 , 54 , 2392 , 3685، 4783، 6311، 6553) ومسلم (1907) من طرق عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - به.

أما كنيته. فجاء في " السيرة " لابن إسحاق , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كنَّاه بها، وكانت حفصةُ أكبر أولاده. وأما لقبه فهو الفاروق باتفاق. فقيل: أول من لقبه به النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في " تاريخه " من طريق ابن عباس عن عمر، ورواه ابن سعد من حديث عائشة. وقيل: أهل الكتاب. أخرجه ابن سعد عن الزهري. وقيل: جبريل. رواه البغوي. وكان قتلُ عمر - رضي الله عنه - في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث عشرة سنة إلاَّ ثلاثة أشهر. قوله: (سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) حكى المُهلَّب (¬1) , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خطب به حين قدم المدينة مهاجراً. انتهى إلاَّ أنّني لَم أر ما ذكره من كونه - صلى الله عليه وسلم - خطب به أوّل ما هاجر منقولاً. وقد وقع في البخاري بلفظ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا أيّها النّاس إنّما الأعمال بالنّيّة. الحديث، ففي هذا إيماء إلى أنّه كان في حال الخطبة. ¬

_ (¬1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله، الأسدي الأندلسي المريي، مُصنِّف " شرح صحيح البخاري ". وكان أحد الائمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء. أخذ عن أبي محمد الاصيلي، وفي الرحلة عن أبي الحسن القابسي، وأبي الحسن علي بن بندار القزويني، وأبي ذر الحافظ. روى عنه: أبو عمر بن الحذاء، ووصفه بقوة الفهم وبراعة الذهن. ولي قضاء المرية. توفي في شوال سنة 435. قاله الذهبي (17/ 579).

أمّا كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدلّ عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصّة مهاجر أمّ قيس. قال ابن دقيق العيد (¬1): نقلوا أنّ رجلاً هاجر من مكّة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة. وإنّما هاجر ليتزوّج امرأة تسمّى أمّ قيس، فلهذا خصّ في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به. انتهى. وقصّة مهاجر أمّ قيس رواها سعيد من منصور قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: من هاجر يبتغي شيئاً فإنّما له ذلك، هاجر رجلٌ ليتزوّج امرأة يُقال لها أمّ قيس , فكان يُقال له مهاجر أمّ قيس. ورواه الطّبرانيّ من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجلٌ خطب امرأة يقال لها أمّ قيس فأبت أن تتزوّجه حتّى يهاجر فهاجر فتزوّجها، فكنّا نسمّيه مهاجر أمّ قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشّيخين، لكن ليس فيه أنّ حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولَم أر في شيء من الطّرق ما يقتضي التّصريح بذلك. ¬

_ (¬1) محمد بن علي بن وهب بن مطيع، الإمام العلاَّمة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح ابن دقيق العيد القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي، أحدُ الأعلام وقاضي القضاة؛ ولد 725 هـ بناحية ينبع , وتوفي يوم الجمعة 11 صفر سنة 702 هـ. فوات الوفيات (3/ 442) وغالب نقولات الشارح عن ابن دقيق. هي ما في شرحه للعمدة كما ذكرناه في المقدّمة.

وقد تواتر النّقل عن الأئمّة في تعظيم قدر هذا الحديث: قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث. واتّفق عبد الرّحمن بن مهديّ والشّافعيّ فيما نقله البويطيّ عنه وأحمد بن حنبل وعليّ بن المدينيّ وأبو داود والتّرمذيّ والدّارقطنيّ وحمزة الكنانيّ على أنّه ثلث الإسلام. ومنهم مَن قال: رُبعه، واختلفوا في تعيين الباقي. وقال ابن مهديّ أيضاً: يدخل في ثلاثين باباً من العلم. وقال الشّافعيّ: يدخل في سبعين باباً، ويحتمل: أن يريد بهذا العدد المبالغة. وقال عبد الرّحمن بن مهديّ أيضاً: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كلّ باب. ووجّه البيهقيّ كونه ثلث العلم: بأنّ كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنّيّة أحد أقسامها الثّلاثة وأرجحها؛ لأنّها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد: نيّة المؤمنِ خيرٌ من عمله (¬1)، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في " الشعب " (6595) من حديث أنس مرفوعاً. قال البيهقي: إسناده ضعيف. وقد ذكره ابن حجر في كتاب الصيام كما سيأتي. وعزاه للشهاب وضعّفه. انظر " المقاصد الحسنة ". للسخاوي رحمه الله.

وكلام الإمام أحمد يدلّ على أنّه بكونه ثلث العلم أنّه أراد أحد القواعد الثّلاثة التي تُردُّ إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا. و " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ " (¬1) و " الحلال بيّن والحرام بيّن. الحديث ". (¬2) ثمّ إنّ هذا الحديث متّفق على صحّته. أخرجه الأئمّة المشهورون إلاَّ الموطّأ، ووهم من زعم أنّه في الموطّأ مغترّاً بتخريج الشّيخين له والنّسائيّ من طريق مالك. وقال أبو جعفر الطّبريّ: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض النّاس مردوداً لكونه فرداً؛ لأنّه لا يروى عن عمر إلاَّ من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلاَّ من رواية محمّد بن إبراهيم ولا عن محمّد بن إبراهيم إلاَّ من رواية يحيى بن سعيد. وهو كما قال، فإنّه إنّما اشتهر عن يحيى بن سعيد , وتفرّد به من فوقه , وبذلك جزم التّرمذيّ والنّسائيّ والبزّار وابن السّكن وحمزة بن محمّد الكنانيّ. وأطلق الخطّابيّ نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنّه لا يعرف إلاَّ بهذا الإسناد. وهو كما قال , لكن بقيدين: ¬

_ (¬1) أخرجه الشيخان عن عائشة , وسيأتي شرحه إن شاء الله في القضاء. رقم (373) (¬2) أخرجه الشيخان عن النعمان , وسيأتي شرحه إن شاء الله في الأطعمة رقم (379)

أحدهما: الصّحّة , لأنّه ورد من طرق معلولة. ذكرها الدّارقطنيّ وأبو القاسم بن منده وغيرهما. ثانيهما: السّياق , لأنّه ورد في معناه عدّة أحاديث صحّت في مطلق النّيّة كحديث عائشة وأمّ سلمة عند مسلم " يبعثون على نيّاتهم "، وحديث ابن عبّاس " ولكن جهاد ونيّة "، وحديث أبي موسى: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. متّفق عليهما (¬1). وحديث ابن مسعود: ربّ قتيل بين الصّفّين الله أعلم بنيّته. أخرجه أحمد، وحديث عبادة: من غزا وهو لا ينوي إلاَّ عقالاً فله ما نوى. أخرجه النّسائيّ، إلى غير ذلك ممّا يتعسّر حصره. وعُرف بهذا التّقرير غلط من زعم أنّ حديث عمر متواتر، إلاَّ إن حُمل على التّواتر المعنويّ فيحتمل. نعم. قد تواتر عن يحيى بن سعيد. فحكى محمّد بن عليّ بن سعيد النّقّاش الحافظ أنّه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفساً، وسرد أسماءَهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثّلثمائة. وروى أبو موسى المدينيّ عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاريّ الهرويّ , قال: كتبته من حديث سبعمائةٍ من أصحاب يحيى. ¬

_ (¬1) حديث ابن عباس سيأتي شرحه إن شاء الله في كتاب الحج , برقم (224) أما حديث أبي موسى. فسيأتي أيضاً آخر كتاب الجهاد. برقم (423)

قلت: وأنا أستبعد صحّة هذا، فقد تتبّعت طرقه من الرّوايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة. وقد تتبّعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمّن تقدّم، كما سيأتي مثالٌ لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى (¬1). قوله: (إنّما الأعمال بالنّيّات) كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كلّ عمل بنيّته. وقال الْخُوَيّي (¬2): كأنّه أشار بذلك إلى أنّ النّيّة تتنوّع كما تتنوّع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتّقاء لوعيده. ووقع في معظم الرّوايات بإفراد النّيّة، ووجهه أنّ محلّ النّيّة القلب وهو متّحد فناسب إفرادها. بخلاف الأعمال فإنّها متعلقة بالظّواهر ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله في أول كتاب الجمعة. (¬2) محمد بن أحمد بن خليل بن سعادة قاضي القضاة شهاب الدين أبو عبد الله ابن قاضي القضاة شمس الدين الخويي ثم الدمشقي الشافعي إمام بارع متفنن مصنف حاوٍ للفضائل، ولد سنة 626. مات في رمضان سنة 693. معجم الشيوخ الكبير للذهبي (2/ 144) قال السمعاني في " الأنساب " (5/ 236): الْخُوَيّي بضم الخاء المنقوطة وفتح الواو وتشديد الياء المنقوطة باثنتين من تحتها، هذه النسبة إلى خوي. وهي إحدى بلاد آذربيجان.

وهي متعدّدة فناسب جمعها؛ ولأنّ النّيّة ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له. ووقعت في صحيح ابن حبّان بلفظ " الأعمال بالنّيّات " بحذف " إنّما " وجمع الأعمال والنّيّات، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاريّ في " كتاب الإيمان " بلفظ " الأعمال بالنّيّة "، وكذا في " العتق " من رواية الثّوريّ، وفي الهجرة من رواية حمّاد بن زيد، ووقع عنده في " النّكاح " بلفظ " العمل بالنّيّة " بإفراد كلّ منهما. والنّيّة: بكسر النّون وتشديد التّحتانيّة على المشهور، وفي بعض اللّغات بتخفيفها. قال الكرمانيّ (¬1): قوله " إنّما الأعمال بالنّيّات " هذا التّركيب يفيد الحصر عند المحقّقين، واختلف في وجه إفادته. فقيل: لأنّ الأعمال جمع محلّىً بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر لأنّ معناه كلّ عمل بنيّةٍ فلا عمل إلاَّ بنيّةٍ. ¬

_ (¬1) محمد بن يوسف بن علي بن سعيد، شمس الدين الكرماني (717 - 786 هـ) عالم بالحديث. أصله من كرمان. اشتهر في بغداد، قال ابن حجي: تصدَّى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة. وأقام مدة بمكة. وفيها فرغ من تأليف كتابه (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري) 25 جزءاً صغيراً، قال ابن قاضي شهبة: فيه أوهام وتكرار كثير , ولا سيما في ضبط أسماء الرواة. الأعلام للزركلي (7/ 135). قال الحافظ العراقي عن شرح الكرماني للبخاري كما نقله تلميذه ابن حجر في " الدرر الكامنة " (6: 66): وهو شرحٌ مفيدٌ على أوهام فيه في النقل , لأنَّه لم يأخذ إلاَّ من الصُّحف.

وقيل: لأنّ إنّما للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف، أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز؟. ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنّها تفيده بالمنطوق وضعاً حقيقيّاً، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام (¬1) عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلاَّ اليسير كالآمديّ، وعلى العكس من ذلك أهل العربيّة. واحتجّ بعضهم: بأنّها لو كانت للحصر لَمَا حسن إنّما قام زيد في جواب هل قام عمرو. أجيب: بأنّه يصحّ أنّه يقع في مثل هذا الجواب ما قام إلاَّ زيد. وهي للحصر اتّفاقاً. وقيل: لو كانت للحصر لاستوى إنّما قام زيد مع ما قام إلاَّ زيد، ولا تردّد في أنّ الثّاني أقوى من الأوّل. وأجيب: بأنّه لا يلزم من هذه القوّة نفي الحصر. فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع كسوف والسّين. وقد وقع استعمال إنّما موضع استعمال النّفي والاستثناء كقوله تعالى ¬

_ (¬1) المقصود بشيخ الإسلام عند إطلاق الشارح. عمر بن رسْلان بن بَصِير بن صالح بن شهاب بن عبد الخَالِق بن عبد الحق السراج البلقيني ثمَّ القاهري الشافعي ولد 724 هـ فاق بذكائه وكثرة محفوظاته وسرعة فهمه , وبرع في جميع العلوم , وقال له ابن كثير: أذكرتنا ابن تيمية , وكذلك قال له ابن شيخ الجبل: ما رأيت بعد ابن تيمية أحفظَ منك. توفي رحمه الله سنة 805 هـ الدرر الكامنة (1/ 506) للشوكاني.

(إنّما تجزون ما كنتم تعملون) وكقوله: (وما تجزون إلاَّ ما كنتم تعملون) وقوله: (إنّما على رسولنا البلاغ المبين) وقوله: (ما على الرّسول إلاَّ البلاغ). ومن شواهده قول الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصىً ... وإنّما العزّة للكاثر يعني: ما ثبتت العزّة إلاَّ لمن كان أكثر حصىً. قال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة إنّما للحصر بأنّ ابن عبّاس استدل على أنّ الرّبا لا يكون إلاَّ في النّسيئة بحديث " إنّما الرّبا في النّسيئة " (¬1) وعارضه جماعة من الصّحابة في الحكم , ولَم يخالفوه في فهمه , فكان كالاتّفاق منهم على أنّها تفيد الحصر. وتعقّب: باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزّلاً. وأمّا مَن قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله " لا ربا إلاَّ في النّسيئة " لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في ردّ إفادة الحصر، بل يقوّيه ويشعر بأنّ مفاد الصّيغتين عندهم واحد، وإلاَّ لَمَا استعملوا هذه موضع هذه. وأوضح من هذا حديث " إنّما الماء من الماء " (¬2) فإنّ الصّحابة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (2178) ومسلم (1596) واللفظ له. من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. وسيأتي إن شاء الله في باب الربا ما يتعلّق بشيء من فقهه. (¬2) أخرجه مسلم (343) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وانظر الحديث رقم (38)

الذين ذهبوا إليه لَم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنّما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث " إذا التقى الختانان ". (¬1) تكميل: الأعمال تقتضي عاملين، والتّقدير: الأعمال الصّادرة من المكلفين، وعلى هذا. هل تخرج أعمال الكفّار؟. الظّاهر الإخراج؛ لأنّ المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصحّ من الكافر , وإن كان مخاطباً بها معاقباً على تركها , ولا يرِد العتق والصّدقة لأنّهما بدليلٍ آخر. قوله: (بالنّيّات) الباء للمصاحبة، ويحتمل: أن تكون للسّببيّة. بمعنى أنّها مقوّمة للعمل فكأنّها سبب في إيجاده. وعلى الأوّل فهي من نفس العمل , فيشترط أن لا تتخلف عن أوّله. قال النّوويّ (¬2): النّيّة القصد، وهي عزيمة القلب. وتعقّبه الكرمانيّ: ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي (1/ 159) وابن ماجه (1/ 199، رقم 608) وإسحاق بن راهويه (رقم 1044) والبيهقي في " المعرفة " (1/ 463، رقم 1372) وابن حبان (3/ 456 رقم 1183). من حديث عائشة. به. وللحديث طرق أخرى وألفاظ. وهو حديث صحيح. ولمسلم (812) من حديث عائشة مرفوعاً: إذا جلس بين شُعبها الأربع , ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل. وهو بمعناه. انظر حديث أبي هريرة برقم (38). (¬2) يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي الحوراني، النووي، الشافعيّ، أبو زكريا، محيي الدين: علاَّمة بالفقه والحديث. مولده سنة 631 هـ ووفاته في نوا (من قرى حوران، بسورية) سنة 676 هـ واليها نسبته. الأعلام للزركلي (8/ 149).

بأنّ عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد. واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟. والمرجّح أنّ إيجادها ذكراً في أوّل العمل ركن، واستصحابها حكماً - بمعنى أن لا يأتي بمنافٍ شرعاً - شرطٌ. ولا بدّ من محذوف يتعلق به الجارّ والمجرور، فقيل: تعتبر , وقيل: تكمّل , وقيل: تصحّ , وقيل: تحصل , وقيل: تستقرّ. قال الطِّيبيّ (¬1): كلام الشّارع محمول على بيان الشّرع؛ لأنّ المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنّهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلاَّ من قِبَل الشّارع، فيتعيّن الحمل على ما يفيد الحكم الشّرعيّ. وقال البيضاويّ (¬2): النّيّة عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرضٍ من جلب نفع أو دفع ضرّ حالاً أو مآلاً، والشّرع خصّصه بالإرادة المتوجّهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه. والنّيّة في الحديث محمولة على المعنى اللّغويّ ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنّه تفصيل لِمَا أُجمل، والحديث متروك الظّاهر لأنّ الذّوات غير منتفية، إذ التّقدير: لا عمل إلاَّ بالنّيّة، فليس المراد نفي ذات العمل لأنّه قد يوجد بغير نيّة، ¬

_ (¬1) العلامة شرف الدين. الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبى (بكسر الطاء والباء الموحدة) الدمشقي الحافظ توفى سنة 743 هـ. من تصانيفه (الكاشف عن حقائق السنن في شرح مصابيح السنة) للبغوي. هداية العارفين (1/ 285). (¬2) عبد الله بن عمر. ستأتي ترجمته.

بل المراد نفي أحكامها كالصّحّة والكمال، لكنّ الحمل على نفي الصّحّة أولى لأنّه أشبه بنفي الشّيء نفسه؛ ولأنّ اللفظ دلَّ على نفي الذّات بالتّصريح وعلى نفي الصّفات بالتّبع، فلمّا منع الدّليل نفي الذّات بقيت دلالته على نفي الصّفات مستمرّة. وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أنّ الأعمال تتبع النّيّة، لقوله في الحديث " فمن كانت هجرته " إلى آخره. وعلى هذا يقدّر المحذوف كوناً مطلقاً من اسم فاعل أو فعل. ثمّ لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتّى اللسان فتدخل الأقوال. قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردّد عندي في أنّ الحديث يتناولها. وأمّا التّروك فهي وإن كانت فعل كفّ لكن لا يطلق عليها لفظ العمل. وقد تعقّب على من يسمّي القول عملاً لكونه عمل اللسان، بأنّ من حلف لا يعمل عملاً فقال قولاً لا يحنث. وأجيب: بأنّ مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمّى عملاً في العرف ولهذا يعطف عليه. والتّحقيق أنّ القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازاً، وكذا الفعل، لقوله تعالى (ولو شاء ربّك ما فعلوه) بعد قوله: (زخرف القول). قال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النّيّة قدّروا صحّة الأعمال، والذين لَم يشترطوها قدّروا كمال الأعمال، ورجّح الأوّل بأنّ الصّحّة أكثر لزوماً للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى. انتهى

وفي هذا الكلام إيهام أنّ بعض العلماء لا يرى باشتراط النّيّة، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلاَّ في الوسائل. وأمّا المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النّيّة لها، ومن ثَمَّ خالف الحنفيّة في اشتراطها للوضوء، وخالف الأوزاعيّ في اشتراطها في التّيمّم أيضاً. نعم. بين العلماء اختلاف في اقتران النّيّة بأوّل العمل. كما هو معروف في مبسوطات الفقه. تكميلٌ: الظّاهر أنّ الألف واللام في " النّيّات " معاقبة للضّمير، والتّقدير الأعمال بنيّاتها، وعلى هذا فيدلّ على اعتبار نيّة العمل من كونه مثلاً صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضاً أو نفلاً، ظهراً مثلاً أو عصراً، مقصورة أو غير مقصورة وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث. والرّاجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفكّ عن العدد المعيّن، كالمسافر مثلاً ليس له أن يقصر إلاَّ بنيّة القصر، لكن لا يحتاج إلى نيّة ركعتين لأنّ ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم. قوله: (وإنّما لكل امرئٍ ما نوى) قال القرطبيّ (¬1): فيه تحقيق ¬

_ (¬1) أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي: فقيه مالكي، من رجال الحديث. يعرف بابن المزين. كان مدرساً بالإسكندرية وتوفي بها. ومولده بقرطبة سنة 578. من كتبه (المفهم لِما أشكل من تلخيص كتاب مسلم) شرح به كتاباً من تصنيفه في اختصار مسلم. توفي سنة 656 هـ. الأعلام للزركلي (1/ 168).

لاشتراط النّيّة والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنّها مؤكّدة. وقال غيره: بل تُفيد غير ما أفادته الأولى. لأنّ الأولى نبّهت على أنّ العمل يتبع النّيّة ويصاحبها، فيترتّب الحكم على ذلك، والثّانية أفادت أنّ العامل لا يحصل له إلاَّ ما نواه. وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثّانية تقتضي أنّ من نوى شيئاً يحصل له - يعني إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله له ما يعذر شرعاً بعدم عمله وكلّ ما لَم ينوه لَم يحصل له. ومراده بقوله " ما لَم ينوه " أي: لا خصوصاً ولا عموماً، أمّا إذا لَم ينو شيئاً مخصوصاً لكن كانت هناك نيّة عامّة تشمله فهذا ممّا اختلفت فيه أنظار العلماء. ويتخرّج عليه من المسائل ما لا يحصى. وقد يحصل غير المنويّ لمدركٍ آخر. كمن دخل المسجد فصلَّى الفرض أو الرّاتبة قبل أن يقعد فإنّه يحصل له تحيّة المسجد نواها أو لَم ينوها؛ لأنّ القصد بالتّحيّة شغل البقعة وقد حصل. وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنّه لا يحصل له غسل الجمعة على الرّاجح؛ لأنّ غسل الجمعة ينظر فيه إلى التّعبّد لا إلى محض التّنظيم فلا بدّ فيه من القصد إليه، بخلاف تحيّة المسجد. والله أعلم. وقال النّوويّ: أفادت الجملة الثّانية اشتراط تعيين المنويّ كمَن عليه صلاةٌ فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتّى يعيّنها ظهراً مثلاً أو عصراً، ولا يخفى أنّ محلّه ما إذا لَم تنحصر الفائتة.

وقال ابن السّمعانيّ في أماليه: أفادت أنّ الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثّواب إلاَّ إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوّة على الطّاعة. وقال غيره: أفادت أنّ النّيابة لا تدخل في النّيّة، فإنّ ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نيّة الوليّ عن الصّبيّ ونظائره فإنّها على خلاف الأصل. وقال ابن عبد السّلام: الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثّانية لبيان ما يترتّب عليها. وأفاد أنّ النّيّة إنّما تشترط في العبادة التي لا تتميّز بنفسها، وأمّا ما يتميّز بنفسه فإنّه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتّلاوة لأنّها لا تتردّد بين العبادة والعادة. ولا يخفى أنّ ذلك إنّما هو بالنّظر إلى أصل الوضع، أمّا ما حدث فيه عرف كالتّسبيح للتّعجّب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذّكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثواباً. ومن ثَمَّ قال الغزاليّ: حركة اللسان بالذّكر مع الغفلة عنه تحصّل الثّواب؛ لأنّه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السّكوت مطلقاً، أي المجرّد عن التّفكّر. قال: وإنّما هو ناقص بالنّسبة إلى عمل القلب. انتهى

ويؤيّده قوله - صلى الله عليه وسلم -: في بُضع أحدكم صدقة. ثمّ قال في الجواب عن قولهم. أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟: أرأيت لو وضعها في حرام (¬1). وأُورد على إطلاق الغزاليّ أنّه يلزم منه أنّ المرء يثاب على فعل مباح لأنّه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده. وخصّ من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة فإنّه لا يحتاج إلى نيّة تخصّه كتحيّة المسجد كما تقدّم، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلاَّ بعد مدّة العدّة فإنّ عدّتها تنقضي؛ لأنّ المقصود حصول براءة الرّحم وقد وجدت، ومن ثَمَّ لَم يحتج المتروك إلى نيّة. ونازع الكرمانيّ في إطلاق الشّيخ محيي الدّين كون المتروك لا يحتاج إلى نيّة , بأنّ التّرك فعل وهو كفّ النّفس، وبأنّ التّروك إذا أريد بها تحصيل الثّواب بامتثال أمر الشّارع فلا بدّ فيها من قصد التّرك. وتعقّب: بأنّ قوله " التّرك فعل " مختلف فيه، ومن حقّ المستدلّ على المانع أن يأتي بأمرٍ متّفق عليه. وأمّا استدلاله الثّاني فلا يطابق المورد؛ لأنّ المبحوث فيه. هل تلزم النّيّة في التّروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده. هل يحصل الثّواب بدونها؟ والتّفاوت بين المقامين ظاهر. والتّحقيق أنّ التّرك المجرّد لا ثواب فيه، وإنّما يحصل الثّواب بالكفّ الذي هو فعل النّفس، فمن لَم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " الصحيح " (2376) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -

كمن خطرت فكفّ نفسه عنها خوفاً من الله تعالى، فرجع الحال إلى أنّ الذي يحتاج إلى النّيّة هو العمل بجميع وجوهه، لا التّرك المجرّد. والله أعلم. تنبيه: قال الكرمانيّ: إذا قلنا إنّ تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله " وإنّما لكل امرئٍ ما نوى " نوعان من الحصر. الأول: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنّما لكل امرئٍ ما نواه. والثاني: التّقديم المذكور. قوله: (هجرته) الهجرة: التّرك، والهجرة إلى الشّيء: الانتقال إليه عن غيره. وفي الشّرع: ترك ما نهى الله عنه. وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأوّل: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتَي الحبشة وابتداء الهجرة من مكّة إلى المدينة. الثّاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان , وذلك بعد أن استقرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة إذ ذاك تختصّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكّة فانقطع من الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً. فإن قيل: الأصل تغاير الشّرط والجزاء فلا يقال مثلاً: من أطاع أطاع وإنّما يقال مثلاً: من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متّحدين.

فالجواب: أنّ التّغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السّياق، ومن أمثلته قوله تعالى (ومن تاب وعمل صالحاً فإنّه يتوب إلى الله متاباً) وهو مؤوّل على إرادة المعهود المستقرّ في النّفس، كقولهم: أنت أنا. أي: الصّديق الخالص، وقولهم: هم هم. أي: الذين لا يقدّر قدرهم، وقول الشّاعر: أنا أبو النّجم وشعري شعري. أو هو مؤوّل على إقامة السّبب مقام المسبّب لاشتهار السّبب. وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشّهرة وعدم التّغيّر فيتّحد بالمبتدأ لفظاً كقول الشّاعر: خليلي خليلي دون ريب وربّما ... ألان امرؤٌ قولاً فظنّ خليلاً. وقد يفعل مثل هذا بجواب الشّرط كقولك: من قصدني فقد قصدني. أي: فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده. وقال غيره: إذا اتّحد لفظ المبتدأ والخبر والشّرط والجزاء علم منهما المبالغة إمّا في التّعظيم وإمّا في التّحقير. قوله: (إلى دنيا) بضمّ الدّال، وحكى ابن قتيبة كسرها، وهي فعلى من الدّنوّ. أي: القرب. سُمِّيت بذلك لسبقها للأخرى. وقيل: سُمِّيت دنيا لدنوّها إلى الزّوال. واختلف في حقيقتها. فقيل: ما على الأرض من الهواء والجوّ. وقيل: كلّ المخلوقات من

الجواهر والأعراض. والأولى أولى. لكن يزاد فيه ممّا قبل قيام السّاعة، ويطلق على كلّ جزء منها مجازاً. ثمّ إنّ لفظها مقصور غير منوّن، وحكي تنوينها، وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكُشْمِيهَنيّ (¬1) وضعّفها. وقال التّيميّ (¬2) في شرحه قوله " دنيا ": هو تأنيث الأدنى ليس بمصروفٍ لاجتماع الوصفيّة ولزوم حرف التّأنيث. وتعقّب: بأنّ لزوم التّأنيث للألف المقصورة كافٍ في عدم الصّرف. وأما الوصفيه. فقال ابن مالكٍ: استعمال دنيا منكّرًا فيه إشكالٌ , لأنّها أفعل التّفضيل فكان من حقّها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى. قال: إلاَّ أنّها خلعت عنها الوصفية وأجريت مجرى ما لَم يكن ¬

_ (¬1) المحدث الثقة أبو الهيثم محمد بن مكي بن محمد بن مكي بن زراع بن هارون المروزي الكشميهني. حدَّث بـ " صحيح البخاري " مرَّات , عن أبي عبد الله الفربري. حدث عنه: أبو ذر الهروي , وكريمة المروزية المجاورة , وآخرون. وكان صدوقاً. مات في يوم عرفة سنة 389. هـ قاله الذهبي في السير (12/ 440). بتجوز. (¬2) محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني المولود في حدود سنة 500 هـ شرعَ في شرح البخاري ومسلم فاخترمته المنيَّة صغيراً سنة 526 هـ فأكمل والده الإمام أبو القاسم الملقَّب بقوام السنة الشرحَ. شذرات الذهب لابن العماد (6/ 175).

وصفًا قطّ , ومثله قول الشّاعر: وإنْ دعوتِ إلى جُلَّى (¬1) ومَكرُمةٍ ... يومًا سراةَ كِرامِ النّاسِ فادعينا وقال الكرمانيّ: قوله " إلى " يتعلق بالهجرة - إن كان لفظ كانت تامّة - أو هو خبر لكانت - إن كانت ناقصة - ثمّ أورد ما محصّله: أنّ لفظ كان إن كان للأمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك. وأجاب: بأنّه يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمانٍ، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أنّ حكم المكلفين سواء. قوله: (يصيبها) أي: يحصّلها؛ لأنّ تحصيلها كإصابة الغرض بالسّهم بجامع حصول المقصود قوله: (أو امرأة) قيل: التّنصيص عليها من الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به. وتعقّبه النّوويّ: بأنّ لفظ دنيا نكرة , وهي لا تعمّ في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها. وتعقّب: بكونها في سياق الشّرط فتعمّ، ونكتة الاهتمام الزّيادة في التّحذير؛ لأنّ الافتتان بها أشدّ. وقد تقدّم النّقل عمّن حكى. أنّ سبب هذا الحديث قصّة مهاجر أمّ قيس , ولَم نقف على تسميته. ونقل ابن دحية. أنّ اسمها قيلة بقافٍ ¬

_ (¬1) أي: الأمر العظيم.

مفتوحة ثمّ تحتانيّة ساكنة. وحكى ابن بطّال (¬1) عن ابن سراج , أنّ السّبب في تخصيص المرأة بالذّكر أنّ العرب كانوا لا يزوّجون المولى العربيّة، ويراعون الكفاءة في النّسب، فلمّا جاء الإسلام سوّى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر كثير من النّاس إلى المدينة ليتزوّج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك. انتهى. ويحتاج إلى نقلٍ ثابتٍ أنّ هذا المهاجر كان مولىً وكانت المرأة عربيّة، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه , بل قد زوّج خلقٌ كثيرٌ منهم جماعةً من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام، وإطلاقه أنّ الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. قوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يحتمل: أن يكون ذكره بالضّمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها , وإنّما أبرز الضّمير في الجملة التي قبلها لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدّنيا والمرأة فإنّ السّياق يشعر بالحثّ على الإعراض عنهما. وقال الكرمانيّ: يحتمل: أن يكون قوله " إلى ما هاجر إليه " متعلقاً ¬

_ (¬1) علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال أبو الحسن القرطبي , ويعرف أيضاً بابن اللجَّام. بالجيم المشددة , قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة والفهم , مليح الخط , حسن الضبط , عني بالحديث العناية التامة , وشرحَ صحيحَ البخاري في عدة مجلدات , ورواه الناس عنه , وكان ينتحل الكلام على طريقة الأشعري. وتوفي سنة 449هـ. الوافي في الوفيات للصفدي (21/ 56).

بالهجرة، فيكون الخبر محذوفاً , والتّقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلاً. ويحتمل: أن يكون خبر فهجرته , والجملة خبر المبتدأ الذي هو " من كانت " انتهى وهذا الثّاني هو الرّاجح؛ لأنّ الأوّل يقتضي أنّ تلك الهجرة مذمومة مطلقاً، وليس كذلك، إلاَّ إن حُمل على تقدير شيء يقتضي التّردّد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوّج المرأة معاً فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنّسبة إلى من كانت هجرته خالصة. وإنّما أشعر السّياق بذمّ من فعل ذلك بالنّسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأمّا من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنّه يثاب على قصد الهجرة. لكن دون ثواب من أخلص. وكذا من طلب التّزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله؛ لأنّه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف. ومن أمثلة ذلك , ما وقع في قصّة إسلام أبي طلحة. فيما رواه النّسائيّ عن أنس قال: تزوّج أبو طلحة أمّ سليمٍ فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أمّ سليمٍ قبل أبي طلحة فخطبها , فقالت: إنّي قد أسلمتُ، فإن أسلمتَ تزوّجتك. فأسلم فتزوّجته. وهو محمول على أنّه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضمّ إلى ذلك إرادة التّزويج المباح , فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم.

واختار الغزاليّ فيما يتعلق بالثّواب: أنّه إن كان القصد الدّنيويّ هو الأغلب لَم يكن فيه أجر، أو الدّينيّ أجر بقدره، وإن تساويا فتردّد القصد بين الشّيئين فلا أجر. وأمّا إذا نوى العبادة وخالطها بشيءٍ ممّا يغاير الإخلاص , فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطّبريّ عن جمهور السّلف أنّ الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصاً لَم يضرّه ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره. والله أعلم. واستدل بهذا الحديث. على أنّه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم؛ لأنّ فيه أنّ العمل يكون منتفياً إذا خلا عن النّيّة، ولا يصحّ نيّة فعل الشّيء إلاَّ بعد معرفة الحكم. وعلى أنّ الغافل لا تكليف عليه؛ لأنّ القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد. وعلى أنّ من صام تطوّعاً بنيّةٍ قبل الزّوال أن لا يُحسب له إلاَّ من وقت النّيّة وهو مقتضى الحديث. لكن تمسّك مَن قال بانعطافها بدليلٍ آخر، ونظيره حديث: من أدرك من الصّلاة ركعة فقد أدركها. (¬1) أي: أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى. وعلى أنّ الواحد الثّقة إذا كان في مجلس جماعة ثمّ ذكر عن ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (580) ومسلم (607) من حديث أبي هريرة بلفظ " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ". ولأحمد (8883) " فقد أدركها "

المجلس شيئاً لا يمكن غفلتهم عنه ولَم يذكره غيره أنّ ذلك لا يقدح في صدقه، خلافاً لمن أعلَّ بذلك؛ لأنّ علقمة ذكر أنّ عمر خطب به على المنبر , ثمّ لَم يصحّ من جهة أحد عنه غير علقمة. واستدل بمفهومه. على أنّ ما ليس بعملٍ لا تشترط النّيّة فيه. ومن أمثلة ذلك جمع التّقديم , فإنّ الرّاجح من حيث النّظر أنّه لا يشترط له نيّة، بخلاف ما رجّحه كثيرٌ من الشّافعيّة. وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام , وقال: الجمع ليس بعملٍ، وإنّما العمل الصّلاة. ويقوّي ذلك أنّه - صلى الله عليه وسلم - جمع في غزوة تبوك , ولَم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطاً لأعلمهم به. واستُدلّ به على أنّ العمل إذا كان مضافاً إلى سبب ويجمع متعدَّدَه جنسٌ أنّ نيّة الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفّارة ولَم يعيّن كونها عن ظهار أو غيره؛ لأنّ معنى الحديث أنّ الأعمال بنيّاتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفّارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفّارة وشكّ في سببها أجزأه إخراجها بغير تعيين. وفيه زيادة النّصّ على السّبب؛ لأنّ الحديث سيق في قصّة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدّنيا في القصّة زيادة في التّحذير والتّنفير. وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العامّ وإن كان سببه خاصّاً، فيستنبط منه الإشارة إلى أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

وفيه. اشتراط النية في الوضوء خلافاً لمن لَم يشترط فيه النّيّة كما نقل عن الأوزاعيّ وأبي حنيفة وغيرهما. وحجّتهم: أنّه ليس عبادة مستقلة بل وسيلة إلى عبادة كالصّلاة. ونوقضوا بالتّيمّم فإنّه وسيلة. وقد اشترط الحنفيّة فيه النّيّة. واستدل الجمهور على اشتراط النّيّة في الوضوء بالأدلة الصّحيحة المصرّحة بوعد الثّواب عليه، فلا بدّ من قصد يميّزه عن غيره ليحصل الثّواب الموعود. وأمّا الصّلاة. فلم يُختلف في اشتراط النّيّة فيها. وأمّا الزّكاة. فإنّما تسقط بأخذ السّلطان , ولو لَم ينو صاحب المال , لأنّ السّلطان قائم مقامه. وأمّا الحجّ. فإنّما ينصرف إلى فرض من حجّ عن غيره لدليلٍ خاصّ , وهو حديث ابن عبّاس في قصّة شبرمة. وأمّا الصّوم. فنقل عن زفر أنّ صيام رمضان لا يحتاج إلى نيّة , لأنّه متميّز بنفسه كما زعم. وكلّ صورة لَم يشترط فيها النّيّة فذاك لدليلٍ خاصّ. وقد ذكر ابن المنير (¬1) ضابطاً لِمَا يشترط فيه النّيّة ممّا لا يشترط. فقال: كلّ عملٍ لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثّواب فالنّيّة مشترطة فيه، وكلّ عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطّبيعة ¬

_ (¬1) هو علي بن محمد الاسكندراني , انظر ترجمته (2/ 378)

قبل الشّريعة لملاءمة بينهما , فلا تشترط النّيّة فيه , إلاَّ لمن قصد بفعله معنىً آخر يترتّب عليه الثّواب. قال: وإنّما اختلف العلماء في بعض الصّور من جهة تحقيق مناط التّفرقة. قال: وأمّا ما كان من المعاني المحضة , كالخوف والرّجاء , فهذا لا يقال باشتراط النّيّة فيه؛ لأنّه لا يمكن أن يقع إلاَّ منويّاً. ومتى فرضت النّيّة مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنّيّة فيه شرط عقليّ، ولذلك لا تشترط النّيّة للنّيّة فراراً من التّسلسل. وأمّا الأقوال فتحتاج إلى النّيّة في ثلاثة مواطن: أحدها: التّقرّب إلى الله فراراً من الرّياء. والثّاني: التّمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثّالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 2 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَقبلُ اللهُ صلاةَ أحدِكم إذا أحدثَ حتّى يتوضّأ. (¬1) قوله: (عن أبي هريرة) جزم ابن الكلبي بأنه عمير بن عامر. وجزم ابن إسحاق بأنه عبد الرحمن بن صخر. ورواه بعض أصحابه عن أبي هريرة , قال: كان اسمي عبد شمس بن صخر فسمَّاني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن. رواه الحاكم في " المستدرك ". ويقويه ما رواه بن خزيمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان اسمي عبد شمس. وصحَّحه جمعٌ من المتأخرين. ومال الدمياطي إلى قول ابن الكلبي. وقال ابن خزيمة: اسمه عبد الله أو عبد الرحمن. قلت: وفيه اختلاف كثير جداً. وما ذكرناه أقربُ إلى الصحة مع ما فيها. والله أعلم. أسلم عام خيبر , ودوسٌ قبيلة أبي هريرة ينتسبون إلى دوس بن عدثان - بضم المهملة وبعد الدال الساكنة مثلثة - ابن عبد الله بن زهران، ينتهي نسبهم إلى الأزد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (135, 6954) ومسلم (225) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همّام عن أبي هريرة - رضي الله عنه -

وروى البخاري عنه قال: ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ أكثر حديثاً عنه مني إلاَّ كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. قوله: (فإنه كان يكتب ولا أكتب).هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو. أي: ابن العاص على ما عنده. ويستفاد من ذلك أنَّ أبا هريرة كان جازماً بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقلّ من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة. فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال، إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله. وهو الكتابة لم يكن مني، سواء لزم منه كونه أكثر حديثاً لِمَا تقتضيه العادة أم لا. وإن قلنا الاستثناء متصل. فالسبب فيه من جهات: أحدها: أنَّ عبد الله كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلَّت الرواية عنه. ثانيها: أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف. ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصديا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، فقد ذكر البخاري , أنه روى عنه ثمانمائة

نفس من التابعين، ولم يقع هذا لغيره. ثالثها: ما اختُصَّ به أبو هريرة من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بأن لا ينسى ما يحدثه به. متفق عليه. وفي المستدرك للحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: كنت أنا وأبو هريرة وآخر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادعوا. فدعوت أنا وصاحبي. وأمَّن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهمَّ إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علما لا ينسى. فأمَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال: سبقكما الغلام الدوسي. رابعها: أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بِحْمل جَمَل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها , ويحدث منها فتجنب الأخذَ عنه لذلك كثيرٌ من أئمة التابعين. والله أعلم. قوله: (لا يقبل) المراد بالقبول هنا ما يرادف الصّحّة. وهو الإجزاء. وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطّاعة مجزئة رافعة لِمَا في الذّمّة. ولَمَّا كان الإتيان بشروطها مظنّة الإجزاء الذي القبول ثمرته عبّر عنه بالقبول مجازاً. وأمّا القبول المنفيّ في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: من أتى عرّافاً لَم تقبل له صلاة. (¬1) فهو الحقيقيّ؛ لأنّه قد يصحّ العمل ويتخلف القبول لمانعٍ، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (2230) من حديث صفية عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أتى عرَّافا فسأَلَه عن شيء لم تُقبل له صلاةٌ أربعين ليلة.

ولهذا كان بعض السّلف يقول: لأن تقبل لي صلاة واحدة أحبّ إليّ من جميع الدّنيا، قاله ابن عمر. قال: لأنّ الله تعالى قال: إنّما يتقبّل الله من المتّقين. (¬1) قوله: (أحدث) زاد البخاري: قال رجلٌ من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساءٌ أو ضراطٌ " أي: وجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السّبيلين. وإنّما فسّره أبو هريرة بأخصّ من ذلك تنبيهاً بالأخفّ على الأغلظ؛ ولأنّهما قد يقعان في أثناء الصّلاة أكثر من غيرهما. وأمّا باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء - كمسّ الذّكر ولمس المرأة والقيء ملء الفم والحجامة - فلعل أبا هريرة كان لا يرى النّقض بشيءٍ منها. وعليه مشى البخاري كما قال " باب من لَم ير الوضوء إلاَّ من المخرجين ". وقيل: إنّ أبا هريرة اقتصر في الجواب على ما ذكر , لعلمه أنّ السّائل كان يعلم ما عدا ذلك، وفيه بُعد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (31/ 146) من طريق هشام بن يحيى عن أبيه , قال: دخل سائلٌ إلى ابن عمر , فقال لابنه: أعطه ديناراً فأعطاه. فلمَّا انصرف , قال ابنه عقيل: تقبل الله منك يا أبتاه , فقال: لو علمتُ أنَّ الله تقبَّل منّي سجدةً واحدةً. أو صدقةَ درهمٍ لَم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت , تدري ممن يتقبل الله؟ إنما يتقبل الله من المتقين. وجاء عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أيضاً , أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (87)

واستدل بالحديث على بطلان الصّلاة بالحدث. سواء كان خروجه اختياريّاً أم اضطراريّاً، وعلى أنّ الوضوء لا يجب لكل صلاة , لأنّ القبول انتفى إلى غاية الوضوء , وما بعدها مخالف لِمَا قبلها , فاقتضى ذلك قبول الصّلاة بعد الوضوء مطلقاً. قوله: (يتوضّأ) أي: بالماء أو ما يقوم مقامه، وقد روى النّسائيّ بإسنادٍ قويّ عن أبي ذرّ مرفوعاً " الصّعيد الطّيّب وضوء المسلم " فأطلق الشّارع على التّيمّم أنّه وضوء لكونه قام مقامه، ولا يخفى أنّ المراد بقبول صلاة من كان محدثاً فتوضّأ. أي: مع باقي شروط الصّلاة. والله أعلم. والوضوء بالضّمّ هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يتوضّأ به على المشهور فيهما. وحكي: في كلّ منهما الأمران. وهو مشتقّ من الوضاءة، وسمّي بذلك لأنّ المصلي يتنظّف به فيصير وضيئاً. واختلف السّلف في معنى الآية (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا ..) قال الأكثرون: التّقدير إذا قمتم إلى الصّلاة محدثين. وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف، إلاَّ أنّه في حقّ الْمُحدث على الإيجاب، وفي حقّ غيره على النّدب. وذهب إلى استمرار الوجوب قومٌ كما جزم به الطحاوي , ونقله ابن عبد البر عن عكرمة وابن سيرين وغيرهما. واستبعده النووي. وجنح إلى تأويل ذلك إنْ ثبت عنهم، وجزم

بأنَّ الإجماع استقرَّ على عدم الوجوب. ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب، وحصل بيان ذلك بالسنة. وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثمّ نسخ فصار مندوباً. ويدلّ لهذا ما رواه أحمد وأبو داود من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب , أنّ أسماء بنت زيد بن الخطّاب حدّثتْ أباه عبد الله بن عمر عن عبد الله بن حنظلة الأنصاريّ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلمّا شقّ عليه وضع عنه الوضوء إلاَّ من حدث. ولمسلمٍ من حديث بريدة: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضّأ عند كلّ صلاة، فلمّا كان يوم الفتح صلَّى الصّلوات بوضوءٍ واحد، فقال له عمر: إنّك فعلتَ شيئاً لَم تكن تفعله؟ فقال: عمداً فعلته. أي: لبيان الجواز. وللبخاري عن أنس قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضّأ عند كل صلاةٍ , قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لَم يُحدث. وموجب الوضوء القيام إلى الصّلاة حسب، ويدلّ له ما رواه أصحاب السّنن من حديث ابن عبّاس عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصّلاة. واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصّلاة) إيجاب النّيّة في الوضوء؛ لأنّ التّقدير إذا أردتم القيام إلى الصّلاة فتوضّئوا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت الأمير فقم، أي: لأجله.

وتمسّك بهذه الآية مَن قال: إنّ الوضوء أوّل ما فرض بالمدينة، فأمّا ما قبل ذلك. فنقل ابن عبد البرّ اتّفاق أهل السّير على أنّ غسل الجنابة إنّما فرض على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكّة كما فرضت الصّلاة، وأنّه لَم يصل قطّ إلاَّ بوضوءٍ. قال: وهذا ممّا لا يجهله عالم. وقال الحاكم في " المستدرك ": وأهل السّنّة بهم حاجة إلى دليل الرّدّ على من زعم أنّ الوضوء لَم يكن قبل نزول آية المائدة. ثمّ ساق حديث ابن عبّاس: دخلتْ فاطمة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي , قالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك. فقال: ائتوني بوضوءٍ. فتوضّأ .. الحديث (¬1). قلت: وهذا يصلح ردّاً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذٍ. وقد جزم ابن الجهم المالكيّ بأنّه كان قبل الهجرة مندوباً. وجزم ابن حزم بأنّه لَم يشرع إلاَّ بالمدينة. ورُدّ عليهما: بما أخرجه ابن لهيعة في " المغازي " التي يرويها عن أبي الأسود - يتيم عروة - عنه , أنّ جبريل علَّم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في " المسند " (2762 - 3485) وابن حبان (6502) والحاكم في " المستدرك " (2/ 80) والضياء في " المختارة " (4/ 160) وغيرهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه -. مطوَّلاً. وقال الحاكم: حديث صحيح.

نزوله عليه بالوحي. وهو مرسلٌ. ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً , لكن قال: عن الزّهريّ عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه. وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزّهريّ نحوه، لكن لَم يذكر زيد بن حارثة في السّند. وأخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق الليث عن عقيل موصولاً. ولو ثبت لكان على شرط الصّحيح، لكنّ المعروف رواية ابن لهيعة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 3 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - , قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويلٌ للأعقابِ مِنَ النّار. (¬1) قوله: (عن عبد الله بن عمرو بن العاص) بن وئل السهمي. (¬2) قوله: (وأبي هريرة) (¬3) قوله: (عائشة) هي الصديقة بنت الصديق , وأمها أم رومان. وكان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها. ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولها نحو ثمانية عشر عاماً. وقد حفظتْ عنه شيئاً كثيراً , وعاشت بعده قريباً من خمسين سنة، فأكثَرَ الناسُ الأخذَ عنها، ونقلوا عنها من الأحكام والآداب شيئاً ¬

_ (¬1) حديث عبد الله بن عمرو. أخرجه البخاري (60 , 96 , 161) ومسلم (241) من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو. مطوَّلاً. وفيه قصة سيذكرها الشارح. ورواه مسلم (241) من وجه آخر عن هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو. أمَّا حديث أبي هريرة. فأخرجه البخاري (163) ومسلم (242) من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة به. وأخرجه مسلم (242) من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه به. أمَّا حديث عائشة. فأخرجه مسلم (240) من طريق سالم مولى شدّاد عنها. ولم يخرّج البخاريُّ حديثَ عائشة كما قال ابن الملقن وعبد الحق في جمعه والزركشي في تصحيح العُمدة. (¬2) ستأتي ترجمته إن شاء الله في الصوم (201). وانظر حديث أبي هريرة الماضي. (¬3) تقدَّمت ترجمته في الحديث الماضي.

كثيراً حتى قيل إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها رضي الله عنها. وكان موتها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين. وقيل: في التي بعدها. ولَم تلد للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً على الصواب، وسألتْه أن تكتني. فقال: اكتني بابن أختك , فاكتنت أم عبد الله. وأخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عائشة , أنه كنَّاها بذلك لما أُحضر إليه ابن الزبير ليحنكه , فقال: هو عبد الله وأنتِ أم عبد الله. قالت: فلم أزل أكنى بها. قوله: (ويلٌ) جاز الابتداء بالنّكرة لأنّه دعاء. واختلف في معناه على أقوال: أظهرها: ما رواه ابن حبّان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد مرفوعاً: ويل وادٍ في جهنّم. (¬1) قال ابن خزيمة: لو كان الماسح مؤدّياً لِلفرض لَمَا توعّد بالنّار، وأشار بذلك إلى ما في كتب الخلاف عن الشّيعة أنّ الواجب المسح أخذاً بظاهر قراءة (وأرجلكم) بالخفض. وقد تواترت الأخبار عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة وضوئه أنّه غسل ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في " الفتح ": وأمّا ما ورد في جهنّم. فلم يرد أنّه معناه في اللّغة، وإنّما أراد مَن قال الله ذلك فيه فقد استحقّ مَقرّاً من النّار. وسيأتي مزيد بسط في معنى كلمة ويل في كتاب الحج إن شاء الله. انظر رقم (240)

رجليه , وهو المبيّن لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبسة. الذي رواه ابن خزيمة وغيره مطوّلاً في فضل الوضوء: ثمّ يغسل قدميه كما أمره الله. ولَم يثبت عن أحدٍ من الصّحابة خلاف ذلك , إلاَّ عن عليّ وابن عبّاس وأنس، وقد ثبت عنهم الرّجوع عن ذلك. قال عبد الرّحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور. وادّعى الطّحاويّ وابن حزم أنّ المسح منسوخ. والله أعلم. وهو القول الأول. القول الثاني: الاكتفاء بالمسح. لقوله تعالى (وأرجلِكم) عطفاً على (وامسحوا برءوسكم) فذهب إلى ظاهرها جماعةٌ من الصحابة والتابعين، فحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة , والثابت عنه خلافه، وعن عكرمة والشعبي وقتادة، وهو قول الشيعة. القول الثالث: عن الحسن البصري: الواجب الغسل أو المسح. القول الرابع: عن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما. وحجة الجمهور. الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - , فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة: الجواب الأول: أنه قرئ (وأرجلَكم) بالنصب عطفاً على (أيديكم)، وقيل معطوف على محل برءوسكم كقوله: (يا جبال أوبي معه والطير) بالنصب. الجواب الثاني: المسح في الآية محمولٌ لمشروعية المسح على الخُفّين ,

فحملوا قراءة الجر على مسح الخُفّين , وقراءة النصب على غسل الرجلين. وقرَّر ذلك أبو بكر بن العربي تقريراً حسناً فقال ما ملخصه: بين القراءتين تعارض ظاهر، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بهما وجب، وإلاَّ عمل بالقدر الممكن، ولا يتأتى الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة , لأنه يؤدي إلى تكرار المسح , لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار. فبقي أن يعمل بهما في حالين توفيقاً بين القراءتين وعملاً بالقدر الممكن. الجواب الثالث: إنما عطفت على الرءوس الممسوحة , لأنها مظنة لكثرة صب الماء عليها فلمنع الإسراف عطفت، وليس المراد أنها تمسح حقيقة. ويدلُّ على هذا المراد قوله: (إلى الكعبين) , لأن المسح رخصة فلا يقيد بالغاية؛ ولأن المسح يطلق على الغسل الخفيف، يقال: مسح أطرافه. لمن توضأ، ذكره أبو زيد اللغوي وابن قتيبة وغيرهما. قوله: (للأعقاب) (¬1) أي: المرئيّة إذ ذاك فاللام للعهد , ويلتحق ¬

_ (¬1) وفي روايةٍ لمسلم (ويل للعراقيب ..) قال النووي (3/ 131): العراقيب جمع عُرقوب بضم العين في المفرد وفتحها في الجمع. وهوالعصبة التي فوق العقب.

بها ما يشاركها في ذلك؛ والعقب مؤخّر القدم. قال البغويّ: معناه ويل لأصحاب الأعقاب المقصّرين في غسلها. وقيل: أراد أنّ العقب مختصّ بالعقاب إذا قصّر في غسله. وإنّما خُصّت بالذّكر لصورة السّبب كما في حديث عبد الله بن عمرو قال: تخلَّف عنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها فأدركنا - وقد أرهقتنا الصلاة - ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل .. الحديث. ولمسلم: رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكّة إلى المدينة حتّى إذا كنّا بماءٍ بالطّريق تعجّل قومٌ عند العصر، فتوضّئوا وهم عجالٌ , فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لَم يمسّها الماء , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويلٌ للأعقاب من النّار , أسبغوا الوضوء. فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التّساهل في إسباغها. وفي الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن الحارث " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النّار ". ومعنى قوله " أرهقتنا " الإرهاق الإدراك والغشيان. قال ابن بطَّال: كأن الصحابة أخَّروا الصلاة في أول الوقت طمعاً أن يلحقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلّوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء ولعجلتهم لَم يسبغوه، فأدركهم على ذلك فأنكر عليهم. قلت: ما ذكره من تأخيرهم قاله احتمالاً. ويحتمل أيضاً: أن يكونوا أخَّروا لكونهم على طهرٍ. ويحتمل: لرجاء الوصول إلى الماء،

ويدلُّ عليه. رواية مسلم " حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر " أي: قرب دخول وقتها فتوضئوا وهم عجال. قوله " ونمسح على أرجلنا " انتزع منه البخاري أنَّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح , لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل، فلهذا قال في الترجمة " غسل الرجلين , ولا يمسح على القدمين " وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها. وفي أفراد مسلم " فانتهينا إليهم وأعقابهم بيضٌ تلوح لَم يمسَّها الماء " (¬1) فتمسك بهذا من يقول بإجزاء المسح، وبحمل الإنكار على ترك التعميم؛ لكن الرواية المتفق عليها أرجح , فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل. فيحتمل أن يكون معنى قوله " لَم يمسها الماء " أي: ماء الغسل جمعاً بين الروايتين. وأصرح من ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لَم يغسل عقبه , فقال ذلك. وأيضاً فمَن قال بالمسح لَم يوجب مسح العقب، والحديث حجة عليه. ¬

_ (¬1) ليس عند مسلم لفظة " بيض " وإنما أخرجها البيهقي في " الكبرى " (1/ 112) من طريق إسحاق بن إبراهيم - شيخ مسلم فيه- عن جرير بسنده. ورواها أيضاً ابن خزيمة في " صحيحه " (161) والبزار في " مسنده " (2363) كلاهما عن يوسف بن موسى عن جرير به.

وقال الطحاوي: لَمّا أمرهم بتعميم غسل الرجلين حتى لا يبقى منهما لمعةٌ , دلَّ على أنَّ فرضها الغسل. وتعقبه ابن المنير: بأن التعميم لا يستلزم الغسل، فالرأس تعم بالمسح وليس فرضها الغسل. وقوله " أرجلنا " قابَلَ الجمعَ بالجمع , فالأرجل موزَّعة على الرجال , فلا يلزم أن يكون لكل رجل أرجل.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 4 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: إذا توضّأ أحدكم فليجعلْ في أنفه ماءً , ثمّ لينتثر , ومن استجْمرَ فليوتر , وإذا استيقظَ أحدُكم من نومِه فليغسل يديه قبل أنْ يُدخلَهما في الإناء ثلاثاً، فإنّ أحدَكم لا يدْري أين باتتْ يدُه. (¬1) وفي لفظٍ لمسلمٍ: فليستنشِقْ بِمنْخرَيه منَ الماء. (¬2) وفي لفظٍ: من توضّأ فليستَنْثر. (¬3) قوله: (إذا توضّأ) أي: إذا شرع في الوضوء. قوله: (ثمّ لينتثر) قال الفرّاء: يقال: نثر الرّجل وانتثر واستنثر إذا حرّك النّثرة وهي طرف الأنف في الطّهارة. والاستنثار استفعال من النّثر بالنّون والمثلثة , وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضّئ. أي: يجذبه بريح أنفه , لتنظيف ما في داخله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (160) ومسلم (237) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وروياه من طرق أخرى عن أبي هريرة. نحوه. كما سيذكره الشارح. (¬2) أخرجه مسلم (278) من طريق معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رفعه: إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر. وأورده البخاري معلّقاً في كتاب الصيام كما سيأني. (¬3) أخرجه البخاري (159) ومسلم (237) من طريق الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: مَن توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر. تنبيه: وقع في النسخ والشروح المطبوعة " فلستنشق " ولم أر هذه اللفظة في الصحيحين ولا في غيرها من حديث أبي هريرة , والظاهر أنه تصحيف. والله أعلم.

فيخرج بريح أنفه سواء كان بإعانة يده أم لا. وحكي عن مالك كراهية فعله بغير اليد لكونه يشبه فعل الدّابّة، والمشهور عدم الكراهة. وإذا استنثر بيده , فالمستحبّ أن يكون اليسرى، بوّب عليه النّسائيّ , وأخرجه مقيّداً بها من حديث عليّ. وروى أحمد وأبو داود والحاكم من حديثه مرفوعاً: استنثروا مرّتين بالغتين أو ثلاثاً، ولأبي داود الطّيالسيّ: إذا توضّأ أحدكم واستنثر فليفعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً. وإسناده حسن وقوله " فليستنثر " ظاهر الأمر أنّه للوجوب، فيلزم مَن قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به كأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر أن يقول به في الاستنثار. وظاهر كلام صاحب المغني يقتضي أنّهم يقولون بذلك، وأنّ مشروعيّة الاستنشاق لا تحصل إلاَّ بالاستنثار. وصرّح ابن بطّال. بأنّ بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار , وفيه تعقّب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه. واستدل الجمهور على أنّ الأمر فيه للنّدب , بما حسّنه التّرمذيّ وصحَّحه الحاكم من قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيّ: توضّأ كما أمرك الله. فأحاله على الآية. وليس فيها ذكر الاستنشاق. وأجيب: بأنّه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعمّ من آية الوضوء، فقد أمر الله سبحانه باتّباع نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وهو المبيّن عن الله أمره.

ولَم يحك أحدٌ ممّن وصف وضوءه عليه - صلى الله عليه وسلم - على الاستقصاء أنّه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة، وهو يردّ على من لَم يوجب المضمضة أيضاً، وقد ثبت الأمر بها أيضاً في سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح. (¬1) وذكر ابن المنذر , أنّ الشّافعيّ لَم يحتجّ على عدم وجوب الاستنشاق مع صحّة الأمر به , إلاَّ لكونه لا يعلم خلافاً في أنّ تاركه لا يعيد. وهذا دليل قويّ، فإنّه لا يُحفظ ذلك عن أحدٍ من الصّحابة ولا التّابعين إلاَّ عن عطاء، وثبت عنه أنّه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كلّه ابن المنذر، ولَم يذكر في هذه الرّواية عدداً. وقد ورد في رواية سفيان عن أبي الزّناد ولفظه " وإذا استنثر فليستنثر وتراً " أخرجه الحميديّ في " مسنده " عنه، وأصله لمسلمٍ. وفي رواية عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عند البخاري: إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضّأ فليستنثر ثلاثاً، فإنّ الشّيطان يبيت على خيشومه. وعلى هذا فالمراد بالاستنثار في الوضوء التّنظيف لِمَا فيه من المعونة على القراءة؛ لأنّ بتنقية مجرى النّفس تصحّ مخارج الحروف، ويزاد للمستيقظ بأنّ ذلك لطرد الشّيطان. قوله: (ومن استجمر) أي: استعمل الجمار - وهي الحجارة ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (142 , 143 , 144) ومن طريقه البيهقي في " الكبرى " (1/ 68) من حديث لقيط بن صبرة. ضمن حديث. وفيه: إذا توضأتَ فمضمض.

الصّغار - في الاستنجاء. وحمله بعضهم على استعمال البخور. فإنّه يقال فيه: تجمّر واستجمر، حكاه ابنُ حبيب عن ابن عمر. ولا يصحّ عنه، وابنُ عبد البرّ عن مالك، وروى ابن خزيمة في " صحيحه " عنه خلافه، وقال عبد الرّزّاق: عن معمر أيضاً بموافقة الجمهور. قوله: (فليوتر) في حديث ابن مسعود عند البخاري في " صحيحه " قال: أتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجارٍ. ففيه العمل بما دلَّ عليه النّهي في حديث سلمان عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ولا يستنج أحدكم بأقلّ من ثلاثة أحجار. رواه مسلم. وأخذ بهذا الشّافعيّ وأحمد وأصحاب الحديث , فاشترطوا أن لا ينقص من الثّلاث مع مراعاة الإنقاء إذا لَم يحصل بها فيزاد حتّى ينقّى، ويستحبّ حينئذٍ الإيتار لقوله " ومن استجمر فليوتر " وليس بواجبٍ لزيادةٍ في أبي داود حسنة الإسناد. قال: ومن لا فلا حرج. (¬1). وبهذا يحصل الجمع بين الرّوايات في هذا الباب. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 371) والدارِمِي (662 و2087) وأبو داود (35) وابن ماجه (337) وابن حِبان (1410) وغيرهم من طرق عن ثور بن يزيد عن حصين الحميري عن أبي سعد الخير عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. وفيه .. ومن استجمر فليوتر. مَن فعل فقد أحسن. ومن لا فلا حرج ... الحديث " قال الحافظ في " التلخيص " (1/ 120): مداره على أبي سعد الحبراني الحمصي , وفيه اختلاف وقيل: إنه صحابي. ولا يصحُّ , والراوي عنه حصين الحبراني. هو مجهول , وقال أبو زرعة: شيخ , وذكره ابن حبان في " الثقات " , وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل. انتهى

قال الخطّابيّ (¬1): لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلمّا اشترط العدد لفظاً وعلم الإنقاء فيه معنىً دلَّ على إيجاب الأمرين، ونظيره العدّة بالأقراء فإنّ العدد مشترط ولو تحقّقت براءة الرّحم بقُرءٍ واحد. واستدل بعض من نفى وجوب الاستنجاء بهذا الحديث للإتيان فيه بحرف الشّرط، ولا دلالة فيه، وإنّما مقتضاه التّخيير بين الاستنجاء بالماء أو بالأحجار. والله أعلم قوله: (وإذا استيقظ أحدكم من نومه) أخذ بعمومه الشّافعيّ والجمهور فاستحبّوه عقب كلّ نوم. وخصّه أحمد بنوم الليل لقوله في آخر الحديث " باتت يده " لأنّ حقيقة المبيت أن يكون في الليل. وفي رواية لأبي داود ساق مسلمٌ إسنادَها " إذا قام أحدكم من الليل " وكذا للتّرمذيّ من وجه آخر صحيح. ولأبي عوانة في روايةٍ ساق مسلم إسنادها أيضاً " إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح ". لكنّ التّعليل يقتضي إلحاق نوم النّهار بنوم الليل، وإنّما خصّ نوم الليل بالذّكر للغلبة. ¬

_ (¬1) حمد (ويقال أحمد) بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستيّ، أبو سليمان: فقيه محدّث من أهل بُست (من بلاد كابل) ولد سنة 319 هـ من نسل زيد بن الخطاب - أخي عمر بن الخطاب - صاحب التصانيف المشهورة. توفي سنة 388 هـ الأعلام للزركلي. (2/ 273).

قال الرّافعيّ في " شرح المسند ": يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلاً أشدّ منها لمن نام نهاراً؛ لأنّ الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة، ثمّ الأمر عند الجمهور على النّدب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النّهار، وعنه في رواية استحبابه في نوم النّهار. واتّفقوا على أنّه لو غمس يده لَم يضرّ الماء. وقال إسحاق وداود والطّبريّ: ينجس. واستدل لهم بما ورد من الأمر بإراقته؛ لكنّه حديث ضعيف. أخرجه ابن عديّ (¬1). والقرينة الصّارفة للأمر عن الوجوب عند الجمهور التّعليل بأمرٍ يقتضي الشّكّ؛ لأنّ الشّكّ لا يقتضي وجوباً في هذا الحكم استصحاباً لأصل الطّهارة. واستدل أبو عوانة على عدم الوجوب بوضوئه - صلى الله عليه وسلم - من الشّنّ المعلق بعد قيامه من النّوم كما في حديث ابن عبّاس (¬2). ¬

_ (¬1) الكامل لابن عدي (6/ 374) من طريق أبي الحسن المعلى بن الفضل ثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال: إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثم ليتوضأ. فإن غمس يده في الإناء من قبل أن يغسلها , فليهريق ذلك الماء " وهو ضعيف من أجل المعلّى , والانقطاع بين الحسن وأبي هريرة. قال ابن عدي: وقوله في هذا المتن " فليهريق ذلك الماء " منكر لا يُحفظ. وقال الذهبي في الميزان (4/ 150): حديث منكر. (¬2) أخرجه البخاري (138) وفي مواضع أخرى. ومسلم (1820) مطوَّلاً. في قصة قيامه لصلاة الليل.

وتعقّب: بأنّ قوله " أحدكم " يقتضي اختصاصه بغيره - صلى الله عليه وسلم -. وأجيب: بأنّه صحّ عنه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النّوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز. وأيضاً فقد قال في هذا الحديث في روايات لمسلمٍ وأبي داود وغيرهما " فليغسلهما ثلاثاً " وفي رواية " ثلاث مرّات "، والتّقييد بالعدد في غير النّجاسة العينيّة يدلّ على النّدبيّة. ووقع في رواية همّام عن أبي هريرة عند أحمد " فلا يضع يده في الوضوء حتّى يغسلها " والنّهي فيه للتّنزيه كما ذكرنا , إن فعل استحبّ , وإن ترك كره , ولا تزول الكراهة بدون الثّلاث، نصّ عليه الشّافعيّ. والمراد باليد هنا الكفّ دون ما زاد عليها اتّفاقاً. وهذا كلّه في حقّ من قام من النّوم لِمَا دلَّ عليه مفهوم الشّرط. وهو حجّة عند الأكثر. أمّا المستيقظ فيستحبّ له الفعل لحديث عثمان وعبد الله بن زيد، ولا يكره التّرك لعدم ورود النّهي فيه، وقد روى سعيد بن منصور بسندٍ صحيح عن أبي هريرة أنّه كان يفعله , ولا يرى بتركه بأساً. وجاء عن ابن عمر والبراء. نحو ذلك. قوله: (قبل أن يُدخلها) ولمسلمٍ وابن خزيمة وغيرهما من طرق

" فلا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها " وهي أبين في المراد من رواية الإدخال؛ لأنّ مطلق الإدخال لا يترتّب عليه كراهة , كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناءٍ صغير من غير أن يلامس يده الماء. قوله: (في الإناء) وللبخاري في " وضوءه " بفتح الواو. أي: الإناء الذي أعدّ للوضوء، ولابن خزيمة " في إنائه أو وضوئه " على الشّكّ. والظّاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلحق به إناء الغسل لأنّه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياساً، لكن في الاستحباب من غير كراهة لعدم ورود النّهي فيها عن ذلك. وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها , على تقدير نجاستها فلا يتناولها النّهي. والله أعلم. قوله: (فإنّ أحدكم) قال البيضاويّ: فيه إيماء إلى أنّ الباعث على الأمر بذلك احتمال النّجاسة؛ لأنّ الشّارع إذا ذكر حكماً وعقّبه بعلةٍ دلَّ على أنّ ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المحرم الذي سقط فمات " فإنّه يبعث ملبّياً " بعد نهيهم عن تطييبه، فنبّه على عِلَّة النّهي. وهي كونه محرماً. قوله: (لا يدري) فيه أنّ عِلَّة النّهي احتمال هل لاقت يده ما يؤثّر في الماء أو لا، ومقتضاه إلحاق من شكّ في ذلك ولو كان مستيقظاً. ومفهومه أنّ من درى أين باتت يده كمن لفّ عليها خرقة مثلاً فاستيقظ وهي على حالها أن لا كراهة، وإن كان غسلها مستحبّاً على

المختار كما في المستيقظ. ومَن قال بأنّ الأمر في ذلك للتّعبّد - كمالك - لا يفرّق بين شاكّ ومتيقّن. واستدل بهذا الحديث على التّفرقة بين ورود الماء على النّجاسة وبين ورود النّجاسة على الماء، وهو ظاهر. وعلى أنّ النّجاسة تؤثّر في الماء، وهو صحيح؛ لكنّ كونها تؤثّر التّنجيس وإن لَم يتغيّر. فيه نظر؛ لأنّ مطلق التّأثير لا يدلّ على خصوص التّأثير بالتّنجيس، فيحتمل أن تكون الكراهة بالمتيقّن أشدّ من الكراهة بالمظنون. قاله ابن دقيق العيد. ومراده أنّه ليست فيه دلالة قطعيّة على من يقول: إنّ الماء لا ينجس إلاَّ بالتّغيّر قوله: (أين باتت يده) أي: من جسده. قال الشّافعيّ رحمه الله: كانوا يستجمرون وبلادهم حارّة , فربّما عرق أحدهم إذا نام , فيحتمل أن تطوف يده على المحلّ , أو على بثرة , أو دم حيوان , أو قذر غير ذلك. وتعقّبه أبو الوليد الباجيّ: بأنّ ذلك يستلزم الأمر بغسل ثوب النّائم لجواز ذلك عليه. وأجيب: بأنّه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحلّ، أو أنّ المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء حتّى يؤمر بغسله، بخلاف اليد فإنّه محتاج إلى غمسها، وهذا أقوى الجوابين.

والدّليل على أنّه لا اختصاص لذلك بمحل الاستجمار , ما رواه ابن خزيمة وغيره من طريق محمّد بن الوليد عن محمّد بن جعفر عن شعبة عن خالد الحذّاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في هذا الحديث. قال في آخره " أين باتت يده منه " وأصله في مسلم دون قوله " منه ". قال الدّارقطنيّ: تفرّد بها شعبة. وقال البيهقيّ: تفرّد بها محمّد بن الوليد. قلت: إن أراد عن محمّد بن جعفر فمسلَّم، وإن أراد مطلقاً فلا، فقد قال الدّارقطنيّ: تابعه عبد الصّمد عن شعبة، وأخرجه ابن منده من طريقه. وفي الحديث الأخذ بالوثيقة، والعمل بالاحتياط في العبادة، والكناية عمّا يستحيا منه إذا حصل الإفهام بها، واستحباب غسل النّجاسة ثلاثاً لأنّه أمرنا بالتّثليث عند توهّمها فعند تيقّنها أولى. واستنبط منه قوم فوائد أخرى فيها بُعد، منها أنّ موضع الاستنجاء مخصوص بالرّخصة في جواز الصّلاة مع بقاء أثر النّجاسة عليه , قاله الخطّابيّ. ومنها. إيجاب الوضوء من النّوم، قاله ابن عبد البرّ، ومنها تقوية من يقول بالوضوء من مسّ الذّكر. حكاه أبو عوانة في " صحيحه " عن ابن عُيينة. ومنها أنّ القليل من الماء لا يصير مستعملاً بإدخال اليد فيه لمن أراد

الوضوء، قاله الخطّابيّ صاحب الخصال من الشّافعيّة. قوله: (فليستنشِقْ بِمنْخرَيه (¬1) منَ الماء) الاستنشاق من سنن الوضوء اتفاقاً لكل من استيقظ أو كان مستيقظاً. وقالت طائفة بوجوبه في الغسل. وطائفة بوجوبه في الوضوء أيضاً. وهل تتأدى السنة بمجرده بغير استنثار أم لا؟. خلاف. وهو محلُّ بحثٍ وتأمُّل , والذي يظهر أنها لا تتم الاَّ به لِما تقدم. والله أعلم تكميل: هذا الحديث بهذا اللفظ من الأصول التي لم يوصلها البخاري. وقد أخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة. ورويناه في مصنف عبد الرزاق , وفي " نسخة همام " من طريق الطبراني عن إسحاق عنه عن معمر عن همام. ولفظه: إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره الماء ثم ليستنثر. وورد تمييز الصائم من غيره في المبالغة في ذلك كما رواه أصحاب السنن وصحَّحه ابن خزيمة وغيره من طريق عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: بالغ في الاستنشاق إلاَّ أن تكون صائماً. وروى ابن أبي شيبة عن الحسن قال: لا بأس بالسعوط (¬2) للصائم ¬

_ (¬1) قال النووي في " شرح مسلم " (3/ 126): بفتح الميم وكسر الخاء وبكسرهما جميعاً لغتان معروفتان. انتهى (¬2) السعوط بفتح السين. وهو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس. قاله ابن حجر في " الفتح ".

إن لم يصلِ الماء إلى حلقه. وقال الكوفيون والأوزاعي وإسحاق: يجب القضاء على من استعط. وقال مالك والشافعي: لا يجب إلا إن وصل الماء إلى حلقه. قوله: (من توضّأ فليستَنْثر) قوله فليستنثر أكثر فائدة من قوله فليستنشق , لأنَّ الاستنثار يقع على الاستنشاق بغير عكس فقد يستنشق ولا يستنثر. والاستنثار من تمام فائدة الاستنشاق , لأنَّ حقيقة الاستنشاق جذب الماء بريح الأنف إلى أقصاه , والاستنثار إخراج ذلك الماء. والمقصود من الاستنشاق تنظيف داخل الأنف والاستنثار يخرج ذلك الوسخ مع الماء فهو من تمام الاستنشاق. وقيل: إن الاستنثار مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف. وقيل: الأنف نفسه فعلى هذا فمن استنشق فقد استنثر , لأنه يصدق أنه تناول الماء بأنفه أو بطرف أنفه. وفيه نظر.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 5 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبولنّ أحدُكم في الماء الدّائمِ الذي لا يجْري , ثمّ يغتسل منه. (¬1) ولمسلمٍ: لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائمِ. وهو جنبٌ. (¬2) قوله: (الدائم) أي: السّاكن. يقال: دوّم الطّائر تدويماً إذا صفّ جناحيه في الهواء فلم يحرّكهما. قوله: (الذي لا يجري) قيل: هو تفسيرٌ للدّائم وإيضاحٌ لمعناه. وقيل: احترز به عن راكدٍ يجري بعضه كالبرك. وقيل: احترز به عن الماء الدّائم؛ لأنّه جارٍ من حيث الصّورة ساكن من حيث المعنى , ولهذا لَم يذكر هذا القيد في رواية أبي عثمان عن أبي هريرة حيث جاء فيها بلفظ " الرّاكد " (¬3) بدل الدّائم. وكذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (236) من طريق شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ورواه ومسلم (282) من طريق ابن سيرين وهمّام عن أبي هريرة نحوه. (¬2) أخرجه مسلم (283) من طريق بكير بن الأشج عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، حدَّثه أنه سمع أبا هريرة. فذكره (¬3) أخرجه النسائي (220) والشافعي في " مسنده " (745) والحميدي (1016) والبيهقي في " الكبرى " (1/ 238) من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبول الرّجل في الماء الرّاكد، ثمّ يغتسل منه. وقد تقدّم في التخريج أنَّ البخاري رواه عن أبي الزناد عن الأعرج. قال ابن حجر في " الفتح ": والطريقان معاً صحيحان , ولأبي الزناد فيه شيخان. ولفظهما في سياق المتن مختلف.

أخرجه مسلم من حديث جابر. وقال ابن الأنباريّ: الدّائم من حروف الأضداد , يقال للسّاكن والدّائر , ومنه أصاب الرّأس دوامٌ. أي: دوارٌ , وعلى هذا فقوله " الذي لا يجري " صفة مخصّصة لأحد مَعْنَيي المشترك. وقيل: الدّائم والرّاكد مقابلان للجاري , لكن الذي له نبعٌ , والرّاكد الذي لا نبع له. قوله: (ثمّ يغتسل) بضمّ اللام على المشهور. وقال ابن مالك: يجوز الجزم عطفاً على يبولنّ؛ لأنّه مجزوم الموضع بلا النّاهية , ولكنّه بني على الفتح لتوكيده بالنّون. ومنَعَ ذلك القرطبيّ , فقال: لو أراد النّهي لقال , ثمّ لا يغتسلنّ فحينئذٍ يتساوى الأمران في النّهي عنهما؛ لأنّ المحل الذي تواردا عليه شيء واحد وهو الماء. قال: فعدوله عن ذلك يدلّ على أنّه لَم يرد العطف , بل نبّه على مآل الحال , والمعنى أنّه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله. ومثّله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يضربنّ أحدكم امرأته ضرب الأمة ثمّ يضاجعُها " (¬1). فإنّه لَم يروه أحدٌ بالجزم؛ لأنّ المراد النّهي عن الضّرب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5204) ومواضع أخرى , ومسلم (2855) من حديث عبد الله بن زمعة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يجلدْ أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعُها في آخر اليوم. واللفظ للبخاري. ولم أره بهذا السياق الذي ذكره الشارح رحمه الله. انظر فتح الباري (9/ 376) كتاب النكاح. باب ما يكره من ضرب النساء.

؛ لأنّه يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها فتمتنع لإساءته إليها فلا يحصل له مقصوده. وتقدير اللفظ ثمّ هو يضاجعها. وفي هذا حديث " ثمّ هو يغتسل منه ". وتعقّب: بأنّه لا يلزم من تأكيد النّهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكّد؛ لاحتمال أن يكون للتّأكيد في أحدهما معنىً ليس للآخر. قال القرطبيّ: ولا يجوز النّصب إذ لا تضمر أن بعد ثمّ , وأجازه ابن مالك بإعطاء ثمّ حكم الواو. وتعقّبه النّوويّ: بأنّ ذلك يقتضي أن يكون المنهيّ عنه الجمع بين الأمرين دون إفراد أحدهما. وضعّفه ابن دقيق العيد , بأنّه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعدّدة لفظٌ واحدٌ , فيؤخذ النّهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث - إن ثبتت رواية النّصب - ويؤخذ النّهي عن الإفراد من حديثٍ آخر. قلت: وهو ما رواه مسلم من حديث جابر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه نهى عن البول في الماء الرّاكد. وعنده من طريق أبي السّائب عن أبي هريرة بلفظ: لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم وهو جنبٌ. وروى أبو داود النّهي عنهما في حديثٍ واحدٍ ولفظه. لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم , ولا يغتسل فيه من الجنابة.

واستدل به بعض الحنفيّة على تنجيس الماء المستعمل؛ لأنّ البول ينجّس الماء فكذلك الاغتسال , وقد نهى عنهما معاً وهو للتّحريم فيدلّ على النّجاسة فيهما. ورُدّ: بأنّها دلالة اقتران وهي ضعيفة , وعلى تقدير تسليمها فلا يلزم التّسوية فيكون النّهي عن البول لئلا ينجّسه. وعن الاغتسال فيه لئلا يسلبه الطّهوريّة. ويزيد ذلك وضوحاً قوله في رواية مسلم " كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً ". فدلَّ على أنّ المنع من الانغماس فيه لئلا يصير مستعملاً فيمتنع على الغير الانتفاع به , والصّحابيّ أعلم بموارد الخطاب من غيره. وهذا من أقوى الأدلة على أنّ المستعمل غير طهور. ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدميّ وغيره , خلافاً لبعض الحنابلة. ولا بين أن يبول في الماء أو يبول في إناءٍ ثمّ يصبّه فيه , خلافاً للظّاهريّة. وهذا كلّه محمول على الماء القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حدّ القليل , وقد قيل لا يعتبر إلاَّ التّغيّر وعدمه , وهو قويٌّ لكنّ الفصل بالقلتين أقوى لصحّة الحديث فيه (¬1). ¬

_ (¬1) أي: حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً " إذا كان الماء قلتين لَم يحمل الخبث " رواه الخمسة وأحمد ولفظ ابن ماجه وأحمد " لَم ينجِّسه شيء "

وقد اعترف الطّحاويّ من الحنفيّة بذلك , لكنّه اعتذر عن القول به , بأنّ القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصّغيرة كالجرّة، ولَم يثبت من الحديث تقديرهما فيكون مجملاً فلا يعمل به. وقوّاه ابن دقيق العيد. لكن استدل له غيرهما. فقال أبو عبيدٍ القاسم بن سلام: المراد القُلَّة الكبيرة إذ لو أراد الصّغيرة لَم يحتج لذكر العدد. فإنّ الصّغيرتين قدر واحدة كبيرة , ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز. والظّاهر أنّ الشّارع - صلى الله عليه وسلم - ترك تحديدهما على سبيل التّوسعة والعلم محيط بأنّه ما خاطب الصّحابة إلاَّ بما يفهمون فانتفى الإجمال , لكن لعدم التّحديد وقع الخلف بين السّلف في مقدارهما على تسعة أقوالٍ حكاها ابن المنذر. ثمّ حدث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال. واختلف فيه أيضاً. ونقل عن مالكٍ أنّه حمل النّهي على التّنزيه فيما لا يتغيّر , وهو قول الباقين في الكثير. وقال القرطبيّ: يمكن حمله على التّحريم مطلقاً على قاعدة سدّ الذّريعة؛ لأنّه يفضي إلى تنجيس الماء. قوله: (ثمّ يغتسل فيه) كذا في البخاري , وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزّناد عند النسائي ومسند الشافعي " ثمّ يغتسل منه " (¬1). ¬

_ (¬1) رواية النسائي والشافعي تقدَّم تخريجها.

وكذا لمسلمٍ من طريق ابن سيرين. وكلٌّ من اللفظين يفيد حكماً بالنّصّ , وحكماً بالاستنباط , قاله ابن دقيق العيد. ووجهه أنّ الرّواية بلفظ " فيه " تدلّ على منع الانغماس بالنّصّ , وعلى منع التّناول بالاستنباط , والرّواية بلفظ " منه " بعكس ذلك , وكلّه مبنيّ على أنّ الماء ينجس بملاقاة النّجاسة. والله أعلم

الحديث السادس

الحديث السادس 6 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا شَرِب الكلب في إناء أحدِكم فليغسله سبعاً. (¬1) ولمسلمٍ: أُوْلاهنّ بالتّراب. (¬2) الحديث السابع 7 - ولمسلم في حديث عبد الله بن مغفّلٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا ولَغَ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً , وعفِّروه الثّامنة بالتّراب. (¬3) قوله: (إذا شرب) كذا هو في الموطّأ أيضاً عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه عنه " إذا ولغ "، وهو المعروف في اللّغة، يقال ولغ يلغ - بالفتح فيهما - إذا شرب بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحرّكه. وقال ثعلب: هو أن يُدخل لسانه في الماء وغيره من كلّ مائع فيحرّكه، زاد ابن درستويه: شرب أو لَم يشرب. وقال ابن مكّيٍّ: فإن كان غير مائع يقال لعقه. وقال المطرّزيّ: فإن كان فارغاً يقال لحسه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (170) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (279) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. ولمسلم (279) عن أبي صالح وأبي رزين. وعن همام عن أبي هريرة. بلفظ: إذا ولغ .. (¬2) أخرجه مسلم (279) من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة به. (¬3) أخرجه مسلم (280) من طريق أبي التياح يزِيد بن حميد الضبعِي عن مطرف بن عبد الله عن ابن مغفل - رضي الله عنه - به.

وادّعى ابن عبد البرّ أنّ لفظ " شرب " لَم يروه إلاَّ مالك، وأنّ غيره رواه بلفظ " ولغ ". وليس كما ادّعى. فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسّان عن ابن سيرين عن أبي هريرة بلفظ " إذا شرب " , لكنّ المشهور عن هشام بن حسّان بلفظ " إذا ولغ " كذا أخرجه مسلم وغيره من طرق عنه، وقد رواه عن أبي الزّناد - شيخِ مالكٍ - بلفظ " إذا شرب " ورقاءُ بنُ عمر. أخرجه الجوزقيّ، وكذا المغيرة بن عبد الرّحمن. أخرجه أبو يعلى. نعم. وروي عن مالك بلفظ " إذا ولغ ". أخرجه أبو عبيد في " كتاب الطّهور " له عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيليّ، وكذا أخرجه الدّارقطنيّ في " الموطّآت " له من طريق أبي عليّ الحنفيّ عن مالك، وهو في نسخة صحيحة من سنن ابن ماجه من رواية روح بن عُبادة عن مالك أيضاً. وكأنّ أبا الزّناد حدّث به باللفظين لتقاربهما في المعنى؛ لكنّ الشّرب كما بيّنّا أخصّ من الولوغ فلا يقوم مقامه. ومفهوم الشّرط في قوله " إذا ولغ " يقتضي قصر الحكم على ذلك، لكن إذا قلنا إنّ الأمر بالغسل للتّنجيس يتعدّى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلاً، ويكون ذكر الولوغ للغالب. وأمّا إلحاق باقي أعضائه كيده ورجله , فالمذهب المنصوص أنّه كذلك , لأنّ فَمَه أشرفها فيكون الباقي من باب الأولى، وخصّه في

القديم الأوّل. وقال النّوويّ في " الرّوضة ": إنّه وجه شاذّ. وفي " شرح المهذّب ": إنّه القويّ من حيث الدّليل، والأولويّة المذكورة قد تمنع لكون فمِه محلّ استعمال النّجاسات. قوله: (الكلب) الكلب معروف , والأنثى كلبة , والجمع أكلب وكلاب وكَليب بالفتح، كأعبدٍ وعباد وعبيد. وفي الكلب بَهيميّة وسَبعيّة كأنّه مركّب. وفيه منافع للحراسة والصّيد. وفيه من اقتفاء الأثر وشمّ الرّائحة والحراسة وخفّة النّوم والتّودّد وقبول التّعليم ما ليس لغيره. وقيل: إنّ أوّل من اتّخذه للحراسة نوح عليه السّلام. قوله: (في إناء أحدكم) ظاهره العموم في الآنية، ومفهومه يخرج الماء المستنقع مثلاً، وبه قال الأوزاعيّ مطلقاً. لكن إذا قلنا بأنّ الغسل للتّنجيس يجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير، والإضافة التي في إناء أحدكم يُلغى اعتبارها هنا , لأنّ الطّهارة لا تتوقّف على ملكه، وكذا قوله " فليغسله " لا يتوقّف على أن يكون هو الغاسل. وزاد مسلم والنّسائيّ من طريق عليّ بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين عن أبي هريرة في هذا الحديث " فليرقه " وهو يقوّي القول بأنّ الغسل للتّنجيس، إذ الْمُراق أعمّ من أن يكون ماء أو طعاماً، فلو كان طاهراً لَم يؤمر بإراقته للنّهي عن إضاعة المال.

لكن قال النّسائيّ: لا أعلم أحداً تابع عليَّ بنَ مسهر على زيادة فليرقه. وقال حمزة الكنانيّ: إنّها غير محفوظة. وقال ابن عبد البرّ: لَم يذكرها الحفّاظ من أصحاب الأعمش كأبي معاوية وشعبة. وقال ابن منده: لا تعرف عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بوجهٍ من الوجوه إلاَّ عن عليّ بن مسهر بهذا الإسناد. قلت: قد ورد الأمر بالإراقة أيضاً من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعاً. أخرجه ابن عديّ، لكن في رفعه نظر، والصّحيح أنّه موقوف. وكذا ذكَرَ الإراقةَ حمّادُ بن زيد عن أيّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفاً , وإسناده صحيح أخرجه الدّارقطنيّ وغيره. قوله: (فليغسله) يقتضي الفور، لكن حمله الجمهور على الاستحباب , إلاَّ لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء. قوله: (سبعاً) أي: سبع مرار. قوله: (أُولاهنّ بالتراب) لَم يقع في رواية مالك (¬1) التّتريب , ولَم يثبت في شيء من الرّوايات عن أبي هريرة إلاَّ عن ابن سيرين، على أنّ بعض أصحابه لَم يذكره. وروي أيضاً عن الحسن وأبي رافع عند ¬

_ (¬1) رواية مالك أخرجها الشيخان من طريقه كما تقدّم.

الدّارقطنيّ , وعبد الرّحمن والد السّدّيّ عند البزّار. واختلف الرّواة عن ابن سيرين في محلّ غسلة التّتريب. فلمسلمٍ وغيره من طريق هشام بن حسّان عنه " أولاهنّ " وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين , وكذا في رواية أبي رافع المذكورة. واختلف عن قتادة عن ابن سيرين , فقال سعيد بن بشير عنه " أولاهنّ " أيضاً أخرجه الدّارقطنيّ، وقال أبان عن قتادة " السّابعة " أخرجه أبو داود. وللشّافعيّ عن سفيان عن أيّوب عن ابن سيرين " أولاهنّ أو إحداهنّ ". وفي رواية السّدّيّ عن البزّار " إحداهنّ " وكذا في رواية هشام بن عروة عن أبي الزّناد عنه. فطريق الجمع بين هذه الرّوايات أن يقال: إحداهنّ مبهمة وأولاهنّ والسّابعة معيّنة. و" أو " إن كانت في نفس الخبر فهي للتّخيير , فمقتضى حمل المطلق على المقيّد أن يحمل على أحدهما , لأنّ فيه زيادة على الرّواية المعيّنة، وهو الذي نصّ عليه الشّافعيّ في الأمّ والبويطيّ , وصرّح به المرعشيّ وغيره من الأصحاب. وذكره ابن دقيق العيد والسّبكيّ بحثاً، وهو منصوص كما ذكرنا. وإن كانت " أو " شكّاً من الرّاوي , فرواية من عيّن ولَم يشكّ أولى من رواية من أبهم أو شكّ.

فيبقى النّظر في التّرجيح بين رواية " أولاهنّ " ورواية " السّابعة ". ورواية " أولاهنّ " أرجح من حيث الأكثريّة والأحفظيّة ومن حيث المعنى أيضاً؛ لأنّ تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نصّ الشّافعيّ في حرملة على أنّ الأولى أولى. والله أعلم. وفي الحديث دليل على أنّ حكم النّجاسة يتعدّى عن محلّها إلى ما يجاورها بشرط كونه مائعاً، وعلى تنجيس المائعات إذا وقع في جزء منها نجاسة، وعلى تنجيس الإناء الذي يتّصل بالمائع، وعلى أنّ الماء القليل ينجس بوقوع النّجاسة فيه وإن لَم يتغيّر؛ لأنّ ولوغ الكلب لا يغيّر الماء الذي في الإناء غالباً. وعلى أنّ ورود الماء على النّجاسة يخالف ورودها عليه , لأنّه أمر بإراقة الماء لَمّا وردت عليه النّجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه وأمر بغسله، وحقيقته تتأدّى بما يسمّى غسلاً ولو كان ما يغسل به أقلّ ممّا أريق. فائدة: خالف ظاهرَ هذا الحديث المالكيّة والحنفيّة. فأمّا المالكيّة. فلم يقولوا بالتّتريب أصلاً مع إيجابهم التّسبيع على المشهور عندهم؛ لأنّ التّتريب لَم يقع في رواية مالك. قال القرافيّ منهم: قد صحّت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لَم يقولوا بها؟!. وعن مالك رواية أنّ الأمر بالتّسبيع للنّدب، والمعروف عند

أصحابه أنّه للوجوب لكنّه للتّعبّد لكون الكلب طاهراً عندهم، وأبدى بعض متأخّريهم له حكمة غير التّنجيس كما سيأتي. وعن مالك رواية بأنّه نجس؛ لكنّ قاعدته أنّ الماء لا ينجس إلاَّ بالتّغيّر، فلا يجب التّسبيع للنّجاسة بل للتّعبّد. لكن يرِدُ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في أوّل هذا الحديث , فيما رواه مسلم وغيره من طريق محمّد بن سيرين وهمّام بن منبّه عن أبي هريرة " طهور إناء أحدكم " , لأنّ الطّهارة تستعمل إمّا عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء فتعيّن الخبث. وأجيب: بمنع الحصر , لأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث , وقد قيل له طهور المسلم؛ ولأنّ الطّهارة تطلق على غير ذلك كقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: السّواك مطهرة للفم. (¬1) والجواب عن الأوّل: بأنّ التّيمّم ناشئ عن حدث , فلمّا قام مقام ما يطهّر الحدث سُمِّي طهوراً. ومن يقول بأنّه يرفع الحدث يمنع هذا الإيراد من أصله (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 124) والنسائي (1/ 10) والشافعي في " المسند " (1/ 27) والبيهقي في " الكبرى " (1/ 34) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً. وتمامه " ومرضاة للرب " وصحَّحه ابن حبان (1067) وعلَّقه البخاري في صحيحه. (¬2) قال الشيخ ابن باز رحمه الله: وهو الصواب لظاهر الكتاب والسنة , وليس مع مَن منع ذلك حجة يحسن الاعتماد عليها.

والجواب عن الثّاني: أنّ ألفاظ الشّرع إذا دارت بين الحقيقة اللّغويّة والشّرعيّة حملت على الشّرعيّة إلاَّ إذا قام دليل. ودعوى بعض المالكيّة: أنّ المأمور بالغسل من ولوغه الكلب المنهيّ عن اتّخاذه دون المأذون فيه , يحتاج إلى ثبوت تقدّم النّهي عن الاتّخاذ عن الأمر بالغسل، وإلى قرينة تدلّ على أنّ المراد ما لَم يؤذن في اتّخاذه؛ لأنّ الظّاهر من اللام في قوله " الكلب " أنّها للجنس أو لتعريف الماهيّة فيحتاج المدّعي أنّها للعهد إلى دليل. ومِثلُه تفرقةُ بعضِهم بين البدويّ والحضريّ، ودعوى بعضهم أنّ ذلك مخصوص بالكلب الكَلِب، وأنّ الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطّبّ , لأنّ الشّارع اعتبر السّبع في مواضع منه كقوله " صبّوا عليّ من سبع قرب "، قوله " من تصبّح بسبع تمرات عجوة ". وتعقّب: بأنّ الكلب الكَلِب لا يقرب الماء فكيف يؤمر بالغسل من ولوغه؟ وأجاب حفيدُ ابنِ رشد: بأنّه لا يقرب الماء بعد استحكام الكلب منه، أمّا في ابتدائه فلا يمتنع. وهذا التّعليل - وإن كان فيه مناسبة - لكنّه يستلزم التّخصيص بلا دليل , والتّعليل بالتّنجيس أقوى , لأنّه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عبّاس التّصريح بأنّ الغسل من ولوغ الكلب بأنّه رجس. رواه محمّد بن نصر المروزيّ بإسنادٍ صحيح. ولَم يصحّ عن أحد من الصّحابة خلافه.

والمشهور عن المالكيّة أيضاً التّفرقة بين إناء الماء فيراق ويغسل , وبين إناء الطّعام فيؤكل ثمّ يغسل الإناء تعبّداً , لأنّ الأمر بالإراقة عامّ فيخصّ الطّعام منه بالنّهي عن إضاعة المال. وعورض: بأنّ النّهي عن الإضاعة مخصوص بالأمر بالإراقة. ويترجّح هذا الثّاني بالإجماع على إراقة ما تقع فيه النّجاسة من قليل المائعات ولو عظم ثمنه، فثبت أنّ عموم النّهي عن الإضاعة مخصوص بخلاف الأمر بالإراقة، وإذا ثبتت نجاسة سؤره كان أعمّ من أن يكون لنجاسة عينه أو لنجاسةٍ طارئة كأكل الميتة مثلاً. لكنّ الأوّل أرجح إذ هو الأصل. ولأنّه يلزم على الثّاني مشاركة غيره له في الحكم كالهرّة مثلاً، وإذا ثبتت نجاسة سؤره لعينه لَم يدلّ على نجاسة باقيه إلاَّ بطريق القياس كأن يقال: لعابه نجس ففمه نجس , لأنّه متحلب منه واللّعاب عرَق فمه , وفمه أطيب بدنه فيكون عرقه نجساً , وإذا كان عرقه نجساً كان بدنه نجساً , لأنّ العرق مُتحلِّب من البدن. ولكن هل يلتحق باقي أعضائه بلسانه في وجوب السّبع والتّتريب أم لا؟. تقدّمت الإشارة إلى ذلك من كلام النّوويّ. وأمّا الحنفيّة: فلم يقولوا بوجوب السّبع ولا التّتريب. واعتذر الطّحاويّ وغيره عنهم بأمورٍ. الأول: كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث غسلات , فثبت بذلك نسخ السّبع.

وتعقّب: بأنّه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبيّة السّبع لا وجوبها , أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النّسخ. وأيضاً فقد ثبت أنّه أفتى بالغسل سبعاً , ورواية من روى عنه موافقةَ فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النّظر. أمّا النّظر فظاهر. وأمّا الإسناد. فالموافقة وردتْ من رواية حمّاد بن زيد عن أيّوب عن ابن سيرين عنه , وهذا من أصحّ الأسانيد. وأمّا المخالفة. فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه. وهو دون الأوّل في القوّة بكثيرٍ. الثاني: دعوى أنّ الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلمّا نهي عن قتلها نسخ الأمر بالغسل. وتعقّب: بأنّ الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة , والأمر بالغسل متأخّر جدّاً , لأنّه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفّل، وقد ذكر ابن مغفّل , أنّه سمع - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالغسل , وكان إسلامه سنة سبع كأبي هريرة، بل سياق مسلم ظاهر في أنّ الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب. الثالث: إلزام الشّافعيّة بإيجاب ثمان غسلات عملاً بظاهر حديث عبد الله بن مغفّل الذي أخرجه مسلم. ولفظه: فاغسلوه سبع مرّات وعفّروه الثّامنة في التّراب. وفي رواية أحمد: بالتّراب.

وأجيب: بأنّه لا يلزم من كون الشّافعيّة لا يقولون بظاهر حديث عبد الله بن مغفّل أنْ يتركوا هم العمل بالحديث أصلاً ورأساً؛ لأنّ اعتذار الشّافعيّة عن ذلك - إن كان متّجهاً فذاك - وإلَّا فكلّ من الفريقين ملومٌ في ترك العمل به، قاله ابن دقيق العيد. واعتذر بعضهم عن العمل به بالإجماع على خلافه. وفيه نظر , لأنّه ثبت القول بذلك عن الحسن البصريّ، وبه قال أحمد بن حنبل في رواية حرب الكرمانيّ عنه. ونُقل عن الشّافعيّ أنّه قال: هو حديث لَم أقف على صحّته؛ ولكنّ هذا لا يثبت العذر لمن وقف على صحّته. وجنح بعضهم إلى التّرجيح. لحديث أبي هريرة على حديث ابن مغفّل. والتّرجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مغفّل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزّيادة من الثّقة مقبولة. ولو سلكنا التّرجيح في هذا الباب لَم نقل بالتّتريب أصلاً , لأنّ رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته، ومع ذلك فقلنا به أخذاً بزيادة الثّقة. وجمع بعضهم بين الحديثين بضربٍ من المجاز , فقال: لَمّا كان التّراب جنساً غير الماء جعل اجتماعهما في المرّة الواحدة معدوداً باثنتين. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ قوله " وعفّروه الثّامنة بالتّراب " ظاهر

في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التّعفير في أوّله قبل ورود الغسلات السّبع كانت الغسلات ثمانية , ويكون إطلاق الغسلة على التّتريب مجازاً. وهذا الجمع من مرجّحات تعيّن التّراب في الأولى. قوله: (وله في حديث عبد الله بن مغفّلٍ) الغين المعجمة والفاء الثقيلة المزني. وزن مُحمَّد. (¬1). وتقدم الكلام عليه ضمن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الماضي. فائدة: روى الوليد بن مسلم في " مصنفه " عن الأوزاعي وغيره عنه: سمعت الزهري في إناء ولغ فيه كلبٌ فلم يجدوا ماء غيره، قال: يتوضأ به " وأخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " من طريقه بسند صحيح. قال الوليد بن مسلم: فذكرتُ ذلك لسفيان الثوري فقال: والله ¬

_ (¬1) ابن عبد غنم، وقيل: عبد نهم بن عفيف المزني أبو سعيد، وأبو زياد. ونقل البخاريّ عن يحيى بن معين: أنه كان يكنى أبا زياد، وعن بعض ولده أنه كان يُكنى بهما، وأنه كان له عدّة أولاد، منهم: سعيد، وزياد. من مشاهير الصحابة. قال البخاريّ: له صحبة، سكن البصرة، وهو أحد البكَّاءين في غزوة تبوك، وشهد بيعة الشجرة، ثبت ذلك في الصحيح. وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقّهوا الناس بالبصرة، وهو أول من دخل من باب مدينة تستر. ومات بالبصرة سنة 59 قاله مسدّد. وقيل: سنة 60 فأوصى أن يصلّي عليه أبو برزة الأسلمي، فصلّى عليه. قاله في الإصابة.

هذا الفقه بعينه. يقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43] وهذا ماء، وفي النفس منه شيء فأرى أن يتوضأ به ويتيمم. (¬1) فسمَّى الثوريُّ الأخذَ بدلالة العموم فقهاً، وهي التي تضمنها قوله تعالى (فلم تجدوا ماءً) لكونها نكرة في سياق النفي فتعمّ ولا تخص إلا بدليل، وتنجيس الماء بولوغ الكلب فيه غير متفق عليه بين أهل العلم. وزاد من رأيه التيمم احتياطاً. وتعقبه الإسماعيلي: بأن اشتراطه جواز التوضؤ به إذا لم يجد غيره يدلُّ على تنجيسه عنده؛ لأن الظاهر يجوز التوضؤ به مع وجود غيره. وأجيب: بأن المراد أن استعمال غيره مما لم يختلف فيه أولى، فأما إذا لم يجد غيره فلا يعدل عنه - وهو يعتقد طهارته - إلى التيمم. وأمَّا فتيا سفيان بالتيمم بعد الوضوء به فلأنه رأى أنه ماء مشكوك فيه من أجل الاختلاف فاحتاط للعبادة. وقد تعقِّب: بأنه يلزم من استعماله أن يكون جسده طاهراً بلا شك فيصير باستعماله مشكوكاً في طهارته، ولهذا قال بعض الأئمة: الأولى أن يريق ذلك الماء ثم يتيمم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قول الزهري وسفيان علَّقه البخاري في " صحيحه " في كتاب الوضوء. باب الماء الذي يغتسل به شعر الإنسان.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 8 - عن حمران مولى عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - , أنّه رأى عثمان دعا بوضوءٍ , فأفْرغَ على يديه من إنائه , فغسلهما ثلاث مرّاتٍ، ثمّ أدخل يمينه في الوَضوء , ثمّ تمضمض واستنشق واستنثر، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً , ويديه إلى المرفقين ثلاثاً , ثمّ مسح برأسه , ثمّ غسل كلتا رجليه ثلاثاً. ثمّ قال: رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضّأ نحو وضوئي هذا، وقال: من توضّأ نحو وضوئي هذا , ثمّ صلَّى ركعتين , لا يُحدِّث فيهما نفسه. غُفر له ما تقدّم من ذنبه. (¬1) قوله: (حُمران) بضم المهمله بن أبان. قوله: (عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف. وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث العدد في درجة عفان كما وقع لعمر سواء. وأما كنيته فهو الذي استقر عليه الأمر، وقد نقل يعقوب بن سفيان عن الزهري , أنه كان يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله الذي رُزقه من رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومات عبد الله المذكور صغيراً. وله ست سنين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (159, 162, 1832, 6069) ومسلم (226) من طرق عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان عن عثمان به.

وحكى ابن سعد , أنَّ موته كان سنة أربع من الهجرة، وماتت أمه رقية قبل ذلك سنة اثنتين. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر، وكان بعض من ينتقصه يكنيه أبا ليلى يشير إلى لين جانبه، حكاه ابن قتيبة. وقد اشتهر أنَّ لقبه ذو النورين. وروى خيثمة في " الفضائل " والدارقطني في " الأفراد " من حديث علي , أنه ذكر عثمانَ , فقال: ذاك امرؤ يُدعى في السماء ذا النورين. قُتل عثمان - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. قوله: (دعا بوَضوءٍ) وهو بفتح الواو اسم للماء المعدّ للوضوء. وبالضّمّ الذي هو الفعل، وفي رواية لهما " دعا بإناء " وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضّأ به. قوله: (فأفرغ) أي: صبّ. قوله: (على كفّيه ثلاث مرات) فيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء , ولو لَم يكن عقب نوم احتياطاً. قوله: (ثمّ أدخل يمينه) فيه الاغتراف باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نيّة الاغتراف، ولا دلالة فيه نفياً ولا إثباتاً. قوله: (فمضمض) أصل المضمضة في اللّغة التّحريك , ومنه مضمض النّعاس في عينيه إذا تحرّكتا بالنّعاس , ثمّ اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه. وأمّا معناه في الوضوء الشّرعيّ , فأكمله أن يضع الماء في الفم ثمّ يديره ثمّ يمجّه , والمشهور عن الشّافعيّة , أنّه لا يُشترط تحريكه ولا

مجّه , وهو عجيبٌ , ولعلّ المراد أنّه لا يتعيّن المجّ , بل لو ابتلعه أو تركه حتّى يسيل اجزأ قوله: (واستنثر) ولمسلم " واستنشق " بدل " واستنثر "، والأوّل أعمّ، وثبتت الثّلاثة في رواية البخاري. ولَم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعددٍ. نعم: ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزّهريّ عن عطاء بن يزيد عن حمران , وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان , واتّفقت الرّوايات على تقديم المضمضة. قوله: (ثمّ غسل وجهه) فيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذكروا أنّ حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء؛ لأنّ اللون يدرك بالبصر , والطّعم يدرك بالفم , والرّيح يدرك بالأنف. فقدّمت المضمضة والاستنشاق - وهما مسنونان - قبل الوجه وهو مفروض، احتياطاً للعبادة. وتقدم ذكر حكمة الاستنثار. (¬1) قوله: (ويديه إلى المرفقين) أي: كلّ واحدة كما بيّنه البخاري في رواية معمر عن الزّهريّ، وكذا لمسلمٍ من طريق يونس , وفيها تقديم اليمنى على اليسرى , والتّعبير في كلٍّ منهما بثمّ , وكذا القول في الرّجلين أيضاً. قوله: (ثمّ غسل كلتا رجليه ثلاثاً) وللبخاري " كلّ رجل " ¬

_ (¬1) في حديث أبي هريرة المتقدّم رقم (4)

وللمستملي والحموي كل رجله , وهي تفيد تعميم كل رجل بالغسل. وفي نسخة " رجليه " بالتثنية وهي بمعنى الأولى قوله: (ثمّ مسح برأسه) هو بحذف الباء في الرّوايتين المذكورتين، وليس في شيء من طرقه في الصّحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء. وقال الشّافعيّ: يستحبّ التّثليث في المسح كما في الغسل. واستدل له بظاهر رواية لمسلمٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - توضّأ ثلاثاً ثلاثاً. وأجيب: بأنّه مجمل تبيّن في الرّوايات الصّحيحة أنّ المسح لَم يتكرّر , فيحمل على الغالب , أو يختصّ بالمغسول. قال أبو داود في " السّنن ": أحاديث عثمان الصّحاح كلّها تدلّ على أنّ مسح الرّأس مرّة واحدة. وكذا قال ابن المنذر: إنّ الثّابت عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في المسح مرّة واحدة، وبأنّ المسح مبنيّ على التّخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأنّ العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء، والدّلك ليس بمشترطٍ على الصّحيح عند أكثر العلماء. وبالغ أبو عبيد فقال: لا نعلم أحداً من السّلف استحبّ تثليث مسح الرّأس إلاَّ إبراهيم التّيميّ. وفيما قال نظرٌ، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحّح أحدَهما ابنُ خزيمة

وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرّأس، والزّيادة من الثّقة مقبولة. فيُحمل قول أبي داود على إرادة استثناء الطّريقين اللذين ذكرهما، فكأنّه قال: إلاَّ هذين الطّريقين. قال ابن السّمعانيّ في " الاصطلام ": اختلاف الرّواية يحمل على التّعدّد، فيكون مسح تارة مرّة وتارة ثلاثاً، فليس في رواية " مسح مرّة " حجّة على منع التّعدّد. ويحتجّ للتّعدّد بالقياس على المغسول لأنّ الوضوء طهارة حكميّة، ولا فرق في الطّهارة الحكميّة بين الغسل والمسح. وأجيب: بما تقدّم من أنّ المسح مبنيّ على التّخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التّكرار لصارت صورته صورة المغسول. وقد اتّفق على كراهة غسل الرّأس بدل المسح وإن كان مجزئاً. وأجاب: بأنّ الخفّة تقتضي عدم الاستيعاب , وهو مشروع بالاتّفاق فليكن العدد كذلك، وجوابه واضح. ومن أقوى الأدلة على عدم العدد. الحديث المشهور الذي صحَّحه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص. في صفة الوضوء حيث قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرغ: من زاد على هذا فقد أساء وظلم. فإنّ في رواية سعيد بن منصور فيه التّصريح بأنّه " مسح رأسه مرّة واحدة " فدلَّ على أنّ الزّيادة في مسح الرّأس على المرّة غير مستحبّة. ويُحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح - إن صحّت - على

إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنّها مسحات مستقلة لجميع الرّأس. جمعاً بين هذه الأدلة. فائدة: قال البخاري: وبيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ فرض الوضوء مرة مرة، وتوضأ أيضاً مرتين وثلاثاً، ولَم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - " انتهى. أي: لَم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - أنه زاد على ثلاث , بل ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - ذم من زاد عليها , وذلك فيما رواه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً , ثم قال: من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم. إسناده جيد. لكن عدَّه مسلمٌ في جملة ما أُنكر على عمرو بن شعيب , لأنَّ ظاهره ذم النقص من الثلاث. وأجيب: بأنه أمر سيئ , والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة. وقيل: فيه حذف تقديره من نَقَصَ من واحدة. ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعاً: الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً فإن نقص من واحدة , أو زاد على ثلاث فقد أخطأ. وهو مرسلٌ رجاله ثقات. وأجيب عن الحديث أيضاً: بأن الرُّواة لَم يتفقوا على ذكر النقص فيه , بل أكثرهم مُقتصِرٌ على قوله " فمن زاد " فقط. كذا رواه ابن خزيمة في " صحيحه " وغيره.

ومن الغرائب ما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفرائيني عن بعض العلماء: أنه لا يجوز النقص من الثلاث , وكأنه تمسَّك بظاهر الحديث المذكور , وهو محجوج بالإجماع. وأما قول مالك في المدونة: لا أحب الواحدة إلاَّ من العالِم. فليس فيه إيجاب زيادة عليها. والله أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: ليس بعد الثلاث شيء. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث. وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم. وقال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث. فإن زاد لَم أكرهه , أي: لَم أحرِّمه , لأن قوله " لا أحب " يقتضي الكراهة , وهذا الأصح عند الشافعية أنه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ. وحكى الدارمي منهم عن قومٍ: أنَّ الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة , وهو قياس فاسد , ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق. قوله: (نحو وضوئي هذا) قال النّوويّ: إنّما لَم يقل " مثل " لأنّ حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. قلت: لكن ثبت التّعبير بها في رواية البخاري من طريق معاذ بن عبد الرّحمن عن حمران عن عثمان ولفظه " من توضّأ مثل هذا الوضوء " وله من رواية معمر " من توضّأ وضوئي هذا ".

ولمسلمٍ من طريق زيد بن أسلم عن حمران " توضّأ مثل وضوئي هذا ". وعلى هذا فالتّعبير بنحوٍ من تصرّف الرّواة , لأنّها تطلق على المثليّة مجازاً، لأنّ " مثل " وإن كانت تقتضي المساواة ظاهراً , لكنّها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الرّوايتان , ويكون المتروك بحيث لا يخلّ بالمقصود. والله تعالى أعلم. قوله: (ثمّ صلَّى ركعتين) فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء , وللبخاري " ثمّ أتى المسجد فركع ركعتين ثمّ جلس ". هكذا أطلق صلاة ركعتين , وقيّده مسلمٌ في روايته من طريق نافع بن جبيرٍ عن حمران بلفظ " ثمّ مشى إلى الصّلاة المكتوبة , فصلاَّها مع النّاس أو في المسجد ". وكذا وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه عن حمران عنده " فيُصلِّي صلاةً ". وفي أخرى له عنه " فيُصلِّي الصّلاة المكتوبة " وزاد " إلاَّ غفر الله له ما بينها وبين الصّلاة التي تليها " أي: التي سبقتها. وفيه تقييدٌ لِمَا أطلق في قوله في الرّواية الأخرى " غفر الله له ما تقدّم من ذنبه " وأنّ التّقدّم خاصٌّ بالزّمان الذي بين الصّلاتين. وأصرح منه في رواية أبي صخرة عن حمران عند مسلمٍ أيضاً: ما من مسلمٍ يتطهّر فيتمّ الطّهور الذي كُتب عليه فيُصلِّي هذه الصّلوات الخمس إلاَّ كانت كفّارةً لِمَا بينهنّ. وللبخاري من طريق عروة عن حمران " إلاَّ غفر له ما بينه وبين الصّلاة حتّى يُصلِّيها ". ولمسلم من طريق عمرو بن سعيد بن العاص عن عثمان بنحوه ,

وفيه تقييده بمن لَم يغشَ الكبيرة. والحاصل أنّ لِحمران عن عثمان حديثين في هذا. أحدهما: مقيّدٌ بترك حديث النّفس , وذلك في صلاة ركعتين مطلقاً غير مقيّدٍ بالمكتوبة. والآخر: في الصّلاة المكتوبة في الجماعة , أو في المسجد , من غير تقييدٍ بترك حديث النّفس. قوله: (لا يُحدِّث فيهما نفسه) المراد به ما تسترسل النّفس معه ويمكن المرء قطعه؛ لأنّ قوله " يحدّث " يقتضي تكسّباً منه، فأمّا ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذّر دفعه فذلك معفوّ عنه. ونقل القاضي عياض (¬1) عن بعضهم , أنّ المراد من لَم يحصل له حديث النّفس أصلاً ورأساً. ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في " الزّهد " بلفظ " لَم يسه فيهما ". وردّه النّوويّ , فقال: الصّواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرّة. نعم. من اتّفق أن يحصل له عدم حديث النّفس أصلاً أعلى درجة بلا ريب. ثمّ إنّ تلك الخواطر. منها: ما يتعلق بالدّنيا. والمراد دفعه مطلقاً. ¬

_ (¬1) عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل: عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته. كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم. ولي قضاء سبتة، ومولده فيها سنة 476 هـ، ثم قضاء غرناطة. وتوفي بمراكش سنة مسموماً سنة 544 هـ، قيل: سَمَّه يهودي. الأعلام للزركلي (5/ 99).

ووقع في رواية للحكيم التّرمذيّ في هذا الحديث " لا يحدّث نفسه بشيءٍ من الدّنيا ". وهي في " الزّهد " لابن المبارك أيضاً. و " المصنّف " لابن أبي شيبة. ومنها: ما يتعلق بالآخرة. فإن كان أجنبيّاً أشبه أحوال الدّنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصّلاة فلا. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بذلك الإخلاص , أو ترك العجب بأن لا يرى لنفسه مزية خشية أن يتغير فيتكبر فيهلك. قوله: (غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه) ظاهره يعمّ الكبائر والصّغائر. وبه جزم ابن المنذر؛ لكنّ العلماء خصّوه بالصّغائر. لوروده مقيّداً باستثناء الكبائر في غير هذه الرّواية. (¬1) ¬

_ (¬1) روى مسلم في الصحيح (572) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر. فعلى هذا المقيد يُحمل ما أطلق في غيره. قاله الحافظ في " الفتح ". ثم قال: فائدة: قال ابن بزيزة في " شرح الأحكام ": يتوجه على حديث أبي هريرة إشكالٌ يصعب التخلص منه، وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفِّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ انتهى. وقد أجاب عنه شيخنا الإمام البلقيني: بأن السؤال غير وارد؛ لأن مراد الله (إن تجتنبوا) أي: في جميع العمر. ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها - أي في يومها - إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث، انتهى. وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمَن لَم يفعلها لَم يعد مجتنباً للكبائر؛ لأن تركها من الكبائر فوقف التكفير على فعلها، والله أعلم. وقد فصَّل شيخنا الإمام البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة. أحدها: أن لا يصدر منه شيء البتة، فهذا يعاوض برفع الدرجات. ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تكفّر عنه جزماً. ثالثها: مثله , لكن مع الإصرار فلا تكفر إذا قلنا إن الإصرار على الصغائر كبيرة. رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر. خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر. وهذا فيه نظرٌ. يحتمل: إذا لَم يجتنب الكبائر أن لا تكفر الكبائر بل تكفر الصغائر. ويحتمل: أن لا تكفر شيئا أصلا. والثاني أرجح؛ لأن مفهوم المخالفة إذا لَم تتعين جهته لا يعمل به. فهنا لا تكفّر شيئاً إما لاختلاط الكبائر والصغائر , أو لتمحض الكبائر أو تكفر الصغائر، فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين فلا يُعمل به. ويؤيده أن مقتضى تجنب الكبائر أن هناك كبائر، ومقتضى " ما اجتنبت الكبائر " أن لا كبائر فيُصان الحديث عنه. انتهى كلامه رحمه الله.

قال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين. وعزاه عياض لأهل السنة. وهو في حقّ من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلاَّ صغائر كفّرت عنه، ومن ليس له إلاَّ كبائر خفّف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصّغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك. وفي الحديث التّعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم، والتّرتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثمّ، والتّرغيب في الإخلاص، وتحذير من لها في صلاته بالتّفكير في أمور الدّنيا من عدم

القبول، ولا سيّما إن كان في العزم على عمل معصية فإنّه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها. ووقع في رواية البخاري في آخر هذا الحديث: قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا تغترّوا. أي: فتستكثروا من الأعمال السّيّئة بناء على أنّ الصّلاة تكفّرها، فإنّ الصّلاة التي تكفّر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأنّى للعبد بالاطّلاع على ذلك. وظهر لي جوابٌ آخر , وهو أنّ المكفّر بالصّلاة هي الصّغائر , فلا تغترّوا فتعملوا الكبيرة بناءً على تكفير الذّنوب بالصّلاة فإنّه خاصٌّ بالصّغائر , أو لا تستكثروا من الصّغائر فإنّها بالإصرار تعطى حكم الكبيرة فلا يكفّرها ما يكفّر الصّغيرة , أو أنّ ذلك خاصٌّ بأهل الطّاعة فلا يناله من هو مرتبكٌ في المعصية. والله أعلم

الحديث التاسع

الحديث التاسع 9 - عن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه , قال: شهدتُ عمرو بنَ أبي حسنٍ سأَل عبدَ الله بن زيدٍ عن وضوءِ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فدعا بتورٍ من ماءٍ , فتوضّأ لهم وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأكفأ على يديه من التّور , فغسل يديه ثلاثاً , ثمّ أدخل يده في التّور , فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفاتٍ , ثمّ أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً , ثمّ أدخل يده في التّور , فغسلهما مرّتين إلى المرفقين , ثمّ أدخل يده في التّور , فمسح رأسه , فأقبل بهما وأدبر مرّةً واحدةً، ثمّ غسل رجليه. (¬1) وفي روايةٍ: بدأ بمقدّم رأسِه , حتّى ذهب بهما إلى قفاه , ثمّ ردَّهما حتّى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. وفي روايةٍ: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماءً في تورٍ من صفرٍ. قال الْمُصنِّف: التور: شبه الطست. قوله: (عن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه) أي: أبي عثمان يحيى بن عمارة أي: ابن أبي حسن. واسمه تميم بن عبد عمرو، ولجده أبي حسن صحبة، وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (183, 184 , 188 , 189 , 194 , 196) ومسلم (235) من طرق عن عمرو بن يحيى به. ورواه مسلم (236) من وجه آخر عن حبان بن واسع عن أبيه عن عبد الله بن زيد به مختصراً.

وقال أبو نعيم: فيه نظر. قوله: (شهدتُ عمرو بنَ أبي حسن سأل) اختلف رواة الموطّأ في تعيين هذا السّائل، وأمّا أكثرهم فأبهمه. وللبخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: أنَّ رجلا قال لعبد الله بن زيد - وهو جد عمرو بن يحيى - (¬1): أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. وقال معن بن عيسى في روايته عن عمرو عن أبيه يحيى: إنّه سمع أبا حسن - وهو جدّ عمرو بن يحيى - قال لعبد الله بن زيد - وكان من الصّحابة -. فذكر الحديث. وقال محمّد بن الحسن الشّيبانيّ عن مالك: حدّثنا عمرو عن أبيه يحيى , أنّه سمع جدّه أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد. وكذا ساقه سحنون في المدوّنة. وقال الشّافعيّ في " الأمّ ": عن مالك عن عمرو عن أبيه , إنّه قال لعبد الله بن زيد. ومثله رواية الإسماعيليّ عن أبي خليفة عن القعنبيّ ¬

_ (¬1) قال الشارح (1: 380): قوله هنا " وهو جد عمرو بن يحيى " فيه تجوّز؛ لأنه عم أبيه، وسماه جداً لكونه في منزلته، ووهم من زعم أن المراد بقوله " وهو " عبد الله بن زيد؛ لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا. وأما قول صاحب الكمال ومَن تَبِعه في ترجمة عمرو بن يحيى: أنه ابن بنت عبد الله بن زيد. فغلطٌ توهَّمه من هذه الرواية، وقد ذكر ابن سعد , أنَّ أم عمرو بن يحيى: هي حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير، وقال غيره: هي أم النعمان بنت أبي حية. فالله أعلم

عن مالك عن عمرو عن أبيه , قال. قلت: والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاريّ وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن , فسألوه عن صفة وضوء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وتولى السّؤال منهم له عمرو بن أبي حسن، فحيث نسب إليه السّؤال كان على الحقيقة. ويؤيّده رواية سليمان بن بلال عند البخاري قال: حدّثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمّي - يعني عمرو بن أبي حسن - يكثر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد أخبرني. فذكره. وحيث نسب السّؤال إلى أبي حسن , فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضراً. وحيث نسب السّؤال ليحيى بن عمارة , فعلى المجاز أيضاً لكونه ناقل الحديث وقد حضر السّؤال. ووقع في رواية مسلم عن محمّد بن الصّبّاح عن خالد الواسطيّ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: قيل له توضّأ لنا. فذكره مبهماً. وفي رواية الإسماعيليّ من طريق وهب بن بقيّة عن خالد المذكور بلفظ " قلنا له ". وهذا يؤيّد الجمع المتقدّم من كونهم اتّفقوا على سؤاله؛ لكنّ متولي السّؤال منهم عمرو بن أبي حسن. ويزيد ذلك وضوحاً رواية الدّراورديّ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمّه عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد. فذكر الحديث. أخرجه أبو نعيمٍ في " المستخرج "، والله أعلم.

قوله: (سأل عبد الله بن زيد) بن عاصم المازني الأنصاري. (¬1) وللبخاري " أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ " فيه ملاطفة الطالب للشيخ، وكأنَّه أراد أنُ يُريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم. وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون الشيخ نسي ذلك لبعد العهد. قوله: (فدعا بتور من ماء) التّور بمثنّاةٍ مفتوحة , قال الدّاوديّ: قدح. وقال الجوهريّ: إناء يشرب منه. وقيل: هو الطّست، وقيل: يشبه الطّست، وقيل: هو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة. وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عند البخاري في أوّل هذا الحديث " أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صفر ". ¬

_ (¬1) أبو محمد. اختلف في شهوده بدراً، وبه جزم أبو أحمد الحاكم وابن منده، وأخرجه الحاكم في " المستدرك "، وقال ابن عبد البرّ: شهد أحداً وغيرها، ولَم يشهد بدراً. وكان مسيلمة قتل حبيب بن زيد أخاه، فلما غزا الناسُ اليمامةَ شارك عبد اللَّه بن زيد وحشيَّ بنَ حرب في قتل مسيلمة. وأخرج البخاريّ عن عبد اللَّه بن زيد، قال: لَمَّا كان زمن الحرة أتاه آت، فقال له: إنَّ ابنَ حنظلة يبايع الناس على الموت، فقال: لا أبايع على هذا أحداً بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يقال: قتل يوم الحرّة سنة 63. قاله في الإصابة. قلت: يشتبه كثيراً بعبد الله بن زيد بن عبد ربّه صاحب الأذان. وقد نبَّه الشارح على هذا في حديثه الآتي في الاستسقاء. فانظره رقم (155)

والصّفر: بضمّ المهملة وإسكان الفاء وقد تكسر. صنف من حديد النّحاس. قيل: إنّه سُمِّي بذلك لكونه يشبه الذّهب، ويسمّى أيضاً الشَّبَه بفتح المعجمة والموحّدة. والتّور المذكور. يحتمل أن يكون هو الذي توضّأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء , فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها. قوله: (فأكفأ) بهمزتين، وللبخاري من رواية سليمان بن حرب عن وهيب " فكفأ " بفتح الكاف، وهما لغتان بمعنىً , يقال: كفأ الإناء , وأكفأ إذا أماله. وقال الكسائيّ: كفأت الإناء كببته , وأكفأته أملته، والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد كما صرّح به في رواية مالك بقوله " فأفرغ ". قوله: (فغسل يديه ثلاثاً) كذا في رواية وهيب وسليمان بن بلال عند البخاري. وكذا للدّراورديّ عند أبي نعيمٍ " فغسل يديه " بالتّثنية، وفي رواية مالك " فغسل يده مرتين " بإفراد يده , فيحمل الإفراد في رواية مالك على الجنس، وعند مالك " مرّتين "، وعند هؤلاء " ثلاثاً "، وكذا لخالد بن عبد الله عند مسلم. وهؤلاء حفّاظ وقد اجتمعوا , فزيادتهم مقدّمة على الحافظ الواحد، وقد ذكر مسلم من طريق بهز عن وهيب , أنّه سمع هذا الحديث

مرّتين من عمرو بن يحيى إملاء، فتأكّد ترجيح روايته، ولا يقال يُحمل على واقعتين لأنّا نقول: المخرج متّحد والأصل عدم التّعدّد. وفيه من الأحكام غسل اليد قبل إدخالها الإناء , ولو كان من غير نوم كما تقدّم مثله في حديث عثمان (¬1)، والمراد باليدين هنا الكفّان لا غير. قوله: (ثمّ مضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات) استدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كلّ غرفة، وفي رواية خالد بن عبد الله " مضمض واستنشق من كفّ واحد فعل ذلك ثلاثاً ". وهو صريح في الجمع كلّ مرّة، بخلاف رواية وهيب فإنّه تطرّقها احتمال التّوزيع بلا تسوية. كما نبّه عليه ابن دقيق العيد. ووقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاري " فمضمض واستنثر ثلاث مرّات من غرفة واحدة ". واستدل بها على الجمع بغرفةٍ واحدة. وفيه نظرٌ. لِمَا أشرنا إليه من اتّحاد المخرج فتقدّم الزّيادة. ولمسلمٍ من رواية خالد المذكورة " ثمّ أدخل يده فاستخرجها فمضمض " فاستدل بها على تقديم المضمضة على الاستنشاق , لكونه عطف بالفاء التّعقيبيّة. وفيه بحث. ¬

_ (¬1) أي حديثه الماضي رقم (8)

قوله: (ثمّ أدخل يده) بيّن في هذه الرّواية تجديد الاغتراف لكل عضو، وأنّه اغترف بإحدى يديه، وكذا هو في باقي الرّوايات، وفي مسلم وغيره. لكن وقع في رواية ابن عساكر (¬1) وأبي الوقت من طريق سليمان بن بلال " ثمّ أدخل يديه " بالتّثنية، وليس ذلك في رواية أبي ذرّ (¬2) ولا الأصيليّ (¬3) ولا في شيء من الرّوايات خارج الصّحيح , قاله النّوويّ. وأظنّ أنّ الإناء كان صغيراً , فاغترف بإحدى يديه ثمّ أضافها إلى الأخرى كما تقدّم نظيره في حديث ابن عبّاس (¬4)، وإلا فالاغتراف ¬

_ (¬1) علي بن الحسن بن هبة الله، أبو القاسم، ثقة الدين ابن عساكر بالدمشقي: المؤرخ الحافظ الرحالة. كان محدث الديار الشامية، ورفيق السَّمْعَاني (صاحب الأنساب) في رحلاته. مولده سنة 499. ووفاته 571 هـ في دمشق. الأعلام للزركلي (4/ 273). (¬2) الحافظ الإمام المجود العلامة شيخ الحرم، أبو ذر؛ عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير بن محمد، المعروف ببلده بابن السمَّاك، الأنصاري الخراساني الهروي المالكي، صاحب التصانيف، وراوي الصحيح عن الثلاثة: المستملي، والحموي، والكشميهني. قال: ولدتُ سنة خمس أو ست وخمسين وثلاث مائة. وقال الخطيب: مت بمكة سنه 434 هـ. السير للذهبي (13/ 212) (¬3) الإمام شيخ المالكية , عالم الأندلس , أبو محمد , عبد الله بن إبراهيم الأصيلي. نشأ بأصيلا من بلاد العدوة , وتفقَّه بقرطبة. كتب بمكة عن أبي زيد الفقيه " صحيح البخاري " , وتوفي في ذي الحجة سنة 392, وشيَّعه أُمم. السير للذهبي (12/ 484) (¬4) يشير إلى ما أخرجه البخاري في " صحيحه " (140) عن عطاء بن يسار عن ابن عباس، أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء، فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء، فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه .. فذكر الحديث. ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. وبوَّب عليه البخاري (باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة). قال ابن حجر في " الفتح ": مراده (أي البخاري) بهذا. التنبيه على عدم اشتراط الاغتراف باليدين جميعاً , والإشارة إلى تضعيف الحديث الذي فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل وجهه بيمينه. وجمع الحَلِيْمي بينهما: بأنَّ هذا حيث كان يتوضأ من إناء يصب منه بيساره على يمينه والآخر حيث كان يغترف , لكن سياق الحديث يأباه , لأنَّ فيه أنه بعد أن تناول الماء بإحدى يديه أضافه إلى الأخرى وغسل بهما. انتهى

باليدين جميعاً أسهل وأقرب تناولاً كما قال الشّافعيّ. قوله: (فغسل وجهَه ثلاثاً) لَم تختلف الرّوايات في ذلك، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم الرّأس بالمسح أن يستدلّ به على وجوب التّرتيب للإتيان بقوله " ثمّ " في الجميع؛ لأنّ كلاً من الحكمين مجمل في الآية بيّنته السّنّة بالفعل. قوله: (ثمَّ أدخل يدَه , فغسَلهما مرّتين) المراد غسل كلّ يد مرّتين كما في طريق مالك " ثمّ غسل يديه مرّتين مرّتين " وليس المراد توزيع المرّتين على اليدين فكان يكون لكل يد مرّة واحدة. ولَم تختلف الرّوايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرّتين، لكن في رواية مسلم من طريق حبّان بن واسع عن عبد الله بن زيد , أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - توضّأ. وفيه .. ويده اليمنى ثلاثاً ثمّ الأخرى ثلاثاً. فيُحمل على أنّه وضوء آخر , لكون مخرج الحديثين غير متّحد. قوله: (إلى المرفقين) كذا للأكثر , وللمستمليّ والحمويّ " إلى

المرفق " بالإفراد على إرادة الجنس. وقد اختلف العلماء: هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا؟. القول الأول: قال الْمُعظم: نعم. القول الثاني: خالف زفر، وحكاه بعضهم عن مالك. واحتجّ بعضهم للجمهور: بأنّ " إلى " في الآية بمعنى مع كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم). وتعقّب: بأنّه خلاف الظّاهر، وأجيب بأنّ القرينة دلت عليه وهي كون ما بعد " إلى " من جنس ما قبلها. وقال ابن القصّار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمّار " أنّه تيمّم إلى الإبط " وهو من أهل اللّغة، فلمّا جاء قوله تعالى (إلى المرافق) بقي المرفق مغسولاً مع الذّراعين بحقّ الاسم، انتهى. فعلى هذا , فإلى هنا حدّ للمتروك من غسل اليدين لا للمغسول، وفي كون ذلك ظاهراً من السّياق نظرٌ، والله أعلم. وقال الزّمخشريّ: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقاً، فأمّا دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدّليل، فقوله تعالى (ثمّ أتمّوا الصّيام إلى الليل) دليل عدم الدّخول النّهي عن الوصال، وقول القائل حفظت القرآن من أوّله إلى آخره دليل الدّخول كون الكلام مسوقاً لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى (إلى المرافق) لا دليل فيه على أحد الأمرين. قال: فأخذ العلماء بالاحتياط ووقف زفر مع المتيقّن. انتهى ويمكن أن يستدلّ لدخولهما بفعله - صلى الله عليه وسلم -. ففي الدّارقطنيّ بإسنادٍ

حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين حتّى مسّ أطراف العضدين. وفيه عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه. لكنّ إسناده ضعيف، وفي البزّار والطّبرانيّ من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء " وغسل ذراعيه حتّى جاوز المرفق ". وفي الطّحاويّ والطّبرانيّ من حديث ثعلبة بن عبّاد عن أبيه مرفوعاً " ثمّ غسل ذراعيه حتّى يسيل الماء على مرفقيه ". فهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً. قال إسحاق بن راهويه: " إلى " في الآية , يحتمل: أن تكون بمعنى الغاية , وأن تكون بمعنى مع، فبيّنت السّنّة أنّها بمعنى مع. انتهى. وقد قال الشّافعيّ في الأمّ: لا أعلم مخالفاً في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء. فعلى هذا , فزُفر محجوجٌ بالإجماع قبله , وكذا مَن قال بذلك من أهل الظّاهر بعده، ولَم يثبت ذلك عن مالك صريحاً , وإنّما حكى عنه أشهب كلاماً محتملاً. والْمِرفق. بكسر الميم وفتح الفاء , هو العظم النّاتئ في آخر الذّراع , سُمِّي بذلك لأنّه يرتفق به في الاتّكاء ونحوه. قوله: (ثمّ مسح رأسه) في رواية خالد بن عبد الله في الصحيحين " برأسه " بزيادة الباء. زاد إسحاق بن عيسى بن الطّبّاع " كلّه "، بيّنه ابن خزيمة في " صحيحه " من طريقه. ولفظه: سألت مالكاً عن

الرّجل يمسح مقدّم رأسه في وضوئه أيجزئه ذلك؟ فقال: حدّثني عمرو بن يحيى عن أبيه عبد الله بن زيد فقال: مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثمّ ردّ يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كلّه. وموضع الدّلالة من الحديث والآية - وهي قوله (وامسحوا برءوسكم) - أنّ لفظ الآية مجمل؛ لأنّه يحتمل أن يراد منها مسح الكلّ على أنّ الباء زائدة. أو مسح البعض على أنّها تبعيضيّة، فتبيّن بفعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ المراد الأوّل. ولَم يُنقل عنه أنّه مسح بعض رأسه إلاَّ في حديث المغيرة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - مسح على ناصيته وعمامته. (¬1) فإنّ ذلك دلَّ على أنّ التّعميم ليس ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (247) عن المغيرة - رضي الله عنه - , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: توضأ فمسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى الخُفّين. وللبخاري (202) عن عمرو بن أمية الضمري: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه " قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 309): اختلف السلف في معنى المسح على العمامة. فقيل: إنه كمَّل عليها بعد مسح الناصية، ورواية مسلم يدلُّ على ذلك، وإلى عدم الاقتصار على المسح عليها ذهب الجمهور. وقال الخطابي: فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل. قال: وقياسه على مسح الخف بعيد؛ لأنه يشق نزعه بخلافها. وتعّقب: بأن الذين أجازوا الاقتصار على مسح العمامة شرطوا فيه المشقة في نزعها كما في الخف، وطريقه أن تكون محنكة كعمائم العرب، وقالوا: عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين، وقالوا: الآية لا تنفي ذلك , ولا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه , لأنَّ مَن قال: قبّلت رأسَ فلانٍ يصدق ولو كان على حائل. وإلى هذا ذهب الأوزاعي والثوري في رواية عنه وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم. وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر، وقد صح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنْ يُطعِ الناسُ أبا بكر وعمر يرشدوا ". والله أعلم.

بفرضٍ، فعلى هذا فالإجمال في المسند إليه لا في الأصل. قال القرطبيّ: الباء للتّعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه. وقيل: دخلت الباء لتفيد معنىً آخر وهو أنّ الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به، فلو قال وامسحوا رءوسكم , لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنّه قال: وامسحوا برءوسكم الماء فهو على القلب، والتّقدير امسحوا رءوسكم بالماء. وقال الشّافعيّ: احتمل قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) جميع الرّأس أو بعضه، فدلَّتِ السّنّة على أنّ بعضه يجزئ. والفرق بينه وبين قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم) في التّيمّم أنّ المسح فيه بدَلٌ عن الغسل , ومسح الرّأس أصل فافترقا، ولا يرد كون مسح الخفّ بدلاً عن غسل الرّجل , لأنّ الرّخصة فيه ثبتت بالإجماع. فإن قيل: فلعلَّه اقتصر على مسح النّاصية لعذرٍ , لأنّه كان في سفر وهو مظنّة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح النّاصية. كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة بن شعبة.

قلنا: قد روي عنه مسح مقدّم الرّأس من غير مسح على العمامة ولا تعرّض لسفرٍ، وهو ما رواه الشّافعيّ من حديث عطاء , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضّأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدّم رأسه. وهو مرسل , لكنّه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولاً. أخرجه أبو داود من حديث أنس. (¬1) وفي إسناده أبو معقل لا يُعرف حاله، فقد اعتضد كلّ من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوّة من الصّورة المجموعة، وهذا مثال لِمَا ذكره الشّافعيّ من أنّ المرسل يعتضد بمرسلٍ آخر أو مسند. وظهر بهذا جواب مَن أورد أنّ الحجّة حينئذٍ بالمسند فيقع المرسل لغواً، وقد قرّرت جواب ذلك فيما كتبته على علوم الحديث لابن الصّلاح. وفي الباب أيضاً عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدّم رأسه. أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه. وصحّ عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرّأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولَم يصحّ عن أحد من الصّحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (147) من طريق أبي معقل عن أنس قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وعليه عمامة قطرية (القطرية ضرب من البرد) فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدَّم رأسه , ولم ينقض العمامة.

وهذا كلّه ممّا يقْوَى به المرسل المتقدّم ذكره. تكميل: قال سعيد بن المسيّب: الرّجل والمرأة في المسح سواء. أخرجه ابن أبي شيبة. ونقل عن أحمد , أنّه قال: يكفي المرأة مسح مقدّم رأسها. والله أعلم قوله: (بدأ بمقدّم رأسه) الظّاهر أنّه من الحديث وليس مدرجاً من كلام مالك، ففيه حجّة على مَن قال: السّنّة أن يبدأ بمؤخّر الرّأس إلى أن ينتهي إلى مقدّمه لظاهر قوله " أقبل وأدبر ". ويرِدُ عليه أنّ الواو لا تقتضي التّرتيب، وللبخاري ومسلم من رواية سليمان بن بلال " فأدبر بيديه وأقبل " فلم يكن في ظاهره حجّة , لأنّ الإقبال والإدبار من الأمور الإضافيّة، ولَم يعيّن ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه. ومخرج الطّريقين متّحد، فهما بمعنىً واحد , وعيّنتْ روايةُ مالك البداءةَ بالمقدّم فيحمل قوله " أقبل " على أنّه من تسمية الفعل بابتدائه، أي: بدأ بقبل الرّأس، وقيل في توجيهه غير ذلك. والحكمة في هذا الإقبال والإدبار. استيعاب جهتي الرّأس بالمسح، فعلى هذا يختصّ ذلك بمن له شعر، والمشهور عمّن أوجب التّعميم أنّ الأولى واجبة والثّانية سنّة، ومن هنا يتبيّن ضعف الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التّعميم، والله أعلم قوله: (ثمّ غسل رجليه) زاد في رواية وهيب " إلى الكعبين " والبحث فيه كالبحث في قوله إلى المرفقين.

والمشهور. أنّ الكعب هو العظم النّاشز عند ملتقى السّاق والقدم. وحكى محمّد بن الحسن عن أبي حنيفة , أنّه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشّراك، وروي عن ابن القاسم عن مالك مثله. والأوّل هو الصّحيح الذي يعرفه أهل اللّغة، وقد أكثر المتقدّمون من الرّدّ على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النّعمان بن بشير الصّحيح في صفة الصّفّ في الصّلاة " فرأيت الرّجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه " (¬1) وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه. وقيل: إنّ محمّداً إنّما رأى ذلك في حديث قطع المحرم الخُفّين إلى الكعبين إذا لَم يجد النّعلين. (¬2) وفي هذا الحديث من الفوائد. الإفراغ على اليدين معاً في ابتداء الوضوء، وأنّ الوضوء الواحد يكون بعضه بمرّةٍ وبعضه بمرّتين وبعضه بثلاثٍ. وفيه مجيء الإمام إلى بيت بعض رعيّته وابتداؤهم إيّاه بما يظنّون أنّ له به حاجة، وجواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، والتّعليم بالفعل، وأنّ الاغتراف من الماء القليل للتّطهّر لا يصيّر الماء ¬

_ (¬1) ذكره البخاري معلقاً في " باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف " قال ابن حجر في " الفتح ": وصله ابن خزيمة في " صحيحه " وأبو داود والدارقطني في حديثٍ أصله عند مسلم " وستأتي رواية مسلم للحديث برقم (76) (¬2) انظر حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الآتي في الحج برقم (220) فقد حكى الشارح أن الناقل عن محمد بن الحسن وهِم فيه

مستعملاً لقوله في رواية وهيب وغيره " ثمّ أدخل يده فغسل وجهه ... إلخ ". وأمّا اشتراط نيّة الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. واستدل به أبو عوانة في " صحيحه ". على جواز التّطهّر بالماء المستعمل، وتوجيهه أنّ النّيّة لَم تذكر فيه، وقد أدخل يده للاغتراف بعد غسل الوجه وهو وقت غسلها. وقال الغزاليّ: مجرّد الاغتراف لا يصيّر الماء مستعملاً , لأنّ الاستعمال إنّما يقع من المغترف منه، وبهذا قطع البغويّ. واستدل به البخاري على استيعاب مسح الرّأس، وقد قدّمنا أنّه يدلّ لذلك ندباً لا فرضاً، وعلى أنّه لا يندب تكريره كما تقدم. وعلى الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة كما تقدّم أيضاً، وعلى جواز التّطهّر من آنية النّحاس وغيره. تكميل: روى البخاري من حديث ابن عباس , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة. وهو بيان بالفعل لمجمل الآية. إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد. فبين الشارع أنَّ المرة الواحدة للإيجاب وما زاد عليها للاستحباب. وأمَّا حديث أُبي بن كعب , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بماء فتوضأ مرة مرة , وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاَّ به. ففيه بيان الفعل والقول معاً. لكنه حديث ضعيف. أخرجه ابن ماجه. وله طرق أخرى كلها ضعيفة.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 10 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه التّيمّن في تنعّله , وترجّله , وطهوره , وفي شأنِه كلِّه. (¬1) قوله: (كان يعجبه التّيمّن) وفي رواية لهما " يحب التيمّن " والتّيمّن لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشّيء باليمين والتّبرّك وقصد اليمين , قيل: لأنّه كان يحبّ الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنّة. زاد البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة عن أشعث عن أبيه " ما استطاع " فنبّه على المحافظة على ذلك ما لَم يمنع مانع. قوله: (في تنعّله) أي: لبس نعله. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ليكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع. قال الْحَلِيمِي: وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أنَّ اللبسَ كرامةٌ لأنه وقاية للبدن. فلمَّا كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدىء بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر. قال ابن عبد البر: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة , ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (166, 416 , 5065 ,5516 , 5582) ومسلم (268) من طريق أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة به.

ولكن لا يحرم عليه لبس نعله. وقال غيره: ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى , ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معاً فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله , ونقل عياض وغيره الإجماع على أنَّ الأمر فيه للاستحباب والله أعلم قوله: (وترجّله) أي: ترجيل شعره. وهو تسريحه ودهنه. قال في المشارق: رجّل شعره إذا مشّطه بماءٍ أو دهن لِيَلِين ويرسل الثّائر ويمدّ المنقبض، زاد أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة " وسواكه ". والتّيمّن في التّرجّل أن يبدأ بالجانب الأيمن وأن يفعله باليمنى. قال ابن بطّال: التّرجيل تسريح شعر الرّأس واللحية ودهنه، وهو من النّظافة وقد ندب الشّرع إليها، وقال الله تعالى: (خذوا زينتكم عند كلّ مسجد) , وأمّا حديث " النّهي عن التّرجّل إلاَّ غبّاً " (¬1) فالمراد به ترك المبالغة في التّرفّه , وقد روى أبو أمامة بن ثعلبة رفعه: البذاذة من الإيمان. انتهى ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (16793) وأبو داود (4159) والترمذي (1756) والنسائي (8/ 132) وابن حبان (5484) من حديث الحسن عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -. فذكره. قال الترمذي: حديث حسنٌ صحيحٌ. ورواه بعضهم عن الحسن مرسلاً. عند النسائي وغيره. وله شاهد كما سيذكر الشارح.

وهو حديث صحيح. أخرجه أبو داود. والبذاذة - بموحّدةٍ ومعجمتين - رثاثة الهيئة، والمراد بها هنا ترك التّرفّه والتّنطّع في اللباس والتّواضع فيه مع القدرة لا بسبب جحد نعمة الله تعالى. وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن حميد بن عبد الرحمن , لقيتُ رجلاً صحبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما صحبه أبو هريرة أربع سنين , قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمشط أحدنا كل يوم. ولأصحاب السنن وصحَّحه ابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن الترجُّل إلاَّ غباً. وفي الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً ثائر الرأس واللحية. فأشار إليه بإصلاح رأسه ولحيته. وهو مرسلٌ صحيحُ السند , وله شاهد من حديث جابر. أخرجه أبو داود والنسائي بسند حسن وأخرج النّسائيّ من طريق عبد الله بن بريدة , أنّ رجلاً من الصّحابة يقال له عبيد , قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن كثير من الإرفاه , قال ابن بريدة: الإرفاه التّرجّل. (¬1) قلت: الإرفاه - بكسر الهمزة وبفاءٍ وآخره هاء - التّنعّم والرّاحة، ومنه الرّفه بفتحتين , وقيّده في الحديث بالكثير إشارة إلى أنّ الوسط ¬

_ (¬1) سنن النسائي (8/ 132) , وفي رواية له " الترجّل كل يوم ".

المعتدل منه لا يذمّ، وبذلك يُجمع بين الأخبار. وقد أخرج أبو داود بسندٍ حسن عن أبي هريرة رفعه: من كان له شعرٌ فليكرمه. وله شاهد من حديث عائشة في " الغيلانيّات " وسنده حسن أيضاً قوله: (وفي شأنه كلّه) كذا في رواية أبي الوقت (¬1) بإثبات الواو. وهي التي اعتمدها صاحب العمدة، وأكثر الرّواة بغير واو. قال الشّيخ تقيّ الدّين (¬2): هو عامّ مخصوص؛ لأنّ دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار، انتهى. وتأكيد " الشّأن " بقوله " كلّه " يدلّ على التّعميم؛ لأنّ التّأكيد يرفع المجاز فيمكن أن يقال: حقيقة الشّأن ما كان فعلاً مقصوداً، وما يستحبّ فيه التّياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إمّا تروك وإمّا غير مقصودة، وهذا كلّه على تقدير إثبات الواو. وأمّا على إسقاطها فقوله " في شأنه كلّه " متعلق بيعجبه لا بالتّيمّن. أي: يعجبه في شأنه كلّه التّيمّن في تنعّله إلخ، أي: لا يترك ذلك سفراً ¬

_ (¬1) الشيخ الإمام الزاهد الخيِّر الصوفي شيخ الإسلام، مسند الآفاق، أبو الوقت عبد الأول ابن الشيخ المحدث المعمر أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السجزي، ثم الهروي الماليني. مولده في سنة 458. وسمع في سنة 465 من جمال الإسلام أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوودي (الصحيح)، و (كتاب الدارمي) و (منتخب مسند عبد بن حميد) ببوشنج. توفي سنة 553 هـ. السير للذهبي (20/ 303). (¬2) أي: ابن دقيق العيد.

ولا حضراً ولا في فراغه ولا شغله ونحو ذلك. وقال الطّيبيّ قوله " في شأنه " بدل من قوله " في تنعّله " بإعادة العامل. قال: وكأنّه ذكر التّنعّل لتعلّقه بالرّجل، والتّرجّل لتعلّقه بالرّأس، والطّهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنّه نبّه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكلّ من الكلّ. قلت: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله " في شأنه كلّه " على قوله " في تنعّله إلخ " وعليها شرح الطّيبيّ. وجميع ما قدّمناه مبنيّ على ظاهر السّياق الوارد هنا، لكن بيّن البخاري من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة , أنّ أشعث شيخه كان يحدّث به تارة مقتصراً على قوله " في شأنه كلّه " وتارة على قوله " في تنعّله إلخ ". وزاد الإسماعيليّ من طريق غندر عن شعبة , أنّ عائشة أيضاً كانت تجمله تارة وتبيّنه أخرى، فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التّنعّل وغيره، ويؤيّده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص وابن ماجه من طريق عمرو بن عبيد كلاهما عن أشعث بدون قوله " في شأنه كلّه "، وكأنّ الرّواية المقتصرة على " في شأنه كلّه " من الرّواية بالمعنى. ووقع في رواية لمسلمٍ " في طهوره ونعله " بفتح النّون وإسكان العين أي: هيئة تنعّله، وفي رواية ابن ماهان في مسلم " ونعله " بفتح العين.

وفي الحديث استحباب البداءة بشقّ الرّأس الأيمن في التّرجّل والغسل والحلق، ولا يقال: هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة والتّزيين، وقد ثبت الابتداء بالشّقّ الأيمن في الحلق. (¬1) وفيه البداءة بالرّجل اليمنى في التّنعّل وفي إزالتها باليسرى , وفيه البداءة باليد اليمنى في الوضوء وكذا الرّجل، وبالشّقّ الأيمن في الغسل. واستدل به. على استحباب الصّلاة عن يمين الإمام. وفي ميمنة المسجد. وفي الأكل والشّرب باليمين، وقد أورده البخاري في هذه المواضع كلّها. قال النّوويّ: قاعدة الشّرع المستمرّة استحباب البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التّكريم والتّزيين، وما كان بضدّهما استحبّ فيه التّياسر. قال: وأجمع العلماء على أنّ تقديم اليمين في الوضوء سنّة من خالفها فاته الفضل وتمّ وضوءه. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (169) ومسلم (1305) عن أنس قال: لَمَّا رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: احلق فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال: اقسمه بين الناس. واللفظ لمسلم. واختصره البخاري. قال النووي: فيه استحباب البداءة بالشق الأيمن من رأس المحلوق. وهو قول الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. نقله عنه الشارح في الفتح.

ومراده بالعلماء أهل السّنّة، وإلاَّ فمذهب الشّيعة الوجوب، وغلط المرتضى منهم فنسبه للشّافعيّ، وكأنّه ظنّ أنّ ذلك لازم من قوله بوجوب التّرتيب؛ لكنّه لَم يقل بذلك في اليدين ولا في الرّجلين لأنّهما بمنزلة العضو الواحد؛ ولأنّهما جمعا في لفظ القرآن. لكن يُشكل على أصحابه حكمهم على الماء بالاستعمال إذا انتقل من يد إلى يد أخرى، مع قولهم بأنّ الماء ما دام متردّداً على العضو لا يسمّى مستعملاً، وفي استدلالهم على وجوب التّرتيب بأنّه لَم ينقل أحدٌ في صفة وضوء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه توضّأ مُنكّساً، وكذلك لَم يَنقُل أحدٌ أنّه قدّم اليسرى على اليمنى. ووقع في البيان للعمرانيّ والتّجريد للبندنيجيّ نسبة القول بالوجوب إلى الفقهاء السّبعة، وهو تصحيف من الشّيعة. وفي كلام الرّافعيّ ما يُوهم أنّ أحمد قال بوجوبه، ولا يُعرف ذلك عنه، بل قال الشّيخ الموفّق في المغني: لا نعلم في عدم الوجوب خلافاً. (¬1) ¬

_ (¬1) كلام ابن قدامة رحمه الله في تقديم الشمال على اليمين في العضو الواحد. أمّا الترتيب بين الأعضاء عموماً فقد ذكر الخلاف في المسألة. قال في المغني (1/ 100) عند شرحه لكلام الخرقي: ويأتي بالطهارة عضواً بعد عضوٍ، كما أمر الله تعالى. قال: وجملة ذلك , أنَّ الترتيب في الوضوء على ما في الآية واجب عند أحمد , لَم أر عنه فيه اختلافاً، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد , وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد: أنه غير واجب. وهذا مذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي ... ألخ

تكميل: قال البخاري: باب التيمن في دخول المسجد وغيره. وكان ابن عمر: يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى. ثم أورد حديث الباب. قوله: (باب التيمن) أي: البداءة باليمين. (في دخول المسجد وغيره) بالخفض عطفاً على الدخول. ويجوز أن يُعطف على المسجد. لكن الأول أفيد. وقوله (وكان ابن عمر) أي: في دخول المسجد. ولَم أره موصولاً عنه. لكن في " المستدرك " للحاكم من طريق معاوية بن قرة عن أنس , أنه كان يقول: من السنة إذا دخلتَ المسجد أنْ تبدأ برجلك اليمنى , وإذا خرجتَ أنْ تبدأ برجلك اليسرى. والصحيح أنَّ قول الصحابي: من السنة كذا. محمولٌ على الرفع , لكن لَمَّا لَم يكن حديث أنس على شرط البخاري أشار إليه بأثر ابن عمر. وعموم حديث عائشة يدلُّ على البداءة باليمين في الخروج من المسجد أيضاً. ويحتمل: أن يقال في قولها " ما استطاع " احترازٌ عما لا يستطاع فيه التيمن شرعاً كدخول الخلاء والخروج من المسجد , وكذا تعاطي الأشياء المستقذرة باليمين كالاستنجاء والتمخط. وعلِمَتْ عائشة رضي الله عنها حبَّه - صلى الله عليه وسلم - لِمَا ذكرتْ. إما بإخباره لَها بذلك. وإما بالقرائن.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 11 - عن نعيمٍ الْمُجمِر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه قال: إنّ أمّتي يُدعون يوم القيامة غُرّاً مُحجّلين من آثارِ الوضوء , فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرّته فليفعل. (¬1) وفي لفظٍ لمسلمٍ: رأيت أبا هريرة يتوضّأ , فغسل وجهه ويديه حتّى كاد يبلغ المنكبين , ثمّ غسل رجليه حتّى رفع إلى السّاقين , ثمّ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنّ أمّتي يدعون يوم القيامة غُرّاً مُحجّلين من آثار الوضوء , فمن استطاع منكم أن يطيل غُرّته وتَحجيله فليفعل. الحديث الثاني عشر 12 - وفي لفظٍ لمسلمٍ: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحليةُ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء. (¬2) قوله: (عن نعيمٍ المجمر) بضمّ الميم وإسكان الجيم هو ابن عبد الله المدنيّ، وُصف هو وأبوه بذلك لكونهما كانا يبخِّران مسجد النّبيّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (136) ومسلم (246) من طريق سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر به. (¬2) أخرجه مسلم (260) عن أبي حازم، قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه , فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فرُّوخ أنتم هاهنا؟ لو علمتُ أنكم هاهنا ما توضأتُ هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول. فذكره. وللبخاري (5069) عن أبي زرعة عن أبي هريرة نحوه كما سيأتي.

- صلى الله عليه وسلم - , وزعم بعض العلماء أنّ وصف عبد الله بذلك حقيقة , ووصفَ ابنِه نعيم بذلك مجاز. وفيه نظر. فقد جزم إبراهيم الحربيّ , بأنّ نعيماً كان يباشر ذلك. قوله: (أمّتي) أي: أمّة الإجابة وهم المسلمون، وقد تطلق أمّة محمّد ويراد بها أمّة الدّعوة , وليست مرادة هنا قوله: (يُدعون) بضمّ أوّله. أي: ينادون أو يسمّون. قوله: (غرّاً) بضمّ المعجمة وتشديد الرّاء. جمع أغرّ. أي: ذو غرّة، وأصل الغرّة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثمّ استعملت في الجمال والشّهرة وطيب الذّكر، والمراد بها هنا النّور الكائن في وجوه أمّة محمّد - صلى الله عليه وسلم -. وغرّاً منصوب على المفعوليّة ليُدعون أو على الحال، أي: أنّهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف , وكانوا على هذه الصّفة. قوله: (مُحجّلين) بالمهملة والجيم من التّحجيل. وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الْحِجل - بكسر المهملة - وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضاً النّور. واستدل الْحَلِيمِيُّ بهذا الحديث على أنّ الوضوء من خصائص هذه الأمّة. وفيه نظرٌ. لأنّه ثبت عند البخاري في قصّة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر , أنّ سارة لَمّا همّ الملك بالدّنوّ منها قامت

تتوضّأ وتصلي، وفي قصّة جريجٍ الرّاهب أيضاً , أنّه قام فتوضّأ وصلَّى , ثمّ كلَّم الغلام. فالظّاهر أنّ الذي اختصّت به هذه الأمّة هو الغرّة والتّحجيل لا أصل الوضوء، وقد صرّح بذلك في رواية لمسلمٍ عن أبي هريرة أيضاً مرفوعاً قال: سِيما ليست لأحدٍ غيركم. وله من حديث حذيفة نحوه. و" سيما " بكسر المهملة وإسكان الياء الأخيرة. أي: علامة. وقد اعترض بعضهم على الحليميّ بحديث " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي " (¬1). وهو حديث ضعيف لا يصحّ الاحتجاج به لضعفه؛ ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلاَّ هذه الأمّة. قوله: (من آثار الوضوء) بضمّ الواو، ويجوز فتحها على أنّه الماء , قاله ابن دقيق العيد. قوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته وتَحجيله فليفعل) أي: فليطل الغرّة والتّحجيل. وفي رواية لهما " غرّته فليفعل " واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى. نحو قوله تعالى (سرابيل تقيكم الحرّ). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (5735) وابن ماجه (419) والدارقطني (1/ 81) والبيهقي في " الكبرى " (10/ 80) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً " من توضأ واحدة فتلك وظيفة الوضوء التي لا بدَّ منها , ومن توضأ اثنتين فله كفلان، ومن توضأ ثلاثاً فذلك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي " لفظ أحمد. والحديث مضطرب سنداً ومتناً. انظر البدر المنير (2/ 135) والتلخيص الحبير (1/ 266)

واقتصر على ذكر الغرّة وهي مؤنّثة دون التّحجيل وهو مذكّر , لأنّ محلّ الغرّة أشرف أعضاء الوضوء، وأوّل ما يقع عليه النّظر من الإنسان. على أنّ في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزيّة ذكر الأمرين، ولفظه " فليطل غرّته وتحجيله ". وقال ابن بطّال: كنّى أبو هريرة بالغرّة عن التّحجيل , لأنّ الوجه لا سبيل إلى الزّيادة في غسله. وفيما قال نظرٌ. لأنّه يستلزم قلب اللّغة، وما نفاه ممنوع لأنّ الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلاً. ونقل الرّافعيّ عن بعضهم , أنّ الغرّة تطلق على كلّ من الغرّة والتّحجيل. ثمّ إنّ ظاهره أنّه بقيّة الحديث، لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيمٍ. وفي آخره: قال نعيم: لا أدري قوله من استطاع .. إلخ. من قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أو من قول أبي هريرة. ولَم أر هذه الجملة في رواية أحدٍ ممّن روى هذا الحديث من الصّحابة - وهم عشرة - ولا ممّن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيمٍ هذه (¬1). والله أعلم ¬

_ (¬1) أخرج الإمام أحمد (8741) وأبو يعلى في " مسنده " (6410) وابن الأعرابي في " معجمه " (467) من طريق ليث بن أبي سليم عن كعب (زاد ابن الأعرابي: أبي سعية) عن أبي هريرة. وليث ضعيف. وكعب مجهول. وقيل: عن ليث عن طاوس عن أبي هريرة. أخرجه الطبراني في " الأوسط " (1975). ولابن شاهين في " فضائل الأعمال " (26) من طريق ياسين بن معاذ الزيات عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مثله. وياسين منكر الحديث. كما قال البخاري وغيره. وله طريق أخرى عند أبي نعيم في " الحلية " (7/ 206). وسنده منكر.

واختلف العلماء في القدر المستحبّ من التّطويل في التّحجيل. القول الأول: إلى المنكب والرّكبة، وقد ثبت عن أبي هريرة روايةً ورأياً. وعن ابن عمر من فعله. أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد بإسنادٍ حسن. القول الثاني: المستحبّ الزّيادة إلى نصف العضد والسّاق. القول الثالث: إلى فوق ذلك. القول الرابع: قال ابن بطّال وطائفة من المالكيّة: لا تستحبّ الزّيادة على الكعب والمرفق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من زاد على هذا , فقد أساء وظلم. وكلامهم مُعتَرض من وجوه، ورواية مسلم صريحة في الاستحباب , فلا تُعارَض بالاحتمال. وأمّا دعواهم اتّفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك , فهي مردودة بما نقلناه عن ابن عمر، وقد صرّح باستحبابه جماعة من السّلف وأكثر الشّافعيّة والحنفيّة. وأمّا تأويلهم الإطالة المطلوبة بالمداومة على الوضوء , فمُعتَرض بأنّ الرّاوي أدرى بمعنى ما روى، كيف وقد صرّح برفعه إلى الشّارع

- صلى الله عليه وسلم -.؟! وفي الحديث معنى ما ترجم له البخاري من فضل الوضوء؛ لأنّ الفضل الحاصل بالغرّة والتّحجيل من آثار الزّيادة على الواجب، فكيف الظّنّ بالواجب؟ وقد وردت فيه أحاديث صحيحة صريحة. أخرجها مسلم وغيره. وفيه جواز الوضوء على ظهر المسجد , لكن إذا لَم يحصل منه أذىً للمسجد أو لمن فيه. والله أعلم قوله: (رأيت أبا هريرة يتوضّأ) وزاد الإسماعيليّ فيه " فغسل وجهه ويديه فرفع في عضديه، وغسل رجليه فرفع في ساقيه " , وكذا لمسلمٍ من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم نحوه. ومن طريق عمارة بن غزيّة عن نعيمٍ. وزاد في هذه: أنّ أبا هريرة قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضّأ. فأفاد رفعه، وفيه ردّ على من زعم أنّ ذلك من رأي أبي هريرة , بل من روايته ورأيه معاً. قوله: (تبلغ الحليةُ) وللبخاري عن أبي زرعة، قال: دخلتُ مع أبي هريرة داراً بالمدينة. وفيه " ثم دعا بتور من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة، أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: منتهى الحلية. قوله (فغسل يديه حتى بلغ إبطه) في هذه الرواية اختصارٌ. وبيانه في رواية جرير بلفظ " فتوضأ أبو هريرة فغسل يده حتى بلغ إبطه

وغسل رجليه حتى بلغ ركبتيه " أخرجها الإسماعيلي. وقوله (منتهى الحلية) في رواية جرير " إنه منتهى الحلية " كأنه يشير إلى الحديث المتقدم في فضل الغرة والتحجيل في الوضوء. ويؤيده حديثه الآخر " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء "

باب دخول الخلاء والاستطابة

باب دخول الخلاء والاستطابة الحديث الثالث عشر 13 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاءَ , قال: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الْخُبث والْخَبائث. (¬1) قوله: (عن أنس بن مالك) أبو حمزة أخرج الشخان عن أنس " قالت أمي يا رسول الله خادمك ادع الله له، قال: اللهم أكثر ماله وولده " الحديث. وللبخاري في " الأدب المفرد " من وجه آخر عن أنس قال " قالت أم سليم - وهي أم أنس - خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له ". فأما كثرة ولد أنس وماله. فوقع عند مسلم في آخر هذا الحديث. قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير، وإنَّ ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم ". وأخرج البخاري عن أنس قال: أخبرتني ابنتي أمينة أنه دفن من صلبي إلى يوم مقدم الحجاج البصرة مائة وعشرون. وقال النووي في ترجمته: كان أكثر الصحابة أولاداً. وقد قال ابن قتيبة في " المعارف ": كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (142 , 5963) من طرق عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس به. وفي رواية لمسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز " إذا دخل الكنيف "

رأى كلُّ واحد منهم من ولده مائةَ ذكر لصلبه: أبو بكرة وأنس وخليفة بن بدر، وزاد غيره رابعاً. وهو المهلب بن أبي صفرة. وأخرج الترمذي عن أبي العالية في ذكر أنس: وكان له بستان يأتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحانٌ يجيء منه ريح المسك، ورجاله ثقات. وأما طول عمر أنس فقد ثبت في الصحيح , أنه كان في الهجرة ابن تسع سنين , وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل. وقيل: سنة ثلاث. وله مائة وثلاث سنين. قاله خليفة. وهو المعتمد. وأكثر ما قيل في سنِّه أنه بلغ مائة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه تسعاً وتسعين سنة. قوله: (كان إذا دخل الخلاء) أي: عند إرادة الدّخول في الخلاء إن كان معدّاً لذلك , وإلاَّ فلا تقدير. وللبخاري معلَّقاً , وقال سعيد بن زيد: حدّثنا عبد العزيز " إذا أراد أن يدخل " وروايته هذه وصلها البخاري في الأدب المفرد , قال: حدّثنا أبو النّعمان حدّثنا سعيد بن زيد حدّثنا عبد العزيز بن صهيب قال: حدّثني أنس قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء قال .. فذكر مثل حديث الباب. وأفادت هذه الرّواية تبيين المراد من قوله: " إذا دخل الخلاء " أي: كان يقول هذا الذّكر عند إرادة الدّخول لا بعده. والله أعلم. وهذا في الأمكنة المعدّة لذلك بقرينة الدّخول، ولهذا قال ابن بطّال.

رواية " إذا أتى " (¬1) أعمّ لشمولها. انتهى. والخلاء. هو بالمد، وحقيقته المكان الخالي، واستُعمل في المكان الْمُعَدُّ لقضاء الحاجة مجازاً. والكلام هنا في مقامين: أحدهما: هل يختصّ هذا الذّكر بالأمكنة المعدّة لذلك لكونها تحضرها الشّياطين , كما ورد في حديث زيد بن أرقم في " السّنن " (¬2). أو يشمل حتّى لو بال في إناء مثلاً في جانب البيت؟. الأصحّ الثّاني , ما لَم يشرع في قضاء الحاجة. الثّاني: متى يقول ذلك؟ فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يفصّل: أمّا في الأمكنة المعدّة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأمّا في غيرها فيقوله ¬

_ (¬1) رواية " أتى الخلاء " ذكرها البخاري معلّقة. فأخرج حديث الباب من طريق آدم عن شعبة عن عبد العزيز. ثم قال: وقال غندر عن شعبة " إذا أتى الخلاء " قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 321): هذا التعليق. وصله البزار في " مسنده " عن محمد بن بشار بندار عن غندر بلفظه , ورواه أحمد بن حنبل عن غندر بلفظ " إذا دخل " (¬2) سنن أبي داود (6) وابن ماجه (296) والنسائي في " الكبرى " (6/ 23) والإمام أحمد في " المسند " (19332) بلفظ " إن هذه الحشوش مُحتضَرة , فإذا أتى أحدكم الخلاء , فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث ". وصحَّحه ابن خزيمة (69) وابن حبّان (1406). ورواه للطبراني في " الأوسط " (2803) بلفظ " فليقل: بسم الله. اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث , ومن الشيطان الرجيم ". وسنده ضعيف. وهاتان الزيادتان منكرتان.

في أوّل الشّروع كتشمير ثيابه مثلاً. وهذا مذهب الجمهور، وقالوا فيمن نسي: يستعيذ بقلبه لا بلسانه. ومن يجيز مطلقاً كما نقل عن مالك. لا يحتاج إلى تفصيل. تنبيه: سعيد بن زيد - أخو حماد بن زيد - الذي أتى بالرّواية المبيّنة صدوق تكلم بعضهم في حفظه، وليس له في البخاريّ غير هذا الموضع المعلق، لكن لَم ينفرد بهذا اللفظ، فقد رواه مسدّد عن عبد الوارث عن عبد العزيز مثله، وأخرجه البيهقيّ من طريقه وهو على شرط البخاريّ. قوله: (الْخُبث) بضمّ المعجمة والموحّدة كذا في الرّواية. وقال الخطّابيّ: إنّه لا يجوز غيره. وتعقّب: بأنّه يجوز إسكان الموحّدة كما في نظائره ممّا جاء على هذا الوجه ككتبٍ وكتب. قال النّوويّ: وقد صرّح جماعة من أهل المعرفة , بأنّ الباء هنا ساكنة منهم أبو عبيدة، إلاَّ أن يقال: إنّ ترك التّخفيف أولى لئلا يشتبه بالمصدر، والخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشّياطين وإناثهم , قاله الخطّابيّ وابن حبّان وغيرهما. ووقع في نسخة ابن عساكر: قال أبو عبد الله - يعني البخاريّ -: ويقال الخبث. أي: بإسكان الموحّدة، فإن كانت مخفّفة عن الحركة فقد تقدّم توجيهه، وإن كان بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن الأعرابيّ: المكروه، قال: فإن كان من الكلام فهو الشّتم، وإن كان من الملل

فهو الكفر، وإن كان من الطّعام فهو الحرام، وإن كان من الشّراب فهو الضّارّ. وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التّناسب؛ ولهذا وقع في رواية التّرمذيّ وغيره " أعوذ بالله من الخبث والخبيث , أو الخبث والخبائث " هكذا على الشّكّ، الأوّل بالإسكان مع الإفراد، والثّاني بالتّحريك مع الجمع، أي: من الشّيء المكروه ومن الشّيء المذموم، أو من ذكران الشّياطين وإناثهم. وكان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهاراً للعبوديّة، ويجهر بها للتّعليم. وقد روى العمريّ هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: إذا دخلتم الخلاء. فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث. وإسناده على شرط مسلم. وفيه زيادة التّسمية , ولَم أرها في غير هذه الرّواية.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 14 - عن أبي أيّوب الأنصاريّ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيتم الغائط , فلا تستقبلوا القبلةَ بغائطٍ ولا بولٍ , ولا تستدْبِروها , ولكن شرّقوا أو غرّبوا. قال أبو أيّوب: فقدمنا الشّام , فوجدنا مراحيض قد بُنِيتْ نحو الكعبة , فننحرف عنها , ونستغفر الله عزّ وجل. (¬1) الحديث الخامس عشر 15 - عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - , قال: رَقِيتُ يوماً على بيت حفصة , فرأيتُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبلَ الشّام , مستدبرَ الكعبة. وفي روايةٍ: مستقبلاً بيت المقدس. (¬2) قوله: (عن أبي أيوب) (¬3) هو خالد بن زيد بن كليب من بني النجار. وبنو النجار من الخزرج بن حارثة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (144 , 386) ومسلم (264) من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب - رضي الله عنه - به. (¬2) أخرجه البخاري (145 , 147 , 148 , 2935) ومسلم (266) من طريق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن ابن عمر. (¬3) شهد العقبة وبدراً وما بعدها، ونزل عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا قدم المدينة، فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده، وآخى بينه وبين مصعب بن عمير. وشهد الفتوح، وداوم الغزو، واستخلفه عليّ على المدينة لَما خرج إلى العراق، ثم لحق به بعد، وشهد معه قتال الخوارج، قال ذلك الحكم بن عيينة. توفي في غزاة القسطنطينية سنة 50. وقيل: 51، وقيل 52 وهو أكثر. قاله في الإصابة.

ويقال: إنَّ تُبَّعاً لَمَّا غزا الحجاز واجتاز يثرب خرج إليه أربعمائة حبرٍ فأخبروه بما يجب من تعظيم البيت , وأن نبياً سيبعث يكون مسكنه يثرب فأكرمهم وعظَّم البيت بأن كساه. وهو أول من كساه , وكتب كتاباً وسلَّمه لرجل من أولئك الأحبار , وأوصاه أن يسلمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أدركه. فيقال: إنَّ أبا أيوب من ذرية ذلك الرجل. حكاه ابن هشام في التيجان , وأورده ابن عساكر في ترجمة تُبَّع. قوله: (إذا أتيتم الغائط) هُو المكان المطمئنُّ من الأرض الذي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة. قوله: (فلا تستقبلوا القبلة بغائطٍ ولا بولٍ) بوّب عليه البخاري " باب لا تستقبل القبلة بغائط ولا بول إلاَّ عند البناء جدار أو نحوه " أي: كالأحجار الكبار والسّواري والخشب وغيرها من السّواتر. قال الإسماعيليّ: ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور. وأجيب بثلاثة أجوبة: أحدها: أنّه تمسّك بحقيقة الغائط لأنّه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللّغويّة، وإن كان قد صار يطلق على كلّ مكان أعدّ لذلك مجازاً فيختصّ النّهي به، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، وهذا الجواب للإسماعيليّ. وهو أقواها. ثانيها: أنّ استقبال القبلة إنّما يتحقّق في الفضاء، وأمّا الجدار

والأبنية فإنّها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفاً. قاله ابن المنير. ويتقوّى. بأنّ الأمكنة المعدّة ليست صالحة لأنْ يُصلَّى فيها , فلا يكون فيها قبلة بحالٍ. وتعقّب: بأنّه يلزم منه أن لا تصحّ صلاة من بينه وبين الكعبة مكان لا يصلح للصّلاة، وهو باطل. ثالثها: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر الذي بعده؛ لأنّ حديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلّه كأنّه شيء واحد. قاله ابن بطّال. وارتضاه ابن التّين (¬1) وغيره، لكنّ مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التّراجم معنىً. فإن قيل , لِمَ حملتم الغائط على حقيقته , ولَم تحملوه على ما هو أعمّ من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان , لا سيّما والصّحابيّ راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما , لأنّه قال: فقدمنا الشّام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر؟. فالجواب: أنّ أبا أيّوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه وهو المعتمد، وكأنّه لَم يبلغه حديث التّخصيص، ولولا أنّ حديث ابن ¬

_ (¬1) عبد الواحد بن التين أبو محمد الصفاقسي المغربي المالكي المحدث المفسر الفقيه توفي: 611 هـ. له شرح على صحيح البخاري باسم " المخبر الفصيح في شرح البخاري الصحيح ". شجرة النور الزكية (1/ 168)، تراجم المؤلفين التونسيين (1/ 276). نقلاً عن محقِّق قوت المغتذي.

عمر دلَّ على تخصيص ذلك بالأبنية لقلنا بالتّعميم؛ لكنّ العمل بالدّليلين أولى من إلغاء أحدهما. وقد جاء عن جابر فيما رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم تأييد ذلك، ولفظه عند أحمد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا هرقنا الماء. قال: ثمّ رأيته قبل موته بعامٍ يبول مستقبل القبلة. والحقّ أنّه ليس بناسخٍ لحديث النّهي. خلافاً لمن زعمه، بل هو محمول على أنّه رآه في بناء أو نحوه؛ لأنّ ذلك هو المعهود من حاله - صلى الله عليه وسلم - لمبالغته في التّستّر. ورؤية ابن عمر له. كانت عن غير قصد كما سيأتي , فكذا رواية جابر. ودعوى خصوصيّة ذلك بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا دليل عليها. إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال. ودلَّ حديث ابن عمر الآتي على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر على جواز استقبالها، ولولا ذلك لكان حديث أبي أيّوب لا يُخصّ من عمومه بحديث ابن عمر إلاَّ جواز الاستدبار فقط، ولا يقال: يلحق به الاستقبال قياساً؛ لأنّه لا يصحّ إلحاقه به لكونه فوقه. وقد تمسّك به قومٌ , فقالوا: بجواز الاستدبار دون الاستقبال , حكي عن أبي حنيفة وأحمد.

القول الثاني: التّفريق بين البنيان والصّحراء مطلقاً. قاله الجمهور: وهو مذهب مالك والشّافعيّ وإسحاق. وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة. ويؤيّده من جهة النّظر ما تقدّم عن ابن المنير أنّ الاستقبال في البنيان مضاف إلى الجدار عرفاً، وبأنّ الأمكنة المعدّة لذلك مأوى الشّياطين فليست صالحة لكونها قبلة، بخلاف الصّحراء فيهما. القول الثالث: قال قوم بالتّحريم مطلقاً: وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشّافعيّ، ورجّحه من المالكيّة ابن العربيّ، ومن الظّاهريّة ابن حزم. وحجّتهم: أنّ النّهي مقدّم على الإباحة، ولَم يصحّح حديث جابر الذي أشرنا إليه. القول الرابع: قال قوم بالجواز مطلقاً: وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود. واعتلّوا بأنّ الأحاديث تعارضت فليرجع إلى أصل الإباحة. فهذه المذاهب الأربعة مشهورة عن العلماء، ولَم يحك النّوويّ في " شرح المهذّب " غيرها. وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى: منها: جواز الاستدبار في البنيّان فقط تمسّكاً بظاهر حديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف. ومنها: التّحريم مطلقاً حتّى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس

، وهو محكيّ عن إبراهيم وابن سيرين عملاً بحديث معقل الأسديّ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلتين ببولٍ أو بغائطٍ. رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف , لأنّ فيه راوياً مجهول الحال. وعلى تقدير صحّته فالمراد بذلك أهل المدينة ومَن على سمتها؛ لأنّ استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة , فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس. وقد ادّعى الخطّابيّ الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة. وفيه نظرٌ. لِمَا ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين، وقد قال به بعض الشّافعيّة أيضاً. حكاه ابن أبي الدّم. ومنها: أنّ التّحريم مختصّ بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأمّا من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً. لعموم قوله " شرّقوا أو غرّبوا ". قاله أبو عوانة صاحب المزنيّ. وعكَسَه البخاريّ فاستدل به على أنّه ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة. كما في كتاب الصلاة (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشّام والمشرق (¬1) ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 498): نقل عياض أنَّ رواية الأكثر ضم قاف المشرق. فيكون معطوفاً على باب , ويحتاج إلى تقدير محذوف , والذي في روايتنا بالخفض. ووجَّه السهيلي روايةَ الضم: بأنَّ الحامل على ذلك كون حكم المشرق في القبلة مخالفاً لحكم المدينة بخلاف الشام فإنه موافق. وأجاب ابن رشيد: بأنَّ المراد بيان حكم القبلة من حيث هو , سواء توافقت البلاد أم اختلفت. انتهى

وقول البخاري " ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة " هذه جملة مستأنفة من تفقّه البخاري، وقد نوزع في ذلك؛ لأنّه يحمل الأمر في قوله " شرّقوا أو غرّبوا " على عمومه، وإنّما هو مخصوص بالمخاطبين وهم أهل المدينة، ويلحق بهم من كان على مثل سمتهم ممّن إذا استقبل المشرق أو المغرب لَم يستقبل القبلة ولَم يستدبرها، أمّا من كان في المشرق فقبلته في جهة المغرب وكذلك عكسه. وهذا معقول لا يخفى مثله على البخاريّ. فيتعيّن تأويل كلامه بأن يكون مراده: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، أي: لأهل المدينة والشّام، ولعل هذا هو السّرّ في تخصيصه المدينة والشّام بالذّكر. وقال ابن بطّالٍ: لَم يذكر البخاريّ مغرب الأرض اكتفاء بذكر المشرق، إذ العلة مشتركة، ولأنّ المشرق أكثر الأرض المعمورة، ولأنّ بلاد الإسلام في جهة مغرب الشّمس قليلة. قوله: (ولا تستدبروها) وللبخاري " ولا يولها ظهره " ولمسلمٍ " ببولٍ أو بغائطٍ " والغائط الثّاني غير الأوّل، أطلق على الخارج من الدّبر مجازاً من إطلاق اسم المحلّ على الحالّ كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تامّ.

والظّاهر من قوله " ببولٍ " اختصاص النّهي بخروج الخارج من العورة , ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنّجاسة. ويؤيّده قوله في حديث جابر " إذا هرقنا الماء ". وقيل: مثار النّهي كشف العورة، وعلى هذا فيطّرد في كلّ حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلاً، وقد نقله ابن شاسٍ المالكيّ قولاً في مذهبهم. وكأنّ قائله تمسّك بروايةٍ في الموطّأ " لا تستقبلوا القبلة بفروجكم " ولكنّها محمولة على المعنى الأوّل. أي: حال قضاء الحاجة جمعاً بين الرّوايتين. والله أعلم. قوله: (عن عبد الله بن عمر) وهو أحد العبادلة وفقهاء الصحابة والمكثرين منهم , وأمه زينب , ويقال: رائطة بنت مظعون أخت عثمان وقدامة ابني مظعون للجميع صحبة. وكان مولده في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث لأنه ثبت أنه كان يوم بدر بن ثلاث عشرة سنة. وكانت بدر بعد البعثة بخمس عشرة سنة. وقد روى البخاري وفاته. وأنها كانت بسبب مَنْ دسَّه عليه الحجاج فمسَّ رجله بحربة مسمومة فمرض بها إلى أن مات أوائل سنة أربع وسبعين. قوله: (رقيت) بفتح الرّاء وكسر القاف. أي: صعدت قوله: (على بيت حفصة) أي: أخته كما صرّح به في رواية مسلم،

ولابن خزيمة " دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت " وللبخاري " على ظهرِ بيتٍ لنا " وله أيضاً " على ظهر بيتنا ". وطريق الجمع أن يقال: إضافته البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنّه البيت الذي أسكنها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه , واستمرّ في يدها إلى أن ماتت فورث عنها. وحيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال , لأنّه ورث حفصة دون إخوته , لكونها كانت شقيقته ولَم تترك من يحجبه عن الاستيعاب. قوله: (فرأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته) وفي رواية للبخاري ومسلم " على لَبِنَتَيْن " - بفتح اللام وكسر الموحّدة وفتح النّون - تثنية لبنة , وهي ما يصنع من الطّين أو غيره للبناء قبل أن يحرق , ولابن خزيمة " فأشرفت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على خلائه " وفي رواية له: فرأيته يقضي حاجته محجوباً عليه بلبنٍ. وللحكيم التّرمذيّ بسندٍ صحيح " فرأيته في كنيف " وهو بفتح الكاف وكسر النون بعدها ياء تحتانيّة ثمّ فاء. وانتفى بهذا إيراد مَن قال ممّن يرى الجواز مطلقاً: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء وكونه رآه على لبنتين لا يدلّ على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض. ويردّ هذا الاحتمال أيضاً , أنّ ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال

في الفضاء إلاَّ بساترٍ. كما رواه أبو داود والحاكم بسندٍ لا بأس به (¬1). ولَم يقصد ابن عمر الإشراف على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة , وإنّما صعد السّطح لضرورةٍ له كما في رواية البخاري " ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي ". فحانت منه التفاتة. كما في رواية للبيهقيّ من طريق نافع عن ابن عمر. نعم. لَمّا اتّفقت له رؤيته في تلك الحالة عن غير قصد , أحبّ أن لا يخلي ذلك من فائدة فحفظ هذا الحكم الشّرعيّ، وكأنّه إنّما رآه من جهة ظهره حتّى ساغ له تأمّل الكيفيّة المذكورة من غير محذور، ودلّ ذلك على شدّة حرص الصّحابيّ على تتبّع أحوال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليتّبعها، وكذا كان - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (11) ومستدرك الحاكم (1/ 256) من طريق الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 16 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّه قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاءَ , فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إداوةً من ماءٍ وعنزةً , فيستنجي بالماء. (¬1) قال المصنف: العنزة: الحربة الصغيرة. والأداوة: إناء صغير من الجلد. قوله: (يدخل الخلاء) المراد به هنا الفضاء. لقوله في الرّواية الأخرى " كان إذا خرج لحاجته " ولقرينة حمل العنزة مع الماء , فإنّ الصّلاة إليها إنّما تكون حيث لا سترة غيرها. وأيضاً فإنّ الأخلية التي في البيوت كان خدمته فيها متعلقة بأهله. وفهم بعضهم من تبويب (¬2) البخاريّ , أنّها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة. وفيه نظرٌ , لأنّ ضابط السّترة في هذا ما يستر الأسافل , والعنزة ليست كذلك. نعم يحتمل: أن يركزها أمامه ويضع عليها الثّوب السّاتر. أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (149 , 150, 151 , 214 , 478) ومسلم (170 , 271) من طرق عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس. (¬2) حيث قال (باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء)

أو تُحمل لنبش الأرض الصّلبة. أو لمنع ما يعرض من هوامّ الأرض، لكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعد عند قضاء الحاجة. أو تُحمل لأنّه كان إذا استنجى توضّأ، وإذا توضّأ صلَّى. وهذا أظهر الأوجه، وقد بوّب عليه البخاري (باب الصلاة إلى العنزة). وفيه جواز استخدام الأحرار خصوصاً إذا أرصدوا لذلك ليحصل لهم التّمرّن على التّواضع. وفيه أنّ في خدمة العالم شرفاً للمتعلم. وفيه حجّة على ابن حبيب حيث منع الاستنجاء بالماء لأنّه مطعوم , لأنّ ماء المدينة كان عذْبا. واستدل به بعضهم على استحباب التّوضّؤ من الأواني دون الأنهار والبرك، ولا يستقيم. إلاَّ لو كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وجد الأنهار والبرك فعدل عنها إلى الأواني. قوله: (أنا وغلام) زاد البخاري عقبها " منّا " أي: من الأنصار، وصرّح به الإسماعيليّ في روايته، ولمسلمٍ " نحوي " أي: مقارب لي في السّنّ. والغلام هو المترعرع , قاله أبو عبيد، وقال في المحكم: من لدن الفطام إلى سبع سنين. وحكى الزّمخشريّ في أساس البلاغة: أنّ الغلام هو الصّغير إلى حدّ الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء غلام , فهو مجاز.

وإيراد البخاري لحديث أنس مع قول أبي الدّرداء معلَّقاً: أليس فيكم صاحب النّعلين والطّهور والوساد (¬1) يعني ابن مسعود , يشعر إشعاراً قويّاً بأنّ الغلام المذكور من حديث أنس هو ابن مسعود. وقد قدّمنا أنّ لفظ الغلام يطلق على غير الصّغير مجازاً، وقد قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود بمكّة وهو يرعى الغنم: إنّك لغلام معلّم. وعلى هذا فقول أنس " وغلام منّا " أي: من الصّحابة , أو من خدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا رواية الإسماعيليّ التي فيها " من الأنصار " فلعلَّها من تصرّف الرّاوي حيث رأى في الرّواية " منّا " فحملها على القبليّة فرواها بالمعنى , فقال من الأنصار، أو إطلاق الأنصار على جميع الصّحابة سائغ , وإن كان العرف خصّه بالأوس والخزرج. وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الخلاء أتيته بماءٍ في ركوة فاستنجى. فيحتمل أن يفسّر به الغلام المذكور في حديث أنس. ويؤيّده ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة , أنّه كان يحمل مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الإداوة لوضوئه وحاجته. وأيضاً فإنّ في رواية أخرى لمسلمٍ , أنّ أنساً وصفه بالصّغر في ذلك ¬

_ (¬1) أورده في كتاب الوضوء. باب من حمل معه الماء لطهوره. وقد وصله البخاري في كتاب المناقب (3532) وفي مواضع أخرى.

الحديث، فيبعد لذلك أن يكون هو ابن مسعود. والله أعلم. ويكون المراد بقوله أصغرنا. أي: في الحال لقرب عهده بالإسلام. وعند مسلم في حديث جابر الطّويل الذي في آخر الكتاب " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - انطلق لحاجته فاتّبعه جابر بإداوةٍ " فيحتمل أن يفسّر به المبهم، لا سيّما وهو أنصاريّ. ووقع في رواية الإسماعيليّ من طريق عاصم بن عليّ عن شعبة " فأتبعه وأنا غلام " بتقديم الواو فتكون حاليّة. لكن تعقّبه الإسماعيليّ , بأنّ الصّحيح " أنا وغلام " أي: بواو العطف. قوله: (إداوة) بكسر الهمزة إناء صغير من جلد. قوله: (من ماء) أي: مملوءة من ماء. قوله: (وعنزة) العنزة بفتح النّون عصاً أقصر من الرّمح لها سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة. ووقع في رواية كريمة في آخر الحديث في " باب الصلاة إلى العنزة " العنزة. عصاً عليها زجّ بزايٍ مضمومة ثمّ جيم مشدّدة. أي: سنان. وفي " الطّبقات " لابن سعد: أنّ النّجاشيّ كان أهداها للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يؤيّد كونها كانت على صفة الحربة , لأنّها من آلات الحبشة. وعند البخاري في الصّلاة ولفظه " ومعنا عكّازة أو عصاً أو عنزة " والظّاهر أنّ " أو " شكّ من الرّاوي لتوافق الرّوايات على ذكر العنزة. والله أعلم

قوله: (فيستنجي بالماء) وللبخاري عن هشام بن عبد الملك عن شعبة " يعني يستنجي بالماء " وقائل يعني. هو هشام. وقد رواه البخاري عن سليمان بن حرب فلم يذكرها، لكنّه رواه عقِبَه من طريق محمّد بن جعفر عن شعبة فقال: يستنجي بالماء. والإسماعيليّ من طريق ابن مرزوق عن شعبة " فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". وللبخاري من طريق روح بن القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة " إذا تبرّز (¬1) لحاجته أتيته بماءٍ فيغسل به "، ولمسلمٍ من طريق خالد الحذّاء عن عطاء عن أنس " فخرج علينا وقد استنجى بالماء ". وقد بان بهذه الرّوايات أنّ حكاية الاستنجاء من قول أنس راوي الحديث، ففيه الرّدّ على الأصيليّ حيث تعقّب على البخاريّ استدلاله بهذا الحديث على الاستنجاء بالماء. قال: لأنّ قوله " يستنجي به " ليس هو من قول أنس , إنّما هو من قول أبي الوليد أي: أحد الرّواة عن شعبة، وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة فلم يذكرها، قال: فيحتمل أن يكون الماء لوضوئه. انتهى. وقد انتفى هذا الاحتمال بالرّوايات التي ذكرناها. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 423): بوزن تفعَّل من البَراز بفتح الموحدة. وهو الفضاء الواسع. كنَّوا به عن الخارج من الدبر كما في الغائط.

وكذا فيه الرّدّ على من زعم أنّ قوله " يستنجي بالماء " مُدرج من قول عطاءٍ الرّاوي عن أنس فيكون مرسلاً. فلا حجّة فيه كما حكاه ابن التّين عن أبي عبد الملك البونيّ (¬1) فإنّ رواية خالد التي ذكرناها تدلّ على أنّه قول أنس حيث قال: فخرج علينا. وفي الحديث الرّدّ على من كره الاستنجاء بالماء، وعلى من نفى وقوعه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - , أنّه سئل عن الاستنجاء بالماء , فقال: إذاً لا يزال في يدي نتن. وعن نافع , أنّ ابن عمر كان لا يستنجي بالماء. وعن ابن الزّبير قال: ما كنّا نفعله. ونقل ابن التّين عن مالك , أنّه أنكر أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء. وعن ابن حبيب من المالكيّة , أنّه منع الاستنجاء بالماء , لأنّه مطعوم. ¬

_ (¬1) مروان بن محمد الاسدي، الاندلسي، البوني، المالكي. فقيه، محدث، حافظ، من اهل قرطبة.، ورحل إلى القيروان، وطلب العلم بها، ثم استقر ببونة من بلاد إفريقية، وأخذ عن أبي الحسن القابسي وأحمد بن نصر الداوودي، وروى عنه حاتم بن محمد، وتوفي ببونة قبل سنة 440 هـ من آثاره: كتاب كبير شرح فيه الموطأ. معجم المؤلفين (12/ 220) لكحالة.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 17 - عن أبي قتادة الحارث بن رِبْعيٍّ الأنصاريّ - رضي الله عنه -: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يُمسكنّ أحدُكم ذكرَه بيمينه وهو يبول , ولا يتمسَّح من الخلاء بيمينه , ولا يتنفّس في الإناء. (¬1) قوله: (عن أبي قتادة) الحارث , وقيل: عمرو , وقيل: النّعمان الأنصاريّ، والأول أشهر. فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوّل مشاهده أُحدٌ , ومات سنة أربع وخمسين على الصّحيح فيهما. وربعي - بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة - اسمٌ بلفظ النسب. قوله: (لا يُمسكنّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) النّهي المطلق عن مسّ الذّكر باليمين كما في الرواية الأخرى " إذا أتى الخلاء فلا يمسّ ذكره بيمينه ". ولمسلم " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتنفّس في الإناء، وأن يمسّ ذكره بيمينه، وأن يستطيب بيمينه " محمولٌ على المقيّد بحالة البول , فيكون ما عداه مباحاً. وقال بعض العلماء: يكون ممنوعاً أيضاً من باب الأولى , لأنّه نهي عن ذلك مع مظنّة الحاجة في تلك الحالة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (152 , 153 , 5307) ومسلم (267) من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه به.

وتعقّبه أبو محمّد بن أبي جمرة: بأنّ مظنّة الحاجة لا تختصّ بحالة الاستنجاء، وإنّما خصّ النّهي بحالة البول من جهة أنّ مجاور الشّيء يعطى حكمه، فلمّا منع الاستنجاء باليمين منع مسّ آلته حسماً للمادّة. ثمّ استدل على الإباحة بقوله - صلى الله عليه وسلم - لطلق بن عليّ حين سأله عن مسّ ذكره: إنّما هو بضعة منك. فدلَّ على الجواز في كلّ حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصّحيح , وبقي ما عداها على الإباحة. انتهى. والحديث الذي أشار إليه صحيح أو حسن (¬1) , وقد يقال حمل المطلق على المقيّد غير متّفق عليه بين العلماء، ومَن قال به يشترط فيه شروطاً. لكن نبّه ابن دقيق العيد على أنّ محلّ الاختلاف إنّما هو حيث تتغاير مخارج الحديث بحيث يعدّ حديثين مختلفين، فأمّا إذا اتّحد المخرج - وكان الاختلاف فيه من بعض الرّواة - فينبغي حمل المطلق على المقيّد بلا خلاف؛ لأنّ التّقييد حينئذٍ يكون زيادة من عدل فتقبل. واستنبط منه بعضهم. منع الاستنجاء باليد التي فيها الخاتم المنقوش فيه اسم الله تعالى لكون النّهي عن ذلك لتشريف اليمين فيكون ذلك من باب الأولى. ¬

_ (¬1) أي: حديث طلق - رضي الله عنه -. أخرجه أبو داود (182) والترمذي (85) والنسائي (1/ 101) وابن ماجه (483) وأحمد (4/ 22) وغيرهم. وصحَّحه ابن حبان (1119).

وما وقع في العتبيّة عن مالك من عدم الكراهة قد أنكره حذّاق أصحابه. وقيل: الحكمة في النّهي لكون اليمين معدّة للأكل بها , فلو تعاطى ذلك بها لأمكن أن يتذكّره عند الأكل فيتأذّى بذلك. والله أعلم. قوله: (ولا يتمسّح) أي: لا يستنج قوله: (من الخلاء بيمينه) أي: باليد اليمنى. وهل النهي للتّحريم أو للتّنزيه للقرينة الصّارفة للنّهي عن التّحريم. وهي أنّ ذلك أدب من الآداب؟. القول الأول: للتّنزيه , قاله الجمهور. القول الثاني: ذهب أهل الظّاهر: إلى أنّه للتّحريم، وفي كلام جماعة من الشّافعيّة ما يشعر به، لكن قال النّوويّ: مراد مَن قال منهم لا يجوز الاستنجاء باليمين. أي: لا يكون مباحاً يستوي طرفاه، بل هو مكروه راجح التّرك. ومع القول بالتّحريم فمن فعله أساء وأجزأه. وقال أهل الظّاهر وبعض الحنابلة: لا يجزئ. ومحلّ هذا الاختلاف , حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلةٍ غيرها كالماء وغيره، أمّا بغير آلة فحرام غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى. والله أعلم. وقد أثار الخطّابيّ هنا بحثاً , وبالغ في التّبجّح به , وحكى عن أبي عليّ بن أبي هريرة , أنّه ناظر رجلاً من الفقهاء الخراسانيّين. فسأله عن

هذه المسألة فأعياه جوابها. ثمّ أجاب الخطّابيّ عنه بجوابٍ فيه نظر. ومحصّل الإيراد. أنّ المستجمر متى استجمر بيساره استلزم مسّ ذكره بيمينه، ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه وكلاهما قد شمله النّهي. ومحصّل الجواب: أنّه يقصد الأشياء الضّخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره، فإن لَم يجد فليلصق مقعدته بالأرض ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه ويستجمر بيساره , فلا يكون متصرّفاً في شيء من ذلك بيمينه. انتهى وهذه هيئة منكرة بل يتعذّر فعلها في غالب الأوقات. وقد تعقّبه الطّيبيّ: بأنّ النّهي عن الاستجمار باليمين مختصّ بالدّبر، والنّهي عن المسّ مختصّ بالذّكر فبطل الإيراد من أصله. كذا قال. وما ادّعاه من تخصيص الاستنجاء بالدّبر مردود، والمسّ وإن كان مختصّاً بالذّكر لكن يلحق به الدّبر قياساً، والتّنصيص على الذّكر لا مفهوم له بل فرج المرأة كذلك، وإنّما خصّ الذّكر بالذّكر لكون الرّجال في الغالب هم المخاطبون والنّساء شقائق الرّجال في الأحكام إلاَّ ما خصّ. والصّواب في الصّورة التي أوردها الخطّابيّ ما قاله إمام الحرمين ومن بعده كالغزاليّ في الوسيط والبغويّ في التّهذيب , أنّه يمرّ العضو

بيساره على شيء يمسكه بيمينه وهي قارّة غير متحرّكة فلا يعدّ مستجمراً باليمين ولا ماسّاً بها. ومن ادّعى أنّه في هذه الحالة يكون مستجمراً بيمينه فقد غلط، وإنّما هو كمن صبّ بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء. قوله: (ولا يتنفّس) بالجزم , و " لا " ناهية في الثّلاثة، وروي بالضّمّ فيها على أنّ " لا " نافية. قوله: (في الإناء) أي داخله، وأمّا إذا أبانه وتنفّس فهي السّنّة كما في الصحيحين عن أنس , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفّس في الإناء ثلاثاً. وظاهرهما التّعارض، إذ الأوّل صريح في النّهي عن التّنفّس في الإناء , والثّاني يثبت التّنفّس، فيُحمل على حالتين: الحالة الأولى: حالة النّهي على التّنفّس داخل الإناء. الحالة الثانية: حالة الفعل على من تنفّس خارجه. فالأوّل: على ظاهره من النّهي، والثّاني: تقديره كان يتنفّس في حالة الشّرب من الإناء. وهذا النّهي للتّأدّب لإرادة المبالغة في النّظافة، إذ قد يخرج مع النّفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء فيكسبه رائحة كريهة فيتقذّر بها هو أو غيره عن شربه. وقوله " ولا يتنفّس في الإناء " جملة خبريّة مستقلة إن كانت لا نافية، وإن كانت ناهية فمعطوفة، لكن لا يلزم من كون المعطوف عليه

مقيّداً بقيدٍ أن يكون المعطوف مقيّداً به؛ لأنّ التّنفّس لا يتعلق بحالة البول وإنّما هو حكم مستقلّ. ويحتمل: أن تكون الحكمة في ذكرها هنا أنّ الغالب من أخلاق المؤمنين التّأسّي بأفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان إذا بال توضّأ، وثبت أنّه شُرب فضل وضوئه، فالمؤمن بصدد أن يفعل ذلك، فعلمه أدب الشّرب مطلقاً لاستحضاره، والتّنفّس في الإناء مختصّ بحالة الشّرب كما دلَّ عليه سياق الرّواية التي قبله. وللحاكم من حديث أبي هريرة: لا يتنفّس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه. والله أعلم. تكميل: زاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: النّهي عن النّفخ في الإناء. وله شاهد من حديث ابن عبّاس عند أبي داود والتّرمذيّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتنفّس في الإناء، وأن ينفخ فيه. وجاء في النّهي عن النّفخ في الإناء عدّة أحاديث، وكذا النّهي عن التّنفّس في الإناء , لأنّه ربّما حصل له تغيّر من النّفس. إمّا لكون المتنفّس كان متغيّر الفم بمأكولٍ مثلاً. أو لبعد عهده بالسّواك والمضمضة. أو لأنّ النّفس يصعد ببخار المعدة. والنّفخ في هذه الأحوال كلّها أشدّ من التّنفّس.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 18 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: مرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقبرين , فقال: إنّهما ليُعذّبان , وما يُعذّبان في كبيرٍ , أمّا أحدهما: فكان لا يستتر من البول , وأمّا الآخر: فكان يمشي بالنّميمة , فأخذ جريدةً رطبةً فشقّها نصفين , فغَرَزَ في كل قبرٍ واحدةً، فقالوا: يا رسولَ الله , لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: لعلَّه يخفّف عنهما ما لَم ييبسا. (¬1) قوله: (عن عبد الله بن عباس) بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يكنى أبا العباس. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين , ومات بالطائف سنة ثمان وستين , وكان من علماء الصحابة حتى كان عمر يقدمه مع الأشياخ وهو شابٌّ. وروى البخاري عنه قال: ضمَّني النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه , وقال: اللهم علّمه الحكمة , وفي لفظ " علّمه الكتاب ". وهو يؤيد من فسَّر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (213 , 215 , 1321 , 5705 , 5708) ومسلم (292) من طريق الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس به. ورواه البخاري (213) من طريق منصور عن مجاهد عن ابن عباس. دون ذِكْر طاوس. قال ابن حجر (1/ 414): وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده , فيحمل على أنَّ مجاهداً سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس. ويؤيّده أنَّ في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس , وصرَّح ابن حبان بصحة الطريقين معاً , وقال الترمذي: رواية الأعمش أصحُّ. انتهى

الحكمة هنا بالقرآن. وهذه الفظة اشتهرت على الألسنة " اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل " حتى نسبها بعضهم للصحيحين ولم يصب. والحديث عند أحمد بهذا اللفظ من طريق ابن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعند الطبراني من وجهين آخرين، وأوله في هذا الصحيح من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس دون قوله: " وعلّمه التأويل ". وأخرجها البزار من طريق شعيب بن بشر عن عكرمة بلفظ " اللهم علمه تأويل القرآن " وعند أحمد من وجه آخر عن عكرمة " اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلّمه التأويل ". واختلف في المراد بالحكمة هنا. فقيل: الإصابة في القول، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب بالصواب، وقيل غير ذلك. وكان ابن عباس من أعلم الصحابة بتفسير القرآن. وروى يعقوب بن سفيان في " تاريخه " بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجلٌ. وكان يقول: نِعم ترجمان القرآن ابن عباس. وروى هذه الزيادة ابن سعد من وجه آخر عن عبد الله بن مسعود. وروى أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " عن ابن عمر قال: هو أعلم

الناس بما أنزل الله على محمد. وأخرج ابن أبي خيثمة نحوه بإسناد حسن. وروى يعقوب أيضاً بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: قرأ ابن عباس سورة النور ثم جعل يفسرها، فقال رجلٌ: لو سمعتْ هذا الديلم لأسلمت. ورواه أبو نعيم في " الحلية " من وجه آخر بلفظ " سورة البقرة " وزاد أنه " كان على الموسم " يعني سنة خمس وثلاثين، كان عثمان أرسله لما حُصر. قوله: (مرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري في الأدب (¬1) " خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من بعض حيطان المدينة " أي بستان , وله أيضا " مر بحائط " فيحمل على أنّ الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرّ به. وفي الأفراد للدّارقطنيّ من حديث جابر , أنّ الحائط كان لأمّ مبشّر الأنصاريّة، وهو يقوّي رواية الأدب لجزمها بالمدينة من غير شكّ , والشّكّ في رواية البخاري " المدينة أو مكّة " من جرير (¬2). قوله: (بقبرين) زاد ابن ماجه " جديدين فقال: إنّهما ليعذّبان " فيحتمل أن يقال: أعاد الضّمير على غير مذكور , لأنّ سياق الكلام يدلّ عليه، وأن يقال أعاده على القبرين مجازاً , والمراد من فيهما. وللبخاري " فسمع صوت إنسانين يعذّبان في قبورهما ". ¬

_ (¬1) أي: في " كتاب الأدب " من صحيح البخاري رقم (5708). (¬2) صحيح البخاري (213) من روايته عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنه -

قال ابن مالك: في قوله " صوت إنسانين " شاهد على جواز إفراد المضاف المثنّى إذا كان جزء ما أضيف إليه. نحو أكلت رأس شاتين، وجمعه أجود نحو (فقد صغت قلوبكما) وقد اجتمع التّثنية والجمع في قوله: ظهرُاهما مثل ظُهور التُّرسين فإن لَم يكن المضاف جزء ما أضيف إليه، فالأكثر مجيئه بلفظ التّثنية، فإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع. وقوله " يعذّبان في قبورهما " شاهد لذلك. قوله: (يُعذّبان وما يُعذّبان في كبير) وللبخاري " ثمّ قال: بلى. " أي: إنّه لكبير. وصرّح بذلك في الأدب من طريق عبد بن حميدٍ عن منصور فقال: وما يعذّبان في كبير. وإنّه لكبير. وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش , ولَم يخرجها مسلم. واستدل ابن بطّال برواية الأعمش , على أنّ التّعذيب لا يختصّ بالكبائر بل قد يقع على الصّغائر، قال: لأنّ الاحتراز من البول لَم يرد فيه وعيد، يعني: قبل هذه القصّة. وتعقّب: بهذه الزّيادة، وقد ورد مثلها من حديث أبي بكرة عند أحمد والطّبرانيّ ... ولفظه " وما يعذّبان في كبير، بلى ". وقال ابن مالك: في قوله " في كبير " شاهد على ورود " في " للتّعليل، وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: عذّبت امرأة في هرّة. قال: وخفي ذلك على أكثر النّحويّين مع وروده في القرآن كقول الله تعالى (لمسّكم فيما أخذتم) وفي الحديث كما تقدّم، وفي الشّعر فذكر شواهد. انتهى. وقد اختلف في معنى قوله " وإنّه لكبير ".

فقال أبو عبد الملك البونيّ: يحتمل أنّه - صلى الله عليه وسلم - ظنّ أنّ ذلك غير كبير، فأوحي إليه في الحال بأنّه كبير، فاستدرك. وتعقّب: بأنّه يستلزم أن يكون نسخاً , والنّسخ لا يدخل الخبر. وأجيب: بأنّ الحكم بالخبر يجوز نسخه فقوله " وما يعذّبان في كبير " إخبار بالحكم، فإذا أوحي إليه أنّه كبير فأخبر به كان نسخاً لذلك الحكم. وقيل: يحتمل أنّ الضّمير في قوله " وإنّه " يعود على العذاب، لِمَا ورد في صحيح ابن حبّان من حديث أبي هريرة " يعذّبان عذاباً شديداً في ذنب هيّن ". وقيل: الضّمير يعود على أحد الذّنبين , وهو النّميمة لأنّها من الكبائر بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير مستقيم , لأنّ الاستتار المنفيّ ليس المراد به كشف العورة فقط كما سيأتي. وقال الدّاوديّ وابن العربيّ: " كبير " المنفيّ بمعنى أكبر، والمثبت واحد الكبائر، أي: ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل مثلاً، وإن كان كبيراً في الجملة. وقيل: المعنى ليس بكبيرٍ في الصّورة , لأنّ تعاطي ذلك يدلّ على الدّناءة والحقارة، وهو كبير الذّنب. وقيل: ليس بكبيرٍ في اعتقادهما , أو في اعتقاد المخاطبين , وهو عند الله كبير كقوله تعالى (وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم). وقيل: ليس بكبيرٍ في مشقّة الاحتراز، أي: كان لا يشقّ عليهما

الاحتراز من ذلك. وهذا الأخير جزم به البغويّ وغيره. ورجّحه ابن دقيق العيد وجماعة. وقيل: ليس بكبيرٍ بمجرّده وإنّما صار كبيراً بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السّياق فإنّه وصف كلاًّ منهما بما يدلّ على تجدّد ذلك منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد حرف كان. والله أعلم. قوله: (لا يستتر) كذا في أكثر الرّوايات بمثنّاتين من فوق الأولى مفتوحة والثّانية مكسورة. وفي رواية ابن عساكر " يستبرئ " بموحّدةٍ ساكنة من الاستبراء. ولمسلمٍ وأبي داود في حديث الأعمش " يستنزه " بنونٍ ساكنة بعدها زاي ثمّ هاء. فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار , أنّه لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني: لا يتحفّظ منه، فتوافق رواية " لا يستنزه " لأنّها من التّنزّه. وهو الإبعاد. وقد وقع عند أبي نعيمٍ في " المستخرج " من طريق وكيع عن الأعمش " كان لا يتوقّى " وهي مفسّرة للمراد. وأجراه بعضهم على ظاهره , فقال: معناه لا يستر عورته. وضُعّف: بأنّ التّعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسّببيّة , واطّرح اعتبار البول فيترتّب العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا. ولا يخفى ما فيه. وسيأتي كلام ابن دقيق العيد قريباً. وأمّا رواية الاستبراء فهي أبلغ في التّوقّي.

وتعقّب الإسماعيليّ رواية الاستتار , بما يحصل جوابه ممّا ذكرنا. قال ابن دقيق العيد: لو حمل الاستتار على حقيقته للزم أنّ مجرّد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدلّ على أنّ للبول بالنّسبة إلى عذاب القبر خصوصيّة، يشير إلى ما صحَّحه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعاً " أكثر عذاب القبر من البول " أي: بسبب ترك التّحرّز منه. قال: ويؤيّده أنّ لفظ " من " في هذا الحديث لَمّا أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول، بمعنى أنّ ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرّد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعيّن الحمل على المجاز لتجتمع ألفاظ الحديث على معنىً واحد , لأنّ مخرجه واحد. ويؤيّده أنّ في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه " أمّا أحدهما فيعذّب في البول " ومثله للطّبرانيّ عن أنس قوله: (من البول) قال ابن بطَّال: أراد البخاري (¬1) أن المراد بقوله " كان لا يستتر من البول " أي: بول النّاس لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجّة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان. وكأنّه أراد الرّدّ على الخطّابيّ حيث قال: فيه دليل على نجاسة ¬

_ (¬1) قال البخاري " باب ما جاء في غسل البول , وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحب القبر: كان لا يستتر من بوله. ولَم يذكر سوى بول الناس " انتهى كلام البخاري

الأبوال كلّها. ومحصّل الرّدّ: أنّ العموم في رواية " من البول " أريد به الخصوص. لقوله " من بوله " (¬1) والألف واللام بدل من الضّمير، لكن يلتحق ببوله بول من هو في معناه من النّاس لعدم الفارق، قال: وكذا غير المأكول، وأمّا المأكول فلا حجّة في هذا الحديث لِمَن قال بنجاسة بوله، ولِمَن قال بطهارته حجج أخرى. وقال القرطبيّ: قوله " من البول " اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سلم فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يؤكل. (¬2) قوله: (يمشي بالنّميمة) صحّح ابن حبّان من حديث أبي هريرة بلفظ: وكان الآخر يؤذي النّاس بلسانه ويمشي بينهم بالنّميمة. قال ابن دقيق العيد: النميمة هي نقل كلام النّاس. والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأمّا ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب. انتهى وهو تفسير للنّميمة بالمعنى الأعمّ. قال النّوويّ: وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح. وتعقّبه الكرمانيّ فقال: هذا لا يصحّ على قاعدة الفقهاء، فإنّهم ¬

_ (¬1) رواية (من بوله) أخرجها الشيخان أيضاً. (¬2) انظر حديث أنس - رضي الله عنه - رقم (250).

يقولون: الكبيرة هي الموجبة للحدّ ولا حدّ على المشي بالنّميمة، إلاَّ أن يقال: الاستمرار هو المستفاد منه جعله كبيرة؛ لأنّ الإصرار على الصّغيرة حكمه حكم الكبيرة. أو أنّ المراد بالكبيرة معنىً غير المعنى الاصطلاحيّ. انتهى. وما نقله عن الفقهاء ليس هو قول جميعهم؛ لكنّ كلام الرّافعيّ يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين: أحدهما: هذا. والثّاني: ما فيه وعيد شديد. قال: وهم إلى الأوّل أميل. والثّاني أوفق لِمَا ذكروه عند تفصيل الكبائر. انتهى. ولا بدّ من حمل القول الأوّل على أنّ المراد به غير ما نصّ عليه في الأحاديث الصّحيحة؛ وإلاَّ لزم أن لا يعدّ عقوق الوالدين وشهادة الزّور من الكبائر، مع أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عدّهما من أكبر الكبائر. وعرف بهذا الجواب عن اعتراض الكرمانيّ , بأنّ النّميمة قد نصّ في الصّحيح على أنّها كبيرة كما تقدم. قال الغزاليّ ما ملخّصه: ينبغي لمن حملت إليه نميمة أن لا يصدّق من نمّ له. ولا يظنّ بمن نمّ عنه ما نقل عنه , ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له , وأن ينهاه ويقبّح له فعله , وأن يبغضه إن لَم ينزجر , وأن لا يرضى لنفسه ما نهي النّمّام عنه , فينمّ هو على النّمّام فيصير نمّاماً. قال النّوويّ: وهذا كلّه إذا لَم يكن في النّقل مصلحة شرعيّة , وإلا فهي مستحبّة أو واجبة، كمن اطّلع من شخص أنّه يريد أن يؤذي شخصاً ظلماً فحذّره منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية بسيرة

نائبه مثلاً فلا منع من ذلك. وقال الغزاليّ ما ملخّصه: النّميمة في الأصل نقل القول إلى المقول فيه، ولا اختصاص لها بذلك بل ضابطها كشف ما يكره كشفه , سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما، وسواء كان المنقول قولاً أم فعلاً، وسواء كان عيباً أم لا، حتّى لو رأى شخصاً يخفي ما له فأفشى كان نميمة. واختلف في الغيبة والنّميمة. هل هما متغايرتان أو متّحدتان؟. والرّاجح التّغاير، وأنّ بينهما عموماً وخصوصاً وجهيّاً، وذلك لأنّ النّميمة نقل حال الشّخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه سواء كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النّميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك. ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائباً، والله أعلم. لطيفة: أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة. وهي أنَّ البرزخ مقدمة الآخرة , وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء , ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث , ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء. قوله: (فأخذ جريدةً رطبةً) ولهما من رواية الأعمش " فدعا

بعسيبٍ رطب " والعسيب - بمهملتين بوزن فعيل - هي الجريدة التي لَم ينبت فيها خوص، فإن نبت فهي السّعفة. وقيل: إنّه خصّ الجريد بذلك لأنّه بطيء الجفاف. وروى النّسائيّ من حديث أبي رافع بسندٍ ضعيف , أنّ الذي أتاه بالجريدة بلال، ولفظه: كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في جنازة إذ سمع شيئاً في قبر , فقال لبلالٍ: ائتني بجريدةٍ خضراء. الحديث. قوله: (فشقها نصفين) وللبخاري " فكسرها كسرتين " بكسر الكاف، والكسرة القطعة من الشّيء المكسور، وقد تبيّن من رواية الباب أنّها كانت نصفاً. وفي رواية جرير عنه " باثنتين " قال النّوويّ: الباء زائدة للتّوكيد والنّصب على الحال , وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطّبرانيّ , أنّه الذي أتى بها إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا ما رواه مسلم في حديث جابر الطّويل المذكور في أواخر الكتاب أنّه الذي قطع الغصنين، فهو في قصّة أخرى غير هذه. فالمغايرة بينهما من أوجه: منها: أنّ هذه كانت في المدينة. وكان معه - صلى الله عليه وسلم - جماعة، وقصّة جابر كانت في السّفر. وكان خرج لحاجته فتبعه جابرٌ وحده. ومنها: أنّ في هذه القصّة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - غرس الجريدة بعد أن شقّها نصفين كما في الباب، وفي حديث جابر , أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمر جابراً بقطع غصنين من شجرتين , كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - استتر بهما عند قضاء حاجته، ثمّ أمر جابراً فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -

جالساً، وأنّ جابراً سأله عن ذلك فقال: إنّي مررت بقبرين يعذّبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين. ولَم يذكر في قصّة جابر أيضاً السّبب الذي كانا يعذّبان به، ولا التّرجّي الآتي في قوله " لعله "، فبان تغاير حديث ابن عبّاس وحديث جابر وأنّهما كانا في قصّتين مختلفتين، ولا يبعد تعدّد ذلك. وقد روى ابن حبّان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - مرّ بقبرٍ فوقف عليه , فقال: ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه , والأخرى عند رجليه. فيحتمل أن تكون هذه قصّة ثالثة. ويؤيّده أنّ في حديث أبي رافع كما تقدّم " فسمع شيئاً في قبر " وفيه " فكسرها باثنين ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه " وفي قصّة الواحد حمل نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه، وفي قصّة الاثنين " جعل على كلّ قبر جريدة ". قوله: (فغرز) وفي رواية لهما " فغرس " وهما بمعنىً، وأفاد سعد الدّين الحارثيّ , أنّ ذلك كان عند رأس القبر. وقال: إنّه ثبت بإسنادٍ صحيح. وكأنّه يشير إلى حديث أبي هريرة , عند ابن حبّان. وقد قدّمنا لفظه، ثمّ وجدته في " مسند عبد بن حميدٍ " من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش في حديث ابن عبّاس صريحاً. قوله: (قالوا له: يا رسولَ الله) أي: الصّحابة، ولَم نقف على تعيين السّائل منهم.

قوله: (لعلَّه) قال ابن مالك: يجوز أن تكون الهاء ضمير الشّأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنّها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه. قال: ويحتمل أن تكون " أن " زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها جارّة. انتهى وقد ثبت في رّواية البخاري بحذف " أن " فقوّى الاحتمال الثّاني. وقال الكرمانيّ: شبّه لعل بعسى فأتى بأن في خبره. قوله: (يخفّف) بالضّمّ وفتح الفاء، أي: العذاب عن المقبورين. قوله: (ما لَم ييبسا) أي: العودان، وللبخاري " تيبسا " أي: الكسرتان وللكشميهنيّ " إلاَّ أن تيبسا " بحرف الاستثناء. قال المازريّ: يحتمل أن يكون أوحي إليه أنّ العذاب يخفّف عنهما هذه المدّة. انتهى وعلى هذا فـ " لعلَّ " هنا للتّعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا. وتعقّبه القرطبيّ: بأنّه لو حصل الوحي لَمَا أتى بحرف التّرجّي، كذا قال. ولا يرد عليه ذلك إذا حملناها على التّعليل. قال القرطبيّ: وقيل إنّه شفع لهما هذه المدّة كما صرّح به في حديث جابر؛ لأنّ الظّاهر أنّ القصّة واحدة. وكذا رجّح النّوويّ كون القصّة واحدة. وفيه نظر. لِمَا أوضحنا من المغايرة بينهما.

وقال الخطّابيّ: هو محمول على أنّه دعا لهما بالتّخفيف مدّة بقاء النّداوة، لا أنّ في الجريدة معنىً يخصّه، ولا أنّ في الرّطب معنىً ليس في اليابس. قال: وقد قيل: إنّ المعنى فيه أنّه يسبّح ما دام رطباً فيحصل التّخفيف ببركة التّسبيح، وعلى هذا فيطّرد في كلّ ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها؛ وكذلك فيما فيه بركة الذّكر وتلاوة القرآن من باب الأولى. وقال الطّيبيّ: الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان العذاب , يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزّبانية. وقد استنكر الخطّابيّ ومن تبعه وضع النّاس الجريد ونحوه في القبر عملاً بهذا الحديث. قال الطّرطوشيّ: لأنّ ذلك خاصّ ببركة يده. وقال القاضي عياض: لأنّه علَّل غرزهما على القبر بأمرٍ مغيّب , وهو قوله " ليعذّبان ". قلت: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذّب أم لا؟ أن لا نتسبّب له في أمر يخفّف عنه العذاب أن لو عذّب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا؟. أن لا ندعو له بالرّحمة. وليس في السّياق ما يقطع على أنّه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يحتمل أن يكون أمر به. وقد تأسّى بريدة بن الحصيب الصّحابيّ بذلك فأوصى أن يُوضع

على قبره جريدتان (¬1) وهو أولى أن يتّبع من غيره (¬2). قال ابن المرابط وغيره. يحتمل: أن يكون بريدة أمر أن يُغرزا في ظاهر القبر. اقتداء بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في وضعه الجريدتين في القبرين. ويحتمل: أن يكون أمر أن يُجعلا في داخل القبر لِمَا في النّخلة من البركة. لقوله تعالى (كشجرةٍ طيّبةٍ). والأوّل أظهر، ويؤيّده إيراد البخاري حديث القبرين في آخر باب " الجريد على القبر "، وكأنّ بريدة حمل الحديث على عمومه , ولَم يره خاصّاً بذينك الرّجلين. قال ابن رشيد: ويظهر من تصرّف البخاريّ , أنّ ذلك خاصّ بهما , فلذلك عقّبه بقول ابن عمر: انزعه يا غلام إنّما يظلّه عمله. لَمّا رأى فسطاطاً على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر. (¬3) ¬

_ (¬1) ذكره البخاري معلّقاً في كتاب الجنائز. باب الجريد على القبر. قال الشارح في " الفتح " (3/ 223): وصله ابن سعد من طريق مورِّق العجلي قال: أوصى بريدة أن يوضع في قبره جريدتان ومات بأدنى خراسان. (¬2) قال الشيخ ابن باز رحمه الله: الصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي من استنكار الجريد ونحوه على القبور , لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يفعله إلاَّ في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها. ولو كان مشروعاً لفعله في كل القبور وكبار الصحابة - كالخلفاء - لَم يفعلوه. وهم أعلم بالسنة من بريدة رضي الله عن الجميع - فتنبّه (¬3) ذكره البخاري معلَّقاً في باب " الجريد على القبر " قال ابن حجر في " الفتح " (3/ 223): وصَلَه ابن سعد من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار قال: مرَّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر - أخي عائشة - وعليه فسطاط مضروب، فقال: يا غلام انزعه، فإنما يُظلّه عمله. قال الغلام: تضربني مولاتي. قال: كلاَّ فنزعه. ومن طريق ابن عون عن رجلٍ قال: قدِمتْ عائشة ذا طوى حين رفعوا أيديهم عن عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرت بفسطاط فضُرب على قبره. ووكَّلت به إنساناً , وارتحلت، فقدم ابن عمر. فذكر نحوه.

تنبيه: لَم يُعرف اسم المقبورين ولا أحدهما، والظّاهر أنّ ذلك كان على عمد من الرّواة لقصد السّتر عليهما، وهو عمل مستحسن. وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقّه ما يذمّ به. وما حكاه القرطبيّ (¬1) في " التّذكرة " وضعّفه عن بعضهم , أنّ أحدهما سعد بن معاذ , فهو قولٌ باطلٌ لا ينبغي ذكره إلاَّ مقروناً ببيانه. وممّا يدلّ على بطلان الحكاية المذكورة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصّحيح، وأمّا قصّة المقبورين ففي حديث أبي أمامة , عند أحمد أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: مَن دفنتم اليوم هاهنا؟ " فدلَّ على أنّه لَم يحضرهما. وإنّما ذكرتُ هذا ذبّاً عن هذا السّيّد الذي سَمّاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سيّداً , وقال لأصحابه: قوموا إلى سيّدكم. وقال: إنّ حكمه قد وافق حكم الله. وقال: إنّ عرش الرّحمن اهتزّ لموته. إلى غير ذلك من مناقبه ¬

_ (¬1) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي: من كبار المفسرين. صالح متعبد. من أهل قرطبة. رحل إلى الشرق , واستقرَّ بِمِنية ابن خصيب (في شمالي أسيوط بمصر) وتوفي فيها سنة 671 هـ. من كتبه " الجامع لأحكام القرآن " و " التذكرة في أحوال الموتى والآخرة ". الأعلام للزركلي (5/ 322).

الجليلة، خشية أن يغترّ ناقص العلم بما ذكره القرطبيّ , فيعتقد صحّة ذلك. وهو باطل. وقد اختلف في المقبورَين. فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المدينيّ، واحتجّ بما رواه من حديث جابر بسندٍ فيه ابن لهيعة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرّ على قبرين من بني النّجّار هلكا في الجاهليّة، فسمعهما يعذّبان في البول والنّميمة. قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس بقويٍّ , لكنّ معناه صحيح؛ لأنّهما لو كانا مسلمين لَمَا كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنىً؛ ولكنّه لَمّا رآهما يعذّبان لَم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدّة المذكورة. وجزم ابن العطّار في شرح العمدة. بأنّهما كانا مسلمين. وقال: لا يجوز أن يقال إنّهما كانا كافرين , لأنّهما لو كانا كافرين لَم يدع لهما بتخفيف العذاب , ولا ترجّاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبيّنه، يعني كما في قصّة أبي طالب. قلت: وما قاله أخيراً هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التّنصيص على لفظ الخصوصيّة. لكنّ الحديث الذي احتجّ به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسنادٍ صحيح على شرط مسلم , وليس فيه سبب التّعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطّويل الذي قدّمنا أنّ مسلماً أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر.

وأمّا حديث الباب , فالظّاهر من مجموع طرقه أنّهما كانا مسلمين، ففي رواية ابن ماجه " مرّ بقبرين جديدين " فانتفى كونهما في الجاهليّة، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد , أنّه - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالبقيع , فقال: من دفنتم اليوم هاهنا؟. فهذا يدلّ على أنّهما كانا مسلمين؛ لأنّ البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين مع جريان العادة بأنّ كلّ فريق يتولاه من هو منهم. ويقوّي كونهما كانا مسلمين , رواية أبي بكرة عند أحمد والطّبرانيّ بإسنادٍ صحيح " يعذّبان، وما يعذّبان في كبير , وبلى. وما يعذّبان إلاَّ في الغيبة والبول ". فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين؛ لأنّ الكافر - وإن عذّب على ترك أحكام الإسلام - فإنّه يعذّب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. قال الكرمانيّ: الغيبة نوع من النّميمة لأنّه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمّه. قلت: الغيبة قد توجد في بعض صور النّميمة، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه ممّا يسوؤه قاصداً بذلك الإفساد، فيحتمل أن تكون قصّة الذي كان يعذّب في قبره كانت كذلك. وورد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحاً، وهو ما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " من حديث جابر قال: كنّا مع - صلى الله عليه وسلم - فأتى على قبرين. فذكر فيه نحو حديث الباب. وقال فيه: أمّا أحدهما فكان

يغتاب النّاس. الحديث. ولأحمد والطّبرانيّ أيضاً من حديث يعلى بن شبابة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرّ على قبر يعذّب صاحبه , فقال: إنّ هذا كان يأكل لحوم النّاس , ثمّ دعا بجريدةٍ رطبة. الحديث، ورواته موثّقون. ولأبي داود الطّيالسيّ عن ابن عبّاس بسندٍ جيّد مثله. وأخرجه الطّبرانيّ , وله شاهد عن أبي أمامة عند أبي جعفر الطّبريّ في " التّفسير ". وأكل لحوم النّاس يصدق على النّميمة والغيبة. والظّاهر اتّحاد القصّة، ويحتمل التّعدّد. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. إثبات عذاب القبر، وفيه التّحذير من ملابسة البول، ويلتحق به غيره من النّجاسات في البدن والثّوب. ويستدلّ به على وجوب إزالة النّجاسة، خلافاً لمن خصّ الوجوب بوقت إرادة الصّلاة. والله أعلم.

باب السواك

باب السواك هو بكسر السين على الأفصح , ويطلق على الآلة , وعلى الفعل وهو المراد هنا. الحديث التاسع عشر 19 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتُهم بالسّواك عند كل صلاةٍ. (¬1) قوله: (لولا أن أشقّ على أمتي) وللبخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك " على أمّتي. أو على النّاس " هو شكّ من الرّاوي، ولَم أقف عليه بهذا اللفظ في شيء من الرّوايات عن مالك ولا عن غيره. ورواه أكثرهم بلفظ " المؤمنين " بدل " أمّتي " ورواه يحيى بن يحيى الليثيّ بلفظ " على أمّتي " دون الشّكّ. قوله: (لأمرتهم بالسّواك) أي: باستعمال السّواك، لأنّ السّواك هو الآلة، وقد قيل: إنّه يطلق على الفعل أيضاً فعلى هذا لا تقدير. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (847) من طريق مالك. ومسلم (252) من طريق سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وللبخاري (6813) من طريق جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن الأعرج به.

والسّواك مذكّر على الصّحيح، وحكى في الحكم تأنيثه، وأنكر ذلك الأزهريّ قوله: (عند كلّ صلاة) وللبخاري " مع كل صلاة " لَم أرها (¬1) أيضاً في شيء من روايات الموطّأ , إلاَّ عن معن بن عيسى , لكن بلفظ " عند كلّ صلاة " وكذا النّسائيّ عن قتيبة عن مالك، وكذا رواه مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزّناد، وخالفه سعيد بن أبي هلال عن الأعرج فقال " مع الوضوء " بدل الصّلاة. أخرجه أحمد من طريقه. قال القاضي البيضاويّ (¬2): " لولا " كلمة تدلّ على انتفاء الشّيء ¬

_ (¬1) أي: أن رواة الموطأ اقتصروا على رواية الحديث (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) فقط. وأورده البخاري في كتاب التمني برقم (6813) عن يحيى بن بكير عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن عن أبي هريرة بهذا اللفظ المختصر. قال الشارح (13/ 281): هكذا ذكره مختصرا من رواية جعفر بن ربيعة - وهو المصري -عن عبد الرحمن وهو الأعرج , ونسبه الإسماعيلي في رواية شعيب بن الليث عن أبيه. ولم يزد على ما هناك. فدلَّ على أن هذا القدر هو الذي وقع في هذه الطريق. وقد أورده المزي في " الأطراف " فزاد فيه " عند كل صلاة " ولم أر هذه الزيادة في هذه الطريق عند أحد ممن أخرجها , وإنما ثبتت عند البخاري في رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج. أورده في كتاب الجمعة , ونسبه المزي إلى الصلاة بغير قيد الجمعة , وهو مما يتعقب عليه أيضاً , وعنده فيه مع بدل عند , وثبت عند مسلم بلفظ عند من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد. انتهى. (¬2) عبد الله بن عمر بن محمد. الإمام العالم العلامة المحقق شيخ الإسلام ناصر الدين أبو الخير الشيرازي الشافعي. قاضي شيراز. صاحب التفسير المسمى بـ " أنوار التنزيل " الذي اشتهر وبَهَرَ , وتلقاه الناس بالقبول. وشرح المصابيح. وغيرها. توفي سنة 685. أو سنة 691 هـ. ديوان الإسلام للذهبي (1/ 257).

لثبوت غيره، والحقّ أنّها مركّبة من " لو " الدّالة على انتفاء الشّيء لانتفاء غيره. و " لا " النّافية، فدلَّ الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقّة , لأنّ انتفاء النّفي ثبوت , فيكون الأمر منفيّاً لثبوت المشقّة. وفيه دليل على أنّ الأمر للوجوب من وجهين: أحدهما: أنّه نفي الأمر مع ثبوت النّدبيّة، ولو كان للنّدب لَمَا جاز النّفي. ثانيهما: أنّه جعل الأمر مشقّة عليهم. وذلك إنّما يتحقّق إذا كان الأمر للوجوب، إذ النّدب لا مشقّة فيه لأنّه جائز التّرك. وقال الشّيخ أبو إسحاق في " اللّمع ": في هذا الحديث دليل على أنّ الاستدعاء على جهة النّدب ليس بأمرٍ حقيقةً , لأنّ السّواك عند كلّ صلاة مندوب إليه، وقد أخبر الشّارع أنّه لَم يأمر به. انتهى ويؤكّده قوله في رواية سعيد المقبريّ عن أبي هريرة عند النّسائيّ بلفظ " لفرضت عليهم " بدل لأمرتهم. وقال الشّافعيّ: فيه دليل على أنّ السّواك ليس بواجبٍ , لأنّه لو كان واجباً لأمرهم شقّ عليهم به أو لَم يشقّ. انتهى. وإلى القول بعدم وجوبه صار أكثر أهل العلم، بل ادّعى بعضهم فيه الإجماع، لكن حكى الشّيخ أبو حامد وتبعه الماورديّ عن إسحاق

بن راهويه , قال: هو واجب لكل صلاة، فمن تركه عامداً بطلت صلاته. وعن داود. أنّه قال: وهو واجب , لكن ليس شرطاً. واحتجّ مَن قال بوجوبه: بورود الأمر به، فعند ابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعاً: تسوّكوا. ولأحمد نحوه من حديث العبّاسٍ، وفي الموطّأ في أثناء حديث: عليكم بالسّواك. ولا يثبت شيء منها. وعلى تقدير الصّحّة , فالمنفيّ في مفهوم حديث الباب , الأمر به مقيّداً بكل صلاة لا مطلق الأمر، ولا يلزم من نفي المقيّد نفي المطلق ولا من ثبوت المطلق التّكرار. واستدل بقوله " كلّ صلاة " على استحبابه للفرائض والنّوافل، ويحتمل أن يكون المراد الصّلوات المكتوبة وما ضاهاها من النّوافل التي ليست تبعاً لغيرها كصلاة العيد، وهذا اختاره أبو شامة. ويتأيّد بقوله في حديث أمّ حبيبة عند أحمد بلفظ " لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة كما يتوضّئون " , وله من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم عند كلّ صلاة بوضوءٍ، ومع كلّ وضوء بسواكٍ " فسوّى بينهما. وكما أنّ الوضوء لا يندب للرّاتبة التي بعد الفريضة إلاَّ إن طال الفصل مثلاً، فكذلك السّواك. ويمكن أن يفرّق بينهما , بأنّ الوضوء أشقّ من السّواك. ويتأيّد بما رواه ابن ماجه من حديث ابن عبّاسٍ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي ركعتين، ثمّ ينصرف فيستاك. وإسناده صحيح، لكنّه مختصر من حديث طويل أورده أبو داود، وبيّن فيه أنّه تخلل بين

الانصراف والسّواك نوم. وأصل الحديث في مسلم مبيّناً أيضاً. (¬1) واستدل به على أنّ الأمر يقتضي التّكرار، لأنّ الحديث دلَّ على كون المشقّة هي المانعة من الأمر بالسّواك، ولا مشقّة في وجوبه مرّة، وإنّما المشقّة في وجوب التّكرار. وفي هذا البحث نظرٌ، لأنّ التّكرار لَم يؤخذ هنا من مجرّد الأمر، وإنّما أخذ من تقييده بكل صلاة. وقال المُهلَّب: فيه أنّ المندوبات ترتفع إذا خشي منها الحرج. وفيه ما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه من الشّفقة على أمّته. وفيه جواز الاجتهاد منه فيما لَم ينزل عليه فيه نصّ، لكونه جعل المشقّة سبباً لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقّفاً على النّصّ لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النّصّ لا وجود المشقّة. قال ابن دقيق العيد: وفيه بحثٌ، وهو كما قال، ووجهه أنّه يجوز أن يكون إخباراً منه - صلى الله عليه وسلم - بأنّ سبب عدم ورود النّصّ وجود المشقّة، فيكون معنى قوله " لأمرتهم " أي: عن الله بأنّه واجب. واستدل به النّسائيّ على استحباب السّواك للصّائم بعد الزّوال، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (256) عن ابن عباس , أنه بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة , فقام نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فخرج فنظر في السماء , ثم تلا هذه الآية من آل عمران {إنَّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .. حتى بلغ. فقنا عذاب النار} ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ ثم قام فصلَّى , ثم اضطجع , ثم قام فخرج فنظرَ إلى السماء فتلا هذه الآية. ثم رجع فتسوَّك فتوضأ ثم قام فصلى.

لعموم قوله " كلّ صلاة "، فإنّه يقتضي إباحته في كل وقتٍ وعلى كلّ حالٍ فائدةٌ: قال ابن دقيق العيد: الحكمة في استحباب السّواك عند القيام إلى الصّلاة كونها حال تقرّب إلى الله، فاقتضى أن تكون حال كمالٍ ونظافة إظهاراً لشرف العبادة. وقد ورد من حديث عليّ عند البزّار ما يدلّ على أنّه لأمرٍ يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلا يزال يدنو منه حتّى يضع فاه على فيه (¬1)، لكنّه لا ينافي ما تقدّم. ¬

_ (¬1) مسند البزار (603) عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي - رضي الله عنه - أنه أمر بالسواك، وقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد إذا تسوَّك، ثم قام يصلي قام الملك خلفه، فتسمع لقراءته فيدنو منه , أو كلمة نحوها. حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيءٌ من القرآن، إلاَّ صار في جوف الملَك، فطهِّروا أفواهكم للقرآن. قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي، - رضي الله عنه - بإسناد أحسن من هذا الإسناد، وقد رواه غير واحد عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي - رضي الله عنه - موقوفاً. انظر البدر المنير لابن الملقن (2/ 51) والعلل لابن أبي حاتم (1/ 445).

الحديث العشرون

الحديث العشرون 20 - عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - , قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشُوصُ فاه بالسّواك. (¬1) قوله: (عن حذيفة بن اليمان) بن جابر بن عمرو العبسي بالموحدة. حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، وأسلم هو وأبوه اليمان، وولي حذيفة بعض أمور الكوفة لعمر، وولي إمرة المدائن. ومات بعد قتل عثمان بيسير بها. وكان حذيفة من القدماء في الإسلام. واسم اليمان حِسل - بمهملتين وكسر أوله وسكون ثانيه ثم لامٌ - ابن جابر قوله: (يشوص) بضمّ المعجمة وسكون الواو بعدها مهملةٌ , والشّوص بالفتح الغسل والتّنظيف. كذا في الصّحاح. وفي المحكم , الغَسل عن كُراعٍ (¬2) , والتّنقية عن أبي عبيدٍ , والدَّلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (242 , 849 , 1085) ومسلم (255) من طرق عن أبي وائل شقيق عن حذيفة - رضي الله عنه - به. (¬2) هو علي بن الحسن أبو الحسن الهنائي. المعروف بكراع النمل، لصغره ودمامته. إمام متضلع نحواً ولغةً وعربيةً وغريباً. وله مصنفات حسنة منها: المنتخب والمنتظم والمنمنم والمنجد والمنضد والموشى وغير ذلك. مات بعد التسع والثلاثمائة ". البُلغة في تراجم أئمة النحو واللغة ص (207)

عن ابن الأنباريّ. وقيل: الإمرار على الأسنان من أسفل إلى فوق , واستدل قائله بأنّه مأخوذٌ من الشّوصة , وهي ريحٌ ترفع القلب عن موضعه. وعكَسَه الخطّابيّ , فقال: هو دلك الأسنان بالسّواك أو الأصابع عرضاً. قال بن دقيق العيد: فيه استحباب السّواك عند القيام من النّوم , لأنّ النّوم مقتضٍ لتغيّر الفم لِمَا يتصاعد إليه من أبخرة المعدة , والسّواك آلة تنظيفه فيستحبّ عند مقتضاه. قال: وظاهر قوله " من الليل " عامٌّ في كل حالةٍ , ويحتمل: أن يخصّ بما إذا قام إلى الصّلاة. قلت: ويدلّ عليه رواية البخاري بلفظ " إذا قام للتّهجّد " , ولمسلمٍ نحوه. وحديث ابن عبّاسٍ (¬1) يشهد له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4569) ومسلم (763) في قصة بيتوتة ابن عبّاس - رضي الله عنه - عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: فلمَّا كان ثلث الليل الآخر قعد. فنظر إلى السماء، فقال: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}، ثم قام فتوضأ , واستنَّ فصلَّى. الحديث "

الحديث الواحد والعشرون

الحديث الواحد والعشرون 21 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: دخل عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ الصّدّيق - رضي الله عنه - على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا مُسنِدته إلى صدري , ومع عبد الرّحمن سواكٌ رطبٌ يستنّ به , فأبدَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصرَه. فأخذت السّواك فقضَمْتُه , فطيّبته , ثمّ دفعته إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاستنّ به , فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنّ استناناً أحسن منه , فما عدا أنْ فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , رفع يده أو إصبعه , ثمّ قال: في الرّفيق الأعلى ثلاثاً ثمّ قضى. وكانت تقول: مات بين حاقِنَتي وذاقِنَتي. وفي لفظٍ: فرأيته ينظر إليه , وعرفت أنّه يحبّ السّواك , فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم. هذا لفظ البخاريّ (¬1) , ولمسلمٍ نحوه. (¬2) قوله: (عن عائشة) هي الصّدّيقة بنت الصّدّيق , وأمّها أمّ رومان , وكان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها. ومات النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولها نحو ثمانية عشر عاماً، وقد حفظتْ عنه شيئاً كثيراً , وعاشتْ بعده قريباً من خمسين سنة، فأكثر النّاس الأخذ عنها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4174) من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. بهذا اللفظ. ورواه البخاري (850 , 1323 , 2933 , 4181 , 4184 , 4186 , 4919 , 6145) من طرق أخرى عن عائشة. مختصراً ومطوّلاً. (¬2) أخرجه مسلم (2443 , 2444) مختصراً دون قصة السواك.

ونقلوا عنها من الأحكام والآداب شيئاً كثيراً حتّى قيل: إنّ ربع الأحكام الشّرعيّة منقول عنها رضي الله عنها. وكان موتها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين , وقيل: في التي بعدها. ولَم تلد للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيئاً على الصّواب، وسألتْه أن تكتني , فقال: اكتني بابن أختك , فاكتنت أمّ عبد الله , وأخرج ابن حبّان في " صحيحه " من حديث عائشة , أنّه كنّاها بذلك لَمّا أحضر إليه ابن الزّبير ليحنّكه , فقال: هو عبد الله وأنت أمّ عبد الله. قالت: فلم أزل أكنّى بها ". قوله: (ومع عبد الرّحمن سواك رطب) في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة " ومرّ عبد الرّحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه، فظننت أنّ له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه ". قوله: (يستنّ به) أي: يستاك، قال الخطّابيّ: أصله من السّنّ. أي: بالفتح، ومنه المسنّ الذي يسنّ عليه الحديد. قوله: (فأبَدَّه) بتشديد الدّال. أي: مدّ نظره إليه، يقال: أبّدت فلاناً النّظر إذا طوّلته إليه، وفي رواية الكشميهنيّ " فأمدّه " بالميم. قوله: (فقضمته) بفتح القاف وكسر الضّاد المعجمة. أي: مضغته، والقضم الأخذ بطرف الأسنان، يقال: قضمت الدّابّة بكسر الضّاد

شعيرها تقضم بالفتح إذا مضغته. وحكى عياض: أنّ الأكثر رووه بالصّاد المهملة. (¬1) أي: كسرته أو قطعته، وحكى ابن التّين رواية بالفاء والمهملة. قال المحبّ الطّبريّ: إن كان بالضّاد المعجمة فيكون قولها: " فطيّبته " تكراراً , وإن كان بالمهملة فلا. لأنّه يصير المعنى كسرته لطوله، أو لإزالة المكان الذي تسوّك به عبد الرّحمن. قوله: (وطيّبته) في رواية البخاري " ثمّ ليّنته ثمّ طيّبته " أي: بالماء , ويحتمل أن يكون طيّبته تأكيداً لليّنته. وللبخاري من رواية ذكوان عن عائشة: فقلت: آخذه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم، فتناولته فأدخلته في فيه فاشتدّ، فتناولته , فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم. ويؤخذ منه العمل بالإشارة عند الحاجة إليها، وقوّة فطنة عائشة. فائدة: فيه أنَّ استعمال سواك الغير ليس بمكروه , إلَّا أنَّ المستحب أن يغسله ثم يستعمله , وفيه حديث عن عائشة في سنن أبي داود قالت: ¬

_ (¬1) أي " فقصمته " وهي عند البخاري في كتاب الجمعة. قال الشارح في موضع آخر: قاف وصاد مهملة للأكثر. أي: كسرته , وفي رواية كريمة وبن السكن بضاد معجمة , والقضم: بالمعجمة الأكل بأطراف الأسنان. قال ابن الجوزي: وهو أصح. قلت: ويحمل الكسر على كسر موضع الاستياك. فلا ينافي الثاني. والله أعلم. انتهى

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك , ثم أغسله , ثم أدفعه إليه ". وهذا دالٌّ على عظيم أدبها وكبير فطنتها , لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه - صلى الله عليه وسلم - ثم غسلته تأدبَّاً وامتثالاً , ويحتمل: أن يكون المراد بأمرها بغسله تطييبه وتليينه بالماء قبل أن يستعمله. والله أعلم وقوله: (فما عدا أنْ فرغ) أي: من السّواك. قوله: (في الرفيق الأعلى) في رواية للشيخين: سمعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بحّةٌ، يقول: مع الذين أنعم الله عليهم. وفي رواية المطّلب عن عائشة عند أحمد: فقال: مع الرّفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء - إلى قوله - رفيقاً. وفي رواية أبي بُرْدة بن أبي موسى عن أبيه عند النّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان: فقال: أسأل الله الرّفيق الأعلى الأسعد، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. وظاهره أنّ الرّفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين. وفي رواية عبّاد عن عائشة بعد هذا قال: اللهمّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرّفيق. وفي رواية ذكوان عن عائشة " فجعل يقول: في الرّفيق الأعلى حتّى قبض "، وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة "

وقال: في الرّفيق الأعلى، في الرّفيق الأعلى " (¬1) وهذه الأحاديث تردّ على من زعم أنّ " الرّفيق " تغيير من الرّاوي , وأنّ الصّواب الرّقيع - بالقاف والعين المهملة - وهو من أسماء السّماء. وقال الجوهريّ: الرّفيق الأعلى الجنّة. ويؤيّده ما وقع عند أبي إسحاق: الرّفيق الأعلى الجنّة. وقيل: بل الرّفيق هنا اسم جنس يشمل الواحد وما فوقه , والمراد الأنبياء ومن ذكر في الآية. وقد ختمت بقوله: (وحسن أولئك رفيقاً) ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد , الإشارة إلى أنّ أهل الجنّة يدخلونها على قلب رجل واحد، نبّه عليه السّهيليّ. وزعم بعض المغاربة. أنّه يحتمل أن يراد بالرّفيق الأعلى الله عزّ وجل , لأنّه من أسمائه كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفّل رفعه: إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق. كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة , فعزوه إليه أولى. قال: والرّفيق , يحتمل: أن يكون صفة ذات كالحكيم، أو صفة فعل. قال: ويحتمل أن يراد به حضرة القدس، ويحتمل: أن يراد به ¬

_ (¬1) رواية عبَّاد وذكوان وابن أبي مليكة كلها في صحيح البخاري , ووافقه مسلم في رواية عباد , وإنما لَم يعزها الشارح. إمَّا لتقدمها في البخاري , وإمَّا للعلم بها عند الإطلاق.

الجماعة المذكورون في آية النّساء. ومعنى كونهم رفيقاً. تعاونهم على طاعة الله وارتفاق بعضهم ببعضٍ. وهذا الثّالث هو المعتمد. وعليه اقتصر أكثر الشّرّاح. وقد غلّط الأزهريّ القولَ الأوّل، ولا وجه لتغليطه من الجهة التي غلطه بها. وهو قوله: مع الرّفيق أو في الرّفيق، لأنّ تأويله على ما يليق بالله سائغ. قال السّهيليّ: الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمّن التّوحيد والذّكر بالقلب حتّى يستفاد منه الرّخصة لغيره , أنّه لا يشترط أن يكون الذّكر باللسان , لأنّ بعض النّاس قد يمنعه من النّطق مانع فلا يضرّه إذا كان قلبه عامراً بالذّكر. انتهى ملخّصاً. تنْبيه: قال السّهيليّ: وجدت في بعض كتب الواقديّ , أنّ أوّل كلمة تكلم بها - صلى الله عليه وسلم - وهو مسترضع عند حليمة: الله أكبر (¬1). وآخر كلمة تكلَّم بها كما في حديث عائشة: في الرّفيق الأعلى. وروى الحاكم من حديث أنس , أنّ آخر ما تكلَّم به: جلال ربّي الرّفيع. قوله: (ثم قضى) أي: مات , وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف ¬

_ (¬1) أخرج البيهقي في " الدلائل " (46) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (3/ 474) من حديث ابن عباس قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدّث أنها لَمَّا فطمت رسول الله تكلَّم , قالت: سمعته يقول كلاماً عجيباً. سمعته يقول الله: أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً فلمَّا ترعرع. فذكر حديثاً طويلاً. وسنده ضعيف

من ربيع الأوّل , وكاد يكون إجماعاً، لكن في حديث ابن مسعود عند البزّار في حادي عشر رمضان، ثمّ عند ابن إسحاق والجمهور أنّها في الثّاني عشر منه. وعند موسى بن عقبة والليث والخوارزميّ وابن زبر: مات لهلال ربيع الأوّل وعند أبي مخنف والكلبيّ في ثانيه. ورجّحه السّهيليّ. وعلى القولين يتنزّل ما نقله الرّافعيّ , أنّه عاش بعد حجّته ثمانين يوماً، وقيل: أحداً وثمانين. وأمّا على ما جزم به في " الرّوضة " (¬1) فيكون عاش بعد حجّته تسعين يوماً أو أحداً وتسعين. وقد استشكل ذلك السّهيليّ ومن تبعه. أعني: كونه مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأوّل، وذلك أنّهم اتّفقوا على أنّ ذا الحجّة كان أوّله يوم الخميس، فمهما فرضت الشّهور الثّلاثة توأم أو نواقص أو بعضها لَم يصحّ، وهو ظاهر لمن تأمّله. وأجاب البارزيّ ثمّ ابن كثير: باحتمال وقوع الأشهر الثّلاثة كوامل، ¬

_ (¬1) قال الحافظ: وذكر الخطابي أنه ابتدأ به المرض يوم الاثنين. وقيل: يوم السبت. وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء. واختلف في مدة مرضه. فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوماً. وقيل: بزيادة يوم. وقيل: بنقصه. والقولان في الروضة. وصدر بالثاني , وقيل: عشرة أيام. وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه. وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح. اهـ

وكان أهل مكّة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجّة , فرآه أهل مكّة ليلة الخميس , ولَم يره أهل المدينة إلاَّ ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكّة، ثمّ رجعوا إلى المدينة فأرّخوا برؤية أهلها فكان أوّل ذي الحجّة الجمعة وآخره السّبت، وأوّل المحرّم الأحد وآخره الاثنين، وأوّل صفر الثّلاثاء وآخره الأربعاء، وأوّل ربيع الأوّل الخميس فيكون ثاني عشره الاثنين. وهذا الجواب بعيد من حيث إنّه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل. وقد جزم سليمان التّيميّ أحد الثّقات , بأنّ ابتداء مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوم السّبت الثّاني والعشرين من صفر , ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل، فعلى هذا كان صفر ناقصاً، ولا يمكن أن يكون أوّل صفر السّبت إلاَّ إن كان ذو الحجّة والمحرّم ناقصين , فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية. وأمّا على قول مَن قال: مات أوّل يوم من ربيع الأوّل , فيكون اثنان ناقصين , وواحد كاملاً، ولهذا رجّحه السّهيليّ. وفي " المغازي " لأبي معشر عن محمّد بن قيس قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر، وهذا موافق لقول سليمان التّيميّ , المقتضي أنّ أوّل صفر كان السّبت. وأمّا ما رواه ابن سعد من طريق عمر بن عليّ بن أبي طالب. قال: اشتكى رسول الله يوم الأربعاء لليلةٍ بقيَتْ من صفر فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأوّل.

فيرِدُ على هذا الإشكال المتقدّم، وكيف يصحّ أن يكون أوّل صفر الأحد يكون تاسع عشرينه الأربعاء؟. والغرض أنّ ذا الحجّة أوّله الخميس، فلو فرض هو والمحرّم كاملين لكان أوّل صفر الاثنين، فكيف يتأخّر إلى يوم الأربعاء؟. فالمعتمد ما قال أبو مخنف. وكأنّ سبب غلط غيره أنّهم قالوا: مات في ثاني شهر ربيع الأوّل فتغيّرت فصارت ثاني عشر، واستمرّ الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضاً من غير تأمّل، والله أعلم. وقد أجاب القاضي بدر الدّين بن جماعة بجوابٍ آخر , فقال: يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت. أي: بأيّامها. فيكون موته في اليوم الثّالث عشر، ويفرض الشّهور كوامل فيصحّ قول الجمهور. ويعكّر عليه ما يعكّر على الذي قبله مع زيادة مخالفة اصطلاح أهل اللسان في قولهم لاثنتي عشرة , فإنّهم لا يفهمون منها إلاَّ مضيّ الليالي، ويكون ما أرّخ بذلك واقعاً في اليوم الثّاني عشر. قوله: (وكانت تقول: مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي) في رواية ذكوان عن عائشة " توفّي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وإنّ الله جمع ريقي وريقه عند موته في آخر يوم من الدّنيا ". والحاقنة بالمهملة والقاف: ما سفل من الذّقن، والذّاقنة ما علا منه. أو الحاقنة: نقرة التّرقوة، هما حاقنتان. ويقال: إنّ الحاقنة المطمئن من التّرقوة والحلق. وقيل ما دون التّرقوة من الصّدر، وقيل:

هي تحت السّرّة. وقال ثابت: الذّاقنة طرف الحلقوم: والسّحر: بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصّدر، وهو في الأصل الرّئة. والنّحر: بفتح النّون وسكون المهملة والمراد به موضع النّحر. وأغرب الدّاوديّ , فقال: هو ما بين الثّديين. والحاصل أنّ ما بين الحاقنة والذّاقنة هو ما بين السّحر والنّحر. والمراد أنّه مات ورأسه بين حنكها وصدرها - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها. وهذا لا يغاير حديثها الذي قبل هذا أنّ رأسه كان على فخذها، لأنّه محمول على أنّها رفعته من فخذها إلى صدرها. وهذا الحديث يعارض ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مات ورأسه في حجر عليٍّ. وكلّ طريق منها لا يخلو من شيعيّ، فلا يُلتفت إليهم. وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعاً لتوهّم التّعصّب. قال ابن سعد: ذكر مَن قال: توفّي في حجر عليّ , وساق من حديث جابر: سأل كعبٌ الأحبار عليّاً ما كان آخر ما تكلم به - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي , فقال: الصّلاة الصّلاة. فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء. وفي سنده الواقديّ وحرم بن عثمان وهما متروكان. وعن الواقديّ عن عبد الله بن محمّد بن عمر بن عليّ عن أبيه عن

جدّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: ادعوا إليّ أخي، فدعي له عليّ , فقال: ادن منّي، قال: فلم يزل مستنداً إليّ , وإنّه ليكلمني حتّى نزل به. وثقل في حجري , فصِحْتُ: يا عبّاس أدركني إنّي هالك، فجاء العبّاس، فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه. فيه انقطاع مع الواقديّ، وعبد الله فيه لين. وبه عن أبيه عن عليّ بن الحسين: قبض ورأسه في حجر عليّ " فيه انقطاع. وعن الواقديّ عن أبي الحويرث عن أبيه عن الشّعبيّ: مات ورأسه في حجر عليّ. فيه الواقديّ والانقطاع، وأبو الحويرث اسمه عبد الرّحمن بن معاوية بن الحارث المدنيّ قال مالك: ليس بثقةٍ، وأبوه لا يعرف حاله. وعن الواقديّ عن سليمان بن داود بن الحصين عن أبيه عن أبي غطفان: سألت ابن عبّاس قال: توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إلى صدر عليّ، قال: فقلت: فإنّ عروة حدّثني عن عائشة , قالت: توفّي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري، فقال ابن عبّاس: لقد توفّي وإنّه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسّله وأخي الفضل، وأَبَى أَبِي أن يحضر. فيه الواقديّ، وسليمان لا يعرف حاله، وأبو غطفان - بفتح المعجمة ثمّ المهملة - اسمه سعد. وهو مشهور بكنيته، وثّقه النّسائيّ. وأخرج الحاكم في " الإكليل " من طريق حبّة العرنيّ عن عليّ:

أسندته إلى صدري , فسالت نفسه. وحبّة ضعيف. ومن حديث أمّ سلمة قالت: عليٌّ آخرهم عهداً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث عن عائشة أثبت من هذا، ولعلَّها أرادت آخر الرّجال به عهداً. ويمكن الجمع: بأن يكون عليّ آخرهم عهداً به , وأنّه لَم يفارقه حتّى مال , فلمّا مال ظنّ أنّه مات , ثمّ أفاق بعد أن توجّه , فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقبض. ووقع عند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس - بموحّدتين بينهما ألف غير مهموز وبعد الثّانية المفتوحة نون مضمومة , ثمّ واو ساكنة ثمّ سين مهملة - في أثناء حديث " فبينما رأسه ذات يوم على منكبي , إذ مال رأسه نحو رأسي , فظننت أنّه يريد من رأسي حاجة , فخَرجَتْ من فيه نقطة باردة فوقعت على ثغرة نحري فاقشعرّ لها جلدي، وظننت أنّه غشي عليه فسجّيته ثوباً ".

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون 22 - عن أبي موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - , قال: أتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك بسواكٍ رطبٍ , قال: وطرف السّواك على لسانه , وهو يقول: أُعْ , أُعْ , والسّواك في فيه , كأنّه يتَهَوَّع. (¬1) قوله: (عن أبي موسى الأشعريّ) هو عبد الله بن قيس الأشعري (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (241) ومسلم (254) من طريق غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه. واللفظ للبخاري. واختصره مسلم بلفظ: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطرف السواك على لسانه. (¬2) مشهور باسمه وكنيته معاً، وكان هو سكن الرّملة، وحالف سعيد بن العاص ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة. وقيل: بل رجع إلى بلاد قومه ولَم يهاجر إلى الحبشة، وهذا قول الأكثر، فإنَّ موسى بن عقبة وابن إسحاق والواقدي لَم يذكروه في مهاجرة الحبشة. وقدم المدينة بعد فتح خيبر، صادفت سفينتُه سفينةَ جعفر بن أبي طالب، فقدموا جميعاً. واستعمله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على بعض اليمن: كزبيد وعدن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة، فافتتح الأهواز ثم أصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين. وأخرج ابن سعد والطّبريّ من طريق عبد اللَّه بن بريدة , أنه وصف أبا موسى فقال: كان خفيف الجسم، قصيراً ثطّا. وفي الصحيح المرفوع: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود " وكان أبو موسى هو الّذي فقّه أهل البصرة وأقرأهم. وقال الشعبي: انتهى العلم إلى ستّة، فذكره فيهم. وقال ابن المدائنيّ: قضاة الأمة أربعة. عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت. قال البغويّ: بلغني أنّ أبا موسى مات سنة اثنتين. وقيل 44، وهو ابن نيّف وستين. قلت: بالأول جزم ابن نمير وغيره، وبالثاني أبو نعيم وغيره. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: عاش 63. وقال الهيثم وغيره: مات سنة 50، زاد خليفة: ويقال سنة إحدى. وقال المدائني: سنة 53. واختلفوا هل مات بالكوفة أو بمكة؟ قاله في الإصابة بتجوز.

فائدة: روى البخاري عن أبي موسى - رضي الله عنه -، قال: وُلد لي غلام، فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فسمَّاه إبراهيم، فحنكه بتمرة، ودعا له بالبركة، ودفعه إليَّ، وكان أكبر ولد أبي موسى. قوله " وكان أكبر ولد أبي موسى " هذا يُشعر بأنَّ أبا موسى كُنِّي قبل أن يولد له. وإلاَّ فلو كان الأمر على غير ذلك لكُنِّي بابنه إبراهيم المذكور , ولم يُنقل أنه كان يُكنَّى أبا إبراهيم. قوله: (يستاك) وللبخاري " يستنّ " بفتح أوّله وسكون المهملة وفتح المثنّاة وتشديد النّون من السّنّ بالكسر أو الفتح , إمّا لأنّ السّواك يمرّ على الأسنان , أو لأنّه يسنّها. أي: يحدّدها. قوله: (يقول) أي: النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أو السّواك مجازاً. قوله: (أع أع) بضمّ الهمزة وسكون المهملة كذا في رواية أبي ذر , وأشار ابن التّين إلى أنّ غيره رواه بفتح الهمزة , ورواه النّسائيّ وابن خزيمة عن أحمد بن عبدة عن حمّادٍ بتقديم العين على الهمزة , وكذا أخرجه البيهقيّ من طريق إسماعيل القاضي عن عارمٍ - وهو أبو النّعمان شيخ البخاريّ فيه - , ولأبي داود بهمزةٍ مكسورةٍ ثمّ هاءٍ , وللجوزقيّ بخاءٍ معجمةٍ بدل الهاء.

والرّواية الأولى أشهر. وإنّما اختلف الرواة لتقارب مخارج هذه الأحرف , وكلها ترجع إلى حكاية صوته إذ جعل السّواك على طرف لسانه كما عند مسلمٍ. والمراد طرفه الدّاخل كما عند أحمد " يستنّ إلى فوق " ولهذا قال هنا: كأنّه يتهوّع. والتّهوّع التّقيّؤ , أي: له صوتٌ كصوت المتقيّئ على سبيل المبالغة. ويستفاد منه مشروعيّة السّواك على اللسان طولاً , أمّا الأسنان فالأحبّ فيها أن تكون عرضاً , وفيه حديثٌ مرسلٌ عند أبي داود , وله شاهدٌ موصولٌ عند العقيليّ في " الضّعفاء ". وفيه. تأكيد السّواك , وأنّه لا يختصّ بالأسنان , وأنّه من باب التّنظيف والتّطيّب لا من باب إزالة القاذورات لكونه - صلى الله عليه وسلم - لَم يختف به , وبوّبوا عليه استياك الإمام بحضرة رعيّته

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخُفّين نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخُفّين عن الصّحابة اختلاف؛ لأنّ كلّ من روي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته. وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم روي عن أحد من فقهاء السّلف إنكاره إلاَّ عن مالك، مع أنّ الرّوايات الصّحيحة عنه مصرّحة بإثباته، وقد أشار الشّافعيّ في الأمّ إلى إنكار ذلك على المالكيّة، والمعروف المستقرّ عندهم الآن قولان: الأول: الجواز مطلقاً. ثانيهما: للمسافر دون المقيم. وهذا الثّاني ما في المدوّنة. وبه جزم ابن الحاجب، وصحّح الباجيّ الأوّل , ونقله عن ابن وهب، وعن ابن نافع في المبسوطة نحوه , وأنّ مالكاً إنّما كان يتوقّف فيه في خاصّة نفسه مع إفتائه بالجواز، وهذا مثل ما صحّ عن أبي أيّوب الصّحابيّ. وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيّهما أفضل. المسح على الخُفّين، أو نزعهما وغسل القدمين؟. قال: والذي أختاره أنّ المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والرّوافض. قال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السّنن أفضل من تركه. انتهى. وقال الشّيخ محيي الدّين: وقد صرّح جمع من الأصحاب بأنّ

الغسل أفضل بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السّنّة كما قالوه في تفضيل القصر على الإتمام. وقد صرّح جمع من الحفّاظ بأنّ المسح على الخُفّين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثّمانين ومنهم العشرة. وفي ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصريّ: حدّثني سبعون من الصّحابة بالمسح على الخُفّين.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون 23 - عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: كنت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ, فأهويتُ لأنزعَ خُفّيه , فقال: دعهما , فإنّي أدخلتُهما طاهرتين , فمسح عليهما. (¬1) قوله: (عن المغيرة بن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود الثقفي , وكان والياً على الكوفة من قِبَل معاوية من سنة إحدى وأربعين إلى أن مات وهو عليها سنة خمسين. واستناب عند موته ابنَه عروة. وقيل: استناب جرير بن عبد الله. قوله: (في سفر) وفي البخاري " أنّه كان في غزوة تبوك " على تردّد في ذلك من رواته. ولمالك وأحمد وأبي داود من طريق عبّاد بن زياد عن عروة بن المغيرة عن أبيه , أنّه كان في غزوة تبوك بلا تردّد، وأنّ ذلك كان عند ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (203 , 5463) ومسلم (274) من طريق الشعبي عن عروة بن المغيرة عن أبيه قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في سفر، فقال: أمعك ماء؟ قلت: نعم، فنزل عن راحلته، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء، فأفرغت عليه الإداوة، فغسل وجهه ويديه، وعليه جبة من صوف، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها، حتى أخرجهما من أسفل الجبة، فغسل ذراعيه، ثم مسح برأسه، ثم أهويت. فذكره وأخرجه البخاري (200 ,356 ,381 ,2761 ,4159 ,5462) ومسلم (274) من طرق أخرى مطولاً ومختصراً نحوه.

صلاة الفجر (¬1). قوله: (فأهويت) أي: مددت يدي، قال الأصمعيّ: أهويت بالشّيء إذا أومأت به، وقال غيره: أهويت قصدت الهواء من القيام إلى القعود. وقيل: الإهواء الإمالة. قال ابن بطّال: فيه خدمة العالم، وأنّ للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من عادة مخدومه قبل أن يأمره، وفيه الفهم عن الإشارة، وردّ الجواب عمّا يفهم عنها لقوله " فقال دعهما ". قوله: (فإنّي أدخلتهما) أي: القدمين قوله: (طاهرتين) كذا للأكثر، وللكشميهنيّ " وهما طاهرتان " ولأبي داود " فإنّي أدخلت القدمين الخُفّين وهما طاهرتان " , وللحميديّ في " مسنده ". قلت: يا رسولَ الله أيمسح أحدنا على خفّيه؟ قال: نعم. إذا أدخلهما وهما طاهرتان. ولابن خزيمة من حديث صفوان بن عسّال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخُفّين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا. قال ابن خزيمة: ذكرته للمزنيّ , فقال لي: حدّث به أصحابنا، فإنّه أقوى حجّة للشّافعيّ. انتهى وحديث صفوان. وإن كان صحيحاً , لكنّه ليس على شرط ¬

_ (¬1) وأخرجه مسلم أيضاً في الصحيح (274) من رواية عبّاد بن زياد به. وقد استدرك الشارح في المغازي , فعزاها لمسلم.

البخاريّ؛ لكنّ حديث الباب موافق له في الدّلالة على اشتراط الطّهارة عند اللّبس، وأشار المزنيّ بما قال إلى الخلاف في المسألة. ومحصّله: أنّ الشّافعيّ والجمهور حملوا الطّهارة على الشّرعيّة في الوضوء. وخالفهم داود , فقال: إذا لَم يكن على رجليه نجاسة عند اللّبس جاز له المسح. ولو تيمّم , ثمّ لبسهما لَم يبح له عندهم , لأنّ التّيمّم مبيح لا رافع، وخالفهم أصبغ. ولو غسل رجليه بنيّة الوضوء ثمّ لبسهما ثمّ أكمل باقي الأعضاء , لَم يبح المسح عند الشّافعيّ ومن وافقه على إيجاب التّرتيب، وكذا عند من لا يوجبه بناء على أنّ الطّهارة لا تتبعّض. لكن قال صاحب الهداية من الحنفيّة: شرط إباحة المسح لبسهما على طهارة كاملة. قال: والمراد بالكاملة وقت الحدث لا وقت اللّبس، في هذه الصّورة إذا كمّل الوضوء ثمّ أحدث جاز له المسح؛ لأنّه وقت الحدث كان على طهارة كاملة. انتهى. والحديث حجّة عليه , لأنّه جعل الطّهارة قبل لبس الخفّ شرطاً لجواز المسح، والمعلق بشرطٍ لا يصحّ إلاَّ بوجود ذلك الشّرط، وقد سلم أنّ المراد بالطّهارة الكاملة. ولو توضّأ مرتّباً وبقي غسل إحدى رجليه فلبس ثمّ غسل الثّانية ولبس. القول الأول: لَم يبح له المسح عند الأكثر.

القول الثاني: أجازه الثّوريّ والكوفيّون والمزنيّ صاحب الشّافعيّ ومطرّف صاحب مالك وابن المنذر وغيرهم , لصِدْق أنّه أدخل كُلاً من رجليه الخُفّين وهي طاهرة. وتعقّب: بأنّ الحكم المرتّب على التّثنية غير الحكم المرتّب على الوحدة، واستضعفه ابن دقيق العيد لأنّ الاحتمال باقٍ. قال: لكن إن ضمّ إليه دليل يدلّ على أنّ الطّهارة لا تتبعّض اتّجه. فوائد. الفائدة الأولى: المسح على الخُفّين خاصّ بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماعٍ. الفائدة الثانية: لو نزع خفّيه بعد المسح قبل انقضاء المدّة عند مَن قال بالتّوقيت. أعاد الوضوء عند أحمد وإسحاق وغيرهما. وغسل قدميه عند الكوفيّين والمزنيّ وأبي ثور، وكذا قال مالك والليث إلاَّ إن تطاول. وقال الحسن وابن أبي ليلى وجماعة: ليس عليه غسل قدميه، وقاسوه على من مسح رأسه ثمّ حلقه أنّه لا يجب عليه إعادة المسح، وفيه نظر. الفائدة الثالثة: لَم يخرج البخاريّ ما يدلّ على توقيت المسح، وقال به الجمهور. وخالف مالك في المشهور عنه فقال: يمسح ما لَم يخلع، وروي مثله عن عمر.

وأخرج مسلم التّوقيت من حديث عليّ - رضي الله عنه -. (¬1) كما تقدّم من حديث صفوان بن عسّال، وفي الباب عن أبي بكرة وصحَّحه الشّافعيّ وغيره. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (276) عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين , فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه. فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون 24 - عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كنت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1) فبَالَ , وتوضّأ , ومسح على خفّيه. مختصراً. (¬2) قوله: (كنت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فبال.) ولهما من طريق منصور عن أبي وائل عن حذيفة: رأيتني أنا والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نتماشى، فأتى سباطة قومٍ خلف حائطٍ، فقام كما يقوم أحدكم، فبال. وفي رواية لهما من طريق الأعمش عن أبي وائل " أتى سُباطة قومٍ , فبال قائماً ". والسباطة بضم المهملة بعدها موحدة. هي المزبلة والكناسة تكون بفناء الدور مرفقاً لأهلها , وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل. وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة. وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار ففيه إضرار. ¬

_ (¬1) في بعض النسخ زيادة (في سفر) وعليها شرح البسام في تيسير العلام. وهي خطأ فليست في الصحيحين. وسيأتي في كلام الشارح أن في بعض الروايات أن الواقعة في المدينة. (¬2) أخرجه البخاري (222 , 223 , 224 , 2339) ومسلم (273) من طرق عن أبي وائل عن حذيفة به. ليس في البخاري " المسح على الخُفّين " كما سيذكر الشارح رحمه الله. قال عبد الحق: لَم يذكر البخاري في روايته هذه الزيادة.

أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار. وهو صريحٌ رواية أبي عوانة في " صحيحه ". وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم. وهذا - وإن كان صحيح المعنى - لكن لَم يُعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن بطال: دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى؛ لأنه إذا جاز قائما فقاعدا أجوز. قلت: ويحتمل أن يكون أشار (¬1) بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما فإن فيه: بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً , فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة. وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائماً. أَلا تراه يقول في حديث عبد الرحمن بن حسنة: قعد يبول كما تبول المرأة. وقال في حديث حذيفة: فقام كما يقوم أحدكم. ودلَّ حديث عبد الرحمن المذكور على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخالفهم في ذلك فيقعد لكونه أستر وأبعد من مماسة البول. وهو حديث صحيح. ¬

_ (¬1) أي: البخاري حيث بوَّب على الحديث " باب البول قائماً وقاعداً "

صحَّحه الدارقطني وغيره , ويدلُّ عليه حديث عائشة قالت: ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً منذ أنزل عليه القرآن. رواه أبو عوانة في " صحيحه " والحاكم. قوله: (وتوضّأ) وللبخاري من رواية شعبة عن الأعمش " ثم دعا بماءٍ , فجئته بماء فتوضأ ". زاد مسلم وغيره من طرق عن الأعمش " فتنحَّيت فقال: ادنه. فدنوت حتى قمت عند عقبيه " , ولهما من رواية منصور " فانتبذت منه , فأشار إليَّ فجئته , فقمتُ عند عقبه حتى فرغ ". وفي رواية أحمد عن يحيى القطان " أتى سباطة قوم فتباعدت منه. فأدناني حتى صرتُ قريباً من عقبيه , فبال قائما ودعا بماء فتوضأ ومسح على خفيه " وكذا زاد مسلم وغيره فيه " ذكر المسح على الخُفّين " وهو ثابت أيضاً عند الإسماعيلي وغيره من طرق عن شعبة عن الأعمش. وزاد عيسى بن يونس فيه عن الأعمش. أنَّ ذلك كان بالمدينة. أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بإسناد صحيح. وزعم في الاستذكار: أنَّ عيسى تفرد به. وليس كذلك، فقد رواه البيهقي من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن الأعمش كذلك , وله شاهد من حديث عصمة بن مالك سنذكره بعد. واستدل به على جواز المسح في الحضر , وهو ظاهر. ولعلَّ

البخاري اختصره لتفرد الأعمش به , فقد روى ابن ماجه من طريق شعبة , أنَّ عاصماً رواه له عن أبي وائل عن المغيرة , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قومٍ فبال قائماً. قال عاصم: وهذا الأعمش يرويه عن أبي وائل عن حذيفة وما حفظه. يعني: أنَّ روايته هي الصواب. قال شعبة: فسألت عنه منصوراً فحدثنيه عن أبي وائل عن حذيفة يعني كما قال الأعمش , لكن لَم يذكر فيه المسح، فقد وافق منصورٌ الأعمشَ على قوله عن حذيفة دون الزيادة. ولَم يلتفت مسلم إلى هذه العلة بل ذكرها في حديث الأعمش؛ لأنها زيادة من حافظ. وقال الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصحُّ، يعني حديثه عن المغيرة. وهو كما قال. وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصماً على قوله عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما فيصح القولان معاً، لكن من حيث الترجيح رواية الأعمش ومنصور لاتفاقهما أصحُّ من رواية عاصم وحماد. لكونهما في حفظهما مقال. وقوله " فانتبذت " بالنون والذال المعجمة. أي: تنحَّيت. يقال: جلس فلان نبذة بفتح النون وضمها , أي: ناحية. وقوله " فأشار إليَّ " يدل على أنه لَم يبعد منه بحيث لا يراه. وإنما صنع ذلك ليجمع بين المصلحتين: عدم مشاهدته في تلك الحالة وسماع ندائه لو كانت له حاجة، أو رؤية إشارته إذا أشار له

وهو مستدبره. وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول؛ لأن هذه الرواية بينت أن قوله في رواية مسلم " ادنه " كان بالإشارة لا باللفظ. وأما مخالفته - صلى الله عليه وسلم - لِمَا عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظارة , فقد قيل فيه: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولاً بمصالح المسلمين. فلعله طال عليه المجلس فاحتاج إلى البول فلو أبعد لتضرر. واستدنى حذيفة ليستره من خلفه من رؤية من لعله يمر به وكان قدامه مستوراً بالحائط، أو لعله فعله لبيان الجواز. ثم هو في البول وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولِمَا يقترن به من الرائحة. والغرض من الإبعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض سكك المدينة. فانتهى إلى سباطة قوم , فقال: يا حذيفة استرني. فذكر الحديث. وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة , وكان حذيفة لَمّا وقف خلفه عند عقبه استدبره. وظهر أيضاً أنَّ ذلك كان في الحضر لا في السفر. ويستفاد من هذا الحديث. دفع أشد المفسدتين بأخفهما والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لَم يمكنا

معا. وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلمَّا حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لَم يؤخره حتى يبعد كعادته لِمَا يترتب على تأخيره من الضرر فراعى أهم الأمرين. وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه ليستره من المارة على مصلحة تأخيره عنه إذ لَم يمكن جمعهما. تكميل: زاد الشيخان في أوله عن أبى وائل , قال: كان أبو موسى الأشعرى يشدِّد في البول , ويقول: إنَّ بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوبَ أحدهم قرضه. فقال حذيفة: ليته أمسك. فذكر الحديث. للإسماعيلي " لوددتُ أنَّ صاحبكم لا يشدد هذا التشديد ". وإنما احتج حذيفة بهذا الحديث؛ لأن البائل عن قيام قد يتعرض للرشاش ولَم يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الاحتمال , فدلَّ على أنَّ التشديد مخالف للسنة. واستدل به لمالك في الرخصة في مثل رءوس الإبر من البول. وفيه نظرٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة لَم يصل إلى بدنه منه شيء. وإلى هذا أشار ابن حبان في ذكر السبب في قيامه. قال: لأنه لَم يجد مكاناً يصلح للقعود فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان عالياً فأمن أن يرتد إليه شيء من بوله. وقيل: لأن السباطة رخوة يتخللها البول فلا يرتد إلى البائل منه شيء. وقيل: إنما بال قائماً؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت

ففعل ذلك؛ لكونه قريبا من الديار. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر - رضي الله عنه - قال: البول قائماً أحصن للدبر. وقيل: السبب في ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد. أنَّ العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك فلعله كان به. وروى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: إنما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً لِجُرح كان في مأبضه. والمأبض: بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة باطن الركبة. فكأنه لَم يتمكن لأجله من القعود , ولو صحَّ هذا الحديث لكان فيه غِنى عن جميع ما تقدم , لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي. والأظهر. أنه فعل ذلك لبيان الجواز , وكان أكثر أحواله البول عن قعود. والله أعلم. وسلك أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين فيه مسلكاً آخر. فزعما أنَّ البول عن قيام منسوخ، واستدلاّ عليه بحديث عائشة الذي قدمناه " ما بال قائماً منذ أنزل عليه القرآن " وبحديثها أيضا " من حدَّثكم أنه كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلاَّ قاعداً. (¬1) والصواب أنه غير منسوخ. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (12) والنسائي (29) وابن ماجه (307) من حديث شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. وفي سنده شريك.

والجواب عن حديث عائشة أنَّه مُستندٌ إلى علمها. فيحمل على ما وقع منه في البيوت , وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه , وقد حفظه حذيفة - وهو من كبار الصحابة - وقد بينا أنَّ ذلك كان بالمدينة فتضمَّن الرد على ما نفته من أنَّ ذلك لَم يقع بعد نزول القرآن. وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم , أنهم بالوا قياماً. وهو دالٌّ على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش. والله أعلم. ولَم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عنه شيءٌ كما بينتُه في أوائل شرح الترمذي، والله أعلم.

باب في المذي وغيره

بابٌ في المذي وغيره الحديث الخامس والعشرون 25 - عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - , قال: كنت رجلاً مذَّاءً , فاستحييتُ أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته منّي , فأمرتُ المقداد بن الأسود فسأَلَه , فقال: يغسلُ ذكرَه , ويتوضّأ. (¬1) وللبخاريّ. اغسل ذكرك وتوضّأ (¬2). ولمسلمٍ: توضّأ وانضح فرجك. (¬3) قوله: (عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -) أي ابن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو الحسن. وهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقيق أبيه. واسمه عبد مناف على الصحيح. ولد قبل البعثة بعشر سنين على الراجح , وكان قد ربَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من صغره لقصة مذكورة في السيرة النبوية، فلازمه من صغره فلم يفارقه إلى أن مات. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت ابنة عمة أبيه وهي أول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (266) ومسلم (303) من طريق أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي - رضي الله عنه - به. وأخرجه البخاري (132 , 176) ومسلم (303) من طريق منذر بن يعلى الثوري عن محمد ابن الحنفية عن عليٍّ - رضي الله عنه -. نحوه. (¬2) الصواب (توضأ وغسل ذكرك). كما سينبّه عليه الشارح. (¬3) أخرجه مسلم (303) من طريق سليمان بن يسار عن ابن عباس عن عليٍّ - رضي الله عنه -.

هاشمية ولدت لهاشمي، وقد أسلمتْ وصحِبتْ وماتتْ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لَم يرِد في حقِّ أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي. وكأن السبب في ذلك أنه تأخَّر، ووقع الاختلاف في زمانه وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه من كثرة من كان بينها من الصحابة رداً على من خالفه، فكان الناس طائفتين، لكن المبتدعة قليلة جداً. ثم كان من أمرِ عليٍّ ما كان فنجمت طائفة أخرى حاربوه، ثم اشتدَّ الْخطْب فتنقصّوه , واتخذوا لعنَه على المنابر سُنةً، ووافقهم الخوارج على بغضه. وزادوا حتى كفَّروه، مضموماً ذلك منهم إلى عثمان، فصار الناس في حق علي ثلاثة: أهل السنة والمبتدعة من الخوارج والمحاربين له من بني أمية وأتباعهم. فاحتاج أهل السنة إلى بثِّ فضائله فكثر الناقل لذلك لكثرة من يخالف ذلك، وإلاَّ فالذي في نفس الأمر أنَّ لكل من الأربعة من الفضائل إذا حُرِّر بميزان العدل لا يخرج عن قول أهل السنة والجماعة أصلا. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن عروة قال: أسلم عليٌّ وهو ابن ثمان سنين. وقال ابن إسحاق: عشر سنين. وهذا أرجحها، وقيل غير ذلك. وكان قَتْلُ عليٍّ - رضي الله عنه - سنة أربعين. قوله: (مذّاء) صيغة مبالغة من المذي. يقال: مذى يمذي , مثل

مضى يمضي ثلاثيّاً , ويقال أيضاً: أمذى يمذي بوزن أعطى يعطي رباعيّاً. وفي المذي لغات. أفصحها بفتح الميم وسكون الذّال المعجمة وتخفيف الياء ثمّ بكسر الذّال وتشديد الياء. وهو ماءٌ أبيض رقيقٌ لزجٌ يخرج عند الملاعبة , أو تذكّر الجماع , أو إرادته. وقد لا يحسّ بخروجه. قوله: (لمكان ابنته) في رواية مسلمٍ من طريق ابن الحنفيّة عن عليّ " من أجل فاطمة رضي الله عنها ". قوله: (توضّأ) هذا الأمر بلفظ الإفراد يشعر بأنّ المقداد سأل لنفسه , ويحتمل: أن يكون سأل لمبهمٍ أو لعليٍّ , فوجّه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الخطاب إليه. والظّاهر أنّ عليّاً كان حاضر السّؤال , فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند عليّ , ولو حملوه على أنّه لَم يحضر لأوردوه في مسند المقداد. ويؤيّده ما في رواية النّسائيّ من طريق أبي بكر بن عيّاش عن أبي حصينٍ في هذا الحديث عن عليّ قال: فقلت لرجلٍ جالسٍ إلى جنبي: سلْه فسأله. ووقع في رواية مسلم " فقال: يغسل ذكره ويتوضّأ " بلفظ الغائب , فيحتمل أن يكون سؤال المقداد وقع على الإبهام , وهو الأظهر ففي مسلمٍ أيضاً " فسأله عن المذي يخرج من الإنسان " , وفي الموطّأ

نحوه (¬1). ووقع في روايةٍ لأبي داود والنّسائيّ وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حصين بن قبيصةٍ عن عليّ قال: كنت رجلاً مذّاء , فجعلت أغتسل منه في الشّتاء حتّى تشقّق ظهري , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعل. ولأبي داود وابن خزيمة من حديث سهل بن حنيفٍ , أنّه وقع له نحو ذلك , وأنّه سأل عن ذلك بنفسه. ووقع في روايةٍ للنّسائيّ , أنّ عليّاً قال: أمرت عمّاراً أن يسأل. وفي روايةٍ لابن حبّان والإسماعيليّ , أنّ عليّاً قال: سألت. وجمع ابن حبّان بين هذا الاختلاف , بأنّ عليّاً أمر عمّاراً أن يسأل , ثمّ أمر المقداد بذلك , ثمّ سأل بنفسه. وهو جمعٌ جيّدٌ إلاَّ بالنّسبة إلى آخره؛ لكونه مغايراً لقوله. إنّه استحيى من السّؤال بنفسه لأجل فاطمة , فيتعيّن حمله على المجاز بأنّ بعض الرّواة أطلق أنّه سأل لكونه الآمر بذلك , وبهذا جزم ¬

_ (¬1) الموطأ برقم (53) من طريق سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود، أنَّ علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي، ماذا عليه؟ .. الحديث " وأخرجه الإمام أحمد (6/ 5) وأبو داود في " السنن " (207) والنسائي في " المجتبى " (1/ 97) وابن ماجه (505) وابن خزيمة في " صحيحه " (21) وابن حبان في " صحيحه " (1101) وغيرهم من طرق عن مالك به. وسليمان بن يسار لَم يسمع من المقداد - رضي الله عنه -. ولَم يره كما قال ابن عبد البر وغيره. وقوله: (إذا دنا من أهله) ليست في الصحيحين , وهي تبيُّن السبب في وجود المذي , وأنه بسبب الملاعبة والدنو من أهله لا مطلقاً.

الإسماعيليّ ثمّ النّوويّ. ويؤيّد أنّه أمر كُلاًّ من المقداد وعمّاراً بالسّؤال عن ذلك , ما رواه عبد الرّزّاق من طريق عائش بن أنس قال: تذاكر عليٌّ والمقداد وعمّار المذي , فقال عليٌّ: إنّني رجل مذّاء , فاسألا عن ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فسأله أحد الرّجلين. وصحّح ابن بشكوال , أنّ الذي تولى السّؤال عن ذلك هو المقداد , وعلى هذا فنسبة عمّار إلى أنّه سأل عن ذلك محمولة على المجاز أيضاً؛ لكونه قصده , لكن تولى المقداد الخطاب دونه. والله أعلم. واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - " توضّأ " على أنّ الغسل لا يجب بخروج المذي , وصرّح بذلك في روايةٍ لأبي داود وغيره وهو إجماع. وعلى أنّ الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول كما استدل البخاري به في باب " من لَم ير الوضوء إلاَّ من المخرجين ". وحكى الطّحاويّ عن قومٍ أنّهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرّد خروجه , ثمّ ردّ عليهم بما رواه من طريق عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن عليّ قال: سئل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن المذي. فقال: فيه الوضوء , وفي المنيّ الغسل. فعرف بهذا أنّ حكم المذي حكم البول وغيره من نواقض الوضوء , لا أنّه يوجب الوضوء بمجرّده. قوله: (اغسل ذكرك , وتوضأ) وقع في البخاريّ تقديم الأمر بالوضوء على غسله. ووقع في العمدة نسبة ذلك إلى البخاريّ بالعكس , لكنّ الواو لا

ترتّب فالمعنى واحد. وهي رواية الإسماعيليّ. فيجوز تقديم غسله على الوضوء وهو أولى ويجوز تقديم الوضوء على غسله , لكن من يقول بنقض الوضوء بمسّه , يشترط أن يكون ذلك بحائل. واستدل به ابن دقيق العيد على تعيّن الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأنّ ظاهره يعيّن الغسل، والمعيّن لا يقع الامتثال إلاَّ به , وهذا ما صحَّحه النّوويّ في شرح مسلم , وصحّح في باقي كتبه جواز الاقتصار إلحاقاً بالبول وحملاً للأمر بغسله على الاستحباب , أو على أنّه خرج مخرج الغالب، وهذا المعروف في المذهب. واستدل به بعض المالكيّة والحنابلة على إيجاب استيعابه بالغسل عملاً بالحقيقة (¬1) , لكنّ الجمهور نظروا إلى المعنى , فإنّ الموجب ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية في " شرح العمدة " (1/ 102) بعد أن ذكر الروايات عن الإمام أحمد فيما يُغسل من المذي: الثالثة: يغسل جميع الذكر والأنثيين. اختارها أبو بكر والقاضي. لما روي عن علي قال: كنت مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد فسأله، فقال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ. رواه أحمد وأبو داود. فإن قيل: يرويه هشام بن عروة عن أبيه عن علي. وهو لم يدركه، قلنا: مُرسِلُه أحدُ أجلاء الفقهاء السبعة. رواه ليبين الحكم المذكور فيه، وهذا من أقوى المراسيل، وقد روى عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بعد الماء فقال: ذاك المذي , وكلُّ فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ. رواه أبو داود. ولأنه خارج بشهوة فجاز أن يجب بغسله أكثر من محله كالمني، وذلك لأنَّ الأنثيين وعاؤه فغسلهما يقطعه ويزيل أثره. انتهى وقال ابن حجر في " التلخيص " (1/ 206): ورواه أبو داود من طريق عروة عن علي، وفيه يغسل أنثييه وذكره، وعروة لم يسمع من علي، لكن رواه أبو عوانة في " صحيحه " من حديث عَبيدة عن علي بالزيادة، وإسناده لا مطعن فيه. انتهى. قلت: مما يقوّي القول بغسل الأنثيين أن المذيَّ ربما خرج من الرجل دون انتصاب أو يخرج بالانتصاب ثم يسترخي الذكر فيمس الأنثيين دون أن يشعر الرجل. والله أعلم

لغسله إنّما هو خروج الخارج , فلا تجب المجاوزة إلى غير محله. ويؤيّده ما عند الإسماعيليّ في روايةٍ " فقال: توضّأ واغسله " فأعاد الضّمير على المذي , ونظير هذا قوله " من مسّ ذكره فليتوضّأ " فإنّ النّقض لا يتوقّف على مسّ جميعه. واختلف القائلون بوجوب غسل جميعه , هل هو معقول المعنى أو للتّعبّد؟. فعلى الثّاني. تجب النّيّة فيه. قال الطّحاويّ: لَم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كلّه , بل ليتقلَّص فيبطل خروجه كما في الضّرع إذا غسل بالماء البارد يتفرّق لَبَنُه إلى داخل الضّرع , فينقطع بخروجه. واستدل به أيضاً. على نجاسة المذي , وهو ظاهرٌ , وخرّج ابن عقيل الحنبليّ من قول بعضهم: إنّ المذي من أجزاء المنيّ روايةً بطهارته. وتعقّب: بأنّه لو كان منيّاً لوجب الغسل منه. واستدل به على وجوب الوضوء على من به سلس المذي؛ للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدّالة على الكثرة. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ الكثرة هنا ناشئةٌ عن غلبة الشّهوة مع

صحّة الجسد بخلاف صاحب السّلس فإنّه ينشأ عن عِلَّة في الجسد , ويمكن أن يقال: أَمَرَ الشّارع بالوضوء منه ولَم يستفصل , فدلَّ على عموم الحكم. واستدل به على قبول خبر الواحد , وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع. وفيهما نظرٌ. لِمَا قدّمناه من أنّ السّؤال كان بحضرة عليّ , ثمّ لو صحّ أنّ السّؤال كان في غيبته , لَم يكن دليلاً على المدّعى , لاحتمال وجود القرائن التي تحفّ الخبر فترقّيه عن الظّنّ إلى القطع , قاله القاضي عياض. وقال ابن دقيق العيد: المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد , أنّه صورةٌ من الصّور التي تدلّ , وهي كثيرةٌ تقوم الحجّة بجملتها لا بفردٍ معيّنٍ منها. وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء , وقد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل بحضرة موكّله , وفيه ما كان الصّحابة عليه من حرمة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره. وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يستحى منه عرفاً , وحسن المعاشرة مع الأصهار , وترك ذِكْر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها. وقد استدل البخاري به في العلم لمن استحيى فأمر غيره بالسّؤال؛ لأنّ فيه جمعاً بين المصلحتين: استعمال الحياء وعدم التّفريط في معرفة الحكم.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون 26 - عن عبّاد بن تميمٍ عن عبد الله بن زيدٍ بن عاصمٍ المازنيّ - رضي الله عنه - (¬1) , قال: شُكي إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الرّجل يُخيَّل إليه أنّه يجد الشّيء في الصّلاة , فقال: لا ينصرفْ حتّى يسمعَ صوتاً , أو يجدَ ريْحاً. (¬2) قوله: (عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد) وللبخاري. عن عباد عن عمه , هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري. سَمَّاه مسلمٌ وغيره في روايتهم لهذا الحديث. واختلف. هل هو عمُّ عبادٍ لأبيه أو لأمه؟. قوله: (شُكي) وللبخاري " أنّه شكا " كذا في روايتنا " شكا " بألفٍ , ومقتضاه أنّ الرّاوي هو الشّاكي، وصرّح بذلك ابن خزيمة ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته - رضي الله عنه - رقم (9) (¬2) أخرجه البخاري (137, 175, 1951) ومسلم (361) من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب وعبَّاد عن عمه. ثم قال البخاري: وقال ابن أبي حفصة، عن الزهري: لا وضوء إلا فيما وجدتَ الريح أو سمعتَ الصوت. قال الحافظ في " الفتح " (4/ 296): وصله أحمد والسراج. وقد اختصر ابن أبي حفصة هذا المتن اختصاراً مجحفاً. فإنَّ لفظه يعمُّ ما إذا وقع الشك داخل الصلاة وخارجها. وروايةُ غيرِه من أَثبات أصحاب الزهري تقتضي تخصيص ذلك بمن كان داخل الصلاة. ووجهه أن خروج الريح من المصلِّي هو الذي يقع له غالباً بخلاف غيره من النواقض فإنه لا يهجم عليه إلا نادراً. وليس المراد حصر نقض الوضوء بوجود الريح. انتهى وسيأتي خلاف العلماء في مسألة التفريق بين داخل الصلاة وخارجها.

عن عبد الجبّار بن العلاء عن سفيان. ولفظه عن عمّه عبد الله بن زيد قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرّجل. ووقع في بعض الرّوايات " شُكي " بضمّ أوّله على البناء للمفعول، وعلى هذا فالهاء في أنّه ضمير الشّأن. ووقع في مسلم " شُكي " بالضّمّ أيضاً كما ضبطه النّوويّ. وقال: لَم يسمّ الشّاكي، قال: وجاء في رواية البخاريّ أنّه الرّاوي. قال: ولا ينبغي أن يتوهّم من هذا أنّ " شكا " بالفتح أي: في رواية مسلم، وإنّما نبّهت على هذا , لأنّ بعض النّاس قال: إنّه لَم يظهر له كلام النّوويّ. قوله: (الرّجل) بالضّمّ على الحكاية. وهو وما بعده في موضع النّصب. قوله: (يُخيّل) بضمّ أوّله وفتح المعجمة وتشديد الياء الأخيرة المفتوحة، وأصله من الخيال، والمعنى يظنّ، والظّنّ هنا أعمّ من تساوي الاحتمالين أو ترجيح أحدهما على ما هو أصل اللّغة من أنّ الظّنّ خلاف اليقين. قوله: (يَجدُ الشّيءَ) أي: الحدث خارجاً منه، وصرّح به الإسماعيليّ ولفظه " يخيّل إليه في صلاته أنّه يخرج منه شيء " وفيه العدول عن ذكر الشّيء المستقذر بخاصّ اسمه إلاَّ للضّرورة. قوله: (في الصّلاة) تمسّك بعض المالكيّة بظاهره. فخصّوا الحكم بمن كان داخل الصّلاة، وأوجبوا الوضوء على من كان خارجها،

وفرّقوا بالنّهي عن إبطال العبادة، والنّهي عن إبطال العبادة متوقّف على صحّتها، فلا معنى للتّفريق بذلك؛ لأنّ هذا التّخيّل إن كان ناقضاً خارج الصّلاة فينبغي أن يكون كذلك فيها كبقيّة النّواقض. قوله: (لا ينصرف) بالجزم على النّهي، ويجوز الرّفع على أنّ " لا " نافية. وللبخاري " لاينفتل أو لا ينصرف " هو شكّ من الرّاوي، وكأنّه من عليّ؛ لأنّ الرّواة غيره رووه عن سفيان بلفظ " لا ينصرف " من غير شكّ. قوله: (صوتاً) أي: من مخرجه. قوله: (أو يجد) أو للتّنويع , وعبّر بالوجدان دون الشّمّ ليشمل ما لو لمس المحلّ ثمّ شمّ يده. ولا حجّة فيه لمن استدل على أنّ لمس الدّبر لا ينقض , لأنّ الصّورة تحمل على لَمْس ما قاربه لا عينه. ودلَّ حديث الباب على صحّة الصّلاة ما لَم يتيقّن الحدث، وليس المراد تخصيص هذين الأمرين باليقين؛ لأنّ المعنى إذا كان أوسع من اللفظ كان الحكم للمعنى , قاله الخطّابيّ. وقال النّوويّ: هذا الحديث أصل في حكم بقاء الأشياء على أصولها حتّى يتيقّن خلاف ذلك، ولا يضرّ الشّكّ الطّارئ عليها. وأخذ بهذا الحديث جمهور العلماء. وروي عن مالك النّقض مطلقاً، وروي عنه النّقض خارج الصّلاة دون داخلها، وروي هذا التّفصيل عن الحسن البصريّ.

والأوّل مشهور مذهب مالك قاله القرطبيّ، وهو رواية ابن القاسم عنه. وروى ابن نافع عنه. لا وضوء عليه مطلقاً كقول الجمهور، وروى ابن وهب عنه: أحبّ إليّ أن يتوضّأ. ورواية التّفصيل لَم تثبت عنه , وإنّما هي لأصحابه. وحمل بعضهم الحديث على من كان به وسواس. وتمسّك بأنّ الشّكوى لا تكون إلاَّ عن عِلَّة. وأجيب: بما دلَّ على التّعميم، وهو حديث أبي هريرة عند مسلم. ولفظه: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا. فلا يخرجنّ من المسجد حتّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. وقوله: فلا يخرجنّ من المسجد. أي: من الصّلاة، وصرّح بذلك أبو داود في روايته. وقال العراقيّ: ما ذهب إليه مالك راجح؛ لأنّه احتاط للصّلاة وهي مقصد، وألغى الشّكّ في السّبب المبرئ، وغيره احتاط للطّهارة وهي وسيلة , وألغى الشّكّ في الحدث النّاقض لها، والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل. وجوابه: أنّ ذلك من حيث النّظر قويّ؛ لكنّه مغاير لمدلول الحديث , لأنّه أمر بعدم الانصراف إلى أن يتحقّق. وقال الخطّابيّ: يستدلّ به لمن أوجب الحدّ على من وجد منه ريح الخمر لأنّه اعتبر وجدان الرّيح ورتّب عليه الحكم، ويمكن الفرق بأنّ الحدود تدرأ بالشّبهة والشّبهة هنا قائمة، بخلاف الأوّل فإنّه متحقّق.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون 27 - عن أمّ قيس بنت محصنٍ الأسديّة , أنّها أتت بابنٍ له صغيرٍ , لَم يأكل الطّعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجْلَسه في حجره , فبال على ثوبه , فدعا بماءٍ فنضحه على ثوبه , ولَم يغسله. (¬1) الحديث الثامن والعشرون 28 - وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتي بصبيٍّ , فبال على ثوبه , فدعا بماءٍ , فأتبعه إيّاه. (¬2) ولمسلمٍ: فأتبعه بوله , ولَم يغسله. (¬3) قوله: (عن أمّ قيس) قال ابن عبد البرّ: اسمها جذامة يعني بالجيم والمعجمة. وقال السّهيليّ: اسمها آمنة. وهي أخت عكّاشة بن محصن الأسديّ , وكانت من المهاجرات الأول كما عند مسلم من طريق يونس عن ابن شهابٍ عن عبيد الله بن عبد الله عن أم قيس. في هذا الحديث. وليس لها في الصّحيحين غيره وغير حديثٍ آخر في الطّبّ (¬4) , وفي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (221) ومسلم (287) من طريق ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها به. (¬2) أخرجه البخاري (220 , 5151 , 5656 , 5994) ومسلم (286) من طرق هشام بن عروة عن عائشة به. (¬3) مسلم (286). وهو عند البخاري (5994) بلفظ " فأتبعه إياه ولم يغسله " (¬4) أخرجه البخاري (5715) ومسلم (2214) عنها , أنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن لها قد أعْلَقتْ عليه من العُذرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: على ما تدْغَرْن أولادكن بهذا العِلاق، عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب " يريد الكست، وهو العود الهندي

كلٍّ منهما قصّة لابنها , ومات ابنها في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو صغيرٌ , كما رواه النّسائيّ. ولَم أقف على تسميته. قوله: (لَم يأكل الطّعام) المراد بالطّعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه والتّمر الذي يحنّك به والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها , فكان المراد أنّه لَم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال , هذا مقتضى كلام النّوويّ في شرح مسلم وشرح المهذّب وأطلق في الرّوضة - تبعاً لأصلها - أنّه لَم يطعم ولَم يشرب غير اللبن. وقال في نكت التّنبيه: المراد أنّه لَم يأكل غير اللبن وغير ما يحنّك به وما أشبهه. وحمل الموفّق الحمويّ في " شرح التّنبيه " قوله " لَم يأكل " على ظاهره , فقال: معناه لَم يستقل بجعل الطّعام في فيه. والأوّل أظهر , وبه جزم الموفّق بن قدامة وغيره. وقال ابن التّين: يحتمل: أنّها أرادت أنّه لَم يتقوّت بالطّعام ولَم يستغن به عن الرّضاع. ويحتمل: أنّها إنّما جاءت به عند ولادته ليحنّكه - صلى الله عليه وسلم - , فيُحمل النّفي على عمومه , ويؤيّد ما تقدّم أنّه للبخاري

في العقيقة. (¬1) قوله: (فأجلسه) أي: وضعه إن قلنا إنّه كان لَمّا ولد، ويحتمل: أن يكون الجلوس حصل منه على العادة , إن قلنا كان في سنّ من يحبو كما في قصّة الحسن. قوله: (على ثوبه) أي: ثوب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وأغرب ابن شعبان من المالكيّة , فقال: المراد به ثوب الصّبيّ , والصّواب الأوّل. قوله: (فنضحه) ولمسلمٍ من طريق الليث عن ابن شهابٍ " فلم يزد على أن نضح بالماء " وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهابٍ " فرشّه " زاد أبو عوانة في صحيحه " عليه ". ولا تخالف بين الرّوايتين - أي بين نضح ورشّ -؛ لأنّ المراد به أنّ الابتداء كان بالرّشّ وهو تنقيط الماء , وانتهى إلى النّضح وهو صبّ الماء. ويؤيّده رواية مسلمٍ في حديث عائشة من طريق جرير عن هشام " فدعا بماءٍ فصبّه عليه " ولأبي عوانة " فصبّه على البول يتبعه إيّاه ". قوله: (ولَم يغسله) ادّعى الأصيليّ أنّ هذه الجملة من كلام ابن شهابٍ راوي الحديث , وأنّ المرفوع انتهى عند قوله " فنضحه ". قال: وكذلك روى معمر عن ابن شهابٍ , وكذا أخرجه ابن أبي شيبة قال ¬

_ (¬1) هذا مصير من الشارح أنَّ حديث أم قيس هو نفسه حديث عائشة , وقد أورد البخاري في " صحيحه " حديث عائشة برقم (5468) في كتاب العقيقة " باب تسمية المولود غداة يولد، لمن لَم يعق عنه، وتحنيكه ".

" فرشّه " لَم يزد على ذلك. انتهى. وليس في سياق معمرٍ ما يدلّ على ما ادّعاه من الإدراج , وقد أخرجه عبد الرّزّاق عنه بنحو سياق مالك , لكنّه لَم يقل " ولَم يغسله " وقد قالها مع مالكٍ الليثُ وعمرو بنُ الحارث ويونسُ بن يزيد كلّهم عن ابن شهابٍ. أخرجه ابن خزيمة والإسماعيليّ وغيرهما من طريق ابن وهبٍ عنهم , وهو لمسلمٍ عن يونس وحده. نعم. زاد معمرٌ في روايته قال: قال ابن شهابٍ: فمضت السّنّة أن يُرشّ بول الصّبيّ ويُغسل بول الجارية. فلو كانت هذه الزّيادة هي التي زادها مالك ومن تبعه , لأمكن دعوى الإدراج , لكنّها غيرها فلا إدراج. وأمّا ما ذكره عن ابن أبي شيبة فلا اختصاص له بذلك , فإنّ ذلك لفظ رواية ابن عيينة عن ابن شهابٍ , وقد ذكرناها عن مسلم وغيره وبيّنّا أنّها غير مخالفةٍ لرواية مالك. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد: النّدب إلى حسن المعاشرة والتّواضع والرّفق بالصّغار , وتحنيك المولود , والتّبرّك بأهل الفضل (¬1) وحمل الأطفال إليهم حال الولادة وبعدها , وحكم بول الغلام والجارية قبل ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (1/ 426): هذا فيه نظرٌ. والصواب أنَّ هذا خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقاس عليه غيره. لِمَا جعل الله فيه من البركة , وخصّه به دون غيره , ولأَنَّ الصحابة لَم يفعلوا ذلك مع غيره - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم الناس بالشرع , فوجب التأسِّي بهم , ولأنّ جواز مثل هذا لغيره - صلى الله عليه وسلم - قد يفضي إلى الشرك. فتنبّه

أن يطعما وهو مقصود الباب واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب هي أوجهٌ للشّافعيّة: القول الأول: وهو أصحّها: الاكتفاء بالنّضح في بول الصّبيّ لا الجارية، وهو قول عليّ وعطاء والحسن والزّهريّ وأحمد وإسحاق وابن وهبٍ وغيرهم. ورواه الوليد بن مسلم عن مالكٍ , وقال أصحابه: هي روايةٌ شاذّةٌ. القول الثّاني: يكفي النّضح فيهما , وهو مذهب الأوزاعيّ وحكي عن مالكٍ والشّافعيّ، وخصّص ابن العربيّ النّقل في هذا بما إذا كانا لَم يدخل أجوافهما شيء أصلاً. القول الثّالث: هما سواء في وجوب الغسل , وبه قال الحنفيّة والمالكيّة. قال ابن دقيق العيد: اتّبعوا في ذلك القياس , وقالوا المراد بقولها " ولَم يغسله " أي غسلاً مبالغاً فيه وهو خلاف الظّاهر , ويبعده ما ورد في الأحاديث الأُخر - يعني التي ستأتي (¬1) - من التّفرقة بين بول الصّبيّ والصّبيّة , فإنّهم لا يفرّقون بينهما. قال: وقد ذكر في التّفرقة بينهما أوجهٌ: منها ما هو ركيك، وأقوى ذلك ما قيل: إنّ النّفوس أعلق بالذّكور ¬

_ (¬1) انظرها في شرح حديث عائشة الآتي.

منها بالإناث , يعني: فحصلت الرّخصة في الذّكور لكثرة المشقّة. واستدل به بعض المالكيّة على أنّ الغسل لا بدّ فيه من أمرٍ زائدٍ على مجرّد إيصال الماء إلى المحل. قلت: وهو مشكلٌ عليهم؛ لأنّهم يدّعون أنّ المراد بالنّضح هنا الغسل. تنبيهٌ: قال الخطّابيّ: ليس تجويز من جوّز النّضح من أجل أنّ بول الصّبيّ غير نجس , ولكنّه لتخفيف نجاسته. انتهى. وأثبت الطّحاويّ الخلاف , فقال: قال قومٌ بطهارة بول الصّبيّ قبل الطّعام، وكذا جزم به ابن عبد البرّ وابن بطّالٍ ومن تبعهما عن الشّافعيّ وأحمد وغيرهما , ولَم يَعرف ذلك عن الشّافعيّة ولا الحنابلة. وقال النّوويّ: هذه حكاية باطلة. انتهى وكأنّهم أخذوا ذلك من طريق اللازم , وأصحاب المذهب أعلم بمراده من غيرهم. والله أعلم. قوله في حديث عائشة: (بصبي) جمعه صبيان بكسر الصّاد. ويجوز ضمّها , جمع صبيّ , أمّا حكمه. وهل يلتحق به بول الصّبايا - جمع صبيّة - أم لا؟. وفي الفرق أحاديث ليست على شرط البخاري: منها حديث عليّ مرفوعاً , في بول الرّضيع: ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية. أخرجه أحمد وأصحاب السّنن إلاَّ النّسائيّ من

طريق هشام عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عنه. قال قتادة: هذا ما لَم يطعما الطّعام. وإسناده صحيح. ورواه سعيد عن قتادة فوقفه , وليس ذلك بعلةٍ قادحةٍ. ومنها حديث لبابة بنت الحارث مرفوعاً: إنّما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذّكر. أخرجه أحمد وابن ماجه وصحَّحه ابن خزيمة وغيره. ومنها حديث أبي السّمح نحوه بلفظ " يرشّ " رواه أبو داود والنّسائيّ، وصحَّحه ابن خزيمة أيضاً. وقوله: (بصبيٍّ) يظهر لي أنّ المراد به ابن أمّ قيسٍ المذكور قبله. ويحتمل: أن يكون الحسن بن عليّ أو الحسين، فقد روى الطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث أمّ سلمة بإسنادٍ حسنٍ , قالت: بال الحسن - أو الحسين - على بطن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركه حتّى قضى بوله , ثمّ دعا بماءٍ فصبّه عليه. ولأحمد عن أبي ليلى نحوه. ورواه الطّحاويّ من طريقه , قال: فجيء بالحسن. ولَم يتردّد، وكذا للطّبرانيّ عن أبي أمامة. وإنّما رجّحت أنّه غيره؛ لأنّه عند البخاري في العقيقة من طريق يحيى القطّان عن هشام بن عروة , أتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بصبيٍّ يحنّكه. وفي قصّته أنّه بال على ثوبه. وأمّا قصّة الحسن ففي حديث أبي ليلى وأمّ سلمة , أنّه بال على بطنه - صلى الله عليه وسلم - , وفي حديث زينب بنت جحش عند الطّبرانيّ , أنّه جاء وهو يحبو

, والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نائمٌ , فصعد على بطنه ووضع ذكره في سرّته فبال. فذكر الحديث بتمامه , فظهرت التّفرقة بينهما. قوله: (فأتبعه) بإسكان المثنّاة. أي: أتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البول الذي على الثّوب الماء يصبّه عليه. زاد مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام " فأتبعه ولَم يغسله ". ولابن المنذر من طريق الثّوريّ عن هشام " فصبّ عليه الماء " وللطّحاويّ من طريق زائدة الثّقفيّ عن هشام " فنضحه عليه ". ويستفاد منه الرّفق بالأطفال , والصّبر على ما يحدث منهم , وعدم مؤاخذتهم لعدم تكليفهم.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون 29 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: جاء أعرابيٌّ , فبال في طائفة المسجد , فزجره النّاس , فنهاهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فلمّا قضى بوله , أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذَنُوبٍ من ماءٍ , فأُهْرِيق عليه. (¬1) قوله: (أعرابي) الأعرابيّ واحد الأعراب , وهم من سكن البادية عرباً كانوا أو عجماً , وللبخاري من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة , أنّ أعرابيّاً بال في المسجد، فثار إليه النّاس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماءٍ، أو سجلاً من ماءٍ، فإنّما بعثتم ميسّرين ولَم تبعثوا معسّرين. زاد ابن عيينة عند التّرمذيّ وغيره في أوّله " أنّه صلَّى ثمّ قال: اللهمّ ارحمني ومحمّداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لقد تحجّرت واسعاً. فلم يلبث أن بال في المسجد " وهذه الزّيادة (¬2) عند البخاري ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (218, 219) ومسلم (284) من طرق عن يجيى بن سعيد الأنصاري عن أنس - رضي الله عنه -. به. وأخرجاه من طريقين آخرين عن أنس. سيأتي ذكرهما في كلام الشارح. (¬2) أي: زيادة الصلاة ودعاء الأعرابي. أما ذِكر البول فلم ترد عند البخاري (6010) من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة. وإنما رواه تامّاً بذكر الصلاة والبول والدعاء. ابن ماجه (529) وابن حبان (985) كما قال الشارح.

من طريق الزّهريّ عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد روى ابن ماجه وابن حبّان الحديث تامّاً من طريق محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة , وكذا رواه ابن ماجه أيضاً من حديث واثلة بن الأسقع. وأخرجه أبو موسى المدينيّ في الصّحابة من طريق محمّد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار قال: اطّلع ذو الخويصرة اليمانيّ , وكان رجلاً جافياً " فذكره تامّاً بمعناه وزيادة. وهو مرسل. وفي إسناده أيضاً مبهمٌ بين محمّد بن إسحاق وبين محمّد بن عمرو بن عطاء , وهو عنده من طريق الأصمّ عن أبي زرعة الدّمشقيّ عن أحمد بن خالد الذّهبيّ عنه , وهو في جمع " مسند ابن إسحاق " لأبي زرعة الدّمشقيّ من طريق الشّاميّين عنه بهذا السّند , لكن قال في أوّله: اطّلع ذو الخويصرة التّميميّ , وكان جافياً. والتّميميّ هو حرقوص بن زهير الذي صار بعد ذلك من رءوس الخوارج , وقد فرّق بعضهم بينه وبين اليمانيّ , لكن له أصل أصيل. واستفيد منه تسمية الأعرابيّ , وحكى أبو بكر التّاريخيّ عن عبد الله بن نافع المزنيّ , أنّه الأقرع بن حابس التّميميّ، ونقل عن أبي الحسين بن فارس , أنّه عيينة بن حصن. والعلم عند الله تعالى. قوله: (في طائفة) أي: ناحيته والطّائفة القطعة من الشّيء. قوله: (المسجد) أي: مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (فزجره الناس) وأخرجه البيهقيّ من طريق عبدان - شيخ

البخاري فيه - عن عبد الله عن يحيى بن سعيد عن أنس بلفظ " فصاح النّاس به " وكذا للنّسائيّ من طريق ابن المبارك. وللبخاري في روايةٍ عن أنس " فقاموا إليه " (¬1) وللإسماعيليّ " فأراد أصحابه أن يمنعوه ". وللبخاري عن أبي هريره " فتناوله الناس " أي: بألسنتهم , وله أيضاً " فثار إليه النّاس ". فظهر أنّ تناوله كان بالألسنة لا بالأيدي. ولمسلمٍ من طريق إسحاق عن أنس " فقال الصّحابة: مه مه ". قوله: (فنهاهم) في رواية عبدان " فقال: اتركوه فتركوه " (¬2) ولهما عن ثابت عن أنس " لا تُزرموه " بضمّ أوّله وسكون الزّاي وكسر الرّاء من الإزرام، أي: لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم البول إذا انقطع. وأزرمتُه قطعتُه، وكذلك يقال في الدّمع. وإنّما تركوه يبول في المسجد لأنّه كان شرع في المفسدة , فلو مُنع لزادت إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منع لدار بين أمرين: الأول: إمّا أن يقطعه فيتضرّر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6025) من طريق حماد بن زيد عن ثابت عنه. ولمسلم (284) من هذا الوجه بلفظ (فقام إليه بعض القوم ..) (¬2) تقدّم أن رواية عبدان أخرجها البخاري والبيهقي كما ذكر الشارح. لكن لم أر هذه الرواية أعني (اتركوه ..) من روايته. وإنما رواها النسائي في " الكبرى " (53) عن سويد بن نصر عن ابن المبارك. ولعلّ الشارح أرادها فسبق لسانه برواية عبدان. وأخرجها أيضاً مالك في " الموطأ " (111) عن يحيى بن سعيد. به مرسلاً.

الثاني: إمّا أن لا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه أو مواضع أخرى من المسجد. قوله: (قضى بوله) أي: فتركوه حتّى فرغ من بوله، فلمّا فرغ دعا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بماءٍ. أي: في دلو كبير فأمر بصبّه. وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق عكرمة بن عمّار عن إسحاق عن أنس بنحوه. وزاد فيه: ثمّ إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه , فقال له: إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القذر، إنّما هي لذكر الله تعالى والصّلاة وقراءة القرآن. قوله: (بذنوب من ماء) قال الخليل: الدّلو ملأى ماء. وقال ابن فارس: الدّلو العظيمة. وقال ابن السّكّيت: فيها ماء قريب من الملء , ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب. انتهى. وقال في الحديث " من ماء " مع أنّ الذّنوب من شأنها ذلك , لكنّه لفظٌ مشتركٌ بينه وبين الفرس الطّويل وغيرهما. قوله: (فأهريق عليه) كذا للأكثر. ولأبي ذر " فهريق عليه " ويجوز إسكان الهاء وفتحها , وضبطه ابن الأثير في " النّهاية " بفتح الهاء أيضاً. قال ابن التين: هو بإسكان الهاء , ونقل عن سيبويه , أنه قال: أهراق يهريق إهرياقا مثل أسطاع يسطيع اسطياعاً بقطع الألف وفتحها في الماضي وضم الياء في المستقبل , وهي لغة في أطاع يطيع فجعلت السين والهاء عوضاً من ذهاب حركة عين الفعل.

وروي بفتح الهاء , واستشكله. ويوجه بأن الهاء مبدلة من الهمزة , لأن أصل هراق أراق ثم اجتلبت الهمزة فتحريك الهاء على إبقاء البدل والمبدل منه. وله نظائر. وذكر له الجوهري توجيهاً آخر , وأن أصله (¬1) أأريقوا فأبدلت الهمزة الثانية هاء للخفة , وجزم ثعلب في " الفصيح " بأن أهريقه بفتح الهاء. والله أعلم وفي هذا الحديث من الفوائد: أنّ الاحتراز من النّجاسة كان مقرّراً في نفوس الصّحابة , ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته - صلى الله عليه وسلم - قبل استئذانه , ولِمَا تقرّر عندهم أيضاً من طلب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. واستدل به على جواز التّمسّك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص. قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر أنّ التّمسّك يتحتّم عند احتمال التّخصيص عند المجتهد، ولا يجب التّوقّف عن العمل بالعموم لذلك لأنّ علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير توقّفٍ على البحث عن التّخصيص , ولهذه القصّة أيضاً إذ لَم ينكر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الصّحابة , ولَم يقل لهم لَم نهيتم الأعرابيّ؟ بل أمرهم بالكفّ عنه للمصلحة الرّاجحة , وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما. وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. ¬

_ (¬1) أي: أهريقوا. بالأمر.

وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصبّ الماء. وفيه تعيين الماء لإزالة النّجاسة؛ لأنّ الجفاف بالرّيح أو الشّمس لو كان يكفي لَمَا حصل التّكليف بطلب الدّلو. وفيه أنّ غسالة النّجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، ويلتحق به غير الواقعة؛ لأنّ البلة الباقية على الأرض غسالة نجاسة , فإذا لَم يثبت أنّ التّراب نقل وعلمنا أنّ المقصود التّطهير تعيّن الحكم بطهارة البلة , وإذا كانت طاهرة فالمنفصلة أيضاً مثلها لعدم الفارق. ويستدلّ به أيضاً على عدم اشتراط نضوب الماء , لأنّه لو اشترط لتوقّفت طهارة الأرض على الجفاف. وكذا لا يشترط عصر الثّوب إذ لا فارق. قال الموفّق في المغني بعد أن حكى الخلاف: الأولى الحكم بالطّهارة مطلقاً؛ لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يشترط في الصّبّ على بول الأعرابيّ شيئاً. وفيه. الرّفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ إذا لَم يكن ذلك منه عناداً، ولا سيّما إن كان ممّن يحتاج إلى استئلافه. وفيه رأفة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه. قال ابن ماجه وابن حبّان في حديث أبي هريرة , فقال الأعرابيّ - بعد أن فقه في الإسلام -: فقام إليّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأبي أنت وأمّي , فلم يؤنّب ولَم يسبّ. وفيه تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار. وظاهر الحصر من سياق

مسلم في حديث أنس , أنّه لا يجوز في المسجد شيءٌ غير ما ذكر من الصّلاة والقرآن والذّكر، لكنّ الإجماع على أنّ مفهوم الحصر منه غير معمولٍ به، ولا ريب أنّ فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى والله أعلم. وفيه. أنّ الأرض تطهر بصبّ الماء عليها ولا يشترط حفرها خلافاً للحنفيّة حيث قالوا: لا تطهر إلاَّ بحفرها. كذا أطلق النّوويّ وغيره. والمذكور في كتب الحنفيّة التّفصيل بين إذا كانت رخوة بحيث يتخللها الماء حتّى يغمرها فهذه لا تحتاج إلى حفرٍ، وبين ما إذا كانت صلبة فلا بدّ من حفرها وإلقاء التّراب؛ لأنّ الماء لَم يغمر أعلاها وأسفلها. واحتجّوا فيه بحديثٍ جاء من ثلاث طرق (¬1): أحدها: موصولٌ عن ابن مسعود. أخرجه الطّحاويّ , لكنّ إسناده ضعيفٌ. قاله أحمد وغيره. والآخران مرسلان: أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل بن مقرّن، والآخر من طريق سعيد بن منصور من طريق طاوس , ورواتهما ثقات. وهو يلزم من يحتجّ بالمرسل مطلقاً؟ وكذا من يحتجّ به إذا اعتضد ¬

_ (¬1) أي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بحفر مكان البول وإلقاء التراب وصبِّ الماء مكانه. انظر التلخيص الحبير للشارح رحمه الله (1/ 183)

مطلقاً.؟ والشّافعيّ إنّما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التّابعين، وكان مَن أرسل إذا سَمّى لا يسمّي إلاَّ ثقة , وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهرٌ من سنديهما. والله أعلم.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون 30 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمسٌ: الْخِتان , والاستحداد , وقصّ الشّارب , وتقْليم الأظفار , ونتْف الإبط. (¬1) قوله: (الفطرة خمس) وللبخاري " الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة " كذا وقع هنا ولمسلمٍ وأبي داود بالشّكّ , وهو من سفيان. ووقع في رواية أحمد " خمس من الفطرة " ولَم يشكّ، وكذا وقع هنا في رواية معمر عن الزّهريّ عند التّرمذيّ والنّسائيّ. ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند البخاري بالعكس بلفظ " الفطرة خمس " وكذا في رواية يونس بن يزيد عن الزّهريّ عن ابن المسيب عن أبي هريرة عند مسلم والنّسائيّ، وهي محمولة على الأولى. قال ابن دقيق العيد: دلالة " من " على التّبعيض فيه أظهر من دلالة هذه الرّواية على الحصر، وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك فدلَّ على أنّ الحصر فيها غير مراد. واختلف في النّكتة في الإتيان بهذه الصّيغة: فقيل: برفع الدّلالة وأنّ مفهوم العدد ليس بحجّةٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5550 , 5552 , 5939) ومسلم (257) من طرق عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة به.

وقيل: بل كان أعلم أوّلاً بالخمس ثمّ أعلم بالزّيادة. وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام فذكر في كلّ موضع اللائق بالمخاطبين. وقيل: أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة كما حمل عليه قوله " الدّين النّصيحة " و " الحجّ عرفة " ونحو ذلك. ويدلّ على التّأكيد ما أخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ من حديث زيد بن أرقم مرفوعاً " من لَم يؤخذ شاربه فليس منّا " وسنده قويّ، وأخرج أحمد من طريق يزيد بن عمرو المعافريّ نحوه. وزاد فيه: حلق العانة وتقليم الأظافر. وسيأتي في الكلام على الختان دليلُ مَن قال بوجوبه. وذكر ابن العربيّ: أنّ خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة. فإذا أراد خصوص ما ورد لفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعمّ من ذلك فلا تنحصر في الثّلاثين بل تزيد كثيراً. وأقلّ ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر في صحيح البخاري: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب. فإنّه لَم يذكر فيه إلاَّ ثلاثاً، ورد بلفظ الفطرة. وبلفظ " من الفطرة " وأخرج الإسماعيليّ في رواية له بلفظ: ثلاث من الفطرة. وأخرجه في رواية أخرى بلفظ " من الفطرة. فذكر الثّلاث. وزاد الختان. ولمسلمٍ من حديث عائشة " عشر من الفطرة " فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة إلاَّ الختان , وزاد: إعفاء اللحية والسّواك

والمضمضة والاستنشاق وغسل البراجم والاستنجاء. أخرجه من رواية مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزّبير عنها، لكن قال في آخره: إنّ الرّاوي نسي العاشرة إلاَّ أن تكون المضمضة، وقد أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه " بلفظ " عشرة من السّنّة " وذكر الاستنثار بدل الاستنشاق. وأخرج النّسائيّ من طريق سليمان التّيميّ قال: سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرة من الفطرة. فذكر مثله إلاَّ أنّه قال: وشككت في المضمضة. وأخرجه أيضاً من طريق أبي بشر عن طلق قال: من السّنّة عشر. فذكر مثله إلاَّ أنّه ذكر الختان بدل غسل البراجم. ورجّح النّسائيّ الرّواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة. والذي يظهر لي أنّها ليست بعلةٍ قادحة، فإنّ راويها مصعب بن شيبة وثّقه ابن معين والعجليّ وغيرهما. وليّنه أحمد وأبو حاتم وغيرهما فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحّته من هذه الحيثيّة سائغ. وقول سليمان التّيميّ: سمعت طلق بن حبيب يذكر عشراً من الفطرة. يحتمل: أن يريد أنّه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النّسائيّ. ويحتمل: أن يريد أنّه سمعه يذكرها وسندها فحذف سليمان السّند.

وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمّار بن ياسر مرفوعاً نحو حديث عائشة قال: من الفطرة المضمضة والاستنشاق والسّواك وغسل البراجم والانتضاح. وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة ساقه ابن ماجه. وأمّا أبو داود. فأحال به على حديث عائشة ثمّ قال: وروي نحوه عن ابن عبّاس: وقال: خمس في الرّأس , وذكر منها الفرْق (¬1) , ولَم يذكر إعفاء اللحية. قلت: كأنّه يشير إلى ما أخرجه عبد الرّزّاق في " تفسيره " والطّبريّ من طريقه بسندٍ صحيح عن طاوسٍ عن ابن عبّاس في قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ) قال: ابتلاه الله بالطّهارة، خمس في الرّأس، وخمس في الجسد. قلت: فذكر مثل حديث عائشة كما في الرّواية التي قدّمتها عن أبي عوانة سواء ولَم يشكّ في المضمضة، وذكر أيضاً الفرق بدل إعفاء اللحية. وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عبّاس. فذكر غسل الجمعة بدل الاستنجاء. فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث خمس عشرة خصلة اقتصر أبو شامة في " كتاب السّواك وما أشبه ذلك " منها على ¬

_ (¬1) أي: فرق الشعر.

اثني عشر، وزاد النّوويّ واحدة في " شرح مسلم ". فأمّا غسل البراجم. فهو بالموحّدة والجيم جمع برجمة بضمّتين. وهي عقد الأصابع التي في ظهر الكفّ. قال الخطّابيّ: هي المواضع التي تتّسخ ويجتمع فيها الوسخ , ولا سيّما ممّن لا يكون طريّ البدن. وقال الغزاليّ: كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطّعام فيجتمع في تلك العضون وسخ، فأمر بغسلها. قال النّوويّ: وهي سنّة مستقلة ليست مختصّة بالوضوء، يعني أنّها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتّنظيف، وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصّماخ فإنّ في بقائه إضراراً بالسّمع، وقد أخرجه ابن عديّ من حديث أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء , لأنّ الوسخ إليها سريع. وللتّرمذيّ الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه: قصّوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقّوا براجمكم. وفي سنده راوٍ مجهول. ولأحمد من حديث ابن عبّاس: أبطأ جبريل على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: ولِمَ لا يبطئ عنّي وأنتم لا تستنّون - أي لا تستاكون - ولا تقصّون شواربكم , ولا تنقّون رواجبكم. والرّواجب جمع راجبة بجيمٍ وموحّدة , قال أبو عبيد: البراجم والرّواجب مفاصل الأصابع كلّها. وقال ابن سيده: البرجمة المفصّل الباطن عند بعضهم، والرّواجب

بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل: قصب الأصابع، وقيل: هي ظهور السّلاميّات، وقيل: ما بين البراجم من السّلاميّات. وقال ابن الأعرابيّ: الرّاجبة البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم المسبّحات من مفاصل الأصابع، وفي كلّ إصبع ثلاث برجمات إلاَّ الإبهام فلها برجمتان. وقال الجوهريّ: الرّواجب مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثمّ البراجم، ثمّ الأشاجع اللاتي على الكفّ. وقال أيضاً: الرّواجب رءوس السّلاميّات من ظهر الكفّ، إذا قبض القابض كفّه نشزت وارتفعت، والأشاجع أصول الأصابع التي تتّصل بعصب ظاهر الكفّ، واحدها أشجع. وقيل: هي عروق ظاهر الكفّ. وأمّا الانتضاح , فقال أبو عبيد الهرويّ: هو أن يأخذ قليلاً من الماء فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقال الخطّابيّ: انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النّضح وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدة، وعلى الأوّل فهو غيره. ويشهد له ما أخرجه أصحاب السّنن من رواية الحكم بن سفيان الثّقفيّ أو سفيان بن الحكم عن أبيه , أنّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، توضّأ ثمّ أخذ حفنة من ماء فانتضح بها. وأخرج البيهقيّ من طريق سعيد بن جبير , أنّ رجلاً أتى ابن

عبّاس , فقال: إنّي أجد بللاً إذا قمت أصلي، فقال له ابن عبّاس: انضح بماءٍ، فإذا وجدت من ذلك شيئاً فقل هو منه. وأمّا الخصال الواردة في المعنى لكن لَمّا يرد التّصريح فيها بلفظ الفطرة فكثيرة. منها ما أخرجه التّرمذيّ من حديث أبي أيّوب رفعه: أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتّعطّر، والسّواك، والنّكاح. واختلف في ضبط الحياء. فقيل: بفتح المهملة والتّحتانيّة الخفيفة، وقد ثبت في الصّحيحين " أنّ الحياء من الإيمان ". وقيل: هي بكسر المهملة وتشديد النّون. فعلى الأوّل هي خصلة معنويّة تتعلق: بتحسين الخلق. وعلى الثّاني. هي خصلة حسّيّة تتعلق بتحسين البدن. وأخرج البزّار والبغويّ في " معجم الصّحابة " والحكيم التّرمذيّ في " نوادر الأصول " من طريق فليحٍ بن عبد الله الخطميّ عن أبيه عن جدّه رفعه: خمس من سنن المرسلين. فذكر الأربعة المذكورة إلاَّ النّكاح , وزاد الحلم والحجامة. والْحِلم بكسر المهملة وسكون اللام، وهو ممّا يقوّي الضّبط الأوّل في حديث أبي أيّوب، وإذا تتبّع ذلك من الأحاديث كثر العدد كما أشرت إليه. والله أعلم ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينيّة ودنيويّة تدرك بالتّتبّع، منها

تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلاً، والاحتياط للطّهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكفٍّ ما يتأذّى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفّار من المجوس واليهود والنّصارى وعبّاد الأوثان، وامتثال أمر الشّارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: (وصوركم فأحسن صوركم) لِمَا في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنّه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوّهوها بما يقبّحها، أو حافظوا على ما يستمرّ به حسنها. وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التّآلف المطلوب، لأنّ الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النّفس إليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس. وأمّا شرح الفطرة , فقال الخطّابيّ: ذهب أكثر العلماء إلى أنّ المراد بالفطرة هنا السّنّة، وكذا قاله غيره، قالوا: والمعنى أنّها من سنن الأنبياء. وقالت طائفة: المعنى بالفطرة الدّين. وبه جزم أبو نعيم في " المستخرج ". وقال النّوويّ في " شرح المهذّب " جزم الّماورديّ والشّيخ أبو إسحاق بأنّ المراد بالفطرة في هذا الحديث الدّين، واستشكل ابن الصّلاح ما ذكره الخطّابيّ. وقال: معنى الفطرة بعيد من معنى السّنّة، لكن لعل المراد أنّه على حذف مضاف. أي سنّة الفطرة. وتعقّبه النّوويّ: بأنّ الذي نقله الخطّابيّ هو الصّواب. فإنّ في

صحيح البخاريّ عن ابن عمر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: من السّنّة قصّ الشّارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار , قال: وأصحّ ما فسّر الحديث بما جاء في رواية أخرى لا سيّما في البخاريّ. انتهى. وقد تبعه شيخنا ابن الملقّن على هذا. ولَم أر الذي قاله في شيء من نسخ البخاريّ، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ " الفطرة " وكذا من حديث أبي هريرة. نعم. وقع التّعبير بالسّنّة موضع الفطرة في حديث عائشة عند أبي عوانة في رواية، وفي أخرى بلفظ الفطرة كما في رواية مسلم والنّسائيّ وغيرهما. وقال الرّاغب: أصل الفطر بفتح الفاء الشّقّ طولاً. ويطلق على الوهي وعلى الاختراع وعلى الإيجاد، والفطرة الإيجاد على غير مثال. وقال أبو شامة، أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه فاطر السّماوات والأرض. أي المبتدئ خلقهنّ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: كلّ مولود يولد على الفطرة. أي: على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر النّاس عليها) والمعنى أنّ كلّ أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤدّيه إليه نظره لأدّاه إلى الدّين الحقّ وهو التّوحيد، ويؤيّده قوله تعالى قبلها: (فأقم وجهك للدّين حنيفاً فطرة الله) وإليه يشير في بقيّة الحديث حيث عقّبه بقوله " فأبواه يهوّدانه وينصّرانه " والمراد بالفطرة في حديث الباب. أنّ هذه الأشياء إذا فعلت اتّصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثّهم عليها واستحبّها لهم

ليكونوا على أكمل الصّفات وأشرفها صورة. اهـ. وقد ردّ القاضي البيضاويّ الفطرة في حديث الباب إلى مجموع ما ورد في معناها وهو الاختراع والجِبِلّة والدّين والسّنّة فقال: هي السّنّة القديمة التي اختارها الأنبياء واتّفقت عليها الشّرائع، وكأنّها أمر جبليّ فطروا عليها. انتهى. وسوّغ الابتداء بالنّكرة في قوله: " خمس من الفطرة " أنّ قوله: خمس صفة موصوف محذوف والتّقدير خصال خمس ثمّ فسّرها، أو على الإضافة. أي خمس خصال. ويجوز أن تكون الجملة خبر مبتدأ محذوف , والتّقدير الذي شرع لكم خمس من الفطرة. والتّعبير في بعض روايات الحديث بالسّنّة بدل الفطرة يراد بها الطّريقة لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بذلك الشّيخ أبو حامد والماورديّ وغيرهما , وقالوا: هو كالحديث الآخر " عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين ". وأغرب القاضي أبو بكر بن العربيّ , فقال: عندي أنّ الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلّها واجبة، فإنّ المرء لو تركها لَم تبق صورته على صورة الآدميّين فكيف من جملة المسلمين، كذا قال في " شرح الموطّأ ". وتعقّبه أبو شامة: بأنّ الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النّظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشّارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرّد النّدب إليها كافٍ.

ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء , أنّه قال: دلَّ الخبر على أنّ الفطرة بمعنى الدّين، والأصل فيما أضيف إلى الشّيء أنّه منه أن يكون من أركانه لا من زوائده حتّى يقوم دليل على خلافه، وقد ورد الأمر باتّباع إبراهيم عليه السّلام، وثبت أنّ هذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السّلام، وكلّ شيء أمر الله باتّباعه فهو على الوجوب لمن أمر به. وتعقّب: بأنّ وجوب الاتّباع لا يقتضي وجوب كلّ متبوع فيه بل يتمّ الاتّباع بالامتثال، فإن كان واجباً على المتبوع كان واجباً على التّابع أو ندباً فندب، فيتوقّف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمّة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السّلام. قوله: (الختان) بكسر المعجمة وتخفيف المثنّاة مصدر ختن. أي: قطع، والختن بفتح ثمّ سكون قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص. ووقع في رواية يونس عند مسلم " الاختتان ". والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختان أيضاً كما في حديث عائشة: إذا التقى الختانان. (¬1) والأوّل المراد هنا. قال الّماورديّ: ختان الذّكر قطع الجلدة التي تغطّي الحشفة، والمستحبّ أن تستوعب من أصلها عند أوّل الحشفة، وأقلّ ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشّى به شيء من الحشفة. وقال إمام الحرمين: المستحقّ في الرّجال قطع القلفة، وهي الجلدة ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. في حديث عمر. وسيأتي كلام الشارح عليه في حديث رقم (38)

التي تغطّي الحشفة حتّى لا يبقى من الجلدة شيء متدلٍّ. وقال ابن الصّبّاغ: حتّى تنكشف جميع الحشفة. وقال ابن كجّ فيما نقله الرّافعيّ: يتأدّى الواجب بقطع شيء ممّا فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. قال النّوويّ: وهو شاذّ، والأوّل هو المعتمد. قال الإمام (¬1): والمستحقّ من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم. قال الّماورديّ: ختانها قطع جلدة تكون أعلى فرجها فوق مدخل الذّكر كالنّواة أو كعرف الدّيك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله. وقد أخرج أبو داود من حديث أمّ عطيّة , أنّ امرأة كانت تختن بالمدينة. فقال لها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا تنهكي فإنّ ذلك أحظى للمرأة. وقال: أنّه ليس بالقويّ. قلت: وله شاهدان من حديث أنس , ومن حديث أمّ أيمن عند أبي الشّيخ في كتاب العقيقة , وآخر عن الضّحّاك بن قيس عند البيهقيّ. قال النّوويّ: ويسمّى ختان الرّجل إعذاراً بذالٍ معجمة، وختان المرأة خفضاً بخاءٍ وضاد معجمتين. ¬

_ (¬1) أي: إمام الحرمين شيخ الشافعية. الإمام أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي رحمه الله المتوفى سنة 478 هـ. وهو المقصود بالإمام عند الشافعية. وقد نقل الشارح كلامه قبل قليل.

وقال أبو شامة: كلام أهل اللّغة يقتضي تسمية الكلّ إعذاراً والخفض يختصّ بالأنثى. قال أبو عبيدة: عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وأختنتهما وزناً ومعنىً. قال الجوهريّ: والأكثر خفضت الجارية، قال: وتزعم العرب أنّ الغلام إذا ولد في القمر فسخت قلفته , أي: اتّسعت فصار كالمختون، وقد استحبّ العلماء من الشّافعيّة فيمن ولد مختوناً أن يمرّ بالموسى على موضع الختان من غير قطع. قال أبو شامة: وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تامّاً , بل يظهر طرف الحشفة فإن كان كذلك وجب تكميله. وأفاد الشّيخ أبو عبد الله بن الحاجّ في " المدخل ": أنّه اختلف في النّساء , هل يخفضن عموماً أو يفرّق بين نساء المشرق فيخفضن ونساء المغرب فلا يخفضن لعدم الفضلة المشروع قطعها منهنّ، بخلاف نساء المشرق؟. قال: فمَن قال: إنّ من ولد مختوناً استحبّ إمرار الموسى على الموضع امتثالاً للأمر , قال في حقّ المرأة كذلك , ومن لا فلا. وقد ذهب إلى وجوب الختان دون باقي الخصال الخمس المذكورة في الباب الشّافعيّ وجمهور أصحابه، وقال به من القدماء عطاء حتّى قال: لو أسلم الكبير لَم يتمّ إسلامه حتّى يختن. وعن أحمد وبعض المالكيّة: يجب. وعن أبي حنيفة: واجب وليس بفرضٍ. وعنه: سنّة يأثم بتركه.

وفي وجه للشّافعيّة. لا يجب في حقّ النّساء , وهو الذي أورده صاحب " المغني " عن أحمد. وذهب أكثر العلماء وبعض الشّافعيّة. إلى أنّه ليس بواجبٍ. ومن حجّتهم حديث شدّاد بن أوس رفعه: الختان سنّة للرّجال مكرمة للنّساء. وهذا لا حجّة فيه. لِمَا تقرّر أنّ لفظ السّنّة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب، لكن لَمّا وقعت التّفرقة بين الرّجال والنّساء في ذلك دلَّ على أنّ المراد افتراق الحكم. وتعقّب: بأنّه لَم ينحصر في الوجوب , فقد يكون في حقّ الذّكور آكد منه في حقّ النّساء , أو يكون في حقّ الرّجال للنّدب , وفي حقّ النّساء للإباحة. على أنّ الحديث لا يثبت , لأنّه من رواية حجّاج بن أرطاة , ولا يحتجّ به. أخرجه أحمد والبيهقيّ , لكن له شاهد أخرجه الطّبرانيّ في " مسند الشّاميّين " من طريق سعيد بن بشر عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عبّاس، وسعيد مختلف فيه. وأخرجه أبو الشّيخ والبيهقيّ من وجه آخر عن ابن عبّاس، وأخرجه البيهقيّ أيضاً من حديث أبي أيّوب. واحتجّوا أيضاً: بأنّ الخصال المنتظمة مع الختان ليست واجبة إلاَّ عند بعض من شذّ فلا يكون الختان واجباً. وأجيب: بأنّه لا مانع أن يراد بالفطرة وبالسّنّة في الحديث القدر

المشترك الذي يجمع الوجوب والنّدب وهو الطّلب المؤكّد، فلا يدلّ ذلك على عدم الوجوب , ولا ثبوته فيطلب الدّليل من غيره. وأيضاً فلا مانع من جمع المختلفي الحكم بلفظ أمر واحد كما في قوله تعالى (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصاده) فإيتاء الحقّ واجب، والأكل مباح. هكذا تمسّك به جماعة. وتعقّبه الفاكهانيّ في " شرح العمدة " فقال: الفرق بين الآية والحديث , أنّ الحديث تضمّن لفظة واحدة استعملت في الجميع، فتعيّن أن يحمل على أحد الأمرين الوجوب أو النّدب، بخلاف الآية فإنّ صيغة الأمر تكرّرت فيها، والظّاهر الوجوب، فصرف في أحد الأمرين بدليلٍ وبقي الآخر على الأصل. وهذا التّعقّب. إنّما يتمّ على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين، وأمّا من يجيزه كالشّافعيّة فلا يرد عليهم. واستدل من أوجب الاختتان بأدلةٍ: الأوّل: أنّ القلفة تحبس النّجاسة فتمنع صحّة الصّلاة كمن أمسك نجاسة بفمه. وتعقّب: بأنّ الفم في حكم الظّاهر، بدليل أنّ وضع المأكول فيه لا يفطر به الصّائم، بخلاف داخل القلفة فإنّه في حكم الباطن، وقد صرّح أبو الطّيّب الطّبريّ بأنّ هذا القدر عندنا مغتفر. الثّاني: ما أخرجه أبو داود من حديث كليب جدّ عثيم بن كثير , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألقِ عنك شعارَ الكُفر واختتن. مع ما تقرّر أنّ

خطابه للواحد يشمل غيره حتّى يقوم دليل الخصوصيّة. وتعقّب: بأنّ سند الحديث ضعيف , وقد قال ابن المنذر: لا يثبت فيه شيء. الثّالث: جواز كشف العورة من المختون، وأنّه إنّما يشرع لمن بلغ أو شارف البلوغ (¬1) , وجواز نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام، فلو لَم يجب لَمَا أبيح ذلك. وأقدم من نُقل عنه الاحتجاج بهذا أبو العبّاس بن سريج. نقله عنه الخطّابيّ وغيره، وذكر النّوويّ: أنّه رآه في " كتاب الودائع " المنسوب لابن سريج. قال: ولا أظنّه يثبت عنه، قاله أبو شامة. وقد عبّر عنه جماعة من المصنّفين بعده بعباراتٍ مختلفة كالشّيخ أبي حامد والقاضي الحسين وأبي الفرج السّرخسيّ والشّيخ في " المهذّب ". وتعقّبه عياض: بأنّ كشف العورة مباح لمصلحة الجسم , والنّظر إليها يباح للمداواة، وليس ذلك واجباً إجماعاً، وإذا جاز في المصلحة الدّنيويّة كان في المصلحة الدّينيّة أولى. وقد استشعر القاضي حسين هذا , فقال: فإن قيل قد يترك الواجب كترك الإنصات للخطبة بالتّشاغل بركعتي التّحيّة، وكترك ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (6299) عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس: مثل مَن أنت حين قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنا يومئذ مختون قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك. أي يبلغ.

القيام في الصّلاة لسجود التّلاوة، وكشف العورة للمداواة مثلاً. وأجاب عن الأوّلين , ولَم يجب عن الثّالث. وأجاب النّوويّ: بأنّ كشف العورة لا يجوز لكل مداواة فلا يتمّ المراد. وقوّى أبو شامة الإيراد: بأنّهم جوّزوا لغاسل الميّت أن يحلق عانة الميّت، ولا يتأتّى ذلك للغاسل إلاَّ بالنّظر واللمس وهما حرامان، وقد أجيزا لأمرٍ مستحبّ. الرّابع: احتجّ أبو حامد وأتباعه كالماورديّ , بأنّه قطع عضو لا يستخلف من الجسد تعبّداً فيكون واجباً كقطع اليد في السّرقة. وتعقّب: بأنّ قطع اليد إنّما أبيح في مقابلة جرم عظيم. فلم يتمّ القياس. الخامس: قال الّماورديّ: في الختان إدخال أَلَم عظيم على النّفس وهو لا يشرع إلاَّ في إحدى ثلاث خصال: لمصلحةٍ، أو عقوبة، أو وجوب. وقد انتفى الأوّلان فثبت الثّالث. وتعقّبه أبو شامة: بأنّ في الختان عدّة مصالح كمزيد الطّهارة والنّظافة فإنّ القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد كثر ذمّ الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصّة به، وأقرّ الإسلام ذلك. السّادس: قال الخطّابيّ محتجّاً بأنّ الختان واجب: بأنّه من شعار الدّين، وبه يعرف المسلم من الكافر، حتّى لو وجد مختون بين جماعة

قتلى غير مختونين , صلّي عليه ودفن في مقابر المسلمين. وتعقّبه أبو شامة: بأنّ شعار الدّين ليست كلّها واجبة، وما ادّعاه في المقتول مردود , لأنّ اليهود وكثيراً من النّصارى يختنون فليقيّد ما ذكر بالقرينة. قلت. قد بطل دليله. السّابع: قال البيهقيّ: أحسن الحجج أن يحتجّ بحديث أبي هريرة الذي في الصّحيحين مرفوعاً: اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم. وقد قال الله تعالى (ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم). وصحّ عن ابن عبّاس , أنّ الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم فأتمّهنّ هي خصال الفطرة ومنهنّ الختان، والابتلاء غالباً إنّما يقع بما يكون واجباً. وتعقّب: بأنّه لا يلزم ما ذكر إلاَّ إن كان إبراهيم عليه السّلام فعله على سبيل الوجوب، فإنّه من الجائز أن يكون فعله على سبيل النّدب فيحصل امتثال الأمر باتّباعه على وفق ما فعل، وقد قال الله تعالى في حقّ نبيّه محمّد (واتّبعوه لعلكم تهتدون) وقد تقرّر في الأصول أنّ أفعاله بمجرّدها لا تدلّ على الوجوب، وأيضاً فباقي الكلمات العشر ليست واجبة. وقال الّماورديّ: إنّ إبراهيم عليه السّلام لا يفعل ذلك في مثل سِنّه إلاَّ عن أمر من الله. انتهى. وما قاله بحثاً قد جاء منقولاً، فأخرج أبو الشّيخ في العقيقة من

طريق موسى بن عليّ بن رباح عن أبيه: أنّ إبراهيم عليه السّلام أمر أن يختتن , وهو حينئذٍ ابن ثمانين سنة , فعجل واختتن بالقدوم , فاشتدّ عليه الوجع , فدعا ربّه , فأوحى الله إليه: أنّك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا ربّ كرهت أن أؤخّر أمرك. قال الّماورديّ: القدوم جاء مخفّفاً ومشدّداً. وهو الفأس الذي اختتن به، وذهب غيره إلى أنّ المراد به مكان يسمّى القدوم. وقال أبو عبيد الهرويّ في الغريبين: يقال: هو كان مقيله، وقيل: اسم قرية بالشّام. وقال أبو شامة: هو موضع بالقرب من القرية التي فيها قبره، وقيل: بقرب حلب؛ وجزم غير واحد أنّ الآلة بالتّخفيف، وصرّح ابن السّكّيت , بأنّه لا يشدّد وأثبت بعضهم الوجهين في كلّ منهما. ووقع عند أبي الشّيخ من طريق أخرى " أنّ إبراهيم لَمّا اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة , وأنّه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة " والأوّل أشهر، وهو أنّه اختتن وهو ابن ثمانين وعاش بعدها أربعين. والغرض أنّ الاستدلال بذلك متوقّف كما تقدّم على أنّه كان في حقّ إبراهيم عليه السّلام واجباً، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به , وإلا فالنّظر باقٍ. واختلف في الوقت الذي يشرع فيه الختان. قال الّماورديّ: له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب، فوقت

الوجوب البلوغ ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السّابع من بعد الولادة، وقيل: من يوم الولادة، فإن أخّر ففي الأربعين يوماً، فإن أخّر ففي السّنة السّابعة، فإن بلغ. وكان نضواً نحيفاً يعلم من حاله أنّه إذا اختتن تلف سقط الوجوب. ويستحبّ أن لا يؤخّر عن وقت الاستحباب إلاَّ لعذرٍ. وذكر القاضي حسين: أنّه لا يجوز أن يختتن الصّبيّ حتّى يصير ابن عشر سنين , لأنّه حينئذٍ يوم ضربه على ترك الصّلاة، وأَلَم الختان فوق أَلَم الضّرب فيكون أولى بالتّأخير , وزيّفه النّوويّ في " شرح المهذّب ". وقال إمام الحرمين: لا يجب قبل البلوغ , لأنّ الصّبيّ ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألَم، قال: ولا يرد وجوب العدّة على الصّبيّة لأنّه لا يتعلق به تعب بل هو مضيّ زمان محض. وقال أبو الفرج السّرخسيّ: في ختان الصّبيّ وهو صغير مصلحة من جهة أنّ الجلد بعد التّمييز يغلظ ويخشن , فمن ثمّ جوّز الأئمّة الختان قبل ذلك. ونقل ابن المنذر. عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السّابع لأنّه فعل اليهود، وقال مالك: يحسن إذا أثغر. أي: ألقى ثغره. وهو مقدّم أسنانه، وذلك يكون في السّبع سنين وما حولها. وعن الليث: يستحبّ ما بين سبع سنين إلى عشر سنين. وعن أحمد: لَم أسمع فيه شيئاً. وأخرج الطّبرانيّ في " الأوسط " عن ابن عبّاس قال: سبع من

السّنّة في الصّبيّ يسمّى في السّابع ويختن .. الحديث. وهو ضعيف، وأخرج أبو الشّيخ من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمّد عن ابن المنكدر أو غيره عن جابر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ختن حسناً وحسيناً لسبعة أيّام. قال الوليد: فسألت مالكاً عنه , فقال: لا أدري، ولكنّ الختان طهرة فكلَّما قدّمها كان أحبّ إليّ. وأخرج البيهقيّ حديث جابر، وأخرج أيضاً من طريق موسى بن عليّ عن أبيه: أنّ إبراهيم عليه السّلام ختن إسحاق وهو ابن سبعة أيّام. وسيأتي مشروعيّة الدعوة للختان (¬1). وما أحمد من طريق الحسن عن عثمان بن أبي العاص , أنّه دعي إلى ختان , فقال: ما كنّا نأتي الختان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولا نُدعَى له. وأخرجه أبو الشّيخ من روايته , فبيّن أنّه كان ختان جارية. وقد نقل الشّيخ أبو عبد الله بن الحاجّ في " المدخل " أنّ السّنّة إظهار ختان الذّكر وإخفاء ختان الأنثى. والله أعلم. قوله: (والاستحداد) بالحاء المهملة استفعال من الحديد , والمراد به استعمال الموسى في حلق الشّعر من مكان مخصوص من الجسد. قيل: وفي التّعبير بهذه اللفظة مشروعيّة الكناية عمّا يستحي منه إذا حصل الإفهام بها وأغنى عن التّصريح، والذي يظهر أنّ ذلك من ¬

_ (¬1) انظر حديث البراء - رضي الله عنه - الآتي في " كتاب اللباس " برقم (401).

تصرّف الرّواة. وقد وقع في رواية النّسائيّ في حديث أبي هريرة هذا التّعبير بحلق العانة، وكذا في حديث عائشة وأنس المشار إليهما من قبل عند مسلم. قال النّوويّ: المراد بالعانة الشّعر الذي فوق ذكر الرّجل وحواليه، وكذا الشّعر الذي حوالي فرج المرأة. ونقل عن أبي العبّاس بن سريج , أنّه الشّعر النّابت حول حلقة الدّبر. فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدّبر وحولهما؛ قال: وذكر الحلق لكونه هو الأغلب , وإلا فيجوز الإزالة بالنّورة والنّتف وغيرهما. وقال أبو شامة: العانة الشّعر النّابت على الرّكب بفتح الرّاء والكاف , وهو ما انحدر من البطن فكان تحت الثّنية وفوق الفرج، وقيل: لكل فخذ رَكَبٌ، وقيل: ظاهر الفرج , وقيل: الفرج بنفسه سواء كان من رجل أو امرأة. قال: ويستحبّ إماطة الشّعر عن القبل والدّبر بل هو من الدّبر أولى خوفاً من أن يعلق شيء من الغائط فلا يزيله المستنجي إلاَّ بالماء , ولا يتمكّن من إزالته بالاستجمار، قال: ويقوم التّنوّر مكان الحلق وكذلك النّتف والقصّ. وقد سئل أحمد عن أخذ العانة بالمقراض؟ فقال: أرجو أن يجزئ، قيل: فالنّتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحدٌ؟. وقال ابن دقيق العيد: قال أهل اللّغة: العانة الشّعر النّابت على

الفرج، وقيل هو منبت الشّعر، قال: وهو المراد في الخبر. وقال أبو بكر بن العربيّ: شعر العانة أولى الشّعور بالإزالة لأنّه يكثّف ويتلبّد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإبط. قال: وأمّا حلق ما حول الدّبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهيّ في " شرح العمدة " أنّه لا يجوز. كذا قال. ولَم يذكر للمنع مستنداً، والذي استند إليه أبو شامة قويّ، بل ربّما تصوّر الوجوب في حقّ من تعيّن ذلك في حقّه، كمن لَم يجد من الماء إلاَّ القليل وأمكنه أن لو حلق الشّعر أن لا يعلق به شيء من الغائط يحتاج معه إلى غسله , وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء. وقال ابن دقيق العيد: كأنّ الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدّبر ذكره بطريق القياس، قال: والأولى في إزالة الشّعر هنا الحلق اتّباعاً، ويجوز النّتف، بخلاف الإبط فإنّه بالعكس , لأنّه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة، والشّعر من الإبط بالنّتف يضعف وبالحلق يقوى فجاء الحكم في كلّ من الموضعين بالمناسب. وقال النّوويّ وغيره: السّنّة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حقّ الرّجل والمرأة معاً، وقد ثبت الحديث الصّحيح عن جابر في النّهي عن طروق النّساء ليلاً حتّى تمتشط الشّعثة وتستحدّ المغيبة، لكن يتأدّى أصل السّنّة بالإزالة بكل مزيل. وقال النّوويّ أيضاً: والأولى في حقّ الرّجل الحلق وفي حقّ المرأة النّتف. واستشكل بأنّ فيه ضرراً على المرأة بالألم وعلى الزّوج

باسترخاء المحلّ , فإنّ النّتف يرخي المحلّ باتّفاق الأطبّاء، ومن ثَمَّ قال ابن دقيق العيد: إنّ بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حقّ المرأة لأنّ النّتف يرخي المحلّ. لكن قال ابن العربيّ: إن كانت شابّة فالنّتف في حقّها أولى لأنّه يربو مكان النّتف، وإن كانت كَهْلة فالأولى في حقّها الحلق , لأنّ النّتف يرخي المحلّ، ولو قيل الأولى في حقّها التّنوّر مطلقاً لَمَا كان بعيداً. وحكى النّوويّ في وجوب الإزالة عليها إذا طلب ذلك منها وجهين أصحّهما الوجوب، ويفترق الحكم في نتف الإبط وحلق العانة أيضاً بأنّ نتف الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبيّ، بخلاف حلق العانة فيحرم إلاَّ في حقّ من يباح له المسّ والنّظر كالزّوج والزّوجة. وأمّا التّنوّر فسئل عنه أحمد فأجازه، وذكر أنّه يفعله. وفيه حديث عن أمّ سلمة أخرجه ابن ماجه والبيهقيّ ورجاله ثقات، ولكنّه أعله بالإرسال، وأنكر أحمد صحّته , ولفظه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اطّلى ولي عانته بيده. ومقابله حديث أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتنوّر، وكان إذا كثر شعره حلقه. ولكن سنده ضعيف جدّاً. قوله: (ونتف الإبط) في رواية البخاري " الآباط " بصيغة الجمع، والإبط بكسر الهمزة والموحّدة وسكونها وهو المشهور وصوّبه الجواليقيّ، وهو يذكّر ويؤنّث، وتأبّط الشّيء وضعه تحت إبطه. والمستحبّ البداءة فيه باليمنى، ويتأدّى أصل السّنّة بالحلق ولا

سيّما من يؤلمه النّتف. وقد أخرج ابن أبي حاتم في " مناقب الشّافعيّ " عن يونس بن عبد الأعلى , قال: دخلتُ على الشّافعيّ , ورجلٌ يحلق إبطَه فقال: إنّي علمت أنّ السّنّة النّتف، ولكن لا أقوى على الوجع. قال الغزاليّ: هو في الابتداء موجع , ولكن يسهل على من اعتاده، قال: والحلق كافٍ لأنّ المقصود النّظافة. وتعقّب: بأنّ الحكمة في نتفه أنّه محلّ للرّائحة الكريهة، وإنّما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبّد ويهيج، فشرع فيه النّتف الذي يضعفه فتخفّ الرّائحة به، بخلاف الحلق فإنّه يقوّي الشّعر ويهيّجه فتكثر الرّائحة لذلك. وقال ابن دقيق العيد: من نظَرَ إلى اللفظ وقف مع النّتف، ومن نظَرَ إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن بيّن أنّ النّتف مقصود من جهة المعنى فذكر نحو ما تقدّم. قال. وهو معنى ظاهر لا يهمل , فإنّ مورد النّصّ إذا احتمل معنىً مناسباً يحتمل أن يكون مقصوداً في الحكم لا يترك , والذي يقوم مقام النّتف في ذلك التّنوّر , لكنّه يرقّ الجلد فقد يتأذّى صاحبه به , ولا سيّما إن كان جلده رقيقاً , وتستحبّ البداءة في إزالته باليد اليمنى، ويزيل ما في اليمنى بأصابع اليسرى , وكذا اليسرى إن أمكن وإلا فباليمنى. قوله: (وتقليم الأظفار) وهو تفعيل من القلم وهو القطع. ووقع في حديث ابن عمر عند البخاري " قصّ الأظفار " ووقع في رواية له

بلفظ " تقليم " وفي حديث عائشة وأنس " قصّ الأظفار " والتّقليم أعمّ، والأظفار جمع ظفر بضمّ الظّاء والفاء وبسكونها. وحكى أبو زيد كسر أوّله، وأنكره ابن سيده، وقد قيل إنّها قراءة الحسن، وعن أبي السّمّاك أنّه قرئ بكسر أوّله وثانيه. والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظّفر، لأنّ الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حدّ يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطّهارة. وقد حكى أصحاب الشّافعيّ فيه وجهين: الوجه الأول: قطع المتولي بأنّ الوضوء حينئذٍ لا يصحّ. الوجه الثاني: قطع الغزاليّ في " الإحياء " بأنّه يعفى عن مثل ذلك، واحتجّ بأنّ غالب الأعراب لا يتعاهدون ذلك، ومع ذلك لَم يرد في شيء من الآثار أمرهم بإعادة الصّلاة وهو ظاهر، لكن قد يعلق بالظّفر إذا طال النّجو لمن استنجى بالماء , ولَم يمعن غسله فيكون إذا صلَّى حاملاً للنّجاسة. وقد أخرج البيهقيّ في " الشّعب " من طريق قيس بن أبي حازم , قال: صلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة فأوهم فيها، فسئل؟ فقال: ما لي لا أوهم. ورُفغ أحدكم بين ظفره وأنملته. رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطّبرانيّ من وجه آخر. والرّفغ: بضمّ الرّاء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة يجمع على أرفاغ , وهي مغابن الجسد كالإبط وما بين الأنثيين

والفخذين وكلّ موضع يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشّيء باسم ما جاوره، والتّقدير وسخ رفغ أحدكم، والمعنى أنّكم لا تقلمون أظفاركم , ثمّ تحكّون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة. قال أبو عبيد: أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصّها. قلت: وفيه إشارة إلى النّدب إلى تنظيف المغابن كلّها، ويستحبّ الاستقصاء في إزالتها إلى حدّ لا يدخل منه ضرر على الأصبع، واستحبّ أحمد للمسافر أن يبقي شيئاً لحاجته إلى الاستعانة لذلك غالباً. ولَم يثبت في ترتيب الأصابع عند القصّ شيء من الأحاديث. لكن جزم النّوويّ في " شرح مسلم " بأنّه يستحبّ البداءة بمسبّحة اليمنى ثمّ بالوسطى ثمّ البنصر ثمّ الخنصر ثمّ الإبهام، وفي اليسرى بالبداءة بخنصرها ثمّ بالبنصر إلى الإبهام ويبدأ في الرّجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولَم يذكر للاستحباب مستنداً. وقال في " شرح المهذّب " بعد أن نقل عن الغزاليّ وأنّ المازريّ اشتدّ إنكاره عليه فيه: لا بأس بما قاله الغزاليّ إلاَّ في تأخير إبهام اليد اليمنى , فالأولى أن تقدّم اليمنى بكمالها على اليسرى. قال: وأمّا الحديث الذي ذكره الغزاليّ فلا أصل له. وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من ادّعى استحباب تقديم اليد في

القصّ على الرّجل إلى دليل، فإنّ الإطلاق يأبى ذلك. قلت: يمكن أن يؤخذ بالقياس على الوضوء والجامع التّنظيف، وتوجيه البداءة باليمنى لحديث عائشة الذي مرّ: كان يعجبه التّيمّن في طهوره وترجّله وفي شأنه كلّه. والبداءة بالمسبّحة منها لكونها أشرف الأصابع لأنّها آلة التّشهّد، وأمّا اتّباعها بالوسطى فلأنّ غالب من يقلم أظفاره يقلمها قبل ظهر الكفّ فتكون الوسطى جهة يمينه فيستمرّ إلى أن يختم بالخنصر ثمّ يكمل اليد بقصّ الإبهام، وأمّا اليسرى فإذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمرّ على جهة اليمين إلى الإبهام. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": وكان ينبغي أن لو أخّر إبهام اليمنى ليختم بها ويكون قد استمرّ على الانتقال إلى جهة اليمنى، ولعل الأوّل لحظّ فصل كلّ يد عن الأخرى. وهذا التّوجيه في اليمين يعكّر على ما نقله في الرّجلين , إلاَّ أن يقال غالب من يقلم أظفار رجليه يقلمها من جهة باطن القدمين فيستمرّ التّوجيه. وقد قال صاحب " الإقليد ": قضيّة الأخذ في ذلك بالتّيامن أن يبدأ بخنصر اليمنى إلى أن ينتهي إلى خنصر اليسرى في اليدين والرّجلين معاً. وكأنّه لحظ أنّ القصّ يقع من باطن الكفّين أيضاً. وذكر الدّمياطيّ , أنّه تلقّى عن بعض المشايخ , أنّ من قصّ أظفاره مخالفاً لَم يصبه رمد وأنّه جرّب ذلك مدّة طويلة.

وقد نصّ أحمد على استحباب قصّها مخالفاً، وبيّن ذلك أبو عبد الله بن بطّة من أصحابهم , فقال: يبدأ بخنصره اليمنى ثمّ الوسطى ثمّ الإبهام ثمّ البنصر ثمّ السّبّابة، ويبدأ بإبهام اليسرى على العكس من اليمنى. وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزاليّ ومن تبعه , وقال: كلّ ذلك لا أصل له. وإحداث استحباب لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيّل متخيّل أنّ البداءة بمسبّحة اليمنى من أجل شرفها فبقيّة الهيئة لا يتخيّل فيه ذلك. نعم: البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرّجلين له أصل. وهو كان يعجبه التّيامن. انتهى ولَم يثبت أيضاً في استحباب قصّ الظّفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه جعفر المستغفريّ بسندٍ مجهول، ورويناه في " مسلسلات التّيميّ " من طريقه. وأقرب ما وقفت عليه في ذلك. ما أخرجه البيهقيّ من مرسل أبي جعفر الباقر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحبّ أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة. وله شاهد موصول عن أبي هريرة، لكن سنده ضعيف أخرجه البيهقيّ أيضاً في " الشّعب ". وسئل أحمد عنه فقال: يسنّ في يوم الجمعة قبل الزّوال، وعنه يوم الخميس، وعنه يتخيّر، وهذا هو المعتمد أنّه يستحبّ كيف ما احتاج إليه.

وأمّا ما أخرج مسلم من حديث أنس: وقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوماً. كذا وقّت فيه على البناء للمجهول. وأخرجه أصحاب السّنن بلفظ: وقّت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأشار العقيليّ إلى أنّ جعفر بن سليمان الضّبعيّ تفرّد به، وفي حفظه شيء، وصرّح ابن عبد البرّ بذلك فقال: لَم يروه غيره، وليس بحجّةٍ. وتعقّب: بأنّ أبا داود والتّرمذيّ أخرجاه من رواية صدقة بن موسى عن ثابت، وصدقة بن موسى , وإن كان فيه مقال , لكن تبيّن أنّ جعفراً لَم ينفرد به. وقد أخرج ابن ماجه نحوه من طريق عليّ بن جدعان عن أنس، وفي عليّ أيضاً ضعف. وأخرجه ابن عديّ من وجه ثالث من جهة عبد الله بن عمران - شيخ مصريّ - عن ثابت عن أنس، لكن أتى فيه بألفاظٍ مستغربة قال: أن يحلق الرّجل عانته كلّ أربعين يوماً، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان: وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة. وعبد الله والرّاوي عنه مجهولان. قال القرطبيّ في " المفهم ": ذِكر الأربعين تحديد لأكثر المدّة، ولا يمنع تفقّد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، والضّابط في ذلك الاحتياج. وكذا قال النّوويّ: المختار أنّ ذلك كلّه يضبط بالحاجة. وقال في " شرح المهذّب ": ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف

الأحوال والأشخاص، والضّابط الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة. قلت: لكن لا يمنع من التّفقّد يوم الجمعة، فإنّ المبالغة في التّنظّف فيه مشروع. والله أعلم. وفي " سؤالات مهنّا " عن أحمد قلت له: يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه. وروي , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفن الشّعر والأظفار , وقال: لا يتلعّب به سحرة بني آدم. قلت: وهذا الحديث أخرجه البيهقيّ من حديث وائل بن حجرٍ نحوه. وقد استحبّ أصحابنا دفنها , لكونها أجزاء من الآدميّ. والله أعلم. فرع: لو استحقّ قصّ أظفاره فقصّ بعضاً , أبدى فيه ابن دقيق العيد احتمالاً من منع لبس إحدى النّعلين وترك الأخرى. قوله: (وقصّ الشّارب) أصل القصّ تتبّع الأثر، وقيّده ابن سيده في " المحكم " بالليل، والقصّ أيضاً إيراد الخبر تامّاً على من لَم يحضره، ويطلق أيضاً على قطع شيء من شيء بآلةٍ مخصوصة. والمراد به هنا الشّعر النّابت على الشّفة العليا من غير استئصال، وكذا قصّ الظّفر أخذ أعلاه من غير استئصال، وأمّا الشّارب فهو الشّعر النّابت على الشّفة العليا.

واختلف في جانبيه وهما السبالان. فقيل: هما من الشّارب , ويشرع قصّهما معه. وقيل: هما من جملة شعر اللحية. وأمّا القصّ. فهو الذي في أكثر الأحاديث كما هنا، وفي حديث عائشة وحديث أنس كذلك كلاهما عند مسلم، وكذا حديث حنظلة عن ابن عمر في صحيح البخاري. وورد الخبر بلفظ " الحلق " وهي رواية النّسائيّ عن محمّد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان بن عيينة بسند هذا الباب، ورواه جمهور أصحاب ابن عيينة بلفظ " القصّ " وكذا سائر الرّوايات عن شيخه الزّهريّ. ووقع عند النّسائيّ من طريق سعيد المقبريّ عن أبي هريرة بلفظ " تقصير الشّارب ". نعم. وقع الأمر بما يشعر بأنّ رواية الحلق محفوظ , كحديث العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ " جزّوا الشّوارب " وحديث ابن عمر في البخاري بلفظ " أحفوا الشّوارب " وله أيضا عن ابن عمر بلفظ " انهكوا الشّوارب ". فكلّ هذه الألفاظ تدلّ على أنّ المطلوب المبالغة في الإزالة، لأنّ الجزّ - وهو بالجيم والزّاي الثّقيلة - قصّ الشّعر والصّوف إلى أن يبلغ الجلد.

والإحفاء: بالمهملة والفاء الاستقصاء ومنه " حتّى أحفوه بالمسألة " (¬1). قال أبو عبيد الهرويّ: معناه ألزقوا الجزّ بالبشرة. وقال الخطّابيّ: هو بمعنى الاستقصاء. والنّهك: بالنّون والكاف. المبالغة في الإزالة، ومنه ما تقدّم في الكلام على الختان قوله - صلى الله عليه وسلم - للخافضة: أشمّي ولا تنهكي. أي: لا تبالغي في ختان المرأة. وجرى على ذلك أهل اللّغة. وقال ابن بطّال: النّهك التّأثير في الشّيء وهو غير الاستئصال. قال النّوويّ: المختار في قصّ الشّارب أنّه يقصّه حتّى يبدو طرف الشّفة ولا يحفّه من أصله، وأمّا رواية " أحفوا " فمعناها أزيلوا ما طال على الشّفتين. قال ابن دقيق العيد: ما أدري هل نقله عن المذهب , أو قاله اختياراً منه لمذهب مالك. قلت: صرّح " في شرح المهذّب " بأنّ هذا مذهبنا. وقال الطّحاويّ: لَم أر عن الشّافعيّ في ذلك شيئاً منصوصاً، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزنيّ والرّبيع كانوا يحفّون، وما أظنّهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6362) ومسلم (2359) من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال: سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه المسألة، فغضب فصعد المنبر، فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بيّنتُه لكم .. الحديث.

أخذوا ذلك إلاَّ عنه , وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التّقصير. وقال ابن القاسم عن مالك: إحفاء الشّارب عندي مُثلة، والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشّارب حتّى يبدو حرف الشّفتين. وقال أشهب: سألت مالكاً عمّن يحفي شاربه , فقال: أرى أن يوجع ضرباً. وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في النّاس. انتهى. وأغرب ابن العربيّ. فنقل عن الشّافعيّ أنّه يستحبّ حلق الشّارب، وليس ذلك معروفاً عند أصحابه. قال الطّحاويّ: الحلق هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد. انتهى. وقال الأثرم: كان أحمد يُحفي شاربه إحفاء شديداً، ونصَّ على أنّه أولى من القصّ. وقال القرطبيّ: وقصّ الشّارب أن يأخذ ما طال على الشّفة بحيث لا يؤذي الآكل ولا يجتمع فيه الوسخ. قال: والجزّ والإحفاء هو القصّ المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك. قال: وذهب الكوفيّون إلى أنّه الاستئصال، وبعض العلماء إلى التّخيير في ذلك. قلت: هو الطّبريّ، فإنّه حكى قول مالك وقول الكوفيّين , ونقل عن أهل اللّغة أنّ الإحفاء الاستئصال , ثمّ قال: دلَّت السّنّة على الأمرين، ولا تعارض، فإنّ القصّ يدلّ على أخذ البعض , والإحفاء

يدلّ على أخذ الكلّ , وكلاهما ثابت فيتخيّر فيما شاء. وقال ابن عبد البرّ: الإحفاء محتمل لأخذ الكلّ، والقصّ مفسّر للمراد، والمفسّر مقدّم على المجمل. انتهى. ويرجّح قول الطّبريّ ثبوت الأمرين معاً في الأحاديث المرفوعة. فأمّا الاقتصار على القصّ: ففي حديث المغيرة بن شعبة: ضفت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وكان شاربي وفّى فقصّه على سواك. أخرجه أبو داود. واختلف في المراد بقوله " على سواك ". فالرّاجح. أنّه وضع سواكاً عند الشّفة تحت الشّعر وأخذ الشّعر بالمقصّ. وقيل: المعنى قصّه على أثر سواك، أي: بعدما تسوّك. ويؤيّد الأوّل: ما أخرجه البيهقيّ في هذا الحديث قال فيه: فوضع السّواك تحت الشّارب وقصّ عليه. وأخرج البزّار من حديث عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً وشاربه طويل. فقال: ائتوني بمقصٍّ وسواك، فجعل السّواك على طرفه , ثمّ أخذ ما جاوزه. وأخرج التّرمذيّ من حديث ابن عبّاس وحسّنه: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقصّ شاربه. وأخرج البيهقيّ والطّبرانيّ من طريق شرحبيل بن مسلم الخولانيّ قال: رأيت خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصّون شواربهم أبو أمامة الباهليّ والمقدام بن معدي كرب الكنديّ، وعتبة بن عوف

السّلميّ , والحجّاج بن عامر الثّماليّ، وعبد الله بن بسر. وأمّا الإحفاء: ففي رواية ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجوس , فقال: إنّهم يوفون سبالهم، ويحلقون لحاهم فخالفوهم , قال: فكان ابن عمر يستقرض سبلته فيجزّها كما يجزّ الشّاة أو البعير. أخرجه الطّبريّ والبيهقيّ. وأخرجا من طريق عبد الله بن رافع قال: رأيت أبا سعيد الخدريّ وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاريّ وسلمة بن الأكوع وأبا رافع , ينهكون شواربهم كالحلق " لفظ الطّبريّ، وفي رواية البيهقيّ " يقصّون شواربهم مع طرف الشّفة ". وأخرج الطّبريّ من طرق عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة , أنّهم كانوا يحلقون شواربهم. وكان ابن عمر يحفي شاربه حتّى ينظر إلى بياض الجلد. ذكره البخاري معلقاً. ووصله أبو بكر الأثرم من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: رأيت ابن عمر يُحفي شاربه حتّى لا يترك منه شيئاً. وأخرج الطّبريّ من طريق عبد الله بن أبي عثمان: رأيت ابن عمر يأخذ من شاربه أعلاه وأسفله. لكن كلّ ذلك محتمل , لأن يراد استئصال جميع الشّعر النّابت على الشّفة العليا، ومحتمل لأنْ يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشّفة من أعلاها ولا يستوعب بقيّتها، نظراً إلى المعنى في مشروعيّة ذلك , وهو مخالفة المجوس والأمن من التّشويش على الأكل وبقاء زهومة المأكول

فيه، وكلّ ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك. وبذلك جزم الدّاوديّ (¬1) في شرح أثر ابن عمر المذكور. وهو مقتضى تصرّف البخاريّ , لأنّه أورد أثر ابن عمر , وأورد بعده حديثه , وحديث أبي هريرة في قصّ الشّارب، فكأنّه أشار إلى أنّ ذلك هو المراد من الحديث. وعن الشّعبيّ , أنّه كان يقصّ شاربه حتّى يظهر حرف الشّفة العلياء وما قاربه من أعلاه , ويأخذ ما يزيد ممّا فوق ذلك , وينزع ما قارب الشّفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك. وهذا أعدل ما وقفتُ عليه من الآثار. وقد أبدى ابن العربيّ لتخفيف شعر الشّارب معنىً لطيفاً. فقال: إنّ الماء النّازل من الأنف يتلبّد به الشّعر لِمَا فيه من اللّزوجة. ويعسر تنقيته عند غسله، وهو بإزاء حاسّة شريفة وهي الشّمّ، فشرع تخفيفه ليتمّ الجمال والمنفعة به. انتهى. ¬

_ (¬1) أحمد بن نصر الداودي الأسدي أبو جعفر. من أئمة المالكية بالمغرب , وكان فقيهاً فاضلاً متقناً مؤلفاً مجيداً , له حظٌ من اللسان والحديث والنظر. ألَّف كتابه النامي في شرح الموطأ , والنصحية في شرح البخاري. وغير ذلك , وكان درسه وحده لم يتفقَّه في أكثر علمه على إمامٍ مشهورٍ , وإنما وصَلَ بإدراكه. حمل عنه أبو عبد الملك البوني وغيره. توفي بتلمسان سنة 402 هـ وقبره عند باب العقبة. الديباج المذهّب. (1/ 35) لابن فرحون.

قلت: وذلك يحصل بتخفيفه ولا يستلزم إحفافه وإن كان أبلغ. وقد رجّح الطّحاويّ الحلق على القصّ بتفضيله - صلى الله عليه وسلم - الحلق على التّقصير في النّسك. (¬1). ووهّى ابن التّين الحلْق بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس منّا من حلَقَ. (¬2) وكلاهما احتجاج بالخبر في غير ما ورد فيه , ولا سيّما الثّاني. ويؤخذ ممّا أشار إليه ابن العربيّ. مشروعيّة تنظيف داخل الأنف وأخذ شعره إذا طال، والله أعلم. وقد روى مالك عن زيد بن أسلم , أنّ عمر كان إذا غضب فتل شاربه. فدلَّ على أنّه كان يوفّره. وحكى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفيّة , أنّه قال: لا بأس بإبقاء الشّوارب في الحرب إرهاباً للعدوّ، وزيّفه. فصل: في فوائد تتعلق بهذا الحديث: الأولى: قال النّوويّ: يستحبّ أن يبدأ في قصّ الشّارب باليمين. الثّانية: يتخيّر بين أن يقصّ ذلك بنفسه أو يولي ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمة بخلاف العانة. قلت: محلّ ذلك حيث لا ضرورة، وأمّا من لا يحسن الحلق فقد ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله. انظر كتاب الحج رقم (250). (¬2) أخرجه أبو داود (3130) والنسائي (4/ 20) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -. والمقصود منه من حلق عند المصيبة. ولذا قال الشارح: احتجاج بالخبر في غير ما ورد فيه. وانظر حديث أبي موسى الآتي في الجنائز. رقم (169).

يباح له إن لَم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محلّ هذا إذا لَم يجد ما يتنوّر به فإنّه يغني عن الحلق ويحصل به المقصود. وكذا من لا يقوى على النّتف ولا يتمكّن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لَم تهتك المروءة من أجل الضّرورة كما تقدّم عن الشّافعيّ. وهذا لمن لَم يقو على التّنوّر من أجل أنّ النّورة تؤذي الجلد الرّقيق كجلد الإبط، وقد يقال مثل ذلك في حلق العانة من جهة المغابن التي بين الفخذ والأنثيين. وأمّا الأخذ من الشّارب فينبغي فيه التّفصيل بين من يحسن أخذه بنفسه بحيث لا يتشوّه وبين من لا يحسن فيستعين بغيره، ويلتحق به من لا يجد مرآة ينظر وجهه فيها عند أخذه الثّالثة: قال النّوويّ: يتأدّى أصل السّنّة بأخذ الشّارب بالمقصّ وبغيره. وتوقّف ابن دقيق العيد في قرضه بالسّنّ , ثمّ قال: من نظر إلى اللفظ منع. ومن نظر إلى المعنى أجاز. الرّابعة: قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحداً قال بوجوب قصّ الشّارب من حيث هو هو، واحترز بذلك من وجوبه بعارضٍ حيث يتعيّن كما تقدّمت الإشارة إليه من كلام ابن العربيّ. وكأنّه لَم يقف على كلام ابن حزم في ذلك فإنّه قد صرّح بالوجوب في ذلك وفي إعفاء اللحية.

باب الغسل من الجنابة

باب الغسل من الجنابة الغسل وهو بضمّ الغين اسمٌ للاغتسال , وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم وأمّا المصدر فيجوز فيه الضّمّ والفتح. حكاه ابن سيده وغيره. وقيل: المصدر بالفتح والاغتسال بالضّمّ. وقيل: الغسل بالفتح فعل المغتسل , وبالضّمّ الماء الذي يغتسل به , وبالكسر ما يجعل مع الماء كالأشنان. وحقيقة الغسل جريان الماء على الأعضاء. واختلف في وجوب الدّلك. القول الأول: لَم يوجبه الأكثر. القول الثاني: نُقل عن مالكٍ والمزنيّ وجوبه. واحتجّ ابن بطّالٍ بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها , قال: فيجب ذلك في الغسل قياساً لعدم الفرق بينهما. وتعقّب: بأنّ جميع من لَم يوجب الدّلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضّئ من غير إمرارٍ , فبطَلَ الإجماع , وانتفت الملازمة.

الحديث الواحد والثلاثون

الحديث الواحد والثلاثون 31 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لقِيَه في بعض طرق المدينة وهو جنبٌ، قال: فانخنسْتُ منه، فذهبتُ فاغتسلتُ , ثمّ جئتُ، فقال: أين كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنباً فكرهتُ أنْ أُجالسَك على غير طهارةٍ، فقال: سبحان الله، إنّ المؤمن لاينجس (¬1). قوله: (في بعض طرق) كذا لكريمة والأصيلي. وللأكثر " بعض طريق " ولأبي داود والنّسائيّ " لقيته في طريقٍ من طرق المدينة " (¬2) وهي توافق رواية الأصيليّ. قوله: (وهو جنبٌ) يعني نفسه , وفي رواية أبي داود " وأنا جنب ". وللبخاري " فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانْسلَلتُ، فأتيتُ الرحل فاغتسلتُ ثم جئتُ وهو قاعد ". وقوله " فانسللتُ " أي: ذهبت بخفية. والرحل: بحاء مهملة ساكنة. أي: المكان الذي يأوي فيه. قوله: (فانخنست) كذا للكشميهنيّ والحمويّ وكريمة. بنونٍ ثمّ خاء معجمة ثمّ نون ثمّ سين مهملة. وقال القزّاز: وقع في رواية " فانبخست " يعني بنونٍ ثمّ موحّدة ثمّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (279 , 281) ومسلم (371) من طريق بكر بن عبد الله عن أبي رافع عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) وهذه الرواية في مسلم أيضاً (371)

خاء معجمة ثمّ سين مهملة. قال: ولا وجه له , والصّواب أن يقال " فانخنست " يعني كما تقدّم قال: والمعنى مضيت عنه مستخفياً , ولذلك وصف الشّيطان بالخنّاس , ويقوّيه الرّواية الأخرى في البخاري " فانسللت " انتهى. وقال ابن بطّالٍ: وقعت هذه اللفظة " فانبخست " يعني كما تقدّم , قال: ولابن السّكن بالجيم , قال: ويحتمل أن يكون من قوله تعالى (فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً) أي: جرت واندفعت , وهذه أيضاً رواية الأصيليّ وأبي الوقت وابن عساكر , ووقع في رواية المستملي " فانتجست " بنونٍ ثمّ مثنّاة فوقانيّة ثمّ جيم , أي: اعتقدت نفسي نجساً. ووجّهت الرّواية التي أنكرها القزّاز , بأنّها مأخوذة من البخس وهو النّقص , أي: اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وثبت في رواية التّرمذيّ مثل رواية ابن السّكن , وقال: معنى انبخست منه. تنحّيت عنه. ولَم يثبت لي من طريق الرّواية غير ما تقدّم , وأشبهها بالصّواب الأولى ثمّ هذه. وقد نقل الشّرّاح فيها ألفاظاً مختلفةً ممّا صحّفه بعض الرّواة لا معنى للتّشاغل بذكره , كانتجشت - بشين معجمةٍ - من النّجش , و - بنونٍ وحاء مهملة ثمّ موحّدة ثمّ سين مهملة - من الانحباس. قوله: (يا أبا هريرة) وقع في رواية المستملي والكشمهني " يا أبا

هر " بالترخيم. قال ابن بطال: كنَّا أبا هريرة , وهريرة تصغير هرة. فخاطبه باسمها مذكراً. قوله: (سبحان الله) تعجّب من اعتقاد أبي هريرة التّنجّس بالجنابة , أي: كيف يخفى عليه هذا الظّاهر؟. قال ابن بطَّال: التسبيح والتكبير. معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء , واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسنٌ , وفيه تمرين اللسان على ذكر الله تعالى. قوله: (إنّ المؤمن لا ينجس) تمسّك بمفهومه بعض أهل الظّاهر , فقال: إنّ الكافر نجس العين , وقوّاه بقوله تعالى (إنّما المشركون نجسٌ). وأجاب الجمهور عن الحديث: بأنّ المراد أنّ المؤمن طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النّجاسة بخلاف المشرك؛ لعدم تحفّظه عن النّجاسة. وعن الآية: بأنّ المراد أنّهم نجسٌ في الاعتقاد والاستقذار. وحجّتهم أنّ الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب , ومعلوم أنّ عرقهنّ لا يسلم منه من يضاجعهنّ ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابيّة إلاَّ مثل ما يجب عليه من غسل المسلمة , فدلَّ على أنّ الآدميّ الحيّ ليس بنجس العين. إذ لا فرق بين النّساء والرّجال. وأغرب القرطبيّ في الجنائز من شرح مسلم. فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشّافعيّ. وفي هذا الحديث استحباب الطّهارة عند ملابسة الأمور المعظّمة ,

واستحباب احترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات. وكان سبب ذهاب أبي هريرة. أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لقي أحداً من أصحابه ماسحه ودعا له. هكذا رواه النّسائيّ وابن حبّان من حديث حذيفة , فلمّا ظنّ أبو هريرة أنّ الجنب ينجس بالحدث خشي أن يماسحه - صلى الله عليه وسلم - كعادته , فبادر إلى الاغتسال , وإنّما أنكر عليه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: وأنا على غير طهارة. وفيه استحباب استئذان التّابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه؛ لقوله " أين كنت؟ " فأشار إلى أنّه كان ينبغي له أن لا يفارقه حتّى يعلمه. وفيه استحباب تنبيه المتبوع لتابعه على الصّواب وإن لَم يسأله. وفيه جواز تأخير الاغتسال عن أوّل وقت وجوبه , وبوّب عليه ابن حبّان " الرّدّ على من زعم أنّ الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال أنّ ماء البئر ينجس ". واستدل به البخاريّ على طهارة عَرَقِ الجنب؛ لأنّ بدنه لا ينجس بالجنابة فكذلك ما تحلب منه. وعلى جواز تصرّف الجنب في حوائجه قبل أن يغتسل. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: يحتجم الجنب، ويُقلِّم أظفاره، ويحلق رأسه، ويَطلي بالنورة. وإن لم يتوضأ. وقد خالف عطاءً غيرُه كما رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري وغيره , فقالوا: يستحب له الوضوء.

وحديث أنس , أنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه، في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة. يقوِّي اختيار عطاء , لأنه لم يذكر فيه أنه توضأ. فكأنَّ البخاري (¬1) أورده ليستدلَّ له لا ليستدلَّ به. ¬

_ (¬1) قال البخاري في صحيحه: باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره. ثم أورد قول عطاء , ثم روى حديث أنس. وهو في مسلم أيضاً (309) وزاد " بغسل واحد "

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون 32 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه , ثمّ توضّأ وضوءه للصّلاة , ثمّ اغتسل , ثمّ يُخلِّل بيديه شعره , حتّى إذا ظنّ أنّه قد أَرْوى بشرته , أفاض عليه الماء ثلاث مرّاتٍ , ثمّ غسل سائر جسده. (¬1) تمهيد: قال الشّافعيّ رحمه الله في الأمّ: فرض الله تعالى الغسل مطلقاً لَم يذكر فيه شيئاً يبدأ به قبل شيء , فكيفما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه. والاختيار في الغسل ما روت عائشة , ثمّ روى حديث الباب عن مالكٍ عن هشام عن أبيه عن عائشة , وهو في الموطّأ كذلك. قال ابن عبد البرّ: هو من أحسن حديث روي في ذلك. قلت: وقد رواه عن هشام - وهو ابن عروة - جماعة من الحفّاظ غير مالكٍ , كما سنشير إليه. قوله: (كان إذا اغتسل) أي: شرع في الفعل و " من " في قوله " من الجنابة " سببيّة. قوله: (غسل يديه) وللبخاري " بدأ فغسل يديه ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (245 , 259 , 269) ومسلم (316) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به.

يحتمل: أن يكون غسلهما للتّنظيف ممّا بهما من مستقذرٍ , وسيأتي في حديث ميمونة تقوية ذلك. ويحتمل: أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النّوم. ويدلّ عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام " قبل أن يدخلهما في الإناء " رواه الشّافعيّ والتّرمذيّ. وزاد أيضاً " ثمّ يغسل فرجه " وكذا لمسلمٍ من رواية أبي معاوية , ولأبي داود من رواية حمّاد بن زيد كلاهما عن هشام. وهي زيادةٌ جليلةٌ؛ لأنّ بتقديم غسله يحصل الأمن من مسّه في أثناء الغسل. قوله: (يتوضّأ وضوءه للصّلاة) فيه احتراز عن الوضوء اللّغويّ. ويحتمل: أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنّة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقيّة الجسد في الغسل. ويحتمل: أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نيّة غسل الجنابة في أوّل عضوٍ. وإنّما قدّم غسل أعضاء الوضوء تشريفاً لها , ولتحصل له صورة الطّهارتين الصّغرى والكبرى , وإلى هذا جنح الدّاوديّ شارح المختصر من الشّافعيّة , فقال: يقدّم غسل أعضاء وضوئه على ترتيب الوضوء , لكن بنيّة غسل الجنابة. ونقل ابن بطّالٍ الإجماع على أنّ الوضوء لا يجب مع الغسل. وهو مردودٌ. فقد ذهب جماعة منهم أبو ثورٍ وداود وغيرهما إلى أنّ

الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث. قوله: (ثم يُخلِّل بيديه) وللبخاري " ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها " أي: بأصابعه التي أدخلها في الماء. ولمسلم " ثمّ يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشّعر " وللتّرمذيّ والنّسائيّ من طريق أبي عيينة " ثمّ يشرّب شعره الماء ". قوله: (شعره) وفي رواية لهما " أصول الشعر " أي: شعر رأسه , ويدلّ عليه رواية حمّاد بن سلمة عن هشام عند البيهقيّ " يخلِّل بها شقّ رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشّعر , ثمّ يفعل بشقّ رأسه الأيسر كذلك ". وقال القاضي عياض: احتجّ به بعضهم على تخليل شعر الجسد في الغسل , إمّا لعموم قوله " أصول الشّعر " , وإمّا بالقياس على شعر الرّأس , وفائدة التّخليل إيصال الماء إلى الشّعر والبشرة ومباشرة الشّعر باليد ليحصل تعميمه بالماء , وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصّبّ ما تتأذّى به. ثمّ هذا التّخليل غير واجب اتّفاقاً , إلاَّ إن كان الشّعر ملبّداً بشيءٍ يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله، والله أعلم. قوله: (إذا ظنّ) يحتمل: أن يكون على بابه ويكتفى فيه بالغلبة. ويحتمل: أن يكون بمعنى علم. قوله: (أروى) هو فعلٌ ماضٍ من الإرواء , يقال: أرواه إذا جعله ريّاناً , والمراد بالبشرة هنا ما تحت الشّعر.

قوله: (أفاض عليه) أي: على شعره. والإفاضة الإسالة. واستدل به من لَم يشترط الدّلك وهو ظاهرٌ. وقال المازريّ: لا حجّة فيه؛ لأنّ أفاض بمعنى غسل، والخلاف في الغسل قائم. قلت: ولا يخفى ما فيه. والله أعلم. وقال القاضي عياض: لَم يأت في شيءٍ من الرّوايات في وضوء الغسل ذكر التّكرار. قلت: بل ورد ذلك من طريقٍ صحيحةٍ أخرجها النّسائيّ والبيهقيّ من رواية أبي سلمة عن عائشة , أنّها وصفت غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة. الحديث، وفيه: ثمّ يتمضمض ثلاثاً , ويستنشق ثلاثاً , ويغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً , ثمّ يفيض على رأسه ثلاثاً. قوله: (ثلاث مرات) وللبخاري " ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه " بضمّ المعجمة وفتح الرّاء جمع غرفةٍ , وهي قدر ما يغرف من الماء بالكفّ , وللكشميهنيّ " ثلاث غرفات " وهو المشهور في جمع القلة. وفيه استحباب التّثليث في الغسل قال النّوويّ: ولا نعلم فيه خلافاً إلاَّ ما تفرّد به الماورديّ. فإنّه قال: لا يستحبّ التّكرار في الغسل. قلت: وكذا قال الشّيخ أبو عليّ السّنجيّ في شرح الفروع , وكذا قال القرطبيّ. وحمل التّثليث في هذه الرّواية على رواية القاسم عن

عائشة في الصحيحين , قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، دعا بشيءٍ نحو الحلاب فأخذ بكفّه، بدأ بشقّ رأسه الأيمن، ثمّ الأيسر، ثمّ أخذ بكفّيه، فقال بهما على رأسه " فإنّ مقتضاها أنّ كل غرفةٍ كانت في جهةٍ من جهات الرّأس. وسيأتي في آخر الكلام على حديث ميمونة زيادة في هذه المسألة. قوله: (ثمّ غسل سائر جسده) أي: بقيّة جسده , وللبخاري " على جلده كلّه " وهذا التّأكيد يدلّ على أنّه عمّم جميع جسده بالغسل بعدما تقدّم , وهو يؤيّد الاحتمال الأوّل , أنّ الوضوء سنّةٌ مستقلة قبل الغسل , وعلى هذا فينوي المغتسل الوضوء إن كان محدثاً وإلا فسنّة الغسل. واستدل بهذا الحديث. على استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل , ولا يؤخّر غسل الرّجلين إلى فراغه , وهو ظاهرٌ من قولها " كما يتوضّأ للصّلاة " وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه. لكن رواه مسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره " ثمّ أفاض على سائر جسده , ثمّ غسل رجليه ". وهذه الزّيادة تفرّد بها أبو معاوية دون أصحاب هشامٍ. قال البيهقيّ: هي غريبةٌ صحيحةٌ. قلت: لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقالٌ. نعم. له شاهدٌ من رواية أبي سلمة عن عائشة. أخرجه أبو داود الطّيالسيّ. فذكر حديث الغسل كما تقدّم عند النّسائيّ , وزاد في آخره

" فإذا فرغ غسل رجليه ". فإمّا أن تُحمل الرّوايات عن عائشة على أنّ المراد بقولها " وضوءه للصّلاة " أي: أكثره , وهو ما سوى الرّجلين. أو يُحمل على ظاهره , ويستدلّ برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء. ويحتمل: أن يكون قوله في رواية أبي معاوية " ثمّ غسل رجليه " أي: أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء , فيوافق قوله " ثمّ يفيض على جلده كلّه "

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون 33 - عن عائشة كانت تقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناءٍ واحدٍ , نَغْترفُ منه جميعاً. (¬1) قوله: (أنا ورسول الله) يحتمل: أن يكون مفعولاً معه , ويحتمل: أن يكون عطفاً على الضّمير. وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي السّبب في الاغتسال , فكأنّها أصلٌ في الباب. قوله: (من إناءٍ واحدٍ) وللبخاري عن الأسود عنها " كلانا جنب " ولمسلم عن أبي سلمة عنها " ونحن جنبان " وللبخاري " من إناء واحد من قدح يقال له الفرَقَ " من الأولى: ابتدائيّة , والثّانية: بيانيّة. ويحتمل: أن يكون " قدح " بدلاً من إناءٍ بتكرار حرف الجرّ. وقال ابن التّين: كان هذا الإناء من شبهٍ - وهو بفتح المعجمة والموحّدة - كما تقدّم توضيحه في صفة الوضوء من حديث عبد الله بن زيد (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (269) ومسلم (319) من حديث عروة عنها به. واللفظ للبخاري. ورواه الشيخان من طرق أخرى عن عائشة بمعناه. كما سيُذكر في الشرح. تنبيه: وقع عند البخاري بلفظ (نغرِف) دون التاء المثناة. ولم أر أحداً نبّه عليه. ورواية الباب عند النسائي (232) وأحمد (43/ 100) وهما بمعنى. (¬2) تقدم برقم (9)

وكأنّ مستنده ما رواه الحاكم من طريق حمّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه ولفظه " تور من شبهٍ ". وقوله " يقال له الفرق " قال ابن التّين: الفرق بتسكين الرّاء ورويناه بفتحها وجوّز بعضهم الأمرين. وقال القتيبيّ وغيره: هو بالفتح. وقال النّوويّ: الفتح أفصح وأشهر، وزعم أبو الوليد الباجيّ أنّه الصّواب , قال: وليس كما قال بل هما لغتان. قلت: لعل مستند الباجيّ ما حكاه الأزهريّ عن ثعلب وغيره: الفرق بالفتح والمحدّثون يسكّنونه، وكلام العرب بالفتح. انتهى. وقد حكى الإسكانَ أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللّغة , والذي في روايتنا هو الفتح. والله أعلم. وحكى ابن الأثير. أنّ الفَرَق بالفتح ستّة عشر رطلاً , وبالإسكان مائة وعشرون رطلاً , وهو غريب. وأمّا مقداره , فعند مسلم في آخر رواية ابن عيينة عن الزّهريّ في هذا الحديث قال سفيان يعني ابن عيينة: الفَرَق ثلاثة آصعٍ. قال النّوويّ: وكذا قال الجماهير. وقيل: الفَرَق صاعان. لكن نقل أبو عبيد الاتّفاق على أنّ الفَرَق ثلاثة آصعٍ , وعلى أنّ الفرق ستّة عشر رطلاً. ولعله يريد اتّفاق أهل اللّغة , وإلاَّ فقد قال بعض الفقهاء من الحنفيّة وغيرهم: إنّ الصّاع ثمانية أرطال.

وتمسّكوا بما روي عن مجاهدٍ في الحديث عن عائشة , أنّه حزَرَ الإناء ثمانية أرطال. والصّحيح الأوّل. فإنّ الحزْرَ لا يُعارَض به التّحديد. وأيضاً فلم يصرّح مجاهد بأنّ الإناء المذكور صاع , فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها. ويؤيّد كون الفرق ثلاثة آصعٍ. ما رواه ابن حبّان من طريق عطاءٍ عن عائشة بلفظ " قدر ستّة أقساط ". والقِسط بكسر القاف. وهو باتّفاق أهل اللّغة نصف صاع , والاختلاف بينهم أنّ الفرق ستّة عشر رطلاً , فصحّ أنّ الصّاع خمسة أرطال وثلث. وتوسّط بعض الشّافعيّة , فقال: الصّاع الذي لِماء الغُسل ثمانية أرطال , والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث. وهو ضعيف. ونقل الطّحاويّ ثمّ القرطبيّ والنّوويّ الاتّفاق على جواز اغتسال الرّجل والمرأة من الإناء الواحد. وفيه نظرٌ، لِمَا حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنّه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البرّ عن قوم، وهذا الحديث حجّة عليهم. ونقل النّوويّ أيضاً الاتّفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرّجل دون العكس. وفيه نظرٌ أيضاً. فقد أثبت الخلاف فيه الطّحاويّ، وثبت عن ابن عمر والشّعبيّ والأوزاعيّ المنع , لكن مقيّداً بما إذا كانت حائضاً.

وأمّا عكسه. فصحّ عن عبد الله بن سرجس الصّحابيّ وسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ أنّهما منعوا التّطهّر بفضل المرأة. وبه قال أحمد وإسحاق، لكن قيّداه بما إذا خلت به , لأنّ أحاديث الباب ظاهرة في الجواز إذا اجتمعا. ونقل الميمونيّ عن أحمد: أنّ الأحاديث الواردة في منع التّطهّر بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة، قال: لكن صحّ عن عدّة من الصّحابة المنع فيما إذا خلت به، وعورض بصحّة الجواز عن جماعة من الصّحابة منهم ابن عبّاس. والله أعلم وأشهر الأحاديث في ذلك من الجهتين. حديث الحكم بن عمرو الغفاريّ في المنع، وحديث ميمونة في الجواز. أمّا حديث الحكم بن عمرو (¬1) , فأخرجه أصحاب السّنن وحسّنه التّرمذيّ. وصحَّحه ابن حبّان. وأغرب النّوويّ , فقال: اتّفق الحفّاظ على تضعيفه. وأمّا حديث ميمونة , فأخرجه مسلم (¬2)، لكن أعلَّه قوم لتردّدٍ وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: علمي والذي يخطر على بالي , أنّ ¬

_ (¬1) ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة. (¬2) صحيح مسلم (323) عن ابن عباس , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة. وقول الشارح حديث ميمونة. أي عن قصة ميمونة , لأنَّ الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه - كما ترى.

أبا الشّعثاء أخبرني. فذكر الحديث. وقد ورد طريق أخرى بلا تردّد , لكنّ راويها غير ضابط وقد خولف. والمحفوظ ما أخرجه الشّيخان (¬1) بلفظ: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد. وفي المنع أيضاً ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ من طريق حميد بن عبد الرّحمن الحميريّ , قال: لقيت رجلاً صحب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين , فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرّجل , أو يغتسل الرّجل بفضل المرأة , وليغترفا جميعاً. رجاله ثقات، ولَم أقف لمن أعلَّه على حجّة قويّة. ودعوى البيهقيّ: أنّه في معنى المرسل مردودة , لأنّ إبهام الصّحابيّ لا يضرّ، وقد صرّح التّابعيّ بأنّه لقيه. ودعوى ابن حزم: أنّ داود راويه عن حميد بن عبد الرّحمن هو ابن يزيد الأوديّ وهو ضعيف. مردودةٌ، فإنّه ابن عبد الله الأوديّ وهو ثقة، وقد صرّح باسم أبيه أبو داود وغيره. ومن أحاديث الجواز. ما أخرجه أصحاب السّنن والدّارقطنيّ وصحَّحه التّرمذيّ وابن خزيمة وغيرهما من حديث ابن عبّاس عن ¬

_ (¬1) البخاري (253) ومسلم (322) من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس به.

ميمونة , قالت: أجنبتُ فاغتسلتُ من جفنة، ففضلتْ فيها فضلة، فجاء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يغتسل منه، فقلت له , فقال: الماء ليس عليه جنابة , واغتسل منه. لفظ الدّارقطنيّ. وقد أعلّه قومٌ بسماك بن حرب راويه عن عكرمة , لأنّه كان يقبل التّلقين، لكن قد رواه عنه شعبة , وهو لا يحمل عن مشايخه إلاَّ صحيح حديثهم. وقول أحمد: إنّ الأحاديث من الطّريقين مضطربة , إنّما يصار إليه عند تعذّر الجمع، وهو ممكن بأن تحمل أحاديث النّهي على ما تساقط من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطّابيّ. أو يحمل النّهي على التّنزيه جمعاً بين الأدلة. والله أعلم. واستدل به الدّاوديّ. على جواز نظر الرّجل إلى عورة امرأته وعكسه , ويؤيّده ما رواه ابن حبّان من طريق سليمان بن موسى , أنّه سئل عن الرّجل ينظر إلى فرج امرأته , فقال: سألت عطاء , فقال: سألت عائشة. فذكَرتْ هذا الحديث بمعناه " وهو نصٌّ في المسألة. والله أعلم. قوله: (نغترف منه جميعاً) وللبخاري " نغرف " بإسكان المعجمة بعدها راء مكسورة , وله أيضاً " نشرع فيه جميعاً " وفي رواية لهما " تختلف فيه أيدينا " ولمسلمٍ من طريق معاذة عن عائشة " فيبادرني حتّى أقول: دع لي " زاد النّسائيّ " وأبادره حتّى يقول: دعي لي. وفي هذا الحديث جواز اغتراف الجنب من الماء القليل , وأنّ ذلك

لا يمنع من التّطهّر بذلك الماء ولا بما يفضل منه، ويدلّ على أنّ النّهي عن انغماس الجنب في الماء الدّائم إنّما هو للتّنزيه كراهية أن يستقذر لا لكونه يصير نجساً بانغماس الجنب فيه؛ لأنّه لا فرق بين جميع بدن الجنب وبين عضوٍ من أعضائه. وأمّا توجيه الاستدلال به لترجمة البخاري (باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها , إذا لَم يكن على يده قذرٌ غير الجنابة). فلأنّ الجنب لَمّا جاز له أن يدخل يده في الإناء؛ ليغترف بها قبل ارتفاع حدثه لتمام الغسل كما في حديث الباب , دلَّ على أنّ الأمر بغسل يده قبل إدخالها ليس لأمرٍ يرجع إلى الجنابة , بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسةٍ متيقّنةٍ أو مظنونة.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون 34 - عن ميمونة بنت الحارث (¬1) رضي الله عنها زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّها قالت: وضعتُ (¬2) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءَ الجنابة , فأكفَأَ بيمينه على يساره مرّتين أو ثلاثاً ثمّ غسل فرجه , ثمّ ضرب يده بالأرض , أو الحائط , مرّتين أو ثلاثاً ثمّ تمضمض واستنشق , وغسل وجهه وذراعيه , ثمّ أفاض على رأسه الماء , ثمّ غسل جسده , ثمّ تنحّى , فغسل رجليه. فأتيته بِخِرْقةٍ فلم يُرِدْها , فجعل ينفض الماء بيده. (¬3) ¬

_ (¬1) ابن حزن الهلاليّة، أخت أم الفضل لبابة، كان اسمها برّة، فسمَّاها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ميمونة، وكانت قبل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند أبي رهم بن عبد العزى. وقيل: عند سخبرة بن أبي رهم، وقيل: عند حويطب بن عبد العزّى، وقيل: عند فروة أخيه. وتزوّجها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة سنة سبع لَمَّا اعتمر عمرة القضيّة. وقد ذكر الزّهريّ وقتادة , أنها التي وهبت نفسها للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت فيها الآية. وقيل الواهبة غيرها. وقيل: إنهن تعدّدن، وهو الأقرب. قال ابن سعد: كانت آخر امرأة تزوّجها - يعني ممن دخل بها. وروى ابن سعد بسند صحيح عن ميمون بن مهران: سألت صفية بنت شيبة فقالت: تزوّج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ميمونة بسَرِف , وبنى بها في قبّة لها، وماتت بسرف، ودفنت في موضع قبّتنا، وكانت وفاة ميمونة سنة 51. الإصابة (8/ 322). (¬2) كذا فيه. والسياق الذي ارتضاه المقدسي هنا هو رواية الفضل بن موسى عن الأعمش عند البخاري (270) , لكن فيه (وضعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءاً للجنابة ..) وكذا في فتح الباري. والروياتُ الأخرى في الصحيحين. إنما هو " وضعت لرسول الله غسلاً , وفي رواية ماء. كما سيأتي. ولعلَّ المصنف رحمه الله لفّق الروايات. أو وهِم. والله أعلم. (¬3) أخرجه البخاري (246, 254 , 256 , 257 , 262 , 263 , 270 , 272 , 277) ومسلم (317) من طرق عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنهما به. قال الشارح: وصرّح في رواية حفص بن غياثٍ عن الأعمش بسماع الأعمش من سالمٍ فأُمن ... تدليسه. وفي الإسناد ثلاثة من التّابعين على الولاء: الأعمش وسالم وكريب , وصحابيّان: ابن عبّاس وخالته ميمونة بنت الحارث.

قوله: (وضوءَ الجنابة) كذا للأكثر بالإضافة , ولكريمة وضوءاً بالتنوين لجنابة بلام واحدة , وللكشميهني للجنابة , ولرفيقه وضع على البناء للمفعول لرسول الله بزيادة اللام. أي: لأجله. وضوء بالرفع والتنوين. وللبخاري " صببت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلاً " بضم أوّله. أي ماء الاغتسال. كما في رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عند البخاري " ماءً الغسل " قوله: (فأكفأ) أي: قَلَبَ قوله: (مرتين أو ثلاثاً) الشّكّ من الأعمش كما عند البخاري من رواية أبي عوانة عنه عن سالم " فغسلها مرّةً أو مرّتين قال: سليمان لا أدري، أذكر الثّالثة أم لا " , وفاعل " أذكر " سالم بن أبي الجعد. وفي رواية عبد الواحد وغيره عن الأعمش " فغسل يديه مرّتين أو ثلاثاً " ولابن فضيلٍ عن الأعمش " فصبّ على يديه ثلاثاً " ولَم يشكّ , أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه ". فكأنّ الأعمش كان يشكّ فيه ثمّ تذكّر فجزم؛ لأنّ سماع ابن فضيلٍ

منه متأخّر. وغفل الكرمانيّ , فقال: الشّكّ من ميمونة. قوله: (ثم غسل فرجه) زاد البخاري " وما أصابه من أذى " , وله أيضاً " فغسل مذاكيره " وهو جمع ذكرٍ على غير قياس , وقيل: واحده مذكار , وكأنّهم فرّقوا بين العضو وبين خلاف الأنثى. قال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له , وقيل: واحده مذكار. وقال ابن خروف: إنّما جمعه مع أنّه ليس في الجسد إلاَّ واحد , بالنّظر إلى ما يتّصل به , وأطلق على الكل اسمه , فكأنّه جعل كل جزءٍ من المجموع كالذّكر في حكم الغسل. قوله: (ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط) وللبخاري " ثم دلك يده بالأرض " ولمسلم " فدلكها دلكاً شديداً ". قوله: (ثمّ غسل جسده) قال ابن بطال: حديث عائشة الذي في الباب قبله أليق بالترجمة (¬1)؛ لأن فيه " ثم غسل سائر جسده " وأما حديث الباب ففيه " ثم غسل جسده " فدخل في عمومه مواضع الوضوء. فلا يطابق قوله " ولم يعد غسل مواضع الوضوء ". وأجاب ابن المنير: بأن قرينة الحال والعُرف من سياق الكلام يخص أعضاء الوضوء. فإن تقديم غسل أعضاء الوضوء وعرف الناس من مفهوم الجسد إذا أطلق بعده يعطي ذلك. انتهى. ¬

_ (¬1) ترجم البخاري على حديث ميمونة بقوله (باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده. ولم يُعد غسل مواضع الوضوء مرّة أخرى)

ولا يخفى تكلّفه. وأجاب ابن التين: بأنَّ مراد البخاري أن يبين أنَّ المراد بقوله في هذه الرواية " ثم غسل جسده " أي ما بقي من جسده بدليل الرواية الأخرى. وهذا فيه نظر؛ لأن هذه القصة غير تلك القصة كما قدمنا في أوائل الغسل. وقال الكرماني: لفظ " جسده " شامل لجميع أعضاء البدن فيُحمل عليه الحديث السابق , أو المراد هنا بسائر جسده. أي باقيه بعد الرأس لا أعضاء الوضوء. قلت: ومِن لازم هذا التقدير أنَّ الحديث غير مطابق للترجمة. والذي يظهر لي أنَّ البخاري حمل قوله " ثم غسل جسده " على المجاز. أي: ما بقي بعدما تقدم ذكره , ودليل ذلك قوله بعد " فغسل رجليه " إذ لو كان قوله " غسل جسده " محمولاً على عمومه لم يحتج لغسل رجليه ثانياً؛ لأن غسلهما كان يدخل في العموم. وهذا أشبه بتصرفات البخاري , إذ من شأنه الاعتناء بالأخفى أكثر من الأجلى. واستنبط ابن بطال من كونه لم يعد غسل مواضع الوضوء. إجزاء غسل الجمعة عن غسل الجنابة وإجزاء الصلاة بالوضوء المجدد لِمن تبيَّن أنه كان قبل التجديد محدثاً. والاستنباط المذكور مبنيٌ عنده على أنَّ الوضوء الواقع في غسل الجنابة سنة وأجزأ مع ذلك عن غسل تلك الأعضاء بعده. وهي

دعوى مردودة؛ لأن ذلك يختلف باختلاف النية. فمَن نوى غسل الجنابة وقدم أعضاء الوضوء لفضيلته ثم غسله وإلاَّ فلا يصح البناء المذكور، والله أعلم. قوله: (ثمّ تنحّى , فغسل رجليه) وللبخاري " توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصّلاة غير رجليه " فيه التّصريح بتأخير الرّجلين في وضوء الغسل , وهو مخالفٌ لظاهر رواية عائشة. ويمكن الجمع بينهما , إمّا بحمل رواية عائشة على المجاز كما تقدّم , وإمّا بحمله على حالةٍ أخرى. وبحسب اختلاف هاتين الحالتين. اختلف نظرُ العلماء. القول الأول: ذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرّجلين في الغسل. القول الثاني: عن مالكٍ إن كان المكان غير نظيفٍ , فالمستحبّ تأخيرهما , وإلاَّ فالتّقديم. وعند الشّافعيّة في الأفضل قولان. قال النّوويّ: أصحّهما وأشهرهما ومختارهما , أنّه يكمل وضوءه , قال: لأنّ أكثر الرّوايات عن عائشة وميمونة كذلك. انتهى. كذا قال , وليس في شيءٍ من الرّوايات عنهما التّصريح بذلك , بل هي إمّا محتملة كرواية " توضّأ وضوءه للصّلاة " أو ظاهرة تأخيرهما

كرواية أبي معاوية المتقدّمة (¬1) , وشاهدها من طريق أبي سلمة , ويوافقها أكثر الرّوايات عن ميمونة , أو صريحة في تأخيرهما كحديث الباب , وراويها مقدّم في الحفظ والفقه على جميع مَن رواه عن الأعمش. وقول مَن قال " إنّما فعل ذلك مرّةً لبيان الجواز " متعقّبٌ: فإنّ في رواية أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش ما يدلّ على المواظبة، ولفظه " كان إذا اغتسل من الجنابة , يبدأ فيغسل يديه , ثمّ يفرغ بيمينه على شماله , فيغسل فرجه " فذكر الحديث وفي آخره " ثمّ يتنحّى فيغسل رجليه ". قال القرطبيّ: الحكمة في تأخير غسل الرّجلين , ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء. قوله: (فلم يُرِدْها) ضمّ أوّله وإسكان الدّال من الإرادة , والأصل " يريدها " لكن جُزم بلم. ومَن قالها بفتح أوّله وتشديد الدّال فقد صحّف وأفسد المعنى , وقد حكى في المطالع , أنّها رواية ابن السّكن قال: وهي وهمٌ. وقد رواه الإمام أحمد عن عفّان عن أبي عوانة بهذا الإسناد , وقال في آخره , فقال: هكذا. وأشار بيده أن لا أريدها. وللبخاري في رواية أبي حمزة عن الأعمش " فناولته ثوباً فلم يأخذه " والله أعلم. ¬

_ (¬1) روايته ذكرها الشارح في حديث عائشة الماضي رقم (32)

واستدل البخاريّ بحديث ميمونة هذا. على جواز تفريق الوضوء , وهو قول الشّافعيّ في الجديد. واحتجّ له بأنّ الله تعالى أوجب غسل أعضائه , فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه فرّقها أو نسقها. ثمّ أيّد ذلك بفعل ابن عمر (¬1). وبذلك قال ابن المسيّب وعطاء وجماعة. وقال ربيعة ومالك: من تعمّد ذلك فعليه الإعادة , ومن نسي فلا. وعن مالكٍ. إن قرب التّفريق بَنى , وإن طال أعاد. وقال قتادة والأوزاعيّ: لا يعيد إلاَّ إن جفّ. وأجازه النّخعيّ مطلقاً في الغسل دون الوضوء. ذكر جميع ذلك ابن المنذر , وقال: ليس مع من جعل الجفاف حدّاً لذلك حجّة. وقال الطّحاويّ: الجفاف ليس بحدثٍ فينقض , كما لو جفّ جميع أعضاء الوضوء لَم تبطل الطّهارة. واستدل به أيضاً على استحباب الإفراغ باليمين على الشّمال ¬

_ (¬1) قال البخاري في صحيحه " باب تفريق الغسل والوضوء. ويُذكر عن ابن عمر , أنه غسل قدميه بعد ما جفَّ وضوءه. ثم ساق البخاري حديث ميمونة. قال الحافظ في " الفتح " (1/ 487): قوله: (ويُذكر عن ابن عمر) هذا الأثر. رويناه في " الأم " عن مالك عن نافع عنه , لكن فيه أنه توضأ في السوق دون رجليه , ثم رجع إلى المسجد , فمسح على خفيه ثم صلَّى. والإسناد صحيح , فيحتمل أنه إنما لَم يجزم به لكونه ذكره بالمعنى. قال الشافعي: لعلّه قد جفَّ وضوؤه , لأنَّ الجفاف قد يحصل بأقلّ مما بين السوق والمسجد. انتهى

للمغترف من الماء , لقوله في رواية أبي عوانة وحفصٍ وغيرهما " ثمّ أفرغ بيمينه على شماله " وعلى مشروعيّة المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة , لقوله فيها " ثمّ تمضمض واستنشق " , وتمسّك به الحنفيّة للقول بوجوبهما. وتعقّب: بأنّ الفعل المجرّد لا يدلّ على الوجوب إلاَّ إذا كان بياناً لمجملٍ تعلق به الوجوب , وليس الأمر هنا كذلك (¬1). قاله ابن دقيق العيد. وعلى استحباب مسح اليد بالتّراب من الحائط أو الأرض , لقوله في الرّوايات المذكورة " ثمّ دلك يده بالأرض أو بالحائط " قال ابن دقيق العيد: وقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلةٍ واحدةٍ لإزالة النّجاسة والغسل من الجنابة؛ لأنّ الأصل عدم التّكرار وفيه خلاف. انتهى. وصحّح النّوويّ وغيره , أنّه يجزئ , لكن لَم يتعيّن في هذا الحديث أنّ ذلك كان لإزالة النّجاسة , بل يحتمل أن يكون للتّنظيف فلا يدلّ على الاكتفاء , وأمّا دلك اليد بالأرض فللمبالغة فيه , ليكون أنقى. كما قال البخاريّ. ¬

_ (¬1) قال ابن باز رحمه الله: فيه نظرٌ. والصواب وجوبهما , ودخول هذه المسألة تحت القاعدة المذكورة , لأنَّ غسله - صلى الله عليه وسلم - بيان لمجمل المأمور به في قوله تعالى (وإن كنتم جنبا فاطّهروا).

وأبعد من استدل به على نجاسة المنيّ (¬1) , أو على نجاسة رطوبة الفرج؛ لأنّ الغسل ليس مقصوراً على إزالة النّجاسة. وقوله في حديث الباب " وما أصابه من أذىً " ليس بظاهرٍ في النّجاسة أيضاً. واستدل به البخاريّ أيضاً على أنّ الواجب في غسل الجنابة مرّة واحدة , وعلى أنّ من توضّأ بنيّة الغسل , أكمل باقي أعضاء بدنه , لا يشرع له تجديد الوضوء من غير حدثٍ. وعلى جواز نفض اليدين من ماء الغسل وكذا الوضوء. وفيه حديثٌ ضعيفٌ أورده الرّافعيّ وغيره. ولفظه: لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنّها مراوح الشّيطان. وقال ابن الصّلاح: لَم أجده. وتبعه النّوويّ. وقد أخرجه ابن حبّان في " الضّعفاء " , وابن أبي حاتم في " العلل " من حديث أبي هريرة , ولو لَم يعارضه هذا الحديث الصّحيح لَم يكن صالحاً أن يحتجّ به. وعلى استحباب التّستّر في الغسل , ولو كان في البيت , وقد عقد البخاري لكل مسألة باباً. وأخرج هذا الحديث فيه بمغايرة الطّرق , ومدارها على الأعمش. وعند بعض الرّواة عنه ما ليس عند الآخر (¬2) , وقد جمعت فوائدها في هذا الحديث. ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة في حديث عائشة برقم (37) (¬2) وعليه فالروايات التي يذكرها الشارح دون عزو كلها عند البخاري.

وفي الحديث من الفوائد أيضاً. جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل والوضوء , لقولها في رواية حفص وغيره " وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسلاً " وفي رواية عبد الواحد " ما يغتسل به ". وفيه خدمة الزّوجات لأزواجهنّ , وفيه الصّبّ باليمين على الشّمال لغسل الفرج بها. وفيه تقديم غسل الكفّين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف , لئلا يدخلهما في الماء وفيهما ما لعله يستقذر , فأمّا إذا كان الماء في إبريقٍ مثلاً فالأولى تقديم غسل الفرج لتوالي أعضاء الوضوء. ولَم يقع في شيءٍ من طرق هذا الحديث التّنصيص على مسح الرّأس في هذا الوضوء , وتمسّك به المالكيّة لقولهم: إنّ وضوء الغسل لا يمسح فيه الرّأس , بل يُكتفى عنه بغسله. واستدل بعضهم بقولها في رواية أبي حمزة وغيره " فناولتُه ثوباً فلم يأخذه " على كراهة التّنشيف بعد الغسل. ولا حجّة فيه؛ لأنّها واقعة حالٍ يتطرّق إليها الاحتمال. فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمرٍ آخر لا يتعلق بكراهة التّنشيف , بل لأمرٍ يتعلق بالخرقة , أو لكونه كان مستعجلاً أو غير ذلك. قال المُهلَّب: يحتمل تركه الثّوب؛ لإبقاء بركة الماء , أو للتّواضع , أو لشيءٍ رآه في الثّوب من حريرٍ أو وسخ. وقد وقع عند أحمد والإسماعيليّ من رواية أبي عوانة في هذا الحديث

عن الأعمش قال: فذكرتُ ذلك لإبراهيم النّخعيّ , فقال: لا بأس بالمنديل , وإنّما ردّه مخافة أن يصير عادة. وقال التّيميّ في شرحه: في هذا الحديث دليل على أنّه كان يتنشّف , ولولا ذلك لَم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدلّ على أن لا كراهة في التّنشيف؛ لأنّ كلاً منهما إزالة. وقال النّوويّ: اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه. أشهرها: أنّ المستحبّ تركه , وقيل: مكروه , وقيل: مباحٌ , وقيل: مستحبّ , وقيل: مكروه في الصّيف مباح في الشّتاء. واستدل به على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهّر , خلافاً لمن غلا من الحنفيّة فقال بنجاسته. تكميل: قال البخاري (باب الغسل مرة واحدة) ثم ذكر الحديث. قال بن بطال: يستفاد ذلك من قوله " ثم أفاض على جسده " لأنه لم يقيد بعدد فيُحمل على أقلّ ما يُسمى. وهو المرة الواحدة , لأنَّ الأصل عدم الزيادة عليها. انتهى تكميل آخر: زاد البخاري في آخره من طريق سفيان عن الأعمش (هذه غسله من الجنابة). قوله " هذه غسله " الإشارة إلى الأفعال المذكورة , أو التقدير هذه صفة غسله , وللكشميهني " هذا غسله " وهو ظاهر. وأشار الإسماعيلي إلى أنَّ هذه الجملة الأخيرة مُدرجة من قول سالم

بن أبي الجعد , وأن زائدة بن قدامة بيَّن ذلك في روايته عن الأعمش. انتهى (¬1) ¬

_ (¬1) وأخرجها أيضاً الدارمي في " السنن " (774) وإسحاق بن راهوية في " مسنده " (2040) من طريق زائدة. وفيه. قال الأعمش: وقال سالم: كان غُسل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا من الجنابة. ورواه مسلم في الصحيح (337) من طريق زائدة مختصراً. دون قول سالم.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون 35 - عن عبد الله بن عمر , أنّ عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - , قال: يا رسولَ الله , أيرقدُ أحدنا وهو جنبٌ؟ قال: نعم , إذا توضّأ أحدكم فليَرقُد. (¬1) قوله: (عن عبد الله بن عمر , أنَّ عمر) ظاهره أنّ ابن عمر حضر هذا السّؤال , فيكون الحديث من مسنده , وهو المشهور من رواية نافع. وروي عن أيّوب عن نافعٍ عن ابن عمر عن عمر أنّه قال: يا رسولَ الله. أخرجه النّسائيّ. وعلى هذا فهو من مسند عمر. وكذا رواه مسلم من طريق يحيى القطّان عن عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن ابن عمر عن عمر , لكن ليس في هذا الاختلاف ما يقدح في صحّة الحديث. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (283 , 285) ومسلم (306) من طرق عن نافع عن ابن عمر به. (¬2) وفي رواية للبخاري (290) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (306) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، قال: ذَكَرَ عمر بن الخطاب، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ واغسل ذكرك، ثم نَم. قال ابن حجر: مقتضاه أيضاً أنه من مسند ابن عمر كما هو عند أكثر الرواة , ورواه أبو نوح عن مالك فزاد فيه عن عمر، وقد بيَّن النسائيُّ سببَ ذلك في روايته من طريق ابن عون عن نافع , قال: أصاب ابنَ عمر جنابةٌ فأتى عمرَ فذكر ذلك له , فأتى عمرُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاستأمره فقال: ليتوضأ ويرقد. وعلى هذا فالضمير في قوله (أنه تصيبه) يعود على ابن عمر لا على عمر , وقوله في الجواب (توضأ) يحتمل أن يكون ابن عمر كان حاضراً. فوجه الخطاب إليه. انتهى

قوله: (إذا توضأ) ولهما. وللفظ لمسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام، توضّأ وضوءه للصّلاة " أي: توضّأ وضوءاً كما للصّلاة , وليس المعنى أنّه توضّأ لأداء الصّلاة , وإنّما المراد توضّأ وضوءاً شرعيّاً لا لغويّاً. قوله: (إذا توضّأ أحدكم فليرقد) ولهما " توضأ واغسل ذكرك , ثم نَم " وفي رواية أبي نوح عن مالك عند النسائي " اغسل ذكرك , ثمّ توضّأ , ثمّ نَم " وهو يردّ على من حمله على ظاهره , فقال: يجوز تقديم الوضوء على غسل الذّكر؛ لأنّه ليس بوضوءٍ يرفع الحدث , وإنّما هو للتّعبّد , إذ الجنابة أشدّ من مسّ الذّكر. فتبيّن من رواية أبي نوح , أنّ غسله مقدّم على الوضوء , ويمكن أن يؤخذ عنه بشرط أن لا يمسّه على القول بأنّ مسّه ينقض. وقال ابن دقيق العيد: جاء الحديث بصيغة الأمر وجاء بصيغة الشّرط , وهو مُتمسّكٌ لِمَن قال بوجوبه. وقال ابن عبد البرّ: ذهب الجمهور إلى أنّه للاستحباب , وذهب أهل الظّاهر إلى إيجابه. وهو شذوذ. وقال ابن العربيّ: قال مالك والشّافعيّ: لا يجوز للجنب أن ينام

قبل أن يتوضّأ. واستنكر بعض المتأخّرين هذا النّقل , وقال: لَم يقل الشّافعيّ بوجوبه , ولا يعرف ذلك أصحابه. وهو كما قال , لكنّ كلام ابن العربيّ محمولٌ على أنّه أراد نفي الإباحة المستوية الطّرفين لا إثبات الوجوب. أو أراد بأنّه واجب وجوب سنّة , أي متأكّد الاستحباب , ويدلّ عليه أنّه قابله بقول ابن حبيب: هو واجبٌ وجوب الفرائض , وهذا موجود في عبارة المالكيّة كثيراً. وأشار ابن العربيّ إلى تقوية قول ابن حبيب، وبوّب عليه أبو عوانة في صحيحه " إيجاب الوضوء عن الجنب إذا أراد النّوم " ثمّ استدل بعد ذلك هو وابن خزيمة على عدم الوجوب بحديث ابن عبّاس مرفوعاً: إنّما أُمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصّلاة. وقد قدح في هذا الاستدلال ابنُ رُشد المالكيّ , وهو واضح. ونقل الطّحاويّ عن أبي يوسف , أنّه ذهب إلى عدم الاستحباب. وتمسّك بما رواه أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يجنب , ثمّ ينام , ولا يمسّ ماءً. رواه أبو داود وغيره. وتعقّب: بأنّ الحفّاظ قالوا: إنّ أبا إسحاق غلط فيه. (¬1) وبأنّه لو ¬

_ (¬1) قال الشارح في " التلخيص " (1/ 378): قال: أحمد إنه ليس بصحيح. وقال أبو داود: هو وهم. وقال يزيد بن هارون: هو خطأ. وأخرج مسلم الحديث دون قوله: ولم يمس ماء , وكأنه حذفها عمداً لأنه علَّلها في كتاب التمييز. وقال مهنا عن أحمد بن صالح: لا يَحلُّ أن يروى هذا الحديث , وفي علل الأثرم: لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلاَّ إبراهيم وحده لكفى. فكيف وقد وافقه عبد الرحمن بن الأسود؟ وكذلك روى عروة وأبو سلمة عن عائشة. وقال ابن مفوز (الحافظ أبو الحسن طاهر بن مفوز): أجمع المحدثون على أنه خطأ من أبي إسحاق. كذا قال! وتساهل في نقل الإجماع فقد صحَّحه البيهقي. وقال: إنَّ أبا إسحاق قد بيَّن سماعه من الأسود في رواية زهير عنه , وجمع بينهما ابن سُريج على ما حكاه الحاكم عن أبي الوليد الفقيه عنه. وقال الدارقطني في العلل: يشبه أن يكون الخبران صحيحين. قاله بعض أهل العلم وقال الترمذي: يرون أن هذا غلطٌ من أبي إسحاق. وعلى تقدير صحته فيُحمل: على أن المراد لا يمس ماء للغسل. ويؤيده رواية عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عند أحمد بلفظ: كان يجنب من الليل ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح , ولا يمس ماء. أو كان يفعل الأمرين لبيان الجواز. وبهذا جمع ابن قتيبة في اختلاف الحديث. ويؤيده ما رواه هشيم عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة مثل رواية أبي إسحاق عن الأسود , وما رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن ابن عمر , أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم. ويتوضأ إن شاء. وأصله في الصحيحين دون قوله: إن شاء. انتهى

صحّ حمل على أنّه ترك الوضوء لبيان الجواز , لئلا يعتقد وجوبه. أو أنّ معنى قوله " لا يمسّ ماءً " أي: للغسل. وأورد الطّحاويّ من الطّريق المذكورة عن أبي إسحاق ما يدلّ على ذلك , ثمّ جنح الطّحاويّ إلى أنّ المراد بالوضوء التّنظيف. واحتجّ بأنّ ابن عمر راوي الحديث وهو صاحب القصّة " كان يتوضّأ وهو جنبٌ , ولا يغسل رجليه " كما رواه مالك في " الموطّأ "

عن نافع. وأجيب: بأنّه ثبت تقييد الوضوء بالصّلاة من روايته , ومن رواية عائشة كما تقدّم فيعتمد , ويُحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه على أنّ ذلك كان لعذر. وقال جمهور العلماء: المراد بالوضوء هنا الشّرعيّ. والحكمة فيه. أنّه يخفّف الحدث , ولا سيّما على القول بجواز تفريق الغسل , فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصّحيح. ويؤيّده ما رواه ابن أبي شيبة بسندٍ رجاله ثقات عن شدّاد بن أوس الصّحابيّ قال: إذا أجنب أحدكم من الليل , ثمّ أراد أن ينام فليتوضّأ , فإنّه نصف غسل الجنابة. وقيل: الحكمة فيه. أنّه إحدى الطّهارتين , فعلى هذا يقوم التيمّم مقامه. وقد روى البيهقيّ بإسنادٍ حسنٍ عن عائشة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أجنب , فأراد أن ينام توضّأ أو تيمّم. ويُحتمل: أن يكون التّيمّم هنا عند عسر وجود الماء. وقيل: الحكمة فيه. أنّه ينشط إلى العود (¬1) أو إلى الغُسل فيبيت على ¬

_ (¬1) روى مسلم (308) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوءاً. زاد الحاكم (542) وابن حبان (1211) والبيهقي (985). فإنه أنشط للعود.

طهارة كاملة. وقال ابن دقيق العيد: نصّ الشّافعيّ رحمه الله على أنّ ذلك ليس على الحائض؛ لأنّها لو اغتسلت لَم يرتفع حدثها بخلاف الجنب , لكن إذا انقطع دمها استحبّ لها ذلك. وفي الحديث أنّ غسل الجنابة ليس على الفور , وإنّما يتضيّق عند القيام إلى الصّلاة واستحباب التّنظيف عند النّوم. قال ابن الجوزيّ: والحكمة فيه. أنّ الملائكة تبعد عن الوسخ والرّيح الكريهة بخلاف الشّياطين , فإنّها تقرب من ذلك. والله أعلم. ومطابقة الحديث لترجمة البخاري (باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل) من جهة أنّ جواز رقاد الجنب في البيت يقتضي جواز استقراره فيه يقظان لعدم الفرق , أو لأنّ نومه يستلزم الجواز لحصول اليقظة بين وضوئه ونومه , ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير. قيل: أشار البخاري بهذه التّرجمة إلى تضعيف ما ورد عن عليٍّ مرفوعاً: إنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ ولا جنبٌ. رواه أبو داود وغيره. وفيه نُجي - بضمّ النّون وفتح الجيم - الحضرميّ. ما روى عنه غير ابنه عبد الله فهو مجهول , لكن وثّقه العجليّ. وصحّح حديثَه ابنُ حبّان والحاكم.

فيحتمل كما قال الخطّابيّ. أنّ المراد بالجنب من يتهاون بالاغتسال , ويتّخذ تركه عادةً لا من يؤخّره ليفعله قال: ويقوّيه , أنّ المراد بالكلب غير ما أذن في اتّخاذه , وبالصّورة ما فيه روح وما لا يمتهن. قال النّوويّ: وفي الكلب نظرٌ. انتهى. ويحتمل: أن يكون المراد بالجنب في حديث عليٍّ من لَم يرتفع حدثه كلّه ولا بعضه , وعلى هذا فلا يكون بينه وبين حديث الباب منافاة؛ لأنّه إذا توضّأ ارتفع بعضُ حدثِه على الصّحيح كما تقدَّم تصويره.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون 36 - عن أمّ سلمة رضي الله عنها زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قالت: جاءت أمّ سليمٍ امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقالت: يا رسولَ الله , إنّ الله لا يستحيي من الحقّ , فهل على المرأة من غُسلٍ إذا هي احتَلَمتْ؟ , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم , إذا رأتِ الماء. (¬1) قوله: (عن أمّ سلمة) هي هند بنت أبي أمية المخزومية أم المؤمنين. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (130 , 278 , 3150 , 5740 , 5770) ومسلم (313) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أمِّها به. (¬2) قال أبو عمر: يقال اسمها رملة، وليس بشيء، واسم أبيها حذيفة، وقيل سهيل، ويلقب زاد الراكب، لأنه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لا يترك أحداً يرافقه ومعه زاد، بل يكفي رفقته من الزّاد، وأمها عاتكة بنت عامر الكنانيّة، وكانتْ زوجَ ابنِ عمها أبي سلمة بن عبد الأسد بن المغيرة، فمات عنها فتزوجها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة سنة أربع، وقيل سنة ثلاث، وكانت ممن أسلم قديماً هي وزوجها وهاجرا إلى الحبشة، فولدت له سلمة، ثم قدما مكّة وهاجرا إلى المدينة، فولدت له عمر ودُرَّة وزينب. قاله ابن إسحاق. قيل: إنها أوّل امرأة خرجت مهاجرة إلى الحبشة، وأول ظعينة دخلت المدينة. ويقال: إن ليلى امرأة عامر بن ربيعة شركتها في هذه الأوليّة. وكانت أم سلمة موصوفةً بالجمال البارع، والعقل البالغ، والرأي الصّائب، وإشارتها على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبيّة تدلّ على وفور عقلها وصواب رأيها. وهي آخر أمهات المؤمنين موتاً، فقد ثبت في صحيح مسلم , أنَّ الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة وعبد اللَّه بن صفوان دخلا على أم سلمة في خلافة يزيد بن معاوية، فسألا عن الجيش الّذي يخسف به، وكان ذلك حين جهّز يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة بعسكر الشّام إلى المدينة، فكانت وقعة الحرّة سنة 63. الإصابة (8/ 404)

قوله: (جاءت أم سليم) هي بنت ملحان والدة أنس بن مالك. وقد سألتْ عن هذه المسألة أيضاً خولة بنت حكيم عند أحمد والنّسائيّ وابن ماجه , وفي آخره " كما ليس على الرّجل غسل إذا رأى ذلك , فلم ينزل " , وسهلة بنت سهيل عند الطّبرانيّ , وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة. قوله: (إنّ الله لا يستحيي من الحقّ) قدّمتْ هذا القول تمهيداً لعذرها في ذكر ما يُستحى منه. والمراد بالحياء هنا. معناه اللّغويّ إذ الحياء الشّرعيّ خير كلّه , وهو الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر، وهو محمود. وأمّا ما يقع سبباً لترك أمر شرعيّ فهو مذموم، وليس هو بحياءٍ شرعيّ، وإنّما هو ضعف ومهانة، وهو المراد بقول مجاهد: لا يتعلم العلم مستحيٍ. (¬1) وهو بإسكان الحاء. و " لا " في كلامه نافية لا ناهية؛ ولهذا كانت ميم يتعلم مضمومة، وكأنّه أراد تحريض المتعلمين على ترك العجز والتّكبّر لِمَا يؤثّر كلّ منهما من النّقص في التّعليم. والحياء لغة: تغيّر وانكسار , وهو مستحيلٌ في حقّ الله تعالى , فيُحمل هنا على أنّ المراد , أنّ الله لا يأمر بالحياء في الحقّ , أو لا يمنع ¬

_ (¬1) قول مجاهد. علَّقه البخاري في كتاب العلم. باب الحياء في العلم بلفظ " لا يتعلَّم العلم مستحي ولا مستكبر ". قال الحافظ في " الفتح " (1/ 229): وصله أبو نعيمٍ في " الحلية " من طريق عليّ بن المدينيّ عن ابن عيينة عن منصور عنه، وهو إسناد صحيح على شرط البخاري.

من ذكر الحقّ. وقد يقال إنّما يحتاج إلى التّأويل في الإثبات (¬1) ولا يشترط في النّفي أن يكون ممكناً , لكن لَمّا كان المفهوم يقتضي أنّه يستحيي من غير الحقّ عاد إلى جانب الإثبات , فاحتيج إلى تأويله. قاله ابن دقيق العيد. قوله: (هل على المرأة من غسل) " من " زائدة , وقد سقطت في رواية البخاري في الأدب. (¬2) قوله: (احتلَمَتْ) الاحتلام افتعال من الحلم - بضمّ المهملة وسكون اللام - وهو ما يراه النّائم في نومه , يقال: منه حلم بالفتح واحتلم , والمراد به هنا أمر خاصّ منه وهو الجماع. وفي رواية أحمد من حديث أمّ سليمٍ , أنّها قالت: يا رسولَ الله إذا رأت المرأة أنّ زوجها يجامعها في المنام. أتغتسل؟. وفيه الرّدّ على من منع من الاحتلام في حقّ المرأة دون الرّجل. كما حكاه ابن المنذر وغيره عن إبراهيم النّخعيّ , واستبعد النّوويّ في " شرح المهذّب " صحّته عنه. لكن رواه ابن أبي شيبة عنه. بإسنادٍ جيّدٍ. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (1/ 504): الصواب أنه لا حاجة إلى التأويل مطلقاً , فإن االله يوصف بالحياء الذي يليق به , ولا يشابه فيه خلقه كسائر صفاته , وقد ورد وصفه بذلك في نصوص كثيرة فوجب إثباته له على الوجه الذي يليق به. وهذا قول أهل السنة في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة , وهو طريق النجاة. فتنبّه واحذر. (¬2) أي: في كتاب الأدب من صحيح البخاري (6091). فالشارح إذا أطلق , فإنه يقصد الصحيح , وإذا أراد الأدب المفرد قيَّده.

قوله: (إذا رأتِ الماء) أي: المنيّ بعد الاستيقاظ , وفي رواية الحميديّ عن سفيان عن هشام " إذا رأت إحداكنّ الماء فلتغتسل. وزاد. فقالت أمّ سلمة: وهل تحتلم المرأة؟ " وكذلك روى هذه الزّيادة أصحاب هشامٍ عنه غير مالكٍ فلم يذكرها. وقد أخرجه البخاري من رواية أبي معاوية عن هشام , وفيه " أَوَتحتلم المرأة؟ " وهو معطوفٌ على مقدّرٍ يظهر من السّياق , أي: أترى المرأة الماء وتحتلم؟ وفيه " فغطّت أمّ سلمة وجهها " وللبخاري من رواية يحيى القطّان عن هشام " فضحكت أمّ سلمة ". ويجمع بينهما. بأنّها تبسّمت تعجّباً , وغطّت وجهها حياء. ولمسلمٍ من رواية وكيع عن هشام " فقالت لها: يا أمّ سليمٍ فضحت النّساء " وكذا لأحمد من حديث أمّ سليمٍ. وهذا يدلّ على أنّ كتمان مثل ذلك من عادتهنّ؛ لأنّه يدلّ على شدّة شهوتهنّ للرّجال. وقال ابن بطّالٍ: فيه دليل على أنّ كل النّساء يحتلمن. وعَكَسَه غيره , فقال: فيه دليل على أنّ بعض النّساء لا يحتلمن , والظّاهر أنّ مراد ابن بطّالٍ الجواز لا الوقوع , أي: فيهنّ قابليّة ذلك. وفيه دليلٌ على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال , ونفى ابن بطّالٍ الخلاف فيه , وقد قدّمناه عن النّخعيّ. وكأنّ أمّ سليمٍ لَم تسمع حديث " الماء من الماء " (¬1) أو سمعِتْه وقام ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (343) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وسيأتي كلام الشارح عليه في الحديث الآتي برقم (38)

عندها ما يوهم خروج المرأة عن ذلك , وهو ندور بروز الماء منها. وقد روى أحمد من حديث أمّ سليمٍ في هذه القصّة , أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسولَ الله: وهل للمرأة ماء؟ فقال: هنّ شقائق الرّجال. وروى عبد الرّزّاق في هذه القصّة " إذا رأت إحداكنّ الماء كما يراه الرّجل ". وروى أحمد من حديث خولة بنت حكيم في نحو هذه القصّة " ليس عليها غسل حتّى تُنزل كما يُنزل الرّجل ". وفيه ردٌّ على من زعم أنّ ماء المرأة لا يبرز، وإنّما يعرف إنزالها بشهوتها , وحمل قوله " إذا رأت الماء " أي: علِمت به (¬1) لأنّ وجود العلم هنا متعذّرٌ. لأنّه إذا أراد به علمها بذلك وهي نائمةٌ فلا يثبت به حكمٌ؛ لأنّ الرّجل لو رأى أنّه جامع , وعلم أنّه أنزل في النّوم ثمّ استيقظ فلم ير بَلَلاً , لَم يجب عليه الغسل اتّفاقاً , فكذلك المرأة. وإن أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت فلا يصحّ؛ لأنّه لا يستمرّ في اليقظة ما كان في النّوم إن كان مشاهداً , فحَمْل الرّؤية على ظاهرها هو الصّواب. وفيه استفتاء المرأة بنفسها , وسياق صور الأحوال في الوقائع الشّرعيّة لِمَا يستفاد من ذلك. وفيه جواز التّبسّم في التّعجّب. ¬

_ (¬1) يردّه رواية مسلم (314) من حديث عائشة. وفيه: هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء؟.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون 37 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: كنت أغسل الجنابةَ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصّلاة , وإنّ بُقع الماء في ثوبه. (¬1) وفي لفظٍ لمسلمٍ: لقد كنت أفرُكُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً , فيُصلِّي فيه. (¬2) قوله: (عن عائشة) للبخاري عن سليمان بن يسار قال: سألت عائشة عن المني يصيب الثوب. فذكرت الحديث , ولَم يخرّج البخاريّ حديثَ الفرك , بل اكتفى بالإشارة إليه في التّرجمة (¬3) على عادته , لأنّه ورد من حديث عائشة أيضاً كما سنذكره. وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض؛ لأنّ الجمع بينهما واضحٌ على القول بطهارة المنيّ , بأن يُحمل الغسل على الاستحباب للتّنظيف لا على الوجوب , وهذه طريقة الشّافعيّ وأحمد وأصحاب الحديث. وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته , بأن يُحمل الغسل على ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (227 , 228 , 229 , 230) ومسلم (289) من طرق عن عمرو بن ميمون الجزري عن سليمان بن يسار عن عائشة به. (¬2) أخرجه مسلم (288) عن علقمة والأسود، أنَّ رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله , ولقد رأيتني أفركه. فذكرتْه. (¬3) بقوله " باب غسل المنيّ وفركه "

كان رطباً , والفرك على ما كان يابساً , وهذه طريقة الحنفيّة. والطّريقة الأولى أرجح؛ لأنّ فيها العمل بالخبر والقياس معاً؛ لأنّه لو كان نجساً لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدّم وغيره , وهم لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدّم بالفرك. ويردّ الطّريقة الثّانية أيضاً ما في رواية ابن خزيمة من طريقٍ أخرى عن عائشة , كانت تسلت المنيّ من ثوبه بعرق الإذخر , ثمّ يُصلِّي فيه , وتحكّه من ثوبه يابساً , ثمّ يُصلِّي فيه. فإنّه يتضمّن ترك الغسل في الحالتين. وأمّا مالكٌ. فلم يعرف الفرك , وقال: إنّ العمل عندهم على وجوب الغسل كسائر النّجاسات. وحديث الفرك حجّة عليهم. حمل بعض أصحابه الفرك على الدّلك بالماء , وهو مردودٌ بما في إحدى روايات مسلمٍ عن عائشة: لقد رأيتني وإنّي لأحكّه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابساً بظفري. وبما صحَّحه التّرمذيّ من حديث همّام بن الحارث , أنّ عائشة أنكرتْ على ضيفها غسله الثّوب , فقالت: لِمَ أفسد علينا ثوبنا؟ إنّما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه , فربّما فركْتُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعي. وقال بعضهم: الثّوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النّوم , والثّوب الذي غسلته ثوب الصّلاة. وهو مردودٌ أيضاً بما في إحدى روايات مسلمٍ من حديثها أيضاً: لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيُصلِّي فيه. وهذا

التّعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلّل الغسل بين الفرك والصّلاة. وأصرح منه رواية ابن خزيمة " أنّها كانت تحكّه من ثوبه - صلى الله عليه وسلم - , وهو يُصلِّي ". وعلى تقدير عدم ورود شيءٍ من ذلك , فليس في حديث الباب ما يدلّ على نجاسة المنيّ؛ لأنّ غسلها فعلٌ , وهو لا يدلّ على الوجوب بمجرّده. والله أعلم. وطعن بعضهم في الاستدلال بحديث الفرك على طهارة المنيّ , بأنّ منيّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - طاهر دون غيره كسائر فضلاته. والجواب: على تقدير صحّة كونه من الخصائص , أنّ منيّه كان عن جماعٍ , فيخالط منيّ المرأة , فلو كان منيّها نجساً لَم يكتف فيه بالفرك. وبهذا احتجّ الشّيخ الموفّق وغيره على طهارة رطوبة فرجها , قال: ومَن قال إنّ المنيّ لا يسلم من المذي فيتنجّس به لَم يُصب؛ لأنّ الشّهوة إذا اشتدّت خرج المنيّ دون المذي , والبول كحالة الاحتلام. والله أعلم. قوله: (أغسل الجنابة) أي: أثر الجنابة , فيكون على حذف مضافٍ أو أطلق اسم الجنابة على المنيّ مجازاً. قوله: (بقع) بضمّ الموحّدة وفتح القاف جمع بقعة , قال أهل اللّغة: البقع اختلاف اللونين. وفي الحديث جواز سؤال النّساء عمّا يستحى منه لمصلحة تعلّم الأحكام , وفيه خدمة الزّوجات للأزواج.

واستدل به البخاري على أنّ بقاء الأثر بعد زوال العين في إزالة النّجاسة وغيرها لا يضرّ , فلهذا ترجم " باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره " , وأعاد الضّمير مذكّراً على المعنى , أي: فلم يذهب أثر الشّيء المغسول. ومراده أنّ ذلك لا يضرّ. وذكر في الباب حديث الجنابة , وأَلْحَقَ غيرها بها قياساً. أو أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة , أنّ خولة بنت يسار قالت: يا رسولَ الله ليس لي إلاَّ ثوب واحد , وأنا أحيض فيه. فكيف أصنع؟ قال: إذا طهرتِ فاغسليه , ثمّ صلّي فيه , قالت: فإن لَم يخرج الدّم؟ قال: يكفيك الماء , ولا يضرّك أثره. وفي إسناده ضعفٌ , وله شاهدٌ مرسلٌ ذكره البيهقيّ. والمراد بالأثر ما تعسّر إزالته جمعاً بين هذا وبين حديث أمّ قيس: حكّيه بضلعٍ واغسليه بماء وسدر. أخرجه أبو داود أيضاً وإسناده حسن. ولَمَّا لَم يكن هذا الحديث على شرط البخاري , استنبط من الحديث الذي على شرطه ما يدلّ على ذلك المعنى كعادته.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون 38 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جلس بين شُعَبِها الأربع , ثمّ جَهَدَها , فقد وجب الغسل , وفي لفظٍ لمسلم: وإن لَم يُنزل. (¬1) قوله: (إذا جلس) الضمير المستتر فيه وفي قوله " جهد " للرّجل , والضّميران البارزان في قوله " شعبها " و " جهدها " للمرأة، وترك إظهار ذلك للمعرفة به، وقد وقع مصرّحاً به في روايةٍ لابن المنذر من وجهٍ آخر عن أبي هريرة قال " إذا غشي الرّجل امرأته فقعد بين شعبها " الحديث. قوله: (شعبها الأربع) الشّعب جمع شعبة , وهي القطعة من الشّيء. قيل: المراد هنا يداها ورجلاها , وقيل: رجلاها وفخذاها , وقيل: ساقاها وفخذاها , وقيل: فخذاها وإسكتاها , وقيل: فخذاها وشفراها , وقيل: نواحي فرجها الأربع. قال الأزهريّ: الإسكتان ناحيتا الفرج، والشّفران طرف النّاحيتين. ورجّح القاضي عياض الأخير. واختار ابن دقيق العيد الأوّل، قال: لأنّه أقرب إلى الحقيقة , أو هو حقيقةٌ في الجلوس , وهو كنايةٌ عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (287) ومسلم (348) من طريق قتادة. زاد مسلم (مطر) كلاهما عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به.

الجماع , فاكتفى به عن التّصريح. قوله: (ثمّ جهدها) بفتح الجيم والهاء , يقال جهد وأجهد , أي: بلغ المشقّة , قيل: معناه كدّها بحركته أو بلغ جهده في العمل بها. ولمسلمٍ من طريق شعبة عن قتادة " ثمّ اجتهد ". ورواه أبو داود من طريق شعبة وهشام معاً عن قتادة بلفظ " وألزق الختان بالختان " بدل قوله ثمّ جهدها , وهذا يدلّ على أنّ الجهد هنا كناية عن معالجة الإيلاج. ورواه البيهقيّ من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة مختصراً. ولفظه " إذا التقى الختانان (¬1) فقد وجب الغسل ". وروي أيضاً بهذا اللفظ من حديث عائشة. أخرجه الشّافعيّ من طريق سعيد بن المسيّب عنها , وفي إسناده عليّ بن زيد وهو ضعيف , وابن ماجه من طريق القاسم بن محمّد عنها , ورجاله ثقات. ورواه مسلم من طريق أبي موسى الأشعريّ عنها بلفظ " ومسّ الختان الختان ". والمراد بالمسّ والالتقاء المحاذاة , ويدلّ عليه رواية التّرمذيّ بلفظ " إذا جاوز " وليس المراد بالمسّ حقيقته؛ لأنّه لا يتصوّر عند غيبة الحشفة , ولو حصل المسّ قبل الإيلاج لَم يجب الغسل بالإجماع. ¬

_ (¬1) قال الشارح في الفتح: المراد بهذه التثنية ختان الرجل والمرأة , والختن قطع جلدة كمرته وخفاض المرأة , والخفض قطع جليدة في أعلى فرجها تشبه عرف الديك بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة , وإنما ثنيا بلفظ واحد تغليباً. وله نظائر , وقاعدته رد الأثقل إلى الأخف والأدنى إلى الأعلى. انتهى

قال النّوويّ: معنى الحديث أنّ إيجاب الغسل لا يتوقّف على الإنزال. وتعقّب: بأنّه يحتمل أن يراد بالجهد الإنزال؛ لأنّه هو الغاية في الأمر فلا يكون فيه دليل. والجواب: أنّ التّصريح بعدم التّوقّف على الإنزال , قد ورد في بعض طرق الحديث المذكور فانتفى الاحتمال , ففي رواية مسلمٍ من طريق مطر الورّاق عن الحسن في آخر هذا الحديث " وإن لَم ينزل ". ووقع ذلك في رواية قتادة أيضاً رواه ابن أبي خيثمة في " تاريخه " عن عفّان , قال: حدّثنا همّام وأبان. قالا: حدّثنا قتادة به , وزاد في آخره " أنزل أو لَم ينزل " , وكذا رواه الدّارقطنيّ. وصحَّحه من طريق عليّ بن سهل عن عفّان، وكذا ذكرها أبو داود الطّيالسيّ عن حمّاد بن سلمة عن قتادة. وقد ذهب الجمهور إلى أنَّ ما دلَّ عليه ما رواه البخاري عن زيد بن خالد الجهني , أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيتَ إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْنِ؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة , ويغسل ذكره. قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (288) ومسلم (347) من طريق يحيى عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار عن زيد بن خالد. وزادا. واللفظ للبخاري: فسألتُ عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - فأمروه بذلك. قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عروة بن الزبير أخبره , أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وللبخاري (289) عن أُبي بن كعب، أنه قال: يا رسول الله. إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي. قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 459): قول أبي أيوب: (أنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الدارقطني: هو وهم؛ لأن أبا أيوب إنما سمعه من أُبي بن كعب كما قال هشام بن عروة عن أبيه. قلت: الظاهر أنَّ أبا أيوب سمعه منهما لاختلاف السياق؛ لأنَّ في روايته عن أُبي بن كعب قصة ليست في روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنَّ أبا سلمة - وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - أكبر قدراً وسناً وعلماً من هشام بن عروة. وروايته عن عروة من باب رواية الأقران؛ لأنهما تابعيان فقيهان من طبقة واحدة , وكذلك رواية أبي أيوب عن أبي بن كعب؛ لأنهما فقيهان صحابيان كبيران , وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الدارمي وابن ماجه. وقد حكى الأثرم عن أحمد: أنَّ حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلولٌ؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث , وقد حكى يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني , أنه شاذ. والجواب عن ذلك: أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته , وقد روى ابن عيينة أيضاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة عن عطاء. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. فليس هو فرداً. وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه , وكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. انتهى

مِن الاكتفاء بالوضوء إذا لم يُنزل الْمُجامع منسوخ بما دلَّ عليه حديث أبي هريرة وعائشة المذكوران. والدليل على النسخ ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد قال: حدثني أبيُّ بنُ كعب , أنَّ الفتيا التي كانوا يقولون " الماء من الماء " رخصةٌ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص بها في أول

الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد. صحَّحه ابن خزيمة وابن حبان. وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري. كذا قال. وكأنَّه لم يطلع على علته. فقد اختلفوا في كون الزهري سمعه من سهل. نعم. أخرجه أبو داود وابن خزيمة أيضاً من طريق أبي حازم عن سهل. ولهذا الإسناد أيضاً علةٌ أخرى. ذكرها ابن أبي حاتم. وفي الجملة هو إسنادٌ صالحٌ لأنْ يُحتج به. وهو صريحٌ في النسخ. على أنَّ حديث الغسل " وإن لم ينزل " أرجح من حديث " الماء من الماء " لأَنَّه بالمنطوق وترك الغسل من حديث الماء بالمفهوم أو بالمنطوق أيضاً , لكن ذاك أصرح منه. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس , أنه حمل حديثَ " الماء من الماء " على صورة مخصوصة. وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع. وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض. تنبيه: في قوله " الماء من الماء " جناس تام , والمراد بالماء الأول ماء الغسل وبالثاني المني. وذكر الشافعي , أنَّ كلام العرب يقتضي أنَّ الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع وإن لم يكن معه إنزال فإنَّ كلَّ من خوطب بأنَّ فلاناً أجنب من فلانة عقل أنه أصابها وإن لم ينزل. قال: ولم يُختلف أنَّ الزنا الذي يجب به الحد هو الجماع , ولو لم يكن معه إنزال. وقال ابن العربي: إيجاب الغسل بالإيلاج بالنسبة إلى الإنزال نظير

إيجاب الوضوء بمس الذكر بالنسبة إلى خروج البول فهما متفقان دليلا وتعليلا، والله أعلم. وقال أيضاً: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم وما خالف فيه إلاَّ داود , ولا عبرة بخلافه. انتهى أما نفي ابن العربي الخلاف فمعترَض فإنه مشهور بين الصحابة ثبت عن جماعة منهم , لكن ادعى ابن القصار أنَّ الخلاف ارتفع بين التابعين. وهو معترض أيضاً. فقد قال الخطابي: أنه قال به من الصحابة جماعةٌ فسمَّى بعضهم. قال: ومن التابعين الأعمش وتبعه عياض , لكن قال: لم يقل به أحدٌ بعد الصحابة غيره. وهو معترَض أيضاً , فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح, وعن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح. وقال عبد الرزاق أيضاً: عن ابن جريج عن عطاء , أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى اغتسل من أجل اختلاف الناس لأخْذِنا بالعروة الوثقى. وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث " الماء من الماء " ثابت لكنه منسوخ. إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل. انتهى. فعرف بهذا أنَّ الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم , لكن الجمهور على إيجاب الغسل. وهو الصواب. والله أعلم.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون 39 - عن أبي جعفرٍ محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنهم - , أنّه كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله , وعنده قومه (¬1) , فسألوه عن الغُسل؟ فقال: صاعٌ يكفيك، فقال رجلٌ: ما يكفيني , فقال جابرٌ: كان يكفي مَن هو أوفى منك شعراً , وخيراً منك - يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمّ أَمَّنا في ثوبٍ. وفي لفظٍ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْرِغ الماء على رأسه ثلاثاً. (¬2) قال المصنف: الرجل الذي قال (ما يكفيني) هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأبوه محمد بن الحنفية. قوله: (عن أبي جعفر) المعروف بالباقر. قوله: (هو وأبوه) أي: عليّ بن الحسين قوله: (عند جابر بن عبد الله) (¬3) الأنصاري الصحابي المشهور , ¬

_ (¬1) وقع في طبعة الأرنوؤط (وعنده قوم) وهي خطأ سيأتي التنبيه عليها أثناء الشرح. (¬2) أخرجه البخاري (249 , 252 , 253) ومسلم (239) من طرق عن أبي جعفر به. (¬3) بن عمرو بن حرام السلمي. يكنَّى أبا عبد الله وأبا عبد الرحمن وأبا محمد أقوال. وفي الصحيح عنه , أنه كان مع من شهد العقبة. وروى مسلم عن جابر قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة , قال جابر: لَم أشهد بدراً ولا أحداً منعني أبي فلمّا قتل لَم أتخلَّف. وفي مصنف وكيع عن هشام بن عروة قال: كان لجابر بن عبد الله حلقةٌ في المسجد. يعني النبوي. يؤخذ عنه العلم , وروى البغوي من طريق عاصم بن عمر بن قتادة قال: جاءنا جابر بن عبد الله , وقد أصيب بصره , وقد مسَّ رأسه ولحيته بشيء من صُفرة. قال يحيى بن بكير وغيره: مات جابر سنة 78 , وقال علي بن المديني: مات جابر بعد أن عُمِّر فأوصى ألا يصلّي عليه الحجاج. قلت: وهذا موافق لقول الهيثم بن عدي: إنه مات سنة 74 , وفي الطبري وتاريخ البخاري ما يشهد له. وهو أن الحجاج شهد جنازته , ويقال: مات سنة 73 , ويقال: إنه عاش 94 سنة. قاله في الإصابة (1/ 434).

عاش إلى سنة سبع وسبعين على الصحيح , وقيل: مات في التي بعدها , وقيل قبل ذلك. قوله: (وعنده) أي: عند جابر. قوله: (قومه) وللبخاري " وعنده قومٌ " كذا في النّسخ التي وقفت عليها من البخاريّ , ووقع في العمدة " وعنده قومه " بزيادة الهاء , وجعلها شرّاحها ضميراً يعود على جابر , وفيه ما فيه. وليست هذه الرّواية في مسلمٍ أصلاً , وذلك وارد أيضاً على قوله. إنّه يُخرِّج المتّفق عليه. قوله: (فسألوه عن الغسل) أفاد إسحاق بن راهويه في " مسنده " , أنّ متولي السّؤال هو أبو جعفر الرّاوي , فأخرج من طريق جعفر بن محمّد عن أبيه قال: سألت جابراً عن غسل الجنابة. وبيّن النّسائيّ في روايته سبب السّؤال , فأخرج من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي جعفر , قال: تمارَينا في الغسل عند جابر , فكان أبو جعفر تولى السّؤال. ونسب السّؤال في هذه الرّواية إلى الجميع مجازاً؛ لقصدهم ذلك ,

ولهذا أفرد جابر الجواب فقال " يكفيك " وهو بفتح أوّله؛ لأنّ ذلك كان عن الكمّيّة كما أشعر بذلك قوله في الجواب " يكفيك صاع ". وللبخاري عن أبي جعفر، قال: قال لي جابر بن عبد الله. وأتاني ابن عمك يُعرِّض بالحسن بن محمد ابن الحنفية. قال: كيف الغسل من الجنابة؟ فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثةَ أكفٍّ , ويفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده. فقال لي الحسن: إني رجلٌ كثيرُ الشعر، فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر منك شعراً. وهذا عن الكيفيّة , وهو ظاهرٌ من قوله " كيف الغسل " ولكنّ الحسن بن محمّد في المسألتين جميعاً هو المنازع لجابر في ذلك , فقال في جواب الكمّيّة " ما يكفيني " أي: الصّاع , ولَم يُعلِّل , وقال في جواب الكيفيّة " إنّي كثير الشّعر " أي: فأحتاج إلى أكثر من ثلاث غرفات , فقال له جابر في جواب الكيفيّة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر شعراً منك وأطيب. أي: واكتفى بالثّلاث , فاقتضى أنّ الإنقاء يحصل بها , وقال في جواب الكمّيّة ما تقدّم. وناسب ذكر الخيريّة؛ لأنّ طلب الازدياد من الماء يلحظ فيه التّحرّي في إيصال الماء إلى جميع الجسد , وكان - صلى الله عليه وسلم - سيّد الورعين , وأتقى النّاس لله وأعلمهم به. وقد اكتفى بالصّاع فأشار جابر إلى أنّ الزّيادة على ما اكتفى به تنطّعٌ , قد يكون مثاره الوسوسة فلا يلتفت إليه. قوله: (يكفيك الصاع) هو إناء يسع خمسة أرطال وثلثا بالبغدادي

، وقال بعض الحنفية ثمانية. (¬1) قوله: (فقال رجلٌ) زاد الإسماعيليّ " منهم " أي: من القوم , وهذا يؤيّد ما ثبت في روايتنا؛ أنّ هذا القائل هو الحسن بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب الذي يعرف أبوه بابن الحنفيّة كما جزم به صاحب العمدة , وليس هو من قوم جابر؛ لأنّه هاشميّ وجابر أنصاريّ. قوله: (أَوفَى) يحتمل الصّفة والمقدار. أي: أطول وأكثر. قوله: (وخيرٌ منك) بالرّفع عطفاً على أوفى المخبر به عن هو , وفي رواية الأصيليّ " أو خيراً " بالنّصب عطفاً على الموصول. قوله: (ثمّ أمَّنا) فاعل أمّنا هو جابر كما أخرج البخاري ذلك واضحاً من فعله في كتاب الصّلاة , ولا التفات إلى من جعله من مقوله , والفاعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه السّلف من الاحتجاج بأفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والانقياد إلى ذلك , وفيه جواز الرّدّ بعنفٍ على من يماري بغير علمٍ إذا قصد الرادُّ إيضاحَ الحقّ وتحذير السّامعين من مثل ذلك , وفيه كراهية التّنطّع والإسراف في الماء. فائدة: أخرج ابن أبي شيبة من طريق هلال بن يساف - أحد التابعين - قال: كان يقال: من الوضوء إسراف ولو كنت على شاطئ نهر. وأخرج نحوه عن أبي الدرداء وابن مسعود. ¬

_ (¬1) تقدّم الكلام على مقداره والخلاف فيه. انظر حديث عائشة برقم (33).

وروي في معناه حديث مرفوع. أخرجه أحمد وابن ماجه بإسنادٍ لين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (¬1) قوله: (يفرغ) بضمّ أوّله. قوله: (ثلاثاً) أي: غرفات. زاد الإسماعيليّ " قال شعبة: أظنّه من غسل الجنابة " وفيه " وقال رجلٌ من بني هاشم: إنّ شعري كثير فقال جابر: شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر من شعرك وأطيب ". وللبخاري " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكفٍّ " وهي جمع كفٍّ , والكفّ تذكّر وتؤنّث , والمراد أنّه يأخذ في كل مرّة كفّين , ويدلّ على ذلك رواية إسحاق بن راهويه من طريق الحسن بن صالح عن جعفر بن محمّد عن أبيه. قال في آخر الحديث " وبسط يديه ". ويؤيّده حديث جبير بن مطعم , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمّا أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً، وأشار بيديه كلتيهما. أخرجاه. والكفّ اسم جنسٍ فيحمل على الاثنين. ويحتمل: أن تكون هذه الغرفات الثّلاث للتّكرار. ويحتمل: أن يكون لكل جهةٍ من الرّأس غَرفةٌ كما تقدم في حديث القاسم بن محمّد عن عائشة (¬2). ¬

_ (¬1) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بسعد، وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم، وإنْ كنت على نهر جار. أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن حيي بن عبد الله المعافري عن أبي عبد الرحمن الْحُبلي عن عبد الله بن عمرو. (¬2) رواية القاسم تقدم ذكرها في شرح حديث عائشة رضي الله عنها برقم (32)

فائدة: روى البخاري ومسلم عن أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد " (¬1) قوله: (إلى خمسة أمداد) أي: كان ربما اقتصر على الصاع - وهو أربعة أمداد - وربما زاد عليها إلى خمسة، فكأن أنساً لم يطّلع على أنه استعمل في الغسل أكثر من ذلك لأنه جعلها النهاية. وقد روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها , أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد هو الفرق. قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع، وروى مسلم أيضا من حديثها , أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد. فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة، وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث أنس كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع. وحمله الجمهور على الاستحباب , لأنَّ أكثر من قدر وضوءه وغسله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة قدرهما بذلك، ففي مسلم عن سفينة مثله، ولأحمد وأبي داود بإسناد صحيح عن جابر مثله، وفي الباب عن عائشة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وغيرهم. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في موضع آخر: المد إناء يسع رطلاً وثلثاً بالبغدادي، قاله جمهور أهل العلم، وخالف بعض الحنفية. فقالوا: المد رطلان.

وهذا إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة، وهو أيضاً في حق من يكون خلقه معتدلاً، وإلى هذا أشار البخاري في أول كتاب الوضوء بقوله " وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ".

باب التيمم

باب التّيمّم التّيمّم في اللّغة القصد، قال امرؤ القيس: تيمّمتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عالي. أي قصدتها. وفي الشّرع القصد إلى الصّعيد لمسح الوجه واليدين بنيّة استباحة الصّلاة ونحوها. وقال ابن السّكّيت: قوله: (فتيمّموا صعيداً) أي: اقصدوا الصّعيد، ثمّ كثر استعمالهم حتّى صار التّيمّم مسح الوجه واليدين بالتّراب. انتهى فعلى هذا هو مجازٌ لغويٌّ، وعلى الأوّل هو حقيقةٌ شرعيّةٌ. واختلف في التّيمّم. هل هو عزيمةٌ أو رخصة؟. وفصّل بعضهم , فقال: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة. فائدة: استدل بالآية على وجوب النية في التيمم؛ لأن معنى (فتيمَّموا) اقصدوا كما تقدَّم، وهو قول فقهاء الأمصار إلا الأوزاعي. وعلى أنه يجب نقل التراب , ولا يكفي هبوب الريح به بخلاف الوضوء كما لو أصابه مطر فنوى الوضوء به فإنه يجزئ. والأظهر الإجزاء لمن قصد التراب من الريح الهابَّة، بخلاف من لَم يقصد، وهو اختيار الشيخ أبي حامد. وعلى تعيين الصعيد الطيب للتيمم، لكن اختلف العلماء في المراد بالصعيد الطيب كما سيأتي قريباً. وعلى أنه يجب التيمم لكل فريضة، وسنذكر توجيهه وما يرد عليه.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون 40 - عن عمران بن حصينٍ - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معتزلاً , لَم يُصَلِّ في القوم؟ فقال: يا فلان , ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسولَ الله أصابتني جنابةٌ ولا ماء , فقال: عليك بالصّعيد , فإنّه يكفيك. (¬1) قوله: (عن عمران بن حصين) (¬2) الخزاعي. وقد ثبت عنه , أنه كان يسمع كلام الملائكة. قوله: (إذا هو برجلٍ) لَم أقف على تسميته، ووقع في شرح العمدة للشّيخ سراج الدّين بن الملقّن ما نصّه: هذا الرّجل هو خلاد بن رافع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (337 , 341) ومسلم (682) من طريق أبي رجاء العطاردي عن عمران به. مطوَّلا. واقتصر المصنف على الشاهد. (¬2) يكنى أبا نجيد بنون وجيم مصغراً , وكان إسلامه عام خيبر , وغزا عدة غزوات , وكان صاحب رايةِ خزاعة يوم الفتح. قاله ابن البرقي. وقال الطبراني: أسلم قديماً هو وأبوه وأخته , وكان ينزل ببلاد قومه ثم تحوَّل إلى البصرة إلى أن مات بها. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الأسود الدؤلي , قال: قدمت البصرة وبها عمران بن حصين , وكان عمر بعثه ليفقه أهلها. وأخرج الطبراني وابن منده بسند صحيح عن ابن سيرين. قال: لَم يكن يُقدّم على عمران أحدٌ من الصحابة ممن نزل البصرة. وقال أبو نعيم: كان مجاب الدعوة. وروى الدارمي عن مطرف عن عمران بن حصين قال: إني مُحدّثك بحديث إنه كان يُسلَّم عليَّ , وإنّ ابن زياد أمرني فاكتويت. فاحتبس عني حتى ذهب أثر الكي. فذكر الحديث في سُنة الحج. مات سنة 52 , وقيل سنة ثلاث. الإصابة (4/ 705)

بن مالك الأنصاريّ أخو رفاعة، شهد بدراً، قال ابن الكلبيّ: وقتل يومئذٍ، وقال غيره: له رواية. وهذا يدلّ على أنّه عاش بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أمّا على قول ابن الكلبيّ فيستحيل أن يكون هو صاحب هذه القصّة لتقدّم وقعة بدر على هذه القصّة بمدّةٍ طويلة بلا خلاف، فكيف يحضر هذه القصّة بعد قتله؟. وأمّا على قول غير ابن الكلبيّ. فيحتمل أن يكون هو، لكن لا يلزم من كونه له رواية أن يكون عاش بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لاحتمال أن تكون الرّواية عنه منقطعة، أو متّصلة لكن نقلها عنه صحابيّ آخر ونحوه. وعلى هذا فلا منافاة بين هذا وبين مَن قال: إنّه قتل ببدرٍ , إلاَّ أن تجيء رواية عن تابعيّ غير مخضرم , وصرّح فيها بسماعه منه , فحينئذٍ يلزم أن يكون عاش بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لكن لا يلزم أن يكون هو صاحب هذه القصّة، إلاَّ إن وردت رواية مخصوصة بذلك، ولَم أقف عليها إلى الآن. قوله: (أصابتني جنابة ولا ماء) بفتح الهمزة، أي: معي أو موجود، وهو أبلغ في إقامة عذره. وفي هذه القصّة مشروعيّة تيمّم الجنب، وسيأتي القول فيه في الحديث الذي بعده. وفيها جواز الاجتهاد بحضرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ سياق القصّة يدلّ على أنّ التّيمّم كان معلوماً عندهم، لكنّه صريح في الآية عن الحدث الأصغر، بناء على أنّ المراد بالملامسة ما دون الجماع، وأمّا الحدث

الأكبر فليست صريحة فيه، فكأنّه كان يعتقد أنّ الجنب لا يتيمّم، فعمل بذلك مع قدرته على أن يسأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الحكم. ويحتمل: أنّه كان لا يعلم مشروعيّة التّيمّم أصلاً. فكان حكمه حكم فاقد الطّهورين. ويؤخذ من هذه القصّة. أنّ للعالم إذا رأى فعلاً محتملاً أن يسأل فاعله عن الحال فيه ليوضّح له وجه الصّواب. وفيه التّحريض على الصّلاة في الجماعة، وأنّ ترك الشّخص الصّلاة بحضرة المصلين معيبٌ على فاعله بغير عذر. وفيه حسن الملاطفة، والرّفق في الإنكار. قوله: (عليك بالصّعيد) وفي رواية سلم بن زرير " فأمره أن يتيمّم بالصّعيد " واللام فيه للعهد المذكور في الآية الكريمة. ويؤخذ منه الاكتفاء في البيان بما يحصل به المقصود من الإفهام؛ لأنّه أحاله على الكيفيّة المعلومة من الآية، ولَم يصرّح له بها. قوله: (يكفيك) دليلٌ على أنّ المتيمّم في مثل هذه الحالة لا يلزمه القضاء. ويحتمل: أن يكون المراد بقوله " يكفيك " أي: للأداء، فلا يدلّ على ترك القضاء. تكميل: أخرج البزار من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعاً: الصعيد الطيب وضوء المسلم. الحديث. وصحَّحه ابن القطان، لكن قال الدارقطني: إنَّ الصواب

إرساله. وروى أحمد وأصحاب السنن من طريق أبي قلابة عن عمرو بن بُجدان - وهو بضم الموحدة وسكون الجيم - أبي ذر نحوه، ولفظه: إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لَم يجد الماء عشر سنين. وصحَّحه الترمذي وابن حبان والدارقطني. وروى سعيد بن منصور عن الحسن قال: التيمم بمنزلة الوضوء، إذا تيممت فأنت على وضوء حتى تحدث. وأخرجه حماد بن سلمة في " مصنفه " عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: تصلِّي الصلوات كلها بتيمم واحد مثل الوضوء ما لَم تحدث. وأمَّ ابن عباس وهو متيمم. أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما. وإسناده صحيح. وأشار البخاري (¬1) إلى أنَّ التيمم يقوم مقام الوضوء. ولو كانت الطهارة به ضعيفة لَمَا أمَّ ابن عباس وهو متيمم مَن كان متوضئاً. وهذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين والجمهور. وذهب بعضهم - من التابعين وغيرهم - إلى خلاف ذلك. وحجتهم أنَّ التيمم طهارة ضرورية لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، ولذلك أعطى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الذي أجنب فلم يصل الإناء من الماء ليغتسل به بعد أن قال له: عليك بالصعيد فإنه يكفيك؛ لأنه ¬

_ (¬1) أي: في ترجمته. فقال في صحيحه (باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء) فذكر أثر ابن عباس والحسن وقول يحيى بن سعيد. ثم أورد حديث الباب.

وجد الماء فبطل تيممه. وفي الاستدلال بهذا على عدم جواز أكثر من فريضة بتيمم واحد نظرٌ. وقد أبيح عند الأكثر بالتيمم الواحد النوافل مع الفريضة، إلاَّ أنَّ مالكاً رحمه الله يشترط تقدم الفريضة. وشذَّ شريحٌ القاضي , فقال: لا يصلَّى بالتيمم الواحد أكثر من صلاة واحدة فرضاً كانت أو نفلا. قال ابن المنذر: إذا صحَّت النوافل بالتيمم الواحد صحَّت الفرائض؛ لأن جميع ما يشترط للفرائض مشترط للنوافل إلا بدليل. انتهى. وقد اعترف البيهقي بأنه ليس في المسألة حديثٌ صحيحٌ من الطرفين. قال: لكن صحَّ عن ابن عمر إيجاب التيمم لكل فريضة، ولا يُعلم له مخالف من الصحابة. وتعقب: بما رواه ابن المنذر عن ابن عباس , أنه لا يجب. واحتج البخاري لعدم الوجوب بعموم قوله " فإنه يكفيك " أي: ما لَم تحدث أو تجد الماء. وحمله الجمهور على الفريضة التي تيمَّم من أجلها , ويصلي به ما شاء من النوافل، فإذا حضرت فريضة أخرى وجب طلب الماء، فإن لَم يجد تيمم. والله أعلم

الحديث الواحد والأربعون

الحديث الواحد والأربعون 41 - عن عمّار بن ياسرٍ - رضي الله عنه - , قال: بعثني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حاجةٍ , فأجنبتُ فلم أجد الماء , فتمرَّغتُ في الصّعيد , كما تَمرَّغ الدابَّة , ثمّ أتيتُ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ ذلك له , فقال: إنّما يكفيك أنْ تقول بيديك هكذا - ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً , ثمّ مسح الشّمال على اليمين , وظاهر كفّيه ووجهه. (¬1) قوله: (عن عمار بن ياسر) يكنى أبا اليقظان العنسي بالنون، وأمه سمية بالمهملة مصغر، أسلم هو وأبوه قديماً، وعُذِّبوا لأجل الإسلام، وقتلَ أبو جهل أمَّه فكانت أول شهيد في الإسلام , ومات أبوه قديماً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (339 , 340) ومسلم (368) من طريق الأعمش سمعت شقيق بن سلمة قال: قال: كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم. وإن لم يجد الماء شهراً. فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} [النساء: 43]. فقال عبد الله: لو رُخّص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برَدَ عليهم الماء أن يتيمّموا بالصعيد، فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار؟ بعثني. فذكره. وفيه. فقال عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمّار؟ وأخرجه البخاري أيضاً (331 , 336 , 338) ومسلم (368) من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، أنَّ رجلاً أتى عمر، فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين، إذ أنا وأنت في سريةٍ فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تُصل، وأما أنا فتمعَّكتُ في التراب وصلَّيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما .. فذكره.

وعاش هو إلى أن قُتل بصفين مع علي - رضي الله عنهم -، وكان قد وَلِي شيئاً من أمور الكوفة لعمر فلهذا نسبه أبو الدرداء إليها. وقال: أليس فيكم الذي أجاره الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان. يعني: عماراً. أخرجه البخاري. وزعم ابن التين أنَّ المراد بقوله: " على لسان نبيه " قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وهو محتمل. ويحتمل: أن يكون المراد بذلك حديث عائشة مرفوعاً: ما خُيّر عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما. أخرجه الترمذي، ولأحمد من حديث ابن مسعود مثله. أخرجهما الحاكم، فكونه يختار أرشد الأمرين دائماً يقتضي أنه قد أجير من الشيطان الذي من شأنه الأمر بالغيِّ. وروى البزار من حديث عائشة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ملئ إيمانا إلى مشاشه. يعني: عماراً. وإسناده صحيح. ولابن سعد في " الطبقات " من طريق الحسن قال: قال عمار: نزلنا منزلا فأخذت قربتي ودلوي لأستقي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سيأتيك من يمنعك من الماء، فلمَّا كنت على رأس الماء إذا رجلٌ أسود كأنه مرس، فصرعته " فذكر الحديث، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذاك الشيطان " فلعلَّ ابن مسعود (¬1) أشار إلى هذه القصة. ¬

_ (¬1) كذا قال. وهو سبق قلم , والصواب أبو الدرداء كما في صحيح البخاري (3113) ومواضع أخرى. وسبب وهمه أنَّ أبا الدرداء ذكرَ ابنَ مسعود مع عمارٍ فانتقل ذهنه له.

ويحتمل: أن تكون الإشارة بالإجارة المذكورة إلى ثباته على الإيمان لَمَّا أكرهه المشركون على النطق بكلمة الكفر، فنزلت فيه: (إلاَّ مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان). وقد جاء في حديث آخر " إنَّ عماراً مُلئ إيمانا إلى مشاشه " أخرجه النسائي بسند صحيح، والمشاش: بضم الميم ومعجمتين الأولى خفيفة. وهذه الصفة لا تقع إلاَّ ممن أجاره الله من الشيطان قوله: (فتمرّغت) بالغين المعجمة , أي: تقلبت , وفي رواية لهما " فتمعكت " وكأنّ عمّاراً استعمل القياس في هذه المسألة؛ لأنّه لَمّا رأى أنّ التّيمّم إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئة الوضوء رأى أنّ التّيمّم عن الغسل يقع على هيئة الغسل. ويستفاد من هذا الحديث وقوع اجتهاد الصّحابة في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنّ المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه وإن لَم يصب الحقّ، وأنّه إذا عمل بالاجتهاد لا تجب عليه الإعادة. وفي تركه أمر عمر أيضاً بقضائها مُتمسّكٌ لِمَن قال: إنّ فاقد الطّهورين لا يُصلِّي ولا قضاء عليه. (¬1) ¬

_ (¬1) تقدَّم ذِكر قصة عمر مع عمار. انظر التعليق السابق , والمقصود بالطهورين الماء والتراب. وقد تكلَّم الشارح رحمه الله عن مسألة فاقد الطهورين في شرحه لحديث عائشة في قصة سبب نزول آية التيمم في البخاري (329) باب إذا لم يجد ماء ولا تراباً. ونقل عن الجمهور وجوب الصلاة. فانظره.

قوله: (كما تمرّغ) بفتح المثنّاة وضمّ الغين المعجمة , وأصله تتمرّغ. فحذفت إحدى التّاءين. قوله: (إنّما كان يكفيك) وللبخاري " يكفيك الوجه والكفان " وفيه دليلٌ على أنّ الواجب في التّيمّم هي الصّفة المشروحة في هذا الحديث، والزّيادة على ذلك لو ثبتت بالأمر دلّت على النّسخ ولزم قبولها، لكن إنّما وردت بالفعل فتحمل على الأكمل، وهذا هو الأظهر من حيث الدّليل. والأحاديث الواردة في صفة التّيمّم لَم يصحّ منها سوى حديث أبي جهيم (¬1) وعمّار، وما عداهما فضعيفٌ أو مختلفٌ في رفعه ووقفه، والرّاجح عدم رفعه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (337) عن يحيى بن بكير عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن عمير مولى ابن عباس عن أبي الجهيم - رضي الله عنه - قال: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئرِ جملٍ. فلقيه رجلٌ فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم ردَّ عليه السلام. وذكره مسلم (369) معلَّقاً عن الليث. قال الحافظ في " الفتح ": وللدارقطني من طريق أبي صالح عن الليث " فمسح بوجهه وذراعيه " كذا للشافعي من رواية أبي الحويرث، وله شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه أبو داود، لكن خطَّأ الحفَّاظ روايتَه في رفعه , وصوَّبوا وقفه، وقد تقدَّم أنَّ مالكاً أخرجه موقوفاً بمعناه. وهو الصحيح، والثابت في حديث أبي جهيم أيضاً بلفظ " يديه " لا ذراعيه. فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث وأبي صالح من الضعف. انتهى

فأمّا حديث أبي جهيم. فورد بذكر اليدين مجملاً. وأمّا حديث عمّار. فورد بذكر الكفّين في الصّحيحين. وبذكر المرفقين في السّنن، وفي رواية إلى نصف الذّراع، وفي رواية إلى الآباط. فأمّا رواية المرفقين وكذا نصف الذّراع. ففيهما مقال. وأمّا رواية الآباط. فقال الشّافعيّ وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فكلّ تيمّم صحّ للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجّة فيما أمر به. وممّا يقوّي رواية الصّحيحين في الاقتصار على الوجه والكفّين كون عمّار كان يفتي بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره , ولا سيّما الصّحابيّ المجتهد. وإليه ذهب أحمد وإسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن خزيمة، ونقله ابن الجهم وغيره عن مالك، ونقله الخطّابيّ عن أصحاب الحديث. وقال النّوويّ: رواه أبو ثور وغيره عن الشّافعيّ في القديم، وأنكر ذلك الماورديّ وغيره. قال: وهو إنكار مردود؛ لأنّ أبا ثور إمام ثقة. قال: وهذا القول - وإن كان مرجوحاً - فهو القويّ في الدّليل. انتهى كلامه في شرح المهذّب. وقال في شرح مسلم في الجواب عن هذا الحديث: إنّ المراد به بيان صورة الضّرب للتّعليم، وليس المراد به بيان جميع ما يحصل به التّيمّم.

وتعقّب: بأنّ سياق القصّة يدلّ على أنّ المراد به بيان جميع ذلك؛ لأنّ ذلك هو الظّاهر من قوله " إنّما يكفيك ". وأمّا ما استدل به من اشتراط بلوغ المسح إلى المرفقين , من أنّ ذلك مشترط في الوضوء. فجوابه أنّه قياس في مقابلة النّصّ، فهو فاسد الاعتبار وقد عارضه من لَم يشترط ذلك بقياسٍ آخر، وهو الإطلاق في آية السّرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود هذا النّصّ. قوله: (وضرب بيديه الأرض ضربة واحدةً) فيه الاكتفاء بضربةٍ واحدةٍ في التّيمّم، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره. وفيه أنّ التّرتيب غير مشترط في التّيمّم. قال ابن دقيق العيد: اختلف في لفظ هذا الحديث. فوقع عند البخاريّ بلفظ " ثمّ " وفي سياقه اختصارٌ , ولمسلمٍ بالواو. ولفظه " ثمّ مسح الشّمال على اليمين وظاهر كفّيه ووجهه " وللإسماعيليّ ما هو أصرح من ذلك. قلت: ولفظه من طريق هارون الحمّال عن أبي معاوية " إنّما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض , ثمّ تنفضهما ثمّ تمسح بيمينك على شمالك وشمالك على يمينك , ثمّ تمسح على وجهك ". قال الكرمانيّ: في هذه الرّواية إشكالٌ من خمسة أوجه: أحدها: الضّربة الواحدة، وفي الطّرق الأخرى ضربتان، وقد قال النّوويّ: الأصحّ المنصوص ضربتان. قلت: مراد النّوويّ ما يتعلق بنقل المذهب.

قوله: (ثمّ مسح الشّمال على اليمين , وظاهر كفّيه ووجهه) وللبخاري " فضرب بكفّه ضربةً على الأرض، ثمّ نفضها، ثمّ مسح بهما ظهر كفّه بشماله أو ظهر شماله بكفّه، ثمّ مسح بهما وجهه ".كذا في جميع الرّوايات بالشّكّ. وفي رواية أبي داود تحرير ذلك من طريق أبي معاوية أيضاً , ولفظه " ثمّ ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفّين ثمّ مسح وجهه ". وللبخاري " ونفخ فيهما ثمّ مسح بهما وجهه وكفّيه " وله أيضاً " ثمّ أدناهما من فيه " وهي كناية عن النّفخ، وفيها إشارة إلى أنّه كان نفخاً خفيفاً. وفي رواية سليمان بن حرب عند البخاري " تفل فيهما " والتّفل. قال أهل اللّغة: هو دون البزق، والنّفث دونه. وسياق هؤلاء يدلّ على أنّ التّعليم وقع بالفعل. ولمسلمٍ من طريق يحيى بن سعيد، وللإسماعيليّ من طريق يزيد بن هارون وغيره - كلّهم عن شعبة - أنّ التّعليم وقع بالقول، ولفظهم " إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض " زاد يحيى " ثمّ تنفخ , ثمّ تمسح بهما وجهك وكفّيك ". واستدل بالنّفخ على استحباب تخفيف التّراب. والنّفخ. يحتمل: أن يكون لشيءٍ علق بيده خشي أن يصيب وجهه الكريم.

ويحتمل: أنه علِق بيده من التّراب شيء له كثرة فأراد تخفيفه , لئلا يبقى له أثر في وجهه. ويحتمل: أن يكون لبيان التّشريع، ومن ثَمَّ تمسّك به من أجاز التّيمّم بغير التّراب زاعماً أنّ نفخه يدلّ على أنّ المشترط في التّيمّم الضّرب من غير زيادة على ذلك، فلمّا كان هذا الفعل محتملاً لَمَا ذكر. أورد البخاري الترجمة بلفظ الاستفهام بقوله: المتيمم هل ينفخ فيهما؟. ليعرف النّاظر أنّ للبحث فيه مجالاً. واستدل به أيضاً على سقوط استحباب التّكرار في التّيمّم؛ لأنّ التّكرار يستلزم عدم التّخفيف. وعلى أنّ من غسل رأسه بدل المسح في الوضوء أجزأه أخذاً من كون عمّار تمرّغ في التّراب للتّيمّم, وأجزأه ذلك، ومن هنا يؤخذ جواز الزّيادة على الضّربتين في التّيمّم، وسقوط إيجاب التّرتيب في التّيمّم عن الجنابة.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون 42 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: أُعطِيتُ خمساً , لَم يُعطَهنّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصرتُ بالرّعب مسيرةَ شهرٍ , وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً , فأيّما رجلٍ من أمّتي أدركته الصّلاة. فلْيصلِّ , وأُحلِّتْ لي المغانم , ولَم تحلِّ لأحدٍ قبلي , وأُعطيتُ الشّفاعة، وكان النّبيّ يُبعث إلى قومه خاصّةً , وبُعثت إلى النّاس عامّةً. (¬1) تمهيد: مدار حديث جابر هذا على هشيم , أخبرنا سيّار أبو الحكم العنزي عن يزيد الفقير عن جابر. وله شواهد من حديث ابن عبّاس وأبي موسى وأبي ذرٍّ، من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، رواها كلّها أحمد بأسانيد حسان. قوله: (أعطيت خمساً) بيّن في رواية عمرو بن شعيب , أنّ ذلك كان في غزوة تبوك , وهي آخر غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (لَم يُعطَهنّ أحدٌ من الأنبياء قبلي) وفي حديث ابن عبّاس " لا أقولهنّ فخراً " ومفهومه أنّه لَم يختصّ بغير الخمس المذكورة، لكن روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: فضّلت على الأنبياء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (328 , 427 , 2954) ومسلم (521) من طريق سيّار أبي الحكم عن يزيد الفقير عن جابر - رضي الله عنه -. وتقدّمت ترجمة جابر - رضي الله عنه - قريباً برقم (39).

بستٍّ. فذكر أربعاً من هذه الخمس , وزاد ثنتين. كما سيأتي بعد. وطريق الجمع أن يقال: لعله اطّلع أوّلاً على بعض ما اختصّ به , ثمّ اطّلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجّةً يدفع هذا الإشكال من أصله. وظاهر الحديث يقتضي أنّ كلّ واحدة من الخمس المذكورات لَم تكن لأحدٍ قبله، وهو كذلك، ولا يعترض بأنّ نوحاً عليه السّلام كان مبعوثاً إلى أهل الأرض بعد الطّوفان؛ لأنّه لَم يبق إلاَّ من كان مؤمناً معه. وقد كان مرسلاً إليهم؛ لأنّ هذا العموم لَم يكن في أصل بعثته , وإنّما اتّفق بالحادث الذي وقع - وهو انحصار الخلق في الموجودين - بعد هلاك سائر النّاس، وأمّا نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك. وأمّا قول أهل الموقف لِنُوحِ عليه السلام كما صحّ في حديث الشّفاعة " أنت أوّل رسول إلى أهل الأرض " (¬1) فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أوّليّة إرساله، وعلى تقدير أن يكون مراداً فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدّة آياتٍ على أنّ إرسال نوح كان إلى قومه , ولَم يذكر أنّه أرسل إلى غيرهم. واستدلَّ بعضهم لعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلاَّ أهل السّفينة، ولو لَم يكن مبعوثاً إليهم لَمَا أهلكوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3162) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.

لقوله تعالى (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً). وقد ثبت أنّه أوّل الرّسل. وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدّة نوح , وعلم نوحٌ بأنّهم لَم يؤمنوا فدعا على من لَم يؤمن من قومه ومن غيرهم فأجيب. وهذا جوابٌ حسنٌ، لكن لَم ينقل أنّه نُبِّئ في زمن نوحٍ غيره. ويحتمل: أن يكون معنى الخصوصيّة لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوحٌ وغيره بصدد أن يُبعث نبيٌّ في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته. ويحتمل: أن يكون دعاؤه قومه إلى التّوحيد بلغ بقيّة النّاس فتمادوا على الشّرك فاستحقّوا العقاب، وإلى هذا نحا ابن عطيّة في تفسير سورة هود , قال: وغير ممكن أن تكون نبوّته لَم تبلغ القريب والبعيد لطول مدّته. ووجّهه ابن دقيق العيد. بأنّ توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامّاً في حقّ بعض الأنبياء , وإن كان التزام فروع شريعته ليس عامّاً؛ لأنّ منهم من قاتل غير قومه على الشّرك، ولو لَم يكن التّوحيد لازماً لهم لَم يقاتلهم. ويحتمل: أنّه لَم يكن في الأرض عند إرسال نوحٍ إلاَّ قوم نوحٍ (¬1) ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (1/ 566): هذا الاحتمال أظهر مما قبله , لقوله تعالى (وأوحي إلى نوحٍ أنه لنْ يؤمن مِن قومِك إلاَّ منْ قد آمنَ) وقوله (وقال نوحٌ ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً)

فبعثته خاصّةٌ لكونها إلى قومه فقط , وهي عامّةٌ في الصّورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتّفق وجود غيرهم لَم يكن مبعوثاً إليهم. وغفل الدّاوديّ الشّارح (¬1) غفلة عظيمة فقال: قوله " لَم يعطهنّ أحدٌ " يعني لَم تجمع لأحدٍ قبله؛ لأنّ نوحاً بعث إلى كافّة النّاس، وأمّا الأربع فلم يعط أحدٌ واحدةً منهنّ. وكأنّه نظر في أوّل الحديث , وغفل عن آخره؛ لأنّه نصّ - صلى الله عليه وسلم - على خصوصيّته بهذه أيضاً لقوله " وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة " وفي رواية مسلم " وكان كلّ نبيّ ... إلخ ". قوله: (نُصرتُ بالرُّعب) زاد أبو أمامة " يقذف في قلوب أعدائي " أخرجه أحمد. قوله: (مسيرة شهر) مفهومه أنّه لَم يوجد لغيره النّصر بالرّعب في هذه المدّة ولا في أكثر منها، أمّا ما دونها فلا، لكنّ لفظ رواية عمرو بن شعيب " ونصرت على العدوّ بالرّعب , ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر " فالظّاهر اختصاصه به مطلقاً. وإنّما جعل الغاية شهراً؛ لأنّه لَم يكن بين بلده وبين أحدٍ من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصيّة حاصلةٌ له على الإطلاق حتّى لو كان ¬

_ (¬1) أي: كتابه النصيحة في شرح صحيح البخاري. وهو أحمد بن نصر. تقدَّمت ترجمته.

وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمّته من بعده؟. فيه احتمالٌ. قوله: (وجُعِلتْ لي الأرض مسجداً) أي: موضع سجود، لا يختصّ السّجود منها بموضعٍ دون غيره، ويمكن أن يكون مجازاً عن المكان المبنيّ للصّلاة، وهو من مجاز التّشبيه؛ لأنّه لَمّا جازت الصّلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك. قال ابن التّين: قيل المراد جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وجعلت لغيري مسجداً ولَم تجعل له طهوراً؛ لأنّ عيسى كان يسيح في الأرض , ويُصلِّي حيث أدركته الصّلاة. كذا قال. وسبقه إلى ذلك الدّاوديّ. وقيل: إنّما أبيحت لهم في موضع يتيقّنون طهارته، بخلاف هذه الأمّة فأبيح لها في جميع الأرض إلاَّ فيما تيقّنوا نجاسته. والأظهر ما قاله الخطّابيّ , وهو أنّ من قبله إنّما أبيحت لهم الصّلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصّوامع. ويؤيّده رواية عمرو بن شعيب بلفظ " وكان من قبلي إنّما كانوا يصلّون في كنائسهم " وهذا نصٌّ في موضع النّزاع فثبتت الخصوصيّة. ويؤيّده ما أخرجه البزّار من حديث ابن عبّاس نحو حديث الباب. وفيه " ولَم يكن من الأنبياء أحدٌ يُصلِّي حتّى يبلغ محرابه ". قوله: (وطهوراً) استدل به على أنّ الطّهور هو المطهّر لغيره؛ لأنّ الطّهور لو كان المراد به الطّاهر لَم تثبت الخصوصيّة، والحديث إنّما سيق لإثباتها.

وقد روى ابن المنذر وابن الجارود بإسنادٍ صحيح عن أنس مرفوعاً: جعلت لي كلّ أرضٍ طيِّبةٍ مسجداً وطهوراً. ومعنى طيّبة طاهرة، فلو كان معنى طهوراً طاهراً للزم تحصيل الحاصل. واستدل به على أنّ التّيمّم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف. وفيه نظرٌ (¬1). وعلى أنّ التّيمّم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكّد في رواية أبي أمامة بقوله " وجعلت لي الأرض كلّها ولأمّتي مسجداً وطهوراً ". وسيأتي البحث في ذلك. قوله: (فأيّما رجلٍ) أي: مبتدأ فيه معنى الشّرط، و " ما " زائدة للتّأكيد، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لَم يجد ماءً ولا تراباً ووجد شيئاً من أجزاء الأرض فإنّه يتيمّم به، ولا يقال هو خاصّ بالصّلاة؛ لأنّا نقول: لفظ حديث جابر مختصر. وفي رواية أبي أمامة عند البيهقيّ " فأيّما رجل من أمّتي أتى الصّلاة فلم يجد ماء وجد الأرض طهوراً ومسجداً " , وعند أحمد " فعنده طهوره ومسجده " , وفي رواية عمرو بن شعيب " فأينما أدركتني ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (567): ليس للنظر المذكور وجهٌ. والصواب أنَّ التيمم للحدث كالماء. عملاً بظاهر الحديث المذكور وما جاء في معناه , وهو قولُ جمٍّ غفيرٍ من أهل العلم. والله أعلم. انتهى كلام الشيخ. قلت: تقدَّم نقل الخلاف في هذه المسألة في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - المتقدِّم.

الصّلاة. تمسّحت وصليت ". واحتجّ من خصّ التّيمّم بالتّراب بحديث حذيفة عند مسلم بلفظ " وجعلت لنا الأرض كلّها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لَم نجد الماء ". وهذا خاصّ فينبغي أن يُحمل العامّ عليه فتختصّ الطّهوريّة بالتّراب، ودلَّ الافتراق في اللفظ حيث حصل التّأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر , على افتراق الحكم , وإلاَّ لعطف أحدهما على الآخر نسقاً كما في حديث الباب. ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ " التّربة " على خصوصيّة التّيمّم بالتّراب , بأن قال: تربة كلّ مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب: بأنّه ورد في الحديث المذكور بلفظ " التّراب " أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث عليٍّ " وجعل التّراب لي طهوراً " أخرجه أحمد والبيهقيّ بإسنادٍ حسن. ويقوّي القول بأنّه خاصّ بالتّراب: أنّ الحديث سيق لإظهار التّشريف والتّخصيص، فلو كان جائزاً بغير التّراب لَمَا اقتصر عليه. ويدلُّ عليه قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) فإنَّ الظاهر أنها للتبعيض. قال ابن بطال: فإن قيل لا يقال مسح منه إلا إذا أخذ منه جزءاً، وهذه صفة التراب لا صفة الصخر مثلاً الذي لا يعلق باليد منه شيء، قال: فالجواب أنه يجوز أن يكون قوله " منه " صلة.

وتعقب: بأنه تعسف. قال صاحب الكشاف: فإن قلتَ لا يفهم أحدٌ من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن أو غيره إلا معنى التبعيض. قلت: هو كما تقول، والإذعان للحق خير من المراء. انتهى. واحتج ابن خزيمة لجواز التيمم بالسبِخَة (¬1) بحديث عائشة في شأن الهجرة أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل. يعني: المدينة. (¬2) قال: وقد سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة طيبة. (¬3) فدلَّ على أنَّ السبِخة داخلة في الطيب. ولَم يخالف في ذلك إلا إسحاق بن راهويه. قوله: (فليصلِّ) عرف ممّا تقدّم , أنّ المراد فليصل بعد أن يتيمّم. قوله: (وأُحلّت لي الغنائم) وللكشميهنيّ " المغانم " وهي رواية مسلم. قال الخطّابيّ: كان مَن تقدّم على ضربين. منهم: من لَم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم: من أذن له فيه , لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لَم يحلّ لهم أن يأكلوه وجاءت ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح ": السبخة بمهملة وموحدة ثم معجمة مفتوحات. هي الأرض المالحة التي لا تكاد تنبت، وإذا وصفت الأرض. قلت: هي أرض سبِخة بكسر الموحدة. انتهى (¬2) أخرجه البخاري (2157) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) أخرجه البخاري (4589) ومسلم (1384) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.

نار فأحرقته (¬1). وقيل: المراد أنّه خصّ بالتّصرّف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء. والأوّل أصوب , وهو أنّ من مضى لَم تحلّ لهم الغنائم أصلاً. قوله: (وأُعطيت الشّفاعة) قال ابن دقيق العيد: الأقرب أنّ اللام فيها للعهد، والمراد الشّفاعة العظمى في إراحة النّاس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النّوويّ وغيره. وقيل: الشّفاعة التي اختصّ بها أنّه لا يردّ فيما يسأل. وقيل: الشّفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان؛ لأنّ شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك، قاله عياض. والذي يظهر لي أنّ هذه مرادة مع الأولى؛ لأنّه يتبعها بها. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (3124) ومسلم (1747) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غزا نبي من الأنبياء. وفيه: فجَمَعَ الغنائم، فجاءت - يعني النار لتأكلها - فلم تطعمها , فقال: إن فيكم غلولاً، فليبايعني من كل قبيلة رجلٌ، فلزقتْ يدُ رجلٍ بيده، فقال: فيكم الغلول، فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار، فأكلتها , ثم أحل الله لنا الغنائم رأى ضعفنا، وعجزنا فأحلها لنا ". قال الحافظ في " الفتح " (6/ 268): في رواية النسائي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: إنَّ الله أطعمنا الغنائم رحمة رحمناها وتخفيفاً خفَّفه عنا ". قوله (رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها) فيه اختصاص هذه الأمة بحل الغنيمة , وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر. وفيها نزل قوله تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً) فأحلَّ الله لهم الغنيمة , وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس , أنَّ أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي خرج فيها عبد الله بن جحش , وذلك قبل بدر بشهرين , ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد , أنه - صلى الله عليه وسلم - أخَّر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم بدر. انتهى

وقال البيهقيّ في " البعث ": يحتمل أنّ الشّفاعة التي يختصّ بها أنّه يشفع لأهل الصّغائر والكبائر، وغيره إنّما يشفع لأهل الصّغائر دون الكبائر. ونقل عياض: أنّ الشّفاعة المختصّة به شفاعة لا تردّ. وقد وقع في حديث ابن عبّاس " وأعطيت الشّفاعة فأخّرتها لأمّتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً " , وفي حديث عمرو بن شعيب " فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلاَّ الله ". فالظّاهر أنّ المراد بالشّفاعة المختصّة في هذا الحديث إخراج من ليس له عملٌ صالحٌ إلاَّ التّوحيد، وهو مختصّ أيضاً بالشّفاعة الأولى، لكن جاء التّنويه بذكر هذه؛ لأنّها غاية المطلوب من تلك لاقتضائها الرّاحة المستمرّة، والله أعلم. وقد ثبتت هذه الشّفاعة في رواية الحسن عن أنس كما في البخاري " ثمّ أرجع إلى ربّي في الرّابعة فأقول: يا ربّ ائذن لي فيمَن قال لا إله إلاَّ الله، فيقول: وعزّتي وجلالي لأخرجنّ منها مَن قال لا إله إلاَّ الله ". ولا يعكّر على ذلك. ما وقع عند مسلم قبل قوله وعزّتي " فيقول ليس ذلك لك، وعزّتي .. إلخ؛ لأنّ المراد أنّه لا يباشر الإخراج كما في المرّات الماضية، بل كانت شفاعته سبباً في ذلك في الجملة. والله أعلم. وقد تقدّم الكلام على قوله " وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة ". وأمّا قوله " وبعثت إلى النّاس عامّة " فوقع في رواية مسلم " وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود " , فقيل: المراد بالأحمر العجم وبالأسود

العرب، وقيل: الأحمر الإنس والأسود الجنّ. وعلى الأوّل التّنصيص على الإنس من باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنّه مرسل إلى الجميع، وأصرح الرّوايات في ذلك وأشملها رواية أبي هريرة عند مسلم " وأرسلت إلى الخلق كافّة ". تكميلٌ: أوّلُ حديث أبي هريرة هذا " فضّلت على الأنبياء بستٍّ " فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلاَّ الشّفاعة , وزاد خصلتين وهما " وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي النّبيّون " فتحصّل منه. ومن حديث جابر سبع خصال. ولمسلمٍ أيضاً من حديث حذيفة: فضّلنا على النّاس بثلاث خصال: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وذكر خصلة الأرض كما تقدّم. قال: وذكر خصلة أخرى. وهذه الخصلة المبهمة بيّنها ابن خزيمة والنّسائيّ. وهي: وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش. يشير إلى ما حطّه الله عن أمّته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنّسيان، فصارت الخصال تسعاً. ولأحمد من حديث عليٍّ: أعطيت أربعاً لَم يعطهنّ أحدٌ من أنبياء الله: أعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمد، وجعلت أمّتي خير الأمم. وذكر خصلة التّراب فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة. وعند البزّار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: فضّلت على الأنبياء بستٍّ: غفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر , وجعلت أمّتي خير الأمم

، وأعطيت الكوثر، وإنّ صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه. وذكَرَ ثنتين ممّا تقدّم. وله من حديث ابن عبّاس رفعه: فضّلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافراً فأعانني الله عليه فأسلم. قال: ونسيت الأخرى. قلت: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة. ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التّتبّع. وقد تقدّم طريق الجمع بين هذه الرّوايات، وأنّه لا تعارض فيها. وقد ذكر أبو سعيد النّيسابوريّ في كتاب " شرف المصطفى " , أنّ عدد الذي اختصّ به نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء ستّون خصلة. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدّم. مشروعيّة تعديد نعم الله، وإلقاء العلم قبل السّؤال، وأنّ الأصل في الأرض الطّهارة. وأنّ صحّة الصّلاة لا تختصّ بالمسجد المبنيّ لذلك. وأمّا حديث " لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في المسجد " فضعيفٌ (¬1) أخرجه الدّارقطنيّ ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله: لكن يُغني عنه ما رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس مرفوعاً " من سمع النداء فلم يأت. فلا صلاة له إلاَّ من عذر ". وما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة , أنَّ رجلاً أعمى سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُصلِّي في بيته , فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب. وهذا في الفرائض كما هو معلوم. أمَّا النافلة فلا تختص بالمسجد , بل هي في البيت أفضل. إلاَّ ما دلَّ الشرع على استثنائه. والله أعلم. انتهى

من حديث جابر. واستدل به صاحب المبسوط من الحنفيّة على إظهار كرامة الآدميّ , وقال: لأنّ الآدميّ خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أنّ كلاً منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته، والله تعالى أعلم بالصواب.

باب الحيض

باب الحيض أصله السّيلان، وفي العرف جريان دم المرأة من موضع مخصوص في أوقات معلومة. قال الله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النّساء في المحيض ". والمحيض عند الجمهور هو الحيض، وقيل: زمانه، وقيل: مكانه. قوله: (أذىً) قال الطّيبيّ: سُمِّي الحيض أذىً لنتنه وقذره ونجاسته. وقال الخطّابيّ: الأذى المكروه الذي ليس بشديدٍ، كما قال تعالى (لن يضرّوكم إلاَّ أذىً)، فالمعنى: أنّ المحيض أذىً يعتزل من المرأة موضعه ولا يتعدّى ذلك إلى بقيّة بدنها. وقوله: (فاعتزلوا النّساء في المحيض) روى مسلم وأبو داود من حديث أنس , أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة أخرجوها من البيت، فسئل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك , فنزلت الآية فقال: اصنعوا كلّ شيء إلاَّ النّكاح. فأنكرتِ اليهود ذلك، فجاء أسيد بن حضيرٍ وعبّاد بن بشر , فقالا: يا رسولَ الله إلاَّ نجامعهنّ في الحيض؟ يعني خلافاً لليهود، فلم يأذن في ذلك. وروى الطّبريّ عن السّدّيّ , أنّ الذي سأل أوّلاً عن ذلك , هو ثابت بن الدّحداح. واختلف في ابتداءه: فقال بعضهم: أول ما أرسل على نساء بني إسرائيل.

وقد أخرجه عبد الرّزّاق عن ابن مسعود بإسنادٍ صحيح قال: كان الرّجال والنّساء في بني إسرائيل يصلّون جميعاً، فكانت المرأة تتشرّف للرّجل، فألقى الله عليهنّ الحيض ومنعهنّ المساجد. وعنده عن عائشة نحوه وقيل: عامّ في جميع بنات آدم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا شيئ كتبه الله على بنات آدم. متفق عليه. فيتناول الإسرائيليّات ومن قبلهنّ. قال الدّاوديّ: ليس بينهما مخالفة , فإنّ نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فعلى هذا فقوله " بنات آدم " عامّ أريد به الخصوص. قلت: ويمكن أن يجمع بينهما مع القول بالتّعميم , بأنّ الذي أرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهنّ عقوبة لهنّ لا ابتداء وجوده. وقد روى الطّبريّ وغيره عن ابن عبّاس وغيره , أنّ قوله تعالى في قصّة إبراهيم (وامرأته قائمة فضحكت) أي: حاضت. والقصّة متقدّمة على بني إسرائيل بلا ريب. وروى الحاكم وابن المنذر بإسنادٍ صحيح عن ابن عبّاس: أنّ ابتداء الحيض كان على حوّاء بعد أن أهبطت من الجنّة. وإذا كان كذلك فبنات آدم بناتها، والله أعلم.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون 43 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ فاطمةَ بنتَ أبي حبيشٍ , سألتِ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقالت: إنّي أُستحاض فلا أطْهر , أفأدعُ الصّلاة؟ قال: لا، إنّ ذلك عرقٌ , ولكن دعي الصّلاة قدرَ الأيّام التي كنتِ تحيضين فيها , ثمّ اغتسلي وصلِّي. وفي روايةٍ: وليس بالحيضة , فإذا أقبلتِ الحيضة فاتركي الصلاة فيها , فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلّي. (¬1) قوله: (فاطمة بنت أبي حبيش) بالحاء المهملة والموحّدة والشّين المعجمة بصيغة التّصغير. اسمه قيس بن المطّلب بن أسد , وهي غير فاطمة بنت قيس التي طُلِّقت ثلاثاً. (¬2) قوله: (أُستَحاض) بضمّ الهمزة وفتح المثنّاة , يقال: استحيضت المرأة إذا استمرّ بها الدّم بعد أيّامها المعتادة فهي مستحاضة. والاستحاضة. جريان الدّم من فرج المرأة في غير أوانه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (226 , 300 , 314 , 319 , 324) ومسلم (333) من طرق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به. (¬2) قال الشارح في موطن آخر: وقع في سنن أبي داود عن فاطمة بنت قيس. فظنَّ بعضهم أنها القرشية الفهرية , والصواب أنها بنت أبي حبيش. واسم أبي حبيش قيس. انتهى وسيأتي إن شاء الله حديث القرشية في الطلاق رقم (322).

قوله: (فلا أطهر) في هذا الحديث التّصريح ببيان السّبب , وهو قولها " إنّي أستحاض " وكان عندها أنّ طهارة الحائض لا تعرف إلاَّ بانقطاع الدّم فكنّتْ بعدم الطّهر عن اتّصاله، وكانت علمت أنّ الحائض لا تصلي , فظنّت أنّ ذلك الحكم مقترن بجريان الدّم من الفرج , فأرادت تحقّق ذلك فقالت: أفأدع الصّلاة؟ قوله: (لا) أي: لا تدعي الصّلاة. قوله: (عرق) بكسر العين , هو المسمّى بالعاذل. بالذّال المعجمة. قوله: (دعي الصّلاة) يتضمّن نهي الحائض عن الصّلاة , وهو للتّحريم ويقتضي فساد الصّلاة بالإجماع. قوله: (قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها) وكَلَ ذلك إلى أمانتها وردّه إلى عادتها، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص. واختلف العلماء في أقلّ الحيض وأقلّ الطّهر. ونقل الدّاوديّ: أنّهم اتّفقوا على أنّ أكثره خمسة عشر يوماً. وقال أبو حنيفة: لا يجتمع أقلّ الطّهر وأقلّ الحيض معاً. فأقلّ ما تنقضي به العدّة عنده ستّون يوماً. وقال صاحباه: تنقضي في تسعة وثلاثين يوماً بناء على أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام , وأنّ أقلّ الطّهر خمسة عشر يوماً , وأنّ المراد بالقرء الحيض، وهو قول الثّوريّ. وقال الشّافعيّ: القرء الطّهر وأقلّه خمسة عشر يوماً، وأقلّ الحيض يوم وليلة. فتنقضي عنده في اثنين وثلاثين يوماً ولحظتين. وهو موافق

لقصّة عليّ وشريح. قال الدّارميّ: أخبرنا يعلى بن عبيد حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عامرٍ - هو الشّعبيّ - قال: جاءت امرأةٌ إلى عليٍّ تخاصم زوجها طلَّقها , فقالت: حِضت في شهر ثلاث حيضٍ، فقال عليٌّ لشريحٍ: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين وأنت هاهنا؟ قال: اقض بينهما. قال: إن جاءت من بطانة أهلها ممّن يرضى دينه وأمانته تزعم أنّها حاضت ثلاث حيض. تطهر عند كلّ قرء وتصلي جاز لها وإلاَّ فلا. قال عليّ: قالون , قال: وقالون بلسان الرّوم: أحسنت ". إذا حمل ذكر الشّهر فيها على إلغاء الكسر، ويدلّ عليه رواية هشيم عن إسماعيل فيها بلفظ " حاضت في شهر أو خمسة وثلاثين يوماً " قوله: (ثمّ اغتسلي وصلي) لَم يذكر غسل الدّم , وفي رواية لهما " فاغسلي عنك الدّم وصلي " أي: بعد الاغتسال. وهذا الاختلاف واقعٌ بين أصحاب هشام. منهم: من ذكر غسل الدّم ولَم يذكر الاغتسال. ومنهم: من ذكر الاغتسال ولَم يذكر غسل الدّم، كلّهم ثقات وأحاديثهم في الصّحيحين. فيُحمل على أنّ كلّ فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده. وفيه اختلاف ثالث ذكره البخاري في " باب غسل الدّم " من رواية أبي معاوية. فذكر مثل حديث الباب , وزاد , قال هشام بن عروة قال أبي: ثمّ توضّئي لكل صلاة.

وادّعى بعضهم: أنّ هذا معلّق، وليس بصواب بل هو بالإسناد المذكور عن محمّد عن أبي معاوية عن هشام , وقد بيّن ذلك التّرمذيّ في روايته. وادّعى آخر: أنّ قوله " ثمّ توضّئي " من كلام عروة موقوفاً عليه. وفيه نظرٌ؛ لأنّه لو كان كلامه. لقال ثمّ تتوضّأ بصيغة الإخبار , فلمّا أتى به بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع. وهو قوله " فاغسلي ". ولَم ينفرد أبو معاوية بذلك , فقد رواه النّسائيّ من طريق حمّاد بن زيد عن هشام , وادّعى أنّ حمّاداً تفرّد بهذه الزّيادة، وأومأ مسلم أيضاً إلى ذلك. (¬1) وليس كذلك، فقد رواه الدّارميّ من طريق حمّاد بن سلمة , والسّرّاج من طريق يحيى بن سليمٍ كلاهما عن هشام. (¬2) وفي الحديث دليل على أنّ المرأة إذا ميّزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه. ثمّ صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث ¬

_ (¬1) روى مسلم الحديث من طرق عن هشام. ثم قال: وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره. انتهى. يقصد قوله (وتوضئي لكل صلاة) كما قال البيهقي رحمه الله. (¬2) وتابعهم أيضاً أبو حمزة السكري وأبو عوانة. عند ابن حبان في " صحيحه " (1354 - 1355) وغيرهم. انظر التلخيص الحبير (1/ 433) والبدر المنير (3/ 112).

فتتوضّأ لكل صلاة، لكنّها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤدّاة أو مقضيّة لظاهر قوله " ثمّ توضّئي لكل صلاة "، وبهذا قال الجمهور. وعند الحنفيّة. أنّ الوضوء متعلّق بوقت الصّلاة فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما شاءت من الفوائت ما لَم يخرج وقت الحاضرة. وعلى قولهم المراد بقوله " وتوضّئي لكل صلاة " أي: لوقت كلّ صلاة، ففيه مجاز الحذف ويحتاج إلى دليل. وعند المالكيّة. يستحبّ لها الوضوء لكل صلاة , ولا يجب إلاَّ بحديثٍ آخر. وقال أحمد وإسحاق: إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط. وفيه جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها للرّجل فيما يتعلق بأحوال النّساء، وجواز سماع صوتها للحاجة. وفيه غير ذلك. وقد استنبط منه الرّازيّ الحنفيّ: أنّ مدّة أقلّ الحيض ثلاثة أيّام وأكثره عشرة لقوله " قدر الأيّام التي كنت تحيضين فيها "؛ لأنّ أقلّ ما يطلق عليه لفظ " أيّام ثلاثةٌ وأكثره عشرةٌ , فأمّا دون الثّلاثة فإنّما يقال يومان ويوم , وأمّا فوق عشرة فإنّما يقال أحد عشر يوماً. وهكذا إلى عشرين. وفي الاستدلال بذلك نظرٌ. قوله: (وليس بالْحَيضة) بفتح الحاء كما نقله الخطّابيّ عن أكثر المحدّثين أو كلّهم، وإن كان قد اختار الكسر على إرادة الحالة , لكنّ

الفتح هنا أظهر. وقال النّوويّ: وهو متعيّن أو قريب من المتعيّن؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض. وأمّا قوله " فإذا أقبلت الحيضة " فيجوز فيه الوجهان معاً جوازاً حسناً. انتهى كلامه. والذي في روايتنا بفتح الحاء في الموضعين. والله أعلم. واتّفق العلماء على أنّ إقبال المحيض يعرف بالدّفعة من الدّم في وقت إمكان الحيض , واختلفوا في إدباره. فقيل: يعرف بالجفوف، وهو أن يخرج ما يحتشى به جافّاً. وقيل: بالقصّة البيضاء. وإليه ميل البخاري. لِمَا رواه مالك في " الموطأ " عن علقمة بن أبي علقمة المدنيّ عن أمّه - واسمها مرجانة مولاة عائشة قالت: كان النّساء يبعثن إلى عائشة بالدّرجة فيها الكرسف فيه الصّفرة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصّة البيضاء. وفيه أنّ القصّة البيضاء علامةٌ لانتهاء الحيض ويتبيّن بها ابتداء الطّهر. واعترض على من ذهب إلى أنّه يعرف بالجفوف بأنّ القطنة قد تخرج جافّة في أثناء الأمر فلا يدلّ ذلك على انقطاع الحيض، بخلاف القصّة وهي ماء أبيض يدفعه الرّحم عند انقطاع الحيض. قال مالك: سألت النّساء عنه. فإذا هو أمرٌ معلومٌ عندهنّ يعرفنه عند الطّهر. واستدل البخاري بهذا الحديث على جواز وطء المستحضة.

فأخرج عبد الرّزّاق وغيره من طريق عكرمة عن ابن عباس , قال: المستحاضة لا بأس أن يأتيها زوجها , ولأبي داود من وجه آخر عن عكرمة قال: كانت أمّ حبيبة تستحاض , وكان زوجها يغشاها. وهو حديثٌ صحيحٌ. إن كان عكرمة سمعه منها. وإذا جازت الصّلاة فجواز الوطء أولى؛ لأنّ أمر الصّلاة أعظم من أمر الجماع. وروى عبد الرّزّاق والدّارميّ من طريق سالم الأفطس , أنّه سأل سعيد بن جبير عن المستحاضة. أتُجامع؟ قال: الصّلاة أعظم من الجماع. ونقل ابن المنذر عن إبراهيم النّخعيّ والحكم والزّهريّ وغيرهم، المنع من وطء المستحاضة. وما استدل به البخاري على الجواز ظاهر فيه.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون 44 - عن عائشة رضي الله عنها , أنَّ أمّ حبيبة استُحِيضتْ سبعَ سنين , فسَأَلتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فأمرها أن تغتسل , فقال: هذا عِرق , فكانت تغتسل لكل صلاةٍ. (¬1) قوله: (أنّ أمّ حبيبة) هي بنت جحش أخت زينب أمّ المؤمنين، وهي مشهورة بكنيتها، وقد قيل: اسمها حبيبة وكنيتها أمّ حبيب بغير هاء. قاله الواقديّ. وتبعه الحربيّ , ورجّحه الدّارقطنيّ. والمشهور في الرّوايات الصّحيحة أمّ حبيبة بإثبات الهاء، وكانت زوج عبد الرّحمن بن عوف كما ثبت عند مسلم من رواية عمرو بن الحارث. ووقع في " الموطّأ " عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة , أنّ زينب بنت جحش - التي كانت تحت عبد الرّحمن بن عوف - كانت تستحاض. الحديث. فقيل: هو وهمٌ، وقيل: بل صوابٌ , وأنّ اسمها زينب وكنيتها أمّ حبيبة. وأمّا كون اسم أختها أمّ المؤمنين زينب فإنّه لَم يكن اسمها الأصليّ، وإنّما كان اسمها برّة فغيّره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي " أسباب النّزول " ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (321) ومسلم (344) من طرق عن ابن شهاب الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة به.

للواحديّ , أنّ تغيير اسمها كان بعد أن تزوّجها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فلعله - صلى الله عليه وسلم - سمّاها باسم أختها لكون أختها غلبت عليها الكنية فأمن اللبس. ولهما أخت أخرى. اسمها حمنة - بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نونٌ - وهي إحدى المستحاضات. وتعسّف بعض المالكيّة. فزعم أنّ اسم كلّ من بنات جحش زينب , قال: فأمّا أمّ المؤمنين، فاشتهرت باسمها، وأمّا أمّ حبيبة فاشتهرت بكنيتها، وأمّا حمنة فاشتهرت بلقبها، ولَم يأت بدليلٍ على دعواه بأنّ حمنة لقبٌ. ولَم ينفرد الموطّأ بتسمية أمّ حبيبة زينب، فقد روى أبو داود الطّيالسيّ في " مسنده " عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة حديث الباب فقال: أنّ زينب بنت جحش. وقد تقدّم توجيهه. قوله: (استحيضت سبع سنين) قيل: فيه حجّة لابن القاسم في إسقاطه عن المستحاضة قضاء الصّلاة إذا تركتها ظانّة أنّ ذلك حيض؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يأمرها بالإعادة مع طول المدّة. ويحتمل: أن يكون المراد بقولها " سبع سنين " بيان مدّة استحاضتها مع قطع النّظر هل كانت المدّة كلّها قبل السّؤال أو لا.؟ , فلا يكون فيه حجّة لِمَا ذُكر. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرج الحديث الترمذي (129) عن قتيبة - شيخ مسلمٍ - به. وفيه قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا. الحديث. وفيه التصريح بكون أم حبيبة لم تترك الصلاة. فلا حجةَ فيه لابن القاسم رحمه الله. ويمكن الاستدلال له بحديث حمنة بنت جحس رضي الله عنها في السنن وغيرها.

قوله: (فأمرها أن تغتسل) زاد الإسماعيليّ " وتصلي " , ولمسلمٍ نحوه، وهذا الأمر بالاغتسال مطلق فلا يدلّ على التّكرار، فلعلها فهمت طلب ذلك منها بقرينةٍ فلهذا كانت تغتسل لكل صلاة. وقال الشّافعيّ: إنّما أمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل وتصلي، وإنّما كانت تغتسل لكل صلاة تطوّعاً، وكذا قال الليث بن سعد في روايته عند مسلم: لَم يذكر ابن شهاب أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكنّه شيء فعلته هي. وإلى هذا ذهب الجمهور , قالوا: لا يجب على المستحاضة الغسل لكل صلاة، إلاَّ المتحيّرة، لكن يجب عليها الوضوء. ويؤيّده ما رواه أبو داود من طريق عكرمة , أنّ أمّ حبيبة استحيضت فأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تنتظر أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتصلي، فإذا رأتْ شيئاً من ذلك توضّأت وصلَّت. واستدل المُهلَّبيّ بقوله لها " هذا عرق " على أنّه لَم يوجب عليها الغسل لكل صلاة؛ لأنّ دم العرق لا يوجب غسلاً. وأمّا ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان بن كثير وابن إسحاق عن الزّهريّ في هذا الحديث " فأمرها بالغسل لكل صلاة ". فقد

طعن الحفّاظ في هذه الزّيادة؛ لأنّ الأثبات من أصحاب الزّهريّ لَم يذكروها، وقد صرّح الليث كما تقدّم عند مسلم بأنّ الزّهريّ لَم يذكرها. لكن روى أبو داود من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن زينب بنت أبي سلمة في هذه القصّة: فأمرها أن تغتسل عند كلّ صلاة. فيحمل الأمر على النّدب جمعاً بين الرّوايتين، هذه ورواية عكرمة. وقد حمله الخطّابيّ على أنّها كانت متحيّرة. وفيه نظرٌ. لِمَا تقدّم من رواية عكرمة أنّه أمرها أن تنتظر أيّام أقرائها، ولمسلمٍ من طريق عراك بن مالك عن عروة في هذه القصّة " فقال لها: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ". ولأبي داود وغيره من طريق الأوزاعيّ وابن عيينة عن الزّهريّ في حديث الباب نحوه، لكن استنكر أبو داود هذه الزّيادة في حديث الزّهريّ. وأجاب بعض من زعم أنّها كانت غير مميّزة: بأنّ قوله " فأمرها أن تغتسل لكل صلاة " أي: من الدّم الذي أصابها؛ لأنّه من إزالة النّجاسة وهي شرط في صحّة الصّلاة. وقال الطّحاويّ: حديث أمّ حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيشٍ، أي لأنّ فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة لا الغسل، والجمع بين الحديثين بحمل الأمر في حديث أمّ حبيبة على النّدب أولى. والله أعلم.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون 45 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناءٍ واحدٍ , كلانا جنبٌ. (¬1) الحديث السادس والأربعون 46 - وكان يأمرُني فأتّزر , فيباشرُني وأنا حائضٌ. (¬2) قوله: (فأتّزر) بتشديد التّاء المثنّاة بعد الهمزة، وأصله فأئتزر بهمزةٍ ساكنة بعد الهمزة المفتوحة ثمّ المثنّاة بوزن أفتعل. وأنكر أكثر النّحاة الإدغام حتّى قال صاحب المفصّل: إنّه خطأ، لكن نقل غيره أنّه مذهب الكوفيّين، وحكاه الصّغانيّ في مجمع البحرين. وقال ابن مالك: إنّه مقصور على السّماع , ومنه قراءة ابن محيص (فليؤدّ الذي أتّمن) بالتّشديد، والمراد بذلك أنّها تشدّ إزارها على وسطها، وحدّد ذلك الفقهاء بما بين السّرّة والرّكبة عملاً بالعرف الغالب قوله: (فيباشرني) المراد بالمباشرة هنا التقاء البشرتين، لا الجماع. وللبخاري عنها قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (299) من حديث إبراهيم عن الأسود عن عائشة. به. وقد رواه مسلم بنحوه. وقد تقدّم الكلام عليه. برقم (33). (¬2) أخرجه البخاري (299) ومسلم (293) من رواية إبراهيم. زاد مسلم (عبد الرحمن بن الأسود) عن الأسود عن عائشة. به.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباشرها , أمرها أن تتّزر في فور حيضتها، ثمّ يباشرها، قالت: وأيّكم يملك إربه، كما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه. والمراد أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان أملك النّاس لأمره، فلا يخشى عليه ما يخشى على غيره من أن يحوم حول الحمى، ومع ذلك فكان يباشر فوق الإزار تشريعاً لغيره ممّن ليس بمعصومٍ. وبهذا قال أكثر العلماء، وهو الجاري على قاعدة المالكيّة في باب سدّ الذّرائع. وذهب كثيرٌ من السّلف والثّوريّ وأحمد وإسحاق. إلى أنّ الذي يمتنع في الاستمتاع بالحائض الفرج فقط. وبه قال محمّد بن الحسن من الحنفيّة ورجّحه الطّحاويّ، وهو اختيار أصبغ من المالكيّة، وأحد القولين أو الوجهين للشّافعيّة. واختاره ابن المنذر. وقال النّوويّ: هو الأرجح دليلاً لحديث أنس في مسلم: اصنعوا كلّ شيء إلاَّ الجماع. وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب جمعاً بين الأدلة. وقال ابن دقيق العيد: ليس في حديث الباب ما يقتضي منع ما تحت الإزار؛ لأنّه فعلٌ مجرّدٌ. انتهى. ويدلّ على الجواز أيضاً ما رواه أبو داود بإسنادٍ قويّ عن عكرمة عن بعض أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً. واستدل الطّحاويّ على الجواز. بأنّ المباشرة تحت الإزار دون الفرج

لا توجب حدّاً ولا غسلاً , فأشبهت المباشرة فوق الإزار. فصّل بعض الشّافعيّة , فقال: إن كان يضبط نفسه عند المباشرة عن الفرج ويثق منها باجتنابه جاز وإلاَّ فلا، واستحسنه النّوويّ. ولا يبعد تخريج وجهٍ مفرّق بين ابتداء الحيض وما بعده لظاهر التّقييد بقولها " فور حيضتها "، ويؤيّده ما رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن عن أمّ سلمة أيضاً , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتّقي سَورة الدّم ثلاثاً ثمّ يباشر بعد ذلك. ويُجمع بينه وبين الأحاديث الدّالة على المبادرة إلى المباشرة على اختلاف هاتين الحالتين.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون 47 - عن عائشة: كان يخرج رأسه إليّ وهو معتكفٌ , فأغسله وأنا حائضٌ. وفي رواية لهما: كان يُخرج إليَّ رأسَه من المسجد، وهو مجاورٌ، وأنا في حجرتي فأغسله وأنا حائضٌ. (¬1) قوله: (وكان يخرج رأسه إليّ) وللبخاري " يُصغي إليّ رأسُه " بضم أوله. أي: يُمِيل. قوله: (فأغسله) زاد النسائي من رواية حماد عن إبراهيم " فأغسله بخطمي ". قوله: (وهو مجاورٌ) أي: معتكف , وفي رواية أحمد والنّسائيّ " كان يأتيني وهو معتكفٌ في المسجد. فيتّكئ على باب حجرتي , فأغسل رأسه , وسائره في المسجد " وحجرة عائشة كانت ملاصقةً للمسجد. وألْحَقَ عُروة الجنابة بالحيض قياساً، وهو جليٌّ؛ لأنّ الاستقذار بالحائض أكثر من الجنب، وأَلْحَقَ الخدمة بالتّرجيل. وفي الحديث دلالة على طهارة بدن الحائض وعرقها، وأنّ المباشرة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2030) ومسلم (297) من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود عنها. وأخرجاه من طرق أخرى عن عائشة بألفاظٍ متقاربةٍ.

الممنوعة للمعتكف هي الجماع ومقدّماته، وأنّ الحائض لا تدخل المسجد. وقال ابن بطّال: فيه حجّة على الشّافعيّ في قوله: إنّ المباشرة مطلقاً تنقض الوضوء. كذا قال. ولا حجّة فيه؛ لأنّ الاعتكاف لا يشترط فيه الوضوء، وليس في الحديث أنّه عقّب ذلك الفعل بالصّلاة، وعلى تقدير ذلك فمسّ الشّعر لا ينقض الوضوء. ويؤخذ منه أنّ المجاورة والاعتكاف واحدٌ، وفرّق بينهما مالكٌ. وفي الحديث جواز التّنظّف والتّطيّب والغسل والحلق والتّزيّن إلحاقاً بالتّرجّل. القول الأول: الجمهور على أنّه لا يكره فيه إلاَّ ما يكره في المسجد. القول الثاني: عن مالك. تكره فيه الصّنائع والحرف حتّى طلب العلم. وفي الحديث استخدام الرّجل امرأته برضاها، وفي إخراجه رأسه دلالةٌ على اشتراط المسجد للاعتكاف، وعلى أنّ من أخرج بعض بدنه من مكان حلف أن لا يخرج منه لَم يحنث حتّى يخرج رجليه ويعتمد عليهما. تنْبيه: الرّأس مذكّرٌ اتّفاقاً , ووهِم من أنّثه من الفقهاء وغيرهم.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون 48 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتّكئُ في حجري , فيقرأ القرآن وأنا حائضٌ. (¬1) قوله: (فيقرأ القرآن) وللبخاري " كان يقرأ القرآن , ورأسه في حجري , وأنا حائض " فعلى هذا. فالمراد بالاتّكاء وضع رأسه في حجرها. قال ابن دقيق العيد: في هذا الفعل إشارة إلى أنّ الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأنّ قراءتها لو كانت جائزة لَمَا توهّم امتناع القراءة في حجرها حتّى احتيج إلى التّنصيص عليها. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (293 , 7110) ومسلم (301) من طريق منصور بن صفية عن أمِّه عن عائشة به. (¬2) قال البخاري في كتاب الحيض: باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت , وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية، ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً , وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه " وقالت أم عطية: كنا نؤمر أن يخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون. وقال ابن عباس، أخبرني أبو سفيان، أنَّ هرقل دعا بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة} [آل عمران: 64] " الآية , وقال عطاء: عن جابر: حاضت عائشة فنسكتِ المناسك غير الطواف بالبيت ولا تُصلي وقال الحكَم: إني لأذبح وأنا جنب، وقال الله عز وجل: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] انتهى قال ابن حجر في " الفتح ": قيل مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار أنَّ الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات بل صحت معه عبادات بدنية من أذكار وغيرها. فمناسك الحج من جملة ما لا ينافيها إلاَّ الطواف فقط. وفي كون هذا مراده نظرٌ , لأنَّ كون مناسك الحج كذلك حاصل بالنصِّ فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه. والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعاً لابن بطال وغيره: إنَّ مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة , لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من جميع مناسك الحج إلاَّ الطواف , وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة. وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء , ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك فكذلك الجنب , لأنَّ حدثها أغلظ من حدثه , ومنع القراءة إنْ كان لكونه ذكراً لله فلا فرق بينه وبين ما ذكر , وإن كان تعبداً فيحتاج إلى دليلٍ خاصٍ. ولم يصحّ عند البخاري شيءٌ من الأحاديث الواردة في ذلك - وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره - لكن أكثرها قابل للتأويل كما سنشير إليه. ولهذا تمسَّك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث (كان يذكر الله على كل أحيانه) لأنَّ الذكر أعمُّ من أن يكون بالقرآن أو بغيره , وإنما فرَّق بين الذكر والتلاوة بالعرف. والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة. وأورد البخاري أثر إبراهيم - وهو النخعي - إشعاراً بأنَّ منع الحائض من القراءة ليس مجمعاً عليه. وقد وصله الدارمي وغيره بلفظ " أربعة لا يقرؤون القرآن الجنب والحائض وعند الخلاء وفي الحمام إلاَّ الآية ونحوها للجنب والحائض. وروي عن مالك نحو قول إبراهيم , وروي عنه الجواز مطلقاً , وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب. وقد قيل إنه قول الشافعي في القديم. ثم أورد أثر ابن عباس. وقد وصله ابن المنذر بلفظ " إن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب " وأما حديث أم عطية فوجه الدلالة منه ما تقدَّم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها. ثم أورد البخاري طرفاً من حديث أبي سفيان في قصة هرقل , وهو موصول عنده في " بدء الوحي " وغيره. ووجه الدلالة منه , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى الروم وهم كُفَّار , والكافر جنبٌ , كأنه يقول إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملاً على آيتين فكذلك يجوز له قراءته. كذا قاله ابن رشيد. وتوجيه الدلالة منه إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه فاستلزم جواز القراءة بالنصِّ لا بالاستنباط. وقد أجاب ممن منع ذلك - وهم الجمهور - بأنَّ الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو في التفسير فإنه لا يُمنع قراءته ولا مسُّه عند الجمهور , لأنه لا يقصد منه التلاوة. ونصَّ أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ. وقال به كثيرٌ من الشافعية. ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين. قال الثوري: لا بأس أن يعلِّم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه , وأكره أن يعلّمه الآية هو كالجنب. وعن أحمد أكره أن يضع القرآن في غير موضعه. وعنه إن رجى منه الهداية جاز وإلاَّ فلا. وقال بعض من منع: لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن , لأنَّ الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها وعرف أنَّ الذي يقرأه قرآن. أمَّا لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أنه من القرآن فإنه لا يمنع وكذلك الكافر. وأما أثر الحكَم - وهو الفقيه الكوفي - فوصله البغوي في " الجعديات " من روايته عن علي بن الجعد عن شعبة عنه. ووجه الدلالة منه أنَّ الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها. وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره , ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه. واستدل الجمهور على المنع بحديث علي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة. رواه أصحاب السنن. وصحَّحه الترمذي وابن حبان. وضعَّف بعضُهم بعضَ رواته. والحقُّ أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة. لكن قيل في الاستدلال به نظرٌ , لأنه فعل مجرد فلا يدل على تحريم ما عداه. وأجاب الطبري عنه: بأنه محمول على الأكمل جمعاً بين الادله. وأما حديث ابن عمر مرفوعاً: لا تقرأ الحائضُ ولا الجنبُ شيئاً من القرآن. فضعيفٌ من جميع طرقه. انتهى كلامه

وفيه جواز ملامسة الحائض , وأنّ ذاتها وثيابها على الطّهارة ما لَم يلحق شيئاً منها نجاسة، وهذا مبنيّ على منع القراءة في المواضع

المستقذرة، وفيه جواز القراءة بقرب محلّ النّجاسة، قاله النّوويّ. وفيه جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض إذا كانت أثوابها طاهرة، قاله القرطبيّ.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون 49 - عن معاذة , قالت: سألت عائشة رضي الله عنها , فقلتُ: ما بال الحائضِ تقضي الصّومَ , ولا تقضي الصّلاةَ؟ فقالت: أحروريّةٌ أنتِ؟ فقلت: لستُ بحروريّةٍ , ولكنّي أسأل. فقالتْ: كان يصيبُنا ذلك , فنؤمَر بقضاء الصّومِ , ولا نُؤمَر بقضاءِ الصّلاةِ. (¬1) قوله: (عن معاذة) هي بنت عبد الله العدويّة، وهي معدودةٌ في فقهاء التّابعين. قوله: (سأَلتُ عائشة) في رواية لهما " أنّ امرأةً قالت لعائشة: أتَجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت: أحروريّةٌ أنتِ؟ كنّا نحيض مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به أو قالت: فلا نفعله. أتجزي بفتح أوّله، أي: أتقضي. وصلاتها بالنّصب على المفعوليّة، ويُروى أتُجزئ بضمّ أوّله والهمز، أي: أتكفي المرأة الصّلاة الحاضرة وهي طاهرة ولا تحتاج إلى قضاء الفائتة في زمن الحيض؟. فصلاتها على هذا بالرّفع على الفاعليّة، والأولى أشهر. قوله: (ولا تقضي الصّلاة) نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على ذلك، وروى عبد الرّزّاق عن معمر أنّه سأل الزّهريّ عنه , فقال: اجتمع النّاس عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (315) ومسلم (335) واللفظ له. من طرق عن معاذة عن عائشة به.

وحكى ابن عبد البرّ عن طائفة من الخوارج , أنّهم كانوا يوجبونه، وعن سمرة بن جندب , أنّه كان يأمر به , فأنكرت عليه أمّ سلمة. لكن استقرّ الإجماع على عدم الوجوب كما قاله الزّهريّ وغيره. وفي الصحيحين عن أبي سعيد مرفوعاً: أليس إذا حاضت لَم تصل ولَم تصم؟. قوله: (أحروريّة) الحروريّ منسوب إلى حروراء بفتح الحاء وضمّ الرّاء المهملتين وبعد الواو السّاكنة راءٌ أيضاً، بلدة على ميلين من الكوفة، والأشهر أنّها بالمدّ. قال المبرّد: النّسبة إليها حروراويّ، وكذا كلّ ما كان في آخره ألف تأنيث ممدودة، ولكن قيل الحروريّ بحذف الزّوائد، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروريّ؛ لأنّ أوّل فرقة منهم خرجوا على عليٍّ بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنّسبة إليها، وهم فِرَقٌ كثيرة، لكن من أصولهم المتّفق عليها بينهم الأخذ بما دلَّ عليه القرآن ورَدُّ ما زاد عليه من الحديث مطلقاً، ولهذا استفهمت عائشة معاذة استفهام إنكار. وزاد مسلم في رواية عاصم عن معاذة , فقلت: لا , ولكنّي أسأل. أي: سؤالاً مجرّداً لطلب العلم لا للتّعنّت، وفهِمت عائشة عنها طلب الدّليل فاقتصرت في الجواب عليه دون التّعليل. والذي ذكره العلماء في الفرق بين الصّلاة والصّيام , أنّ الصّلاة تتكرّر فلم يجب قضاؤها للحرج بخلاف الصّيام، ولمن يقول بأنّ الحائض مخاطبة بالصّيام أن يفرّق بأنّها لَم تخاطب بالصّلاة أصلاً.

وقال ابن دقيق العيد: اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونها لَم تؤمر به يحتمل وجهين: أحدهما: أنّها أخذت إسقاط القضاء من إسقاط الأداء فيتمسّك به حتّى يوجد المعارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصّوم. ثانيهما: - قال وهو أقرب - أنّ الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم لتكرّر الحيض منهنّ عنده - صلى الله عليه وسلم -، وحيث لَم يبيّن دلَّ على عدم الوجوب، لا سيّما وقد اقترن بذلك الأمر بقضاء الصّوم كما في رواية عاصم عن معاذة عند مسلم. قوله: (فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله) كذا في هذه الرّواية بالشّكّ، وعند الإسماعيليّ من وجه آخر " فلم نكن نقضي ولَم نؤمر به ". والاستدلال بقولها " فلم نكن نقضي " أوضح من الاستدلال بقولها " فلم نؤمر به " لأنّ عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال به على عدم الوجوب، لاحتمال الاكتفاء بالدّليل العامّ على وجوب القضاء. والله أعلم. تكميل: قال أبو الزناد: إنَّ السننَ ووجوهَ الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بُدَّاً من اتّباعها، من ذلك أنَّ الحائض تقضي الصيام , ولا تقضي الصلاة. (¬1) ¬

_ (¬1) قول أبي الزناد. ذكره البخاري معلّقاً في كتاب الصوم. باب الحائض تترك الصلاة والصوم. ولم يذكر ابن حجر من وصله. وقد وصله الخطيب في " الفقيه والمتفقّه " (1/ 392) من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه به.

قال الزين بن المنير: نظَرَ أبو الزناد إلى الحيض فوجده مانعاً من هاتين العبادتين، وما سلبَ الأهليةَ استحال أن يتوجَّه به خطاب الاقتضاء، وما يمنع صحةَ الفعل يمنع الوجوب، فلذلك استبعد الفرق بين الصلاة والصوم فأحال بذلك على اتباع السنة والتعبد المحض. وقد سألتْ معاذةُ عائشةَ عن الفرق المذكور , فأنكرت عليها عائشة السؤال وخشيت عليها أن تكون تلقَّنتْه من الخوارج الذين جرت عادتهم باعتراض السنن بآرائهم، ولم تزدها على الحوالة على النصِّ، وكأنها قالت لها: دعي السؤال عن العلة إلى ما هو أهم من معرفتها. وهو الانقياد إلى الشارع. وقد تكلَّم بعض الفقهاء في الفرق المذكور، واعتمد كثيرٌ منهم على أنَّ الحكمة فيه أنَّ الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم الذي لا يقع في السنة إلَّا مرة. واختار إمام الحرمين أنَّ المتبع ذلك هو النصُّ , وأن كل شيء ذكروه من الفرق ضعيف. والله أعلم. وزعم المهلَّب: أنَّ السبب في منع الحائض من الصوم أنَّ خروج الدم يُحدث ضعفاً في النفس غالباً فاستعمل هذا الغالب في جميع الأحوال، فلمَّا كان الضعف يبيح الفطر , ويوجب القضاء كان كذلك

الحيض. ولا يخفى ضعفُ هذا المأخذ، فإنَّ المريض لو تحامل فصام صحَّ صومه بخلاف الحائض، وأن المستحاضة في نزف الدم أشدُّ من الحائض وقد أبيح لها الصوم. وقول أبي الزناد: إنَّ السنن لتأتي كثيراً على خلاف الرأي. كأنه يشير إلى قول عليٍّ: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه. أخرجه احمد وأبو داود والدارقطني. ورجال إسناده ثقات. ونظائر ذلك في الشرعيات كثيرٌ. ومما يفرق فيه بين الصوم والصلاة في حق الحائض أنها لو طهرت قبل الفجر ونوت صحَّ صومها في قول الجمهور , ولا يتوقف على الغسل، بخلاف الصلاة.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة فوائد. الأولى: مناسبة تعقيب الطهارة بالصلاة لتقدُّم الشرط على المشروط والوسيلة على المقصود. الثانية: الحكمة في وقوع فرض الصلاة ليلة المعراج , أنه لَمَّا قُدس ظاهراً وباطناً - صلى الله عليه وسلم - حين غسل بماء زمزم بالإيمان والحكمة , ومن شأن الصلاة أنْ يتقدمها الطهور ناسب ذلك أن تُفرض الصلاة في تلك الحالة. وليظهر شرفه في الملأ الأعلى , ويصلي بمن سكنه من الأنبياء وبالملائكة , وليناجي ربه , ومن ثَمَّ كان الْمُصلي يناجي ربه جل وعلا. الثالثة: ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاةٌ مفروضةٌ إلاَّ ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد. وذهب الحربي: إلى أنَّ الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي. وذكر الشافعي عن بعض أهل العلم: أنَّ صلاة الليل كانت مفروضة ثم نسخت بقوله تعالى (فاقرءوا ما تيسر منه) فصار الفرض قيام بعض الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس.

واستنكر محمد بن نصر المروزي ذلك , وقال: الآية تدلُّ على أنَّ قوله تعالى (فاقرءوا ما تيسر منه) إنما نزل بالمدينة لقوله تعالى فيها (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) والقتال إنما وقع بالمدينة لا بمكة، والإسراء كان بمكة قبل ذلك. انتهى وما استدلَّ به غير واضح؛ لأنَّ قوله تعالى (علم أنْ سيكون) ظاهر في الاستقبال، فكأنه سبحانه وتعالى امتنَّ عليهم بتعجيل التخفيف قبل وجود المشقة التي علِم أنها ستقع لهم، والله أعلم.

باب المواقيت

باب المواقيت الحديث الأول 50 - عن أبي عمرٍو الشّيبانيّ - واسمه سعد بن إياسٍ - قال: حدّثني صاحب هذه الدّار , وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - , قال: سألت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحبّ إلى الله؟ قال: الصّلاة على وقتها , قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال: برّ الوالدين , قلتُ: ثمّ أيُّ؟ , قال: الْجهاد في سبيل الله , قال: حدّثني بهنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولو استزدته لزادني. (¬1) قوله: (عن أبي عمرٍو الشّيبانيّ. واسمه سعد بن إياسٍ) أحد كبار التابعين. قوله: (حدّثنا صاحب هذه الدّار) كذا رواه شعبة عن الوليد بن العيزار مبهماً، ورواه مالك بن مِغْوَل وأبو إسحاق الشّيبانيّ عن الوليد عند البخاري فصرّحا باسم عبد الله (¬2)، وكذا رواه النّسائيّ من طريق أبي معاوية النّخعيّ عن أبي عمرو الشّيبانيّ , وأحمد من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (504 , 2630 , 5625 , 7096) ومسلم (85) من طريق الوليد بن العيزار عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود به. ورواه مسلم (85) من رواية الحسن بن عبيد الله عن أبي عمرو به مختصراً. (¬2) أي: أنهما قالا: عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود.

قوله: (وأشار بيده) فيه الاكتفاء بالإشارة المفهمة عن التّصريح قوله: (عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -) بن غافل بن حبيب بن شمخ بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، مات أبوه في الجاهلية وأسلمت أمه وصحِبَتْ، فلذلك نُسب إليها أحياناً، وكان هو من السابقين. وقد روى ابن حبان من طريقه , أنه كان سادس ستة في الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد غزوة بدر، وولي بيتَ المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم في أواخر عمره المدينة. ومات في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين. وقد جاوز الستين، وكان من علماء الصحابة، وممن انتشر علمه بكثرة أصحابه والآخذين عنه. قوله: (سألت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري " أنَّ رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - , أيَّ الأعمال أفضل. الحديث. يحتمل: أن يكون الراوي حدَّث به بالمعنى فأبهم السائل ذهولاً عن أنه الراوي. كما حذف من صورة السؤال الترتيب في قوله " قلت: ثم أي؟ ". ويحتمل: أن يكون ابن مسعود حدَّث به على الوجهين. والأول أقرب. وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أحمد بن إبراهيم الموصلي عن عباد بن العوام فقال في روايته عن أبي إسحاق يعني الشيباني , وقال فيه: سأل رجلٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - , أو قال: سألت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الأعمال أيها

أفضل. فهذا مما يؤيُّد الاحتمال الأول , وأنَّ الراوي لم يضبط اللفظ , وشعبة أتقن من الشيباني , وأضبط لألفاظ الحديث فروايته هي المعتمدة. والله أعلم قوله: (أيّ العمل أحبّ إلى الله) في رواية مالك بن مِغْوَل " أيّ العمل أفضل؟ " وكذا لأكثر الرّواة، فإن كان هذا اللفظ هو المسئول به , فلفظ حديث الباب ملزوم عنه. ومحصّل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره ممّا اختلفت فيه الأجوبة بأنّه أفضل الأعمال. الجواب الأول: أنّ الجواب اختلف لاختلاف أحوال السّائلين , بأن أعلم كل قومٍ بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائقٌ بهم. الجواب الثاني: كان الاختلاف باختلاف الأوقات. بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال؛ لأنّه الوسيلة إلى القيام بها والتّمكّن من أدائها، وقد تضافرت النّصوص على أنّ الصّلاة أفضل من الصّدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطرّ تكون الصّدقة أفضل. الجواب الثالث: أنّ " أفضل " ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق، أو المراد من أفضل الأعمال فحُذِفَت مِن. وهي مرادة.

وقال ابن دقيق العيد (¬1): الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنيّة، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان؛ لأنّه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذٍ بينه وبين حديث أبي هريرة " أفضل الأعمال إيمان بالله " (¬2) الحديث. وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين؛ لأنّه يتوقّف على إذن الوالدين فيكون برّهما مقدّماً عليه قوله: (الصّلاة على وقتها) هي رواية شعبة وأكثر الرّواة. نعم. أخرجه البخاري من وجهٍ آخر بلفظ " الصلاة لوقتها "، وكذا أخرجه مسلم باللفظين. قال ابن بطّال (¬3): فيه أنّ البدار إلى الصّلاة في أوّل أوقاتها أفضل من التّراخي فيها؛ لأنّه إنّما شرط فيها أن تكون أحبّ الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. قلت: وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظرٌ. قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أوّلاً ولا آخراً , وكأنّ المقصود به الاحتراز عمّا إذا وقعت قضاء. وتعقّب: بأنّ إخراجها عن وقتها محرّم، ولفظ " أحبّ " يقتضي ¬

_ (¬1) هو محمد بن علي , سبق ترجمته (1/ 12) (¬2) أخرجه البخاري (26) ومسلم (83). أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ , قال: الجهاد في سبيل الله , قيل: ثم ماذا؟ قال: حجٌ مبرور. (¬3) ((هو علي بن خلف , سبق ترجمته (1/ 34)

المشاركة في الاستحباب , فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت. وأجيب: بأنّ المشاركة إنّما هي بالنّسبة إلى الصّلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصّلاة في وقتها كانت أحبّ إلى الله من غيرها من الأعمال؛ فوقع الاحتراز عمّا إذا وقعت خارج وقتها من معذورٍ كالنّائم والنّاسي , فإنّ إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتّحريم , ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوباً , لكنّ إيقاعها في الوقت أحبّ. تنبيهٌ: اتّفق أصحاب شعبة على اللفظ المذكور في الباب. وهو قوله " على وقتها " وخالفهم عليّ بن حفصٍ - وهو شيخٌ صدوقٌ من رجال مسلمٍ - فقال " الصّلاة في أوّل وقتها " أخرجه الحاكم والدّارقطنيّ والبيهقيّ من طريقه. قال الدّارقطنيّ: ما أحسبه حفظه؛ لأنّه كَبُر وتغيّر حفظه. قلت: ورواه الحسن بن عليّ المعمريّ في " اليوم والليلة " عن أبي موسى محمّد بن المثنّى عن غندرٍ عن شعبة كذلك. قال الدّارقطنيّ: تفرّد به المعمريّ، فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ " على وقتها " ثمّ أخرجه الدّارقطنيّ عن المحامليّ عن أبي موسى كرواية الجماعة , وهكذا رواه أصحاب غندر عنه، والظّاهر أنّ المعمريّ وهم فيه؛ لأنّه كان يحدّث من حفظه.

وقد أطلق النّوويّ (¬1) في " شرح المهذّب " أنّ رواية " في أوّل وقتها " ضعيفة. انتهى لكن لها طريق أخرى , أخرجها ابن خزيمة في " صحيحه " والحاكم وغيرهما من طريق عثمان عن عمر عن مالك بن مِغْوَل عن الوليد. وتفرّد عثمان بذلك، والمعروف عن مالك بن مِغْوَل كرواية الجماعة، كذا أخرجه البخاري وغيره. وكأنّ من رواها كذلك ظنّ أنّ المعنى واحد، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة " على "؛ لأنّها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فيتعيّن أوّله. قال القرطبيّ (¬2) وغيره: قوله " لوقتها " اللام للاستقبال مثل قوله تعالى (فطلقوهنّ لعدّتهنّ. أي مستقبلاتٍ عدّتهنّ. وقيل: للابتداء كقوله تعالى (أقم الصّلاة لدلوك الشّمس). وقيل: بمعنى في، أي: في وقتها. وقوله " على وقتها " قيل: على بمعنى اللام ففيه ما تقدّم. وقيل: لإرادة الاستعلاء على الوقت , وفائدته تحقّق دخول الوقت ليقع الأداء فيه. قوله: (ثمّ أيُّ) قيل: الصّواب أنّه غير منوّنٍ؛ لأنّه غير موقوفٍ عليه في الكلام، والسّائل ينتظر الجواب والتّنوين لا يوقف عليه ¬

_ (¬1) هو يحيى بن شرف , سبق ترجمته (1/ 22) (¬2) هو صاحب المفهم أحمد بن عمر , سبق ترجمته (1/ 26)

فتنوينه ووصْله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة , ثمّ يؤتى بما بعده. قاله الفاكهانيّ. وحكى ابن الجوزيّ عن ابن الخشّاب الجزم بتنوينه؛ لأنّه معربٌ غير مضافٍ. وتعقّب: بأنّه مضافٌ تقديراً والمضاف إليه محذوف لفظاً، والتّقدير: ثمّ أيّ العمل أحبّ؟ فيوقف عليه بلا تنوين. وقد نصّ سيبويه على أنّها تعرب , ولكنّها تبنى إذا أضيفت، واستشكله الزّجّاج. قوله: (قال: برّ الوالدين) كذا للأكثر , وللمستملي قال " ثمّ برّ الوالدين " بزيادة ثمّ. قال بعضهم: هذا الحديث موافق لقوله تعالى (أن اشكر لي ولوالديك) وكأنّه أخذه من تفسير ابن عيينة حيث قال: من صلَّى الصّلوات الخمس فقد شكر الله , ومن دعا لوالديه عقبها فقد شكر لهما. قوله: (حدّثني بهنّ) هو مقول عبد الله بن مسعود , وفيه تقريرٌ وتأكيدٌ لِمَا تقدّم من أنّه باشر السّؤال وسمع الجواب. قوله: (ولو استزدته) يحتمل: أن يريد من هذا النّوع , وهو مراتب أفضل الأعمال، ويحتمل: أن يريد من مطلق المسائل المحتاج إليها. وزاد التّرمذيّ من طريق المسعوديّ عن الوليد " فسكت عنّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني " , فكأنّه استشعر منه مشقّة،

ويؤيّده ما في روايةٍ لمسلم " فما تركت أن أستزيده إلاَّ إرعاء عليه " أي: شفقةً عليه لئلا يسأم. وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأنّ أعمال البرّ يفضّل بعضها على بعض. وفيه السّؤال عن مسائل شتّى في وقتٍ واحدٍ، والرّفق بالعالم، والتّوقّف عن الإكثار عليه خشية ملاله، وما كان عليه الصّحابة من تعظيم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والشّفقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين ولو شقّ عليه. وفيه أنّ الإشارة تتنزّل منزلة التّصريح إذا كانت معيّنة للمشار إليه مميّز له عن غيره. قال ابن بزيزة: الذي يقتضيه النّظر تقدّم الجهاد على جميع أعمال البدن؛ لأنّ فيه بذل النّفس، إلاَّ أنّ الصّبر على المحافظة على الصّلوات وأدائها في أوقاتها والمحافظة على برّ الوالدين أمرٌ لازم متكرّر دائم لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلاَّ الصّدّيقون، والله أعلم وأغرب الدّاوديّ (¬1) , فقال في شرح هذا الحديث: إن أوقع الصّلاة في ميقاتها كان الجهاد مقدّماً على برّ الوالدين، وإن أخّرها كان البرّ مقدّماً على الجهاد. ولا أعرف له في ذلك مستنداً، فالذي يظهر أنّ تقديم الصّلاة على الجهاد والبرّ لكونها لازمة للمكلف في كلّ أحيانه، وتقديم البرّ على ¬

_ (¬1) هو أحمد بن نصر , سبق ترجمته (1/ 312)

الجهاد لتوقّفه على إذن الأبوين. وقال الطّبريّ: إنّما خصّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الثّلاثة بالذّكر لأنّها عنوان على ما سواها من الطّاعات، فإنّ من ضيّع الصّلاة المفروضة حتّى يخرج وقتها من غير عذر مع خفّة مؤنتها عليه وعظيم فضلها فهو لِما سواها أضيع، ومن لَم يبرّ والديه مع وفور حقّهما عليه كان لغيرهما أقلّ برّاً، ومن ترك جهاد الكفّار مع شدّة عداوتهم للدّين كان لجهاد غيرهم من الفسّاق أترك، فظهر أنّ الثّلاثة تجتمع في أنّ من حافظ عليها كان لِما سواها أحفظ، ومن ضيّعها كان لِمَا سواها أضيع. تكميلٌ: وقال ابن التّين (¬1): تقديم البرّ على الجهاد يحتمل وجهين: أحدهما: التّعدية إلى نفع الغير. والثّاني: أنّ الذي يفعله يرى أنّه مكافأة على فعلهما، فكأنّه يرى أنّ غيره أفضل منه، فنبّهه على إثبات الفضيلة فيه. قلت: والأوّل ليس بواضحٍ، ويحتمل أنّه قُدّم لتوقّف الجهاد عليه، إذ من برّ الوالدين استئذانهما في الجهاد لثبوت النّهي عن الجهاد بغير إذنهما. ¬

_ (¬1) هو عبدالواحد بن التين , سبق ترجمته (1/ 151)

الحديث الثاني

الحديث الثاني 51 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الفجر , فيشهد معه نساءٌ من المؤمنات , متلفّعاتٍ بمروطهنّ , ثمّ يرجعن إلى بيوتهنّ ما يعرفهنّ أحدٌ , من الغلَس. (¬1) قوله: (عائشة قالت: لقد) اللام في لقد جواب قسم محذوف. قوله: (نساء من المؤمنات) في رواية لهما " نساء المؤمنات " تقديره نساء الأنفس المؤمنات أو نحوها ذلك حتّى لا يكون من إضافة الشّيء إلى نفسه. وقيل: إنّ " نساء " هنا بمعنى الفاضلات , أي: فاضلات المؤمنات كما يقال: رجال القوم , أي: فضلاؤهم. قوله: (متلفّعات) قال الأصمعيّ: التّلفّع أن تشتمل بالثّوب حتّى تجلل به جسدك، وفي شرح الموطّأ لابن حبيب: التّلفّع لا يكون إلاَّ بتغطية الرّأس، والتّلفّف يكون بتغطية الرّأس وكشفه. قوله: (بمروطهن) المروط جمع مرطٍ بكسر الميم , وهو كساءٌ معلمٌ من خزٍّ أو صوف أو غير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (365 , 553) ومسلم (645) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة به. وأخرجه البخاري (829) ومسلم (645) من طريق عمرة عن عائشة نحوه. وللبخاري (834) من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها نحوه.

وقيل: لا يسمّى مرطاً إلاَّ إذا كان أخضر ولا يلبسه إلاَّ النّساء، وهو مردودٌ بقوله مرطٌ من شعرٍ أسود (¬1). وقد اعترض على استدلال البخاري به على جواز صلاة المرأة في الثّوب الواحد , بأنّ الالتفاع المذكور يحتمل أن يكون فوق ثياب أخرى. والجواب عنه: أنّه تمسّك بأنّ الأصل عدم الزّيادة على ما ذكر، على أنّه لَم يصرّح بشيءٍ إلاَّ أنّ اختياره يؤخذ في العادة من الآثار التي يودعها في التّرجمة. كقول عكرمة " لو وارتْ جسدها في ثوب لأجزتُه ". قال ابن المنذر بعد أن حكى عن الجمهور أنّ الواجب على المرأة أنْ تصلي في درع وخمار: المراد بذلك تغطية بدنها ورأسها، فلو كان الثّوب واسعاً فغطّت رأسها بفضله جاز. قال: وما رويناه عن عطاء أنّه قال: تصلي في درع وخمار وإزار. وعن ابن سيرين مثله. وزاد " وملحفة " , فإنّي أظنّه محمولاً على الاستحباب. قوله: (ما يعرفهنّ أحدٌ) قال الدّاوديّ: معناه لا يعرفن أنساءٌ أم رجالٌ، أي: لا يظهر للرّائي إلاَّ الأشباح خاصّةً. ¬

_ (¬1) يشير إلى ما رواه مسلم في الصحيح (2081 - 2424) من حديث عائشة قالت: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة. وعليه مِرطٌ مُرحَّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله ... الحديث

وقيل: لا يُعرف أعيانهنّ فلا يفرّق بين خديجة وزينب، وضعّفه النّوويّ. بأنّ المتلفّعة في النّهار لا تعرف عينها , فلا يبقى في الكلام فائدةٌ. وتعقّب: بأنّ المعرفة إنّما تتعلق بالأعيان، فلو كان المراد الأوّل لعبّر بنفي العلم، وما ذكره من أنّ المتلفّعة بالنّهار لا تعرف عينها فيه نظرٌ، لأنّ لكل امرأةٍ هيئةٌ غير هيئة الأخرى في الغالب ولو كان بدنها مغطّىً. وقال الباجيّ: هذا يدلّ على أنّهنّ كنّ سافراتٍ , إذ لو كنّ متنقّباتٍ لمنع تغطية الوجه من معرفتهنّ لا الغلس. قلت: وفيه ما فيه، لأنّه مبنيّ على الاشتباه الذي أشار إليه النّوويّ، وأمّا إذا قلنا إنّ لكل واحدةٍ منهنّ هيئةً غالباً فلا يلزم ما ذكر. والله أعلم. قوله: (يرجعن) وفي رواية لهما " ينقلبن " وللبخاري عن القاسم عنها " فينصرفن نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس , أو لا يعرف بعضهنّ بعضاً " هو على لغة بني الحارث، وكذا قوله " لا يعرفن بعضهنّ بعضاً " وهذا في رواية الحمويّ والكشميهنيّ (¬1) , ولغيرهما " لا يعرف " بالإفراد على الجادّة. قوله: (من الغلس) وهو يعيّن أحد الاحتمالين: هل عدم المعرفة ¬

_ (¬1) هو أبو الهيثم محمد بن مكي , سبق ترجمته (1/ 32)

بهنّ لبقاء الظّلمة أو لمبالغتهنّ في التّغطية؟ ومن ابتدائيّةٌ أو تعليليّةٌ. ولا معارضة بين هذا وبين حديث أبي برزة الآتي " أنّه كان ينصرف من الصّلاة حين يعرف الرّجل جليسه " (¬1) , لأنّ هذا إخبارٌ عن رؤية المتلفّعة على بُعدٍ، وذاك إخبارٌ عن رؤية الجليس. وفي الحديث استحباب المبادرة بصلاة الصّبح في أوّل الوقت , وجواز خروج النّساء إلى المساجد لشهود الصّلاة في الليل، ويؤخذ منه جوازه في النّهار من باب أولى , لأنّ الليل مظنّة الرّيبة أكثر من النّهار، ومحلّ ذلك إذا لَم يخش عليهنّ أو بهنّ فتنةٌ. واستدل به بعضهم على جواز صلاة المرأة مختمرة الأنف والفم، فكأنّه جعل التّلفّع صفةً لشهود الصّلاة. وتعقّبه عياضٌ (¬2): بأنّها إنّما أخبرت عن هيئة الانصراف. واستدل به البخاري على سرعة انصراف النّساء من الصّبح , لأنّ طول التّأخير فيه يفضي إلى الإسفار، فناسب الإسراع، بخلاف العشاء فإنّه يفضي إلى زيادة الظّلمة فلا يضرّ المكث. ¬

_ (¬1) سيأتي بعد الحديث الآتي برقم (53) (¬2) هو القاضي عياض بن موسى , سبق ترجمته (1/ 103)

الحديث الثالث

الحديث الثالث 52 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , قال: كان - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الظّهر بالهاجرة , والعصر والشّمس نقيّةٌ , والمغرب إذا وجبت , والعشاء أحياناً وأحياناً , إذا رآهم اجتمعوا عجّل. وإذا رآهم أبطئوا أخّر , والصّبح كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّيها بغلسٍ. (¬1) قال المصنف: الهاجرة: هي شدة الحر بعد الزوال قوله: (بالهاجرة) الهاجرة اشتداد الحر في نصف النهار. قيل: سميت بذلك من الهجر وهو الترك , لأنَّ الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون. ظاهره يعارض حديث الإبراد (¬2)، لأنّ قوله كان يفعل , يشعر بالكثرة والدّوام عرفاً. قاله ابن دقيق العيد. ويجمع بين الحديثين. بأن يكون أطلق الهاجرة على الوقت بعد الزّوال مطلقاً , لأنّ الإبراد مقيّد بحال شدّة الحرّ وغير ذلك كما سيأتي (¬3). فإن وجدت شروط الإبراد أبرد وإلا عجّل، فالمعنى كان يُصلِّي الظّهر بالهاجرة إلاَّ إن احتاج إلى الإبراد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (535 , 540) ومسلم (646) من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي عن جابر - رضي الله عنه - به. (¬2) حديث الإبراد سيأتي إن شاء الله برقم (118) (¬3) انظر الحديث الآتي برقم (117)

وتعقّب: بأنّه لو كان ذلك مراده لفصّل كما فصّل في العشاء، والله أعلم تكميل: روى الشيخان عن أنس , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر، فقام على المنبر .. الحديث. قوله (زاغت) أي: مالت، وقد رواه الترمذي بلفظ " زالت " وقوله " خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر " يقتضي أنَّ زوال الشمس أول وقت الظهر، إذ لم ينقل أنه صلَّى قبله، وهذا هو الذي استقر عليه الإجماع. وكان فيه خلافٌ قديمٌ عن بعض الصحابة أنه جوَّز صلاة الظهر قبل الزوال. وعن أحمد وإسحاق مثله في الجمعة كما سيأتي في بابه. وفيه الرد على من زعم من الكوفيين: أنَّ الصلاة لا تجب بأول الوقت. ونقل ابن بطال أنَّ الفقهاء بأسرهم على خلاف ما نُقل عن الكرخي عن أبي حنيفة. أنَّ الصلاة في أول الوقت تقع نفلاً، انتهى. والمعروف عند الحنفية تضعيف هذا القول. ونقل بعضهم. أنَّ أول الظهر إذا صار الفيء قدر الشراك. قوله: (نقيّة) بالنّون أوّله، أي: خالصة صافية لَم تدخلها صفرة ولا تغيّرٌ. قوله: (إذا وجبت) أي: غابت، وأصل الوجوب السّقوط، والمراد سقوط قُرص الشّمس، وفاعل وجبت مستتر وهو الشّمس.

وفي رواية أبي داود " والمغرب إذا غربت الشّمس " , ولأبي عوانة " والمغرب حين تجب الشّمس ". وفيه دليل على أنّ سقوط قُرص الشّمس يدخل به وقت المغرب، ولا يخفى أنّ محله ما إذا كان لا يحول بين رؤيتها غاربة وبين الرّائي حائل. والله أعلم. وللبخاري عن سلمة قال: كنا نُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب إذا توارت بالحجاب. أي: استترت، والمراد الشّمس. قال الخطّابيّ (¬1): لَم يذكرها اعتماداً على أفهام السّامعين، وهو كقوله في القرآن (حتّى توارت بالحجاب). واستُدل بهذه الأحاديث على ضعف حديث أبي بصرة - بالموحّدة ثمّ المهملة - رفعه في أثناء حديث: ولا صلاة بعدها حتّى يرى الشّاهد. (¬2) والشّاهد النّجم. ¬

_ (¬1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61). (¬2) أخرجه مسلم في " صحيحه " (830) عن أبي بصرة - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بالْمُخَمَّص، فقال: إنَّ هذه الصلاة عُرضت على من كان قبلكم فضيَّعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، والشاهد: النجم. ولأحمد وابن حبان " يرى الشاهد " قال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري: اختلف العلماء في تأويله. فمنهم: من حمله على كراهة التنفل قبل المغرب حتى تُصلّى، وهو قول من كره ذلك من العلماء، وقال: قوله: (لا صلاة بعدها) إنما هو نُهي عن التنفل بعد العصر. فيستمر النهي حتى تُصلّى المغرب، فإذا فرغ منها حينئذ جاز التنفل، وحينئذ تطلع النجوم غالباً. ومنهم من قال: إنما أراد أن النهي يزول بغروب الشمس، وإنما علَّقه بطلوع الشاهد لأنه مظنة له، والحكم يتعلق بالغروب نفسه. ومنهم من زعم: أن الشاهد نجم خفي يراه من كان حديدَ البصر بمجرد غروب الشمس، فرؤيته علامة لغروبها. وزعم بعضهم: أن المراد بالشاهد الليل، وفيه بُعد. انتهى

قوله: (والعشاء أحياناً وأحياناً) ولمسلمٍ " أحياناً يؤخّرها , وأحياناً يعجّل، كان إذا رآهم قد اجتمعوا إلخ " , وللبخاري " إذا كثر النّاس عجّل، وإذا قلّوا أخّر " , ونحوه لأبي عوانة في رواية. والأحيان جمع حينٍ، وهو اسم مبهم يقع على القليل والكثير من الزّمان على المشهور، وقيل: الحين ستّة أشهرٍ , وقيل: أربعون سنةً. وحديث الباب يقوّي المشهور. وسيأتي الكلام على حكم وقت العشاء (¬1) وقال ابن دقيق العيد: إذا تعارض في شخصٍ أمران أحدهما أن يقدّم الصّلاة في أوّل الوقت منفرداً أو يؤخّرها في الجماعة، أيّهما أفضل؟. الأقرب عندي أنّ التّأخير لصلاة الجماعة أفضل، وحديث الباب يدلّ عليه لقوله " وإذا رآهم أبطئوا أخّر " فيؤخّر لأجل الجماعة مع إمكان التّقديم. قلت: ورواية البخاري التي تقدّمت تدلّ على أخصّ من ذلك، وهو أنّ انتظار من تكثر بهم الجماعة أولى من التّقديم، ولا يخفى أنّ محل ذلك ما إذا لَم يفحش التّأخير. ولَم يشقّ على الحاضرين، والله ¬

_ (¬1) في حديث ابن عباس الآتي إن شاء الله , برقم (56)

أعلم. قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّيها بغلس) في رواية لهما " كانوا , أو كان ". قال الكرمانيّ (¬1): الشّكّ من الرّاوي عن جابر، ومعناهما متلازمان , لأنّ أيّهما كان يدخل فيه الآخر، إن أراد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فالصّحابة في ذلك كانوا معه، وإن أراد الصّحابة فالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إمامهم، أي: كان شأنه التّعجيل لها دائماً لا كما كان يصنع في العشاء من تعجيلها أو تأخيرها. وخبر كانوا محذوف يدلّ عليه قوله يُصلِّيها، أي: كانوا يصلّون. والغلس بفتح اللام ظلمة آخر الليل. وقال ابن بطّالٍ ما حاصله: فيه حذفان. حذف خبر كانوا , وهو جائز كحذف خبر المبتدأ في قوله (واللائي لَم يحضن) أي: فعدّتهنّ مثل ذلك. والحذف الثّاني: حذف الجملة التي بعد " أو " تقديره: أو لَم يكونوا مجتمعين. قال ابن التّين: ويصحّ أن يكون كانوا هنا تامّة غير ناقصة بمعنى الحضور والوقوع، فيكون المحذوف ما بعد " أو " خاصّة. وقال ابن المنير (¬2): يحتمل: أن يكون شكّاً من الرّاوي هل قال كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو كانوا. ويحتمل: أن يكون تقديره , والصّبح كانوا ¬

_ (¬1) هو محمد بن يوسف , سبق ترجمته في المجلد الأول ص (18) (¬2) انظر ترجمته في ص (378)

مجتمعين مع النّبيّ، أو كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وحده يُصلِّيها بالغلس. قلت: والتّقدير المتقدّم أولى. والحقّ أنّه شكٌّ من الرّاوي، فقد وقعت في رواية مسلم " والصّبح كانوا أو قال كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وفيه حذفٌ واحد تقديره: والصّبح كانوا يصلّونها , أو كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّيها بغلسٍ، فقوله " بغلسٍ " يتعلق بأيّ اللفظين كان هو الواقع. ولا يلزم من قوله " كانوا يصلّونها " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يكن معهم، ولا من قوله " كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " أنّه كان وحده، بل المراد بقوله " كانوا يصلّونها " أي: النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، وهكذا قوله " كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّيها " أي: بأصحابه، والله أعلم

الحديث الرابع

الحديث الرابع 53 - عن أبي المنهال سيّار بن سلامة , قال: دخلت أنا وأَبِي على أبي برزة الأسلميّ , فقال له أَبِي: كيف كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي المكتوبة؟ فقال: كان يُصلِّي الهجير - التي تدعونها الأولى - حين تدحض الشّمس , ويُصلِّي العصر , ثمّ يرجع أحدنا إلى رَحْله في أقصى المدينة والشّمس حيّةٌ , ونسيتُ ما قال في المغرب , وكان يستحبُّ أنْ يؤخّر من العشاء التي تدعونها العتمة , وكان يكره النّوم قبلها , والحديث بعدها , وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرّجل جليسه , وكان يقرأ بالسّتّين إلى المائة. (¬1) قوله: (دخلت أنا وأَبِي) زاد الإسماعيليّ " زمن أخرج ابن زيادٍ من البصرة ". قلت: وكان ذلك في سنة أربعٍ وستّين، وسلامة والد سيّارٍ حكى عنه ولده هنا , ولَم أجد من ترجمه، وقد وقعتْ لابنه عنه روايةٌ في الطّبرانيّ الكبير. في ذكر الحوض. قوله: (على أبي برزة الأسلمي) اسمه نضلة بن عبيد. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (516 , 522 , 543 , 574 , 737) ومسلم (461 , 647) من طرق عن أبي المنهال عن أبي برزة - رضي الله عنه - به. (¬2) وهو قول الأكثر. قال أحمد بن سيار المروزي: نزل مرو. ومات بها , ودفن في مقبرة كلاباذ وولده بمرو. وقيل: مات بالبصرة. وقيل: مات بمفازة سجستان وهراة. قال أبو عمر: وكان إسلامه قديماً , وشهد فتح خيبر وفتح مكة وحنيناً. وقال ابن سعد: كان من ساكني المدينة ثم نزل البصرة وغزا خراسان. وقال غيره: شهد مع علي قتل الخوراج بالنهروان وغزا خراسان بعد ذلك. ويقال إنه شهد صفين والنهروان مع عليٍّ. روى ذلك من طريق ثعلبة بن أبي برزة عن أبيه. وقال خليفة: مات بخراسان سنة 64 بعد ما أخرجه ابن زياد من البصرة. وقال غيره: مات في خلافة معاوية. قلت: وجزم الحاكم أبو أحمد بالأول. وقال ابن حبان: قيل إنه بقي إلى خلافة عبد الملك. وبه جزم البخاري في " التاريخ الأوسط " في فصل من مات بين الستين إلى السبعين. قلت: ويؤيده ما جزم به محمد بن قدامة وغيره أنه مات في سنة 65 وكانت ولايةَ عبد الملك , فإنَّ يزيد مات في أوائل سنة أربع. وولي ابنه معاوية أياماً يسيرة ثم قامت الفتنة إلى أن استقلَّ ابن الزبير بالحجاز والعراق وخراسان ومروان بالشام. ثم توجَّه إلى مصر فغلب عليها وعاش قليلاً. ومات في رمضان منها. وقد أخرج البخاري في صحيحه , أنه عاب على مروان وابن الزبير والقراء بالبصرة لَمَّا وقع الاختلاف بعد موت يزيد بن معاوية. فقال في قصة ذكرها حاصلها , أنَّ الجميع إنما يقاتلون على الدنيا , وفي صحيح البخاري , أنه شهد قتال الخوارج بالأهواز. زاد الإسماعيلي في مستخرجه مع المهلب بن أبي صفرة. انتهى. كان ذلك في ولاية بشر بن مروان على البصرة من قِبل أخيه عبد الملك. قاله في الاصابة (6/ 431) بتجوز.

قوله: (المكتوبة) أي: المفروضة، واستدل به على أنّ الوتر ليس من المكتوبة لكون أبي برزة لَم يذكره , وفيه بحثٌ. قوله: (كان يُصلِّي الهجير) أي: صلاة الهجير، والهجير والهاجرة بمعنىً، وهو وقت شدّة الحرّ، وسمّيت الظّهر بذلك , لأنّ وقتها يدخل حينئذٍ. قوله: (تدعونها الأولى) قيل: سُمّيت الأولى لأنّها أوّل صلاة النّهار. وقيل: لأنّها أوّل صلاةٍ صلاها جبريل بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين بيّن له

الصّلوات الخمس قال ابن إسحاق: حدّثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير , وقال عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ قال: قال نافع بن جبير وغيره: لَمّا أصبح النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الليلة التي أسري به , لَم يرعه إلاَّ جبريل نزل حين زاغت الشّمس، ولذلك سُمّيت الأولى. أي: صلاة الظّهر، فأمر فصيح بأصحابه: الصّلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلَّى به جبريل , وصلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالنّاس. فذكر الحديث قوله: (حين تدحض الشّمس) أي: تزول عن وسط السّماء مأخوذٌ من الدّحض وهو الزّلق، وفي روايةٍ لمسلمٍ " حين تزول الشّمس " ومقتضى ذلك أنّه كان يُصلِّي الظّهر في أوّل وقتها. ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد لاحتمال أن يكون ذلك في زمن البرد أو قبل الأمر بالإبراد أو عند فقد شروط الإبراد , لأنّه يختصّ بشدّة الحرّ، أو لبيان الجواز. وقد يتمسّك بظاهره مَن قال: إنّ فضيلة أوّل الوقت لا تحصل إلاَّ بتقديم ما يمكن تقديمه من طهارةٍ وسترٍ وغيرهما قبل دخول الوقت، ولكنّ الذي يظهر أنّ المراد بالحديث التّقريب. فتحصل الفضيلة لمن لَم يتشاغل عند دخول الوقت بغير أسباب الصّلاة. قوله: (ويُصلِّي العصر , ثم يرجع أحدنا إلى رحله) بفتح الرّاء وسكون المهملة، أي: مسكنه. قوله: (في أقصى المدينة) صفةٌ للرّحل. وللبخاري " وأحدنا

يذهب إلى أقصى المدينة , رجع والشّمس حيّةٌ " كذا وقع في رواية أبي ذرٍّ (¬1) والأصيليّ (¬2)، وفي رواية غيرهما " ويرجع " بزيادة واوٍ وبصيغة المضارعة عليها شرح الخطّابيّ. وظاهره حصول الذّهاب إلى أقصى المدينة والرّجوع من ثَمّ إلى المسجد، لكن في رواية عوف عن سيار عند البخاري " ثمّ يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشّمس حيّةٌ " فليس فيه إلاَّ الذّهاب فقط دون الرّجوع. وطريق الجمع بينها وبين تلك الرواية أن يقال: يحتمل أنّ الواو في قوله " وأحدنا " بمعنى " ثمّ " على قول مَن قال: إنّها ترد للتّرتيب مثل ثمّ، وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ، والتّقدير , ثمّ يذهب أحدنا. أي: ممّن صلَّى معه. وأمّا قوله: " رجع ". فيحتمل: أن يكون بمعنى يرجع ويكون بياناً لقوله يذهب. ويحتمل: أن يكون رجع في موضع الحال. أي: يذهب راجعاً. ويحتمل: أنّ أداة الشّرط سقطت إمّا لو أو إذا، والتّقدير. ولو يذهب أحدنا .. إلخ. وجوّز الكرمانيّ (¬3). أن يكون " رجع " خبراً للمبتدأ الذي هو ¬

_ (¬1) هو عبد بن أحمد الهروي , سبق ترجمته (1/ 114) (¬2) هو عبدالله بن ابراهيم , سبق ترجمته (1/ 114) (¬3) هو محمد بن يوسف , سبق ترجمته (1/ 18)

أحدنا " ويذهب " جملةٌ حاليّةٌ - وهو وإن كان محتملاً من جهة اللفظ - لكنّه يغاير رواية عوفٍ، وقد رواه أحمد عن حجّاج بن محمّدٍ عن شعبة بلفظ " والعصر يرجع الرّجل إلى أقصى المدينة والشّمس حيّةٌ ". ولمسلمٍ والنّسائيّ من طريق خالد بن الحارث عن شعبة مثله لكن بلفظ " يذهب " بدل يرجع. وقال الكرمانيّ أيضاً بعد أن حكى احتمالاً آخر: وهو أي: قوله " رجع " عطفٌ على يذهب , والواو مقدّرةٌ , ورجع بمعنى يرجع. انتهى. وهذا الاحتمال الأخير جزم به ابن بطّالٍ، وهو موافقٌ للرّواية التي حكيناها. ويؤيّد ذلك رواية أبي داود عن حفص بن عمر - شيخ البخاري فيه - بلفظ " وإنّ أحدنا ليذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشّمس حيّةٌ ". وقد قدّمنا ما يرد عليها , وأنّ رواية عوفٍ أوضحت أنّ المراد بالرّجوع الذّهاب. أي: من المسجد، وإنّما سُمِّي رجوعاً لأنّ ابتداء المجيء كان من المنزل إلى المسجد فكان الذّهاب منه إلى المنزل رجوعاً. قوله: (والشّمس حيّةٌ) أي: بيضاء نقيّةٌ. قال الزين بن المنير (¬1): المراد بحياتها قوّة أثرها حرارةً ولوناً ¬

_ (¬1) علي بن محمد الاسكندراني. وانظر ترجمته هو وأخوه أحمد في ص (376).

وشعاعاً وإنارةً، وذلك لا يكون بعد مصير الظّل مثلي الشّيء. انتهى. وفي سنن أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ عن خيثمة - أحد التّابعين - قال: حياتها أن تجد حرّها. فائدة: أول وقت العصر هو مصيرُ ظلِّ كلِّ شيءٍ مثله , وقد أخرج مسلم عدة أحاديث مصرِّحة بالمقصود (¬1). ولم يُنقل عن أحدٍ من أهل العلم مخالفةٌ في ذلك، إلاَّ عن أبي حنيفة، فالمشهور عنه أنه قال: أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثليه. بالتثنية. قال القرطبي: خالفه الناس كلهم في ذلك حتى أصحابه - يعني الآخذين عنه - وإلاَّ فقد انتصر له جماعة ممن جاء بعدهم. فقالوا: ثبت الأمر بالإبراد , ولا يحصل إلاَّ بعد ذهاب اشتداد الحر، ولا يذهب في تلك البلاد إلا بعد أن يصير ظل الشيء مثليه، فيكون أول وقت العصر مصير الظل مثليه، وحكاية مثل هذا تغني عن رده. قوله: (ونسيت ما قال في المغرب) قائل ذلك هو سيّارٌ، بيّنه أحمد في روايته عن حجّاجٍ عن شعبة عنه. قوله: (وكان يستحب أن يؤخّر من العشاء) أي: من وقت العشاء. ¬

_ (¬1) منها ما رواه في " صحيحه " (612) عن عبدالله بن عمرو , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وقْت الظهر إذا زالت الشمس. وكان ظلُ الرجلِ كطولِه ما لم يحضر العصر , ووقت العصر ما لم تصفرّ الشمس. الحديث. وفي رواية " إذا صلَّيتم الظهر فإنه وقت إلى أنْ يحضر العصر "

قال ابن دقيق العيد: فيه دليلٌ على استحباب التّأخير قليلاً لأنّ التّبعيض يدلّ عليه. وتعقّب: بأنّه بعضٌ مطلقٌ لا دلالة فيه على قلةٍ ولا كثرةٍ، وتقدم من حديث جابرٍ , أنّ التّأخير إنّما كان لانتظار من يجيء لشهود الجماعة. قوله: (التي تدعونها العتمة) وللبخاري عن ابن عمر قال: صلَّى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً صلاة العشاء، وهي التي يدعو النّاس العتمة، ثمّ انصرف .. الحديث وفي كلّ ذلك إشعارٌ بغلبة استعمالهم لها بهذا الاسم، فصار من عرف النّهي عن ذلك يحتاج إلى ذكره لقصد التّعريف. وأخرج مسلم من طريق أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن ابن عمر بلفظ: لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنّها في كتاب الله العشاء، وأنّهم يعتمون بحلاب الإبل، ولابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة. وإسناده حسن، ولأبي يعلى والبيهقيّ من حديث عبد الرّحمن بن عوف كذلك. زاد الشّافعيّ في روايته في حديث ابن عمر: وكان ابن عمر إذا سمعهم يقولون العتمة. صاح وغضب. وأخرج عبد الرّزّاق هذا الموقوف من وجه آخر عن ابن عمر. واختلف السّلف في ذلك: القول الأول: منهم من كرهه كابن عمر راوي الحديث.

القول الثاني: منهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصّدّيق وغيره. القول الثالث: منهم من جعله خلاف الأولى. وهو الرّاجح، واختاره البخاري، وكذلك نقله ابن المنذر عن مالك والشّافعيّ واختاره. ونقل القرطبيّ عن غيره: إنّما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشّرعيّة الدّينيّة عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلةٍ دنيويّة , وهي الْحَلْبة التي كانوا يجلبونها في ذلك الوقت , ويسمّونها العتمة. قلت: وذكر بعضهم أنّ تلك الحَلْبة إنّما كانوا يعتمدونها في زمان الجدب خوفاً من السّؤال والصّعاليك، فعلى هذا فهي فعلةٌ دنيويّة مكروهة لا تطلق على فعلةٍ دينيّة محبوبة، ومعنى العتم في الأصل تأخير مخصوص. وقال الطّبريّ: العتمة بقيّة اللبن تغبق بها النّاقة بعد هوىً من الليل، فسمّيت الصّلاة بذلك لأنّهم كانوا يصلّونها في تلك السّاعة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ميمون بن مهران قال: قلت لابن عمر: مَن أوّل من سمّى صلاة العشاء العتمة؟ قال: الشّيطان وفي الصحيحين عن أبي هريرة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ولو يعلمون ما في العتمة والصّبح لأتوهما ولو حبواً. حاصله ثبوت تسمية هذه الصّلاة تارةً عتمة وتارةً عشاء. وأمّا الأحاديث التي لا تسمية فيها , بل فيها إطلاق الفعل كقول

عائشة وابن عباس وغيرهما: أعتم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - .. " (¬1) فتفيد إلى أنّ النّهي عن ذلك إنّما هو لإطلاق الاسم، لا لمنع تأخير هذه الصّلاة عن أوّل الوقت. قال النّوويّ وغيره: يجمع بين النّهي عن تسميتها عتمة , وبين ما جاء من تسميتها عتمة بأمرين: أحدهما: أنّه استعمل ذلك لبيان الجواز , وأنّ النّهي للتّنزيه لا للتّحريم. الثّاني: بأنّه خاطب بالعتمة من لا يعرف العشاء لكونه أشهر عندهم من العشاء، فهو لقصد التّعريف لا لقصد التّسمية. ويحتمل: أنّه استعمل لفظ العتمة في العشاء , لأنّه كان مشتهراً عندهم استعمال لفظ العشاء للمغرب، فلو قال: لو يعلمون ما في الصّبح والعشاء، لتوهّموا أنّها المغرب. قلت: وهذا ضعيف , لأنّه قد ثبت في نفس هذا الحديث " لو يعلمون ما في الصّبح والعشاء " فالظّاهر أنّ التّعبير بالعشاء تارةً وبالعتمة تارةً من تصرّف الرّواة. وقيل: إنّ النّهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ الجواز. وتعقّب: بأنّ نزول الآية كان قبل الحديث المذكور، وفي كلٍّ من القولين نظرٌ للاحتياج في مثل ذلك إلى التّاريخ، ولا بُعد في أنّ ذلك ¬

_ (¬1) حديث ابن عباس - رضي الله عنه - متفق عليه , وسيأتي رقم (56). وكذا اتفق الشيخان على حديث عائشة.

كان جائزاً، فلمّا كثر إطلاقهم له نهوا عنه , لئلا تغلب السّنّة الجاهليّة على السّنّة الإسلاميّة، ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أنّ الصّحابة الذين رووا النّهي استعملوا التّسمية المذكورة , وأمّا استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلرفع الالتباس بالمغرب، والله أعلم. وقال الطِّيبي (¬1): لعل تقييده الظّهر والعشاء دون غيرهما للاهتمام بأمرهما، فتسمية الظّهر بالأولى يشعر بتقديمها، وتسمية العشاء بالعتمة يشعر بتأخيرها. قوله: (وكان يكره النّوم قبلها) قال التّرمذيّ: كره أكثر أهل العلم النّوم قبل صلاة العشاء، ورخّص بعضهم فيه في رمضان خاصّةً. انتهى. ومن نُقلت عنه الرّخصة قُيّدت عنه في أكثر الرّوايات بما إذا كان له من يوقظه , أو عرف من عادته أنّه لا يستغرق وقت الاختيار بالنّوم، وهذا جيّدٌ حيث قلنا إنّ عِلَّة النّهي خشية خروج الوقت. وحمل الطّحاويّ الرّخصة على ما قبل دخول وقت العشاء، والكراهة على ما بعد دخوله. قوله: (والحديث بعدها) أي: المحادثة والسّمر بعدها قد يؤدّي إلى النّوم عن الصّبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل، وكان عمر بن الخطّاب يضرب النّاس على ذلك , ويقول: أسمراً أوّل الليل ¬

_ (¬1) هو الحسن بن محمد , سبق ترجمته (1/ 23)

ونوماً آخره؟ (¬1). وإذا تقرّر أنّ عِلَّة النّهي ذلك. فقد يُفرّق فارقٌ بين الليالي الطّوال والقصار، ويمكن أن تحمل الكراهة على الإطلاق حسماً للمادّة، لأنّ الشّيء إذا شرع لكونه مظنّةً قد يستمرّ فيصير مئنّةً، والله أعلم. وهذه الكراهة مخصوصة بما إذا لَم يكن في أمر مطلوب , كالسمر في الفقه والخير , وقد روى التّرمذيّ من حديث عمر محسّناً , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يسمر هو وأبو بكرٍ في الأمر من أمور المسلمين , وأنا معهما. أو في أمر مباح , كالسمر مع الضيف والأهل. قوله: (وكان ينفتل) أي: ينصرف من الصّلاة، أو يلتفت إلى المأمومين. قوله: (من صلاة الغداة) أي: الصّبح، وفيه أنّه لا كراهة في تسمية الصّبح بذلك. قوله: (حين يعرف الرّجل جليسه) أي: الذي بجنبه، ففي رواية الجوزقيّ من طريق وهب بن جريرٍ عن شعبة " فينظر الرّجل إلى جليسه إلى جنبه فيعرف وجهه " ولأحمد " فينصرف الرّجل فيعرف وجه جليسه ". وفي روايةٍ لمسلمٍ " فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه ". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (6681) وعبد الرزاق (2134) عن خرشة بن الحر الفزاري قال: رأى عمر بن الخطاب قوماً سمروا بعد العشاء , ففرَّق بينهم بالدِّرة , فقال: فذكره.

وله في أخرى " وننصرف حين يعرف بعضنا وجه بعضٍ " واستدل بذلك على التّعجيل بصلاة الصّبح , لأنّ ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس، وقد صحّ بأنّ ذلك كان عند فراغ الصّلاة. ومن المعلوم من عادته - صلى الله عليه وسلم - ترتيل القراءة وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنّه كان يدخل فيها مغلساً. وادّعى الزين بن المنير. أنّه مخالفٌ لحديث عائشة المتقدم حيث قالت فيه: لا يُعرفن من الغلس. وتعقّب: بأنّ الفرق بينهما ظاهرٌ، وهو أنّ حديث أبي برزة متعلقٌ بمعرفة من هو مسفرٌ جالسٌ إلى جنب المُصلِّي فهو ممكنٌ، وحديث عائشة متعلقٌ بمن هو متلفّفٌ مع أنّه على بعدٍ فهو بعيدٌ. قوله: (ويقرأ) أي: في الصّبح قوله: (بالسّتّين إلى المائة) يعني من الآي. وقدّرها في رواية الطّبرانيّ " بسورة الحاقّة ونحوها " , وفي رواية لهما بلفظ " ما بين السّتّين إلى المائة ". وأشار الكرمانيّ: أنّ القياس أن يقول ما بين السّتّين والمائة , لأنّ لفظ " بين " يقتضي الدّخول على متعدّدٍ. قال: ويحتمل أن يكون التّقدير: ويقرأ ما بين السّتّين وفوقها إلى المائة، فحذف لفظ فوقها لدلالة الكلام عليه. وللبخاري " وكان يقرأ في الرّكعتين أو إحداهما ما بين السّتّين إلى المائة " أي: من الآيات، وهذه الزّيادة تفرّد بها شعبة عن أبي المنهال.

والشّكّ فيه منه، وقد تقدّم عن رواية الطّبرانيّ تقديرها " بالحاقّة ونحوها ". فعلى تقدير أن يكون ذلك في كل الرّكعتين , فهو منطبقٌ على حديث ابن عبّاسٍ. في قراءته في صبح الجمعة تنزيل السّجدة , وهل أتى (¬1). وعلى تقدير أن يكون في كل ركعةٍ فهو منطبقٌ على حديث جابر بن سمرة في قراءاته في الصّبح بـ " ق " أخرجه مسلمٌ، وفي روايةٍ له بـ " الصّافّات " وفي أخرى عند الحاكم بـ " الواقعة ". وفي السّياق تأدّب الصّغير مع الكبير، ومسارعة المسئول بالجواب إذا كان عارفاً به.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 54 - عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً , كما شغلونا عن الصّلاة الوسطى حتّى غابت الشّمس (¬2) وفي لفظٍ لمسلمٍ " شغلونا عن الصّلاة الوسطى - صلاة العصر - ثمّ صلاها بين المغرب والعشاء. (¬3) الحديث السادس 55 - ولمسلم عن عبد الله بن مسعودٍ , قال: حبس المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العصر , حتّى احمرَّت الشّمس أو اصفرَّت , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شغلونا عن الصّلاة الوسطى - صلاة العصر - ملأ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم ناراً , أو حشا اللهُ أجوافَهم وقبورَهم ناراً. قوله: (يوم الخندق) في رواية لهما " يوم الأحزاب " يعني أنّ لها اسمين، والأحزاب جمع حزب. أي: طائفة. فأمّا تسميتها الخندق فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذي أشار بذلك سلمان فيما ذكر أصحاب المغازي. منهم أبو معشر قال: قال سلمان للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّا كنّا بفارسٍ إذا حوصرنا خندقناً علينا، فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق حول المدينة، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (2068) من حديث ابن عباس. وسيأتي إن شاء الله في العمدة من حديث أبي هريرة في كتاب الجمعة برقم (145) (¬2) أخرجه البخاري (2773 , 3885 , 4259 , 6033) ومسلم (627) من طريق محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي - رضي الله عنه - به. وله طرق أخرى سيذكرها الشارح. (¬3) أخرجه مسلم (627) من طريق مسلم بن صبيح، عن شتير بن شكل، عن علي به.

وعمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتّى فرغوا منه، وجاء المشركون فحاصروهم ". وأمّا تسميتها الأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم قريشٌ وغطفان واليهود ومن تبعهم، وقد أنزل الله تعالى في هذه القصّة صدر سورة الأحزاب. وذكر موسى بن عقبة في " المغازي " قال: خرج حُييّ بن أخطب بعد قتل بني النّضير إلى مكّة يحرّض قريشاً على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج كنانة بن الرّبيع بن أبي الحقيق يسعى في بني غطفان , ويحضّهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنّ لهم نصف ثمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاريّ إلى ذلك، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طلحة بن خويلد فيمن أطاعه. وخرج أبو سفيان بن حربٍ بقريشٍ فنزلوا بمرّ الظّهران، فجاءهم من أجابهم من بني سليمٍ مدداً لهم فصاروا في جمعٍ عظيمٍ، فهم الذين سمّاهم الله تعالى الأحزاب. وذكر ابن إسحاق بأسانيده. أنّ عدّتهم عشرة آلافٍ، قال: وكان المسلمون ثلاثة آلافٍ، وقيل: كان المشركون أربعة آلافٍ والمسلمون نحو الألف. وذكر موسى بن عقبة. أنّ مدّة الحصار كانت عشرين يوماً، ولَم يكن بينهم قتالٌ إلاَّ مراماةٌ بالنّبل والحجارة، وأصيب منها سعد بن معاذٍ بسهمٍ فكان سبب موته.

وذكر أهل المغازي سبب رحيلهم، وأنّ نعيم بن مسعودٍ الأشجعيّ ألقى بينهم الفتنة فاختلفوا، وذلك بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له بذلك. ثمّ أرسل الله عليهم الرّيح فتفرّقوا، وكفى الله المؤمنين القتال. واختلفوا في أي سنة. القول الأول: قال موسى بن عقبة: كانت في شوّال سنة أربع هكذا رويناه في مغازيه. قلت: وتابع موسى على ذلك مالك، وأخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه. القول الثاني: قال ابن إسحاق. كانت في شوّال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي. ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة. وقوّاه بما أخرجه من قول ابن عمر , أنّه عُرض يوم أحدٍ وهو ابن أربع عشرة ويوم الخندق وهو ابن خمس عشرة: فيكون بينهما سنةٌ واحدةٌ. وأُحدٌ كانت سنة ثلاثٍ، فيكون الخندق سنة أربعٍ. ولا حجّة فيه. إذا ثبت أنّها كانت سنة خمسٍ لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحدٍ كان في أوّل ما عرض في الرّابعة عشر , وكان في الأحزاب قد استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقيّ. ويؤيّد قول ابن إسحاق , أنّ أبا سفيان قال للمسلمين لَمّا رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدرٍ فخرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من السّنة المقبلة إلى بدرٍ، فتأخّر مجيء أبي سفيان تلك السّنة للجدب الذي كان حينئذٍ،

وقال لقومه: إنّما يصلح الغزو في سنة الخصب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان أو دونها، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي. وقد بيّن البيهقيّ سبب هذا الاختلاف، وهو أنّ جماعةً من السّلف كانوا يعدّون التّاريخ من المحرّم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيعٍ الأوّل، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في " تاريخه " , فذكر أنّ غزوة بدرٍ الكبرى كانت في السّنة الأولى، وأنّ غزوة أحدٍ كانت في الثّانية، وأنّ الخندق كانت في الرّابعة. وهذا عملٌ صحيحٌ على ذلك البناء، لكنّه بناءٌ واهٍ مخالفٌ لِمَا عليه الجمهور من جعل التّاريخ من المحرّم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدرٌ في الثّانية وأحدٌ في الثّالثة والخندق في الخامسة وهو المعتمد. قوله: (شغلونا) ولهما في رواية " حبسونا " أي: منعونا عن الصّلاة الوسطى , أي: عن إيقاعها. قوله: (عن الصلاة الوسطى) هي تأنيث الأوسط. والأوسط الأعدل من كلّ شيء، وليس المراد به التّوسّط بين الشّيئين لأنّ فُعلى معناها التّفضيل، ولا ينبني للتّفضيل إلاَّ ما يقبل الزّيادة والنّقص، والوسط بمعنى الخيار، والعدل يقبلهما، بخلاف المتوسّط فلا يقبلهما فلا يبنى منه أفعل تفضيل. زاد مسلم من طريق شتير بن شكلٍ عن عليّ: شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر. وزاد في آخره " ثمّ صلاها بين المغرب

والعشاء " ولمسلمٍ عن ابن مسعود نحو حديث عليّ، وللتّرمذيّ والنّسائيّ من طريق زرّ بن حبيشٍ عن عليٍّ مثله. ولمسلمٍ أيضاً من طريق أبي حسّان الأعرج عن عبيدة السّلمانيّ عن عليّ فذكر الحديث بلفظ " كما حبسونا عن الصّلاة الوسطى حتّى غربت الشّمس " يعني العصر، وروى أحمد والتّرمذيّ من حديث سمرة رفعه , قال: صلاة الوسطى صلاة العصر. وروى ابن جرير من حديث أبي هريرة رفعه: الصّلاة الوسطى صلاة العصر. ومن طريق كهيل بن حرملة: سئل أبو هريرة عن الصّلاة الوسطى , فقال: اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفينا أبو هاشم بن عتبة , فقال: أنا أعلم لكم، فقام فاستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمّ خرج إلينا فقال: أخبرنا أنّها صلاة العصر. ومن طريق عبد العزيز بن مروان , أنّه أرسل إلى رجلٍ فقال: أيّ شيء سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصّلاة الوسطى؟ فقال: أرسلني أبو بكر وعمر أسأله , وأنا غلام صغير فقال: هي العصر. ومن حديث أبي مالك الأشعريّ رفعه: الصّلاة الوسطى صلاة العصر. وروى التّرمذيّ وابن حبّان من حديث ابن مسعود مثله. وروى ابن جرير من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة , حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى. وهي صلاة العصر. وروى ابن المنذر من طريق مقسم عن ابن عبّاس , قال: شغلَ

الأحزابُ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق عن صلاة العصر حتّى غربت الشّمس فقال: شغلونا عن الصّلاة الوسطى. وأخرج أحمد من حديث أمّ سلمة وأبي أيّوب وأبي سعيد وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عبّاس من قولهم: إنّها صلاة العصر. وقد اختلف السّلف في المراد بالصّلاة الوسطى. وجمع الدّمياطيّ (¬1) في ذلك جزءاً مشهوراً سمّاه " كشف الغطا عن الصّلاة الوسطى " فبلغ تسعة عشر قولاً. القول الأول: أنها الصّبح , وهو قول أبي أُمامة وأنس وجابر وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم , وهو أحد قولي ابن عمر وابن عبّاس , ونقله مالك والتّرمذيّ عنهما , ونقله مالك بلاغاً عن عليّ والمعروف عنه خلافه. وروى ابن جرير من طريق عوف الأعرابيّ عن أبي رجاء العطارديّ قال: صليت خلف ابن عبّاس الصّبح فقنت فيها ورفع يديه , ثمّ قال: هذه الصّلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين. وأخرجه أيضاً من وجه آخر عنه وعن ابن عمرو من طريق أبي العالية: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة ¬

_ (¬1) عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي، التوني. شرف الدين أبو أحمد. فقيه، أصولي، محدث، حافظ، نسابة، إخباري، مقرئ، أديب، نحوي، لغوي، شاعر. ولد بتونة من أعمال دمياط بمصر، في آخر سنة 613 هـ، ورحل إلى الحجاز ودمشق وحلب وحماة والجزيرة وبغداد، وأخذ عن كثير من الشيوخ، وتوفي فجأة بالقاهرة في 11 ذي القعدة. سنة 705 هـ. معجم المؤلفين لعمر كحالة. (6/ 197).

الغداة , فقلت لهم: ما الصّلاة الوسطى؟ قال: هي هذه الصّلاة. وهو قول مالك والشّافعيّ فيما نصّ عليه في " الأمّ ". واحتجّوا له بأنّ فيها القنوت، وقد قال الله تعالى (وقوموا لله قانتين) , وبأنّها لا تقصر في السّفر، وبأنّها بين صلاتَي جهر وصلاتَي سرّ. القول الثّاني: أنها الظهر , وهو قول زيد بن ثابت أخرجه أبو داود من حديثه قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الظّهر بالهاجرة، ولَم تكن صلاة أشدّ على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، فنزلت: حافظوا على الصّلوات الآية ". وجاء عن أبي سعيد وعائشة القول. بأنّها الظّهر , أخرجه ابن المنذر وغيره، وروى مالك في " الموطّأ " عن زيد بن ثابت الجزم بأنّها الظّهر , وبه قال أبو حنيفة في رواية. وروى الطّيالسيّ من طريق زهرة بن معبد قال: كنّا عند زيد بن ثابت , فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصّلاة الوسطى , فقال: هي الظّهر. ورواه أحمد من وجه آخر وزاد: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الظّهر بالهجير فلا يكون وراءه إلاَّ الصّفّ أو الصّفّان , والنّاس في قائلتهم وفي تجارتهم، فنزلت. القول الثّالث: أنها العصر , وهو قول عليّ بن أبي طالب , فقد روى التّرمذيّ والنّسائيّ من طريق زرّ بن حبيشٍ قال: قلنا لعبيدة: سل عليّاً عن الصّلاة الوسطى، فسأله , فقال: كنّا نرى أنّها الصّبح،

حتّى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر. وهذه الرّواية تدفع دعوى من زعم أنّ قوله " صلاة العصر " مُدرج من تفسير بعض الرّواة , وهي نصّ في أنّ كونها العصر من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنّ شبهة مَن قال إنّها الصّبح قويّة، لكن كونها العصر هو المعتمد. وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصّحيح من مذهب أبي حنيفة , وقول أحمد , والذي صار إليه معظم الشّافعيّة لصحّة الحديث فيه. قال التّرمذيّ: هو قول أكثر علماء الصّحابة. وقال الماورديّ: هو قول جمهور التّابعين. قال ابن عبد البرّ: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكيّة ابن حبيب وابن العربيّ وابن عطيّة. ويؤيّده أيضاً ما روى مسلم عن البراء بن عازب: نزل حافظوا على الصّلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله، ثمّ نسخت فنزلت حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى، فقال رجل: فهي إذن صلاة العصر، فقال: أخبرتك كيف نزلت. القول الرّابع: أنها المغرب. نقله ابن أبي حاتم بإسنادٍ حسن عن ابن عبّاس قال: صلاة الوسطى هي المغرب. وبه قال قبيصة بن ذؤيب أخرجه أبو جرير. وحجّتهم أنّها معتدلة في عدد الرّكعات , وأنّها لا تقصر في الأسفار ,

وأنّ العمل مضى على المبادرة إليها والتّعجيل لها في أوّل ما تغرب الشّمس , وأنّ قبلها صلاتا سرّ وبعدها صلاتا جهر. القول الخامس: جميع الصلوات وهو آخر ما صحَّحه ابن أبي حاتم أخرجه أيضاً بإسنادٍ حسن عن نافع قال: سئل ابن عمر فقال: هي كلّهنّ، فحافظوا عليهنّ. وبه قال معاذ بن جبل. واحتجّ له بأنّ قوله: (حافظوا على الصّلوات) يتناول الفرائض والنّوافل، فعطف عليه الوسطى وأريد بها كلّ الفرائص تأكيداً لها، واختار هذا القول ابن عبد البرّ. وأمّا بقيّة الأقوال. فالسّادس: أنّها الجمعة، ذكره ابن حبيب من المالكيّة , واحتجّ بما اختصّت به من الاجتماع والخطبة، وصحَّحه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه، ورجّحه أبو شامة. السّابع: الظّهر في الأيّام والجمعة يوم الجمعة. الثّامن: العشاء نقله ابن التّين والقرطبيّ , واحتجّ له بأنّها بين صلاتين لا تقصران , ولأنّها تقع عند النّوم فلذلك أمر بالمحافظة عليها واختاره الواحديّ. التّاسع: الصّبح والعشاء للحديث الصّحيح في أنّهما أثقل الصّلاة على المنافقين، وبه قال الأبهريّ من المالكيّة. العاشر: الصّبح والعصر لقوّة الأدلة في أنّ كلاً منهما قيل إنّه الوسطى، فظاهر القرآن الصّبح ونصّ السّنّة العصر. الحادي عشر: صلاة الجماعة. الثّاني عشر: الوتر وصنّف فيه علم الدّين السّخاويّ جزءاً ,

ورجّحه القاضي تقيّ الدّين الأخنائيّ , واحتجّ له في جزء رأيته بخطّه. الثّالث عشر: صلاة الخوف. الرّابع عشر: صلاة عيد الأضحى. الخامس عشر: صلاة عيد الفطر. السّادس عشر: صلاة الضّحى. السّابع عشر: واحدة من الخمس غير معيّنة , قاله الرّبيع بن خثيم وسعيد بن جبير وشريحٌ القاضي وهو اختيار إمام الحرمين (¬1) من الشّافعيّة ذكره في النّهاية قال: كما أخفيت ليلة القدر. الثّامن عشر: أنّها الصّبح أو العصر على التّرديد وهو غير القول المتقدّم الجازم بأنّ كلاً منهما يقال له الصّلاة الوسطى. التّاسع عشر: التّوقّف فقد روى ابن جرير بإسنادٍ صحيح عن سعيد بن المسيّب قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختلفين في الصّلاة الوسطى هكذا. وشبّك بين أصابعه. العشرون: صلاة الليل وجدته عندي. وذهلت الآن عن معرفة قائله. وأقوى شبهة لمن زعم أنّها غير العصر مع صحّة الحديث. حديثُ البراء الذي ذكرته عند مسلم , فإنّه يشعر بأنّها أبهمت بعدما عيّنت كذا قاله القرطبيّ، قال: وصار إلى أنّها أبهمت جماعةٌ من العلماء المتأخّرين، قال: وهو الصّحيح لتعارض الأدلة وعسر التّرجيح. وفي دعوى أنّها أبهمت , ثمّ عيّنت من حديث البراء نظر، بل فيه ¬

_ (¬1) هو عبدالملك الجويني , سبق ترجمته (1/ 283)

أنّها عيّنت ثمّ وصفت، ولهذا قال الرّجل: فهي إذن العصر , ولَم ينكر عليه البراء، نعم جواب البراء يشعر بالتّوقّف لِمَا نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التّصريح بها في حديث عليّ. ومن حجّتهم أيضاً ما روى مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة , أنّها أمَرَتْه أن يكتب لها مصحفاً، فلمّا بلغت (حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى) قال: فأمْلَتْ عليّ " وصلاة العصر " قالت: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى مالك عن عمرو بن رافع , قال: كنت أكتب مصحفاً لحفصة فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي، فأملَتْ عليَّ: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر. وأخرجه ابن جرير من وجه آخر حسن عن عمرو بن رافع، وروى ابن المنذر من طريق عبيد الله بن رافع , أمرتني أمّ سلمة أن أكتب لها مصحفاً. فذكر مثل حديث عمرو بن رافع سواء، ومن طريق سالم بن عبد الله بن عمر , أنّ حفصة أمرت إنساناً أن يكتب لها مصحفاً نحوه. ومن طريق نافع , أنّ حفصة أمرت مولىً لها أن يكتب لها مصحفاً فذكر مثله , وزاد: كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولها , قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو , فتمسّك قوم بأنّ العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب: بأنّ حديث عليّ ومن وافقه أصحّ إسناداً وأصرح , وبأنّ حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنّه كان في مصحفها " وهي

العصر ". فيحتمل: أن تكون الواو زائدة. ويؤيّده ما رواه أبو عبيدة بإسنادٍ صحيح عن أبيّ بن كعب أنّه كان يقرؤها " حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر " بغير واو. أو هي عاطفة , لكن عطف صفة لا عطف ذات. وبأنّ قوله " والصّلاة الوسطى والعصر " لَم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء , أنّها نزلت أوّلاً والعصر ثمّ نزلت ثانياً بدلها والصّلاة الوسطى، فجمع الرّاوي بينهما، ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدّماً على النّصّ الصّريح بأنّها صلاة العصر؟. قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدّين العلائيّ: حاصل أدلة مَن قال إنّها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها: تنصيص بعض الصّحابة. وهو معارض بمثله ممَن قال منهم إنّها العصر، ويترجّح قول العصر بالنّصّ الصّريح المرفوع، وإذا اختلف الصّحابة لَم يكن قول بعضهم حجّة على غيره فتبقى حجّة المرفوع قائمة. ثانيها: معارضة المرفوع بورود التّأكيد على فعل غيرها كالحثّ على

المواظبة على الصّبح والعشاء (¬1)، وهو معارض بما هو أقوى منه , وهو الوعيد الشّديد الوارد في ترك صلاة العصر، كما في البخاري. ثالثها: ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة " حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر " فإنّ العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع، وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه، سلمنا لكن لا يصلح معارضاً للمنصوص صريحاً. وأيضاً فليس العطف صريحاً في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصّفات كقوله تعالى (الأوّل والآخر والظّاهر والباطن) انتهى ملخّصاً. قوله: (ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً) لَم يشكّ يزيد بن هارون، وهو لفظ روح بن عبادة وعيسى بن يونس كما في البخاري، ولمسلمٍ مثله عن أبي أسامة عن هشام، وكذا له في رواية أبي حسّان الأعرج عن عبيدة بن عمرو، ومن طريق شتير بن شكلٍ عن على مثله. وله من رواية يحيى بن الجزّار عن عليٍّ " قبورهم وبيوتهم أو قال: قبورهم وبطونهم " , ومن حديث ابن مسعود " ملأ الله أجوافهم أو قبورهم ناراً، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً ". ولابن حبّان من حديث حذيفة " ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً , أو ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة الآتي برقم (64)

قلوبهم " , وللبخاري عن يحيى القطان عن هشام عن محمد عن عبيدة عن علي " ملأ الله قبورهم وبيوتهم , أو أجوافهم نارا " شك يحيى. وهذه الرّوايات التي وقع فيها الشّكّ مرجوحة بالنّسبة إلى التي لا شكّ فيها. وفي هذا الحديث جواز الدّعاء على المشركين بمثل ذلك. قال ابن دقيق العيد: تردُّد الرّاوي في قوله " ملأ الله " أو " حشا " يشعر بأنّ شرط الرّواية بالمعنى أن يتّفق المعنى في اللفظين، وملأ ليس مرادفاً لحشا، فإنّ حشا يقتضي التّراكم وكثرة أجزاء المحشوّ بخلاف ملأ، فلا يكون في ذلك متمسّك لمن منع الرّواية بالمعنى. وقد استشكل هذا الحديث. بأنّه تضمّن دعاء صدر من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على من يستحقّه وهو من مات منهم مشركاً، ولَم يقع أحد الشّقّين وهو البيوت , أمّا القبور فوقع في حقّ من مات منهم مشركاً لا محالة. ويجاب: بأن يحمل على سكّانها , وبه يتبيّن رجحان الرّواية بلفظ " قلوبهم , أو أجوافهم " قوله: (ثمّ صلاها بين المغرب والعشاء) سيأتي إن شاء الله الحديث عن الفوائت وما يتعلق بها في شرح حديث جابر (¬1) قوله: (ولمسلمٍ عن عبد الله بن مسعودٍ , قال: حبس المشركون) تقدم الحديث عنه ضمن حديث عليٍ قبله. ¬

_ (¬1) انظر حديثه برقم (61)

الحديث السابع

الحديث السابع 56 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: أعتمَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء , فخرج عمر , فقال: الصّلاة , يا رسولَ الله. رقد النّساء والصّبيان. فخرج ورأسه يقطر يقول: لولا أن أشقّ على أمّتي , أو على النّاس لأمرتهم بهذه الصّلاة هذه السّاعة. (¬1) قوله: (أعتم) (¬2) أي: دخل في وقت العتمة، ويطلق أعتم بمعنى أخّر , لكنّ الأوّل هنا أظهر , وللبخاري عن أنس قال: أخّر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل. واستدل بذلك على فضل تأخير صلاة العشاء، ولا يعارض ذلك فضيلة أوّل الوقت لِمَا في الانتظار من الفضل. لكن قال ابن بطّالٍ: ولا يصلح ذلك الآن للأئمّة , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتّخفيف , وقال " إنّ فيهم الضّعيف وذا الحاجة " فترك التّطويل عليهم في الانتظار أولى. قلت: وقد روى أحمد وأبو داود والنّسائيّ وابن خزيمة وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدريّ: صلَّينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العتمة، فلم يخرج حتّى مضى نحوٌ من شطر الليل , فقال: إنّ النّاس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنّكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (545 , 6812) ومسلم (642) من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس به. (¬2) انظر حديث أبي برزة - رضي الله عنه - المتقدّم رقم (53)

الصّلاة، ولولا ضعف الضّعيف وسقم السّقيم وحاجة ذي الحاجة لأخّرت هذه الصّلاة إلى شطر الليل. وللتّرمذيّ وصحَّحه من حديث أبي هريرة: لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم أن يؤخّروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه. فعلى هذا , من وجد به قوّةً على تأخيرها , ولَم يغلبه النّوم , ولَم يشقّ على أحدٍ من المأمومين فالتّأخير في حقّه أفضل. وقد قرّر النّوويّ ذلك في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشّافعيّة وغيرهم، والله أعلم. ونقل ابن المنذر عن الليث وإسحاق, أنّ المستحبّ تأخير العشاء إلى قبل الثّلث. وقال الطّحاويّ: يستحبّ إلى الثّلث، وبه قال مالكٌ وأحمد وأكثر الصّحابة والتّابعين، وهو قول الشّافعيّ في الجديد. وقال في القديم: التّعجيل أفضل، وكذا قال في الإملاء , وصحَّحه النّوويّ وجماعةٌ. وقالوا: إنّه ممّا يفتى به على القديم. وتعقّب: بأنّه ذكره في الإملاء وهو من كتبه الجديدة، والمختار من حيث الدّليل أفضليّة التّأخير، ومن حيث النّظر التّفصيل، والله أعلم قوله: (الصلاة) وهي بالنّصب بفعلٍ مضمرٍ تقديره مثلاً صلِّ الصّلاة، وساغ هذا الحذف لدلالة السّياق عليه. قوله: (رقد النساء والصبيان) أي: الحاضرون في المسجد، وإنّما خصّهم بذلك لأنّهم مظنّة قلة الصّبر عن النّوم، ومحلّ الشّفقة والرّحمة

، بخلاف الرّجال. وللبخاري " حتى رقد الناس واستيقظوا , ورقدوا واستيقظوا ". وللبخاري نحوه عن ابن عمر , وهو محمول على أنّ الذي رقد بعضهم لا كلّهم، ونسب الرّقاد إلى الجميع مجازاً. واستدل به من ذهب إلى أنّ النّوم لا ينقض الوضوء. ولا دلالة فيه لاحتمال أن يكون الرّاقد منهم كان قاعداً متمكّناً، أو لاحتمال أن يكون مضطجعاً لكنّه توضّأ وإن لَم ينقل، اكتفاءً بما عرف من أنّهم لا يصلّون على غير وضوءٍ. قال المُهلَّب (¬1): وقد أجمعوا على أنَّ النوم القليل لا ينقض الوضوء، وخالف الْمُزني فقال: ينقض قليله وكثيره. فخرق الإجماع. كذا قال المُهلَّب، وتبعه ابن بطال وابن التين وغيرهما. وقد تحاملوا على المزني في هذه الدعوى، فقد نقل ابن المنذر وغيره عن بعض الصحابة والتابعين المصير إلى أنَّ النوم حَدَثٌ ينقض قليله وكثيره، وهو قول أبي عبيد وإسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر: وبه أقول لعموم حديث صفوان بن عسال. يعني الذي صحَّحه ابن خزيمة وغيره، ففيه " إلاَّ من غائط أو بول أو نوم " (¬2) فيسوي بينهما في الحكم، والمراد بقليله وكثيره طول زمانه ¬

_ (¬1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12). (¬2) وتمامه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنَّ , إلاَّ من جنابة , ولكن من غائط وبول ونوم. وأخرجه الترمذي (96) والنسائي (126) وابن ماجة (478) وأحمد (18091) وابن خزيمة (17) وغيرهم. وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقصره لا مباديه. والذين ذهبوا إلى أنَّ النوم مظنة الحدث. اختلفوا على أقوال: التفرقة بين قليله وكثيره. وهو قول الزهري ومالك. وبين المضطجع وغيره. وهو قول الثوري. وبين المضطجع والمستند وغيرهما. وهو قول أصحاب الرأي. وبينهما والساجد بشرط قصده النوم وبين غيرهم. وهو قول أبي يوسف. وقيل: لا ينقض نوم غير القاعد مطلقاً , وهو قول الشافعي في القديم. وعنه التفصيل بين خارج الصلاة فينقض أو داخلها فلا. وفصَّل في الجديد بين القاعد المتمكن. فلا ينقض وبين غيره فينقض. وفي المهذب: وإن وجد منه النوم وهو قاعد ومحل الحدث منه متمكنٌ بالأرض. فالمنصوص أنه لا ينقض وضوءه. وقال في البويطي: ينتقض، وهو اختيار المزني. انتهى. وتعقُّب: بأن لفظ البويطي ليس صريحاً في ذلك. فإنه قال: ومن نام جالساً أو قائماً فرأى رؤيا وجب عليه الوضوء. قال النووي: هذا قابل للتأويل. انتهى وقد صحَّ عن أبي موسى الأشعري وابن عمر وسعيد بن المسيب ,

أنَّ النوم لا ينقض مطلقاً. وفي صحيح مسلم وأبي داود: وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - , فينامون ثم يصلون ولا يتوضئون. فحُمل على أنَّ ذلك كان وهم قعود. لكن في مسند البزار بإسناد صحيح في هذا الحديث " فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة ". (¬1) ¬

_ (¬1) رواية مسلم (376) أخرجها من طريق خالد بن الحارث عن شعبة عن قتادة عن أنس. زاد أبو داود (200) " في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال الشارح في " التلخيص " (1/ 209): ولفظ الترمذي من طريق شعبة: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون , قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس. قال البيهقي: وعلى هذا حمله عبد الرحمن بن مهدي والشافعي. وقال ابن القطان: هذا الحديث سياقه في مسلم يحتمل أن ينزل على نوم الجالس , وعلى ذلك نزله أكثر الناس , لكن فيه زيادة تمنع من ذلك رواها يحيى القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة. رواها قاسم بن أصبغ عن محمد بن عبد السلام الخشني عن بندار محمد بن بشار عنه. وقال ابن دقيق العيد: يحمل هذا على النوم الخفيف , لكن يعارضه رواية الترمذي التي فيها ذكر الغطيط , قال: وروى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن يحيى القطان بسنده , وليس فيه: يضعون جنوبهم , وكذا أخرجه الترمذي عن بندار بدونها , وكذا أخرجه البيهقي من طريق تمام عن بندار , ورواه البزار والخلال من طريق عبد الأعلى عن شعبة عن قتادة. وفيه " فيضعون جنوبهم ". وقال أحمد بن حنبل: لم يقل شعبة قط كانوا يضطجعون. قال وقال هشام: كانوا ينعسون. وقال الخلال: قلت لأحمد حديث شعبة: كانوا يضعون جنوبهم؟ فتبسم , وقال: هذا بمرة يضعون جنوبهم. انتهى. قلت: وقد وقع لابن حجر وهمٌ هنا أثناء تلخيصه , أو أنَّ نسخة التلخيص حصل فيها سقط. فالسياق الصحيح هو ما في أصل الكتاب. البدر المنير (2/ 508) لابن الملقن حيث قال: ورواه الترمذي من حديث يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يقومون ويصلون ولا يتوضئون. ثم قال: حديث حسن. ورواه البيهقي من حديث ابن المبارك ثنا معمر عن قتادة عن أنس , قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون. قال ابن المبارك: هذا .. إلخ. وعليه فنقل ابن حجر كلام ابن دقيق العيد بقوله: لكن يعارضه رواية الترمذي التي فيها ذكر الغطيط. مما يؤكِّد وهم الحافظ رحمه الله. والله أعلم.

قوله: (لأمرتهم بهذه الصّلاة هذه السّاعة) أخرج مسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في بيان أوّل الأوقات وآخرها. وفيه " فإذا صلَّيتم العشاء , فإنّه وقّت إلى نصف الليل ". قال النّوويّ: معناه وقّت لأدائها اختياراً، وأمّا وقت الجواز فيمتدّ إلى طلوع الفجر، لحديث أبي قتادة عند مسلم " إنّما التّفريط على من لَم يصلِّ الصّلاة حتّى يجيء وقت الصّلاة الأخرى ". وقال الإصطخريّ: إذا ذهب نصف الليل صارت قضاءً. قال: ودليل الجمهور حديث أبي قتادة المذكور. قلت: وعموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصّبح، وعلى قول الشّافعيّ الجديد في المغرب , فللإصطخريّ أن يقول إنّه مخصوص بالحديث المذكور وغيره من الأحاديث في العشاء. والله أعلم. وأحاديث التّأخير والتّوقيت لَمّا جاءت مرّةً مقيّدةً بالثّلث وأخرى بالنّصف كان النّصف غاية التّأخير، ولَم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثاً صريحاً يثبت.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 57 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أقيمت الصّلاة , وحضر العشاء , فابدءوا بالعشاء. (¬1) الحديث التاسع 58 - ولمسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها , قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة بحضرة طعامٍ , ولا وهو يدافعه الأخبثان. (¬2) وعن ابن عمر نحوه. (¬3) قوله: (إذا أقيمت الصّلاة) قال ابن دقيق العيد: الألف واللام في " الصّلاة " لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق ولا على تعريف الماهيّة، بل ينبغي أن تحمل على المغرب، لقوله " فابدءوا بالعشاء ". ويترجّح حمله على المغرب , لقوله في الرّواية الأخرى " فابدءوا به قبل أن تصلّوا المغرب " (¬4) والحديث يفسّر بعضه بعضاً، وفي رواية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (640 , 5148) ومسلم (558) من طرق عن هشام بن عروة عن عائشة به. (¬2) أخرجه مسلم (560) من طريق عبد الله بن أبي عتيق عن عائشة به. وفيه قصّة. (¬3) أخرجه البخاري (642 , 5147) ومسلم (559) من طريق نافع عن ابن عمر. وسيأتي لفظه إن شاء الله في الشرح. (¬4) أخرجه البخاري (672) من طريق الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قُدِّم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم. قال ابن حجر في " الفتح " (2/ 160): زاد ابن حبان والطبراني في " الأوسط " من رواية موسى بن أَعين عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب " وأحدكم صائم ". وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بدون هذه الزيادة. وذكَرَ الطبراني أنَّ موسى بن أعْيَن تفرد بها. انتهى. وموسى ثقة متفقٌ عليه. انتهى كلام ابن حجر.

صحيحة " إذا وضع العشاء وأحدكم صائم " انتهى. وقال الفاكهانيّ: ينبغي حمله على العموم نظراً إلى العلة وهي التّشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذِكر المغرب لا يقتضي حصراً فيها لأنّ الجائع غير الصّائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصّائم. انتهى. وحملُه على العموم إنّما هو بالنّطر إلى المعنى إلحاقاً للجائع بالصّائم وللغداء بالعشاء , لا بالنّظر إلى اللفظ الوارد. قوله: (وحضر العشاء) كذا رواه سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة. أخرجه البخاري , وقال بعده: قال يحيى بن سعيد ووهيبٌ عن هشيمٍ: إذا وضع. وقد أخرجه السّرّاج من طريق يحيى بن سعيد الأمويّ عن هشام بن عروة أيضاً , لكنّ لفظه " إذا حضر ". ورواية وهيب وصلها الإسماعيليّ، ورواية يحيى بن سعيد. وصلها البخاري , وأخرجه مسلم من رواية ابن نمير وحفص ووكيع بلفظ " إذا حضر " ووافق كلاً جماعةٌ من الرّواة عن هشام، لكنّ الذين رووه بلفظ " إذا وضع " كما قال الإسماعيليّ أكثر. والفرق بين اللفظين. أنّ الحضور أعمّ من الوضع، فيحمل قوله " حضر " أي: بين يديه لتأتلف الرّوايات لاتّحاد المخرج، ويؤيّده

حديث أنس في البخاري بلفظ " إذا قدّم العشاء " ولمسلمٍ " إذا قرّب العشاء " وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء , لكنّه لَم يقرّب للأكل كما لو لَم يقرّب. قوله: (فابدءوا بالعشاء) حمل الجمهور هذا الأمر على النّدب. ثمّ اختلفوا: فمنهم: من قيّده بمن كان محتاجاً إلى الأكل , وهو المشهور عند الشّافعيّة، وزاد الغزاليّ: ما إذا خشي فساد المأكول. ومنهم: من لَم يقيّده , وهو قول الثّوريّ وأحمد وإسحاق، وعليه يدلّ فعل ابن عمر الآتي. وأفرط ابن حزمٍ. فقال: تبطل الصّلاة. ومنهم: من اختار البداءة بالصّلاة إلاَّ إن كان الطّعام خفيفاً , نقله ابن المنذر عن مالك، وعند أصحابه تفصيل. قالوا: يبدأ بالصّلاة إن لَم يكن متعلق النّفس بالأكل، أو كان متعلقاً به , لكن لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله عن صلاته بدأ بالطّعام واستحبّت له الإعادة. قوله: (وعن ابن عمر نحوه.) ولفظه عندهما مرفوعاً " إذا وضع عشاء أحدكم , وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء , ولا يعجل حتى يفرغ منه " , زاد البخاري: وكان ابن عمر: يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام. وقوله: " إذا وضع عشاء أحدكم " هذا أخصّ من الرّواية الماضية

حيث قال " إذا وضع العشاء " فيُحمل العَشاء في تلك الرّواية على عشاء من يريد الصّلاة، فلو وضع عشاء غيره لَم يدخل في ذلك. ويحتمل: أن يقال بالنّظر إلى المعنى: لو كان جائعاً واشتغل خاطره بطعام غيره كان كذلك، وسبيله أن ينتقل عن ذلك المكان أو يتناول مأكولاً يزيل شغل باله ليدخل في الصّلاة وقلبه فارغٌ. ويؤيّد هذا الاحتمال. عموم قوله في رواية مسلم من طريق أخرى عن عائشة: لا صلاة بحضرة طعامٍ. الحديث، وقول أبي الدّرداء: من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ. (¬1) قوله: (ولا يعجل) أي: أحدكم المذكور أوّلاً. وقال الطّيبيّ: أفرد قوله " يعجل " نظراً إلى لفظ أحدٍ، وجمع قوله " فابدءوا " نظراً إلى لفظ كم، وقال: والمعنى إذا وضع عشاء أحدكم فابدءوا أنتم بالعشاء , ولا يعجل هو حتّى يفرغ معكم منه. انتهى. قوله: (وكان ابن عمر) هو موصول عطفاً على المرفوع، وقد رواه السّرّاج من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع , فذكر المرفوع , ثمّ قال: قال نافع: وكان ابن عمر إذا حضر عشاؤه وسمع الإقامة وقراءة الإمام لَم يقم حتّى يفرغ. ورواه ابن حبّان من طريق ابن جريجٍ عن نافع , أنّ ابن عمر كان ¬

_ (¬1) ذكره البخاري معلَّقاً في " باب إذا حضر الطعام , وإقيمت الصلاة " قال الحافظ في " الفتح " (2/ 420): وصله ابن المبارك في " كتاب الزهد ". وأخرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب تعظيم قدر الصلاة " من طريقه.

يُصلِّي المغرب إذا غابت الشّمس , وكان أحياناً يلقاه وهو صائم , فيقدّم له عشاؤه , وقد نودي للصّلاة , ثمّ تقام وهو يسمع فلا يترك عشاءه، ولا يعجل حتّى يقضي عشاءه، ثمّ يخرج فيصلي " انتهى. وهذا أصرح ما ورد عنه في ذلك. قوله: (وإنّه يسمع) في رواية الكشميهنيّ " وإنّه ليسمع " بزيادة لام التّأكيد في أوّله. قال النّوويّ: في هذه الأحاديث كراهة الصّلاة بحضرة الطّعام الذي يريد أكله، لِمَا فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويلتحق به ما في معناه ممّا يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعةٌ، فإن ضاق صلَّى على حاله محافظةً على حرمة الوقت ولا يجوز التّأخير، وحكى المتولي وجهاً أنّه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت، لأنّ مقصود الصّلاة الخشوع فلا يفوته. انتهى. وهذا إنّما يجيء على قول من يوجب الخشوع، ثمّ فيه نظرٌ , لأنّ المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفّهما، وخروج الوقت أشدّ من ترك الخشوع بدليل صلاة الخوف والغريق وغير ذلك، وإذا صلَّى لمحافظة الوقت صحّت مع الكراهة , وتستحبّ الإعادة عند الجمهور. وادّعى ابن حزمٍ: أنّ في الحديث دلالةً على امتداد الوقت في حقّ من وضع له الطّعام ولو خرج الوقت المحدود، وقال مثل ذلك في حقّ النّائم والنّاسي.

واستدل النّوويّ وغيره بحديث أنس على امتداد وقت المغرب. واعترضه ابن دقيق العيد: بأنّه إن أريد بذلك التّوسعة إلى غروب الشّفق ففيه نظرٌ، وإن أريد به مطلق التّوسعة فمسلمٌ , ولكن ليس محل الخلاف المشهور، فإنّ بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله مقدّراً بزمنٍ يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيماتٍ يكسر بها سَورة الجوع. واستدل به القرطبيّ , على أنّ شهود صلاة الجماعة ليس بواجبٍ، لأنّ ظاهره أنّه يشتغل بالأكل وإن فاتته الصّلاة في الجماعة. وفيه نظرٌ , لأنّ بعض من ذهب إلى الوجوب كابن حبّان جعل حضور الطّعام عذراً في ترك الجماعة , فلا دليل فيه حينئذٍ على إسقاط الوجوب مطلقاً. وفيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصّلاة على فضيلة أوّل الوقت. واستدل بعض الشّافعيّة والحنابلة بقوله " فابدءوا " على تخصيص ذلك بمن لَم يشرع في الأكل، وأمّا من شرع ثمّ أقيمت الصّلاة فلا يتمادى بل يقوم إلى الصّلاة. قال النّوويّ: وصنيع ابن عمر يبطل ذلك، وهو الصّواب. وتعقّب: بأنّ صنيع ابن عمر اختيار له , وإلا فالنّظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه، لأنّه يكون قد أخذ من الطّعام ما دفع شغل البال به. ويؤيّد ذلك حديث عمرو بن أُميَّة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل

ذراعاً يحتز منها، فدعي إلى الصلاة، فقام، فطرح السكين، فصلَّى ولَم يتوضأ. (¬1) وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسنادٍ حسن عن أبي هريرة وابن عبّاس , أنّهما كانا يأكلان طعاماً - وفي التّنّور شواءٌ - فأراد المؤذّن أن يقيم , فقال له ابن عبّاس: لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيءٌ. وفي رواية ابن أبي شيبة " لئلا يعرض لنا في صلاتنا ". وله عن الحسن بن عليّ قال: العشاء قبل الصّلاة يذهب النّفس اللوّامة. وفي هذا كلّه إشارة إلى أنّ العلة في ذلك تشوّف النّفس إلى الطّعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجوداً وعدماً ولا يتقيّد بكلٍّ ولا بعضٍ. ويستثنى من ذلك الصّائم فلا تكره صلاته بحضرة الطّعام، إذ الممتنع بالشّرع لا يشغل العاقل نفسه به، لكن إذا غلب استحبّ له التّحوّل من ذلك المكان. فائدتان: الأولى: قال ابن الجوزيّ: ظنّ قومٌ أنّ هذا من باب تقديم حقّ العبد على حقّ الله، وليس كذلك، وإنّما هو صيانةً لحقّ الحقّ ليدخل الخلق في عبادته بقلوبٍ مقبلةٍ. ثمّ إنّ طعام القوم كان شيئاً يسيراً لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (208) ومسلم (355).

يقطع عن لحاق الجماعة غالباً. الثّانية: ما يقع في بعض كتب الفقه " إذا حضر العشاء والعشاء فابدءوا بالعشاء " لا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، كذا في شرح التّرمذيّ لشيخنا أبي الفضل. لكن رأيت بخطّ الحافظ قطب الدّين , أنّ ابن أبي شيبة أخرج عن إسماعيل - وهو ابن عليّة - عن ابن إسحاق قال: حدّثني عبد الله بن رافع عن أمّ سلمة مرفوعاً " إذا حضر العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء ". فإن كان ضبطه فذاك، وإلاَّ فقد رواه أحمد في " مسنده " عن إسماعيل بلفظ " وحضرت الصّلاة " ثمّ راجعت مصنّف ابن أبي شيبة فرأيت الحديث فيه كما أخرجه أحمد، والله أعلم. تكميلٌ: روى البيهقيّ بإسنادٍ صحيحٍ عن مجاهدٍ قال: كان ابن الزّبير إذا قام في الصّلاة كأنّه عودٌ , وحدّث أنّ أبا بكر الصّدّيق كان كذلك. قال: وكان يقال: ذاك الخشوع في الصّلاة. والخشوع تارةً يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسّكون , وقيل: لا بدّ من اعتبارهما. حكاه الفخر الرّازيّ في " تفسيره ". وقال غيره: هو معنىً يقوم بالنّفس يظهر عنه سكونٌ في الأطراف

يلائم مقصود العبادة. ويدلّ على أنّه من عمل القلب حديث (¬1) عليّ: الخشوع في القلب. أخرجه الحاكم. وأمّا حديث " لو خشع هذا خشعت جوارحه " (¬2) ففيه إشارةٌ إلى أنّ الظّاهر عنوان الباطن. واستدلّ بحديث أنس عند البخاري , أنَّ النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أقيموا الرّكوع والسّجود، فوالله إنّى لأراكم من بعدى , وربّما قال: من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم. على أنّ الخشوع لا يجب إذ لَم يأمرهم بالإعادة. وفيه نظرٌ. نعم. في حديث أبي هريرة عند مسلم: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ثمّ انصرف , فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك. وله في روايةٍ أخرى " أتمّوا الرّكوع والسّجود " وفي أخرى " أقيموا الصّفوف " وفي أخرى " لا تسبقوني بالرّكوع ولا بالسّجود ". وعند أحمد " صلَّى بنا الظّهر وفي مؤخّر الصّفوف رجلٌ فأساء ¬

_ (¬1) قوله (حديث) تجوّز من الشارح يُوهم أنه مرفوع , وليس كذلك بل هو من قول عليٍّ - رضي الله عنه - موقوفاً. كما في المصادر التي أخرجت قوله - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة كما في الجامع للسيوطي (16945) , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة , فقال. فذكره. وفي سنده عمرو بن سليمان النخعي. متفق على ضعفه. والمشهور أنه عن سعيد بن المسيب. أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 86) وابن المبارك في " الزهد " (1188) وابن نصر في " تعظيم قدر الصلاة " (151) عن معمر عن رجلٍ عن ابن المسيب .. وسمَّاه عبد الرزاق في " المصنف " (2/ 266) فقال: عن معمر عن أبان به. ورواه عبد الرزاق أيضاً (2/ 266) عن الثوري عن رجلٍ قال: رآني ابن المسيب. فذكره.

الصّلاة. وعنده من حديث أبي سعيد الخدريّ , أنّ بعض الصّحابة تعمّد المسابقة لينظر هل يعلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لا؟ , فلمّا قضى الصّلاة نهاه عن ذلك. واختلاف هذه الأسباب يدلّ على أنّ جميع ذلك صدر من جماعةٍ في صلاةٍ واحدةٍ أو في صلوات. وقد حكى النّوويّ الإجماع على أنّ الخشوع ليس بواجب. ولا يرِدُ عليه قول القاضي حسين: إنّ مدافعة الأخبثين إذا انتهت إلى حدٍّ يذهب معه الخشوع أبطلت الصّلاة، وقاله أيضًا أبو زيد المروزيّ، لجواز أن يكون بعد الإجماع السّابق , أو المراد بالإجماع أنّه لَم يصرّح أحدٌ بوجوبه، وكلاهما في أمرٍ يحصل من مجموع المدافعة وترك الخشوع. وفيه تعقّبٌ على من نسب إلى القاضي وأبي زيد أنّهما قالا: إنّ الخشوع شرط في صحّة الصّلاة، وقد حكاه المحبّ الطّبريّ , وقال: هو محمولٌ على أن يحصل في الصّلاة في الجملة لا في جميعها، والخلاف في ذلك عند الحنابلة أيضًا. وأمّا قول ابن بطّالٍ: فإن قال قائل فإنّ الخشوع فرضٌ في الصّلاة، قيل له بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيّته يريد بذلك وجه الله - عزّ وجلّ - ولا طاقة له بما اعترضه من الخواطر. فحاصل كلامه: أنّ القدر المذكور هو الّذي يجب من الخشوع، وما زاد على ذلك فلا.

وأنكر ابن المنير إطلاق الفرضيّة. وقال: الصّواب أنّ عدم الخشوع تابعٌ لِمَا يظهر عنه من الآثار وهو أمرٌ متفاوتٌ، فإن أثّر نقصًا في الواجبات كان حرامًا , وكان الخشوع واجبًا , وإلِّا فلا. قوله: (ولمسلم عن عائشة .... لا صلاة بحضرة طعام) تقدمت مباحثه في الحديث قبله وقوله: (ولا وهو يدافعه الأخبثان) (¬1) ¬

_ (¬1) لَم أر كلاماً لابن حجر عن هذه العبارة لتفرّد مسلم بهذه الرواية دون البخاري. قال ابن الملقّن رحمه الله في كتابه (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام) (2/ 301): الكلامُ عليه من وجوه. أحدها: (الأخبثان): الغائط والبول , وقد ورد مصرحاً به في بعض الأحاديث. ثانيها: تقدم الكلام في الحديث قبله على حكم الصلاة بحضرة الطعام. ثالثها: اختلف العلماء كما قال صاحب القبس: في عِلَّة النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين. فقيل: علته عدم الخشوع والإقبال على أفعال الصلاة. وقيل: علته أنه انصبَّ للخروج , فإذا حقنه فكأنه حبسه في ثوبه. وقيل: إذا حَقَنَه كأنه نقض طهارته فيكون مصلياً بغير طهارة. وهذا بعيد كما قاله الشيخ تقي الدين: لأنه إحداث سبب آخر في النواقض من غير دليل صريح فيه , فإن استند في ذلك إلى هذا الحديث فليس بصريح فيما ذكره , وإنما غايته أن يكون مناسباً أو محتملاً. رابعها: ظاهر الحديث أنَّ المعتبر مدافعة الأخبثين معاً لا أحدهما , وليس كذلك بل كلُّ واحدٍ منهما مُستقل بالكراهة لحديث عبدالله بن أرقم: أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة " رواه مالك وغيره , وإن كان الغائط لا ينفك عن البول غالباً , فإنه قد لا يدافعه معه لحقنه. قال الشيخ تقي الدين: ومدافعة الأخبثين. إما أن تؤدي إلى الإخلال بركن أو شرط أو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لا , فإن أدَّت امتنع الدخول , فإن دخل واختلاّ فسدت , وإن لَم يؤد إلى ذلك , فالمشهور فيه الكراهة. ونقل عن مالك: أنَّ ذلك مؤثّر في الصلاة بشرط شغله عنها , وأنه قال: يعيد في الوقت وبعده , وتأوَّله بعض أصحابه على أنه شغله حتى إنه لا يدري كيف صلَّى فهو الذي يعيد قبل وبعد , وإلاّ فإن كان خفيفاُ فهو الذي يعيد في الوقت. قال القاضي عياض: وكلهم مجمعون على أنه إن بلغ به ما لا يعقل به صلاته , ولا يضبط حدودها أنه لا يجوز له الدخول فيها , وأنه يقطع الصلاة وإنْ أصابه ذلك فيها , قال: وهذا الذي قدمناه في التأويل. وكلام القاضي فيه بعض احتمال. والتحقيق: ما أشرنا إليه أولاً , لأنه إن منع من ركن أو شرط امتنع الدخول , وفسدت باختلالهما , وإلاّ فهو مكروه إن نُظر إلى المعنى , أو ممتنع إن نُظر إلى ظاهر النهي فلا يقتضي ذلك الإعادة على مذهب الشافعي. وأما ما ذكره من التأويل: في أنه لا يدري كيف صلَّى , وما قاله القاضي: إن بلغ به ما لا يعقل صلاته , فإن أريد بذلك الشكَّ في شيء من الأركان فحكمه حكم من شك في ذلك بغير هذا السبب - وهو البناء على اليقين - وإن أريد به أنه يذهب خشوعه بالكلية فحكمه حكم من صلَّى بغير خشوع , ومذهب جمهور الأمة أنَّ ذلك لا يبطل الصلاة. قلت: ولأَصحابنا وجه ببطلانها , وحكاه أبو عبد الله بن خفيف قولاً عن الشافعي , أفاده عنه ابن العطار , ثم استغربه جدّا. وهو كما ذكر. ثم بحث الشيخ تقي الدين مع القاضي في قوله: لا يضبط حدودها بذلك أيضاً. قال: وهذا الذي ذكرناه إنما هو بالنسبة إلى اعادة الصلاة , وأما بالنسبة إلى جواز الدخول فيها فقد يقال: إنه لا يجوز له أن يدخل في صلاةٍ لا يتمكن فيها ذكر إقامة أركانها وشرائطها. فتلخص أنَّ لمدافع الأخبثين أربعة أحوال. الحالة الأولى: أن يكون بحيث لا يعقل بسببهما الصلاة وضبط حدودها , فلا تحل له الصلاة ولا الدخول فيها إجماعاً. الحالة الثانية: أن يكون بحيث يعقلها مع ذهاب خشوعه بالكلية. الحالة الثالثة: أن يكون بحيث يؤدي إلى الإخلال بركنٍ أو شرطٍ. الحالة الرابعة: أن يكون بحيث يؤدي إلى الشك في شيء من الأركان , وقد عرفت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حكم ذلك. خامسها: يُلحق بالأخبثين ما في معناهما مما يشغل القلب , ويذهب كمال الخشوع كما ألحق بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقضي القاضي وهو غضبان " ما في معناه من الجوع المؤلم , والعطش الشديد , والغم , والفرح , ونحو ذلك. سادسها: هذه الكراهة عند جمهور أصحابنا وغيرهم إذا صلَّى كذلك , وفي الوقت سعة , فإن ضاق بحيث لو أكل أو تطهَّر خرج الوقت. صلَّى على حالته محافظةً على حرمة الوقت , ولا يجوز تأخيرها. وفي وجهٍ شاذٍ: أنه لا يُصلِّي بحاله , بل يأكل ويتوضأ وإن خرج الوقت , لأن مقصودها الخشوع فلا يفوت , وإذا صلَّى على حاله وفي الوقت سعة فقد ارتكب المكروه , وصلاته صحيحة عند الجمهور , لكن يستحب إعادتها ولا يجب , خلافاً لأهل الظاهر كما سبق عنهم في حضرة الطعام أيضاً. سابعها: لو لَم يحضره الطعام , ونفسه تتوق إليه فالحكم فيه كما لو حضره , لوجود المعنى وهو ترك الخشوع. قال الشيخ تقي الدين: والتحقيق أنَّ الطعام إذا لَم يحضر , فإن تيسر حضوره عن قرب فلا يبعد أن يكون كالحاضره , والاَّ فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر؛ فإنَّ حضور الطعام يوجب زيادة تشوق وتطلّع إليه , وهذه الزيادة يمكن أن يكون اعتبرها الشارع في تقديم الطعام على الصلاة , فلا ينبغي أن يلحق بها ما لا يساويها للقاعدة الأصولية. أنَّ محلَّ النص إذا اشتمل على وصفٍ يمكن أن يكون معتبراً لَم يلغ. انتهى

الحديث العاشر

الحديث العاشر 59 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - قال: شهد عندي رجالٌ مرضيّون وأرضاهم عندي عمر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الصّلاة بعد الصّبح حتّى تطلع الشّمس , وبعد العصر حتّى تغرب. (¬1) الحديث الحادي عشر 60 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: لا صلاة بعد الصّبح حتّى ترتفع الشّمس , ولا صلاة بعد العصر حتّى تغيب الشّمس (¬2) قال المصنف: وفي الباب عن عليّ بن أبي طالبٍ، وعبد الله بن مسعودٍ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابتٍ ومعاذ بن جبلٍ، ومعاذ بن عفراء، وكعب بن مرّة، وأبي أُمامة الباهليّ، وعمرو بن عبسة السلميّ، وعائشة - رضي الله عنهم -، والصّنابحيّ، ولَم يسمع من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (556 , 557) ومسلم (826) من طرق عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس به. (¬2) أخرجه البخاري (561) ومسلم (827) من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد به. ورواه البخاري (1139) من وجه آخر عن قزعة عن أبي سعيد نحوه. وزاد فيه " شد الرحال. والنهي عن سفر المرأة بلا محرم ".

قوله: (عن عبد الله بن عبّاسٍ) تقدمت ترجمته. (¬1) قوله: (شهد عندي) أي: أعلمني أو أخبرني، ولَم يرد شهادة الحكم. قوله: (مرضيّون) أي: لا شكّ في صدقهم ودينهم، وفي رواية الإسماعيليّ من طريق يزيد بن زريعٍ عن هشامٍ عن قتادة " شهد عندي رجال مرضيّون فيهم عمر " , وله من رواية شعبة عن قتادة " حدّثني رجال أحبّهم إليّ عمر ". وللبخاري عن مسدد عن يحيى عن شعبة " حدثني ناس بهذا " أي: بهذا الحديث بمعناه، فإنّ مسدّداً رواه في " مسنده ". ومن طريقه البيهقيّ. ولفظه " حدّثني ناس أعجبهم إليّ عمر. وقال فيه " حتّى تطلع الشّمس ". ووقع في التّرمذيّ عنه: سمعت غير واحد من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر، وكان من أحبّهم إليّ. (¬2) قوله: (بعد الصّبح) أي: بعد صلاة الصّبح لأنّه لا جائز أن يكون الحكم فيه مُعلَّقاً بالوقت، إذ لا بدّ من أداء الصّبح، فتعيّن التّقدير المذكور. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث معمول به عند فقهاء الأمصار، وخالف بعض المتقدّمين وبعض الظّاهريّة من بعض الوجوه. ¬

_ (¬1) انظر حديث رقم (18). (¬2) وهي عند مسلم أيضاً (826) من رواية منصور عن قتادة به.

قوله: (حتّى تشرق) بضمّ أوّله من أشرق، يقال أشرقت الشّمس ارتفعت وأضاءت، ويؤيّده حديث أبي سعيد الآتي بعده بلفظ " حتّى ترتفع الشّمس ". ويروى بفتح أوّله وضمّ ثالثه بوزن تَغْرُب. يقال: شرقت الشّمس. أي: طلعت، ويؤيّده رواية البيهقيّ من طريقٍ أخرى عن ابن عمر (¬1) - شيخ البخاريّ فيه - بلفظ " حتّى تشرق الشّمس أو تطلع " على الشّكّ. وقد ذكرنا أنّ في رواية مسدّدٍ " حتّى تطلع الشّمس " بغير شكٍّ، وكذا هو في حديث أبي هريرة عند البخاري بلفظ " حتّى تطلع الشّمس " بالجزم. ويُجمع بين الحديثين بأنّ المراد بالطّلوع طلوع مخصوص، أي: حتّى تطلع مرتفعة. قال النّوويّ: أجمعت الأمّة على كراهة صلاة لا سبب لها في الأوقات المنهيّ عنها، واتّفقوا على جواز الفرائض المؤدّاة فيها. واختلفوا في النّوافل التي لها سبب كصلاة تحيّة المسجد وسجود التّلاوة والشّكر وصلاة العيد والكسوف وصلاة الجنازة وقضاء الفائتة. القول الأول: ذهب الشّافعيّ وطائفة إلى جواز ذلك كلّه بلا ¬

_ (¬1) أي: حفص بن عمر الحوضي.

كراهة. القول الثاني: ذهب أبو حنيفة وآخرون إلى أنّ ذلك داخل في عموم النّهي. واحتجّ الشّافعيّ بأنّه - صلى الله عليه وسلم - قضى سنّة الظّهر بعد العصر. (¬1) وهو صريح في قضاء السّنّة الفائتة فالحاضرة أولى والفريضة المقضيّة أولى، ويلتحق ما له سبب. انتهى قلت: وما نقله من الإجماع والاتّفاق متعقّبٌ. فقد حكى غيره عن طائفة من السّلف الإباحة مطلقاً , وأنّ أحاديث النّهي منسوخة، وبه قال داود وغيره من أهل الظّاهر، وبذلك جزم ابن حزمٍ. وعن طائفة أخرى المنع مطلقاً في جميع الصّلوات، وصحّ عن أبي بكرة وكعب بن عُجْرة المنع من صلاة الفرض في هذه الأوقات. وما ادّعاه ابن حزمٍ وغيره من النّسخ مستنداً إلى حديث " من أدرك من الصّبح ركعة قبل أن تطلع الشّمس فليصل إليها أخرى " فدلَّ على إباحة الصّلاة في الأوقات المنهيّة. انتهى. وقال غيرهم: ادّعاء التّخصيص أولى من ادّعاء النّسخ. فيُحمل النّهي على ما لا سبب له، ويخصّ منه ما له سبب جمعاً بين الأدلة (¬2)، ¬

_ (¬1) متفق عليه. وسيأتي الكلام عليه في شرح الحديث الذي بعده. (¬2) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 78): هذا القول هو أصحُّ الأقوال , وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتن عن أحمد , واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم , وبه تجتمع الأدلّة.

والله أعلم. وقال البيضاويّ (¬1): اختلفوا في جواز الصّلاة بعد الصّبح والعصر وعند الطّلوع والغروب وعند الاستواء، فذهب داود إلى الجواز مطلقاً , وكأنّه حمل النّهي على التّنزيه. قلت: بل المحكيّ عنه أنّه ادّعى النّسخ كما تقدّم. قال (¬2): وقال الشّافعيّ: تجوز الفرائض وما له سبب من النّوافل. وقال أبو حنيفة: يحرم الجميع سوى عصر يومه، وتحرم المنذورة أيضاً. وقال مالك: تحرم النّوافل دون الفرائض، ووافقه أحمد، لكنّه استثنى ركعتي الطّواف. وحكى آخرون الإجماع على جواز صلاة الجنازة في الأوقات المكروهة. وهو مُتعقّب. فروى سعيد بن منصور من طريق أيّوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عن الجنازة بعد صلاة الصّبح وبعد صلاة العصر يقول: ما صلّيتا لوقتهما " وما في قوله " ما صلّيتا " ظرفيّة. يدلّ عليه رواية مالك عن نافع قال: كان ابن عمر يُصلِّي على الجنازة بعد الصّبح والعصر إذا صلّيتا لوقتهما. ومقتضاه أنّهما إذا أخّرتا إلى وقت الكراهة عنده لا يُصلَّى عليها حينئذٍ. ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي , سبق ترجمته (1/ 191) (¬2) أي: البيضاوي.

ويبيّن ذلك ما رواه مالك أيضاً عن محمّد بن أبي حرملة , أنّ ابن عمر قال وقد أتي بجنازةٍ بعد صلاة الصّبح بغلسٍ: إمّا أن تصلّوا عليها , وإمّا أن تتركوها حتّى ترتفع الشّمس. فكأنّ ابن عمر يرى اختصاص الكراهة بما عند طلوع الشّمس وعند غروبها لا مطلق ما بين الصّلاة وطلوع الشّمس أو غروبها. وروى ابن أبي شيبة من طريق ميمون بن مهران قال: كان ابن عمر يكره الصّلاة على الجنازة إذا طلعت الشّمس وحين تغرب. وإلى قول ابن عمر في ذلك , ذهب مالك والأوزاعيّ والكوفيّون وأحمد وإسحاق. تنبيهٌ: لَم يقع لنا تسمية الرّجال المرضيّين الذين حدّثوا ابن عبّاس بهذا الحديث، وبلغني أنّ بعض من تكلم على العمدة تجاسر , وزعم أنّهم المذكورون فيها عند قول مصنّفها: وفي الباب عن فلان وفلان. ولقد أخطأ هذا المتجاسر خطأً بيّناً. فلا حول ولا قوّة إلاَّ بالله. قوله في الحديث الثاني: (عن أبي سعيد الْخُدري) هو سعد بن مالك بن سنان. (¬1) ¬

_ (¬1) بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ، مشهور بكنيته، استصغر بأحد، واستشهد أبوه بها وغزا هو ما بعدها. وروى ابن سعد من طريق حنظلة بن سفيان الجمحيّ عن أشياخه، قال: لم يكنْ أحدٌ من أحداث أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أفقه من أبي سعيد الخدريّ. ومن طريق يزيد بن عبد اللَّه بن الشّخّير، قال: خرج أبو سعيد يوم الحرّة فدخل غاراً فدخل عليه شاميّ، فقال: اخرج، فقال: لا أخرج. وإنْ تدخل عليّ أقتلك، فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف. وقال: بؤ بإثمك. قال: أنت أبو سعيد الخدريّ؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي. وقال شعبة عن أبي سلمة: سمعت أبا نضرة، عن أبي سعيد رفعه: لا يمنعن أحدكم مخافة النّاس أنّ يتكلّم بالحقّ إذا رآه أو علمه " قال أبو سعيد: فحملني ذلك على أنْ ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت. وروى عليّ بن الجعد. عن أبي سعيد قال: تحدَّثوا، فإنَّ الحديث يهيج الحديث. قال الواقديّ: مات سنة 74. وقيل 64. وقال المدائني: مات سنة 63. وقال العسكريّ: مات سنة 65. من الإصابة (3/ 65) بتجوز

قوله: (لا صلاة) قال ابن دقيق العيد: صيغة النّفي في ألفاظ الشّارع. إذا دخلتْ على فعلٍ كان الأولى حملها على نفي الفعل الشّرعيّ لا الحسّيّ، لأنّا لو حملناه على نفي الفعل الحسّيّ لاحتجنا في تصحيحه إلى إضمار، والأصل عدمه. وإذا حملناه على الشّرعيّ لَم نحتج إلى إضمار، فهذا وجه الأولويّة. وعلى هذا فهو نفيٌ بمعنى النّهي، والتّقدير لا تصلّوا. وحكى أبو الفتح اليعمريّ عن جماعة من السّلف أنّهم قالوا: إنّ النّهي عن الصّلاة بعد الصّبح وبعد العصر إنّما هو إعلام بأنّهما لا يتطوّع بعدهما، ولَم يقصد الوقت بالنّهي كما قصد به وقت الطّلوع ووقت الغروب. ويؤيّد ذلك ما رواه أبو داود والنّسائيّ بإسنادٍ حسن عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تصلّوا بعد الصّبح ولا بعد العصر، إلاَّ أن تكون الشّمس نقيّةً. وفي رواية: مرتفعة. فدلَّ على أنّ المراد بالبعديّة ليس على عمومه، وإنّما المراد وقت الطّلوع ووقت الغروب ما قاربهما. والله أعلم

قوله: (لا صلاة بعد الصّبح) أي: بعد صلاة الصّبح، وصرّح به مسلمٌ من هذا الوجه في الموضعين تكميلٌ: أخرج الشيخان عن ابن عمر , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها. اختلف أهل العلم في المراد بذلك. القول الأول: منهم من جعله تفسيراً للحديث السّابق ومبيّناً للمراد به. فقال: لا تُكره الصّلاة بعد الصّبح ولا بعد العصر إلاَّ لمن قصد بصلاته طلوع الشّمس وغروبها، وإلى ذلك جنح بعض أهل الظّاهر , وقوّاه ابن المنذر , واحتجّ له. وقد روى مسلم من طريق طاوسٍ عن عائشة قالت: وهِمَ عمر، إنّما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ يتحرّى طلوع الشّمس وغروبها. وأخرج البخاري من قول ابن عمر أيضاً ما يدلّ على ذلك. قال: أصلّى كما رأيت أصحابى يصلّون، لا أنهى أحدًا يُصلِّي بليلٍ ولا نهارٍ ما شاء، غير أن لا تحرّوا طلوع الشّمس ولا غروبها. وربّما قوّى ذلك بعضهم بحديث " من أدرك ركعة من الصّبح قبل أن تطلع الشّمس فليضف إليها الأخرى " (¬1) فأمر بالصّلاة حينئذٍ، ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (531) ومسلم (608) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: إذا أدرك أحدكم سجدةً من صلاة العصر قبل أنْ تغربَ الشمس فليتم صلاته , وإذا أدرك سجدةً من صلاة الصبح قبل أنْ تطلعَ الشمس فليتمّ صلاته. ولأحمد (2/ 347) وابن خزيمة (986) وابن حبان (1581) من وجه آخر مرفوعاً: من أدرك ركعة قبل أنْ تطلعَ الشمسُ ثم طلعتِ الشمس فليصلِّ إليها أخرى.

فدلَّ على أنّ الكراهة مختصّة بمن قصد الصّلاة في ذلك الوقت لا من وقع له ذلك اتّفاقاً. القول الثاني: منهم من جعله نهياً مستقلاً، وكره الصّلاة في تلك الأوقات سواء قصد لها أم لَم يقصد، وهو قول الأكثر. قال البيهقيّ: إنّما قالت ذلك عائشة لأنّها رأت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي بعد العصر، فحملت نهيه على من قصد ذلك لا على الإطلاق. وقد أجيب عن هذا: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما صلَّى حينئذٍ قضاء، وأمّا النّهي فهو ثابت من طريق جماعة من الصّحابة غير عمر - رضي الله عنه - فلا اختصاص له بالوهم. والله أعلم فوائد: الفائدة الأولى: مُحصّل ما ورد من الأخبار في تعيين الأوقات التي تُكره فيها الصّلاة , أنّها خمسة: الأول: عند طلوع الشّمس. الثاني: عند غروبها، الثالث: بعد صلاة الصّبح، الرابع: بعد صلاة العصر، الخامس: عند الاستواء. وترجع بالتّحقيق إلى ثلاثة: من بعد صلاة الصّبح إلى أن ترتفع الشّمس، فيدخل فيه الصّلاة عند طلوع الشّمس، وكذا من صلاة العصر إلى أن تغرب الشّمس. ولا يعكّر على ذلك أنّ من لَم يصلِّ الصّبح مثلاً حتّى بزغت الشّمس يكره له التّنفّل حينئذٍ , لأنّ الكلام إنّما هو جارٍ على الغالب المعتاد، وأمّا هذه الصّورة النّادرة فليست مقصودة.

وفي الجملة عدّها أربعةً أجودُ. وبقي خامس. وهو الصّلاة وقت استواء الشّمس , وكأنّه لَم يصحّ عند البخاري على شرطه فترجم على نفيه (¬1)، وفيه أربعة أحاديث: حديث عقبة بن عامر. وهو عند مسلم , ولفظه " وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى ترتفع "، وحديث عمرو بن عبسة. وهو عند مسلم أيضاً. ولفظه " حتّى يستقل الظّلّ بالرّمح، فإذا أقبل الفيء فصلِّ ". وفي لفظ لأبي داود " حتّى يعدل الرّمح ظلّه "، وحديث أبي هريرة. وهو عند ابن ماجه والبيهقيّ. ولفظه " حتّى تستوي الشّمس على رأسك كالرّمح، فإذا زالت فصلِّ ". وحديث الصّنابحيّ. وهو في الموطّأ. ولفظه " ثمّ إذا استوت قارَنَها، فإذا زالت فارَقَها " وفي آخره " ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصّلاة في تلك السّاعات " وهو حديث مرسلٌ مع قوّة رجاله. وفي الباب أحاديث أخر ضعيفةٌ. وبقضيّة هذه الزّيادة قال عمر بن الخطّاب. فنهى عن الصّلاة نصف النّهار. وعن ابن مسعود قال: كنّا ننهى عن ذلك " وعن أبي سعيد المقبريّ , قال: أدركت النّاس وهم يتّقون ذلك " وهو مذهب الأئمّة الثّلاثة والجمهور. وخالف مالك. فقال: ما أدركت أهل الفضل إلاَّ وهم يجتهدون ¬

_ (¬1) فقال " باب من لَم يكره الصلاة إلاَّ بعد العصر والفجر "

ويصلّون نصف النّهار. وقال ابن عبد البرّ: وقد روى مالك حديث الصّنابحيّ، فإمّا أنّه لَم يصحّ عنده , وإمّا أنّه ردّه بالعمل الذي ذكره. انتهى. وقد استثنى الشّافعيّ ومن وافقه مِن ذلك يوم الجمعة. وحجّتهم: أنّه - صلى الله عليه وسلم - ندب النّاس إلى التّبكير يوم الجمعة ورغّب في الصّلاة إلى خروج الإمام، وجعل الغايةَ خروج الإمام، وهو لا يخرج إلاَّ بعد الزّوال، فدلَّ على عدم الكراهة. وجاء فيه حديثٌ عن أبي قتادة مرفوعاً " أنّه - صلى الله عليه وسلم - كره الصّلاة نصف النّهار إلاَّ يوم الجمعة " (¬1) في إسناده انقطاع. وقد ذكر له البيهقيّ شواهد ضعيفة إذا ضُمّت قوي الخبر. والله أعلم. الفائدة الثانية. فرّق بعضهم بين حكمة النّهي عن الصّلاة بعد صلاة الصّبح والعصر، وعن الصّلاة عند طلوع الشّمس وعند غروبها. فقال: يُكره في الحالتين الأوليين، ويحرم في الحالتين الأخريين. وممّن قال بذلك محمّد بن سيرين ومحمّد بن جرير الطّبريّ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في " السنن " (1083) والبيهقي في " الكبرى " (2/ 464) من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , أنه كرِه الصلاة نصف النهار إلاَّ يوم الجمعة , وقال: إنَّ جهنم تُسجّر إلاَّ يوم الجمعة. قال أبو داود: وهو مرسلٌ , مجاهدٌ أكبر من أبي الخليل , وأبو الخليل لَم يسمع من أبي قتادة.

واحتجّ بما يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه صلَّى بعد العصر، (¬1) فدلَّ على أنّه لا يحرم، وكأنّه يَحمل فعله على بيان الجواز. وأجاب عنه من أطلق الكراهة: بأن فعله هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة، وأما مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فهو من خصائصه. والدليل عليه رواية ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أنه - صلى الله عليه وسلم - , كان يُصلِّي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال " رواه أبو داود. ورواية أبي سلمة , أنّه سأل عائشة عن السّجدتين اللّتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّيهما بعد العصر , فقالت: كان يصلّيهما قبل العصر , ثمّ إنّه شُغل عنهما أو نسيهما فصلاّهما بعد العصر ثمّ أثبتهما , وكان إذا صلَّى صلاةً أثبتها " رواه مسلم قال البيهقي: الذي اختصّ به - صلى الله عليه وسلم - المداومة على ذلك لا أصل القضاء، وأما ما روى عن ذكوان عن أم سلمة قالت: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر ثم دخل بيتي فصلَّى ركعتين , فقلت: يا رسولَ الله. صليت صلاة لَم يكن تصليها , قال: قدم على مال فشغلنى عن ركعتين كنت أصليهما بعد الظهر فصليتهما الآن , قلت: يا رسولَ الله. أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال: لا. (¬2) فهي رواية ضعيفة لا تقوم بها ¬

_ (¬1) وهي في صحيح البخاري , وستأتي في كلام الشارح رحمه الله. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (26778) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/ 306) وأبو يعلي (7028) من طريق حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن ذكوان به. وأصله في صحيح البخاري (1223) ومسلم (1970) من طريق كريب عن أم سلمة. بأطول من هذا السياق , دون قوله (أنقضيهما إذا فاتتا).

حجة. قلت: أخرجها الطحاوي , واحتج بها على أنَّ ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه ما فيه. وروي عن ابن عمر تحريم الصّلاة بعد الصّبح حتّى تطلع الشّمس، وإباحتها بعد العصر حتّى تصفرّ، وبه قال ابن حزمٍ. واحتجّ بحديث عليٍّ , أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصّلاة بعد العصر إلاَّ والشّمس مرتفعة. ورواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ قويٍّ. والمشهور إطلاق الكراهة في الجميع , فقيل: هي كراهة تحريم , وقيل: كراهة تنزيه، والله أعلم. الفائدة الثالثة: روى الترمذي من طريق جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لَم يعد. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ. قلت: وهو من رواية جرير عن عطاء، وقد سمع منه بعد اختلاطه، وإن صحَّ فهو شاهد لحديث أم سلمة. لكن ظاهر قوله " ثم لَم يعد " معارِضٌ لحديث عائشة في البخاري:

ما ترك النبى - صلى الله عليه وسلم - السجدتين بعد العصر عندى قط. فيُحمل النفي على علم الراوي فإنه لَم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي. وكذا ما رواه النسائي من طريق أبي سلمة عن أم سلمة , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة. الحديث، وفي رواية له عنها " لَم أره يصلّيهما قبل ولا بعد ". فيجمع بين الحديثين بأنه - صلى الله عليه وسلم - لَم يكن يصلّيهما إلاَّ في بيته، فلذلك لَم يره ابن عباس ولا أم سلمة، ويشير إلى ذلك قول عائشة في البخاري " وكان لا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته ". تنبيه: قال بعض العلماء: المراد بحصر الكراهة في الأوقات الخمسة إنّما هو بالنّسبة إلى الأوقات الأصليّة , وإلاّ فقد ذكروا أنّه يكره التّنفّل وقت إقامة الصّلاة، ووقت صعود الإمام لخطبة الجمعة، وفي حالة الصّلاة المكتوبة جماعةً لمن لَم يصلها. وعند المالكيّة. كراهة التّنفّل بعد الجمعة حتّى ينصرف النّاس. وعند الحنفيّة. كراهة التّنفّل قبل صلاة المغرب، وأخرج البخاري ثبوت الأمر به (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1183) عن عبد الله المزني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلّوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سنة. انظر الفتح (2/ 140) كتاب الأذان " باب كم بين الأذان والإقامة , ومن ينتظر الإقامة "

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 61 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , أنّ عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - جاء يوم الْخندق بعد ما غربتِ الشّمس فجعل يسُبُّ كفّار قريشٍ , وقال: يا رسولَ الله , ما كدتُ أُصلي العصر حتّى كادتِ الشّمسُ تغرب. فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: واللهِ ما صلَّيتها. قال: فقمنا إلى بُطحان , فتوضّأ للصّلاة , وتوضّأنا لها , فصلَّى العصر بعد ما غربتِ الشّمس. ثمّ صلَّى بعدها المغرب. (¬1) قوله: (أنّ عمر بن الخطّاب) اتّفق الرّواة على أنّ هذا الحديث من رواية جابر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ حجّاج بن نصيرٍ , فإنّه رواه عن عليّ بن المبارك عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سلمة. فقال فيه: عن جابر عن عمر. فجعله من مسند عمر، تفرّد بذلك حجّاجٌ. وهو ضعيفٌ. قوله: (يوم الخندق) تقدم الكلام عليه (¬2) قوله: (بعدما غربت الشّمس) في رواية شيبان عن يحيى عند البخاري " وذلك بعدما أفطر الصّائم " والمعنى واحدٌ. قوله: (يسبّ كفّار قريشٍ) لأنّهم كانوا السّبب في تأخيرهم الصّلاة عن وقتها، إمّا المختار كما وقع لعمر، وإمّا مطلقاً كما وقع لغيره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (571 , 573 , 615 , 903 , 3886) ومسلم (631) من طريق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر به. (¬2) انظر حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - المتقدم برقم (55)

قوله: (ما كدت) قال اليعمريّ (¬1): لفظة " كاد " من أفعال المقاربة، فإذا قلت كاد زيدٌ يقوم. فُهم منها أنّه قارب القيام ولَم يقم. قال: والرّاجح فيها أن لا تقرن بأن، بخلاف عسى. فإنّ الرّاجح فيها أن تقرن. قال: وقد وقع في مسلم في هذا الحديث " حتّى كادت الشّمس أن تغرب. قلت: وفي البخاريّ أيضاً وهو من تصرّف الرّواة، وهل تسوغ الرّواية بالمعنى في مثل هذا أو لا.؟ الظّاهر الجواز، لأنّ المقصود الإخبار عن صلاته العصر كيف وقعت، لا الإخبار عن عمر. هل تكلم بالرّاجحة أو المرجوحة. قال: وإذا تقرّر أنّ معنى " كاد " المقاربة فقول عمر " ما كدت أصلي العصر حتّى كادت الشّمس تغرب " معناه: أنّه صلَّى العصر قرب غروب الشّمس، لأنّ نفي الصّلاة يقتضي إثباتها، وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فتحصّل من ذلك لعمر ثبوت الصّلاة ولَم يثبت الغروب. انتهى. وقال الكرمانيّ: لا يلزم من هذا السّياق وقوع الصّلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أن لا تقع الصّلاة لأنّه يقتضي أنّ كيدودته كانت كيدودتها، قال: وحاصله عرفاً ما صليت حتّى غربت الشّمس. انتهى. ¬

_ (¬1) هو أبو الفتح محمد بن محمد فتح الدَّين اليعمري. مَعْرُوف بِابن سيد النَّاس.

ولا يخفى ما بين التّقريرين من الفرق، وما ادّعاه من العرف ممنوع وكذا العنديّة، للفرق الذي أوضحه اليعمريّ من الإثبات والنّفي , لأنّ كاد إذا أثبتت نفتْ , وإذا نفت أثبتتْ. كما قال فيها المعرِّي ملغزاً: إذا نفيت والله أعلم أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود هذا إلى ما في تعبيره بلفظ كيدودةٍ من الثّقل , والله الهادي إلى الصّواب. فإن قيل: الظّاهر أنّ عمر كان مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فكيف اختصّ بأن أدرك صلاة العصر قبل غروب الشّمس بخلاف بقيّة الصّحابة، والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - معهم؟. فالجواب: أنّه يحتمل أن يكون الشّغل وقع بالمشركين إلى قرب غروب الشّمس، وكان عمر حينئذٍ متوضّئاً فبادر فأوقع الصّلاة، ثمّ جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه بذلك في الحال التي كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها قد شرع يتهيّأ للصّلاة، ولهذا قام عند الإخبار هو وأصحابه إلى الوضوء. وقد اختلف في سبب تأخير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الصّلاة ذلك اليوم. فقيل: كان ذلك نسياناً، واستبعد أن يقع ذلك من الجميع. ويمكن أن يستدل له بما رواه أحمد من حديث أبي جمعة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى المغرب يوم الأحزاب، فلمّا سلم , قال: هل علِمَ رجلٌ منكم أنّي صليت العصر؟ قالوا: لا يا رسولَ الله، فصلَّى العصر ثمّ صلَّى المغرب. وفي صحّة هذا الحديث نظرٌ، لأنّه مخالف لِمَا في الصّحيحين من

قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر " والله ما صليتها " ويمكن الجمع بينهما بتكلّفٍ. وقيل: كان عمداً لكونهم شغلوه فلم يمكّنوه من ذلك، وهو أقرب، لا سيّما وقد وقع عند أحمد والنّسائيّ من حديث أبي سعيد , أنّ ذلك كان قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف (فرجالاً أو ركباناً). وادعى بعضهم أنّ تأخيره - صلى الله عليه وسلم - للصّلاة يوم الخندق دالٌّ على نسخ صلاة الخوف. قال ابن القصّار: وهو قول من لا يعرف السّنن، لأنّ صلاة الخوف أنزلت بعد الخندق , فكيف ينسخ الأوّل الآخر؟. فالله المستعان. قوله: (بطحان) بضمّ أوّله وسكون ثانيه: وادٍ بالمدينة. وقيل هو بفتح أوّله وكسر ثانيه. حكاه أبو عبيدٍ البكريّ. قوله: (فصلَّى العصر) وقع في الموطّأ من طريق أخرى. أنّ الذي فاتهم الظّهر والعصر، وفي حديث أبي سعيد الذي أشرنا إليه. الظّهر والعصر والمغرب، وأنّهم صلَّوا بعد هوِيٍّ من الليل. وفي حديث ابن مسعود عند التّرمذيّ والنّسائيّ , أنّ المشركين شغلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أربع صلوات يوم الخندق حتّى ذهب من الليل ما شاء الله. وفي قوله " أربع " تجوّزٌ. لأنّ العشاء لَم تكن فاتت. قال اليعمريّ: من النّاس من رجّح ما في الصّحيحين، وصرّح بذلك ابن العربيّ فقال: إنّ الصّحيح أنّ الصّلاة التي شغل عنها

واحدة وهي العصر. قلت: ويؤيّده حديث عليّ في مسلم " شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر ". قال: ومنهم من جمع بأنّ الخندق كانت وقعتُه أيّاماً فكان ذلك في أوقاتٍ مختلفة في تلك الأيّام، قال: وهذا أولى. قلت: ويقرّبه أنّ روايتي أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرّضٌ لقصّة عمر، بل فيهما أنّ قضاءه للصّلاة وقع بعد خروج وقت المغرب وأمّا رواية حديث الباب ففيها أنّ ذلك كان عقب غروب الشّمس. قال الكرمانيّ: فإن قلت. كيف دلَّ الحديث على الجماعة؟ (¬1). قلت: إمّا أنّه يحتمل أنّ في السّياق اختصاراً، وإمّا من إجراء الرّاوي الفائتة التي هي العصر , والحاضرة التي هي المغرب مجرىً واحداً. ولا شكّ أنّ المغرب كانت بالجماعة لِمَا هو معلوم من عادته. انتهى. وبالاحتمال الأوّل جزم ابن المنير زين الدّين , فقال: فإن قيل ليس فيه تصريحٌ بأنّه صلَّى في جماعة، أجيب: بأنّ مقصود التّرجمة مستفاد من قوله " فقام وقمنا وتوضّأ وتوضّأنا ". قلت: الاحتمال الأوّل هو الواقع في نفس الأمر، فقد وقع في رواية الإسماعيليّ ما يقتضي أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم , أخرجه من طريق يزيد ¬

_ (¬1) لقول البخاري " باب مَن صلَّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت "

بن زريعٍ عن هشامٍ بلفظ " فصلَّى بنا العصر ". وفي الحديث من الفوائد ترتيب الفوائت. القول الأول: الأكثر على وجوبه مع الذّكر لا مع النّسيان. ولا ينهض الاستدلال به لمن يقول بوجوب ترتيب الفوائت إلاَّ إذا قلنا إنّ أفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المجرّدة للوجوب، اللهمّ إلاَّ أن يستدل له بعموم قوله " صلّوا كما رأيتموني أصلي " فيقوى، وقد اعتبر ذلك الشّافعيّة في أشياء غير هذه. القول الثاني: قال الشّافعيّ: لا يجب التّرتيب فيها. واختلفوا فيمن تذكّر فائتة في وقت حاضرة ضيّقٍ , هل يبدأ بالفائتة , وإن خرج وقت الحاضرة , أو يبدأ بالحاضرة، أو يتخيّر؟. فقال بالأوّل. مالكٌ، وقال بالثّاني. الشّافعيّ وأصحاب الرّأي وأكثر أصحاب الحديث، وقال بالثّالث. أشهب. وقال عياض: محلّ الخلاف إذا لَم تكثر الصّلوات الفوائت، فأمّا إذا كثرت فلا خلاف أنّه يبدأ بالحاضرة. واختلفوا في حدّ القليل. فقيل: صلاة يوم، وقيل: أربع صلوات. وفيه جواز اليمين من غير استحلاف إذا اقتضت مصلحةٌ من زيادة طمأنينة أو نفي توهّمٍ. وفيه ما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه من مكارم الأخلاق وحسن التّأنّي مع أصحابه وتألّفهم , وما ينبغي الاقتداء به في ذلك.

وفيه استحباب قضاء الفوائت في الجماعة , وبه قال أكثر أهل العلم إلاَّ الليث مع أنّه أجاز صلاة الجمعة جماعةً إذا فاتت والإقامة للصّلاة الفائتة. واستدل به على عدم مشروعيّة الأذان للفائتة. وأجاب من اعتبره: بأنّ المغرب كانت حاضرة , ولَم يذكر الرّاوي الأذان لها، وقد عرف من عادته - صلى الله عليه وسلم - الأذان للحاضرة، فدلَّ على أنّ الرّاوي ترك ذكر ذلك لا أنّه لَم يقع في نفس الأمر. وتعقّب: باحتمال أن تكون المغرب لَم يتهيّأ إيقاعها إلاَّ بعد خروج وقتها. على رأي من يذهب إلى القول بتضييقه. وعكَسَ ذلك بعضهم , فاستدل بالحديث على أنّ وقت المغرب متّسعٌ، لأنّه قدّم العصر عليها , فلو كان ضيّقاً لبدأ بالمغرب , ولا سيّما على قول الشّافعيّ في قوله بتقدّم الحاضرة , وهو الذي قال بأنّ وقت المغرب ضيّقٌ فيحتاج إلى الجواب عن هذا الحديث، وهذا في حديث جابر، وأمّا حديث أبي سعيد فلا يتأتّى فيه هذا لِمَا تقدّم أنّ فيه , أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بعد مضيّ هوىً من الليل. قال ابن بطّالٍ: فيه ردٌّ لقول إبراهيم النّخعيّ: يكره أن يقول الرّجل لَم نصل ويقول نُصلِّي. قلت: وكراهة النّخعيّ إنّما هي في حقّ منتظر الصّلاة، وقد صرّح ابن بطّالٍ بذلك، ومنتظر الصّلاة في صلاة كما ثبت بالنّصّ، فإطلاق المنتظر " ما صلينا " يقتضي نفي ما أثبته الشّارع فلذلك كرهه،

والإطلاق الذي في حديث الباب إنّما كان من ناسٍ لها أو مشتغلٍ عنها بالحرب كما تقدم تقريره , فافترق حكمهما وتغايرا. والذي يظهر لي أنّ البخاريّ (¬1) أراد أن ينبّه على أنّ الكراهة المحكيّة عن النّخعيّ ليست على إطلاقها لِمَا دلَّ عليه حديث الباب، ولو أراد الرّدّ على النّخعيّ مطلقاً لأفصح به كما أفصح بالرّدّ على ابن سيرين في ترجمة " قول الرجل فاتتنا الصّلاة ". ثمّ إنّ اللفظ الذي أورده البخاري وقع النّفي فيه من قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا من قول الرّجل، لكن في بعض طرقه وقوع ذلك من الرّجل أيضاً، وهو عمر كما أورده في " المغازي ". وهذه عادة معروفةٌ للبخاري يترجم ببعض ما وقع في طرق الحديث الذي يسوقه , ولو لَم يقع في الطّريق التي يوردها في تلك التّرجمة. ويدخل في هذا ما في الطّبرانيّ من حديث جندبٍ - في قصّة النّوم عن الصّلاة - " فقالوا: يا رسولَ الله سهونا فلم نصل حتّى طلعت الشّمس ". ¬

_ (¬1) بقوله في الترجمه في كتاب الآذان " باب قول الرجل: ما صلّينا "

باب فضل الجماعة ووجوبها

باب فضل الجماعة ووجوبها الحديث الثالث عشر 62 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الْجماعة أفضل من صلاة الفذّ بسبعٍ وعشرين درجةً. (¬1) قوله: (صلاة الفذّ) بالمعجمة. أي: المنفرد، يقال: فذّ الرّجل من أصحابه إذا بقي منفرداً وحده. وقد رواه مسلم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع , وسياقه أوضح. ولفظه " صلاة الرّجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده " قوله: (بسبعٍ وعشرين درجةً) قال التّرمذيّ: عامّة من رواه قالوا " خمساً وعشرين " إلاَّ ابن عمر فإنّه قال " سبعاً وعشرين ". قلت: لَم يُختلف عليه في ذلك إلاَّ ما وقع عند عبد الرّزّاق عن عبد الله العمريّ عن نافع. فقال فيه " خمس وعشرون " لكنّ العمريّ ضعيفٌ. ووقع عند أبي عوانة في " مستخرجه " من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع فإنّه قال فيه " بخمسٍ وعشرين " وهي شاذّة مخالفة لرواية الحفّاظ من أصحاب عبيد الله , وأصحاب نافع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (619 , 621) ومسلم (650) من طرق عن نافع عن ابن عمر به.

وإن كان راويها ثقةً. وأمّا ما وقع عند مسلم من رواية الضّحّاك بن عثمان عن نافع بلفظ " بضعٍ وعشرين " فليست مغايرة لرواية الحفّاظ لصدق البضع على السّبع. وأمّا غير ابن عمر , فصحّ عن أبي سعيد عند البخاري , وأبي هريرة كما سيأتي (¬1)، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبيّ بن كعب عند ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السّرّاج، وورد أيضاً من طرق ضعيفة عن معاذٍ وصهيبٍ وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت. وكلّها عند الطّبرانيّ. واتّفق الجميع على " سبع وعشرين ". سوى رواية أُبَيّ فقال " أربع أو خمس " على الشّكّ، وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد قال فيها " سبع وعشرون " وفي إسنادها شريكٌ القاضي وفي حفظه ضعفٌ. وفي رواية لأبي عوانة " بضعاً وعشرين " وليست مغايرة أيضاً لصدق البضع على الخمس، فرجعت الرّوايات كلّها إلى الخمس والسّبع إذ لا أثر للشّكّ. واختلف في أيّهما أرجح. فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل: رواية السّبع لأنّ فيها زيادة من عدلٍ حافظٍ. ¬

_ (¬1) انظر الحديث الآتي.

ووقع الاختلاف في موضعٍ آخر من الحديث , وهو مميّز العدد المذكور. ففي الرّوايات كلها التّعبير بقوله " درجةً " أو حذف المميّز، إلاَّ طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها " ضعفاً " وفي بعضها " جزءاً " وفي بعضها " درجةً " وفي بعضها " صلاةً " ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس. والظّاهر أنّ ذلك من تصرّف الرّواة، ويحتمل: أن يكون ذلك من التّفنّن في العبارة وأمّا قول ابن الأثير: إنّما قال درجةً ولَم يقل جزءاً ولا نصيباً ولا حظّاً ولا نحو ذلك , لأنّه أراد الثّواب من جهة العلوّ والارتفاع , فإنّ ذلك فوق هذه بكذا وكذا درجةً لأنّ الدّرجات إلى جهة فوق. فكأنّه بناه على أنّ الأصل لفظ درجةٍ وما عدا ذلك من تصرّف الرّواة، لكنّ نفيه ورود " الجزء " مردودٌ، فإنّه ثابت، وكذلك الضّعف. وقد جُمع بين روايتي الخمس والسّبع بوجوهٍ: الوجه الأول: أنّ ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد، لكن قد قال به جماعة من أصحاب الشّافعيّ وحكي عن نصّه، وعلى هذا فقيل وهو. الوجه الثّاني: لعله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بالخمس، ثمّ أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بالسّبع.

وتعقّب: بأنّه يحتاج إلى التّاريخ، وبأنّ دخول النّسخ في الفضائل مختلفٌ فيه، لكن إذا فرّعنا على المنع تعيّن تقدّم الخمس على السّبع من جهة أنّ الفضل من الله يقبل الزّيادة لا النّقص. الوجه الثالث: أنّ اختلاف العددين باختلاف مميّزهما، وعلى هذا فقيل: الدّرجة أصغر من الجزء. وتعقّب: بأنّ الذي روي عنه الجزء روي عنه الدّرجة. وقال بعضهم: الجزء في الدّنيا والدّرجة في الآخرة، وهو مبنيٌّ على التّغاير. الوجه الرابع: الفرق بقرب المسجد وبعده. الوجه الخامس: الفرق بحال المُصلِّي كأن يكون أعلم أو أخشع. السادس: الفرق بإيقاعها في المسجد أو في غيره. سابعها: الفرق بالمنتظر للصّلاة وغيره. ثامنها: الفرق بإدراك كلّها أو بعضها. تاسعها: الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. عاشرها: السّبع مختصّةٌ بالفجر والعشاء , وقيل بالفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك. حادي عشرها: السّبع مختصّةٌ بالجهريّة والخمس بالسّرّيّة. وهذا الوجه عندي أوجهها لِمَا سأبيّنه. ثمّ إنّ الحكمة في هذا العدد الخاصّ غير محقّقة المعنى. ونقل الطّيبيّ عن التوربشتي ما حاصله: إنّ ذلك لا يدرك بالرّأي، بل مرجعه إلى علم النّبوّة التي قصرت علوم الألبّاء عن إدراك

حقيقتها كلها. ثمّ قال: ولعلَّ الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفّين كصفوف الملائكة، والاقتداء بالإمام، وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك. وكأنّه يشير إلى ما قدّمته عن غيره , وغفل عن مراد من زعم أنّ هذا الذي ذكره لا يفيد المطلوب. لكن أشار الكرمانيّ إلى احتمال أن يكون أصله كون المكتوبات خمساً فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمساً وعشرين. ثمّ ذكر للسّبع مناسبةً أيضاً من جهة عدد ركعات الفرائض ورواتبها. وقال غيره: الحسنة بعشرٍ للمصلي منفرداً , فإذا انضمّ إليه آخر بلغت عشرين ثمّ زيد بقدر عدد الصّلوات الخمس، أو يزاد عدد أيّام الأسبوع، ولا يخفى فساد هذا. وقيل: الأعداد عشرات ومئون وألوفٌ وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها، وهذا أشدّ فساداً من الذي قبله. وقرأت بخطّ شيخنا البلقينيّ (¬1) فيما كتب على العمدة: ظهر لي في هذين العددين شيء لَم أُسبق إليه، لأنّ لفظ ابن عمر " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ " ومعناه الصّلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة " صلاة الرّجل في الجماعة " وعلى هذا فكلّ واحد من ¬

_ (¬1) هو عمر بن رسلان , سبق ترجمته (1/ 19)

المحكوم له بذلك صلَّى في جماعة، وأدنى الأعداد التي يتحقّق فيها ذلك ثلاثة حتّى يكون كلّ واحد صلَّى في جماعة , وكلّ واحد منهم أتى بحسنةٍ وهي بعشرةٍ , فيحصل من مجموعه ثلاثون , فاقتصر في الحديث على الفضل الزّائد - وهو سبعةٌ وعشرون - دون الثّلاثة التي هي أصل ذلك. انتهى. وظهر لي في الجمع بين العددين أنّ أقل الجماعة إمامٌ ومأمومٌ، فلولا الإمام ما سُمِّي المأموم وكذا عكسه، فإذا تفضّل الله على من صلَّى جماعةً بزيادة خمسٍ وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بلفظها على الفضل الزّائد، والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل. وقد خاض قومٌ في تعيين الأسباب المقتضية للدّرجات المذكورة. قال ابن الجوزيّ: وما جاءوا بطائلٍ. وقال المحبّ الطّبريّ: ذكر بعضهم أنّ في حديث أبي هريرة (¬1) إشارة إلى بعض ذلك، ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك. وقد فصّلها ابن بطّالٍ وتبعه جماعةٌ من الشّارحين، وتعقّبَ الزينُ بن المنير بعض ما ذكره , واختار تفصيلاً آخر أورده. وقد نقّحت ما وقفت عليه من ذلك , وحذفت ما لا يختصّ بصلاة الجماعة: ¬

_ (¬1) أي: الحديث الذي سيأتي في العمدة إن شاء الله.

فأوّلها: إجابة المؤذّن بنيّة الصّلاة في الجماعة. ثانيها: التّبكير إليها في أوّل الوقت. ثالثها: المشي إلى المسجد بالسّكينة. رابعها: دخول المسجد داعياً. خامسها: صلاة التّحيّة عند دخوله كلّ ذلك بنيّة الصّلاة في الجماعة. سادسها: انتظار الجماعة. سابعها: صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له. ثامنها: شهادتهم له. تاسعها: إجابة الإقامة. عاشرها: السّلامة من الشّيطان حين يفرّ عند الإقامة. حادي عاشرها: الوقوف منتظراً إحرام الإمام أو الدّخول معه في أيّ هيئة وحده عليها. ثاني عشرها: إدراك تكبيرة الإحرام كذلك. ثالث عشرها: تسوية الصّفوف وسدّ فرجها. رابع عشرها: جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده. خامس عشرها: الأمن من السّهو غالباً وتنبيه الإمام إذا سها بالتّسبيح أو الفتح عليه. سادس عشرها: حصول الخشوع والسّلامة عمّا يلهي غالباً. سابع عشرها: تحسين الهيئة غالباً.

ثامن عشرها: احتفاف الملائكة به. تاسع عشرها: التّدرّب على تجويد القراءة وتعلّم الأركان والأبعاض. العشرون: إظهار شعائر الإسلام. الحادي والعشرون: إرغام الشّيطان بالاجتماع على العبادة والتّعاون على الطّاعة ونشاط المتكاسل. الثّاني والعشرون: السّلامة من صفة النّفاق ومن إساءة غيره الظّنّ بأنّه ترك الصّلاة رأساً. الثّالث والعشرون: ردّ السّلام على الإمام. الرّابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدّعاء والذّكر وعود بركة الكامل على النّاقص. الخامس والعشرون: قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصّلوات. فهذه خمس وعشرون خصلةً ورد في كلّ منها أمرٌ أو ترغيب يخصّه. وبقي منها أمران يختصّان بالجهريّة , وهما الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها , والتّأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، وبهذا يترجّح أنّ السّبع تختصّ بالجهريّة. والله أعلم. تنبيهات: الأوّل: مقتضى الخصال التي ذكرتها اختصاص التّضعيف بالتّجمّع في المسجد وهو الرّاجح في نظري كما سيأتي البحث فيه.

وعلى تقدير أن لا يختصّ بالمسجد فإنّما ذكرته ثلاثة أشياء وهي المشي والدّخول والتّحيّة، فيمكن أن تعوّض من بعض ما ذكر ممّا يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين , لأنّ منفعة الاجتماع على الدّعاء والذّكر غير منفعة عود بركة الكامل على النّاقص. وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التّعاهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السّهو غالباً غير تنبيه الإمام إذا سها. فهذه ثلاثة يمكن أن يعوّض بها الثّلاثة المذكورة فيحصل المطلوب. الثّاني: لا يرِدُ على الخصال التي ذكرتها كون بعض الخصال يختصّ ببعض من صلَّى جماعةً دون بعضٍ , كالتّبكير في أوّل الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك، لأنّ أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرّد النّيّة. ولو لَم يقع. كما سبق، والله أعلم. الثّالث: معنى الدّرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للمجمع. وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أنّ بعضهم زعم خلاف ذلك. قال: والأوّل أظهر، لأنّه قد ورد مبيّناً في بعض الرّوايات. انتهى. وكأنّه يشير إلى ما عند مسلم في بعض طرقه بلفظ " صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذّ " وفي أخرى " صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يُصلِّيها وحده ". ولأحمد من حديث ابن مسعود بإسنادٍ رجاله ثقات نحوه , وقال في

آخره " كلّها مثل صلاته " وهو مقتضى لفظ رواية أبي هريرة الآتية. حيث قال " تضعّف " , لأنّ الضّعف كما قال الأزهريّ: المثل إلى ما زاد ليس بمقصورٍ على المثلين. تقول: هذا ضعف الشّيء. أي: مثله أو مثلاه فصاعداً , لكن لا يزاد على العشرة. وظاهر قوله " تضعّف " وكذا قوله في روايتي ابن عمر وأبي سعيد " تفضل " أي: تزيد، وقوله في رواية أبي هريرة الآتية , يريد أنّ صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد , وتزيد عليها العدد المذكور , فيكون لمصلي الجماعة ثواب ستٍّ أو ثمانٍ وعشرين من صلاة المنفرد.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 63 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرّجل في جماعةٍ تُضعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضِعْفاً , وذلك: أنّه إذا توضّأ , فأحسن الوضوء. ثمّ خرج إلى المسجد لا يُخرجه إلاَّ الصّلاة , لَم يخط خطوةً إلاَّ رُفعت له بها درجةٌ , وحُطّ عنه خطيئةٌ. فإذا صلَّى لَم تزل الملائكة تُصلِّي عليه , ما دام في مصلاه: اللهمّ صلِّ عليه , اللهمّ اغفر له , اللهمّ ارحمه , ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصّلاة. (¬1) قوله: (صلاة الرّجل في جماعة) في رواية البخاري " في الجماعة " بالتعريف. قوله: (خمسةً وعشرين ضعفاً) كذا في الرّوايات التي وقفنا عليها. وحكى الكرمانيّ وغيره , أنّ فيه خمساً وعشرين درجة، بتأويل الضّعف بالدّرجة أو الصّلاة. قوله: (في بيته وفي سوقه) مقتضاه. أنّ الصّلاة في المسجد جماعة تزيد على الصّلاة في البيت وفي السّوق جماعة وفرادى. قاله ابن دقيق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (465 , 620 , 2013) ومسلم (649) من طرق عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. وأخرجه البخاري أيضاً (621 , 4440) ومسلم (649) من وجه آخر عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مختصراً. وفيه: جزءاً. وفي رواية لهما أيضاً درجة. كما تقدم في كلام الشارح في حديث ابن عمر الماضي. رقم (62)

العيد. قال: والذي يظهر أنّ المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصّلاة في غيره منفرداً، لكنّه خرج مخرج الغالب في أنّ من لَم يحضر الجماعة في المسجد صلَّى منفرداً. قال: وبهذا يرتفع الإشكال عمّن استشكل تسوية الصّلاة في البيت والسّوق. انتهى. ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التّسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضوليّة عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر. وكذا لا يلزم منه أنّ كون الصّلاة جماعةً في البيت أو السّوق لا فضل فيها على الصّلاة منفرداً، بل الظّاهر أنّ التّضعيف المذكور مختصٌّ بالجماعة في المسجد، والصّلاة في البيت مطلقاً أولى منها في السّوق لِمَا ورد من كون الأسواق موضع الشّياطين، والصّلاة جماعةً في البيت وفي السّوق أولى من الانفراد. وقد جاء عن بعض الصّحابة قصر التّضعيف إلى خمس وعشرين على التّجميع، وفي المسجد العامّ مع تقرير الفضل في غيره. وروى سعيد بن منصور بإسنادٍ حسن عن أوس المعافريّ , أنّه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: أرأيت من توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ صلَّى في بيته؟ قال: حسنٌ جميلٌ. قال: فإنْ صلَّى في مسجد عشيرته؟ قال: خمس عشرة صلاةً. قال: فإن مشى إلى مسجد جماعة فصلَّى فيه

؟ قال: خمس وعشرون. وأخرج حميد بن زنجويه في " كتاب التّرغيب " نحوه من حديث واثلة، وخصّ الخمس والعشرون بمسجد القبائل. قال: وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه - أي الجمعة - بخمسمائةٍ. وسنده ضعيفٌ. قوله: (وذلك أنّه إذا توضّأ) ظاهر في أنّ الأمور المذكورة عِلَّة للتّضعيف المذكور، إذ التّقدير: وذلك لأنّه، فكأنّه يقول: التّضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتّب على موضوعات متعدّدةٍ لا يوجد بوجود بعضها إلاَّ إذا دلَّ الدّليل على إلغاء ما ليس معتبراً , أو ليس مقصوداً لذاته. وهذه الزّيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها متوجّهٌ، والرّوايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيّدة. والذين قالوا بوجوب الجماعة على الكفاية , ذهب كثيرٌ منهم إلى أنّ الحرج لا يسقط بإقامة الجماعة في البيوت، وكذا روي عن أحمد في فرض العين. ووجّهوه: بأنّ أصل المشروعيّة إنّما كان في جماعة المساجد، وهو وصفٌ معتبرٌ لا ينبغي إلغاؤه فيختصّ به المسجد، ويلحق به ما في معناه ممّا يحصل به إظهار الشّعار. قوله: (لا يخرجه إلاَّ الصّلاة) أي: قصد الصّلاة في جماعة، واللام فيها للعهد لِمَا بيّنّاه.

قوله: (لَم يخط) بفتح أوّله وضمّ الطّاء. وقوله: (خطوةً) ضبطناه بضمّ أوّله , ويجوز الفتح. قال الجوهريّ: الخطوة بالضّمّ ما بين القدمين، وبالفتح المرّة الواحدة. وجزم اليعمريّ أنّها هنا بالفتح. وقال القرطبيّ: إنّها في روايات مسلم بالضّمّ، والله أعلم. قوله: (فإذا صلَّى) قال ابن أبي جمرة: أي صلَّى صلاة تامّةً، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء صلاته " ارجع فصل فإنّك لَم تصل ". قوله: (في مصلاَّه) أي: في المكان الذي أوقع فيه الصّلاة من المسجد، وكأنّه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرّاً على نيّة انتظار الصّلاة كان كذلك. قوله: (اللهمّ ارحمه) أي: قائلين ذلك، زاد ابن ماجه " اللهمّ تب عليه " واستدل به على أفضليّة الصّلاة على غيرها من الأعمال لِمَا ذكر من صلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالرّحمة والمغفرة والتّوبة. وعلى تفضيل صالحي النّاس على الملائكة لأنّهم يكونون في تحصيل الدّرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدّعاء لهم. واستدل بأحاديث الباب على أنّ الجماعة ليست شرطاً لصحّة الصّلاة , لأنّ قوله " على صلاته وحده " يقتضي صحّة صلاته منفرداً لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل التّفاضل، فإنّ ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصحّ لا فضيلة فيه.

قال القرطبيّ وغيره: ولا يقال إنّ لفظة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين كقوله تعالى (أحسن مقيلاً) لأنّا نقول: إنّما يقع ذلك على قلةٍ حيث ترد صيغة أفعل مطلقةً غير مقيّدة بعددٍ معيّنٍ، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلا بدّ من وجود أصل العدد. ولا يقال يُحمل المنفرد على المعذور لأنّ قوله " صلاة الفذّ " صيغة عموم فيشمل من صلَّى منفرداً بعذرٍ وبغير عذر، فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل. وأيضاً ففضل الجماعة حاصل للمعذور لِمَا روى البخاري من حديث أبي موسى مرفوعاً: إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً. وأشار ابن عبد البرّ إلى أنّ بعضهم حملَه على صلاة النّافلة، ثمّ ردّه بحديث " أفضل صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة " (¬1). واستدل بها على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت الجماعة أم قلَّت، لأنّ الحديث دلَّ على فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كلّ جماعة، كذا قال بعض المالكيّة. وقوّاه بما روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن إبراهيم النّخعيّ قال: إذا صلَّى الرّجل مع الرّجل فهما جماعة لهم التّضعيف خمساً وعشرين. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (698) ومسلم (781) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.

وهو مُسلّمٌ في أصل الحصول، لكنّه لا ينفي مزيد الفضل لِمَا كان أكثر، لا سيّما مع وجود النّصّ المصرّح به , وهو ما رواه أحمد وأصحاب السّنن وصحَّحه ابن خزيمة وغيره من حديث أُبيّ بن كعب مرفوعاً: صلاة الرّجل مع الرّجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرّجلين أزكى من صلاته مع الرّجل، وما كثر فهو أحبّ إلى الله. وله شاهد قويٌّ في الطّبرانيّ من حديث قباث بن أشيم - وهو بفتح القاف والموحّدة وبعد الألف مثلثةٌ - وأبوه بالمعجمة بعدها تحتانيّة بوزن أحمر. ويترتّب على الخلاف المذكور أنّ مَن قال بالتّفاوت , استحبّ إعادة الجماعة مطلقاً لتحصيل الأكثريّة، ولَم يستحبّ ذلك الآخرون. ومنهم من فصّل , فقال: تعاد مع الأعلم أو الأورع أو في البقعة الفاضلة. ووافق مالك على الأخير لكن قصره على المساجد الثّلاثة، والمشهور عنه بالمسجدَين المكّيّ والمدنيّ. وكما أنّ الجماعة تتفاوت في الفضل بالقلة والكثرة وغير ذلك ممّا ذكر كذلك يفوق بعضها بعضاً. واستدل بها على أنّ أقل الجماعة إمامٌ ومأمومٌ.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 64 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أثقلُ الصّلاة على المنافقين , صلاة العشاء وصلاة الفجر. ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حَبْواً , ولقد هممتُ أن آمر بالصّلاة فتقام , ثمّ آمر رجلاً فيُصلِّي بالنّاس , ثمّ أنطلق معي برجالٍ معهم حِزَمٌ من حطبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصّلاة , فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنّار. (¬1) قوله: (أثقل الصّلاة على المنافقين) دلَّ هذا على أنّ الصّلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى (ولا يأتون الصّلاة إلاَّ وهم كسالى). وإنّما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوّة الدّاعي إلى تركهما، لأنّ العشاء وقت السّكون والرّاحة والصّبح وقت لذّة النّوم. وقيل: وجهه كون المؤمنين يفوزون بما ترتّب عليهما من الفضل لقيامهم بحقّهما دون المنافقين. قوله: (صلاة العشاء , وصلاة الفجر) الحديث دالٌّ على فضل العشاء والفجر، ووجهه: أنّ صلاة الفجر ثبتت أفضليّتها، وسوّى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (626) ومسلم (651) من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (618 , 6797) ومسلم (651) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وأخرجاه من طرق أخرى عنه نحوه.

في هذا بينها وبين العشاء، ومساوي الأفضل يكون أفضل جزماً. قوله: (ولو يعلمون ما فيهما) أي: من مزيد الفضل قوله: (لأتوهما) أي: الصّلاتين، والمراد لأتوا إلى المحل الذي يُصلَّيان فيه جماعةً , وهو المسجد. قوله: (ولو حبواً) أي: يزحفون إذا منعهم مانعٌ من المشي كما يزحف الصّغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدّرداء " ولو حبواً على المرافق والرّكب " (¬1) قوله: (لقد هممت) اللام جواب القسم، والهمّ العزم. وقيل: ¬

_ (¬1) زاد البخاري (644) " والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين، لشهد العشاء " قوله: (عرقاً) بفتح العين المهملة وسكون الرّاء بعدها قافٌ , قال الخليل: العراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عرْق، وفي المحكم عن الأصمعي: العرْق بسكون الراء قطعة لحم. قال الأزهريّ: العرق واحد العراق وهي العظام الّتي يؤخذ منها هبر اللّحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق ويتشمّس العظام، يقال عرقت اللّحم واعترقته وتعرّقته إذا أخذت اللّحم منه نهشاً. وفي المحكم: جمع العرق على عراقٍ بالضّمّ عزيزٌ، وقول الأصمعيّ هو اللّائق هنا. قوله: (أو مرماتين) تثنية مرماة بكسر الميم وحكي الفتح، قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشّاة، قال عياض: فالميم على هذا أصليّة، وحكى الحربيّ عن الأصمعيّ , أنّ المرماة سهم الهدف، قال: ويؤيّده ما حدّثني .. ثمّ ساق من طريق أبي رافع عن أبي هريرة نحو الحديث بلفظ " لو أنّ أحدهم إذا شهد الصّلاة معي كان له عظمٌ من شاة سمينة أو سهمان لفعل ". وقيل: المرماة سهم يتعلّم عليه الرّمي، وهو سهم دقيق مستوٍ غير محدّدٍ. وإنّما وصف العرق بالسّمن والمرماة بالحسن ليكون ثمّ باعثٌ نفسانيٌّ على تحصيلهما. قاله في " الفتح ".

دونه. وزاد مسلم في أوّله , أنّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَدَ ناساً في بعض الصّلوات , فقال: لقد هممت. فأفاد ذكر سبب الحديث. وفي رواية لهما " والذي نفسي بيده لقد هممت " هو قسمٌ كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يقسم به، والمعنى أنّ أمر نفوس العباد بيد الله، أي بتقديره وتدبيره. (¬1) وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شكّ فيه تنبيهاً على عظم شأنه، وفيه الرّدّ على من كره أن يحلف بالله مطلقاً. قوله: (آمر بالصلاة فتقام , ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس) وللبخاري " ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس " قوله: (قوم لا يشهدون الصلاةَ) وللبخاري " فأحرِّق على من لا يخرج إلى الصلاة بعدُ " كذا للأكثر بلفظ " بعد " ضدّ قبل، وهي مبنيّة على الضّمّ، ومعناه بعد أن يسمع النّداء إليها أو بعد أن يبلغه التّهديد المذكور. وللكشميهنيّ بدلها " يقدر " أي لا يخرج وهو يقدر على المجيء. ويؤيّده ما سيأتي من رواية لأبي داود " وليست بهم عِلَّة ". ووقع عند الدّاوديّ للشّارح هنا " لا لعذرٍ " وهي أوضح من غيرها , لكن لَم نقف عليها في شيء من الرّوايات عند غيره. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 168): وذلك لأنه سبحانه مالكها والمتصرف فيها , وفي ذلك من الفوائد مع ما ذكر إثبات اليد لله سبحانه على الوجه الذي يليق به. كالقول في سائر الصفات , وهو سبحانه منزَّه عن مشابهة المخلوقات في كل شيئ , موصوف بصفات الكمال اللائق به , فتنبّه.

قوله: (فأحرّق) بالتّشديد، والمراد به التّكثير، يقال: حرّقه إذا بالغ في تحريقه. قوله: (عليهم) يشعر بأنّ العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين، والبيوت تبعاً للقاطنين بها , وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح " فأحرّق بيوتاً على من فيها ". وحديث الباب ظاهر في كون صلاة الجماعة فرض عين، لأنّها لو كانت سنّة لَم يهدّد تاركها بالتّحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرّسول ومن معه. ويحتمل أن يقال: التّهديد بالتّحريق المذكور يمكن أن يقع في حقّ تاركي فرض الكفاية كمشروعيّة قتال تاركي فرض الكفاية. وفيه نظرٌ , لأنّ التّحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخصّ من المقاتلة، ولأنّ المقاتلة إنّما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على التّرك. القول الأول: بأنّها فرض عين. وإليه ذهب عطاء والأوزاعيّ وأحمد وجماعة من محدّثي الشّافعيّة كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان. القول الثاني: بالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطاً في صحّة الصّلاة. وأشار ابن دقيق العيد: إلى أنّه مبنيّ على أنّ ما وجب في العبادة كان شرطاً فيها، فلمَّا كان لهم المذكور دالاً على لازمه وهو الحضور، ووجوب الحضور دليلاً على لازمه وهو الاشتراط، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة. إلاَّ أنّه لا يتمّ إلاَّ بتسليم أنّ ما وجب في العبادة كان

شرطاً فيها، وقد قيل إنّه الغالب. ولَمّا كان الوجوب قد ينفكّ عن الشّرطيّة , قال أحمد: إنّها واجبة غير شرط. انتهى القول الثالث: ظاهر نصّ الشّافعيّ أنّها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدّمين من أصحابه , وقال به كثير من الحنفيّة والمالكيّة. القول الرابع: المشهور عند الباقين أنّها سنّة مؤكّدة. وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبةٍ: الأول: ما تقدّم. الثاني: ونقله إمام الحرمين عن ابن خزيمة، والذي نقله عنه النّوويّ الوجوب حسبما قال ابن بزيزة , إنّ بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه - صلى الله عليه وسلم - همّ بالتّوجّه إلى المتخلفين , فلو كانت الجماعة فرض عين ما همّ بتركها إذا توجّه. وتعقّب: بأنّ الواجب يجوز تركه لِمَا هو أوجب منه. قلت: وليس فيه أيضاً دليل على أنّه لو فعل ذلك لَم يتداركها في جماعة آخرين. الثالث: ما قال ابن بطّالٍ وغيره: لو كانت فرضاً لقال حين توعّد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لَم تجزئه صلاته، لأنّه وقت البيان. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ البيان قد يكون بالتّنصيص , وقد يكون بالدّلالة، فلمَّا قال - صلى الله عليه وسلم -: لقد هممت إلخ. دلَّ على وجوب الحضور وهو كافٍ في البيان. الرابع: ما قال الباجيّ وغيره: إنّ الخبر ورد مورد الزّجر وحقيقته

غير مرادة. وإنّما المراد المبالغة. ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفّار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك. وأجيب: بأنّ المنع وقع بعد نسخ التّعذيب بالنّار، وكان قيل ذلك جائزاً بدليل حديث أبي هريرة في البخاري (¬1) الدّال على جواز التّحريق بالنّار ثمّ على نسخه، فحمل التّهديد على حقيقته غير ممتنع. الخامس: كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك تحريقهم بعد التّهديد، فلو كان واجباً ما عفا عنهم قال القاضي عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجّة , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - همّ ولَم يفعل، زاد النّوويّ: ولو كانت فرض عين لَمَا تركهم. وتعقّبه ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لا يهمّ إلاَّ بما يجوز له فعله لو فعله، وأمّا التّرك فلا يدلّ على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التّخلّف الذي ذمّهم بسببه. على أنّه قد جاء في بعض الطّرق بيان سبب التّرك , وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبريّ عن أبي هريرة بلفظ: لولا ما في البيوت من النّساء والذّرّيّة لأقمت صلاة العشاء , وأمرت فتياني يحرّقون .. الحديث السادس: أنّ المراد بالتّهديد قومٌ تركوا الصّلاة رأساً لا مجرّد الجماعة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3016) وسيأتي لفظه قريباً إن شاء الله في الشرح.

وهو متعقّبٌ: بأنّ في رواية مسلم " لا يشهدون الصّلاة " أي: لا يحضرون، وفي رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد " لا يشهدون العشاء في الجميع " أي: في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعاً: لينتهينّ رجالٌ عن تركهم الجماعات , أو لأحرّقنّ بيوتهم. السابع: أنّ الحديث ورد في الحثّ على مخالفة فعل أهل النّفاق والتّحذير من التّشبّه بهم , لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتمّ الدّليل، أشار إليه الزين بن المنير. وهو قريبٌ من الوجه الرّابع. الثامن: أنّ الحديث ورد في حقّ المنافقين، فليس التّهديد لترك الجماعة بخصوصه , فلا يتمّ الدّليل. وتعقّب: باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنّه لا صلاة لهم، وبأنّه كان معرضاً عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويّتهم. وقد قال " لا يتحدّث النّاس أنّ محمّداً يقتل أصحابه " (¬1). وتعقّب ابن دقيق العيد هذا التّعقيب: بأنّه لا يتمّ إلاَّ إذا ادّعى أنّ ترك معاقبة المنافقين كان واجباً عليه ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنّه كان مخيّراً فليس في إعراضه عنهم ما يدلّ على وجوب ترك عقوبتهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3330) ومسلم (2584) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

انتهى. والذي يظهر لي أنّ الحديث ورد في المنافقين لقوله في البخاري " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " الحديث، ولقوله " لو يعلم أحدهم إلخ " لأنّ هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل. لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر. بدليل قوله في رواية عجلان " لا يشهدون العشاء في الجميع " وقوله في حديث أسامة " لا يشهدون الجماعة ". وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصمّ عن أبي هريرة عند أبي داود " ثمّ آتي قوماً يصلّون في بيوتهم , ليست بهم عِلَّة " (¬1).فهذا يدلّ على أنّ نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأنّ الكافر لا يُصلِّي في بيته إنّما يُصلِّي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبّه عليه القرطبيّ. وأيضاً فقوله في رواية المقبريّ " لولا ما في البيوت من النّساء والذّرّيّة " يدلّ على أنّهم لَم يكونوا كفّاراً , لأنّ تحريق بيت الكافر إذا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (549) ومن طريقه البيهقي في " الكبرى " (3/ 79) والدولابي في " الكنى " (2/ 793) والطبراني في " الأوسط " (7551) من طريق أبي المليح الحسن بن عمرو الرقي عن يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي عن يزيد بن الأصم به. وإسناده جيّد. وقد أخرجه مسلم في الصحيح (651) من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم. لكن لم يسق لفظه. وإنما قال بنحوه. أي نحو حديث الباب.

تعيّن طريقاً إلى الغلبة عليه لَم يمنع ذلك وجود النّساء والذّرّيّة في بيته. وعلى تقدير أن يكون المراد بالنّفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدلّ على الوجوب من جهة المبالغة في ذمّ من تخلف عنها. قال الطّيبيّ: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنّهم إذا سمعوا النّداء جاز لهم التّخلّف عن الجماعة، بل من جهة أنّ التّخلّف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدلّ عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلاَّ منافق " رواه مسلم، انتهى كلامه. وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عن أبي عمير بن أنس حدّثني عمومتي من الأنصار , قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يشهدهما منافق. يعني العشاء والفجر. ولا يقال فهذا يدلّ على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه. لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنّما ورد الوعيد في حقّ من تخلف , لأنّي أقول: بل هذا يقوّي ما ظهر لي أوّلاً أنّ المراد بالنّفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر. فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النّفاق عليه مجازاً لِمَا دلَّ عليه مجموع الأحاديث. التاسع: ما ادّعاه بعضهم: أنّ فرضيّة الجماعة كانت في أوّل الإسلام لأجل سدّ باب التّخلّف عن الصّلاة على المنافقين , ثمّ نسخ. حكاه عياض.

ويمكن أن يتقوّى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقّهم , وهو التّحريق بالنّار كما أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث وقال لنا: إن لقيتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش سماهما - فحرقوهما بالنار , قال: ثم أتيناه نودّعه حين أردنا الخروج، فقال: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلاَّ الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما. وكذا ثبوت نسخ ما يتضمّنه التّحريق من جواز العقوبة بالمال. ويدلّ على النّسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبل هذا، لأنّ الأفضليّة تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. العاشر: أنّ المراد بالصّلاة. الجمعة لا باقي الصّلوات، ونصره القرطبيّ. وتعقّب: بالأحاديث المصرّحة بالعشاء، وفيه بحثٌ , لأنّ الأحاديث اختلفت في تعيين الصّلاة التي وقع التّهديد بسببها. هل هي الجمعة أو العشاء، أو العشاء والفجر معاً؟. فإن لَم تكن أحاديث مختلفة ولَم يكن بعضها أرجح من بعض وإلاَّ وقف الاستدلال، لأنّه لا يتمّ إلاَّ إن تعيّن كونها غير الجمعة، أشار إليه ابن دقيق العيد، ثمّ قال: فليتأمّل الأحاديث الواردة في ذلك. انتهى. وقد تأمّلتها فرأيت التّعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أمّ مكتوم

وابن مسعود. أمّا حديث أبي هريرة. ففي البخاري من رواية الأعرج عنه. يومئ إلى أنّها العشاء. لقوله في آخره " لشهد العشاء " وفي رواية مسلم " يعني العشاء " ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضاً الإيماء إلى أنّها العشاء والفجر. وعيّنها السّرّاج في رواية له من هذا الوجه العشاء. حيث قال في صدر الحديث: أخّر العشاء ليلة فخرج فوجد النّاس قليلاً فغضب. فذكر الحديث. وفي رواية ابن حبّان من هذا الوجه " يعني الصّلاتين العشاء والغداة " وفي رواية عجلان والمقبريّ عند أحمد التّصريح بتعيين العشاء. ثمّ سائر الرّوايات عن أبي هريرة على الإبهام. وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصمّ عنه. فلم يسق لفظه , وساقه التّرمذيّ وغيره من هذا الوجه بإبهام الصّلاة، وكذلك رواه السّرّاج وغيره عن طرق عن جعفر، وخالفهم معمر عن جعفر فقال " الجمعة " أخرجه عبد الرّزّاق عنه، والبيهقيّ من طريقه. وأشار إلى ضعفها لشذوذها. ويدلّ على وهْمِه فيها رواية أبي داود والطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصمّ. فذكر الحديث، قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصمّ: يا أبا عوف الجمعة عَنَى أو غيرها؟ قال: صُمّت أذناي إن لَم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ,

ما ذكر جُمعةً ولا غيرها. فظهر أنّ الرّاجح في حديث أبي هريرة أنّها لا تختصّ بالجمعة. وأمّا حديث ابن أمّ مكتوم فسأذكره قريباً , وأنّه موافق لأبي هريرة. وأمّا حديث ابن مسعود. فأخرجه مسلم , وفيه الجزم بالجمعة (¬1) , وهو حديث مستقلّ , لأنّ مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدهما في الآخر , فيحمل على أنّهما واقعتان. كما أشار إليه النّوويّ والمحبّ الطّبريّ. وقد وافق ابنُ أمّ مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء. وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرّحمن عن عبد الله بن شدّاد عن ابن أمّ مكتوم , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل النّاس في صلاة العشاء , فقال: لقد هممت أنّي آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصّلاة فأحرّق عليهم بيوتهم. فقام ابن أمّ مكتوم فقال: يا رسولَ الله قد علمتَ ما بي؟ وليس لي قائد - زاد أحمد - وأنّ بيني وبين المسجد شجراً ونخلاً ولا أقدر على قائد كلّ ساعة. قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم. قال: فاحضرها. ولَم يرخّص له , ولابن حبّان من حديث جابر قال: أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فأتِها ولو حبواً. وقد حمله العلماء على أنّه كان لا يشقّ عليه التّصرّف ¬

_ (¬1) وتمامه عنده (652) عن عبد الله، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممتُ أن آمر رجلاً يُصلِّي بالناس، ثم أُحرِّق على رجالٍ يتخلفون عن الجمعة بيوتهم.

بالمشي وحده ككثيرٍ من العميان. واعتمد ابن خزيمة وغيره حديثَ ابن أمّ مكتوم هذا على فرضيّة الجماعة في الصّلوات كلّها , ورجّحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدّالة على الرّخصة في التّخلّف عن الجماعة، قالوا: لأنّ الرّخصة لا تكون إلاَّ عن واجب. وفيه نظرٌ. ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن دقيق العيد من يتمسّك بالظّاهر ولا يتقيّد بالمعنى، وهو أنّ الحديث ورد في صلاة معيّنةٍ فيدلّ على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتّمسّك بدلالة العموم. لكن نوزع في كون القول بما ذكر أوّلاً ظاهريّة محضة (¬1) فإنّ قاعدة حمل المطلق على المقيّد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك ترك اتّباع المعنى، لأنّ غير العشاء والفجر مظنّة الشّغل بالتّكسّب وغيره، أمّا العصران فظاهر، وأمّا المغرب فلأنّها في الغالب وقت الرّجوع إلى البيت والأكل ولا سيّما للصّائم مع مضيّ وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 168): ليس هذا بجيد , والصواب ما قاله ابن خزيمة وغيره من الموجبين للجماعة في جميع الصلوات , وإنما يستقيم حمل المطلق على المقيد إذا لَم يوجد دليلٌ على التعميم , وفي هذه المسألة قد قام الدليل على التعميم كحديث " من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلاَّ من عذر " وغيره من الأحاديث التي أشار إليها الشارح في هذا الباب. وذكر العشاء والفجر في بعض الروايات , ولإن الحكمة في شرعية الجماعة تقتضي التعميم. والله أعلم.

وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضاً انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النّهار، وليختموا النّهار بالاجتماع على الطّاعة ويفتتحوه كذلك. وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد , تخصيص التّهديد بمن حول المسجد. (¬1) وتقدم توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما. وقد أطلتُ في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعضٍ. واجتمع من الأجوبة لمن لَم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشّرح. وفي الحديث الإشارة إلى ذمّ المتخلفين عن الصّلاة بوصفهم بالحرص على الشّيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التّفريط فيما يحصل رفيع الدّرجات ومنازل الكرامة. وفي الحديث من الفوائد أيضاً تقديم الوعيد والتّهديد على العقوبة، وسرّه أنّ المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزّجر اكتفي به عن الأعلى من العقوبة، نبّه عليه ابن دقيق العيد. وفيه جواز العقوبة بالمال. كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكيّة وغيرهم. ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (7916 - 8256) من طريق ابن أبي ذئب عن عجلان عن أبي هريرة، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لينتهينَّ رجالٌ ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء الآخرة في الجميع، أو لأُحرِّقن حول بيوتهم بحزم الحطب.

وفيه نظرٌ لِمَا أسلفناه، ولاحتمال أنّ التّحريق من باب ما لا يتمّ الواجب إلاَّ به، إذ الظّاهر أنّ الباعث على ذلك أنّهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يتوصّل إلى عقوبتهم إلاَّ بتحريقها عليهم. وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرّةٍ , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - همّ بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصّلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحقّقون أنّه لا يطرقهم فيه أحدٌ. وفي السّياق إشعار بأنّه تقدّم منه زجرهم عن التّخلّف بالقول حتّى استحقّوا التّهديد بالفعل. وترجم عليه البخاريّ في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام (باب إخراج أهل المعاصي والرّيب من البيوت بعد المعرفة) يريد أنّ من طلب منهم بحقّ فاختفى أو امتنع في بيته لدداً ومطلاً أُخرج منه بكل طريق يتوصّل إليه بها، كما أراد - صلى الله عليه وسلم - إخراج المتخلفين عن الصّلاة بإلقاء النّار عليهم في بيوتهم. واستدل به ابن العربيّ وغيره: على مشروعيّة قتل تارك الصّلاة متهاوناً بها. ونوزع في ذلك. ورواية أبي داود التي فيها أنّهم كانوا يصلّون في بيوتهم كما قدّمناه. تعكّر عليه. نعم. يمكن الاستدلال منه بوجهٍ آخر , وهو أنّهم إذا استحقّوا التّحريق بترك صفةٍ من صفات الصّلاة خارجةٍ عنها. سواء قلنا واجبة أو مندوبة كان من تركها أصلاً رأساً أحقّ بذلك، لكن لا يلزم

من التّهديد بالتّحريق حصول القتل لا دائماً ولا غالباً، لأنّه يمكن الفرار منه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزّجر والإرهاب. وفي قوله في رواية أبي داود " ليست بهم عِلَّة " دلالة على أنّ الأعذار تبيح التّخلّف عن الجماعة - ولو قلنا إنّها فرضٌ - وكذا الجمعة. وفيه الرّخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفى في بيته ويتركها، ولا بُعد في أن تلحق بذلك الجمعة، فقد ذكروا من الأعذار في التّخلّف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حقّ الإمام كالغرماء. واستدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة. قال ابن بزيزة: وفيه نظرٌ. لأنّ الفاضل في هذه الصّورة يكون غائباً، وهذا لا يختلف في جوازه. واستدل به ابن العربيّ على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك. وتعقّب: بأنّه منسوخٌ (¬1) كما قيل في العقوبة بالمال، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 170): جَزْم الشارح ليس بجيد , والصواب عدم النسخ لأدلة كثيرة معروفة في محلها منها حديث الباب , وإنما المنسوخ التعذيب بالنار فقط. والله أعلم

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 65 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استأذنتْ أحدَكم امرأتُه إلى المسجد فلا يَمنعْها. قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعَهنّ , قال: فأقبل عليه عبد الله , فسبَّه سبَّاً سيّئاً , ما سمعته سبَّه مثله قطّ , وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لنمنعهنّ؟. (¬1). وفي لفظٍ: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. قوله: (إذا استأذنت أحدَكم امرأتُه إلى المسجد) وللبخاري من رواية حنظلة عن سالم " إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد " , ولَم يذكر أكثر الرّواة عن حنظلة قوله " بالليل " كذلك أخرجه مسلم وغيره. وقد اختلف فيه على الزّهريّ عن سالم عن أبيه أيضاً. فأورده البخاري من رواية معمر , ومسلم من رواية يونس بن يزيد , وأحمد من رواية عقيل والسّرّاج من رواية الأوزاعيّ كلّهم من الزّهريّ بغير تقييد، وكذا أخرجه البخاري في النّكاح عن عليّ بن المدينيّ عن سفيان بن عيينة عن الزّهريّ بغير قيد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (835 , 4940) ومسلم (442) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه به. واللفظ لمسلم. ولم يذكر البخاري قصّة بلال بن عبد الله كما سيذكره الشارح. ورواه البخاري (837) من رواية حنظلة عن سالم. وقيّده بالليل كما سيأتي في الشرح. ولحديث طرق أخرى في الصحيحين سيذكرها الشارح رحمه الله.

ووقع عند أبي عوانة في " صحيحه " عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة. مثله , لكن قال في آخره: " يعني بالليل ". وبيّن ابن خزيمة عن عبد الجبّار بن العلاء , أنّ سفيان بن عيينة هو القائل " يعني " وله عن سعيد بن عبد الرّحمن عن ابن عيينة , قال: قال نافع: بالليل، وله عن يحيى بن حكيم عن ابن عيينة قال: جاءنا رجل فحدّثنا عن نافع , قال: إنّما هو بالليل. وسمّى عبد الرّزّاق عن ابن عيينة الرّجل الْمُبهم , فقال بعد روايته عن الزّهريّ: قال ابن عيينة: وحدّثنا عبد الغفّار - يعني ابن القاسم - أنّه سمع أبا جعفر - يعني الباقر - يخبر بمثل هذا عن ابن عمر، قال: فقال له نافع مولى ابن عمر: إنّما ذلك بالليل. وكأنّ اختصاص الليل بذلك لكونه أستر، ولا يخفى أنّ محلّ ذلك إذا أمنت المفسدة منهنّ وعليهنّ. قال النّوويّ: استدل به على أنّ المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلاَّ بإذنه لتوجّه الأمر إلى الأزواج بالإذن. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّه إن أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب وهو ضعيف، لكن يتقوّى بأن يقال: إنّ منع الرّجال نساءهم أمر مقرّر، وإنّما علَّق الحكم بالمساجد لبيان محلّ الجواز فيبقى ما عداه على المنع، وفيه إشارة إلى أنّ الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنّه لو كان واجباً لانتفى معنى الاستئذان، لأنّ ذلك إنّما يتحقّق إذا كان المستأذن مخيّراً في الإجابة أو الرّدّ.

قوله: (فقال بلال بن عبد الله) وللبخاريّ من رواية ورقاء عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عمر بلفظ: ائذنوا للنّساء بالليل إلى المساجد. ووافقه مسلم على إخراجه من هذا الوجه أيضاً , وزاد فيه: فقال له ابنٌ له يقال له واقد: إذاً يتّخذنه دَغَلاً، قال: فضرب في صدره , وقال: أحدّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وتقول: لا. ولَم أر لِهذه القصّة ذكراً في شيء من الطّرق التي أخرجها البخاريّ لهذا الحديث، وقد أوهم صنيع صاحب العمدة خلاف ذلك، ولَم يتعرّض لبيان ذلك أحدٌ من شرّاحه. وأظنّ البخاريّ اختصرها للاختلاف في تسمية ابن عبد الله بن عمر. فقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر , وسمّى الابن بلالاً , فأخرجه من طريق كعب بن علقمة عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: لا تمنعوا النّساء حظوظهنّ المساجد إذا استأذنّكم، فقال بلال: والله لنمنعهنّ. الحديث. وللطّبرانيّ من طريق عبد الله بن هبيرة عن بلال بن عبد الله نحوه. وفيه. فقلت: أمّا أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فليسرّح أهله ". وفي رواية يونس عن ابن شهاب الزّهريّ عن سالم في هذا الحديث " قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهنّ , ومثله في رواية عقيل عند أحمد، وعنده في رواية شعبة عن الأعمش عن مجاهد. فقال سالم

أو بعض بنيه: والله لا ندعهنّ يتّخذنه دَغَلاً. الحديث. والرّاجح من هذا. أنّ صاحب القصّة بلال , لورود ذلك من روايته نفسه ومن رواية أخيه سالم، ولَم يختلف عليهما في ذلك. وأمّا هذه الرّواية الأخيرة فمرجوحة لوقوع الشّكّ فيها، ولَم أره مع ذلك في شيء من الرّوايات عن الأعمش مسمّىً , ولا عن شيخه مجاهد، فقد أخرجه أحمد من رواية إبراهيم بن مهاجر وابن أبي نجيح وليث بن أبي سليمٍ كلّهم عن مجاهد , ولَم يسمّه أحدٌ منهم. فإن كانت رواية عمرو بن دينار عن مجاهد محفوظةً في تسميته واقداً. فيحتمل: أن يكون كلّ من بلال وواقد وقع منه ذلك. إمّا في مجلس أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلاً منهما بجوابٍ يليق به. ويقوّيه اختلاف النّقلة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم " فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّاً سيّئاً ما سمعته يسبّه مثله قطّ ". وفسّر عبد الله بن هبيرة في رواية الطّبرانيّ السّبَّ المذكور باللعن ثلاث مرّات، وفي رواية زائدة عن الأعمش " فانتهره. وقال: أفٍّ لك " , وله عن ابن نمير عن الأعمش " فعل الله بك وفعل " ومثله للتّرمذيّ من رواية عيسى بن يونس. ولمسلمٍ من رواية أبي معاوية " فزبره " , ولأبي داود من رواية جرير " فسبّه وغضب ". فيحتمل: أن يكون بلال البادئ , فلذلك أجابه بالسّبّ المفسّر

باللعن، وأن يكون واقد بدأه فلذلك أجابه بالسّبّ المفسّر بالتّأفيف مع الدّفع في صدره، وكأنّ السّرّ في ذلك أنّ بلالاً عارض الخبر برأيه , ولَم يذكر عِلَّة المخالفة، ووافقه واقد , لكن ذكرها بقوله " يتّخذنه دَغَلاً " , وهو بفتح المهملة ثمّ المعجمة , وأصله الشّجر الملتفّ ثمّ استعمل في المخادعة لكون المخادع يلفّ في ضميره أمراً , ويظهر غيره. وكأنّه قال ذلك لِمَا رأى من فساد بعض النّساء في ذلك الوقت وحمَلَتْه على ذلك الغيرة، وإنّما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا فلو قال مثلاً: إنّ الزّمان قد تغيّر , وإنّ بعضهنّ ربّما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره لكان يظهر أن لا ينكر عليه. وإلى ذلك أشارت عائشة: لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهنَّ كما مُنعت نساء بنى إسرائيل. قلت لعمرة: أَوَ مُنِعْن؟ قالت: نعم. متفق عليه وأُخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السّنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرّجل ولده وإن كان كبيراً إذا تكلم بما لا ينبغي له. وجواز التّأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد " فما كلَّمه عبد الله حتّى مات " , وهذا - إن كان محفوظاً - يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصّة بيسيرٍ. تكميلٌ: قوله " بالليل ": فيه إشارة إلى أنهم ما كانوا يمنعونهن

بالنّهار , لأن الليل مظنّة الربية , ولأجل ذلك قال بن عبد الله بن عمر: لا نأذن لهنّ يتخذنه دَغَلاً. كما تقدم ذكره من عند مسلم. وقال الكرماني: هذا من مفهوم الموافقة لأنّه إذا أذن لهنّ بالليل مع أنَّ الليل مظنّة الرّيبة فالاذن بالنّهار بطريق الأولى , وقد عكس هذا بعض الحنفيّة , فجرى على ظاهر الخبر , فقال: التّقييد بالليل لكون الفسّاق فيه في شغل بفسقهم بخلاف النّهار فإنّهم ينتشرون فيه , وهذا - وإن كان ممكناً - لكن مظنّة الرّيبة في الليل أشد , وليس لكلهم في الليل ما يجد ما يشتغل به , وأما النّهار فالغالب أنه يفضحهم غالباً ويصدهم عن التّعرّض لهنّ ظاهراً لكثرة انتشار النّاس ورؤية من يتعرّض فيه لِمَا لا يحل له , فينكر عليه. والله أعلم. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث عامٌ في النساء، إلاَّ أنَّ الفقهاء خصوه بشروط: منها: أن لا تتطيب، وهو في بعض الروايات " وليخرجن تفلات ". قلت: هو بفتح المثناة وكسر الفاء. أي: غير متطيبات، ويقال: امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح، وهو عند أبي داود وابن خزيمة من حديث أبي هريرة , وعند ابن حبان من حديث زيد بن خالد. وأوله: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. ولمسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود: إذا شَهِدتْ إحداكن المسجد فلا تمسن طيباً. قال: ويلحق بالطيب ما في معناه , لأن سبب المنع منه ما فيه من

تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة , وكذا الاختلاط بالرجال. وفرَّق كثيرٌ من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها. وفيه نظرٌ، إلاَّ إن أخذ الخوف عليها من جهتها , لأنها إذا عَرِيتْ مما ذُكر , وكانت مستترة حصل الأمن عليها , ولا سيما إذا كان ذلك بالليل. وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر بلفظ: لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ. أخرجه أبو داود وصحَّحه ابن خزيمة. ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية , أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقالت: يا رسولَ الله، إني أحبُّ الصلاة معك. قال: قد علمتُ، وصلاتك في بيتك خيرٌ لكِ من صلاتك في حجرتكِ، وصلاتكِ في حجرتكِ خيرٌ من صلاتكِ في داركِ، وصلاتكِ في داركِ خيرٌ من صلاتكِ في مسجد قومكِ، وصلاتكِ في مسجد قومكِ خيرٌ من صلاتكِ في مسجد الجماعة. وإسناد أحمد حسن، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود. ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة، ومن ثَمَّ قالت عائشة: لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن كما

منعت نساء بني إسرائيل , قلت لعمرة: أومنعن؟ قالت: نعم. وفي جواب سؤال يحيى بن سعيد لها يظهر أنها تلقته عن عائشة. ويحتمل: أن يكون عن غيرها. وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفاً أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه. قالت: كُنَّّ نساء بني إسرائيل يتخذن أرجُلاً من خشب يتشرفن للرجال في المساجد، فحرَّم الله عليهن المساجد، وسُلّطت عليهن الحيضة. وهذا - وإن كان موقوفاً - فحكمه حكم الرفع , لأنه لا يقال بالرأي (¬1). وروى عبد الرزاق أيضا نحوه بإسناد صحيح عن ابن مسعود. وقد أشرت إلى ذلك في أول كتابه الحيض (¬2). وتمسَّك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقاً. وفيه نظرٌ، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم , لأنها علَّقته على شرط لَم يوجد. بناءً على ظنٍّ ظنَّته , فقالت " لو رأى لمنع " فيقال عليه: لَم ير ولَم يمنع، فاستمر الحكم حتى إنَّ عائشة لَم تصرِّح بالمنع. وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 452): هذا فيه نظرٌ , والأقرب أنها تلقّت ما ذُكر عن نساء بني إسرائيل. ويدلُّ على إنكار الرفع , قولها " وسلّطت عليهن الحيضة " والحيض موجود في بني إسرائيل , وقبل بني إسرائيل , وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , أنه قال لعائشة لَمَّا حاضت في حجة الوداع: هذا شيئٌ كتب الله على بنات آدم " والكلام في أثر ابن مسعود المذكور كالكلام في أثر عائشة. والله أعلم. (¬2) تقدَّم نقل كلام الشارح في أول باب الحيض. فانظره.

وأيضاً فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى. وأيضاً فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت. والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بمنع التطيب والزينة، وكذلك التقيد بالليل كما سبق.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 66 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: صليتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظّهر , وركعتين بعدها , وركعتين بعد الجمعة , وركعتين بعد المغرب , وركعتين بعد العشاء. وفي لفظ: فأمّا المغرب والعشاء والجمعة , ففي بيته. وفي لفظٍ: أنّ ابن عمر قال: حدّثتني حفصة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: كان يُصلِّي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر , وكانت ساعةً لا أدخل على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها. (¬1) قوله: (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) المراد بقوله مع , التّبعيّة. أي: أنّهما اشتركا في كون كلٍّ منهما صلاةً إلاَّ التّجميع , فلا حجّة فيه لِمَن قال يجمع في رواتب الفرائض , ولهما من رواية أيّوب عن نافع عن ابن عمر قال: حفظت من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعاتٍ. فذكرها. قوله: (ركعتين قبل الظّهر) قال الدّاوديّ: وقع في حديث ابن عمر أنّ قبل الظّهر ركعتين , وفي حديث عائشة عند البخاري: كان لا يدع أربعاً قبل الظهر. وهو محمولٌ على أنّ كلّ واحد منهما وصف ما رأى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (593 , 895 , 1112 , 1119 , 1126) ومسلم (723 , 729) من طرق عن نافع عن ابن عمر به. وأخرجه البخاري (1112) ومسلم (723) من طريق سالم عن أبيه. ذكر البخاريُّ سنن الرواتب. وذكَرَ مسلمٌ ركعتي الفجر فقط.

قال: ويحتمل: أن يكون نسي ابن عمر ركعتين من الأربع. قلت: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين: فكان تارةً يُصلِّي ثنتين وتارةً يُصلِّي أربعاً. وقيل: هو محمولٌ على أنّه كان في المسجد يقتصر على ركعتين , وفي بيته يُصلِّي أربعاً. ويحتمل: أن يكون يُصلِّي إذا كان في بيته ركعتين , ثمّ يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين , فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته , واطّلعت عائشة على الأمرين. ويقوّي الأوّل. ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يُصلِّي في بيته قبل الظّهر أربعاً ثمّ يخرج. قال أبو جعفر الطّبريّ: الأربع كانت في كثيرٍ من أحواله، والرّكعتان في قليلها. قوله: (وركعتين بعد الجمعة) وللبخاري " وكان لا يُصلِّي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين " ولَم يذكر شيئاً في الصّلاة قبلها. قال ابن المنير في الحاشية: كأنّه يقول (¬1) الأصل استواء الظّهر والجمعة حتّى يدل دليل على خلافه، لأنّ الجمعة بدل الظّهر. قال: وكانت عنايته بحكم الصّلاة بعدها أكثر، ولذلك قدّمه في التّرجمة على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد. اه ¬

_ (¬1) أي: البخاري. فإنه ترجم على هذا الحديث بقوله (الصلاة بعد الجمعة وقبلها)

ووجه العناية المذكورة ورود الخبر في البعد صريحاً دون القبل. وقال ابن بطّال: إنّما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد الظّهر من أجل أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي سنّة الجمعة في بيته بخلاف الظّهر، قال: والحكمة فيه أنّ الجمعة لَمّا كانت بدل الظّهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التّنفّل بعدها في المسجد خشية أن يظنّ أنّها التي حذفت. انتهى. وعلى هذا فينبغي أن لا يتنفّل قبلها ركعتين متّصلتين بها في المسجد لهذا المعنى. وقال ابن التّين: لَم يقع ذكر الصّلاة قبل الجمعة في هذا الحديث، فلعل البخاريّ أراد إثباتها قياساً على الظّهر. انتهى. وقوّاه الزين بن المنير: بأنّه قصد التّسوية بين الجمعة والظّهر في حكم التّنفّل كما قصد التّسوية بين الإمام والمأموم في الحكم، وذلك يقتضي أنّ النّافلة لهما سواء. انتهى والذي يظهر أنّ البخاريّ أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب، وهو ما رواه أبو داود وابن حبّان من طريق أيّوب عن نافعٍ قال: كان ابن عمر يطيل الصّلاة قبل الجمعة , ويُصلِّي بعدها ركعتين في بيته , ويحدّث أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. احتجّ به النّوويّ في الخلاصة على إثبات سنّة الجمعة التي قبلها. وتعقّب: بأنّ قوله " وكان يفعل ذلك " عائد على قوله " ويُصلِّي بعد الجمعة ركعتين في بيته " ويدلّ عليه رواية الليث عن نافعٍ عن عبد الله , أنّه كان إذا صلَّى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته , ثمّ قال

: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك. أخرجه مسلم. وأمّا قوله " كان يطيل الصّلاة قبل الجمعة " فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصحّ أن يكون مرفوعاً , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إذا زالت الشّمس فيشتغل بالخطبة ثمّ بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجّة فيه لسنّة الجمعة التي قبلها بل هو تنفّلٌ مطلق، وقد ورد التّرغيب فيه كما في حديث سلمان وغيره عند البخاري قال فيه: ثمّ صلَّى ما كُتب له. وورد في سنّة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفةٌ. منها عن أبي هريرة رواه البزّار بلفظ: كان يُصلِّي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعاً. وفي إسناده ضعفٌ، وعن عليٍّ مثله. رواه الأثرم والطّبرانيّ في " الأوسط " بلفظ: كان يُصلِّي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. وفيه محمّد بن عبد الرّحمن السّهميّ وهو ضعيفٌ عند البخاريّ وغيره، وقال الأثرم: إنّه حديث واهٍ. ومنها عن ابن عبّاس مثله. وزاد " لا يفصل في شيءٍ منهنّ " أخرجه ابن ماجه بسندٍ واهٍ. قال النّوويّ في الخلاصة: إنّه حديث باطل. وعن ابن مسعود عند الطّبرانيّ أيضاً مثله. وفي إسناده ضعف وانقطاع. ورواه عبد الرّزّاق عن ابن مسعود موقوفاً وهو الصّواب. وروى ابن سعد عن صفيّة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - موقوفاً , نحو حديث أبي

هريرة. وقد تقدّم نقل المذاهب في كراهة التّطوّع نصف النّهار , ومن استثنى يوم الجمعة دون بقيّة الأيّام في المواقيت (¬1). وأقوى ما يتمسّك به في مشروعيّة ركعتين قبل الجمعة عموم ما صحَّحه ابن حبّان من حديث عبد الله بن الزّبير مرفوعاً: ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلاَّ وبين يديها ركعتان. ومثله حديث عبد الله بن مغفّل - رضي الله عنه - " بين كل أذانين صلاة " (¬2) قوله: (فأمّا المغرب والعشاء ففي بيته) استُدل به على أنّ فعل النّوافل الليليّة في البيوت أفضل من المسجد , بخلاف رواتب النّهار , وحُكي ذلك عن مالكٍ والثّوريّ. وفي الاستدلال به لذلك نظرٌ , والظّاهر أنّ ذلك لَم يقع عن عمدٍ , وإنّما كان - صلى الله عليه وسلم - يتشاغل بالنّاس في النّهار غالباً , وبالليل يكون في بيته غالباً , وتقدّم من طريق مالكٍ عن نافعٍ بلفظ: وكان لا يُصلِّي بعد الجمعة حتّى ينصرف. والحكمة في ذلك أنّه كان يبادر إلى الجمعة ثمّ ينصرف إلى القائلة بخلاف الظّهر فإنّه كان يبرد بها , وكان يقيل قبلها. وأغرب ابن أبي ليلى , فقال: لا تجزئ سنّة المغرب في المسجد. حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - المتقدم برقم (60) (¬2) أخرجه البخاري (624) ومسلم (1977).

إنّ الرّكعتين بعد المغرب من صلاة البيوت. (¬1) وقال: إنّه حكى ذلك لأبيه عن ابن أبي ليلى. فاستحسنه. قوله: (وحدّثتني حفصة) أي: أخته بنت عمر، وقائل ذلك. هو عبد الله بن عمر. وكانت حفصةُ أسنَّ من أخيها عبد الله. فإنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين , وعبد الله وُلد بعد البعثة بثلاث أو أربع. وأخرج ابن سعد والدارمي والحاكم , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - طلَّق حفصة ثم راجعها. ولابن سعد مثله من حديث ابن عباس عن عمر. وإسناده حسن، ومن طريق قيس بن زيد مثله. وزاد " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ جبريل أتاني فقال لي: راجع حفصة فإنها صوَّامة قوَّامة، وهي زوجتك في الجنة. وقيس مختلف في صحبته، ونحوه عنده من مرسل محمد بن سيرين. قوله: (سجدتين خفيفتين). اختلف في حكمة تخفيفهما. فقيل: ليبادر إلى صلاة الصّبح في أوّل الوقت وبه جزم القرطبيّ. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (23624) وابن أبي شيبة في " المصنف " (6373) عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بنا المغرب في مسجدنا , فلمَّا سلَّم منها قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم. لِلسُبحة بعد المغرب. وصحَّحه ابن خزيمة (1200) ورواه ابن ماجه في " السنن " (1165) عن محمود عن رافع بن خديج , وهو وهْم , والصواب الأول. ولأبي داود (1300) والترمذي. واستغربه (604) والنسائي (1600) من حديث كعب بن عُجْرة - رضي الله عنه - نحوه. وفيه " هذه صلاة البيوت " لفظ أبي داود.

وقيل: ليستفتح صلاة النّهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاطٍ واستعداد تامّ. والله أعلم ولهما عن عائشة، أنّها كانت تقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي ركعتي الفجر فيخفّف، حتّى إنّي أقول: هل قرأ فيهما بأمّ القرآن؟. وقد تمسّك به من زعم أنّه لا قراءة في ركعتي الفجر أصلاً. وهو قول محكي عن أبي بكر الأصم وإبراهيم بن علية وتعقّب: بما ثبت في الأحاديث الآتية. قال القرطبيّ: ليس معنى هذا أنّها شكّت في قراءته - صلى الله عليه وسلم - الفاتحة , وإنّما معناه أنّه كان يطيل في النّوافل، فلمّا خفّف في قراءة ركعتي الفجر صار كأنّه لَم يقرأ بالنّسبة إلى غيرها من الصّلوات. قلت: وفي تخصيصها أمّ القرآن بالذّكر إشارة إلى مواظبته لقراءتها في غيرها من صلاته. وقد روى ابن ماجه بإسنادٍ قويّ عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي ركعتين قبل الفجر , وكان يقول: نِعْمَ السّورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر: قل يا أيّها الكافرون , وقل هو الله أحد. ولابن أبي شيبة من طريق محمّد بن سيرين عن عائشة , كان يقرأ فيهما بهما , ولمسلمٍ من حديث أبي هريرة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيهما بهما. وللتّرمذيّ والنّسائيّ من حديث ابن عمر: رمقتُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شهراً

فكان يقرأ فيهما بهما. وللتّرمذيّ من حديث ابن مسعود مثله بغير تقييد، وكذا للبزّار عن أنس، ولابن حبّان عن جابر ما يدلّ على التّرغيب في قراءتهما فيهما. واستدل بحديث عائشة. القول الأول: على أنّه لا يزيد فيهما على أمّ القرآن. وهو قول مالك. القول الثاني: في البويطيّ عن الشّافعيّ: استحباب قراءة السّورتين المذكورتين فيهما مع الفاتحة عملاً بالحديث المذكور، وبذلك قال الجمهور. وقالوا: معنى قول عائشة " هل قرأ فيهما بأمّ القرآن " أي: مقتصراً عليها أو ضمّ إليها غيرها، وذلك لإسراعه بقراءتها، وكان من عادته أن يرتّل السّورة حتّى تكون أطول من أطول منها. القول الثالث: ذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما , وهو قول أكثر الحنفيّة، ونقل عن النّخعيّ، وأورد البيهقيّ فيه حديثاً مرفوعاً من مرسل سعيد بن جبير. وفي سنده راوٍ لَم يُسمّ. القول الرابع: خصّ بعضهم ذلك. بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل فيستدركها في ركعتي الفجر، ونقل ذلك عن أبي حنيفة. وأخرجه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن الحسن البصريّ. واستُدل بالأحاديث المذكورة على أنّه لا يتعيّن قراءة الفاتحة في الصّلاة , لأنّه لَم يذكرها مع سورتي الإخلاص.

وروى مسلم من حديث ابن عبّاس , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر (قولوا آمنّا بالله) التي في البقرة، وفي الأخرى التي في آل عمران. (¬1) وأجيب: بأنّه ترك ذكر الفاتحة لوضوح الأمر فيها. ويؤيّده أنّ قول عائشة " لا أدري أقرأ الفاتحة أم لا؟. فدلَّ على أنّ الفاتحة كان مقرّراً عندهم أنّه لا بدّ من قراءتها. والله أعلم. قوله: (وكانت ساعة) قائل ذلك هو ابن عمر. وفي رواية لهما: وحدّثتني حفصة أنّه كان إذا أذّن المؤذّن , وطلع الفجر صلَّى ركعتين ". وهذا يدلّ على أنّه إنّما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الرّكعتين قبل الصّبح. لا أصل مشروعيّتهما. وفي الحديث حجّةٌ لمن ذهب إلى أنّ للفرائض رواتب تستحبّ المواظبة عليها وهو قول الجمهور. وذهب مالك في المشهور عنه. إلى أنّه لا توقيت في ذلك حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوّعٍ بما شاء إذا أمن ذلك. وذهب العراقيّون من أصحابه إلى موافقة الجمهور. ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً , وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64).

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 67 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: لَم يكن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ من النّوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر. (¬1) وفي لفظٍ لمسلمٍ: ركعتا الفجر خيرٌ من الدّنيا وما فيها. (¬2) قوله: (النوافل) في رواية أبي عاصم عن ابن جريجٍ عند البيهقيّ. قلت لعطاءٍ: أواجبة ركعتا الفجر , أو هي من التّطوّع؟ فقال: حدّثني عبيد بن عمير عن عائشة. فذكر الحديث. وجاء عن عائشة أيضاً تسميتها تطوّعاً من وجه آخر، فعند مسلم من طريق عبد الله بن شقيق , سألت عائشة عن تطوّع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث. وفيه " وكان إذا طلع الفجر صلَّى ركعتين ". قوله: (أشدّ تعاهداً) في رواية ابن خزيمة " أشدّ معاهدة " (¬3) , ولمسلمٍ من طريق حفص عن ابن جريجٍ: ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الرّكعتين قبل الفجر , زاد ابن خزيمة من هذا الوجه " ولا إلى غنيمة ". تكميلٌ: أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: صلَّى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1116) ومسلم (724) من طريق ابن جريج، قال: حدثني عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها به. (¬2) مسلم (725) من ظريق قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة به. (¬3) وهي رواية مسلم أيضاً.

النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم صلَّى ثماني ركعات، وركعتين جالساً، وركعتين بين النداءين , ولَم يكن يدعهما أبدا. قوله " ولَم يكن يدعهما أبداً " استدل به لِمَن قال بالوجوب، وهو منقول عن الحسن البصريّ أخرجه ابن أبي شيبة عنه بلفظ: كان الحسن يرى الرّكعتين قبل الفجر واجبتين. والمراد بالفجر هنا صلاة الصّبح. ونقل المرغينانيّ مثله عن أبي حنيفة. وفي " جامع المحبوبيّ " عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: لو صلاّهما قاعداً من غير عذر لَم يجز. واستدل به بعض الشّافعيّة للقديم في أنّ ركعتي الفجر أفضل التّطوّعات. وقال الشّافعيّ في الجديد: أفضلها الوتر. وقال بعض أصحابه: أفضلها صلاة الليل لِمَا روى مسلم من حديث أبي هريرة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أفضل الصّلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل. فائدة: ورد في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح ففيه " ثم صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح كما كان يصلي " , وله من حديث أبي هريرة في هذه القصة أيضاً " ثم دعا بماء فتوضأ ثم صلى سجدتين - أي ركعتين - ثم أقيمت الصلاة فصلى صلاة الغداة " الحديث

قال صاحب الهدي (¬1): لم يُحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلَّى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها في السفر، إلاَّ ما كان من سنة الفجر. قلت: ويرِد على إطلاقه ما رواه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر. وكأنه لم يثبت عنده، لكن الترمذي استغربه , ونقل عن البخاري أنه رآه حسناً، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر، والله أعلم قوله: (وفي لفظٍ لمسلمٍ: ركعتا الفجر خيرٌ من الدّنيا وما فيها) (¬2) ¬

_ (¬1) أي: ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) (¬2) قال ابن الملقن في الإعلام (2/ 417): قال النووي في شرح مسلم: أي: خير من الدنيا ومتاعها. وقال غيره: المراد بالدنيا حياتها وما فيها متاعها لا لذاتها , وكأنه قال: خير من متاع الدنيا. وقال غيرهما: إنما قال ذلك , لأنه بشّر أن حساب أمته يقدر بهما , فلهذا كانتا عنده خير من الدنيا وما فيها لِمَا يتذكر بها من عظم رحمة الله بأمته من ذلك الموقف العظيم. وقال بعض فضلاء المالكية: في تفسير النووي السالف نظرٌ , فإنه قد جاء في الحديث الآخر: الدنيا ملعونة ملعون مافيها إلاَّ ذكر الله الحديث " وخير هنا أفعل تفضيل , وهو يقتضي المشاركة في الأصل وزيادة كما تقرر , ولا مشاركة بين فضيلة ركعتي الفجر ومتاع الدنيا المخبر عنه بأنه ملعون، ويبعد أن يحمل كلام الشارع على ما شذ من قولهم: العسل أحلى من الخل. إلاَّ أن يقال: إنَّ المعنى مايحصل من نعيم ثواب ركعتي الفجر في الدار الآخرة خير مما يتنعم به في الدنيا فترجع المفاضلة إلى ذات النعيم الحاصل بين الدارين , لا إلى نفس ركعتي الفجر ومتاع الدنيا. انتهى

باب الأذان والإقامة

باب الأذان والإقامة الأذان لغةً الإعلام، قال الله تعالى (وأذانٌ من الله ورسوله). واشتقاقه من الأَذَن بفتحتين وهو الاستماع. وشرعاً الإعلام بوقت الصّلاة بألفاظٍ مخصوصة. قال القرطبيّ وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنّه بدأ بالأكبريّة. وهي تتضمّن وجود الله وكماله، ثمّ ثنّى بالتّوحيد ونفي الشّريك، ثمّ بإثبات الرّسالة لمحمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ دعا إلى الطّاعة المخصوصة عَقِب الشّهادة بالرّسالة لأنّها لا تعرف إلاَّ من جهة الرّسول، ثمّ دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدّائم وفيه الإشارة إلى المعاد، ثمّ أعاد ما أعاد توكيداً. ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدّعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام. والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول وتيسّره لكل أحدٍ في كل زمان ومكان. واختلف أيّهما أفضل الأذان أو الإمامة؟. ثالثها , إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة فهي أفضل وإلا فالأذان، وفي كلام الشّافعيّ ما يومئ إليه. واختلف أيضاً في الجمع بينهما. فقيل: يكره، وفي البيهقيّ من حديث جابر مرفوعاً النّهي عن ذلك. لكنّ سنده ضعيف، وصحّ عن عمر: لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذّنت. رواه سعيد بن منصور وغيره.

وقيل: هو خلاف الأولى، وقيل: يستحبّ. وصحَّحه النّوويّ. فوائد: الفائدة الأولى: أخرج البخاري في " صحيحه " عن ابن عمر قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيَّنون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلَّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بلال قم فناد بالصلاة. وهو ظاهر في أنّ الأذان إنّما شرع بعد الهجرة، فإنّه نفى النّداء بالصّلاة قبل ذلك مطلقاً. وقوله في آخره " يا بلال: قم فناد بالصّلاة " كان ذلك قبل رؤيا عبد الله بن زيد، وسياق حديثه يدلّ على ذلك. كما أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان من طريق محمّد بن إسحاق قال: حدّثني محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن محمّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه قال: حدّثني عبد الله بن زيد، فذكر نحو حديث ابن عمر، وفي آخره " فبينما هم على ذلك , أُري عبد الله النّداء. فذكر الرّؤيا. وفيها صفة الأذان لكن بغير ترجيع، وفيه تربيع التّكبير وإفراد الإقامة وتثنية قد قامت الصّلاة , وفي آخره قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنّها لرؤيا حقّ إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال فألقها عليه فإنّه أندى صوتاً منك , وفيه مجيء عمر , وقوله: إنّه رأى مثل ذلك. الفائدة الثانية: وردتْ أحاديث تدلّ على أنّ الأذان شرع بمكّة قبل

الهجرة , منها للطّبرانيّ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: لَمّا أسري بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أوحى الله إليه الأذان , فنزل به فعلَّمه بلالاً. وفي إسناده طلحة بن زيد. وهو متروك. وللدّارقطنيّ في " الأطراف " من حديث أنس , أنّ جبريل أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالأذان حين فرضت الصّلاة. وإسناده ضعيف أيضاً. ولابن مردويه من حديث عائشة مرفوعاً: لَمّا أُسري بي أذّن جبريل فظنّت الملائكة أنّه يُصلِّي بهم فقدّمني فصليت. وفيه من لا يُعرف. وللبزّار وغيره من حديث عليّ , قال: لَمّا أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بدابّةٍ يقال لها البراق فركبها. فذكر الحديث. وفيه: إذ خرج ملكٌ من وراء الحجاب فقال: الله أكبر، الله أكبر، وفي آخره: ثمّ أخذ الملك بيده فأمّ بأهل السّماء. وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود. وهو متروكٌ أيضاً. ويمكن على تقدير الصّحّة. أن يحمل على تعدّد الإسراء فيكون ذلك وقع بالمدينة. وأمّا قول القرطبيّ: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعاً في حقّه، ففيه نظرٌ , لقوله في أوّله: لَمّا أراد الله أن يعلم رسوله الأذان. وكذا قول المحبّ الطّبريّ: يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللّغويّ وهو الإعلام. ففيه نظرٌ أيضاً لتصريحه بكيفيّته المشروعة فيه. والحقّ أنّه لا يصحُّ شيءٌ من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي بغير أذان منذ فرضت الصّلاة بمكّة إلى أن هاجر إلى المدينة , وإلى أن وقع التّشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر ثمّ حديث عبد الله بن زيد. انتهى. وقد حاول السّهيليّ الجمع بينهما فتكلف وتعسّف، والأخذ بما صحّ أولى، فقال بانياً على صحّة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصّحابيّ: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي، فلمّا تأخّر الأمر بالأذان عن فرض الصّلاة وأراد إعلامهم بالوقت , فرأى الصّحابيّ المنام فقصّها , فوافقت ما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سمعه فقال: إنّها لرؤيا حقّ " , وعلم حينئذٍ أنّ مراد الله بما أراه في السّماء أن يكون سنّةً في الأرض، وتقوّى ذلك بموافقة عمر , لأنّ السّكينة تنطق على لسانه. الفائدة الثانية: ممّا كثر السّؤال عنه. هل باشر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأذان بنفسه؟. وقد وقع عند السّهيليّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أذّن في سفر , وصلَّى بأصحابه وهم على رواحلهم السّماء من فوقهم والبلة من أسفلهم. أخرجه التّرمذيّ من طريق تدور على عمر بن الرّمّاح يرفعه إلى أبي هريرة. انتهى وليس هو من حديث أبي هريرة , وإنّما هو من حديث يعلى بن مرّة، وكذا جزم النّوويّ. بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أذّن مرّةً في السّفر , وعزاه للتّرمذيّ وقوّاه.

ولكن وجدناه في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه التّرمذيّ , ولفظه " فأمر بلالاً فأذّن " فعُرف أنّ في رواية التّرمذيّ اختصاراً , وأنّ معنى قوله " أذّن " أمر بلالاً به , كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلانيّ ألفاً، وإنّما باشر العطاءَ غيرُه , ونسب للخليفة لكونه آمراً به. ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان , ما رواه أبو الشّيخ بسندٍ فيه مجهول عن عبد الله بن الزّبير قال: أخذ الأذان من أذان إبراهيم (وأذّن في النّاس بالحجّ) الآية. قال: فأذّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما رواه أبو نعيمٍ في " الحلية " بسندٍ فيه مجاهيل , أنّ جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنّة.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر 68 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: أُمِر بلالٌ أن يشفع الأذان , ويوتر الإقامة. (¬1) قوله: (أُمر بلالٌ) هكذا في معظم الرّوايات على البناء للمفعول. وقد اختلف أهل الحديث وأهل الأصول في اقتضاء هذه الصّيغة للرّفع. والمختار عند محقّقي الطّائفتين أنّها تقتضيه، لأنّ الظّاهر أنّ المراد بالأمر من له الأمر الشّرعيّ الذي يلزم اتّباعه. وهو الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيّد ذلك هنا من حيث المعنى , أنّ التّقرير في العبادة إنّما يؤخذ عن توقيف فيقوى جانب الرّفع جدّاً. وقد وقع في رواية روح بن عطاء عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس عند أبي الشيخ " فأَمَرَ بلالاً " بالنّصب , وفاعل أمر هو النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو بيّنٌ في سياقه. وأصرح من ذلك رواية النّسائيّ وغيره عن قتيبة عن عبد الوهّاب عن خالد بلفظ: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (578 , 580 , 581 , 582 , 3270) ومسلم (378) من طريق أيوب وخالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: لَمَّا كثر الناس , قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً، أو يضربوا ناقوساً فأمر بلالٌ. فذكره

قال الحاكم: صرّح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبة. قلت: ولَم ينفرد به، فقد أخرجه أبو عوانة من طريق مروان المروزيّ عن قتيبة ويحيى بن معينٍ كلاهما عن عبد الوهّاب، وطريق يحيى عند الدّارقطنيّ أيضاً، ولَم ينفرد به عبد الوهّاب. وقد رواه البلاذريّ من طريق أبي شهاب الحنّاط (¬1) عن أبي قلابة. وقضيّة وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النّداء إلى الصّلاة ظاهر في أنّ الآمر بذلك هو النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا غيره. كما استدل به ابن المنذر وابن حبّان. واستدل بورود الأمر به مَن قال بوجوب الأذان. وتعقّب: بأنّ الأمر إذا ورد بصفة الأذان لا بنفسه. وأجيب: بأنّه إذا ثبت الأمر بالصّفة لزم أن يكون الأصل مأموراً به، قاله ابن دقيق العيد. وممَن قال بوجوبه مطلقاً الأوزاعيّ وداود وابن المنذر , وهو ظاهر قول مالك في الموطّأ. وحُكي عن محمّد بن الحسن. وقيل: واجب في الجمعة فقط. وقيل: فرض كفاية. والجمهور. على أنّه من السّنن المؤكّدة. وأخطأ من استدل على عدم وجوبه بالإجماع لِمَا ذكرناه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) أي: عن خالد الحذاء عن أبي قلابة.

قوله: (أن يشفع الأذان) بفتح أوّله وفتح الفاء. أي: يأتي بألفاظه شفعاً. وقد ثبت في حديث لابن عمر مرفوع. أخرجه أبو داود الطّيالسيّ في " مسنده " فقال فيه " مثنى مثنى " , وهو عند أبي داود والنّسائيّ، وصحَّحه ابن خزيمة وغيره من هذا الوجه , لكن بلفظ " مرّتين مرّتين " قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنّه شفعٌ يفسّره قوله " مثنى مثنى " أي: مرّتين مرّتين , وذلك يقتضي أن تستوي جميع ألفاظه في ذلك، لكن لَم يختلف في أنّ كلمة التّوحيد التي في آخره مفردةٌ فيحمل قوله " مثنى " على ما سواها قوله: (وأن يوتر الإقامة) وعند ابن حبّان في حديث ابن عمر ولفظه " الأذان مثنى والإقامة واحدة " وروى الدّارقطنيّ وحسّنه في حديث لأبي محذورة " وأمره أن يقيم واحدة واحدة ". وهذا الحديث حجّة على من زعم: أنّ الإقامة مثنى مثل الأذان. وأجاب بعض الحنفيّة: بدعوى النّسخ، وأنّ إفراد الإقامة كان أوّلاً , ثمّ نسخ بحديث أبي محذورة، يعني: الذي رواه أصحاب السّنن. وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخّر عن حديث أنس فيكون ناسخاً. وعورض: بأنّ في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسّّنة التّربيع والتّرجيع فكان يلزمهم القول به. وقد أنكر أحمد على من ادّعى النّسخ بحديث أبي محذورة.

واحتجّ: بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجَّع بعد الفتح إلى المدينة. وأقرّ بلالاً على إفراد الإقامة , وعلَّمه سعداً القرظ فأذّن به بعده. كما رواه الدّارقطنيّ والحاكم. وقال ابن عبد البرّ: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أنّ ذلك من الاختلاف المباح، فإن ربّع التّكبير الأوّل في الأذان، أو ثنّاه، أو رجّع في التّشهّد , أو لَم يرجّع، أو ثنّى الإقامة , أو أفردها كلّها أو إلاَّ " قد قامت الصّلاة " فالجميع جائز. وعن ابن خزيمة: إن ربّع الأذان ورجّع فيه ثنّى الإقامة , وإلَّا أفردها، وقيل: لَم يقل بهذا التّفصيل أحدٌ قبله. والله أعلم. وقد احتجّ به مَن قال بإفراد قوله " قد قامت الصّلاة " والحديث حجّة عليه. فإنّ احتجّ بعمل أهل المدينة , عورض بعمل أهل مكّة , ومعهم الحديث الصّحيح. فائدةٌ: قيل: الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أنّ الأذان لإعلام الغائبين فيكرّر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة فإنّها للحاضرين، ومن ثَمَّ استحبّ أن يكون الأذان في مكان عالٍ بخلاف الإقامة، وأن يكون الصّوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مرتّلاً والإقامة مسرّعةً. وكرّر " قد قامت الصّلاة " لأنّها المقصودة من الإقامة بالذّات. قلت: توجيهه ظاهر.

وأمّا قول الخطّابيّ: لو سوّى بينهما لاشتبه الأمر عند ذلك وصار لأن يفوتَ كثيراً من النّاس صلاة الجماعة، ففيه نظرٌ، لأنّ الأذان يستحبّ أن يكون على مكان عالٍ لتشترك الأسماع. وقد تقدّم الكلام على تثنية التّكبير، وتؤخذ حكمة التّرجيع ممّا تقدّم، وإنّما اختصّ بالتّشهّد لأنّه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم. تكميلٌ: زاد الشيخان بعد قوله. يوتر الإقامة " إلاَّ الإقامة ". والمراد بالمنفيّ غير المراد بالمثبت، فالمراد بالمثبت جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصّلاة. والمراد بالمنفيّ خصوص قوله " قد قامت الصّلاة " كما سيأتي ذلك صريحاً. وحصل من ذلك جناسٌ تامٌّ. وأخرجه عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن أيّوب بسنده متّصلاً بالخبر مفسّراً. ولفظه: كان بلال يثنّي الأذان ويوتر الإقامة، إلاَّ قوله قد قامت الصّلاة. وأخرجه أبو عوانة في " صحيحه " والسّرّاج في " مسنده " , وكذا هو في مصنّف عبد الرّزّاق، وللإسماعيليّ من هذا الوجه. ويقول: قد قامت الصّلاة مرّتين. وقد استشكل عدم استثناء التّكبير في الإقامة. وأجاب بعض الشّافعيّة: بأنّ التّثنية في تكبيرة الإقامة بالنّسبة إلى الأذان إفراد. قال النّوويّ: ولهذا يستحبّ أن يقول المؤذّن كلّ تكبيرتين بنفسٍ واحدٍ.

قلت: وهذا إنّما يتأتّى في أوّل الأذان لا في التّكبير الذي في آخره. وعلى ما قال النّوويّ: ينبغي للمؤذّن أن يفرد كل تكبيرة من اللتين في آخره بنَفَسٍ. ويظهر بهذا التّقرير ترجيح قول مَن قال بتربيع التّكبير في أوّله على مَن قال بتثنيته، مع أنّ لفظ " الشّفع " يتناول التّثنية والتّربيع، فليس في لفظ حديث الباب ما يخالف ذلك بخلاف ما يوهمه كلام ابن بطّالٍ. وأمّا الترجيع في التّشهّدين , فالأصحّ في صورته أن يشهد بالوحدانيّة ثنتين , ثمّ بالرّسالة ثنتين , ثمّ يرجع فيشهد كذلك، فهو - وإن كان في العدد مربّعاً - فهو في الصّورة مثنى. والله أعلم.

الحديث العشرون

الحديث العشرون 69 - عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السُّوائيّ - رضي الله عنه - , قال: أتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبّةٍ له حمراء من أدمٍ , قال: فخرج بلالٌ بوضوءٍ , فمن ناضحٍ ونائلٍ , قال: فخرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه حُلةٌ حمراء , كأنّي أنظر إلى بياض ساقيه , قال: فتوضّأ وأذّن بلالٌ , قال: فجعلتُ أتتبَّع فاه ههنا وههنا , يقول يميناً وشمالاً: حيَّ على الصّلاة ; حيَّ على الفلاح , ثمّ رُكِزتْ له عنزةٌ , فتقدّم وصلَّى الظّهر ركعتين , ثمّ لَم يزل يُصلِّي ركعتين حتّى رجع إلى المدينة. (¬1) قوله: (عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله) وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وكان يقال له أيضا: وهب الله ووهب الخير. وسواءة بضم المهملة وتخفيف الواو والمد والهمز , وآخره هاء تأنيث ابن عامر بن صعصعة. (¬2) قوله: (قبةٍ حمراءَ من أَدَمٍ) بفتح الهمزة والمهملة. هو الجلد المدبوغ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (369 , 473 , 477 , 607 , 608 , 3373 , 5449 , 5521) ومسلم (503) من طرق عون بن أبي جحيفة عن أبيه. مطولاً ومختصراً وأخرجه البخاري (185 , 479 , 3360) ومسلم (503) من طريق شعبة عن الحكم وعون عن أبي جحيفة به نحوه. (¬2) قدِم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أواخر عمره، وحفظ عنه ثم صحِب عليّاً بعده، وولاه شرطة الكوفة لَمَّا ولي الخلافة. وفي الصّحيح عنه: رأيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان الحسن بن علي يُشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصاً، فمات قبل أن نقبضها، وكان عليّ يُسمّيه وهب الخير. قال الواقديّ: مات في ولاية بشر على العراق. وقال ابن حبّان: سنة 64. الاصابة (6/ 490) بتجوز.

، وكأنّه صبغ بحمرةٍ قبل أن يجعل قبّة. قوله: (فخرج بلال بوضوء) بفتح الواو , أي: الماء الذي توضأ به. قوله: (فمن ناضح ونائل) في رواية لهما " رأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء، فمَن أصاب منه شيئاً تمسح به، ومَن لَم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه ". وللبخاري " فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به " كأنّهم اقتسموا الماء الذي فضل عنه. ويحتمل: أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دلالة بيّنة على طهارة الماء المستعمل. وأخرج ابن أبي شيبة والدّارقطنيّ والبخاري معلَّقاً من طريق قيس بن أبي حازم عن جرير , أنه كان يستاك , ويغمس رأس سواكه في الماء , ثمّ يقول لأهله: توضّئوا بفضله، لا يرى به بأساً. وإنّما أراد البخاريّ (¬1) أنّ صنيعه ذلك لا يغيّر الماء، وكذا مجرّد الاستعمال لا يغيّر الماء فلا يمتنع التّطهّر به. وقد صحَّحه الدّارقطنيّ بلفظ " كان يقول لأهله: توضّئوا من هذا الذي أدخل فيه سواكي ". وقد روي مرفوعاً، أخرجه الدّارقطنيّ من حديث أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضّأ بفضل سواكه. وسنده ضعيف. ¬

_ (¬1) حيث بوَّب على الحديث (باب استعمال فضل وضوء الناس) ثم ذكر أثرَ جرير معلَّقاً , ثم أورد حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه -.

وذكر أبو طالب في " مسائله " عن أحمد , أنّه سأله عن معنى هذا الحديث , فقال: كان يدخل السّواك في الإناء ويستاك، فإذا فرغ توضّأ من ذلك الماء. وقد استشكل إيراد البخاريّ له في هذا الباب المعقود لطهارة الماء المستعمل. وأجيب: بأنّه ثبت أنّ السّواك مطهّر للفم، فإذا خالط الماء , ثمّ حصل الوضوء بذلك الماء , كان فيه استعمال للمستعمل في الطّهارة. قوله: (فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه حُلَّة) قال أبو عبيد: الحلل برود اليمن. والحلة إزار ورداء. ونقله ابن الأثير , وزاد: إذا كان من جنس واحد. وقال ابن سيده في المحكم: الْحُلة برد أو غيره. وحكى عياض , أنَّ أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين كما حَلَّ طيهما. وقيل: لا يكون الثوبان حلة حتى يلبس أحدهما فوق الآخر فإذا كان فوقه فقد حلَّ عليه. والأول أشهر قوله: (حمراء) بوَّب عليه البخاري بقوله " باب الصلاة في الثوب الأحمر " يشير إلى الجواز، والخلاف في ذلك مع الحنفيّة. فإنّهم قالوا: يكره. وتأوّلوا حديث الباب بأنّها كانت حلة من برود فيها خطوطٌ حمرٌ. ومن أدلتهم. ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال

: مرّ بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلَّم عليه فلم يردّ عليه. وهو حديثٌ ضعيف الإسناد، وإن وقع في بعض نسخ التّرمذيّ أنّه قال: حديث حسن؛ لأنّ في سنده كذا. (¬1) وعلى تقدير أن يكون ممّا يحتجّ به. فقد عارضه ما هو أقوى منه. وهو واقعة عين، فيحتمل أن يكون ترك الرّدّ عليه بسببٍ آخر. وحمله البيهقيّ على ما صبغ بعد النّسج. وأمّا ما صُبغ غزله ثمّ نسج , فلا كراهية فيه. وقال ابن التّين: زعم بعضهم. أنّ لُبس النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لتلك الحلة كان من أجل الغزو، وفيه نظرٌ؛ لأنّه كان عقب حجّة الوداع , ولَم يكن له إذ ذاك غزوٌ. (¬2) قوله: (كأني أنظر إلى بياض ساقيه) وللبخاري " خرج في حلة مشمراً " والتشمر: هو بالشّين المعجمة وتشديد الميم: رفع أسفل الثّوب. قال الإسماعيليّ: وهذا هو التّشمير , ويؤخذ منه أنّ النّهي عن كفّ الثّياب في الصّلاة محلّه في غير ذيل الإزار، ويحتمل: أن تكون هذه الصّورة وقعت اتّفاقاً، فإنّها كانت في حالة السّفر , وهو محلّ التّشمير. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ المطبوعة. ولعلّ فيه سقطاً. وفي سنده أبو يحيى القتات. كما سيأتي في كلام الشارح. على حديث البراء (403) (¬2) سيأتي مزيد بسط إن شاء الله , على مسألة لبس الثوب الأحمر في شرح حديث البراء في كتاب اللباس برقم (403)

قوله: (فجعلت أتتبّع فاه ههنا وههنا) في رواية عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان عن عون عند أبي عوانة في صحيحه " فجعل يتتبّع بفيه يميناً وشمالاً ". وفي رواية وكيع عن سفيان عند الإسماعيليّ " رأيت بلالاً يؤذّن يتتبّع بفيه " ووصف سفيان " يميل برأسه يميناً وشمالاً ". والحاصل أنّ بلالاً كان يتتبّع بفيه النّاحيتين، وكان أبو جحيفة ينظر إليه , فكلٌّ منهما متتبّع باعتبارٍ. قوله: (يقول يميناً وشمالاً: حيَّ على الصّلاة; حيَّ على الفلاح) وللبخاري " ههنا وهها بالأذان " أورده مختصراً. ورواية وكيع عن سفيان عند مسلم أتمّ حيث قال " فجعلت أتتبّع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً , يقول: حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح " وهذا فيه تقييدٌ للالتفات في الأذان وأنّ محله عند الحيعلتين. وبوّب عليه ابن خزيمة " انحراف المؤذّن عند قوله حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح بفمه لا ببدنه كله " قال: وإنّما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثمّ ساقه من طريق وكيع أيضاً بلفظ " فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يميناً وشمالاً ". وفي رواية عبد الرّزّاق عن الثّوريّ في هذا الحديث زيادتان: إحداهما: الاستدارة. والأخرى: وضع الإصبع في الأذن، ولفظه عند التّرمذيّ " رأيت بلالاً يؤذّن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وإصبعاه في أذنيه ".

فأمّا قوله " ويدور ". فهو مدرجٌ في رواية سفيان عن عونٍ، بيّن ذلك يحيى بن آدم عن سفيان عن عونٍ عن أبيه قال: رأيت بلالاً أذّن , فأتبع فاه هاهنا وهاهنا والتفت يميناً وشمالاً. قال سفيان: كان حجّاجٌ - يعني ابن أرطأة - يذكر لنا عن عونٍ أنّه قال: فاستدار في أذانه. فلمّا لقينا عوناً لَم يذكر فيه الاستدارة، أخرجه الطّبرانيّ وأبو الشّيخ من طريق يحيى بن آدم. وكذا أخرجه البيهقيّ من طريق عبد الله بن الوليد العدنيّ عن سفيان، لكن لَم يسمّ حجّاجاً، وهو مشهور عن حجّاجٍ. أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم من طريقه. ولَم ينفرد به. بل وافقه إدريس الأوديّ ومحمّد العرزميّ عن عونٍ، لكنّ الثّلاثة ضعفاء، وقد خالفهم من هو مثلهم أو أمثل - وهو قيس بن الرّبيع -. فرواه عن عون. فقال في حديثه " ولَم يستدر " أخرجه أبو داود. ويمكن الجمع: بأنّ من أثبت الاستدارة عنى استدارة الرّأس، ومن نفاها عنى استدارة الجسد كله. ومشى ابن بطّالٍ ومن تبعه على ظاهره , فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذّنين للإسماع عند التّلفّظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله أو بوجهه فقط , وقدماه قارّتان مستقبل القبلة؟ واختلف أيضاً. هل يستدير في

الحيعلتين الأوليين مرّةً , وفي الثّانيتين مرّةً؟ أو يقول حيّ على الصّلاة عن يمينه , ثمّ حيّ على الصّلاة عن شماله. وكذا في الأخرى؟. قال: ورجح الثّاني , لأنّه يكون لكل جهةٍ نصيبٌ منهما، قال: والأوّل أقرب إلى لفظ الحديث. وفي المغني عن أحمد: لا يدور إلاَّ إن كان على منارةٍ يقصد إسماع أهل الجهتين. وأمّا وضع الإصبعين في الأذنين: فقد رواه مؤمّلٌ أيضاً عن سفيان. أخرجه أبو عوانة، وله شواهد ذكرتها في " تعليق التّعليق ". من أصحّها. ما رواه أبو داود وابن حبّان من طريق أبي سلامٍ الدّمشقيّ , أنّ عبد الله الهوزنيّ حدّثه , قال: قلت لبلالٍ: كيف كانت نفقة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فذكر الحديث. وفيه. قال بلال: فجعلت إصبعي في أذني فأذّنت. ولابن ماجه والحاكم من حديث سعد القرظ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه. وفي إسناده ضعفٌ. قال العلماء في ذلك فائدتان: إحداهما: أنّه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديثٌ ضعيفٌ. أخرجه أبو الشّيخ من طريق سعد القرظ عن بلالٍ. ثانيهما: أنّه علامة للمؤذّن ليعرف من رآه على بُعدٍ , أو كان به صممٌ أنّه يؤذّن، ومن ثَمَّ قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنه حسب. قال التّرمذيّ: استحبّ أهل العلم أن يدخل المؤذّن إصبعيه في

أذنيه في الأذان، قال: واستحبّه الأوزاعيّ في الإقامة أيضاً. تنبيهٌ: لَم يرد تعيين الإصبع التي يستحبّ وضعها، وجزم النّوويّ أنّها المسبّحة، وإطلاق الإصبع مجازٌ عن الأنملة. تنبيهٌ آخر: وقع في " المُغني " للموفّق نسبة حديث أبي جحيفة بلفظ " أنّ بلالاً أذّن ووضع إصبعيه في أذنيه " إلى تخريج البخاريّ ومسلم، وهو وهمٌ. وساق أبو نعيم في " المستخرج " حديث الباب من طريق عبد الرّحمن بن مهديٍّ , وعبد الرّزّاق عن سفيان بلفظ عبد الرّزّاق من غير بيان فما أجاد، لإيهامه أنّهما متوافقتان. وقد عرفتَ ما في رواية عبد الرّزّاق من الإدراج، وسلامة رواية عبد الرّحمن من ذلك، والله المستعان. قوله: (ثم رُكِزَتْ له عنَزَة) تقدّم ضبطها وتفسيرها في الطّهارة في حديث أنس (¬1). وفي رواية أبي العميس عن عون عند البخاري " جاء بلال فآذنه بالصّلاة، ثمّ خرج بالعنزة حتّى ركزها بين يديه وأقام الصّلاة ". وأوّل رواية عمر بن أبي زائدة عن عونٍ عن أبيه في الصحيحين: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبّةٍ حمراء من أدمٍ، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت النّاس يبتدرون ذلك الوضوء فمَن أصاب ¬

_ (¬1) برقم (16).

منه شيئاً تمسّح به، ومن لَم يصب منه شيئاً أخذ من بلَل يد صاحبه. وفيها أيضاً. وخرج في حلةٍ حمراء مشمّراً. وفي رواية مالك بن مِغْوَل عن عون عند البخاري " كأنّي أنظر إلى وبيص ساقيه " , وبيّن فيها أيضاً أنّ الوضوء الذي ابتدره النّاس كان فضل الماء الذي توضّأ به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكذا هو في رواية شعبة عن الحكم. وفي رواية مسلمٍ من طريق الثّوريّ عن عونٍ ما يُشعر بأنّ ذلك كان بعد خروجه من مكّة بقوله " ثمّ لَم يزل يُصلِّي ركعتين حتّى رجع إلى المدينة ". قوله: (فتقدّم , وصلَّى الظّهر والعصر ركعتين) زادا في رواية لهما " يمر بين يديه المرأة والحمار " أي: بين العنزة والقبلة لا بينه وبين العنزة، ففي رواية عمر بن أبي زائدة عن عون " ورأيت النّاس والدّوابّ يمرّون بين يدي العنزة ". وفي الحديث من الفوائد. التماس البركة ممّا لامسه الصّالحون (¬1)، ووضع السّترة للمصلي حيث يخشى المرور بين يديه , والاكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (1/ 677): هذا فيه نظرٌ. والصواب أنَّ مثل هذا خاصٌ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لِمَا جعل الله فيه من البركة , وغيره لا يُقاس عليه لِمَا بينهما من الفرق العظيم , ولأنَّ فتح هذا الباب قد يفضي إلى الغلو والشرك كما وقع من بعض الناس. نسأل الله العافية.

وأنّ قصر الصّلاة في السّفر أفضل من الإتمام لِمَا يشعر به الخبر من مواظبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه , وأنّ ابتداء القصر من حين مفارقة البلد الذي يخرج منه. وفيه تعظيم الصّحابة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وفيه استحباب تشمير الثّياب لا سيّما في السّفر , وكذا استصحاب العنزة ونحوها، ومشروعيّة الأذان في السّفر. وجواز النّظر إلى السّاق. وهو إجماعٌ في الرّجل حيث لا فتنة. وجواز لبس الثّوب الأحمر، وفيه خلافٌ تقدم ذكره. تكميلٌ: استدل البخاري بالحديث على مشروعية السترة في مكة وغيرها. قال ابن المنير: إنّما خصّ مكّة بالذّكر دفعاً لتوهّم من يتوهّم أنّ السّترة قبلةٌ، ولا ينبغي أن يكون لمكّة قبلةٌ إلاَّ الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. انتهى. والذي أظنّه أنّه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرّزّاق. حيث قال في " باب لا يقطع الصّلاة بمكّة شيء " ثمّ أخرج عن ابن جريجٍ عن كثير بن كثير بن المطّلب عن أبيه عن جدّه قال: رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي النّاس - سترة. وأخرجه من هذا الوجه أيضاً أصحاب السّنن. ورجاله موثّقون إلاَّ أنّه معلول، فقد رواه أبو داود عن أحمد عن ابن عيينة قال: كان ابن جريجٍ أخبرنا به هكذا , فلقيتُ كثيراً , فقال:

ليس مِن أَبِي سمعتُه , ولكن عن بعض أهلي عن جدّي. فأراد البخاريّ التّنبيه على ضعْف هذا الحديث , وأن لا فرق بين مكّة وغيرها في مشروعيّة السّترة، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة , وقد قدّمنا وجه الدّلالة منه. وهذا هو المعروف عند الشّافعيّة , وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المُصلِّي بين مكّة وغيرها. واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطّائفين دون غيرهم للضّرورة. وعن بعض الحنابلة. جواز ذلك في جميع مكّة. تكميلٌ آخر: زاد البخاري " وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي. فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك " وقع مثله في حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه. عند الطّبرانيّ بإسنادٍ قويّ. وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم في أثناء حديث قال: فمسح صدري فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنّما أخرجها من جونة عطّار. وفي حديث وائل بن حجرٍ عند الطّبرانيّ والبيهقيّ: لقد كنت أصافح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يمسّ جلدي جلده , فأتعرّفه بعدُ في يدي , وإنّه لأطيب رائحة من المسك. وفي حديثه عند أحمد " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدلوٍ من ماء، فشرب منه ثمّ مجّ في الدّلو ثمّ في البئر , ففاح منه مثل ريح المسك ". وروى مسلم حديث أنس. في جمع أمّ سليم عرَقَه - صلى الله عليه وسلم - , وجعلها إيّاه في الطّيب، وفي بعض طرقه " وهو أطيب الطّيب ".

وأخرج أبو يعلى والطّبرانيّ من حديث أبي هريرة. في قصّة الذي استعان به - صلى الله عليه وسلم - على تجهيز ابنته , فلم يكن عنده شيء، فاستدعى بقارورةٍ فسلَتَ له فيها من عرقه , وقال له: مرها فلتطّيّب به، فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة رائحة ذلك الطّيب فسمّوا بيت الْمُطيّبين. (¬1) وروى أبو يعلى والبزّار بإسنادٍ صحيح عن أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرّ في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك، فيقال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) سكت عنه الشارح رحمه الله. وقد أخرجاه من طريق حلبس بن غالب عن الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وحلبس. قال الدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن عدي: بصري منكر الحديث , وأورد الذهبيُّ الحديثَ في " الميزان " (1/ 587): وهذا منكر جداً. وقد جزم ابنُ الجوزي في الموضوعات , والشوكانيُّ في الفوائد المجموعة بوضعه.

الحديث الواحد والعشرون

الحديث الواحد والعشرون 70 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنّه قال: إنّ بلالاً يؤذّن بليلٍ , فكلوا واشربوا حتّى تسمعوا أذانَ ابنِ أمّ مكتومٍ. (¬1) قوله: (إنّ بلالاً) ابن رباح. بفتح الراء والموحدة وآخره مهملة , وذكر بن سعد , أنه كان من مولّدي السراة. واسم أمه حَمَامة , وكانت لبعض بني جُمَح. وجاء عن أنس عند الطبراني وغيره , أنه حبشي. وهو المشهور. وقيل: نوبي. وروى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح عن قيس بن أبي حازم قال: اشترى أبو بكر بلالاً بخمس أواق وهو مدفون بالحجارة. قوله: (يؤذّن بليلٍ) فيه إشعارٌ بأنّ ذلك كان من عادته المستمرّة، وزعم بعضهم أنّ ابتداء ذلك باجتهادٍ منه، وعلى تقدير صحّته فقد أقرّه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فصار في حكم المأمور به. وسيأتي الكلام على تعيين الوقت الذي كان يؤذّن فيه من الليل آخر الكلام على الحديث. قوله: (فكلوا) فيه إشعارٌ بأنّ الأذان كان علامة عندهم على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (592 , 2513) ومسلم (1092) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه به. وأخرجه البخاري (597) ومسلم (1092) من طريق نافع. والبخاري (595 , 6821) من طريق عبد الله بن دينار كلاهما عن ابن عمر.

دخول الوقت , فبيّن لهم أنّ أذان بلال بخلاف ذلك. قوله: (حتى يؤذّن) وللبخاري " وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت " أي: دخلت في الصّباح، هذا ظاهره، واستشكل لأنّه جعل أذانه غايةً للأكل، فلو لَم يؤذّن حتّى يدخل في الصّباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلاَّ من شذّ كالأعمش. (¬1) وأجاب ابن حبيب وابن عبد البرّ والأصيليّ وجماعة من الشّرّاح: بأنّ المراد قاربتَ الصّباح. ويعكّر على هذا الجواب. أنّ في رواية البيهقي " ولَم يكن يؤذّن حتّى يقول له النّاس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: أذِّن ". وأبلغ من ذلك أنّ لفظ رواية البخاري التي في الصّيام " حتّى يؤذّن ابن أمّ مكتوم، فإنّه لا يؤذّن حتّى يطلع الفجر ". وإنّما قلت إنّه أبلغ لكون جميعه من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأيضاً فقوله: إنّ بلالاً يؤذّن بليلٍ. يشعر أنّ ابن أمّ مكتوم بخلافه، ولأنّه لو كان قبل الصّبح لَم يكن بينه وبين بلال فرقٌ لصدق أنّ كلاً منهما أذّن قبل الوقت. وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال. وأقرب ما يقال فيه , إنّ أذانه جعل علامةً لتحريم الأكل والشّرب، ¬

_ (¬1) هكذا قال الشارح في باب الأذان موافقةً لابن قدامة. ثم استدرك في كتاب الصوم , ونقل عن جماعةٍ القول به كالأعمش. كما سأنقله هنا إن شاء الله.

وكأنّه كان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارناً لابتداء طلوع الفجر. وهو المراد بالبزوغ، وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق. ثمّ ظهر لي أنّه لا يلزم من كون المراد بقولهم " أصبحت " أي: قاربتَ الصّباح , وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزءٍ من الليل وأذانه يقع في أوّل جزء من طلوع الفجر، وهذا - وإن كان مستبعداً في العادة - فليس بمستبعدٍ من مؤذّن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المؤيّد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لَم يكن بتلك الصّفة. وقد روى أبو قرّة من وجه آخر عن ابن عمر حديثاً فيه " وكان ابن أمّ مكتوم يتوخّى الفجر فلا يخطئه ". وفي حديث سمرة عند مسلم " لا يغرنَّكم من سَحوركم أذانُ بلال ولا بياضُ الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا " يعني: معترضاً. وفي رواية " ولا هذا البياض حتى يستطير ". ولفظ الترمذي: لا يمنعنّكم من سحوركم أذان بلالٍ ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق ". وقال الترمذي: هو حديثٌ حسنٌ، وله من حديث طلق بن علي " كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر ". وقوله " يهِيدنكم " بكسر الهاء. أي: يزعجنكم فتمتنعوا به عن السحور فإنه الفجر الكاذب، يقال هدته أهيده إذا أزعجته، وأصل

الهيد بالكسر الحركة. ولابن أبي شيبة عن ثوبان مرفوعاً " الفجر فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحلُّ شيئا ولا يحرمه، ولكن المستطير " أي: هو الذي يحرم الطعام ويحلُّ الصلاة، وهذا موافق للآية (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر). وذهب جماعةٌ من الصحابة. وقال به الأعمش من التابعين وصاحبه أبو بكر بن عياش: إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر. فروى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر عن حذيفة قال: تسحَّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو والله النهار غير أنَّ الشمس لم تطلع. وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن عاصم نحوه، وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة. وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر من طرق عن أبي بكر , أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي , أنه صلَّى الصبح , ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. قال ابن المنذر: وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد بتبين بياض النهار من سواد الليل أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت، ثم حكى ما تقدم عن أبي بكر وغيره. وروى بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي - وله صحبة - أنَّ أبا بكر قال له: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت ثم

أتيته فقلت: قد ابيضَّ وسطَعَ، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض. قال: الآن أبلغني شرابي. وروى (¬1) من طريق وكيع عن الأعمش أنه قال: لولا الشهوة لصليت الغداة ثم تسحَّرت. قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل. قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني , ولا أرى له قضاء ولا كفارة. قلت: وفي هذا تعقُّب على الموفق وغيره حيث نقلوا الإجماع على خلاف ما ذهب إليه الأعمش، والله أعلم. وفي هذا الحديث جواز الأذان قبل طلوع الفجر. وإلى مشروعيّته مطلقاً ذهب الجمهور. وخالف الثّوريّ وأبو حنيفة ومحمّد. وإلى الاكتفاء مطلقاً. ذهب مالكٌ والشّافعيّ وأحمد وأصحابهم. وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث , وقال به الغزاليّ في الإحياء. وادّعى بعضهم: أنّه لَم يرد في شيء من الحديث ما يدلّ على الاكتفاء. وتعقّب: بحديث الباب. ¬

_ (¬1) أي: الحافظ ابن المنذر رحمه الله.

وأجيب: بأنّه مسكوت عنه فلا يدلّ على التّنزّل فمحلّه فيما إذا لَم يرد نطقٌ بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة (¬1) بما يشعر بعدم الاكتفاء. نعم. حديث زياد بن الحارث عند أبي داود , يدلّ على الاكتفاء، فإنّ فيه أنّه أذّن قبل الفجر بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنّه استأذنه في الإقامة فمنعه، إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعفٌ. وأيضاً فهي واقعة عينٍ , وكانت في سفرٍ، ومن ثَمَّ قال القرطبيّ: إنّه مذهبٌ واضحٌ، غير أنّ العمل المنقول بالمدينة على خلافه. انتهى فلم يردّه إلاَّ بالعمل على قاعدة المالكيّة. وادّعى بعض الحنفيّة - كما حكاه السّروجيّ منهم - أنّ النّداء قبل الفجر لَم يكن بألفاظ الأذان، وإنّما كان تذكيراً أو تسحيراً كما يقع للنّاس اليوم. وهذا مردودٌ، لكنّ الذي يصنعه النّاس اليوم محدثٌ قطعاً، وقد تضافرت الطّرق على التّعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشّرعيّ مقدّمٌ، ولأنّ الأذان الأوّل لو كان بألفاظٍ مخصوصةٍ لَمَا التبس على السّامعين. وسياق الخبر يقتضي أنّه خشي عليهم الالتباس. وادّعى ابن القطّان: أنّ ذلك كان في رمضان خاصّةً , وفيه نظرٌ. وفي الحديث أيضاً استحباب أذان واحد بعد واحد. وأمّا أذان اثنين ¬

_ (¬1) حديث عائشة أخرجه الشيخان بمثل لفظ حديث ابن عمر حديث الباب.

معاً فمنع منه قومٌ، ويقال: إنّ أوّل من أحدثه بنو أُميَّة. وقال الشّافعيّة: لا يكره إلاَّ إن حصل من ذلك تهويشٌ (¬1). واستدل به على جواز اتّخاذ مؤذّنين في المسجد الواحد، قال ابن دقيق العيد: وأمّا الزّيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرّضٌ له. انتهى. ونصّ الشّافعيّ على جوازه. ولفظه: ولا يتضيّق - صلى الله عليه وسلم - إن أذّن أكثر من اثنين، وعلى جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت وفيه أوجهٌ، واختلف فيه التّرجيح، وصحّح النّوويّ في كتبه أنّ للأعمى والبصير اعتمادَ المؤذّن الثّقة. وفي الحديث وهو القول الأول: جواز شهادة الأعمى، وهو قول مالكٍ والليث , سواءٌ علم ذلك قبل العمى أو بعده. القول الثاني: فصّل الجمهور. فأجازوا ما تحمّله قبل العمى لا بعده , وكذا ما يتنزّل فيه منزلة المبصر , كأن يشهد شخصٌ بشيءٍ , ويتعلق هو به إلى أن يشهد به عليه. القول الثالث: عن الحَكَمِ يجوز في الشّيء اليسير دون الكثير. ¬

_ (¬1) أي: اختلاط الأصوات وتداخلها. قال الحريري وابن الجوزي: العامَّة تقول: شَوَّشْتُ الشيء، إذا خلطته، فهو مُشَوَّشٌ. والصواب: هَوَّشْتُهُ وهو مُهَوَّشٌ. وفي القاموس: التّشْويشُ والمُشَوَّشُ والتّشَوُّشُ، كُلُّهن لَحْنٌ، ووهم الجوهري. والصواب: التّهْويشُ والمُهَوَّشُ والتّهَوُّش ". انتهى من " خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام " (ص 38) لعلي بن لالي القسطنطيني.

القول الرابع: قال أبو حنيفة ومحمّد: لا تجوز شهادته بحالٍ إلاَّ فيما طريقه الاستفاضة. واستدل به على جواز العمل بخبر الواحد، وعلى أنّ ما بعد الفجر من حكم النّهار. وعلى جواز الأكل مع الشّكّ في طلوع الفجر , لأنّ الأصل بقاء الليل، وخالف في ذلك مالك. فقال: يجب القضاء. وعلى جواز الاعتماد على الصّوت في الرّواية إذا كان عارفاً به وإن لَم يشاهد الرّاوي، وخالف في ذلك شُعبة لاحتمال الاشتباه. وعلى جواز ذكر الرّجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التّعريف ونحوه، وجواز نسبة الرّجل إلى أمّه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه. قوله: (ابن أمّ مكتوم) اسمه عمرو، وقيل: كان اسمه الحصين فسمّاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله، ولا يمتنع أنّه كان له اسمان، وهو قرشيٌّ عامريٌّ، أسلم قديماً، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة. وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسيّة في خلافة عمر فاستشهد بها، وقيل: رجع إلى المدينة فمات. وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمّه عاتكة بنت عبد الله المخزوميّة. وزعم بعضهم. أنّه ولد أعمى فكنّيت أمّه أمّ مكتومٍ لانكتام نور بصره، والمعروف أنّه عمي بعد بدر بسنتين (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 132): هذا فيه نظرٌ , لأنَّ ظاهر القرآن يدلُّ على أنه عَمِي قبل الهجرة , لأنَّ سورة عبس النازلة فيه مكية , وقد وصفه الله فيها بأنه أعمى. فتنبه

وفيه جواز أذان الأعمى إذا كان له من يخبره بالوقت , لأنّ الوقت في الأصل مبنيٌّ على المشاهدة، وعلى هذا القيد يُحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزّبير وغيرهما , أنّهم كرهوا أن يكون المؤذّن أعمى. وأمّا ما نقله النّوويّ عن أبي حنيفة وداود: أنّ أذان الأعمى لا يصحّ , فقد تعقّبه السّروجيّ: بأنّه غلط على أبي حنيفة. نعم. في المحيط للحنفيّة: أنّه يكره. تنبيه: قال ابن منده: حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر مجمعٌ على صحّته، رواه جماعة من أصحابه عنه، ورواه عنه شعبة فاختلف عليه فيه: رواه يزيد بن هارون عنه على الشّكّ , أنّ بلالاً كما هو المشهور، أو أنّ ابن أمّ مكتوم ينادي بليلٍ فكلوا واشربوا حتّى يؤذّن بلالٌ. قال: ولشعبة فيه إسنادٌ آخر، فإنّه رواه أيضاً عن خبيب بن عبد الرّحمن عن عمّته أنيسة فذكره على الشّكّ أيضاً، أخرجه أحمد عن غندرٍ عنه، ورواه أبو داود الطّيالسيّ عنه جازماً بالأوّل، ورواه أبو الوليد عنه جازماً بالثّاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطّحاويّ والطّبرانيّ من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرّحمن. وادّعى ابن عبد البرّ وجماعة من الأئمّة: بأنّه مقلوب , وأنّ الصّواب حديث الباب.

وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه. وهو قوله " إذا أذّن عمرو - فإنّه ضرير البصر - فلا يغرّنّكم، وإذا أذّن بلالٌ فلا يطعمنّ أحدٌ " وأخرجه أحمد. وجاء عن عائشة أيضاً , أنّها كانت تنكر حديث ابن عمر , وتقول: إنّه غلطٌ، أخرج ذلك البيهقيّ من طريق الدّراورديّ عن هشامٍ عن أبيه عنها. فذكر الحديث. وزاد " قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر. قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر. انتهى. وقد جمع ابن خزيمة والضّبعيّ بين الحديثين بما حاصله: أنّه يحتمل: أن يكون الأذان كان نوباً بين بلال وابن أمّ مكتوم، فكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلم النّاس أنّ أذان الأوّل منهما لا يحرّم على الصّائم شيئاً , ولا يدلّ على دخول وقت الصّلاة بخلاف الثّاني. وجزم ابن حبّان بذلك , ولَم يبده احتمالاً، وأنكر ذلك عليه الضّياء وغيره. وقيل: لَم يكن نوباً، وإنّما كانت لهما حالتان مختلفتان: فإنّ بلالاً كان في أوّل ما شرع الأذان يؤذّن وحده , ولا يؤذّن للصّبح حتّى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النّجّار. قالت: كان بلال يجلس على بيتي - وهو أعلى بيتٍ في المدينة - فإذا رأى الفجر تمطّأ ثمّ أذّن. أخرجه أبو داود وإسناده حسن. ورواية حميدٍ عن أنس , أنّ سائلاً سأل عن وقت الصّلاة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأذّن حين طلع الفجر. الحديث. أخرجه النّسائيّ

وإسناده صحيح. ثمّ أردف بابن أمّ مكتوم , وكان يؤذّن بليلٍ واستمرّ بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثمّ في آخر الأمر أخّر ابن أمّ مكتوم لضعفه. ووكّل به من يراعي له الفجر، واستقرّ أذان بلال بليلٍ. وكان سبب ذلك. ما روي أنّه ربّما كان أخطأ الفجر فأذّن قبل طلوعه، وأنّه أخطأ مرّةً فأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع فيقول: ألا إنّ العبد نام. يعني: أنّ غلبة النّوم على عينيه منعته من تبيّن الفجر، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حمّاد بن سلمة عن أيّوب عن نافع عن ابن عمر موصولاً مرفوعاً. ورجاله ثقات حفّاظ، لكن اتّفق أئمّة الحديث. عليُّ بن المدينيّ وأحمد بن حنبل والبخاريّ والذّهليّ وأبو حاتم وأبو داود والتّرمذيّ والأثرم والدّارقطنيّ على أنّ حمّاداً أخطأ في رفعه، وأنّ الصّواب وقفه على عمر بن الخطّاب، وأنّه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذّنه , وأنّ حمّاداً انفرد برفعه. ومع ذلك فقد وجد له متابعٌ، أخرجه البيهقيّ من طريق سعيد بن زربيٍّ - وهو بفتح الزّاي وسكون الرّاء بعدها موحّدةٌ ثمّ ياءٌ كياء النّسب - فرواه عن أيّوب موصولاً , لكنْ سعيدٌ ضعيفٌ. ورواه عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن أيّوب أيضاً، لكنّه أعضله فلم يذكر نافعاً ولا ابن عمر.

وله طريق أخرى عن نافع عند الدّارقطنيّ وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضاً، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيدٍ وغيره عن حميد بن هلالٍ , وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة. ووصلها يونس عن سعيد بذكر أنسٍ. وهذه طرق يقوّي بعضها بعضاً قوّةً ظاهرةً، فلهذا - والله أعلم - استقرّ أنّ بلالاً يؤذّن الأذان الأوّل. تكميلٌ: زاد البخاري من حديث عائشة عن القاسم (¬1) قال: لَم يكن بين أذانيهما إلاَّ أن يرقى ذا وينزل ذا. وفي هذا تقييدٌ لِمَا أطلق في الرّوايات الأخرى من قوله " إنّ بلالاً يؤذّن بليلٍ "، ولا يقال إنّه مرسلٌ لأنّ القاسم تابعيٌّ فلم يدرك القصّة المذكورة، لأنّه ثبت عند النّسائيّ من رواية حفص بن غياثٍ. وعند الطّحاويّ من رواية يحيى القطّان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة. فذكر الحديث , قالت: ولَم يكن بينهما إلاَّ أن ينزل هذا , ويصعد هذا. وعلى هذا فمعنى قوله في رواية البخاريّ " قال القاسم " أي: في روايته عن عائشة. وقد وقع عند مسلمٍ في رواية ابن نميرٍ عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثل هذه الزّيادة، وفيها نظرٌ أوضحته في كتاب " المدرج ". وثبتت الزّيادة أيضاً في حديث أُنيسة الذي ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الشيخان كما تقدَّم من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر , وعن عبيد الله أيضاً عن القاسم عن عائشة.

تقدّمت الإشارة إليه (¬1). وفيه حجّةٌ لمن ذهب إلى أنّ الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السّحور، وهو أحد الأوجه في المذهب , واختاره السّبكيّ في " شرح المنهاج " , وحكى تصحيحه عن القاضي حسين والمتولي. وقطع به البغويّ. وكلام ابن دقيق العيد يشعر به، فإنّه قال بعد أن حكاه: يرجّح هذا بأنّ قوله " إنّ بلالاً ينادي بليلٍ " خبر يتعلق به فائدة للسّامعين قطعاً، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبهاً محتملاً لأن يكون عند طلوع الفجر , فبيّن - صلى الله عليه وسلم - أنّ ذلك لا يمنع الأكل والشّرب بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصّادق، قال: وهذا يدلّ على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. انتهى. ويقوّيه أيضاً ما تقدّم من أنّ الحكمة في مشروعيّته التّأهّب لإدراك الصّبح في أوّل وقتها، وصحّح النّوويّ في أكثر كتبه أنّ مبدأه من نصف الليل الثّاني. وأجاب عن الحديث في " شرح مسلمٍ " فقال: قال العلماء: معناه أنّ بلالاً كان يؤذّن ويتربّص بعد أذانه للدّعاء ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل فأخبر ابن أمّ مكتوم فيتأهّب بالطّهارة وغيرها , ثمّ يرقى ويشرع في الأذان مع أوّل طلوع الفجر. ¬

_ (¬1) حديث أنيسة. أخرجه أحمد كما تقدم في التنبيه.

وهذا - مع وضوح مخالفته لسياق الحديث - يحتاج إلى دليلٍ خاصٍّ لِمَا صحَّحه حتّى يسوغ له التّأويل. ووراء ذلك أقوالٌ أخرى معروفةٌ في الفقهيّات. واحتجّ الطّحاويُّ لعدم مشروعيّة الأذان قبل الفجر بقوله: لَمّا كان بين أذانيهما من القرب ما ذكر في حديث عائشة , ثبت أنّهما كانا يقصدان وقتاً واحداً , وهو طلوع الفجر فيخطئه بلال ويصيبه ابن أمّ مكتوم. وتعقّب: بأنّه لو كان كذلك لَمَا أقرّه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مؤذّناً واعتمد عليه، ولو كان كما ادّعى لكان وقوع ذلك منه نادراً. وظاهر حديث ابن عمر يدلّ على أنّ ذلك كان شأنه وعادته. وفي الحديث دليل على أنَّ غاية الأكل والشرب طلوع الفجر. وسيأتي الكلام عليه مستوفي في الصيام إن شاء الله.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون 71 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول. (¬1) قوله: (إذا سمعتم) ظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع حتّى لو رأى المؤذّن على المنارة مثلاً في الوقت , وعَلِم أنّه يؤذّن لكن لَم يسمع أذانه لبُعدٍ أو صمَمٍ. لا تشرع له المتابعة، قاله النّوويّ في شرح المهذّب. قوله: (فقولوا مثل ما يقول) وللشيخين " ما يقول المؤذن ". ادّعى ابن وضّاحٍ أنّ قول " المؤذّن " مدرجٌ، وأنّ الحديث انتهى عند قوله " مثل ما يقول ". وتعقّب: بأنّ الإدراج لا يثبت بمجرّد الدّعوى، وقد اتّفقت الرّوايات في الصّحيحين والموطّأ على إثباتها، ولَم يصب صاحب العمدة في حذفها. قوله: (ما يقول) قال الكرمانيّ: قال " ما يقول " ولَم يقل مثل ما قال. ليشعر بأنّه يجيبه بعد كل كلمةٍ مثل كلمتها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (586) ومسلم (383) من طريق مالك عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد به بلفظ (إذا سمعتم النداء .. وقد رواه الإمام أحمد (3/ 90) والدارمي (1247) وابن حبان (1686) وغيرهم بلفظ (المؤذن) وهما بمعنى واحد.

قلت: والصّريح في ذلك ما رواه النّسائيّ من حديث أمّ حبيبة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول كما يقول المؤذّن حتّى يسكت. وأمّا أبو الفتح اليعمريّ فقال: ظاهر الحديث أنّه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذّن، لكنّ الأحاديث التي تضمّنت إجابة كل كلمةٍ عقبها دلَّتْ على أنّ المراد المساوقة، يشير إلى حديث عمر بن الخطّاب الذي عند مسلم (¬1) وغيره، فلو لَم يجاوبه حتّى فرغ استحبّ له التّدارك إن لَم يطل الفصل. قاله النّوويّ في شرح المهذّب بحثاً. وقد قالوه فيما إذا كان له عذرٌ كالصّلاة، وظاهر قوله " مثل " أنّه يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكنّ حديث عمر أيضاً , وحديث معاوية (¬2) يدلان على أنّه يستثنى من ذلك " حيّ على الصّلاة وحيّ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم برقم (385) عن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله , قال: أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلاَّ الله، قال: لا إله إلاَّ الله من قلبه دخل الجنة. (¬2) حديث معاوية - رضي الله عنه -. أخرجه البخاري (612 , 613) نحو حديث عمر الماضي قال ابن حجر في " الفتح " (2/ 124): أخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو حديث معاوية، وإنما لَم يخرّجه البخاري لاختلاف وقع في وصله وإرساله كما أشار إليه الدارقطني، ولَم يخرّج مسلمٌ حديث معاوية , لأن الزيادة (الحوقلة) المقصودة منه ليست على شرط الصحيح للمبهم الذي فيها، لكن إذا انضمَّ أحدُ الحديثين إلى الآخر قوي جداً. وفي الباب أيضاً عن الحارث بن نوفل الهاشمي وأبي رافع - وهما في الطبراني وغيره - وعن أنس في البزار وغيره، والله تعالى أعلم. انتهى

على الفلاح " فيقول بدلهما " لا حول ولا قوّة إلاَّ بالله " كذلك استدل به ابن خزيمة. وهو المشهور عند الجمهور وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح , فيقول تارةً كذا وتارةً كذا. وحكى بعض المتأخّرين عن بعض أهل الأصول: أنّ الخاصّ والعامّ إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، قال: فلِمَ لا يقال يستحبّ للسّامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجهٌ عند الحنابلة. أجيب عن المشهور من حيث المعنى: بأنّ الأذكار الزّائدة على الحيعلة يشترك السّامع والمؤذّن في ثوابها، وأمّا الحيعلة فمقصودها الدّعاء إلى الصّلاة، وذلك يحصل من المؤذّن، فعوّض السّامع عمّا يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة. ولقائلٍ أن يقول: يحصل للمجيب الثّواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزداد استيقاظاً وإسراعاً إلى القيام إلى الصّلاة إذا تكرّر على سمعه الدّعاء إليها من المؤذّن ومن نفسه , ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم " سمع الله لمن حمده " كما سيأتي في موضعه (¬1). وقال الطّيبيّ: معنى الحيعلتين. هلمّ بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلاً والفوز بالنّعيم آجلاً، فناسب أن يقول: هذا أمرٌ عظيمٌ لا ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة الآتي برقم (90)

أستطيع مع ضعفي القيام به إلاَّ إذا وفّقني الله بحوله وقوّته. وممّا لوحظت فيه المناسبة ما نقل عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ قال: حُدّثت أنّ النّاس كانوا ينصتون للمؤذّن إنصاتهم للقراءة , فلا يقول شيئاً إلاَّ قالوا مثله حتّى إذا قال: حيّ على الصّلاة , قالوا: لا حول ولا قوّة إلاَّ بالله , وإذا قال: حيّ على الفلاح , قالوا: ما شاء الله. انتهى. وإلى هذا صار بعض الحنفيّة , وروى ابن أبي شيبة مثله عن عثمان. وروى عن سعيد بن جبيرٍ قال: يقول في جواب الحيعلة: سمعنا وأطعنا. ووراء ذلك وجوه من الاختلاف أخرى. قيل: لا يجيبه إلاَّ في التّشهّدين فقط، وقيل: هما والتّكبير. وقيل: يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره. وقيل: مهما أتى به ممّا يدلّ على التّوحيد والإخلاص كفاه. وهو اختيار الطّحاويّ. وحكوا أيضاً خلافاً: هل يجيب في التّرجيع أو لا؟، وفيما إذا أذّن مؤذّن آخر , هل يجيبه بعد إجابته للأوّل أو لا؟. قال النّوويّ: لَم أرَ فيه شيئاً لأصحابنا. وقال ابن عبد السّلام: يجيب كل واحدٍ بإجابةٍ لتعدّد السّبب، وإجابة الأوّل أفضل، إلاَّ في الصّبح والجمعة فإنّهما سواء لأنّهما مشروعان.

وفي الحديث دليل على أنّ لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كلّ جهة، لأنّ قوله مثل ما يقول لا يقصد به رفع الصّوت المطلوب من المؤذّن. كذا قيل. وفيه بحثٌ، لأنّ المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق بين المؤذّن والمجيب في ذلك أنّ المؤذّن مقصوده الإعلام فاحتاج إلى رفع الصّوت، والسّامع مقصوده ذكر الله فيكتفي بالسّرّ أو الجهر لا مع الرّفع. نعم: لا يكفيه أن يجريه على خاطره من غير تلفّظٍ لظاهر الأمر بالقول. وأغرب ابن المنير فقال: حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذّن من قول وفعلٍ وهيئة. وتعقّب: بأنّ الأذان معناه الإعلام لغةً، وخصّه الشّرع بألفاظٍ مخصوصةٍ في أوقاتٍ مخصوصة فإذا وجدت الأذان، وما زاد على ذلك من قول أو فعلٍ أو هيئة يكون من مكمّلاته - صلى الله عليه وسلم - , ويوجد الأذان من دونها. ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التّسبيح قبل الصّبح وقبل الجمعة ومن الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغةً ولا شرعاً. واستدل به على جواز إجابة المؤذّن في الصّلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأنّ المجيب لا يقصد المخاطبة. وقيل: يؤخّر الإجابة حتّى يفرغ لأنّ في الصّلاة شغلاً. وقيل: يجيب إلاَّ في الحيعلتين , لأنّهما كالخطاب للآدميّين والباقي من ذكر الله فلا يمنع. لكن قد يقال: من يبدّل الحيعلة بالحوقلة لا

يمنع، لأنّها من ذكر الله، قاله ابن دقيق العيد. وفرّق ابن عبد السّلام في فتاويه: بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب بناءً على وجوب موالاتها وإلا فيجيب، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف. وهذا قاله بحثاً، والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصّلاة بل يؤخّرها حتّى يفرغ، وكذا في حال الجماع والخلاء، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت كذا أطلقه كثيرٌ منهم، ونصّ الشّافعيّ في " الأمّ " على عدم فساد الصّلاة بذلك. واستدل به على مشروعيّة إجابة المؤذّن في الإقامة، قالوا: إلاَّ في كلمَتَي الإقامة فيقول " أقامها الله وأدامها " (¬1). وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يفرّق بأنّ الأذان إعلام عامٌّ فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصّلاة، والإقامة إعلام خاصٌّ وعدد من يسمعها محصور فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضاً. واستدل به على وجوب إجابة المؤذّن، حكاه الطّحاويّ عن قوم من السّلف , وبه قال الحنفيّة وأهل الظّاهر وابن وهبٍ. ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود (528) والطبراني في " الدعاء " (491) والبيهقي (1/ 605) من طريق محمد بن ثابت حدَّثني رجلٌ من أهل الشام عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ بلالاً أخذ في الإقامة، فلمَّا أنْ قال: قد قامت الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أقامها الله وأدامها. وقال في سائر الإقامة: كنحو حديث عمر - رضي الله عنه - في الأذان. قال الشارح في " التلخيص " (1/ 378): وهو ضعيف. والزيادة فيه لا أصل لها.

واستدل للجمهور: بحديثٍ أخرجه مسلم وغيره , أنّه - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذّناً فلمّا كبّر , قال: على الفطرة، فلمّا تشهّد , قال: خرج من النّار. قال: فلمّا قال - صلى الله عليه وسلم - غير ما قال المؤذّن , علِمْنا أنّ الأمر بذلك للاستحباب. وتعقّب: بأنّه ليس في الحديث أنّه لَم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله , ولَم ينقله الرّاوي اكتفاءً بالعادة , ونقل القول الزّائد. ويحتمل: أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر. ويحتمل: أن يكون الرّجل لَمّا أُمر , لَم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك. ويحتمل: أن يكون الرّجل لَم يقصد الأذان. لكن يردّ هذا الأخير أنّ في بعض طرقه " أنّه حضرته الصّلاة ". ويحتمل: أن يكون الرّجل لَمّا أُمر , لَم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك. ويحتمل: أن يكون الرّجل لَم يقصد الأذان. لكن يردّ هذا الأخير أنّ في بعض طرقه " أنّه حضرته الصّلاة ".

باب استقبال القبلة

باب استقبال القبلة الحديث الثالث والعشرون 72 - عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُسبّح على ظهر راحلته , حيث كان وجهه , يُومئ برأسه , وكان ابن عمر يفعله. (¬1) وفي روايةٍ: كان يوتر على بعيره. (¬2) ولمسلمٍ: غير أنّه لا يُصلِّي عليها المكتوبة. (¬3) وللبخاريّ: إلاَّ الفرائض. (¬4) قوله: (كان يسبح) وللبخاري " كان يُصلِّي في السفر على راحلته " أي: يُصلِّي النّافلة، وقد تكرّر في الحديث كثيراً، وفي حديث عائشة " سبحة الضّحى " (¬5). والتّسبيح حقيقة في قول سبحان الله، فإذا أطلق على الصّلاة فهو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1954) ومسلم (700) من الزهري عن سالم عن أبيه. واللفظ للبخاري. وللحديث طرق أخرى في الصحيحين سيذكر الشارح بعضها. (¬2) أخرجه البخاري (954) ومسلم (700) من طريق أبي بكر بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن سعيد بن يسار عن ابن عمر به. وفيه (كان يوتر على البعير) (¬3) أخرجه مسلم (700) والبخاري معلّقاً (1047) من طريق يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله عن أبيه. (¬4) أخرجه البخاري (955) من طريق جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر به. (¬5) أخرجه البخاري (1076) ومسلم (718) عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سُبحة الضحى قطُّ , وإني لأُسبّحها.

من باب إطلاق اسم البعض على الكلّ، أو لأنّ المُصلِّي مُنزِّه لله سبحانه وتعالى بإخلاص العبادة، والتّسبيح التّنزيه فيكون من باب الملازمة. وأمّا اختصاص ذلك بالنّافلة فهو عُرف شرعيّ. والله أعلم. (¬1) قوله: (على ظهر راحلته) ترجم البخاري باب " الوتر على الدابة ". قال الزين بن المنير: ترجم بالدّابّة تنبيهاً على أن لا فرق بينها وبين البعير (¬2) في الحكم، والجامع بينهما. أنّ الفرض لا يجزئ على واحدة منهما. انتهى ولعلَّ البخاريّ أشار إلى ما ورد في بعض طرقه. فأخرج البخاري من طريق سالم عن أبيه , أنّه كان يُصلِّي من الليل على دابّته وهو مسافر , وروى محمّد بن نصر من طريق ابن جريجٍ , قال: حدّثنا نافع , أنّ ابن عمر كان يوتر على دابّته. قال ابن جريجٍ: وأخبرني موسى بن عقبة عن نافع , أنّ ابن عمر كان يخبر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. وفي الحديث الرّدّ على مَن قال: إنّه لا يسنّ في السّفر، وهو منقول عن الضّحّاك. ¬

_ (¬1) قال الشارح في موضع آخر من الفتح: وخُصّت النافلة بذلك , لأنَّ التسبيح الذي في الفريضة نافلة , فقيل لصلاة النافلة سُبحة , لأنها كالتسبيح في الفريضة. (¬2) حيث أورد البخاري رواية سالم المتقدّمة بلفظ (يوتر على البعير)

وأمّا قول ابن عمر: لو كنت مسبّحاً في السّفر لأتممت. كما أخرجه مسلم وأبو داود من طريق حفص بن عاصم عنه , فإنّما أراد به راتبة المكتوبة لا النّافلة المقصودة كالوتر. وذلك بيّنٌ من سياق الحديث المذكور، فقد رواه التّرمذيّ من وجه آخر بلفظ: سافرت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان , فكانوا يصلّون الظّهر والعصر ركعتين ركعتين , لا يصلّون قبلها ولا بعدها، فلو كنت مصلياً قبلها أو بعدها لأتممت. ويحتمل: أن تكون التّفرقة بين نوافل النّهار ونوافل الليل، فإنّ ابن عمر كان يتنفّل على راحلته , وعلى دابّته في الليل وهو مسافر، وقد قال مع ذلك ما قال. فائدةٌ: قال الطّحاويّ: ذُكر عن الكوفيّين أنّ الوتر لا يُصلَّى على الرّاحلة، وهو خلاف السّنّة الثّابتة، واستدل بعضهم برواية مجاهد , أنّه رأى ابن عمر نزل فأوتر. وليس ذلك بمعارضٍ لكونه أوتر على الرّاحلة , لأنّه لا نزاع أنّ صلاته على الأرض أفضل. وروى عبد الرّزّاق من وجه آخر عن ابن عمر , أنّه كان يوتر على راحلته، وربّما نزل فأوتر بالأرض. قوله: (حيث كان وجهه) في رواية لهما " حيث توجهت به " , وهو أعمّ من قول جابر في البخاري " في غير القبلة ". قال ابن التّين: قوله " حيث توجّهت به " مفهومه أنّه يجلس عليها

على هيئته التي يركبها عليها , ويستقبل بوجهه ما استقبلته الرّاحلة، فتقديره يُصلِّي على راحلته التي له حيث توجّهت به، فعلى هذا يتعلق قوله " توجّهت به " بقوله " يُصلِّي ". ويحتمل: أن يتعلق بقوله " على راحلته "، لكن يؤيّد الأوّل رواية عقيل عن ابن شهاب عند البخاري بلفظ " وهو على الرّاحلة يسبّح قِبَل أيِّ وجهٍ توجّهت ". قوله: (يومئ برأسه) أي: للرّكوع والسّجود لمن لَم يتمكّن من ذلك، وبهذا قال الجمهور. وروى أشهب عن مالك , أنّ الذي يُصلِّي على الدّابّة لا يسجد بل يومئ. وزاد البخاري من رواية جويرية عن نافع عن ابن عمر " يومئ إيماء إلاَّ الفرائض ". قال ابن دقيق العيد: الحديث يدلّ على الإيماء مطلقاً في الرّكوع والسّجود معاً، والفقهاء قالوا: يكون الإيماء في السّجود أخفض من الرّكوع ليكون البدل على وفق الأصل، وليس في لفظ الحديث ما يثبته ولا ينفيه. قلت: إلاَّ أنه وقع عند التّرمذيّ من طريق أبي الزّبير عن جابر بلفظ " فجئت وهو يُصلِّي على راحلته نحو المشرق , السّجود أخفض من الرّكوع ". قوله: (وكان ابن عمر يفعله) لا يعارض ما رواه أحمد بإسنادٍ صحيح عن سعيد بن جبير , أنّ ابن عمر كان يُصلِّي على الرّاحلة

تطوّعاً، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض. لأنّه محمول على أنّه فعل كُلاً من الأمرين. ويؤيّد رواية الباب ما رواه البخاري , أنّه أنكر على سعيد بن يسار نزوله الأرض ليوتر , وإنّما أنكر عليه - مع كونه كان يفعله - لأنّه أراد أن يبيّن له أنّ النّزول ليس بحتمٍ. ويحتمل: أن يتنزّل فعل ابن عمر على حالين: الأولى: حيث أوتر على الرّاحلة كان مجدّاً في السّير. الثانية: حيث نزل فأوتر على الأرض كان بخلاف ذلك. قوله: (إلاَّ الفرائض) أي: لكن الفرائض بخلاف ذلك، فكان لا يُصلِّيها على الرّاحلة. قال ابن بطّال: أجمع العلماء على اشتراط ذلك، وأنّه لا يجوز لأحدٍ أن يُصلِّي الفريضة على الدّابّة من غير عذر , واستدل به على أنّ الوتر ليس بفرضٍ، وعلى أنّه ليس من خصائص النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وجوب الوتر عليه لكونه أوقعه على الرّاحلة. وأمّا قول بعضهم: إنّه كان من خصائصه أيضاً أن يوقعه على الرّاحلة مع كونه واجباً عليه , فهي دعوى لا دليل عليها , لأنّه لَم يثبت دليل وجوبه عليه حتّى يحتاج إلى تكلّف هذا الجمع. واستدل به على أنّ الفريضة لا تُصلّى على الرّاحلة. قال ابن دقيق العيد: وليس ذلك بقويٍّ، لأنّ التّرك لا يدلّ على المنع , إلاَّ أن يقال إنّ دخول وقت الفريضة ممّا يكثر على المسافر فترك

الصّلاة لها على الرّاحلة دائماً يشعر بالفرق بينها وبين النّافلة في الجواز وعدمه. وأجاب من ادّعى وجوب الوتر من الحنفيّة: بأنّ الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب. وهذا يتوقّف على أنّ ابن عمر كان يفرّق بين الفرض والواجب. وقد بالغ الشّيخ أبو حامد. فادّعى أنّ أباحنيفة انفرد بوجوب الوتر. ولَم يوافقه صاحباه، مع أنّ ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسيّب وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود والضّحّاك ما يدلّ على وجوبه عندهم، وعنده عن مجاهد: الوتر واجب. ولَم يثبت. ونقله ابن العربيّ عن أصبغ من المالكيّة ووافقه سحنون، وكأنّه أخذه من قول مالك: من تركه أُدّب، وكان جرحة في شهادته. قال المُهلَّب: هذه الأحاديث (¬1) تخصّ قوله تعالى (وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره) وتبيّن أنّ قوله تعالى (فأينما تولّوا فثمّ وجه الله) في النّافلة، وقد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلاَّ أنّ أحمد وأبا ثور كانا يستحبّان أن يستقبل القبلة بالتّكبير حال ابتداء الصّلاة. والحجّة لذلك حديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أي: حديث ابن عمر , وحديث جابر , وحديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنهم -. حيث أخرجها البخاري في صحيحه.

كان إذا أراد أن يتطوّع في السّير , استقبل بناقته القبلة , ثمّ صلَّى حيث وجّهت ركابه. أخرجه أبو داود وأحمد والدّراقطنيّ. واختلفوا في الصّلاة على الدّوابّ في السّفر الذي لا تقصر فيه الصّلاة. فذهب الجمهور: إلى جواز ذلك في كلّ سفر، غير مالك فخصّه بالسّفر الذي تقصر فيه الصّلاة. قال الطّبريّ: لا أعلم أحداً وافقه على ذلك. قلت: ولَم يتّفق على ذلك عنه، وحجّته أنّ هذه الأحاديث إنّما وردت في أسفاره - صلى الله عليه وسلم -، ولَم ينقل عنه أنّه سافر سفراً قصيراً فصنع ذلك. وحجّة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك. واحتجّ الطّبريّ للجمهور من طريق النّظر: أنّ الله تعالى جعل التّيمّم رخصة للمريض والمسافر، وقد أجمعوا على أنّ من كان خارج المصر على ميل أو أقلّ ونيّته العود إلى منزله لا إلى سفر آخر , ولَم يجد ماء أنّه يجوز له التّيمّم. وقال: فكما جاز له التّيمّم في هذا القدر , جاز له النّفل على الدّابّة لاشتراكهما في الرّخصة. انتهى. وكأنّ السّرّ فيما ذكر , تيسير تحصيل النّوافل على العباد , وتكثيرها تعظيماً لأجورهم رحمة من الله بهم. وقد طرد أبو يوسف ومن وافقه التّوسعة في ذلك. فجوّزه في

الحضر أيضاً، وقال به من الشّافعيّة أبو سعيد الإصطخريّ. واستدل بقوله " حيث كان وجهه " على أنّ جهة الطّريق تكون بدلاً عن القبلة حتّى لا يجوز الانحراف عنها عامداً قاصداً لغير حاجة المسير , إلاَّ إن كان سائراً في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة القبلة , فإنّ ذلك لا يضرّه على الصّحيح. واستدل به على أنّ الوتر غير واجب عليه - صلى الله عليه وسلم - لإيقاعه إيّاه على الرّاحلة. واستُنبط من دليل التّنفّل للرّاكب جواز التّنفّل للماشي، ومنعه مالك مع أنّه أجازه لراكب السّفينة.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون (¬1) 73 - عن أنس بن سيرين , قال: استقبَلْنا أنساً حين قدم من الشّام , فلقيناه بعين التّمر , فرأيته يُصلِّي على حمارٍ , ووجهه من ذا الجانب - يعني عن يسار القبلة - فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟ فقال: لولا أنّي رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله لم أفعله (¬2). قوله: (استقبلْنا أنسَ بنَ مالك) بسكون اللام. قوله: (حين قدم من الشّام) كان أنس قد توجّه إلى الشّام في إمارة الحجّاج على العراق، قدمها شاكياً من الحجّاج للخليفة، وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك (¬3). ووقع في رواية مسلم " حين قدم الشّام " , وغلَّطوه , لأنّ أنس بن سيرين إنّما تلقّاه لَمّا رجع من الشّام فخرج ابن سيرين من البصرة ليتلقّاه. ويمكن توجيهه بأن يكون المراد بقوله " حين قدم الشّام " , مجرّد ذكر الوقت الذي وقع له فيه ذلك , كما تقول: فعلت كذا لَمّا حججت. ¬

_ (¬1) تنبيه: حديث أنس هذا. ذكره المصنف بعد حديث ابن عمر الآتي بعده في قصة قباء , وإنما قدَّمته لارتباطه بالحديث الذي قبله. (¬2) أخرجه البخاري (1049) ومسلم (702) من طريق همام عن أنس بن سيرين به. (¬3) انظر صحيح البخاري مع الفتح (2/ 13) كتاب مواقيت الصلاة " باب تضييع الصلاة عن وقتها ".

قال النّوويّ: رواية مسلم صحيحة , ومعناه تلقّيناه في رجوعه حين قدم الشّام قوله: (فلقيناه بعين التّمر) هو موضع بطريق العراق ممّا يلي الشّام , وكانت به وقعة شهيرة في آخر خلافة أبي بكر , بين خالد بن الوليد والأعاجم، ووجد بها غلماناً من العرب كانوا رهناً تحت يد كسرى. منهم جدّ الكلبيّ المفسّر , وحمران مولى عثمان , وسيرين مولى أنس. (¬1) قوله: (رأيتك تصلي لغير القبلة) فيه إشعار بأنّه لَم ينكر الصّلاة على الحمار ولا غير ذلك من هيئة أنس في ذلك، وإنّما أنكر عدم استقبال القبلة فقط. وفي قول أنس: لولا أنّي رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يفعله. يعني ترك استقبال القبلة للمتنفّل على الدّابّة. وهل يؤخذ منه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على حمار؟ فيه احتمال. ¬

_ (¬1) روى البخاري معلقاً في كتاب " المكاتب " باب المكاتب ونجومه في كل سنة " ووصله إسماعيل القاضي عن موسى بن أنس أخبره، أن سيرين سأل أنساً المكاتبة - وكان كثير المال - فأبى، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فقال: كاتبه فأبى، فضربه بالدرة، " ويتلو عمر: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} [النور: 33] فكاتبه " قال ابن حجر في الفتح: وسيرين المذكور يكنى أبا عمرة وهو والد محمد بن سيرين الفقيه المشهور وإخوته , وكان من سبي عين التمر. اشتراه أنس في خلافة أبي بكر , وروى هو عن عمر وغيره , وذكره بن حبان في ثقات التابعين. انتهى

وقد نازع في ذلك الإسماعيليّ. فقال: خبر أنس إنّما هو في صلاة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - راكباً تطوّعاً لغير القبلة، فإفراد البخاري التّرجمة (¬1) في الحمار من جهة السّنّة لا وجه له عندي. انتهى. وقد روى السّرّاج من طريق يحيى بن سعيد عن أنس , أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي على حمار , وهو ذاهب إلى خيبر. إسناده حسن. وله شاهد عند مسلم من طريق عمرو بن يحيى المازنيّ عن سعيد بن يسار عن ابن عمر: رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي على حمار , وهو متوجّه إلى خيبر. فهذا يرجّح الاحتمال الذي أشار إليه البخاريّ. فائدةٌ: لَم يبيّن في هذه الرّواية كيفيّة صلاة أنس، وذكره في الموطّأ عن يحيى بن سعيد قال: رأيت أنساً وهو يُصلِّي على حمار , وهو متوجّه إلى غير القبلة , يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع جبهته على شيء ". تكميلٌ: وقع عند السّرّاج من طريق عمرو بن عامر عن الحجّاج بن الحجّاج عن أنس بن سيرين بلفظ: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي على ناقته حيث توجّهت به. فعلى هذا كأنّ أنساً قاس الصّلاة على الرّاحلة بالصّلاة على الحمار. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مضى. ¬

_ (¬1) ترجم عليه البخاري (باب صلاة التطوع على الحمار)

أنّ من صلَّى على موضع فيه نجاسة لا يباشرها بشيءٍ منه أنّ صلاته صحيحة، لأنّ الدّابّة لا تخلو من نجاسة ولو على منفذها. وفيه الرّجوع إلى أفعاله كالرّجوع إلى أقواله من غير عرضة للاعتراض عليه. وفيه تلقّي المسافر، وسؤال التّلميذ شيخه عن مستند فعله والجواب بالدّليل. وفيه التّلطّف في السّؤال، والعمل بالإشارة لقوله " من ذا الجانب ". قال ابن دقيق العيد: يؤخذ من هذا الحديث طهارة عرق الحمار، لأنّ ملابسته مع التّحرّز منه متعذّر لا سيّما إذا طال الزّمان في ركوبه واحتمل العرق. وقال ابن رشيد: مقصود البخاري بالترجمة أنّه لا يشترط في التّطوّع على الدّابّة أن تكون الدّابّة طاهرة الفضلات، بل الباب في المركوبات واحد بشرط أن لا يماسّ النّجاسة.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون 74 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: بينا النّاس بقباء في صلاة الصّبح إذ جاءهم آتٍ , فقال: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه الليلة قرآنٌ , وقد أُمر أن يستقبل القبلة , فاستقْبِلوها. وكانت وجوههم إلى الشّام , فاستداروا إلى الكعبة. (¬1) قوله: (بينا) أصله " بين " وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع ويزاد فيها " ما " فتصير " بينما " (¬2)، وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة. قوله: (النّاس بقباءٍ) بالمدّ والصّرف وهو الأشهر، ويجوز فيه القصر وعدم الصّرف. وهو يذكّر ويؤنّث: موضعٌ معروفٌ ظاهر المدينة. والمراد هنا مسجد أهل قباء ففيه مجاز الحذف، واللام في النّاس للعهد الذّهنيّ. والمراد أهل قباء ومن حضر معهم. قوله: (في صلاة الصّبح) ولمسلمٍ " في صلاة الغداة " وهو أحد أسمائها، وقد نقل بعضهم كراهية تسميتها بذلك. وهذا فيه مغايرةٌ لحديث البراء في الصحيحين , فإنّ فيه أنّهم كانوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (395 , 4218 ,، 4220، 4221، 4223، 4224، 6824) ومسلم (562) من طرق عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر به. (¬2) وهي رواية للشيخين أيضاً أي (بينما)

في صلاة العصر. (¬1) والجواب: أن لا منافاة بين الخبرين؛ لأنّ الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة , وذلك في حديث البراء. والآتي إليهم بذلك عبّاد بن بشر بن قيظيّ. كما رواه ابن منده من حديث طويلة بنت أسلم. وقيل: هو عبّاد بن نهيك بفتح النّون وكسر الهاء. وأهل المسجد الذين مرّ بهم. قيل: هم من بني سلمة، ووصل الخبر وقت الصّبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء. وذلك في حديث ابن عمر، ولَم يسمّ الآتي بذلك إليهم. وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنّه عبّاد بن بشر. ففيه نظرٌ؛ لأنّ ذلك إنّما ورد في حقّ بني حارثة في صلاة العصر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (40 , 390 , 4216 , 4222 , 6825) ومسلم (525) عن البراء: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً , وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء}. فتوجه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس وهم اليهود {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}. فصلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ ثم خرج بعدما صلَّى فمرَّ على قومٍ من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: وهو يشهد أنه صلَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأنه توجه نحو الكعبة , فتحرَّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة. لفظ البخاري , وله أيضاً: وأنه صلَّى أول صلاة صلاّها صلاة العصر , وصلَّى معه قوم. وله أيضاً: فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر.

فإن كان ما نقلوا محفوظاً. فيحتمل أن يكون عبّاد أتى بني حارثة أوّلاً في وقت العصر , ثمّ توجّه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصّبح. وممّا يدلّ على تعدّدهما , أنّ مسلماً روى من حديث أنس , أنّ رجلاً من بني سلمة مرّ وهم ركوع في صلاة الفجر. فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصّلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة. قوله: (قد أُنزل عليه الليلة قرآنٌ) فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي والليلة التي تليه مجازاً. والتّنكير في قوله " قرآن " لإرادة البعضيّة، والمراد قوله: (قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولينَّك قبلةً ترضاها , فول وجهك شطر المسجد الحرام.) الآيات. قوله: (وقد أُمر) فيه أنّ من يؤمر به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يلزم أمّته، وأنّ أفعاله يتأسّى بها كأقواله حتّى يقوم دليل الخصوص. فائدة: كان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح. وبه جزم الجمهور , ورواه الحاكم بسند صحيح عن بن عباس قوله: (فاستقبَلوها) بفتح الموحّدة للأكثر. أي: فتحوّلوا إلى جهة الكعبة، وفاعل " استقبَلوها " المخاطبون بذلك , وهم أهل قباء. وقوله: (وكانت وجوههم إلى الشّام , فاستداروا إلى الكعبة.) تفسير من الرّاوي للتّحوّل المذكور.

ويحتمل: أن يكون فاعل استقبلوها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وضمير " وجوههم , لهم أو لأهل قباء على الاحتمالين. وفي رواية الأصيليّ " فاستقبِلوها " بكسر الموحّدة بصيغة الأمر، ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران. وعودُه إلى أهل قباء أظهر. ويرجّح رواية الكسر أنّه عند البخاري في " التّفسير " من رواية سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذا الحديث بلفظ " وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلِوها " فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأنّ الذي بعده أمرٌ لا أنّه بقيّة الخبر الذي قبله، والله أعلم. ووقع بيان كيفيّة التّحوّل في حديث ثويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم , وقالت فيه: فتحوّل النّساء مكان الرّجال والرّجال مكان النّساء، فصلينا السّجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام. قلت: وتصويره أنّ الإمام تحوّل من مكانه في مقدّم المسجد إلى مؤخّر المسجد؛ لأنّ من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لَم يكن خلفه مكان يسع الصّفوف، ولَمّا تحوّل الإمام تحوّلت الرّجال حتّى صاروا خلفه , وتحوّلت النّساء حتّى صرن خلف الرّجال، وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصّلاة. فيحتمل: أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام.

ويحتمل: أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أو لَم تتوال الخطا عند التّحويل بل وقعت مفرّقة. والله أعلم. وفي هذا الحديث. أنّ حكم النّاسخ لا يثبت في حقّ المكلف حتّى يبلغه؛ لأنّ أهل قباء لَم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم تلك بصلواتٍ. واستنبط منه الطّحاويّ , أنّ من لَم تبلغه الدّعوة ولَم يمكنه استعلام ذلك فالفرض غير لازم له. وفيه جواز الاجتهاد في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّهم لَمّا تمادوا في الصّلاة ولَم يقطعوها دلَّ على أنّه رجح عندهم التّمادي والتّحوّل على القطع والاستئناف، ولا يكون ذلك إلاَّ عن اجتهاد. كذا قيل، وفيه نظرٌ لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نصٌّ سابق؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان مترقّباً التّحوّل المذكور. فلا مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التّمادي والتّحوّل. وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به , ونسخ ما تقرّر بطريق العلم به؛ لأنّ صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع لمشاهدتهم صلاة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى جهته، ووقع تحوّلهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد. وأجيب: بأنّ الخبر المذكور احتفّت به قرائن ومقدّمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المخبر فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلاَّ

بما يفيد العلم. وقيل: كان النّسخ بخبر الواحد جائزاً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً وإنّما منع بعده، ويحتاج إلى دليل. وفيه جواز تعليم مَن ليس في الصّلاة مَن هو فيها، وأنّ استماع المُصلِّي لكلام من ليس في الصّلاة لا يفسد صلاته. ووجه تعلّق حديث ابن عمر بترجمة الباب (¬1) أنّ دلالته على الجزء الأوّل منها من قوله " أمر أن يستقبل الكعبة " , وعلى الجزء الثّاني من حيث إنّهم صلوا في أوّل تلك الصّلاة إلى القبلة المنسوخة جاهلين بوجوب التّحوّل عنها , وأجزأت عنهم مع ذلك ولَم يؤمروا بالإعادة , فيكون حكم السّاهي كذلك. لكن يمكن أن يفرّق بينهما بأنّ الجاهل مستصحبٌ للحكم الأوّل مغتفرٌ في حقّه ما لا يغتفر في حقّ السّاهي؛ لأنّه إنّما يكون عن حكم استقرّ عنده وعرفه. ¬

_ (¬1) ترجم عليه البخاري " باب ما جاء في القبلة , ومَن لا يرى الإعادة على من سها. فصلّى إلى غير القبلة " قال الحافظ في " الفتح " (1/ 550): وأصل هذه المسألة في المجتهد في القبلة إذا تبيّن خطؤه. فروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيّب وعطاء والشّعبيّ وغيرهم , أنّهم قالوا: لا تجب الإعادة، وهو قول الكوفيّين. وعن الزّهريّ ومالك وغيرهما: تجب في الوقت لا بعده. وعن الشّافعيّ: يعيد إذا تيقّن الخطأ مطلقاً. وفي التّرمذيّ من حديث عامر بن ربيعة ما يوافق قول الأوّلين، لكن قال: ليس إسناده بذاك. اهـ

فائدة: اختلفت الرّواية في الصّلاة التي تحوّلت القبلة عندها. فظاهر حديث البراء في الصحيحين أنّها الظّهر. وذكر محمّد بن سعد في " الطّبقات " قال: يقال إنّه صلَّى ركعتين من الظّهر في مسجده بالمسلمين، ثمّ أمر أن يتوجّه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون. ويقال زار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة , فصنعت له طعاماً وحانتِ الظُهر فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ركعتين، ثمّ أمر فاستدار إلى الكعبة , واستقبل الميزاب فسمّي مسجد القبلتين. قال ابن سعد: قال الواقديّ: هذا أثبت عندنا. وأخرج ابن أبي داود بسندٍ ضعيفٍ عن عمارة بن رويبة قال: كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتي العشيّ حين صرفت القبلة، فدار ودرنا معه في ركعتين. وأخرج البزّار من حديث أنس: انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيت المقدس وهو يُصلِّي الظّهر بوجهه إلى الكعبة، وللطّبرانيّ نحوه من وجه آخر عن أنس. وفي كلٍّ منهما ضعفٌ. والتحقيق أنَّ أول صلاة صلَّاها في بني سلمة لَمَّا مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاَّها بالمسجد النبوي العصر. وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في

جمادى الآخرة أو رجب أو شعبان؟ أقوال. فائدة: اختلفوا في الجهة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة. القول الأول: قال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس؛ لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. القول الثاني: أطلق آخرون أنه كان يُصلي إلى بيت المقدس. القول الثالث: قال آخرون: كان يُصلي إلى الكعبة، فلمَّا تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف. ويلزم منه دعوى النسخ مرتين. والأول أصحُّ لأنه يجمع بين القولين، وقد صحَّحه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس.

باب الصفوف

باب الصّفوف الحديث السادس والعشرون 75 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سوّوا صفوفكم , فإنّ تسويةَ الصُّفوفِ من تمام الصّلاة. (¬1) قوله: (سوّوا صفوفكم) وللبخاري عن حميد عن أنس: أقيمت الصلاة , فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه. فقال: أقيموا صفوفكم وتراصّوا , فإني أراكم من وراء ظهري. وقوله " تراصُّوا " بتشديد الصّاد المهملة. أي: تلاصقوا بغير خللٍ. ويحتمل: أن يكون تأكيداً لقوله " أقيموا " والمراد " بأقيموا " سوّوا كما وقع في رواية معمرٍ عن حميدٍ عند الإسماعيليّ. بدل أقيموا واعتدلوا. وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدّخول في الصّلاة، وفيه مراعاة الإمام لرعيّته والشّفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. قوله: (فإنّ تسوية الصّفوف) في رواية الأصيليّ " الصّفّ " بالإفراد، والمراد به الجنس. قوله: (من تمام الصلاة) وللبخاري " من إقامة الصلاة " هكذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (690) ومسلم (433) من طريق شعبة عن قتادة أنس به. واللفظ لمسلم

ذكره البخاريّ عن أبي الوليد عن شعبة عن قتادة عن أنس. وذكره غيره عنه بلفظ " من تمام الصّلاة " كذلك أخرجه الإسماعيليّ عن ابن حذيفة , والبيهقيّ من طريق عثمان الدّارميّ كلاهما عنه , وكذلك أخرجه أبو داود عن أبي الوليد وغيره، وكذا مسلم وغيره من طريق جماعةٍ عن شعبة. وزاد الإسماعيليّ من طريق أبي داود الطّيالسيّ قال: سمعت شعبة يقول: داهنتُ في هذا الحديث , لَم أسأل قتادة. أسمعته من أنس أم لا؟ انتهى. ولَم أره عن قتادة إلاَّ معنعناً، ولعل هذا هو السّرّ في إيراد البخاريّ لحديث أبي هريرة (¬1) معه في الباب تقويةً له. واستدل ابن حزمٍ بقوله " إقامة الصّلاة " على وجوب تسوية الصّفوف قال: لأنّ إقامة الصّلاة واجبة. وكلّ شيءٍ من الواجب واجب. ولا يخفى ما فيه، ولا سيّما وقد بيّنّا أنّ الرّواة لَم يتّفقوا على هذه العبارة (¬2). وتمسّك ابن بطّال بظاهر لفظ حديث أبي هريرة: أقيموا الصف في الصلاة، فإنَّ إقامة الصف من حسن الصلاة. فاستدل به على أنّ ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة أخرجه الشيخان. وسيأتي لفظه في الشرح. (¬2) سيأتي إن شاء الله في حديث النعمان بن بشير الذي بعده الكلام على وجوب التسوية من عدمها.

التّسوية سنّةٌ، قال: لأنّ حسن الشّيء زيادة على تمامه، وأُورد عليه رواية " من تمام الصّلاة " وأجاب ابن دقيق العيد , فقال: قد يؤخذ من قوله " تمام الصّلاة " الاستحباب؛ لأنّ تمام الشّيء في العرف أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقّق إلاَّ بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتمّ الحقيقة إلاَّ به. كذا قال، وهذا الأخذ بعيد؛ لأنّ لفظ الشّارع لا يُحمل إلاَّ على ما دلَّ عليه الوضع في اللسان العربيّ، وإنّما يُحمل على العرف إذا ثبت أنّه عرف الشّارع لا العرف الحادث. تكميلٌ: زاد الشيخان من وجه آخر عن أنس: فإني أراكم من وراء ظهري. فيه إشارة إلى سبب الأمر بذلك. أي: إنّما أمرت بذلك؛ لأنّي تحقّقت منكم خلافه. والمختار حملها على الحقيقة خلافاً لمن زعم أنّ المراد بها خلق علمٍ ضروريّ له بذلك ونحو ذلك. قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنّه في معنى تعطيل لفظ الشّارع من غير ضرورة. وقال القرطبيّ: بل حملها على ظاهرها أولى؛ لأنّ فيه زيادةً في كرامة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون 76 - عن النّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه - , قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لَتُسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم. (¬1) ولمسلمٍ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوّي صفوفنا , حتّى كأنّما يسوّي بها القداح , حتّى إذا رأى أنْ قد عقلنا عنه , ثمّ خرج يوماً فقام , حتّى إذا كاد أنْ يكبّر , فرأى رجلاً بادياً صدُره , فقال: عباد الله , لتسوُّن صفوفكم , أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم. (¬2) قوله: (عن النّعمان بن بشيرٍ) بن سعد الأنصاري الصحابي بن الصحابي (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (685) ومسلم (436) من طريق عمرو بن مرّة عن سالم بن أبي الجعد عن النعمان - رضي الله عنه - به. (¬2) أخرجه مسلم (436) من طرق عن سماك بن حرب عن النعمان به. (¬3) الخزرجي. يكنى أبا عبد الله. قال الواقديّ: كان أوّل مولود في الإسلام من الأنصار بعد الهجرة بأربعة عشر شهراً، وعن ابن الزبير: كان النعمان بن بشير أكبرَ مني بستة أشهر. قال أبو مسهر، عن شعبة بن عبد العزيز: كان قاضي دمشق بعد فضالة بن عبيد، وقال سماك بن حرب: استعمله معاوية على الكوفة، وكان من أخطب من سمعت. وقال الهيثم: نقله معاوية من إمرة الكوفة إلى إمرة حمص، وضمّ الكوفة إلى عبيد اللَّه بن زياد، وكان بالشّام لما مات يزيد بن معاوية. ولَمَّا استخلف معاوية بن يزيد، ومات عن قرب , دعا النعمان إلى ابن الزّبير ثم دعا إلى نفسه، فواقعه مروان بن الحكم بعد أن واقع الضّحاك بن قيس، فقتل النّعمان بن بشير، وذلك في سنة خمس وستين. الإصابة (6/ 346) بتجوز. وانظر ترجمة والده رقم (290).

قوله: (لتسوُّنَّ) بضمّ التّاء المثنّاة وفتح السّين وضمّ الواو المشدّدة وتشديد النّون، وللمستملي " لتسوّون " بواوين. قال البيضاويّ: هذه اللام هي التي يتلقّى بها القسم، والقسم هنا مقدّر ولهذا أكّده بالنّون المشدّدة. انتهى. وسيأتي من رواية أبي داود قريباً إبراز القسم في هذا الحديث. قوله: (أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي: إن لَم تسوّوا، والمراد بتسوية الصّفوف اعتدال القائمين بها على سمتٍ واحدٍ، أو يراد بها سدّ الخلل الذي في الصّفّ. واختلف في الوعيد المذكور. فقيل: هو على حقيقته , والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه بجعله موضع القفا أو نحو ذلك، فهو نظير ما سيأتي من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار (¬1). وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة، وعلى هذا فهو واجب، والتّفريط فيه حرامٌ. ويؤيّد حمله على ظاهره حديث أبي أُمامة: لتسوّنّ الصّفوف أو لتطمسنّ الوجوه. أخرجه أحمد. وفي إسناده ضعفٌ. ولهذا قال ابن الجوزيّ: الظّاهر أنّه مثل الوعيد المذكور في قوله تعالى (من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها) وحديث أبي ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة الآتي برقم (79)

أُمامة. أخرجه أحمد , وفي إسناده ضعفٌ. ومنهم: من حمله على المجاز. قال النّوويّ: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول: تغيّر وجه فلانٍ عليّ، أي: ظهر لي من وجهه كراهية؛ لأنّ مخالفتهم في الصّفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظّواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيّده رواية أبي داود وصحَّحه ابن خزيمة من رواية أبي القاسم الجدليّ - واسمه حسين بن الحارث - قال: سمعت النّعمان بن بشير يقول: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النّاس بوجهه. فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لتقيمنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم. قال: فلقد رأيتُ الرّجل منّا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه ". وقال القرطبيّ: معناه تفترقون فيأخذ كلّ واحدٍ وجهاً غير الذي أخذ صاحبه؛ لأنّ تقدّم الشّخص على غيره مظنّة الكبر المفسد للقلب الدّاعي إلى القطيعة. والحاصل أنّ المراد بالوجه. إن حُمل على العضو المخصوص فالمخالفة إمّا بحسب الصّورة الإنسانيّة أو الصّفة أو جعل القدّام وراء. وإن حُمل على ذات الشّخص فالمخالفة بحسب المقاصد. أشار إلى ذلك الكرمانيّ. ويحتمل: أن يراد بالمخالفة في الجزاء , فيجازي

المسوّي بخيرٍ , ومن لا يسوّي بشرٍّ. وروى البخاري عن بشير بن يسار الأنصارى عن أنس بن مالك , أنه قدم المدينة , فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: ما أنكرتُ شيئاً إلاَّ أنكم لا تقيمون الصفوف (¬1). قال ابن رشيد: أورد فيه حديث أنس " ما أنكرتُ شيئاً إلاَّ أنكم لا تقيمون الصفوف ". وتعقّب: بأن الإنكار قد يقع على ترك السنة فلا يدل ذلك على حصول الإثم. وأجيب: بأنه لعله حمل الأمر في قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) على أنَّ المراد بالأمر الشأن والحال لا مجرد الصيغة، فيلزم منه أنَّ من خالف شيئاً من الحال التي كان عليها - صلى الله عليه وسلم - أن يأثم لِمَا يدلُّ عليه الوعيد المذكور في الآية، وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. انتهى كلام ابن رشيد ملخصاً. وهو ضعيف؛ لأنه يفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون؛ لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب. وأما قول ابن بطال: إنَّ تسوية الصفوف لَمَّا كانت من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلها المدح عليها دلَّ على أنَّ تاركها يستحق الذم. ¬

_ (¬1) وبوَّب عليه البخاري " باب إثم من لَم يتم الصفوف ".

فهو متعقب من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أن يكون آثماً. سلَّمنا، لكن يرد عليه التعقّب الذي قبله. ويحتمل: أن يكون البخاري أخَذَ الوجوب من صيغة الأمر في قوله " سوّوا صفوفكم ". ومن عموم قوله " صلَّوا كما رأيتموني أصلي " ومن ورود الوعيد على تركه. فرَجَحَ عنده بهذه القرائن أنَّ إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب. وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن. ومع القول بأن التسوية واجبة. فصلاة من خالف ولَم يسوِّ صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك. أنَّ أنساً مع إنكاره عليهم لَم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزمٍ فجزم بالبطلان، ونازع من ادّعى الإجماعَ على عدم الوجوب بما صحّ عن عمر , أنّه ضرب قدم أبي عثمان النّهديّ لإقامة الصّفّ، وبما صحّ عن سويد بن غفلة , قال: كان بلال يسوّي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصّلاة ". فقال: ما كان عمر وبلال يضربان أحداً على ترك غير الواجب. وفيه نظرٌ، لجواز أنّهما كانا يريان التّعزير على ترك السّنّة. قوله: (ولمسلمٍ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوّي صفوفنا , حتّى كأنّما

يُسوّي بها القِداح .. الحديث) (¬1) ¬

_ (¬1) قال ابن الملقن (2/ 520): قوله: (القداح) بكسر القاف جمع قِدح بكسرها أيضاً وسكون الدال كذلك , وهي خشب السهام حين تُنحت وتُبرى وتُهيّأ للرمي به. وهو تمثيل حسنٌ جداً , فإنَّ السهام يُطلب في تسويتها التحذير وحسن الاستقامة , كيلا يطيش عند الرمي , فلا يصيب الغرض. فشبَّه تسوية الصفوف بها. فالمعنى كان يبالغ في تسويتها. حتى يصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها. وإنما قال القِداح ولم يقل القِدح لأجل مقابلة الصفوف , وقد كان بعض أئمة السلف يوكّلون رجالاً يسوّون الصفوف. قوله: (حتى رأى أن قد عقلنا) أي: فهمنا ما أَمرَنا به من التسوية , وكأنه - صلى الله عليه وسلم - راقبهم في التسوية حتى ظهر له فهمهم المقصود منها وامتثالهم له. وهذه الرؤية رؤية بصر , لأن فهمهم ليس مما يدرك بحاسة البصر. وفيه جواز كلام الإمام بعد الإقامة وقبل الإحرام , وهو مذهبنا ومذهب الجمهور للحاجة , سواء كان الكلام لمصلحة الصلاة أو لَم يكن. ومنعه أبو حنيفة , وقال: يكبر الإمام إذا قال المؤذن " قد قامت الصلاة ". والحديث حجة عليه , نعم. إذا كان لا مصلحة أصلاً يكون مكروهاً. وقال اللخمي من أصحاب مالك: إذا طال الكلام أعاد الإقامة. وفيه كراهة التقدّم على المأمومين في الصف سواء كان التقدم بقدمه أو بمنكبه أو بجميع بدنه , فإنه إذا كان - صلى الله عليه وسلم - منع بادي الصدر الذي لا يظهر فيه كبير مخالفة في التسوية وهدّد من فعله , فما ظنك بغيره من البدن والقدم والمنكب؟!. انتهى كلامه.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون 77 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ جدَّته مُلَيْكة دعتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لطعامٍ صنعته , فأكل منه , ثمّ قال: قوموا فلأُصلي لكم. قال أنسٌ: فقمت إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبس , فنضحته بماءٍ , فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم وراءه , والعجوز من ورائنا. فصلَّى لنا ركعتين , ثمّ انصرف. (¬1) ولمسلمٍ: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى به وبأمّه فأقامني عن يمينه , وأقام المرأة خلفنا. (¬2) قال المصنف: اليتيم. هو ضُميرة جدّ حسين بن عبد الله بن ضميرة. قوله: (عن أنس بن مالك , أنّ جدّته مُلَيْكة) أي: بضمّ الميم تصغير ملكة، والضّمير في جدّته يعود على إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الراوي عن أنس، جزم به ابن عبد البرّ وعبد الحقّ وعياض، وصحَّحه النّوويّ. وجزم ابن سعد وابن منده وابن الحصّار , بأنّها جدّة أنس والدة أمّه أمّ سليمٍ، وهو مقتضى كلام إمام الحرمين في النّهاية ومن تبعه. وكلام عبد الغنيّ في العمدة. وهو ظاهر السّياق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (373 , 694 , 822 , 833 , 1111) ومسلم (658) من طرق عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس به. (¬2) أخرجه مسلم (660) من طريق عبد الله بن المختار، سمع موسى بن أنس، يحدث عن أنس بن مالك. فذكره.

ويؤيّده ما رويناه في " فوائد العراقيّين " لأبي الشّيخ من طريق القاسم بن يحيى المقدّميّ عن عبيد الله بن عمر عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال: أرسلتني جدّتي إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , واسمها مُلَيْكة , فجاءنا فحضرت الصّلاة. الحديث. وقال ابن سعد في " الطّبقات ": أمّ سليمٍ بنت ملحان، فساق نسبها إلى عديّ بن النّجّار. وقال: وهي الغميصاء. ويقال: الرّميساء، ويقال: اسمها سهلة , ويقال: أنيفة. أي: بالنّون والفاء المصغّرة , ويقال: رميثة. وأمّها مُلَيْكة بنت مالك بن عديٍّ، فساق نسبها إلى مالك بن النّجّار. ثمّ قال: تزوّجها. أي: أمّ سليمٍ مالك بن النّضر فولدت له أنس بن مالك، ثمّ خلف عليها أبو طلحة. فولدت له عبد الله وأبا عمير. قلت: وعبد الله هو والد إسحاق، روى هذا الحديث عن عمّه أخي أبيه لأمّه أنس بن مالك، ومقتضى كلام من أعاد الضّمير في جدّته إلى إسحاق أن يكون اسم أمّ سليمٍ مُلَيْكة. ومستندهم في ذلك ما رواه ابن عيينة عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال: صففت أنا ويتيم في بيتنا خلف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأمّي أمّ سليمٍ خلفنا. هكذا أخرجه البخاري في أبواب الصّفوف، والقصّة واحدة طوّلها مالك , واختصرها سفيان. ويحتمل: تعدّدها فلا تخالف ما تقدّم، وكون مُلَيْكة جدّة أنس لا

ينفي كونها جدّة إسحاق لِمَا بيّنّاه، لكنّ الرّواية التي سأذكرها عن " غرائب مالك " ظاهرة في أنّ مُلَيْكة اسم أمّ سليمٍ نفسها. والله أعلم. قوله: (لطعامٍ) أي: لأجل طعام، وهو مشعر بأنّ مجيئه كان لذلك , لا ليصلي بهم ليتّخذوا مكان صلاته مصلّىً لهم كما في قصّة عتبان بن مالك (¬1)، وهذا هو السّرّ في كونه بدأ في قصّة عتبان بالصّلاة قبل الطّعام، وهنا بالطّعام قبل الصّلاة، فبدأ في كلّ منهما بأصل ما دُعي لأجله. قوله: (ثمّ قال: قوموا) استدل به على ترك الوضوء ممّا مسّت النّار لكونه صلَّى بعد الطّعام. وفيه نظرٌ (¬2) لِمَا رواه الدّارقطنيّ في " غرائب مالك " عن البغويّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (425) ومسلم (33) محمود بن الربيع الأنصاري , أنَّ عتبان بن مالك أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أنْ آتي مسجدهم فأصلّي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلّي في بيتي، فأتخذَه مُصلّى. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سأفعل إن شاء الله. قال عتبان: فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت ثم قال: أين تحبُ أن أصلّي من بيتك؟ قال: فأشرتُ له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّر .. الحديث. (¬2) أي: الاستدلال بهذا الحديث. لا أصل المسألة , فقد تكاثرت الأدلة على ترك الوضوء مما مست النار بعد الأمر بالوضوء منه في الصحيحين وغيرهما. ولذا قال النووي كما نقله عنه الشارح في " الفتح " (1/ 407) وأقرَّه: كان الخلاف فيه معروفاً بين الصحابة والتابعين ثم استقرَّ الإجماع على أنَّه لا وضوء مما مسَّت النار إلاَّ ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل , وجمعَ الخطابيُّ بوجه آخر. وهو أنَّ أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب. والله أعلم. انتهى

عن عبد الله بن عون عن مالك. ولفظه " صنعتْ مُلَيْكة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فأكل منه وأنا معه، ثمّ دعا بوضوءٍ فتوضّأ " الحديث. قوله: (فلأصلي لكم) كذا في روايتنا بكسر اللام وفتح الياء، وفي رواية الأصيليّ بحذف الياء. قال ابن مالك: روي بحذف الياء وثبوتها مفتوحة وساكنة، ووجهه أنّ اللام عند ثبوت الياء مفتوحة لام كي , والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة , واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف , والتّقدير قوموا فقيامكم لأصلي لكم. ويجوز على مذهب الأخفش أن تكون الفاء زائدة واللام متعلقة بقوموا، وعند سكون الياء يحتمل أن تكون اللام أيضاً لام كي , وسكّنت الياء تخفيفاً أو لام الأمر , وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصّحيح كقراءة قنبل " إنّه من يتّقي ويصبر "، وعند حذف الياء اللام لام الأمر، وأمر المتكلم نفسه بفعلٍ مقرونٍ باللام فصيح قليل في الاستعمال. ومنه قوله تعالى (ولنحمل خطاياكم). قال: ويجوز فتح اللام. ثمّ ذكر توجيهه. وفيه لغيره بحثٌ اختصرته؛ لأنّ الرّواية لَم ترد به. وقيل: إنّ في رواية الكشميهنيّ " فأصل " بحذف اللام، وليس هو فيما وقفت عليه من النّسخ الصّحيحة. وحكى ابن قرقولٍ عن بعض الرّوايات " فلنصل " بالنّون وكسر اللام والجزم، واللام على هذا لام الأمر , وكسرها لغة معروفة.

قوله: (لكم) أي: لأجلكم , قال السّهيليّ: الأمر هنا بمعنى الخبر، وهو كقوله تعالى (فليمدد له الرّحمن مدّاً). ويحتمل: أن يكون أمراً لهم بالائتمام , لكنّه أضافه إلى نفسه لارتباط فعلهم بفعله. قوله: (حصير) الحصير معروف يتخذ من السعف وما أشبهه. قال ابن بطال: إن كان ما يُصلّى عليه كبيراً قدر طول الرجل فأكثر فإنه يقال له حصير , ولا يقال له خُمرة , وكلُّ ذلك يصنع من سعف النخل وما أشبهه. قوله: (من طول ما لُبس) فيه أنّ الافتراش يُسمّى لُبساً. وقد استدل به على منع افتراش الحرير لعموم النّهي عن لبس الحرير، ولا يرِد على ذلك أنّ من حلف لا يلبس حريراً فإنّه لا يحنث بالافتراش؛ لأنّ الأيمان مبناها على العرف. قوله: (فنضحتُه) يحتمل: أن يكون النّضح لتليين الحصير. أو لتنظيفه. أو لتطهيره، ولا يصحّ الجزم بالأخير، بل المتبادر غيره؛ لأنّ الأصل الطّهارة. قوله: (وصففت أنا واليتيم) كذا للأكثر، وللمستملي والحمويّ " فصففت واليتيم " بغير تأكيد والأوّل أفصح. ويجوز في " اليتيم " الرّفع والنّصب. قال صاحب العمدة: اليتيم هو ضميرة جدّ حسين بن عبد الله بن ضميرة.

قال ابن الحذّاء: كذا سَمّاه عبد الملك بن حبيب ولَم يذكره غيره، وأظنّه سمعه من حسين بن عبد الله أو من غيره من أهل المدينة. قال: وضميرة هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في اسم أبي ضميرة. فقيل روح، وقيل غير ذلك. انتهى. ووهم بعض الشّرّاح. فقال: اسم اليتيم ضميرة , وقيل: روح، فكأنّه انتقل ذهنه من الخلاف في اسم أبيه إليه. ووقع عند ابن فتحونٍ فيما رواه عن ابن السّكن بسنده في الخبر المذكور " صليت أنا وسليم " بسينٍ مهملةٍ ولام مصغّراً فتصحّفت على الرّاوي من لفظ " يتيم " ومشى على ذلك ابن فتحونٍ , فقال في ذيله على الاستيعاب: سليمٌ غير منسوبٍ , وساق هذا الحديث. وجزم البخاريّ: بأنّ اسم أبي ضميرة سعد الحميريّ , ويقال سعيد، ونسبه ابن حبّان ليثيّاً. واستدل بقوله " فصففت أنا واليتيم وراءه " على أنّ السّنّة في موقف الاثنين أن يصفّا خلف الإمام، خلافاً لِمَن قال من الكوفيّين: إنّ أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن يساره. وحجّتهم في ذلك حديث ابن مسعود. الذي أخرجه أبو داود وغيره. عنه أنّه أقام علقمة عن يمينه والأسود عن شماله. (¬1) ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (613) عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: استأذن علقمة والأسود على عبد الله , وقد كنا أطلنا القعود على بابه. فخرجتِ الجاريةُ فاستأذنت لهما فأذن لهما , ثم قام فصلَّى بيني وبينه , ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل. وأخرجه مسلم في الصحيح (534) عن إبراهيم عن علقمة والأسود: أنهما دخلا على عبدالله. فذكر نحوه. وفيه: ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على رُكبنا فضرب أيدينا ثم طبَّق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه. فلما صلَّى قال: هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وأجاب عنه ابن سيرين: بأنّ ذلك كان لضيق المكان، رواه الطّحاويّ. مسألة: هل يخرج من وقف معه الصبي في الصف عن أن يكون فرداً حتى يَسلم من بطلان صلاته عند من يمنعه أو كراهته؟. وظاهر حديث أنس يقتضي الإجزاء، فهو حجة على من منع ذلك من الحنابلة مطلقاً، وقد نصَّ أحمد على أنه يجزئ في النفل دون الفرض. وفيه ما فيه (¬1). قوله: (والعجوز) هي مُلَيْكة المذكورة أوّلاً. فيه أنّ المرأة لا تصفّ مع الرّجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور. وعن الحنفيّة. تفسد صلاة الرّجل دون المرأة. وهو عجيبٌ , وفي توجيهه تعسّف حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود: أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ الله " (¬2) والأمر للوجوب، ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 447): الصواب صحة مصافة الصبي في الفرض والنفل لحديث أنس , والأصل أن الفريضة والنافلة سواء في الأحكام إلا ما خصه الدليل , وليس هنا دليل يمنع من مصافة الصبي في الفرض فوجبت التسوية بينهما. والله أعلم انتهى بتجوز. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (5115)، وابن خزيمة في " صحيحه " (1700)، والطبراني في " المعجم الكبير " (9/ 295) عن أبي معمر عن ابن مسعود موقوفاً. قال الهيثمي (2/ 35): رجاله رجال الصحيح.

وحيث ظرف مكان. ولا مكان يجب تأخّرهنّ فيه إلاَّ مكان الصّلاة , فإذا حاذت الرّجل فسدت صلاة الرّجل؛ لأنّه ترك ما أمر به من تأخيرها. وحكاية هذا تغني عن تكلّف جوابه - والله المستعان - فقد ثبت النّهي عن الصّلاة في الثّوب المغصوب وأمر لابسه أن ينزعه (¬1) فلو خالف فصلَّى فيه , ولَم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلِمَ لا يقال في الرّجل الذي حاذته المرأة ذلك؟ وأوضح منه. لو كان لباب المسجد صفّةٌ مملوكةٌ فصلَّى فيها شخصٌ بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوةٍ واحدةٍ صحّت صلاته وأثم، وكذلك الرّجل مع المرأة التي حاذته , ولا سيّما إن جاءت بعد أن دخل في الصّلاة فصلت بجنبه. وقال ابن رشيد: الأقرب أنّ البخاريّ (¬2) قصد أن يبيّن أنّ هذا ¬

_ (¬1) لا أعلم دليلاً ينصُّ على هذه المسألة بعينها. ولعلَّ مقصود الشارح عمومات الشريعة في تحريم مال المسلم والأمر بردّه. وقد أخرج الإمام أحمد (5732) عن ابن عمر رفعه قال: من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة مادام عليه. لكن سنده واهٍ. ولو صحَّ لكان الثوب المغصوب أولى. قال المرداوي في " الإنصاف " (1/ 457): قوله (ومَن صلَّى في ثوب حرير، أو مغصوب: لم تصحَّ صلاته) هذا المذهب بلا ريب، مطلقاً وعليه جماهير الأصحاب، وهو من المفردات , وعنه يصحُّ مع التحريم اختارها الخلال .. إلخ كلامه. (¬2) بوّب على هذا الحديث في كتاب الآذان " باب المرأة وحدها تكون صفّا ". قال ابن حجر: أي: في حكم الصّفّ، وبهذا يندفع اعتراض الإسماعيليّ حيث قال: الشّخص الواحد لا يُسمّى صفّاً، وأقلّ ما يقوم الصّفّ باثنين. ثمّ إنّ هذه التّرجمة لفظ حديث أخرجه ابن عبد البرّ من حديث عائشة مرفوعاً " والمرأة وحدها صفّ ".

مستثنىً من عموم الحديث الذي فيه " لا صلاة لمنفردٍ خلف الصّفّ " يعني أنّه مختصٌّ بالرّجال. والحديث المذكور. أخرجه ابن حبّان من حديث عليّ بن شيبان، وفي صحّته نظرٌ. واستدل به ابن بطّال على صحّة صلاة المنفرد خلف الصّفّ خلافاً لأحمد، قال: لأنّه لَمّا ثبت ذلك للمرأة كان للرّجل أولى، لكن لمخالفه أن يقول: إنّما ساغ ذلك لامتناع أن تصفّ مع الرّجال، بخلاف الرّجل فإنّ له أن يصفّ معهم وأن يزاحمهم. وأن يجذب رجلاً من حاشية الصّفّ فيقوم معه فافترقا (¬1). قوله: (ثمّ انصرف) أي: إلى بيته أو من الصّلاة. وفي هذا الحديث من الفوائد. إجابة الدّعوة ولو لَم تكن عرساً , ولو كان الدّاعي امرأة , لكن حيث تؤمن الفتنة، والأكل من طعام الدّعوة، وصلاة النّافلة جماعة في البيوت، وكأنّه - صلى الله عليه وسلم - أراد تعليمهم أفعال الصّلاة بالمشاهدة لأجل المرأة , فإنّها قد يخفى عليها بعض التّفاصيل لبعد موقفها. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 276): في جواز الجذب المذكور نظرٌ , لأن الحديث الوارد فيه ضعيفٌ , ولإنَّ الجذب يُفضي إلى إيجاد فرجة في الصف. والمشروع سد الخلل , والأولى ترك الجذب وأن يلتمس موضعاً في الصف , أو يقف عن يمين الإمام. والله أعلم.

وفيه تنظيف مكان المصلَّى، وقيام الصّبيّ مع الرّجل صفّاً، وتأخير النّساء عن صفوف الرّجال، وقيام المرأة صفّاً وحدها إذا لَم يكن معها امرأة غيرها. واستدل به على جواز صلاة المنفرد خلف الصّفّ وحده، ولا حجّة فيه لذلك. وفيه الاقتصار في نافلة النّهار على ركعتين خلافاً لمن زعم أنّ التّطوّع في النّهار يكون أربعاً موصولة، واختار الجمهور التّسليم من كل ركعتين في صلاة الليل والنّهار. وقال أبو حنيفة وصاحباه: يخيّر في صلاة النّهار بين الثّنتين والأربع , وكرهوا الزّيادة على ذلك. واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - " صلاة الليل مثنى " على أنّ صلاة النّهار بخلاف ذلك. وقال ابن المنير في الحاشية: إنّما خصّ الليل بذلك , لأنّ فيه الوتر فلا يقاس على الوتر غيره فيتنفّل المُصلِّي بالليل أوتاراً، فبيّن أنّ الوتر لا يعاد وأنّ بقيّة صلاة الليل مثنى، وإذا ظهرت فائدة تخصيص الليل صار حاصل الكلام صلاة النّافلة سوى الوتر مثنى فيعمّ الليل والنّهار. وفيه صحّة صلاة الصّبيّ المميّز ووضوئه، وأنّ محلّ الفضل الوارد في صلاة النّافلة منفرداً حيث لا يكون هناك مصلحة كالتّعليم، بل يمكن أن يقال هو إذ ذاك أفضل ولا سيّما في حقّه - صلى الله عليه وسلم -. تنبيهان:

الأوّل: أورد مالك هذا الحديث في ترجمة صلاة الضّحى. وتعقّب: بما رواه أنس بن سيرين عن أنس بن مالك , أنّه لَم ير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الضّحى إلاَّ مرّة واحدة في دار الأنصاريّ الضّخم الذي دعاه ليصلي في بيته. أخرجه البخاري. وأجاب صاحب القبس: بأنّ مالكاً نَظَرَ إلى كون الوقت الذي وقعت فيه تلك الصّلاة هو وقت صلاة الضّحى فحمله عليه، وأنّ أنساً لَم يطّلع على أنّه - صلى الله عليه وسلم - نوى بتلك الصّلاة صلاة الضّحى. الثّاني: النّكتة في ترجمة الباب (¬1) الإشارة إلى ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق شُريح بن هانئ , أنّه سأل عائشة , أكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي على الحصير والله يقول (وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً) (¬2)؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصلاة , وبوب عليه " باب الصلاة على الحصير " (¬2) قال العلامة الشنقيطي في " أضواء البيان " (3/ 16): في قوله: {حصيراً} وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، كلٌ منهما يشهد لمعناه قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أنَّ الآية قد يكون فيها وجهان أو أوجه، وكلها صحيح , ويشهد له قرآن ; فنورد جميع ذلك لأنه كله حق: الأول: أنَّ الحصير: المحبس والسجن ; من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصراً: ضيق عليه، وأحاط به. وهذا الوجه يدلُّ له قوله تعالى: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً}، ونحو ذلك من الآيات. الوجه الثاني: أنَّ معنى حصيراً ; أي: فراشاً ومهاداً، من الحصير الذي يفرش ; لأنَّ العرب تسمي البساط الصغير حصيراً. قال الثعلبي: وهو وجهٌ حسنٌ. ويدلُّ لهذا الوجه قوله تعالى: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} الآية، ونحو ذلك من الآيات. والمهاد: الفراش. انتهى

فقالت: لَم يكن يُصلِّي على الحصير. فكأنّه لَم يثبت عند البخاري , أو رآه شاذّاً مردوداً لمعارضته ما هو أقوى منه كحديث الباب، بل عند البخاري من طريق أبي سلمة عن عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان له حصيرٌ يبسطه ويُصلِّي عليه. وفي مسلم من حديث أبي سعيد , أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي على حصير. ويمكن الجمع: بحمل النفي على المداومة , لكن يخدش فيه ما ذكره شريح من الآية.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون 78 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: بِتُّ عند خالتي ميمونة. فقام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من الليل , فقمتُ عن يساره. فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه. (¬1) قوله: (بِتُّ عند خالتي ميمونة) زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس عند مسلم " فرقبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يُصلِّي " , زاد أبو عوانة في " صحيحه " من هذا الوجه " بالليل ". ولمسلمٍ من طريق عطاء عن ابن عبّاس قال: بعثني العبّاس إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. زاد النّسائيّ من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب " في إبل أعطاه إيّاها من الصّدقة ". ولأبي عوانة من طريق عليّ بن عبد الله بن عبّاس عن أبيه , أنّ العبّاس بعثه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، قال: فوجدته جالساً في المسجد فلم أستطع أن أُكلّمه، فلمّا صلَّى المغرب قام فركع حتّى أذن بصلاة العشاء. ولابن خزيمة من طريق طلحة بن نافع عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعد العبّاس ذوداً من الإبل، فبعثني إليه بعد العشاء. وكان في بيت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (138 , 693 , 821 , 947 , 1140 , 4293 , 4296 , 5861 , 5957 , 7014) ومسلم (763) من طرق عن كريب عن ابن عبّاس به. مطوّلا ومختصراً. واقتصر المصنف على موضع الشاهد منه. وأخرجه البخاري (117 , 665 , 667 , 695 , 5575) ومسلم (763) من طرق أخرى عن ابن عبّاس نحوه. وسيذكر الشارح رحمه الله بعضها.

ميمونة. وهذا يخالف ما قبله، ويُجمع. بأنّه لَمّا لَم يكلمه في المسجد أعاده إليه بعد العشاء إلى بيت ميمونة، ولمحمّد بن نصر في كتاب قيام الليل من طريق محمّد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن الزّيادة " فقال لي: يا بنيّ بِت الليلة عندنا " وفي رواية حبيب المذكورة " فقلت: لا أنام حتّى أنظر ما يصنع في صلاة الليل ". وفي رواية مسلم من طريق الضّحّاك بن عثمان عن مخرمة , فقلت لميمونة: إذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأيقظيني. وكان عزم في نفسه على السّهر ليطّلع على الكيفيّة التي أرادها، ثمّ خشي أن يغلبه النّوم فوصّى ميمونة أن توقظه. قوله: (فقام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من الليل) وللبخاري " فنام حتى انتصف الليل أو قريبا منه " وجزم شريك بن أبي نمر في روايته المذكورة " بثلث الليل الأخير ". ويجمع بينهما: بأنّ الاستيقاظ وقع مرّتين: ففي الأولى: نظر إلى السّماء ثمّ تلا الآيات ثمّ عاد لمضجعه فنام. وفي الثّانية: أعاد ذلك ثمّ توضّأ وصلَّى، وقد بيّن ذلك محمّد بن الوليد عن كريب عند محمد بن نصر. وفي رواية الثّوريّ عن سلمة بن كهيلٍ عن كريب في الصّحيحين , فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل فأتى حاجته ثمّ غسل وجهه ويديه ثمّ نام، ثمّ قام فأتى القرية. الحديث. وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم " ثمّ قام قومة

أخرى " وعنده من رواية شعبة عن سلمة " فبال " بدل فأتى حاجته. وفي رواية محمّد بن الوليد " ثمّ أخذ بُرداً له حضرميّاً فتوشّحه , ثمّ دخل البيت فقام يُصلِّي " قوله: (فقمتُ عن يساره) فيه عدم فساد صلاة المأموم إذا قام عن يسار الإمام فحوّله عن يمينه , ووجه الدّلالة من حديث ابن عبّاسٍ المذكور , أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يبطل صلاة ابن عبّاسٍ مع كونه قام عن يساره أوّلاً. وعن أحمد: تبطل؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يقرّه على ذلك. والأوّل هو قول الجمهور، بل قال سعيد بن المسيّب: إنّ موقف المأموم الواحد يكون عن يسار الإمام، ولَم يُتابع على ذلك. قوله: (فأخذ برأسي) وفي رواية لهما " فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها " زاد محمّد بن الوليد عن ابن نصر في روايته " فعرفت أنّه إنّما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل ". وفي رواية الضّحّاك بن عثمان عند مسلم " فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني ". وفي هذا ردّ على من زعم أنّ أخذ الأذن إنّما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين , متمسِّكاً برواية سلمة بن كهيلٍ في البخاري حيث قال: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه. لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصّفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لِمَا ذكره من تأنيسه وإيقاظه , لأنّ حاله كانت تقتضي ذلك لصغر سنّه.

قوله: (فجعلني عن يمينه) وللبخاري من رواية مخرمة عن كريبٍ عن ابن عبّاسٍ بلفظ " فقمت إلى جنبه " وظاهره المساواة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريجٍ قال: قلت لعطاءٍ: الرّجل يُصلِّي مع الرّجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقّه الأيمن. قلت: أيحاذي به حتّى يصفّ معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحبّ أن يساويه حتّى لا تكون بينهما فرجةٌ؟ قال: نعم. وفي الموطّأ عن عبد الله بن عتبة بن مسعودٍ قال: دخلت على عمر بن الخطّاب بالهاجرة فوجدته يسبّح فقمت وراءه فقرّبني حتّى جعلني حذاءه عن يمينه. وقد نقل بعضهم الاتّفاق على أنّ المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام إلاَّ النّخعيّ فقال: إذا كان الإمام ورجلٌ قام الرّجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحدٌ قام عن يمينه. أخرجه سعيد بن منصورٍ. ووجّهه بعضهم: بأنّ الإمام مظنّة الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتّى يظهر خلاف ذلك، وهو حسنٌ لكنّه مخالفٌ للنّصّ، وهو قياسٌ فاسدٌ. ثمّ ظهر لي: أنّ إبراهيم إنّما كان يقول بذلك حيث يظنّ ظنّاً قويّاً مجيء ثانٍ، وقد روى سعيد بن منصورٍ أيضاً عنه قال: ربّما قمت خلف الأسود وحدي حتّى يجيء المؤذّن. وفي الحديث مشروعية الجماعة في النافلة.

وفيه الائتمام بمن لَم ينو الإمامة , وليس في حديث ابن عبّاسٍ التّصريح بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم ينو الإمامة، كما أنّه ليس فيه أنّه نوى لا في ابتداء صلاته ولا بعد أن قام ابن عبّاسٍ فصلَّى معه، لكن في إيقافه إيّاه منه موقف المأموم ما يشعر بالثّاني، وأمّا الأوّل فالأصل عدمه. وهذه المسألة مختلفٌ فيها. والأصحّ عند الشّافعيّة: لا يشترط لصحّة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة. واستدل ابن المنذر أيضاً بحديث أنسٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في شهر رمضان. قال: فجئت فقمتُ إلى جنبه، وجاء آخر فقام إلى جنبي حتّى كنّا رهطاً، فلمّا أحسّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بنا تجوّز في صلاته " الحديث. وهو ظاهرٌ في أنّه لَم ينو الإمامة ابتداءً، وائتمّوا هم به وأقرّهم. وهو حديثٌ صحيحٌ. أخرجه مسلم , وعلَّقه البخاريّ. وذهب أحمد. إلى التّفرقة بين النّافلة والفريضة , فشرط أن ينوي في الفريضة دون النّافلة. وفيه نظرٌ؛ لحديث أبي سعيدٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يُصلِّي وحده. فقال: ألا رجلٌ يتصدّق على هذا فيصلي معه. أخرجه أبو داود وحسّنه التّرمذيّ. وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم.

باب الإمامة

باب الإمامة الحديث الثلاثون 79 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أما يَخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يُحوّل الله رأسه رأس حمارٍ , أو يجعل صورته صورة حمارٍ. (¬1) قوله: (أما يخشى أحدكم) في رواية الكشميهنيّ " أولا يخشى ". ولأبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة عن محمد بن زياد " أما يخشى أو ألا يخشى " بالشّكّ. و" أَمَا " بتخفيف الميم حرف استفتاح مثل ألا، وأصلها النّافية دخلت عليها همزة الاستفهام , وهو هنا استفهام توبيخٍ. قوله: (يرفع رأسه قبل الإمام) زاد ابن خزيمة من رواية حمّاد بن زيد عن محمّد بن زياد " في صلاته " (¬2)، وفي رواية حفص بن عمر المذكورة " الذي يرفع رأسه والإمام ساجد " , فتبيّن أنّ المراد الرّفع من السّجود. ففيه تعقّبٌ على مَن قال: إنّ الحديث نصٌّ في المنع من تقدّم المأموم على الإمام في الرّفع من الرّكوع والسّجود معاً، وإنّما هو نصٌّ في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (659) ومسلم (427) من طرق عن محمد بن زياد عن أبي هريرة به. (¬2) هذه الزيادة عند مسلم أيضاً (427) من طريق يونس عن محمد بن زياد به.

السّجود، ويلتحق به الرّكوع لكونه في معناه. ويمكن أن يفرّق بينهما بأنّ السّجود له مزيد مزيّة , لأنّ العبد أقرب ما يكون فيه من ربّه , لأنّه غاية الخضوع المطلوب منه، فلذلك خصّ بالتّنصيص عليه. ويحتمل: أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشّيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزيّة. وأمّا التّقدّم على الإمام في الخفض في الرّكوع والسّجود. فقيل: يلتحق به من باب الأولى، لأنّ الاعتدال والجلوس بين السّجدتين من الوسائل، والرّكوع والسّجود من المقاصد، وإذا دلَّ الدّليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد. ويمكن أن يقال: ليس هذا بواضحٍ , لأنّ الرّفع من الرّكوع والسّجود يستلزم قطعه عن غاية كماله، ودخول النّقص في المقاصد أشدّ من دخوله في الوسائل. وقد ورد الزّجر عن الخفض والرّفع قبل الإمام في حديث آخر , أخرجه البزّار من رواية مليح بن عبد الله السّعديّ عن أبي هريرة مرفوعاً: الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنّما ناصيته بيد شيطان. وأخرجه عبد الرّزّاق من هذا الوجه موقوفاً. وهو المحفوظ. (¬1) قوله: (أو يجعل الله صورته صورة حمار) الشّكّ من شعبة، فقد رواه الطّيالسيّ عن حمّاد بن سلمة , وابن خزيمة من رواية حمّاد بن زيد ¬

_ (¬1) وكذا رواه مالك في الموطأ موقوفاً. انظر تمام تخريجه في كتابي " زوائد الموطأ ".

, ومسلم من رواية يونس بن عبيدٍ والرّبيع بن مسلم كلّهم عن محمّد بن زياد بغير تردّد. فأمّا الحمّادان فقالا " رأس " , وأمّا يونس فقال " صورة " , وأمّا الرّبيع فقال " وجه "، والظّاهر أنّه من تصرّف الرّواة. قال عياض: هذه الرّوايات متّفقة , لأنّ الوجه في الرّأس ومعظم الصّورة فيه. قلت: لفظ الصّورة يطلق على الوجه أيضاً، وأمّا الرّأس فرواتها أكثر , وهي أشمل فهي المعتمدة، وخصّ وقوع الوعيد عليها لأنّ بها وقعت الجناية. وهي أشمل. وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرّفع قبل الإمام لكونه توعّد عليه بالمسخ وهو أشدّ العقوبات، وبذلك جزم النّوويّ في " شرح المهذّب ". ومع القول بالتّحريم. القول الأول: الجمهور على أنّ فاعله يأثم. وتجزئ صلاته. القول الثاني: عن ابن عمر تبطل , وبه قال أحمد في رواية , وأهل الظّاهر بناءً على أنّ النّهي يقتضي الفساد. وفي المغني عن أحمد أنّه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثّواب ولَم يخش عليه العقاب. واختلف في معنى الوعيد المذكور.

فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنويّ، فإنّ الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصّلاة ومتابعة الإمام. ويرجّح هذا المجازيّ , أنّ التّحويل لَم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدلّ أنّ ذلك يقع ولا بدّ، وإنّما يدلّ على كون فاعله متعرّضاً لذلك وكون فعله ممكناً لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التّعرّض للشّيء وقوع ذلك الشّيء، قاله ابن دقيق العيد. وقال ابن بزيزة: يحتمل أن يراد بالتّحويل المسخ , أو تحويل الهيئة الحسّيّة , أو المعنويّة , أو هما معاً. وحمله آخرون على ظاهره إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك. وفي حديث أبي مالك الأشعريّ الدّليل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمّة، وهو في البخاري , فإنّ فيه ذكر الخسف. وفي آخره " ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة ". (¬1) ويقوّي حمله على ظاهره أنّ في رواية ابن حبّان من وجهٍ آخر عن محمّد بن زياد " أنّ يحوّل الله رأسه رأس كلبٍ ". ¬

_ (¬1) ذكره البخاري مُعلَّقاً (5268) وقال هشام بن عمار. فساق سنده عن أبي عامر أو أبي ملك الأشعري رفعه " ليكوننَّ من أمتي أقوام، يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلنَّ أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً , فيبيّتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. ووصله الطبراني في " المعجم الكبير " (3/ 282) والبيهقي في " الكبرى " (3/ 386) من طريق هشام بن عمار به. وصحَّحه الشارح في " الفتح ".

فهذا يبعد المجاز لانتقاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار. وممّا يبعده أيضاً. إيراد الوعيد بالأمر المستقبل , وباللفظ الدّالّ على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلاً فرأسُه رأس حمار، وإنّما قلت ذلك لأنّ الصّفة المذكورة - وهي البلادة - حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور , فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليداً، مع أنّ فعله المذكور إنّما نشأ عن البلادة. وقال ابن الجوزيّ في الرّواية التي عبّر فيها بالصّورة: هذه اللفظة تمنع تأويل مَن قال المراد رأس حمار في البلادة، ولَم يبيّن وجه المنع. وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمّته , وبيانه لهم الأحكام وما يترتّب عليها من الثّواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه , لأنّه دلَّ بمنطوقه على منع المسابقة، وبمفهومه على طلب المتابعة، وأمّا المقارنة فمسكوت عنها. وقال ابن بزيزة: استدل بظاهره قومٌ لا يعقلون على جواز التّناسخ. قلت: وهو مذهبٌ رديءٌ مبنيّ على دعاوى بغير برهانٍ، والذي استدل بذلك منهم إنّما استدل بأصل النّسخ لا بخصوص هذا الحديث. لطيفةٌ: قال صاحب " القبس ": ليس للتّقدّم قبل الإمام سبب إلاَّ طلب الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر أنّه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، والله أعلم.

الحديث الواحد والثلاثون

الحديث الواحد والثلاثون 80 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: إنّما جُعل الإمام ليؤتمّ به. فلا تختلفوا عليه. فإذا كبّر فكبّروا , وإذا ركع فاركعوا. وإذا قال: سَمِع الله لمن حَمِده , فقولوا: اللهم ربّنا ولك الحمد. وإذا سجد فاسجدوا. وإذا صلَّى جالساً فصلّوا جلوساً أجمعون. (¬1) قوله: (إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به) الائتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصّلاة، فتنتفي المقارنة والمسابقة والمخالفة إلاَّ ما دلَّ الدّليل الشّرعيّ عليه , لأن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في مرضه الذي توفّي فيه. وهو جالس، أي: والنّاس خلفه قياماً. ولَم يأمرهم بالجلوس كما سيأتي، فدلَّ على دخول التّخصيص في عموم قوله " إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به " قال البيضاويّ وغيره: الائتمام الاقتداء والاتّباع. أي جعل الإمام إماماً ليقتدى به ويتّبع، ومن شأن التّابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدّم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (701) ومسلم (414) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وليس عند البخاري قوله (اللهم) وأخرجه البخاري (689) ومسلم (414) من طريق معمر عن همام عن أبي هريرة مثله. وأخرجه مسلم (415) من طرق أخرى عن أبي هريرة نحوه.

وقال النّوويّ وغيره: متابعة الإمام واجبه في الأفعال الظّاهرة، وقد نبّه عليها في الحديث , فذكر الرّكوع وغيره , بخلاف النّيّة فإنّها لَم تذكر وقد خرجت بدليلٍ آخر. انتهى. وكأنّه يعني قصّة معاذٍ الآتية (¬1). ويمكن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها , لأنّه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثاً أو حامل نجاسة , فإنّ الصّلاة خلفه تصحّ لمن لَم يعلم حاله على الصّحيح عند العلماء، ثمّ مع وجوب المتابعة ليس بشيءٍ منها شرطاً في صحّة القدوة إلاَّ تكبيرة الإحرام. واختلف في الائتمام. القول الأول: المشهور عند المالكيّة اشتراطه مع الإحرام والقيام من التّشهّد الأوّل. القول الثاني: خالف الحنفيّة , فقالوا: تكفي المقارنة، قالوا: لأنّ معنى الائتمام الامتثال , ومن فعل مثل فعل إمامه عدّ ممتثلاً. قوله: (فلا تختلفوا عليه) أفادت هذه الرواية , أنّ الأمر بالاتّباع يعمّ جميع المأمومين , ولا يكفي في تحصيل الائتمام اتّباع بعضٍ دون بعضٍ. ولمسلمٍ من رواية الأعمش عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة: لا تبادروا الإمام، إذا كبّر فكبّروا. الحديث. زاد أبو داود من رواية ¬

_ (¬1) انظر الحديث الآتي برقم (119)

مصعب بن محمّد عن أبي صالح " ولا تركعوا حتّى يركع ولا تسجدوا حتّى يسجد ". وهي زيادة حسنة تنفي احتمال إرادة المقارنة من قوله " إذا كبّر فكبّروا ". قوله: (فإذا كبّر فكبّروا) ولمسلم من حديث عائشة: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يفتتح بالتّكبير. وللبخاري عن ابن عمر: رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - افتتح التّكبير في الصّلاة. واستدل به وبحديث عائشة. القول الأول. على تعيّن لفظ التّكبير دون غيره من ألفاظ التّعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. القول الثاني: عن الحنفيّة. تنعقد بكل لفظٍ يُقصد به التّعظيم. ومن حجّة الجمهور. حديث رفاعة في قصّة المسيء صلاته , أخرجه أبو داود بلفظ: لا تتمّ صلاة أحد من النّاس حتّى يتوضّأ فيضع الوضوء مواضعه , ثمّ يكبّر. ورواه الطّبرانيّ بلفظ " ثمّ يقول: الله أكبر ". وحديث أبي حميد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصّلاة اعتدل قائماً ورفع يديه , ثمّ قال: الله أكبر. أخرجه ابن ماجه وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبّان، وهذا فيه بيان المراد بالتّكبير. وهو قول " الله أكبر ". وروى البزّار بإسنادٍ صحيحٍ على شرط مسلم عن عليٍّ , أنّ النّبيّ

- صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصّلاة قال: الله أكبر. ولأحمد والنّسائيّ من طريق واسع بن حبّان , أنّه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: الله أكبر كلّما وضع ورفع. واعترض الإسماعيليّ (¬1) فقال: ليس في الحديث بيان إيجاب التّكبير , وإنّما فيه الأمر بتأخير المأموم عن الإمام , قال: ولو كان ذلك إيجاباً للتّكبير لكان قوله " فقولوا ربّنا ولك الحمد " إيجاباً لذلك على المأموم. وأجيب: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وفعله بيان لمجمل الصّلاة، وبيان الواجب واجب، كذا وجّهه ابن رشيد. وتعقّب: بالاعتراض الثّالث وليس بواردٍ على البخاريّ لاحتمال أن يكون قائلاً بوجوبه كما قال به شيخه إسحاق بن راهويه. وقيل في الجواب أيضاً: إذا ثبت إيجاب التّكبير في حالةٍ من الأحوال طابق التّرجمة، ووجوبه على المأموم ظاهر من الحديث، وأمّا الإمام فمسكوت عنه. ويمكن أن يقال: في السّياق إشارة إلى الإيجاب لتعبيره بإذا التي تختصّ بما يجزم بوقوعه. وقال الكرمانيّ في قوله " فقولوا: ربّنا ولك الحمد " لولا الدّليل الخارجيّ وهو الإجماع على عدم وجوبه لكان هو أيضاً واجباً. انتهى. ¬

_ (¬1) أي: اعترض على تبويب البخاري على الحديث " باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة ".

وقد قال بوجوبه جماعة من السّلف , منهم الحميديّ شيخ البخاريّ، وكأنّه لَم يطّلع على ذلك. فائدتان: الفائدة الأولى: جزم ابن بطّال ومن تبعه حتّى ابن دقيق العيد , أنّ الفاء في قوله " فكبّروا " للتّعقيب، قالوا: ومقتضاه الأمر بأنّ أفعال المأموم تقع عقب فعل الإمام. لكن تعقّب: بأنّ الفاء التي للتّعقيب هي العاطفة، وأمّا التي هنا فهي للرّبط فقط لأنّها وقعت جواباً للشّرط، فعلى هذا لا تقتضي تأخّر أفعال المأموم عن الإمام إلاَّ على القول بتقدّم الشّرط على الجزاء، وقد قال قوم: إنّ الجزاء يكون مع الشّرط، فعلى هذا لا تنفي المقارنة، لكنّ رواية أبي داود هذه صريحة في انتقاء التّقدّم والمقارنة (¬1). والله أعلم. الفائدة الثانية: تكبيرة الإحرام ركنٌ عند الجمهور. وقيل: شرطٌ وهو عند الحنفيّة، ووجهٌ عند الشّافعيّة. وقيل سُنّة. قال ابن المنذر: لَم يقل به أحدٌ غير الزّهريّ، ونقله غيره عن سعيد بن المسيّب والأوزاعيّ ومالك , ولَم يثبت عن أحدٍ منهم تصريحاً، وإنّما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعاً: تجزئه تكبيرة الرّكوع. ¬

_ (¬1) تقدمت رواية أبي داود أثناء الشرح , وهي (ولا تركعوا حتّى يركع , ولا تسجدوا حتّى يسجد)

نعم. نقله الكرخيّ من الحنفيّة عن إبراهيم بن عليّة وأبي بكر الأصمّ، ومخالفتهما للجمهور كثيرة. تنبيهٌ: لَم يختلف في إيجاب النّيّة في الصّلاة، وقد أشار إليه البخاري في أواخر الإيمان حيث قال: " باب ما جاء في قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأعمال بالنّيّة " فدخل فيه الإيمان والوضوء والصّلاة والزّكاة إلى آخر كلامه. وبقية مباحث الحديث ستأتي في حديث عائشة الذي بعده.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون 81 - وما في معناه من حديث عائشة رضي الله عنها , قالت: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ , صلَّى جالساً , وصلَّى وراءه قومٌ قياماً , فأشار إليهم: أنِ اجلسوا , فلَمّا انصرف , قال: إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به , فإذا ركع فاركعوا , وإذا رفع فارفعوا , وإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربّنا لك الحمد , وإذا صلَّى جالساً فصلّوا جلوساً أجمعون. (¬1) قوله: (في بيته) أي: في المشربة التي في حجرة عائشة. كما بيّنه أبو سفيان عن جابر (¬2)، وهو دالٌّ على أنّ تلك الصّلاة لَم تكن في المسجد، وكأنّه - صلى الله عليه وسلم - عجَزَ عن الصّلاة بالنّاس في المسجد , فكان يُصلِّي في بيته بمن حضر، لكنّه لَم ينقل أنّه استخلف. ومن ثَمَّ قال عياض: إنّ الظّاهر أنّه صلَّى في حجرة عائشة , وائتمّ به من حضر عنده ومن كان في المسجد، وهذا الذي قاله محتمل. ويحتمل أيضاً: أن يكون استخلف وإن لَم ينقل. ويلزم على الأوّل صلاة الإمام أعلى من المأمومين , ومذهب عياض ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (656 , 1062 , 1179 , 5334) ومسلم (412) من طرق عن هشام بن عروة عن أبي عن عائشة به. (¬2) أخرجه أبو داود (602) وابن حبان في " صحيحه " (5/ 476) من طريق الأعمش عن أبي سفيان به. وإسناده صحيح. وسيأتي بعض ألفاظه أثناء الشرح. وتصحيح الشارح له.

خلافه، لكن له أن يقول محلّ المنع ما إذا لَم يكن مع الإمام في مكانه العالي أحد , وهنا كان معه بعض أصحابه. قوله: (وهو شاكٍ) بتخفيف الكاف بوزن قاضٍ من الشّكاية وهي المرض، وكان سبب ذلك ما في حديث أنس أنه سقط عن فرس (¬1). قوله: (فصلَّى جالساً) قال عياض: يحتمل أن يكون أصابه من السّقطة رضٌّ في الأعضاء منعه من القيام. قال: وليس كذلك، وإنّما كانت قدمه - صلى الله عليه وسلم - انفكّت. كما في رواية بشر بن المفضّل عن حميدٍ عن أنس. عند الإسماعيليّ، وكذا لأبي داود وابن خزيمة من رواية أبي سفيان عن جابر كما قدّمناه. وأمّا قوله في رواية الزّهريّ عن أنس بن مالك " جحش شقّه الأيمن " , وفي رواية يزيد عن حميدٍ عن أنس عند البخاري " جحش ساقه " أو " كتفه " , فلا ينافي ذلك كون قدمه انفكّت لاحتمال وقوع الأمرين. والجحش: الخدش. والخدش قشر الجلد. ووقع من رواية سفيان عن الزّهريّ عن أنس , قال سفيان: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1114) ومواضع أخرى , ومسلم (948) من طريق الزهري , قال: أخبرني أنس بن مالك الأنصاري , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً، فجحش شقه الأيمن، قال أنس: فصلَّى لنا يومئذ صلاة من الصلوات وهو قاعد، فصلّينا وراءه قعودا، ثم قال لَمّا سلَّم: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا.

حفظت من الزّهريّ شقّه الأيمن، فلمّا خرجنا , قال ابن جريجٍ: ساقه الأيمن. قلت: ورواية ابن جريجٍ. أخرجها عبد الرّزّاق عنه، وليست مصحّفةً كما زعم بعضهم لموافقة رواية حميدٍ المذكورة لها، وإنّما هي مفسّرةٌ لمحل الخدش من الشّقّ الأيمن , لأنّ الخدش لَم يستوعبه. وحاصل ما في القصّة. أنّ عائشة أبهمت الشّكوى، وبيّن جابر وأنس السّبب وهو السّقوط عن الفرس، وعيّن جابر العلة في الصّلاة قاعداً. وهي انفكاك القدم. وأفاد ابن حبّان: أنّ هذه القصّة كانت في ذي الحجّة سنة خمسٍ من الهجرة قوله: (وصلَّى وراءَه قومٌ قياماً) ولمسلمٍ من رواية عبدة عن هشام " فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه .. الحديث. وقد سُمِّي منهم في الأحاديث أنس كما في البخاري، وجابر كما تقدّم، وأبو بكر كما في حديث جابر، وعمر كما في رواية الحسن مرسلاً عند عبد الرّزّاق. قوله: (فأشار إليهم) كذا للأكثر هنا من الإشارة، وكذا لجميعهم (¬1) في الطّبّ من رواية يحيى القطّان عن هشام، ووقع هنا للحمويّ " فأشار عليهم " من المشورة. ¬

_ (¬1) أي: أنَّ رُواة البخاري رووه في " كتاب الطب " من صحيح البخاري عن القطّان. بلفظ (فأشار إليهم).

والأوّل أصحّ. فقد رواه أيّوب عن هشام بلفظ " فأومأ إليهم ". ورواه عبد الرّزّاق عن معمر عن هشام بلفظ " فأخلف بيده يومئ بها إليهم " , وفي مرسل الحسن " ولَم يبلغ بها الغاية ". قوله: (إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به) تقدّم في الحديث قبله قوله: (فإذا ركع فاركعوا) قال ابن المنير: مقتضاه أنّ ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إمّا بعد تمام انحنائه , وإمّا أن يسبقه الإمام بأوّله. فيشرع فيه بعد أن يشرع، قال: وحديث أنس (¬1) أتمّ من حديث عائشة , لأنّه زاد فيه المتابعة في القول أيضاً. قلت: قد وقعت الزّيادة المذكورة وهي قوله: " وإذا قال سمع الله لمن حمده " في حديث عائشة أيضاً. ووقع في رواية الليث عن الزّهريّ عن أنس زيادة أخرى في الأقوال. وهي قوله في أوّله " فإذا كبّر فكبّروا " كما في البخاري , وكذا فيه من رواية الأعرج عن أبي هريرة. وزاد في رواية عبدة عن هشام في البخاري " وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا " , وهو يتناول الرّفع من الرّكوع والرّفع من السّجود وجميع السّجدات، وكذا وردت زيادة ذلك في حديث أنس. قوله: (فقولوا: ربّنا ولك الحمد) كذا لجميع الرّواة في حديث عائشة بإثبات الواو، وكذا لهم في حديث أبي هريرة وأنس إلَّا في رواية الليث عن الزّهريّ في البخاري , فللكشميهنيّ بحذف الواو. ¬

_ (¬1) حديث أنس. أخرجاه في الصحيحين , كما تقدم لفظه. في التعليق ما قبل السابق.

ورجَحَ إثبات الواو. بأنّ فيها معنىً زائداً لكونها عاطفة على محذوف تقديره , ربّنا استجب أو ربّنا أطعناك ولك الحمد , فيشتمل على الدّعاء والثّناء معاً. ورجّح قوم حذفها , لأنّ الأصل عدم التّقدير فتكون عاطفة على كلام غير تامّ، والأوّل أوجه. كما قال ابن دقيق العيد. وقال النّوويّ: ثبتت الرّواية بإثبات الواو وحذفها، والوجهان جائزان بغير ترجيح. وسيأتي في باب صفة الصّلاة (¬1) الكلام على زيادة " اللهمّ " قبلها. ونقل عياض عن القاضي عبد الوهّاب , أنّه استدل به على أنّ الإمام يقتصر على قوله " سمع الله لمن حمده ". وأنّ المأموم يقتصر على قوله " ربّنا ولك الحمد " وليس في السّياق ما يقتضي المنع من ذلك , لأنّ السّكوت عن الشّيء لا يقتضي ترك فعله. نعم. مقتضاه أنّ المأموم يقول " ربّنا لك الحمد " عقب قول الإمام " سمع الله لمن حمده " فأمّا منع الإمام من قول " ربّنا ولك الحمد " , فليس بشيءٍ لأنّه ثبت أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بينهما. كما سيأتي في باب صفة الصلاة. قوله: (وإذا صلَّى جالساً فصلّوا جلوساً أجمعون) استدل به على صحّة إمامة القاعد المعذور بمثله وبالقائم أيضاً. وخالف في ذلك مالك في المشهور عنه ومحمّد بن الحسن. فيما حكاه ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة رقم (90)

الطّحاويّ، ونقل عنه. أنّ ذلك خاصٌّ بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. واحتجّ بحديث جابر عن الشّعبيّ مرفوعاً: لا يَؤمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً. (¬1) واعترضه الشّافعيّ , فقال: قد علم من احتجّ بهذا أن لا حجّة فيه , لأنّه مرسل، ومن رواية رجلٍ يرغب أهل العلم عن الرّواية عنه. يعني: جابراً الجعفيّ. وقال ابن بزيزة: لو صحّ لَم يكن فيه حجّة , لأنّه يحتمل أن يكون المراد منع الصّلاة بالجالس، أي: يعرب قوله جالساً مفعولاً. لا حالاً. وحكى عياض عن بعض مشايخهم: أنّ حديث عائشة , أنَّ أبا بكر يُصلِّي وهو قائم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. والناس بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد " (¬2) , يدلّ على نسخ أمره المتقدّم لهم بالجلوس لَمّا صلوا خلفه قياماً. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (4088) والدارقطني في " سننه " (1/ 398) والبيهقي في " الكبرى " (3/ 80) من طريق جابر الجعفي عن الشعبي رفعه. وهو ضعيف مع إرساله كما بيّنه الشارح. (¬2) أخرجه البخاري (687) ومواضع أخرى , ومسلم (418) عن عائشة. في قصة مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأخرِه عن الخروج إلى الصلاة. وفيه: ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد من نفسه خفةً، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر , وأبو بكر يُصلِّي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخّر، فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبو بكر يُصلِّي وهو يأتمّ بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والناس بصلاة أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد .. الحديث "

وتعقّب: بأنّ ذلك يحتاج لو صحّ إلى تاريخ، وهو لا يصحّ. لكنّه زعم أنّه تقوّى بأنّ الخلفاء الرّاشدين لَم يفعله أحد منهم. قال: والنّسخ لا يثبت بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحّة الحديث المذكور. وتعقّب: بأنّ عدم النّقل لا يدلّ على عدم الوقوع، ثمّ لو سلم لا يلزم منه عدم الجواز لاحتمال أن يكونوا اكتفوا باستخلاف القادر على القيام للاتّفاق على أنّ صلاة القاعد بالقائم مرجوحة بالنّسبة إلى صلاة القائم بمثله، وهذا كافٍ في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود. واحتجّ أيضاً: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما صلَّى بهم قاعداً لأنّه لا يصحّ التّقدّم بين يديه لنهي الله عن ذلك , ولأنّ الأئمّة شفعاء (¬1) ولا يكون أحدٌ شافعاً له. وتعقّب: بصلاته - صلى الله عليه وسلم - خلف عبد الرّحمن بن عوف، وهو ثابت بلا خلاف (¬2) وصحّ أيضاً. أنّه صلَّى خلف أبي بكر. (¬3) والعجب أنّ عمدة مالكٍ في منع أُمامة القاعد قول ربيعة: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان في تلك الصّلاة مأموماً خلف أبي بكر، وإنكاره أن يكون - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرج الدارقطني (2/ 463) والبيهقي في " الكبرى " (3/ 129) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. وقال البيهقي: إسناد هذا الحديث ضعيف. ووردتْ أحاديث بنحوه , ولا يصحُّ منها شيءٌ. انظر نصب الراية (2/ 26) والمقاصد الحسنة (ص 486) (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (274) (¬3) انظر الفتح كتاب الأذان. باب حد المريض أن يشهد الجماعة.

أمَّ في مرض موته قاعداً كما حكاه عنه الشّافعيّ في الأمّ، فكيف يدّعي أصحابه عدم تصوير أنّه صلَّى مأموماً؟ وكأنّ حديث إمامته المذكور لَمّا كان في غاية الصّحّة , ولَم يمكنهم ردُّه سلكوا في الانتصار وجوهاً مختلفة. وقد تبيّن بصلاته خلف عبد الرّحمن بن عوف أنّ المراد بمنع التّقدّم بين يديه في غير الإمامة، وأنّ المراد بكون الأئمّة شفعاء. أي: في حقّ من يحتاج إلى الشّفاعة. ثمّ لو سلم أنّه لا يجوز أن يؤمّه أحد لَم يدلّ ذلك على منع أُمامة القاعد. وقد أمَّ قاعداً جماعةٌ من الصّحابة بعده - صلى الله عليه وسلم - منهم أسيد بن حضيرٍ , وجابر , وقيس بن قهد , وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة , أخرجها عبد الرّزّاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم. بل ادّعى ابن حبّان وغيره إجماع الصّحابة على صحّة إمامة القاعد. كما سيأتي. وقال أبو بكر بن العربيّ: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخلص عند السّبك، واتّباع السّنّة أولى، والتّخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلاَّ أنّي سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التّخصيص، وحال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والتّبرّك به وعدم العوض عنه يقتضي الصّلاة معه على أيّ حال كان عليها، وليس ذلك لغيره. وأيضاً فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصوّر في حقّه، ويتصوّر في حقّ

غيره. والجواب عن الأوّل: ردّه بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - " صلّوا كما رأيتموني أصلي ". وعن الثّاني: بأنّ النّقص إنّما هو في حقّ القادر في النّافلة، وأمّا المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم. واستدل به (¬1) على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعداً إذا صلَّى الإمام قاعداً لكونه - صلى الله عليه وسلم - أقرّ الصّحابة على القيام خلفه وهو قاعد. هكذا قرّره الشّافعيّ، وكذا نقله البخاري عن شيخه الحميديّ - وهو تلميذ الشّافعيّ - وبذلك يقول أبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعيّ، وحكاه الوليد بن مسلم عن مالك. وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك , وجَمعَ بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين: إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الرّاتب الصّلاة قاعداً لمرضٍ يرجى برؤه فحينئذٍ يصلّون خلفه قعوداً. ثانيتهما: إذا ابتدأ الإمام الرّاتب قائماً لزم المأمومين أن يصلّوا خلفه قياماً. سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا. كما في الأحاديث التي في مرض موت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنّ تقريره لهم على القيام دلَّ على أنّه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة , لأنّ أبا بكر ابتدأ الصّلاة بهم قائماً وصلوا معه قياماً، بخلاف الحالة الأولى. فإنّه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أي: حديث عائشة الذي تقدم ذكره في الشرح " أن أبا بكر يُصلِّي وهو قائم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - , والناس بصلاة أبي بكر , والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. أخرجاه في الصحيحين

ابتدأ الصّلاة جالساً , فلمّا صلوا خلفه قياماً أنكر عليهم. ويقوّي هذا الجمع. أنّ الأصل عدم النّسخ، لا سيّما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النّسخ مرّتين، لأنّ الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يُصلِّي قاعداً، وقد نسخ إلى القعود في حقّ من صلَّى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النّسخ مرّتين وهو بعيدٌ. وأبعد منه ما تقدّم عن نقل عياض فإنّه يقتضي وقوع النّسخ ثلاث مرّات. وقد قال بقول أحمد. جماعةٌ من مُحدّثي الشّافعيّة كابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان. وأجابوا عن حديث الباب بأجوبةٍ أخرى: منها. قول ابن خزيمة: إنّ الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يُصلِّي قاعداً تبعاً لإمامه لَم يختلف في صحّتها ولا في سياقها، وأمّا صلاته - صلى الله عليه وسلم - قاعداً فاختلف فيها , هل كان إماماً أو مأموماً؟. قال: وما لَم يختلف فيه لا ينبغي تركه لمختلفٍ فيه. وأجيب: بدفع الاختلاف , والحمل على أنّه كان إماماً مرّة ومأموماً أخرى. ومنها: أنّ بعضهم جمع بين القصّتين بأنّ الأمر بالجلوس كان للنّدب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا الأمر من أمّ قاعداً لعذرٍ تخيّر من صلَّى خلفه بين القعود والقيام، والقعود أولى

لثبوت الأمر بالائتمام والاتّباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد من استبعد ذلك: بأنّ الأمر قد صدر من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك , واستمرّ عليه عمل الصّحابة في حياته وبعده. فروى عبد الرّزّاق بإسنادٍ صحيح عن قيس بن قهد - بفتح القاف وسكون الهاء - الأنصاريّ , أنّ إماماً لهم اشتكى لهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: فكان يؤمّنا وهو جالس ونحن جلوس. وروى ابن المنذر بإسنادٍ صحيح عن أسيد بن حضيرٍ , أنّه كان يؤمّ قومه فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يُصلِّي بهم , فقال: إنّي لا أستطيع أن أصلي قائماً فاقعدوا، فصلَّى بهم قاعداً وهم قعود. وروى أبو داود من وجه آخر عن أسيد بن حضيرٍ , أنّه قال: يا رسولَ الله. إنّ إمامنا مريض، قال: إذا صلَّى قاعداً فصلّوا قعوداً. وفي إسناده انقطاع. وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن جابر , أنّه اشتكى، فحضرت الصّلاة فصلَّى بهم جالساً وصلوا معه جلوساً. وعن أبي هريرة , أنّه أفتى بذلك. وإسناده صحيح أيضاً. وقد ألزم ابنُ المنذر مَن قال بأنّ الصّحابيّ أعلم بتأويل ما روى بأن يقول بذلك , لأنّ أبا هريرة وجابراً رويا الأمر المذكور، واستمرّا على العمل به والفتيا بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ويلزم ذلك مَن قال إنّ الصّحابيّ إذا روى وعمل بخلافه , أنّ العبرة بما عمل من باب الأولى , لأنّه هنا

عمل بوفق ما روى. وقد ادّعى ابن حبّان الإجماع على العمل به , وكأنّه أراد السّكوت، لأنّه حكاه عن أربعة من الصّحابة الذين تقدّم ذكرهم. وقال: إنّه لا يحفظ عن أحد من الصّحابة غيرهم القول بخلافه لا من طريق صحيح ولا ضعيفٍ. وكذا قال ابن حزمٍ: إنّه لا يحفظ عن أحدٍ من الصّحابة خلاف ذلك، ثمّ نازع في ثبوت كون الصّحابة صلَّوا خلفه - صلى الله عليه وسلم - وهو قاعدٌ قياماً غير أبي بكر، قال: لأنّ ذلك لَم يرد صريحاً، وأطال في ذلك بما لا طائل فيه. والذي ادّعى نفيه قد أثبته الشّافعيّ , وقال: إنّه في رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة. ثمّ وجدتُّه مصرّحاً به أيضاً في مصنّف عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ أخبرني عطاء. فذكر الحديث. ولفظه: فصلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قاعداً , وجعل أبو بكر وراءه بينه وبين النّاس , وصلَّى النّاس وراءه قياماً. وهذا مرسل يعتضد بالرّواية التي علَّقها الشّافعيّ عن النّخعيّ، وهذا هو الذي يقتضيه النّظر، فإنّهم ابتدءوا الصّلاة مع أبي بكر قياماً بلا نزاع، فمن ادّعى أنّهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان. ثمّ رأيت ابن حبّان استدلَّ على أنّهم قعدوا بعد أن كانوا قياماً بما رواه من طريق أبي الزّبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّينا وراءه وهو قاعد , وأبو بكر يسمع النّاس تكبيره، قال:

فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا. فلمّا سلَّم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والرّوم، فلا تفعلوا " الحديث. وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم، لكنّ ذلك لَم يكن في مرض موته، وإنّما كان ذلك حيث سقط عن الفرس كما في رواية أبي سفيان عن جابر أيضاً قال: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرساً بالمدينة فصرعه على جذع نخلة فانفكّت قدمه. الحديث. أخرجه أبو داود وابن خزيمة بإسنادٍ صحيح. فلا حجّة على هذا لِمَا ادّعاه، إلاَّ أنّه تمسّك بقوله في رواية أبي الزّبير " وأبو بكر يسمع النّاس التّكبير ". وقال: إنّ ذلك لَم يكن إلاَّ في مرض موته , لأنّ صلاته في مرضه الأوّل كانت في مشربة عائشة ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يسمعهم تكبيره بخلاف صلاته في مرض موته فإنّها كانت في المسجد بجمعٍ كثير من الصّحابة فاحتاج أبو بكر أن يسمعهم التّكبير. انتهى. ولا راحة له فيما تمسّك به , لأنّ إسماع التّكبير في هذا لَم يتابِع أبا الزّبير عليه أحدٌ، وعلى تقدير أنّه حفظه فلا مانع أن يسمعهم أبو بكر التّكبير في تلك الحالة , لأنّه يحمل على أنّ صوته - صلى الله عليه وسلم - كان خفيّاً من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتّكبير فكان أبو بكر يجهر عنه بالتّكبير لذلك. ووراء ذلك كلّه أنّه أمر محتملٌ لا يترك لأجله الخبر الصّريح بأنّهم

صلّوا قياماً كما تقدّم في مرسل عطاء وغيره، بل في مرسل عطاء أنّهم استمرّوا قياماً إلى أن انقضت الصّلاة. نعم. وقع في مرسل عطاء المذكور متّصلاً به بعد قوله: وصلَّى النّاس وراءه قياماً , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلاَّ قعوداً، فصلّوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلَّى قائماً فصلّوا قياماً , وإن صلَّى قاعداً فصلّوا قعوداً. وهذه الزّيادة تقوّي ما قال ابن حبّان: إنّ هذه القصّة كانت في مرض موت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعوداً إذا صلَّى إمامهم قاعداً , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يأمرهم في هذه المرّة الأخيرة بالإعادة. لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب فيحمل أمره الأخير بأن يصلّوا قعوداً على الاستحباب لأنّ الوجوب قد رفع بتقريره لهم وترك أمرهم بالإعادة. هذا مقتضى الجمع بين الأدلة. وبالله التّوفيق. والله أعلم

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون 82 - عن عبد الله بن يزيد الخطميّ الأنصاريّ - رضي الله عنه - , قال: حدّثني البراء - وهو غير كذوبٍ - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده , لَم يحن أحدٌ منّا ظهرَه حتّى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجداً , ثمّ نقع سجوداً بعده. (¬1) قوله: (عبد الله بن يزيد) هو الخطميّ، كذا وقع منسوباً عند الإسماعيليّ في روايةٍ لشعبة عن أبي إسحاق، وهو منسوب إلى خَطمة - بفتح المعجمة وإسكان الطّاء - بطن من الأوس، وكان عبد الله المذكور أميراً على الكوفة في زمن ابن الزّبير. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (657 , 714 , 778) ومسلم (474) من طرق عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد به. ولمسلم (474) عن محارب بن دثار عن عبد الله بن يزيد نحوه. وأخرجه مسلم (373) من طريق ابن أبي ليلى عن البراء نحوه. (¬2) قال الدّارقطنيّ: له ولأبيه صحبة. وشهد بيعة الرضوان، وهو صغير. وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مطرف عن أبي إسحاق عن عبد اللَّه بن يزيد الأنصاري، وكان من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وروى عبد اللَّه بن أحمد في زيادات " كتاب الزهد " من طريق موسى بن عبد اللَّه بن يزيد الخطميّ، قال: كان عبد اللَّه بن يزيد. يعني: صاحب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - , وكان من أكثر الناس صلاةً، وكان لا يصوم إلاَّ يوم عاشوراء، وكان يكنى أبا موسى. روى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وحديثه عنه في الترمذي وغيره , وولي إمرة الكوفة زمن عبد اللَّه بن الزبير يسيراً، واستمرَّ مقيماً بها، وكان شهد قبل ذلك مع عليّ مشاهدة. وقال ابن حبّان: كان الشعبي كاتبه لمّا كان أمير الكوفة وأخرج ابن البرقي بسند قويّ عن عدي بن ثابت , أنّ عبد اللَّه بن يزيد كان قد شهد بيعة الرضوان وما بعدها، وهو رسول القوم يوم جسر أبي عبيد. قال البغوي: سكن الكوفة وابتنى بها داراً، ومات في زمن ابن الزبير. الإصابة (4/ 227).

ووقع للبخاري , أنّ أبا إسحاق قال: سمعت عبد الله بن يزيد يخطب، وأبو إسحاق معروف بالرّواية عن البراء بن عازب. لكنّه سمع هذا عنه بواسطةٍ. وفيه لطيفة. وهي رواية صحابيّ ابن صحابيّ عن صحابيّ ابن صحابيّ من الأنصار ثمّ من الأوس. وكلاهما سكن الكوفة. قوله: (حدّثني البراء) بن عازب بن الحارث بن عدي الأوسي. (¬1) قوله: (وهو غير كذوب) الظّاهر أنّه من كلام عبد الله بن يزيد. وعلى ذلك جرى الحميديّ في جمعه , وصاحب العمدة. لكن روى عبّاس الدّوريّ في " تاريخه " عن يحيى بن معينٍ , أنّه قال: قوله (هو غير كذوب). إنّما يريد عبد الله بن يزيد الرّاوي عن البراء ¬

_ (¬1) يكنى أبا عمارة. ويقال أبو عمرو. له ولأبيه صحبة، ولم يذكر ابن الكلبي في نسبه مجدعة وهو أصوب. وروى الطيالسي (والبخاري) أبي إسحاق، سمع البراء يقول: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر. ورواه عبد الرّحمن بن عوسجة عن البراء نحوه، وزاد: وشهدتُ أحداً. أخرجه السّراج. وروي عنه أنه غزا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة غزوة. وفي رواية " خمس عشرة ". إسناده صحيح. وعنه قال: سافرتُ مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً. أخرجه أبو ذرّ الهرويّ. وروى أحمد عن البراء، قال: ما كل ما نحدّثكموه عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سمعناه منه حدثناه أصحابنا، وكان يشغلنا رعية الإبل. وهو الّذي افتتح الريّ سنة 24 في قول أبي عمرو الشيبانيّ، وخالفه غيره. وشهد غزوة تستر مع أبي موسى، وشهد البراء مع عليٍّ الجمل وصفّين، وقتال الخوارج، ونزل الكوفة وابتنى بها داراً، ومات في إمارة مصعب بن الزبير. وأرّخه ابن حبّان سنة 72. الإصابة (1/ 411) بتجوز.

لا البراء. ولا يقال لرجلٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير كذوب، يعني: أنّ هذه العبارة إنّما تحسن في مشكوك في عدالته , والصّحابة كلّهم عدولٌ لا يحتاجون إلى تزكية. وقد تعقّبه الخطّابيّ. فقال: هذا القول لا يوجب تهمةً في الرّاوي إنّما يوجب حقيقة الصّدق له، قال: وهذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالرّاوي والعمل بما روى، كان أبو هريرة يقول: سمعت خليلي الصّادق المصدوق , وقال ابن مسعود: حدّثني الصّادق المصدوق. وقال عياض وتبعه النّوويّ: لا وصم في هذا على الصّحابة , لأنّه لَم يرد به التّعديل، وإنّما أراد به تقوية الحديث إذ حدّث به البراء وهو غير متّهم، ومثل هذا قول أبي مسلم الخولانيّ: حدّثني الحبيب الأمين. وقد قال ابن مسعود وأبو هريرة فذكرهما. قال: وهذا قالوه تنبيهاً على صحّة الحديث لا أنّ قائله قصد به تعديل راويه. وأيضاً فتنزيه ابن معين للبراء عن التّعديل لأجل صحبته , ولَم ينزّه عن ذلك عبد الله بن يزيد لا وجه له، فإنّ عبد الله بن يزيد معدود في الصّحابة. انتهى كلامه. وقد علمت أنّه أخذ كلام الخطّابيّ فبسطه واستدرك عليه الإلزام الأخير، وليس بواردٍ , لأنّ يحيى بن معين لا يُثبت صحبة عبد الله بن يزيد، وقد نفاها أيضاً مصعب الزّبيري. وتوقّف فيها أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو داود , وأثبتها ابن البرقيّ والدّارقطنيّ وآخرون. وقال النّوويّ: معنى الكلام حدّثني البراء وهو غير متّهم كما

علمتم فثقوا بما أخبركم به عنه، وقد اعترض بعض المتأخّرين على التّنظير المذكور فقال: كأنّه لَم يلمّ بشيءٍ من علم البيان، للفرق الواضح بين قولنا فلان صدوق وفلان غير كذوب لأنّ في الأوّل إثبات الصّفة للموصوف، وفي الثّاني نفي ضدّها عنه فهما مفترقان. قال: والسّرّ فيه أنّ نفي الضّدّ كأنّه يقع جواباً لمن أثبته يخالف إثبات الصّفة. انتهى والذي يظهر لي أنّ الفرق بينهما أنّه يقع في الإثبات بالمطابقة وفي النّفي بالالتزام، لكنّ التّنظير صحيح بالنّسبة إلى المعنى المراد باللفظين، لأنّ كلاً منهما يرد عليه أنّه تزكية في حقّ مقطوع بتزكيته فيكون من تحصيل الحاصل. ويحصل الانفصال عن ذلك بما تقدّم. من أنّ المراد بكلٍّ منهما تفخيم الأمر وتقويته في نفس السّامع. وذكر ابن دقيق العيد. أنّ بعضهم استدل على أنّه كلام عبد الله بن يزيد بقول أبي إسحاق في بعض طرقه: سمعت عبد الله بن يزيد وهو يخطب يقول: حدّثنا البراء - وكان غير كذوب - قال: وهو محتمل أيضاً. قلت: لكنّه أبعد من الأوّل. وقد وجدت الحديث من غير طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد. وفيه قوله أيضاً: حدّثنا البراء وهو غير كذوب. أخرجه أبو عوانة في " صحيحه " من طريق محارب بن دثارٍ. قال: سمعت عبد

الله بن يزيد على المنبر يقول .. فذكره. وأصله في مسلم، لكن ليس فيه قوله " وكان غير كذوب " وهذا يقوّي أنّ الكلام لعبد الله بن يزيد، والله أعلم. فائدةٌ: روى الطّبرانيّ في مسند عبد الله بن يزيد هذا. شيئاً يدلّ على سبب روايته لهذا الحديث، فإنّه أخرج من طريقه , أنّه كان يُصلِّي بالنّاس بالكوفة , فكان النّاس يضعون رءوسهم قبل أن يضع رأسه ويرفعون قبل أن يرفع رأسه، فذكر الحديث في إنكاره عليهم. قوله: (إذا قال سمع الله لمن حمده) في رواية شعبة " إذا رفع رأسه من الرّكوع " ولمسلمٍ من رواية محارب بن دثارٍ: فإذا رفع رأسه من الرّكوع فقال سمع الله لمن حمده , لَم نزل قياماً. قوله: (لَم يحن) بفتح التّحتانيّة وسكون المهملة. أي: لَم يثن، يقال حنيت العود إذا ثنيته. وفي رواية لمسلمٍ " لا يحنو " وهي لغة صحيحة , يقال حنيت وحنوت بمعنىً. قوله: (حتّى يقع ساجداً) وللبخاري من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق " حتّى يضع جبهته على الأرض " ونحوه لمسلمٍ من رواية زهير عن أبي إسحق، ولأحمد عن غندر عن شعبة " حتّى يسجد ثمّ يسجدون ". واستدل به ابن الجوزيّ: على أنّ المأموم لا يشرع في الرّكن حتّى يتمّه الإمام. وتعقّب: بأنّه ليس فيه إلاَّ التّأخّر حتّى يتلبّس الإمام بالرّكن الذي

ينتقل إليه , بحيث يشرع المأموم بعد شروعه وقبل الفراغ منه. ووقع في حديث عمرو بن حريثٍ عند مسلم: فكان لا يحني أحدٌ منّا ظهره حتّى يستتمّ ساجداً. ولأبي يعلى من حديث أنس: حتّى يتمكّن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من السّجود. وهو أوضح في انتفاء المقارنة. واستدل به على الطّمأنينة. وفيه نظرٌ، وعلى جواز النّظر إلى الإمام لاتّباعه في انتقالاته.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون 83 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: إذا أمّن الإمام فأمّنوا , فإنّه من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة , غُفر له ما تقدّم من ذنبه. (¬1) قوله: (إذا أمَّن الإمام فأمّنوا) ظاهرٌ في أنّ الإمام يؤمّن. وقيل: معناه إذا دعا، والمراد دعاء الفاتحة من قوله: (اهدنا) إلى آخره بناءً على أنّ التّأمين دعاءٌ. وقيل: معناه إذا بلغ إلى موضعٍ استدعى التّأمين , وهو قوله: (ولا الضّالين) ويردُّ ذلك التّصريح بالمراد في حديث الباب. واستدل به على مشروعيّة التّأمين للإمام. قيل: وفيه نظرٌ , لكونها قضيّةً شرطيّةً. وأجيب: بأنّ التّعبير بإذا يشعر بتحقيق الوقوع. وخالف مالكٌ في إحدى الرّوايتين عنه , وهي رواية ابن القاسم. فقال: لا يؤمّن الإمام في الجهريّة، وفي روايةٍ عنه: لا يؤمّن مطلقاً. وأجاب عن حديث ابن شهابٍ هذا: بأنّه لَم يره في حديثٍ غيره. وهي عِلَّة غير قادحةٍ فإنّ ابن شهابٍ إمامٌ لا يضرّه التّفرّد، مع ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (747 , 6039) ومسلم (410) من طرق الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (748) ومسلم (410) من طرق أخرى عن أبي هريرة به.

سيُذكر قريباً أنّ ذلك جاء في حديثٍ غيره. ورجّح بعض المالكيّة كون الإمام لا يُؤمّن من حيث المعنى: بأنّه داعٍ فناسب أن يختصّ المأموم بالتّأمين، وهذا يجيء على قولهم إنّه لا قراءة على المأموم، وأمّا من أوجبها عليه فله أن يقول: كما اشتركا في القراءة فينبغي أن يشتركا في التّأمين. ومنهم: من أوّل قوله " إذا أمّن الإمام " فقال: معناه دعا، قال: وتسمية الدّاعي مؤمّناً سائغةٌ لأنّ الْمُؤمِّن يُسمّى داعياً كما جاء في قوله تعالى (قد أجيبت دعوتكما) , وكان موسى داعياً وهارون مُؤمِّناً كما رواه ابن مردويه من حديث أنسٍ. وتعقّب: بعدم الملازمة فلا يلزم من تسمية المؤمّن داعياً عكسه. قاله ابن عبد البرّ. على أنّ الحديث في الأصل لَم يصحّ، ولو صحّ فإطلاق كون هارون داعياً إنّما هو للتّغليب. وقال بعضهم: معنى قوله " إذا أمّن " بلغ موضع التّأمين. كما يقال: أنجد إذا بلغ نجداً. وإن لَم يدخلها. قال ابن العربيّ: هذا بعيدٌ لغةً وشرعاً. وقال ابن دقيق العيد: وهذا مجازٌ، فإن وجد دليلٌ يرجّحه عمل به. وإلاّ فالأصل عدمه. قلت: استدلّوا له برواية أبي صالحٍ عن أبي هريرة في الصحيحين بلفظ " إذا قال الإمام ولا الضّالين فقولوا: آمين ". قالوا: فالجمع بين الرّوايتين يقتضي حمل قوله " إذا أمّن " على

المجاز. وأجاب الجمهور - على تسليم المجاز المذكور -: بأنّ المراد بقوله إذا أمّن , أي: أراد التّأمين ليتوافق تأمين الإمام والمأموم معاً، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها الإمام، وقد ورد التّصريح بأنّ الإمام يقولها. وذلك في روايةٍ. ويدلّ على خلاف تأويلهم رواية معمرٍ عن ابن شهابٍ عن ابن المسيب عن أبي هريرة في هذا الحديث بلفظ " إذا قال الإمام (ولا الضّالين) فقالوا: آمين , فإنّ الملائكة تقول: آمين , وإنّ الإمام يقول: آمين الحديث. أخرجه أبو داود (¬1) والنّسائيّ والسّرّاج. وهو صريحٌ في كون الإمام يؤمّن. وقيل في الجمع بينهما: المراد بقوله " إذا قال ولا الضّالين فقولوا: آمين " أي: ولو لَم يقل الإمام آمين. وقيل: يؤخذ من الخبرين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده. قاله الطّبريّ. وقيل: الأوّل لمن قرُب من الإمام , والثّاني لمن تباعد عنه، لأنّ جهر الإمام بالتّأمين أخفض من جهره بالقراءة، فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه، فمن سمع تأمينه أمّن معه، وإلا يؤمّن إذا سمعه ¬

_ (¬1) لَم أجده في سنن أبي داود , وهو في سنن النسائي رقم (927) والسراج (417) والدارمي (1282) وغيرهم

يقول ولا الضّالين , لأنّه وقت تأمينه. قاله الخطّابيّ. وهذه الوجوه كلّها محتملةٌ. وليست بدون الوجه الذي ذكروه، وقد ردّه ابن شهابٍ بقوله: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين. (¬1) كأنّه استشعر التّأويل المذكور فبيّن أنّ المراد بقوله " إذا أمّن " حقيقة التّأمين. وهو - وإن كان مرسلاً - فقد اعتضد بصنيع أبي هريرة , فأخرج النّسائيّ وابن خزيمة والسّرّاج وابن حبّان وغيرهم من طريق سعيد بن أبي هلالٍ عن نعيمٍ الْمُجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثمّ قرأ بأمّ القرآن حتّى بلغ ولا الضّالين , فقال: آمين , وقال النّاس: آمين، ويقول كلَّما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين , قال: الله أكبر، ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إنّي لأشبهكم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا ترجّح أنّ الإمام يؤمّن. فيجهر به في الجهريّة. وهو قول الجمهور. خلافاً للكوفيين. ورواية عن مالكٍ , فقال: يسرّ به مطلقاً. ووجه الدّلالة من الحديث. أنّه لو لَم يكن التّأمين مسموعاً للمأموم ¬

_ (¬1) قول ابن شهابٍ هذا. أورده البخاري عقب حديث أبي هريرة حديث الباب. قال الحافظ في " الفتح " (2/ 265): هو متّصلٌ إليه برواية مالكٍ عنه، وأخطأ من زعم أنّه معلّقٌ. ثمّ هو من مراسيل ابن شهابٍ، وقد ذكرنا وجه اعتضاده. وروي عنه موصولاً. أخرجه الدّارقطنيّ في الغرائب والعلل من طريق حفص بن عمر العدنيّ عن مالكٍ عنه. وقال الدّارقطنيّ: تفرّد به حفص بن عمر وهو ضعيفٌ. انتهى

لَم يعلم به , وقد علَّق تأمينه بتأمينه. وأجابوا: بأنّ موضعه معلومٌ فلا يستلزم الجهر به. وفيه نظرٌ: لاحتمال أن يخل به فلا يستلزم علم المأموم به، وقد روى روح بن عبادة عن مالكٍ في هذا الحديث , قال ابن شهابٍ: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ولا الضّالين جهر بآمين. أخرجه السّرّاج. ولابن حبّان من رواية الزّبيديّ في حديث الباب عن ابن شهابٍ: كان إذا فرغ من قراءة أمّ القرآن رفع صوته , وقال: آمين. وللحميديّ من طريق سعيدٍ المقبريّ عن أبي هريرة نحوه بلفظ: إذا قال ولا الضّالين. ولأبي داود من طريق أبي عبد الله - ابن عمّ أبي هريرة - عن أبي هريرة مثله. وزاد " حتّى يسمع من يليه من الصّفّ الأوّل " , ولأبي داود وصحَّحه ابن حبّان من حديث وائل بن حجرٍ. نحو رواية الزّبيديّ. وفيه ردٌّ على من أومأ إلى النّسخ , فقال: إنّما كان - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالتّأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم , فإنّ وائل بن حجرٍ إنّما أسلم في أواخر الأمر. قوله: (فأمِّنوا) استدل به على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام , لأنّه رتّب عليه بالفاء، لكن تقدّم في الجمع بين الرّوايتين أنّ المراد المقارنة. وبذلك قال الجمهور.

وقال الشّيخ أبو محمّدٍ الجوينيّ: لا تستحبّ مقارنة الإمام في شيءٍ من الصّلاة غيره. قال إمام الحرمين: يمكن تعليله بأنّ التّأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخّر عنه وهو واضحٌ. القول الأول. أنّ هذا الأمر عند الجمهور للنّدب. القول الثاني: حكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملاً بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظّاهريّة على كل مصلٍّ , ثمّ في مطلق أمر المأموم بالتّأمين أنّه يؤمّن ولو كان مشتغلاً بقراءة الفاتحة، وبه قال أكثر الشّافعيّة ثمّ اختلفوا هل تنقطع بذلك الموالاة؟. على وجهين: أصحّهما. لا تنقطع , لأنّه مأمورٌ بذلك لمصلحة الصّلاة، بخلاف الأمر الذي لا يتعلق بها كالحمد للعاطس (¬1) والله أعلم. قوله: (فإنّه من وافق) زاد يونس عن ابن شهابٍ عند مسلمٍ " فإنّ الملائكة تؤمّن " قَبْل قوله " فمن وافق " وكذا لابن عيينة عن ابن شهابٍ عند البخاري. وهو دالٌّ على أنّ المراد الموافقة في القول والزّمان، خلافاً لِمَن قال المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع كابن حبّان , فإنّه لَمّا ذكر الحديث ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 343): الصواب أنَّ تأمين الإمام وحمده إذا عطس لا يقطع عليه قراءته. لكونه شيئاً يسيراً مشروعاً.

قال: يريد موافقة الملائكة في الإخلاص بغير إعجابٍ، وكذا جنح إليه غيره فقال نحو ذلك من الصّفات المحمودة، أو في إجابة الدّعاء، أو في الدّعاء بالطّاعة خاصّةً، أو المراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين. وقال ابن المنير: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزّمان أن يكون المأموم على يقظةٍ للإتيان بالوظيفة في محلها، لأنّ الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم كان متيقّظاً. ثمّ إنّ ظاهره أنّ المراد الملائكة جميعهم، واختاره ابن بزيزة. وقيل: الحفظة منهم، وقيل: الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا إنّهم غير الحفظة. والذي يظهر أنّ المراد بهم من يشهد تلك الصّلاة من الملائكة ممّن في الأرض أو في السّماء , وللبخاري في رواية الأعرج " وقالت الملائكة في السّماء: آمين " , وفي رواية محمّد بن عمرٍو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند البخاري مُعلَّقاً ووصلها أحمد والدارمي وابن خزيمة " فوافق ذلك قول أهل السّماء ". ونحوها لسهيلٍ عن أبيه عند مسلمٍ. وروى عبد الرّزّاق عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السّماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السّماء غفر للعبد " انتهى. ومثله لا يقال بالرّأي , فالمصير إليه أولى. قوله: (تأمينه) التّأمين مصدر أمّن بالتّشديد. أي: قال آمين ,

وهي بالمدّ والتّخفيف في جميع الرّوايات وعن جميع القرّاء، وحكى الواحديّ عن حمزة والكسائيّ الإمالة. وفيها ثلاث لغاتٍ أخرى شاذّةٌ: القصر: حكاه ثعلبٌ , وأنشد له شاهداً، وأنكره ابن درستويه. وطعن في الشّاهد بأنّه لضرورة الشّعر، وحكى عياضٌ ومن تبعه عن ثعلبٍ , أنّه إنّما أجازه في الشّعر خاصّةً. والتّشديد مع المدّ والقصر، وخطّأهما جماعةٌ من أهل اللّغة. وآمين من أسماء الأفعال مثل صهٍ للسّكوت، وتفتح في الوصل لأنّها مبنيّةٌ بالاتّفاق مثل كيف، وإنّما لَم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء. ومعناها اللهمّ استجب عند الجمهور. وقيل: غير ذلك ممّا يرجع جميعه إلى هذا المعنى، كقول مَن قال: معناه اللهمّ آمنّا بخيرٍ، وقيل: كذلك يكون، وقيل: درجةٌ في الجنّة تجب لقائلها، وقيل: لمن استجيب له كما استجيب للملائكة. وقيل: هو اسمٌ من أسماء الله تعالى. رواه عبد الرّزّاق عن أبي هريرة بإسنادٍ ضعيفٍ , وعن هلال بن يساف التّابعيّ مثله، وأنكره جماعةٌ. وقال من مدّ وشدّد: معناها قاصدين إليك. ونقل ذلك عن جعفرٍ الصّادق؛ وقال من قصر وشدّد: هي كلمةٌ عبرانيّةٌ أو سريانيّةٌ. وعند أبي داود من حديث أبي زهيرٍ النّميريّ الصّحابيّ , أنّ آمين مثل الطّابع على الصّحيفة، ثمّ ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن خَتَم بآمين فقد أوجب.

قوله: (غفر له ما تقدّم من ذنبه) ظاهره غفران جميع الذّنوب الماضية، وهو محمولٌ عند العلماء على الصّغائر. وقد تقدّم البحث في ذلك في الكلام على حديث عثمان فيمن توضّأ كوضوئه - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الطّهارة (¬1). فائدةٌ: وقع في " أمالي الجرجانيّ " عن أبي العبّاسٍ الأصمّ عن بحر بن نصرٍ عن ابن وهبٍ عن يونس في آخر هذا الحديث " وما تأخّر ". وهي زيادةٌ شاذّةٌ , فقد رواه ابن الجارود في " المنتقى " عن بحر بن نصرٍ بدونها، وكذا رواه مسلمٌ عن حرملة , وابن خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى كلاهما عن ابن وهبٍ. وكذلك في جميع الطّرق عن أبي هريرة , إلاَّ أنّي وجدته في بعض النّسخ من ابن ماجه عن هشام بن عمّارٍ وأبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن ابن عيينة بإثباتها، ولا يصحّ، لأنّ أبا بكرٍ قد رواه في " مسنده ومصنّفه " بدونها، وكذلك حفّاظ أصحاب ابن عيينة الحميديّ وابن المدينيّ وغيرهما. وله طريقٌ أخرى ضعيفةٌ من رواية أبي فروة محمّد بن يزيد بن سنانٍ عن أبيه عن عثمان والوليد ابني ساجٍ عن سهيلٍ عن أبيه عن أبي هريرة. وفي الحديث حجّةٌ على الإماميّة (¬2) في قولهم: إنّ التّأمين يبطل ¬

_ (¬1) انظر حديث رقم (8) (¬2) قال ابن باز (2/ 344): ما كان يحسن بالشارح أن يذكر خلاف الإمامية , لأنها طائفة ضالة وهي من أخبث طوائف الشيعة. وقد سبق للشارح أنَّ خلاف الزيدية لا يعتبر , والإمامية شر من الزيدية , وكلاهما من الشيعة , وليسوا أهلاً لأنْ يُذكر خلافهم في مسائل الإجماع والخلاف. والله أعلم

الصّلاة، لأنّه ليس بلفظ قرآنٍ ولا ذكرٍ. ويمكن أن يكون مستندهم ما نقل عن جعفرٍ الصّادق , أنّ معنى " آمين " أي: قاصدين إليك، وبه تمسّك مَن قال: إنّه بالمدّ والتّشديد، وصرّح المتولي من الشّافعيّة بأنّ مَن قاله هكذا. بطلت صلاته. وفيه فضيلة الإمام , لأنّ تأمين الإمام يوافق تأمين الملائكة، ولهذا شرعت للمأموم موافقته. وظاهر سياق الأمر أنّ المأموم إنّما يؤمّن إذا أمّن الإمام لا إذا ترك، وقال به بعض الشّافعيّة كما صرّح به صاحب " الذّخائر ". وهو مقتضى إطلاق الرّافعيّ الخلاف. وادّعى النّوويّ في " شرح المهذّب " الاتّفاق على خلافه، ونصّ الشّافعيّ في " الأمّ " على أنّ المأموم يؤمّن ولو تركه الإمام عمداً أو سهواً. واستدل به القرطبيّ على تعيين قراءة الفاتحة للإمام، وعلى أنّ المأموم ليس عليه أن يقرأ فيما جهر به إمامه. فأمّا الأوّل: فكأنّه أخذه من أنّ التّأمين مختصٌّ بالفاتحة فظاهر السّياق يقتضي أنّ قراءة الفاتحة كان أمراً معلوماً عندهم. وأمّا الثّاني: فقد يدلّ على أنّ المأموم لا يقرأ الفاتحة حال قراءة الإمام لها , لا أنّه لا يقرؤها أصلاً.

وفي الحديث مشروعية جهر المأموم بالتأمين. قال الزين بن المنير: مناسبة الحديث (¬1) من جهة أنّ في الحديث الأمر بقول آمين، والقول إذا وقع به الخطاب مطلقاً حمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار أو حديث النّفس قيّد بذلك. وقال ابن رشيدٍ: تؤخذ المناسبة منه من جهاتٍ: منها أنّه قال " إذا قال الإمام , فقولوا " فقابل القول بالقول، والإمام إنّما قال ذلك جهراً , فكان الظّاهر الاتّفاق في الصّفة. ومنها: أنّه قال " فقولوا " ولَم يقيّده بجهرٍ ولا غيره، وهو مطلقٌ في سياق الإثبات، وقد عمل به في الجهر بدليل ما تقدّم يعني في مسألة الإمام، والمطلق إذا عمل به في صورةٍ لَم يكن حجّةً في غيرها باتّفاقٍ. ومنها: أنّه تقدُّم أنّ المأموم مأمورٌ بالاقتداء بالإمام، وقد تقدّم أنّ الإمام يجهر فلزم جهره بجهره. انتهى. وهذا الأخير سبق إليه ابن بطّالٍ. وتعقّب: بأنّه يستلزم أن يجهر المأموم بالقراءة لأنّ الإمام جهر بها، لكن يمكن أن ينفصل عنه بأنّ الجهر بالقراءة خلف الإمام قد نهي عنه، فبقي التّأمين داخلاً تحت عموم الأمر باتّباع الإمام. ويتقوّى بما رواه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ قال: قلت له: أكان ابن الزّبير يؤمّن على إثر أمّ القرآن؟ قال: نعم. ويؤمّن مَن وراءه؛ حتّى إنّ للمسجد للجّةً، ثمّ قال: إنّما آمين دعاءٌ. ¬

_ (¬1) أي: لترجمة البخاري حيث ترجم له " باب جهر الإمام بالتأمين "

وروى البيهقيّ من وجهٍ آخر عن عطاءٍ قال: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المسجد , إذا قال الإمام " ولا الضّالين " سمعت لهم رجّةً بآمين. والجهر للمأموم ذهب إليه الشّافعيّ في القديم. وعليه الفتوى. وقال الرّافعيّ: قال الأكثر: في المسألة قولان , أصحّهما أنّه يجهر. تكميلٌ: في رواية للبخاري " إذا أمّن القارئ فأمنوا " المراد بالقارئ هنا الإمام إذا قرأ في الصّلاة. ويحتمل: أن يكون المراد بالقارئ أعمّ من ذلك. وورد في التّأمين مطلقاً أحاديث. منها حديث عائشة مرفوعاً " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السّلام والتّأمين " رواه ابن ماجه وصحَّحه ابن خزيمة. وأخرجه ابن ماجه أيضاً من حديث ابن عبّاس بلفظ " ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين. وأخرج الحاكم عن حبيب بن مسلمة الفهريّ , سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم , ويؤمّن بعضهم إلاَّ أجابهم الله تعالى. ولأبي داود من حديث أبي زهير النّميريّ قال: وقف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على رجلٍ قد أَلَحّ في الدّعاء , فقال: أوجب إن ختم، فقال: بأيّ شيء؟ قال بآمين. فأتاه الرّجل فقال: يا فلان اختم بآمين وأبشر. وكان أبو زهير يقول: آمين مثل الطّابع على الصّحيفة.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون 84 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلَّى أحدكم للنّاس فليخفّف فإنّ فيهم الضّعيف والسّقيم وذا الحاجة , وإذا صلَّى أحدكم لنفسه فليطوّل ما شاء. (¬1) الحديث السادس والثلاثون 85 - وما في معناه من حديث أبي مسعودٍ الأنصاريّ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي لأتأخّر عن صلاة الصّبح من أجل فلانٍ , ممّا يُطيل بنا , قال: فما رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظةٍ قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذٍ , فقال: يا أيّها النّاس , إنّ منكم مُنفّرين , فأيّكم أمّ النّاس فليوجز , فإنّ من ورائه الكبير والضّعيف وذا الحاجة. (¬2) قوله: (إذا صلَّى أحدكم للنّاس فليخفّف) عموم الأمر بالتّخفيف مختصّ بالأئمّة، فأمّا المنفرد فلا حجر عليه في ذلك. لكن اختلف فيما إذا أطال القراءة حتّى خرج الوقت كما سنذكره. قوله: (فإنّ فيهم) كذا للأكثر، وللكشميهنيّ " فإنّ منهم ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (671) ومسلم (467) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. ورواه مسلم (467) من طريقين آخرين عن أبي هريرة نحوه. كما سيذكره الشارح. (¬2) أخرجه البخاري (90 , 670 , 672 , 5759 , 6740) ومسلم (466) من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود - رضي الله عنه - به.

قوله: (الضّعيف والسّقيم) المراد بالضّعيف هنا ضعيف الخلقة , وبالسّقيم من به مرضٌ، زاد مسلم من وجهٍ آخر عن أبي الزّناد " والصّغير والكبير ". وزاد الطّبرانيّ من حديث عثمان بن أبي العاص " والحامل والمرضع " وله من حديث عديّ بن حاتم " والعابر السّبيل " وقوله في حديث أبي مسعود الآتي (¬1) " وذا الحاجة " وهي أشمل الأوصاف المذكورة. قوله: (فليطوّل ما شاء) ولمسلم " فليصل كيف شاء " أي: مخفّفاً أو مطوّلاً. واستدل به على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت، وهو المصحّح عند بعض أصحابنا. وفيه نظرٌ؛ لأنّه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قتادة: إنّما التّفريط أن يؤخّر الصّلاة حتّى يدخل وقت الأخرى. أخرجه مسلم. وإذا تعارضتْ مصلحة المبالغة في الكمال بالتّطويل ومفسدة إيقاع الصّلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى، واستدل بعمومه أيضاً على جواز تطويل الاعتدال والجلوس بين السّجدتين. قوله: (حديث أبي مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري. المعروف ¬

_ (¬1) أي: الحديث الذي بعد هذا مباشرةً , وقول ابن حجر هذا يدلُّ على أن لفظة (ذا الحاجة) ليست في البخاري , وهو كذلك. فقد انفرد بها مسلم.

بالبدري (¬1). قوله: (أنّ رجلاً) لَم أقف على اسمه، ووهِم من زعم أنّه حزم بن أَبِي كعب (¬2)؛ لأنّ قصّته كانت مع معاذ (¬3). لا مع أُبي بن كعب. ¬

_ (¬1) مشهور بكنيته. اتفقوا على أنه شهد العقبة , واختلفوا في شهوده بدراً. فقال الأكثر: نزلها فنسب إليها. وجزم البخاري بأنه شهدها. واستدلَّ بأحاديث أخرجها في صحيحه في بعضها التصريح بأنه شهدها. وقال ابن سعد عن الواقدي: ليس بين أصحابنا اختلاف في أنه لَم يشهدها. وقيل: إنه نزل ماء ببدر فنسب إليه وشهد أحداً وما بعدها. ونزل الكوفة , وكان من أصحاب عليٍّ. واستخلف مرةً على الكوفة. قال خليفة: مات قبل سنة 40 , وقال المدائني: مات سنة 40 قلت: والصحيح أنه مات بعدها , فقد ثبت أنه أدرك إمارة المغيرة على الكوفة. وذلك بعد سنة 40 قطعاً. قيل: مات بالكوفة. وقيل: مات بالمدينة. قاله في الإصابة (4/ 425) (¬2) وقع في نُسخ الفتح. وكذا في سنن أبي داود (حزم بن أبي - بن - كعب) بزيادة ابن. وهي خطأ. والصواب ما أثبتُّه. وهو صحابي كما جزم بذلك غير واحد من المؤرخين كما سيأني في التعليق الآتي. قال الحافظ في " الإصابة " (5/ 663): كعب بن أبي حزَّة - بفتح الحاء المهملة وتشديد الزاي بعدها تاء تأنيث - كذا ضبطه الشيخ تاج الدين الفاكهي في شرح العمدة. وزعم أنه هو الذي صلَّى العشاء مع معاذ ثم انصرف. وقد وهِم فيه. فإنَّ الحديث في سنن أبي داود , وسَمَّاه حزم بن أبي كعب. فانقلب على التاج وتحرَّف ولَم يَشْعر. وما اكتفى بذلك حتى ضبطه بالحروف. وهذا شأن مَن يأخذ الحديث من الصُّحف. نبَّه على ذلك شيخنا سراج الدين بن الملقن في شرح العمدة. اهـ (¬3) قصة معاذ - رضي الله عنه -. أخرجها البخاري (673) ومسلم (465) عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: أقبل رجلٌ بناضِحَين وقد جنح الليل، فوافق معاذاً يُصلِّي، فترك ناضحه. وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل. وبلغه أنَّ معاذاً نال منه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشكا إليه معاذاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا معاذ، أفتان أنت أو أفاتن؟ ثلاث مرار: فلولا صلَّيت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يُصلِّي وراءك الكبير , والضعيف , وذو الحاجة. هذا لفظ البخاري. وله ألفاظ أخرى مطولة ومختصرة عند مسلم أيضاً. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأورده صاحب العمدة مختصراً برقم (109) قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 263) بعد أن ذكر بعض روايات الحديث والاختلاف في الصلاة هي هل المغرب أو العشاء؟ وكذا الاختلاف في أي سورة قرأ؟ قال: ولَم يقع في شيء من الطرق المتقدمة تسمية هذا الرجل، لكن روى أبو داود الطيالسي في " مسنده " والبزار من طريقه عن طالب بن حبيب عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال: مرَّ حزم بن أبي كعب بمعاذ بن جبل وهو يصلي بقومه صلاة العتمة. فافتتح بسورة طويلة ومع حزم ناضح له " الحديث. قال البزار: لا نعلم أحداً سَمَّاه عن جابر إلا ابن جابر. انتهى. وقد رواه أبو داود في " السنن " من وجه آخر عن طالب فجعله عن ابن جابر عن حزم صاحب القصة، وابن جابر لَم يدرك حزماً. ووقع عنده " صلاة المغرب " وهو نحو ما تقدم من الاختلاف، ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر فسمَّاه حازماً. وكأنَّه صحفه، أخرجه ابن شاهين من طريقه. ورواه أحمد والنسائي وأبو يعلى وابن السكن بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: كان معاذ يؤمُّ قومه فدخل حرامٌ وهو يريد أن يسقي نخله " الحديث. كذا فيه بِراءٍ بعدها ألف، وظن بعضهم أنه حرام بن ملحان خال أنس. وبذلك جزم الخطيب في المبهمات، لكن لَم أره منسوباً في الرواية. ويحتمل: أن يكون تصحيفاً من حزم فتجتمع هذه الروايات، وإلى ذلك يومئ صنيع ابن عبد البر فإنه ذكر في الصحابة حرام بن أبي كعب. وذكر له هذه القصة، وعزا تسميته لرواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، ولَم أقف في رواية عبد العزيز على تسمية أبيه , وكأنه بنى على أنَّ اسمه تصحف والأب واحدٌ، سَمَّاه جابرٌ. ولَم يُسمّه أنس. وجاء في تسميته قول آخر. أخرجه أحمد أيضاً من رواية معاذ بن رفاعة عن رجلٍ من بني سلمة - يقال له سليم - أنه , أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله. إنا نظل في أعمالنا فنأتي حين نمسي فنصلي، فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة فنأتيه فيطول علينا. الحديث، وفيه أنه استشهد بأحد، وهذا مرسل؛ لأنَّ معاذ بن رفاعة لَم يدركه، وقد رواه الطحاوي والطبراني من هذا الوجه عن معاذ بن رفاعة , أنَّ رجلاً من بني سلمة. فذكره مرسلاً. ورواه البزار من وجه آخر عن جابر. وسَمَّاه سُليماً أيضاً، لكن وقع عند ابن حزم من هذا الوجه , أنَّ اسمه سَلْم - بفتح أوله وسكون اللام - وكأنه تصحيف. والله أعلم وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، وأيَّد ذلك بالاختلاف في الصلاة. هل هي العشاء أو المغرب؟ وبالاختلاف في السورة هل هي البقرة أو اقتربت؟ وبالاختلاف في عذر الرجل. هل هو لأجل التطويل فقط لكونه جاء من العمل وهو تعبان , أو لكونه أراد أن يسقي نخله إذ ذاك , أو لكونه خاف على الماء في النخل كما في حديث بريدة؟. واستشكل هذا الجمع؛ لأنه لا يظن بمعاذ أنه - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالتخفيف ثم يعود إلى التطويل. ويجاب عن ذلك. باحتمال: أن يكون قرأ أولاً بالبقرة فلمَّا نهاه قرأ اقتربت وهي طويلة بالنسبة إلى السور التي أمره أن يقرأ بها كما سيأتي (وانظر حديث جابر الآتي 106) ويحتمل: أن يكون النهي أولاً وقع لِمَا يخشى من تنفير بعض من يدخل في الإسلام، ثم لَمَّا اطمأنت نفوسهم بالإسلام ظن أن المانع زال فقرأ باقتربت؛ لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور فصادف صاحب الشغل. وجمع النووي باحتمال أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة فانصرف رجلٌ، ثم قرأ اقتربت في الثانية فانصرف آخر. ووقع في رواية أبي الزبير عند مسلم " فانطلق رجلٌ منا " وهذا يدلُّ على أنه كان من بني سلمة، ويقوي رواية من سَمَّاه سُليماً. والله أعلم. انتهى

قوله: (إنّي لأتأخّر عن صلاة الغداة) أي: فلا أحضرها مع الجماعة لأجل التّطويل، وفي رواية ابن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود عند البخاري " والله إنّي لأتأخّر " بزيادة القسم. وفيه جواز مثل ذلك؛ لأنّه لَم ينكر عليه، وللبخاري عن محمد بن كثير عن سفيان عن إسماعيل لفظ " إنّي لا أكاد أدرك الصّلاة ". قال القاضي عياض: ظاهره مشكل؛ لأنّ التّطويل يقتضي الإدراك لا عدمه، قال: فكأنّ الألف زيدت بعد لا , وكأنّ أدرك كانت أترك.

قلت: هو توجيه حسن لو ساعدته الرّواية. وقال أبو الزّناد بن سراج: معناه أنّه كان به ضعف، فكان إذا طوّل به الإمام في القيام لا يبلغ الرّكوع إلاَّ وقد ازداد ضعفه , فلا يكاد يتمّ معه الصّلاة. قلت: وهو معنىً حسن، لكن رواه البخاري عن الفريابيّ عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ: إنّي لأتأخّر عن الصّلاة " فعلى هذا فمراده بقوله: إنّي لا أكاد أدرك الصّلاة. أي: لا أقرب من الصّلاة في الجماعة بل أتأخّر عنها أحياناً من أجل التّطويل. ويحتمل أيضاً: أن يكون المراد أنّ الذي أَلِفَه من تطويله اقتضى له أن يتشاغل عن المجيء في أوّل الوقت وثوقاً بتطويله، بخلاف ما إذا لَم يكن يطوّل فإنّه كان يحتاج إلى المبادرة إليه أوّل الوقت، وكأنّه يعتمد على تطويله فيتشاغل ببعض شغله , ثمّ يتوجّه فيصادف أنّه تارةً يدركه وتارةً لا يدركه فلذلك قال " لا أكاد أدرك ممّا يطوّل بنا " أي: بسبب تطويله. واستدل به على تسمية الصّبح بذلك، ووقع في رواية سفيان " عن الصّلاة في الفجر " وإنّما خصّها بالذّكر؛ لأنّها تطوّل فيها القراءة غالباً؛ ولأنّ الانصراف منها وقت التّوجّه لمن له حرفة إليها. قوله: (من أجل فلان) وهم من فسّر الإمام المبهم هنا بمعاذ، فقصّة معاذ مُغايرة لحديث أبي مسعود؛ لأنّ قصّة معاذ كانت في العشاء , وكان الإمام فيها معاذاً , وكانت في مسجد بني سلمة، وهذه

كانت في الصّبح , وكانت في مسجد قباء. بل المراد به أُبيّ بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسنادٍ حسنٍ من رواية عيسى بن جارية - وهو بالجيم - عن جابر قال: كان أُبَيّ بن كعب يُصلِّي بأهل قباء فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار في الصّلاة، فلمّا سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبيٌّ , فأتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيّاً، فغضب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتّى عرف الغضب في وجهه , ثمّ قال: إنّ منكم منفّرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإنّ خلفكم الضّعيف والكبير والمريض وذا الحاجة. فأبان هذا الحديث أنّ المراد بقوله في حديث أبي مسعود " ممّا يطيل بنا فلان " أي: في القراءة، واستفيد منه أيضاً تسمية الإمام. وبأيّ موضعٍ كان. وفي الطّبرانيّ من حديث عديّ بن حاتم " من أمّنا فليتمّ الرّكوع والسّجود " قوله: (أشدّ) بالنّصب وهو نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ. أي: غضباً أشدّ، وسببه إمّا لمخالفة الموعظة أو للتّقصير في تعلّم ما ينبغي تعلّمه، كذا قاله ابن دقيق العيد. وتعقّبه تلميذه أبو الفتح اليعمريّ: بأنّه يتوقّف على تقدُّم الإعلام بذلك. قال: ويحتمل أن يكون ما ظهر من الغضب لإرادة الاهتمام بما

يلقيه لأصحابه ليكونوا من سماعه على بالٍ , لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله. وأقول: هذا أحسن في الباعث على أصل إظهار الغضب، أمّا كونه أشدّ فالاحتمال الثّاني أوجه , ولا يَرِد عليه التّعقّب المذكور. قوله: (إنّ منكم منفّرين) فيه تفسير للمراد بالفتنة في قوله في حديث معاذ " أفتّان أنت " , ويحتمل: أن تكون قصّة أُبيٍّ هذه بعد قصّة معاذ، فلهذا أتى بصيغة الجمع. وفي قصّة معاذٍ واجهه وحده بالخطاب، وكذا ذكر في هذا الغضب , ولَم يذكره في قصّة معاذ. وبهذا يتوجّه الاحتمال الأوّل لابن دقيق العيد. قوله: (فليخفّف) قال ابن دقيق العيد: التّطويل والتّخفيف من الأمور الإضافيّة فقد يكون الشّيء خفيفاً بالنّسبة إلى عادة قوم طويلاً بالنّسبة لعادة آخرين. قال: وقول الفقهاء لا يزيد الإمام في الرّكوع والسّجود على ثلاث تسبيحاتٍ لا يخالف ما ورد عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يزيد على ذلك؛ لأنّ رغبة الصّحابة في الخير تقتضي ألاَّ يكون ذلك تطويلاً. قلت: وأولى ما أخذ حدّ التّخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنّسائيّ عن عثمان بن أبي العاص , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: أنت إمام قومك، واقدر القوم بأضعفهم. إسناده حسنٌ. وأصله في مسلم. قوله: (فإنّ فيهم) في رواية سفيان " فإنّ خلفه " وهو تعليل الأمر المذكور، ومقتضاه أنّه متى لَم يكن فيهم متّصفٌ بصفةٍ من المذكورات

لَم يضرّ التّطويل، وقد قدّمت ما يردّ عليه في الباب الذي قبله من إمكان مجيء من يتّصف بإحداها. وقال اليعمريّ: الأحكام إنّما تناط بالغالب لا بالصّورة النّادرة، فينبغي للأئمّة التّخفيف مطلقاً. قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلَّل بالمشقّة , وهو مع ذلك يشرع - ولو لَم يشقّ - عملاً بالغالب؛ لأنّه لا يدري ما يطرأ عليه، وهنا كذلك. قوله: (الضّعيف والكبير) كذا للأكثر، ووقع في رواية سفيان في العلم " فإنّ فيهم المريض والضّعيف " وكأنّ المراد بالضّعيف هنا المريض , وهناك من يكون ضعيفاً في خلقته كالنّحيف والمسنّ. تكميل: بوب البخاري على الحديث بقوله: (باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود) قال الكرماني: الواو بمعنى مع. كأنه قال: باب التخفيف بحيث لا يفوته شيء من الواجبات، فهو تفسير لقوله في الحديث " فليتجوز " لأنه لا يأمر بالتجوز المؤدِّي إلى فساد الصلاة. قال ابن المنير وتبعه ابن رشيد وغيره: خص التخفيف في الترجمة بالقيام مع أنَّ لفظ الحديث أعمُّ حيث قال " فليتجوَّز " لأن الذي يطول في الغالب إنما هو القيام، وما عداه لا يشق إتمامه على أحد، وكأنه حمل حديث الباب على قصة معاذ، فإن الأمر بالتخفيف فيها مختص بالقراءة. انتهى ملخصاً. والذي يظهر لي أنَّ البخاري أشار بالترجمة إلى بعض ما ورد في

بعض طرق الحديث كعادته، وأما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب. وفي قول ابن المنير " إنَّ الركوع والسجود لا يشق إتمامهما " نظرٌ. فإنه إن أراد أقل ما يطلق عليه اسم تمام فذاك لا بُدَّ منه. وإن أراد غاية التمام فقد يشق، فسيأتي حديث البراء قريباً (¬1) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قيامه وركوعه وسجوده قريباً من السواء. ¬

_ (¬1) انظره برقم (92) من العمدة.

باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -

باب صفة صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحديث السابع والثلاثون 86 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبّر في الصّلاة سكت هُنيَّةً قبل أن يقرأ , فقلت: يا رسولَ الله , بأبي أنت وأمّي , أرأيتَ سكوتك بين التّكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدَّتَ بين المشرق والمغرب. اللهمّ نقّني من خطاياي كما يُنقّى الثّوب الأبيض من الدَّنس. اللهمّ اغسلني من خطاياي بالماء والثّلج والبرد. (¬1) قوله: (إذا كبّر في الصّلاة سكت) كذا لمسلم , وللبخاري " يسكت إسكاتةً " وقوله " يسكت " ضبطناه بفتح أوّله من السّكوت، وحكى الكرمانيّ عن بعض الرّوايات بضمّ أوّله من الإسكات. قال الجوهريّ: يقال تكلم الرّجل ثمّ سكت بغير ألفٍ، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أسكت. وقوله " إسكاتة " بكسر أوّله بوزن إفعالة من السّكوت، وهو من المصادر الشّاذّة نحو أثبته إثباتة. قال الخطّابيّ (¬2): معناه سكوت يقتضي بعده كلاماً مع قصر المدّة فيه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (711) ومسلم (598) من طرق عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة به. (¬2) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

وسياق الحديث يدلّ على أنّه أراد السّكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السّكوت عن القراءة لا عن الذّكر. قوله: (هُنيّة) (¬1) كذا لمسلم , وللبخاري " قال: أحسبه قال هنيّة " وهذه رواية عبد الواحد بن زياد بالظّنّ، ورواه جرير عند مسلم وغيره , وابن فضيل عند ابن ماجه وغيره بلفظ " سكت هنيّة " بغير تردّد، وإنّما اختار البخاريّ رواية عبد الواحد لوقوع التّصريح بالتّحديث فيها في جميع الإسناد (¬2). وقال الكرمانيّ: المراد أنّه قال - بدل إسكاتة - هنيّة. قلت: وليس بواضح، بل الظّاهر أنّه شكّ. هل وصف الإسكاتة بكونها هنيّةً أم لا. وهنيّة بالنّون بلفظ التّصغير، وهو عند الأكثر بتشديد الياء. وذكر عياضٌ والقرطبيّ , أنّ أكثر رواة مسلم , قالوه بالهمزة. وأمّا النّوويّ فقال: الهمز خطأ. قال: وأصله هنوة. فلمّا صغّر صار هنيوة فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسّكون فقلبت الواو ياء ثمّ أدغمت. قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز، فقد تقلب الياء همزة. وقد ¬

_ (¬1) وقع في طبعة الأرنووط (هُنيهةٌ) بزيادة الهاء. ولم أرها في الصحيحين. وإنما جاءت عند النسائي (60) وابن حبان (1776) وغيرهما. وقد وقعت في رواية الكشميهني كما سيذكر الشارح. (¬2) صحيح البخاري (711) حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا عمارة بن القعقاع قال: حدثنا أبو زرعة، قال: حدثنا أبو هريرة .. "

وقع في رواية الكشميهنيّ " هنيهةً " بقلبها هاء، وهي رواية إسحاق والحميديّ في " مسنديهما " عن جرير. قوله: (بأبي أنتَ وأمّي) الباء متعلقة بمحذوفٍ اسم أو فعل , والتّقدير أنت مفديٌّ أو أفديك، واستدل به على جواز قول ذلك، وزعم بعضهم أنّه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (أرأيت سكوتك) كذا لمسلم , وللبخاري " إسكاتك " بكسر أوّله وهو بالرّفع على الابتداء. وقال المظهّريّ شارح المصابيح: هو بالنّصب على أنّه مفعولٌ بفعلٍ مقدّرٍ , أي أسألك إسكاتك، أو على نزع الخافض. انتهى. والذي في روايتنا بالرّفع للأكثر، ووقع في رواية المستملي والسّرخسيّ بفتح الهمزة وضمّ السّين على الاستفهام، وفي رواية الحميديّ " ما تقول في سكتتك بين التّكبير والقراءة " ولمسلم " أرأيت سكوتك ". وكلّه مشعرٌ بأنّ هناك قولاً لكونه قال " ما تقول " ولَم يقل هل تقول؟ نبّه عليه ابن دقيق العيد. قال: ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية. ¬

_ (¬1) قال الشارح في " الفتح " (10/ 698): استوعب الأخبارَ الدالةَ على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه " آداب الحكماء " وجزَمَ بجواز ذلك , فقال: للمرء أنْ يقول ذلك لسلطانه ولكبيره ولذوي العلم ولمن أحب من إخوانه غير محظور عليه ذلك , بل يثاب عليه إذا قصدَ توقيرَه واستعطافَه , ولو كان ذلك محظوراً لنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلَ ذلك , ولأعلمه أنَّ ذلك غير جائز أنْ يقال لأحدٍ غيره. انتهى

قلت: حديث خبّاب. أخرجه البخاري عن أبي معمر، قال: قلنا لخباب: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بِمَ كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لحيته. ونقل ابن بطّالٍ عن الشّافعيّ , أنّ سبب هذه السّكتة للإمام أن يقرأ المأموم فيها الفاتحة، ثمّ اعترضه بأنّه لو كان كذلك لقال في الجواب: أسكت لكي يقرأ من خلفي. وردّه ابن المنير: بأنّه لا يلزم من كونه أخبره بصفة ما يقول أن لا يكون سبب السّكوت ما ذكر. انتهى. وهذا النّقل من أصله غير معروفٍ عن الشّافعيّ ولا عن أصحابه. إلاَّ أنّ الغزاليّ قال في الإحياء: إنّ المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإمام بدعاء الافتتاح. وخولف في ذلك، بل أطلق المتولي وغيره كراهة تقديم المأموم قراءة الفاتحة على الإمام. وفي وجهٍ: إن فرغها قبله بطلت صلاته، والمعروف أنّ المأموم يقرؤها إذا سكت الإمام بين الفاتحة والسّورة، وهو الذي حكاه عياض وغيره عن الشّافعيّ. وقد نصّ الشّافعيّ. على أنّ المأموم يقول دعاء الافتتاح كما يقوله الإمام، والسّكتة التي بين الفاتحة والسّورة ثبت فيها حديث سمرة عند أبي داود وغيره. قوله: (باعد) المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عمّا سيأتي منها، وهو مجازٌ؛ لأنّ حقيقة المباعدة إنّما هي في الزّمان والمكان

، وموقع التّشبيه أنّ التقاء المشرق والمغرب مستحيل فكأنّه أراد أنّه لا يبقى لها منه اقتراب بالكليّة. وقال الكرمانيّ: كرّر لفظ " بين " لأنّ العطف على الضّمير المجرور يعاد فيه الخافض قوله: (نقّني) مجاز عن زوال الذّنوب ومحو أثرها، ولَمّا كان الدّنس في الثّوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التّشبيه به. قاله ابن دقيق العيد. قوله: (بالماء والثّلج والبرد) قال الخطّابيّ: ذكر الثّلج والبرد تأكيدٌ، أو لأنّهما ماءان لَم تمسّهما الأيدي ولَم يمتهنهما الاستعمال. وقال ابن دقيق العيد: عبّر بذلك عن غاية المحو، فإنّ الثّوب الذي يتكرّر عليه ثلاثة أشياء منقّية يكون في غاية النّقاء. قال: ويحتمل أن يكون المراد أنّ كلّ واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفةٍ يقع بها المحو , وكأنّه كقوله تعالى (واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا). وأشار الطّيبيّ إلى هذا بحثاً فقال: يمكن أن يكون المطلوب من ذكر الثّلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرّحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النّار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: برّد الله مضجعه. أي: رحمه ووقاه عذاب النّار. انتهى ويؤيّده ورود وصف الماء بالبرودة. في حديث عبد الله بن أبي أوفى

عند مسلم (¬1)، وكأنّه جعل الخطايا بمنزلة جهنّم لكونها مسبّبةً عنها، فعبّر عن إطفاء حرارتها بالغسل , وبالغ فيه باستعمال المبرّدات ترقّياً عن الماء إلى أبرد منه. وقال التّوربشتيّ: خصّ هذه الثّلاثة بالذّكر؛ لأنّها منزّلةٌ من السّماء. وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون في الدّعوات الثّلاث إشارة إلى الأزمنة الثّلاثة فالمباعدة للمستقبل، والتّنقية للحال، والغسل للماضي " انتهى. وكأنّ تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. واستدل بالحديث على مشروعيّة الدّعاء بين التّكبير والقراءة خلافاً للمشهور عن مالكٍ، وورد فيه أيضاً حديث " وجّهت وجهي إلخ " وهو عند مسلم من حديث عليٍّ، لكن قيّده بصلاة الليل. (¬2) وأخرجه الشّافعيّ وابن خزيمة وغيرهما بلفظ " إذا صلَّى المكتوبة " واعتمده ¬

_ (¬1) مسلم (476) عن ابن أبي أوفى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , أنه كان يقول: اللهم لك الحمد ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد , اللهم طهّرني بالثلج والبرد، والماء البارد , اللهم طهّرنى من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الوسخ " (¬2) ولفظه عند مسلم (771): كان إذا قام إلى الصلاة قال. فذكره. وأورده الشارح في بلوغ المرام ثم قال: وفي رواية له: إن ذلك في صلاة الليل. انتهى ولم أره مقيَّدا بصلاة الليل في الروايات التي اطلعتُ عليها. وكأن مسلماً رحمه الله يرى أنه في قيام الليل حيث ذكره ضمن أحاديث القيام. ورواه أيضاً البزار في " مسنده " (499) بلفظ مسلم , ثم قال: وإنما احتمله الناس على صلاة الليل. وكذا قال الطيالسي في " مسنده " (152).

الشّافعيّ في الأمّ، وفي التّرمذيّ وصحيح ابن حبّان من حديث أبي سعيد. الافتتاح بسبحانك اللهمّ. (¬1) ونقل السّاجيّ عن الشّافعيّ استحباب الجمع بين التّوجيه والتّسبيح , وهو اختيار ابن خزيمة وجماعة من الشّافعيّة , وحديث أبي هريرة أصحّ ما ورد في ذلك. واستدل به على جواز الدّعاء في الصّلاة بما ليس في القرآن خلافاً للحنفيّة. ثمّ هذا الدّعاء صدر منه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المبالغة في إظهار العبوديّة، وقيل: قاله على سبيل التّعليم لأمّته، واعترض بكونه لو أراد ذلك لجهر به. وأجيب: بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزّار. وفيه ما كان الصّحابة عليه من المحافظة على تتبّع أحوال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتّى حفظ الله بهم الدّين. واستدل به بعض الشّافعيّة على أنّ الثّلج والبرد مطهّران، واستبعده ابن عبد السّلام. وأبعد منه استدلال بعض الحنفيّة به على نجاسة الماء المستعمل. ¬

_ (¬1) وتمامه (سبحانك اللهم وبحمدك , وتبارك اسمك , وتعالى جدّك , ولا إله غيرك) وهو في سنن الترمذي (242) وأخرجه أيضاً. أبو داود (775) والنسائي (900) وابن ماجة (804) من طرق عن عليِّ بن عليٍّ الرفاعي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد - رضي الله عنه -.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون 87 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصّلاة بالتّكبير , والقراءة بـ (الحمد لله ربّ العالمين) , وكان إذا ركع لَم يُشخص رأسه ولَم يصوّبه , ولكن بين ذلك , وكان إذا رفع رأسه من الرّكوع لَم يسجد حتّى يستوي قائماً , وكان إذا رفع رأسه من السّجدة لَم يسجد , حتّى يستوي قاعداً , وكان يقول في كل ركعتين التّحيّة , وكان يفرش رجله اليسرى , وينصب رجله اليمنى , وكان ينهى عن عقبة الشّيطان، وينهى أن يفترش الرّجل ذراعيه افتراش السّبع , وكان يختم الصّلاة بالتّسليم. (¬1) قوله: (يستفتح الصّلاة بالتّكبير) تقدَّم الكلام عليه. (¬2) قوله: (والقراءة بـ (الحمد لله ربّ العالمين). سيأتي الكلام عليه إن شاء الله. (¬3) قوله: (وكان إذا ركع لَم يُشخص رأسه ولَم يصوّبه) أخرج البخاري من رواية يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد - رضي الله عنه - رفعه. وفيه: وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره. قوله " هصر ظهره " بالهاء والصاد المهملة المفتوحتين. أي: ثناه في ¬

_ (¬1) هذا الحديث لَم يخرجه البخاري في " صحيحه " , وإنما انفرد بإخراجه مسلم (1138) من طريق بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها به. (¬2) انظر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. رقم (80). (¬3) انظر حديث أنس - رضي الله عنه - رقم (107 , 108).

استواء من غير تقويس. ذكره الخطابي , وفي رواية البيهقي " غير مقنع رأسه ولا مصوّبه " , ونحوه لعبد الحميد. وفي رواية فليح عن عباس بن سهل عن أبي حميد عند أبي داود " فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابضٌ عليهما , ووتَّر يديه فتجافى عن جنبيه ". وله في رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب " وفرج بين أصابعه " قوله: (وكان إذا رفع رأسه من الرّكوع .. حتّى يستوي قاعداً). سيأتي الكلام عليه إن شاء الله. (¬1) قوله: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى) وللبخاري عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - " فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى ". وقوله " في الركعتين " أي الأوليين ليتشهد. ولأبي داود " ثم جلس فافترش رجله اليسرى , وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ". فائدة: قال ابن عبد البر: اختلفوا في التربع في النافلة وفي الفريضة للمريض , وأمَّا الصحيح فلا يجوز له التربع في الفريضة بإجماع العلماء. كذا قال. وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: لأن أقعد على رضفتين أحب إليَّ من أن أقعد متربعاً في الصلاة. وهذا يشعر بتحريمه عنده , ولكن المشهور عن أكثر العلماء أن هيئة الجلوس في التشهد ¬

_ (¬1) انظر حديث أنس برقم (93).

سنة , فلعلَّ ابن عبد البر أراد بنفي الجواز إثبات الكراهة قوله: (وينهى أنْ يفترش الرّجل ذراعيه افتراش السّبع). سيأتي الكلام عليه إن شاء الله. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن بحينة - رضي الله عنه - الآتي رقم (96). وهذا الحديث لم يُخرِّجه البخاري , وإنما انفرد به مسلم كما تقدم , ولذا لم يتكلّم الحافظ رحمه الله على بعض معانيه. قال الحافظ ابن الملقن في " الإعلام بفوائد عمدة الأحكام " (3/ 19): الكلام فيه من أربعة وثلاثين وجهاً أحدها: هذا الحديث سها المصنِّف في إيراده في كتابه فإنه من إفراد مسلم، وشرطه إخراج ما اتفقا عليه. قلت: وفي إسناده عِلَّة. رواه مسلم من حديث أبي الجوازء الربعي عن عائشة. قال ابن عبد البر: ولَم يسمع منها، حديثه عنها مرسل. قلت: إدراكه لها ممكن؛ بل ورد مشافهته لها بالسؤال، لكن قال البخاري: في إسناده نظرٌ. ثانيها: كان تقتضي المداومة أو الأكثرية، لكن لا يأتي فيها هنا إلاَّ المداومة لافتتاح الصلاة بالتكبير , والقراءة بالحمد لله رب العالمين , أي: بسورة الحمد , ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يخل بالتكبير والقراءة. ثالثها: الرواية في القراءة بالنصب عطفاً على مفعول يستفتح , وهو الصلاة , وفي الحمد ضم داله على الحكاية , أي: ويستفتح القراءة بـ (الحمد لله رب العالمين) أي: بسورة الحمد , ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة السالف قبله أذن. لأنَّ المعنى أنه يسكت السكوت المذكور بعد التكبير , ثم يستفتح القراءة بذلك , ولا يصحُّ الخفض في القراءة , ويكون دليلاً على عدم السكوت لئلا يؤدي إلى معارضته لحديث أبي هريرة فاعمله. رابعها: الفقهاء يستدلون بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - في كثير منها في الصلاة على الوجوب , لأنهم يرون أنَّ قوله تعالى: (وأقيمُواْ الصّلوة) خطاب مجمل مبين بالفعل , والفعل المبيّن للمُجمل المأمور به يدخل تحت الأمر , فيدل بمجموع ذلك على الوجوب , لا لأنَّ الفعل بمجرده يدل على الوجوب , وإذا كان المسلك ذلك , ووجدت أفعال غير واجبة وجب أن يحال على دليلٍ آخر دلَّ على عدم وجوبها. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي ذلك بحث؛ وهو: أنَّ الخطاب المجمل يبين بأول الأفعال وقوعاً , فلا يكون ما وقع بعده بياناً له بوقع البيان بالأول , بل تبقى أفعالاً مجردة لا تدل على الوجوب , إلاَّ أن يدل دليل على أنَّ الفعل المستدل به بياناً , فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجوده , بل قد يقوم الدليل على خلافه: كمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل فعلاً , وهو من أصاغر الصحابة الذين لهم تمييز بعد أقامته - صلى الله عليه وسلم - مدة للصلاة مثلاً؛ فهذا مقطوعٌ بتأخيره عن وقت البيان , وكذا من أسلم بعد مكة وأخبر برؤية الفعل , فإنه حينئذ يتحقق تأخير الفعل. قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: وهذا تحقيق بالغ , قال: وقد يجاب عنه بأنْ يقال: دلَّ الدليل من الحديث المعين على وقوع هذا الفعل , والأصل عدم غيره , فتعين أن يكون بياناً , وهذا قوي فيما إذا وجدنا فعلاً لَم يقم الدليل على عدم وجوبه , فأما إذا وجد فإن جعلناه مبيناً بدلالة الأصل على عدم غيره , ودلّ الدليل على عدم وجوبه لزم النسخ لذلك الوجوب الذي ثبت فيه أولاً , ولا شك أنَّ مخالفة الأصل أقرب من التزام النسخ. خامسها: قولها: يستفتح الصلاة بالتكبير " تعني بالتكبير الذي هو تحريم للصلاة , كما ثبت: تحريمها التكبير. صحَّحه الحاكم من حديث أبي سعيد على شرط مسلم , ولا شك أنَّ التحريم لا يحصل بالتكبير وحده , بل به وبالنية , وهما أمران أحدهما قائم بالقلب , والثاني بالمنطق , فيتحمل أنها عبرت بالأخص عن الأعم للعلم به. ويحتمل: أنها ذكرتْه للتنبيه على تعيّن لفظ التكبير دون غيره , وأن استفتاح الصلاة بالنية كان معلوماً عندهم , وهي قصد الطاعة بالصلاة , كما أنَّ الإخلاص في الطاعة لله لا بدَّ منه في الاستفتاح وغيره , وهو تصفية العمل من الشوائب , بأن لا يقصد بالعمل للنفس , ولا للهوى , ولا للدنيا , بل للتقرب إلى الله تعالى فكذلك النية , وكلاهما كان عندهم معلوماً , فلهذا استغنت بذكر التكبير عنهما , ونقل خلاف ذلك عن بعض المتقدمين. قال الشيخ تقي الدين: تأوله بعضهم على مالك , والمعروف خلافه عنه وعن غيره. سادسها: تكبيرة الإحرام: ركن على المشهور عندنا , وبه قال مالك. وقيل: شرط , حكاه الروياني في بحره , وهو مقتضى قول الطبري في الصلاة الرباعية: خمسة وأربعون خصلة: ثمانية منها قبل الدخول , النية والتكبير , ثم عد باقي الشروط , وهو مذهب أبي حنيفة. وتظهر فائدة الخلاف فيما لو كبّر وفي يده نجاسة ثم ألقاها في أثناء التكبير , أو شرع في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = التكبير قبل ظهور الزوال , ثم ظهر الزوال قبل فراغها , فلا تصح صلاته على المشهور عندنا فيهما , وتصح على الثاني كستر العورة. وقال بعض المالكية: فائدة الخلاف ما ذكره سحنون , أنَّ الناظر إلى عورة إمامه في الصلاة متعمداً تبطل صلاته. فإذا قيل: إنها ركنٌ بطلت صلاة الناظر ألى عورة إمامه حين إحرامه وإلاَّ فلا. وقال بعضهم: فائدتة في صحة تقديم الإحرام على وقت العبادة فإن قلنا: بالأول فلا تصح , وإلاّ صحّت , إذ لا يشترط في إيقاع شرط العبادة المؤقتة دخول الوقت كالطهارة. واحتج مَن قال: بأنها ركن بحديث المسيء صلاته: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر " الحديث , واعترض بأنَّ فيه إسباغ الوضوء واستقبال القبلة , وهما شرطان. وأجيب: بأن الشرط قد لا يفارق الصلاة: كالستر والاستقبال ويحتج له أيضاً بحديث معاوية بن الحكم السلمي في الصحيح " إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " فجعل التكبير منها. واحتج مَن قال: بأنها شرط بقوله تعالى: (وَذَكَرَ اسمَ ربه فصلى) , والفاء للتعقيب , والذكر التكبير , والصلاة معطوفة عليه بالفاء , فهو غيرها. قال الزمخشري: فصلّى صلاة العيد , وذكر اسم ربه , فكبَّر تكبيرة الافتتاح. وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة , لأنَّ الصلاة معطوفة عليها. وعلى أنَّ الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. ثم قال: وعن ابن عباس: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه , فصلَّى له. وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلَّى , فصلَّى صلاة العيد. وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد بالذكر هنا النية , فالآية خارجة عن النصوصية على ما ادَّعوه , واذا تطرَّق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال. وقال بعض المتأخرين: ليس المراد بالذكر هنا تكبيرة الإحرام بالإجماع قبل خلاف المخالف. واحتجوا أيضاً: بالحديث السالف: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم , والمضاف غير المضاف إليه. وجوابه: أنه قد يضاف البعض إلى الجملة. كما تقول: راس زيد , فلا حجة فيه. وفي المسألة قول ثالث: أنَّ تكبيرة الإحرام سنة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = روى ابن المنذر: عن ابن شهاب , أنه قال في رجل نوى الصلاة ورفع يديه ولَم يحرم: إن الصلاة تجزئه. وحكى القاضي وجماعة: عن ابن المسيب والحسن والزهري والحكم والأوزاعي: أنَّ تكبيرة الإحرام سنة. وأنكر ذلك على ابن شهاب وابن المسيب. وقالوا: إنهما يريانها سنة في حق المأموم خاصة. واليه أشار ابن الموارد. قال: ولَم يختلف في الفذ والإمام , وإنما اختلف في المأموم. سابعها: إذا تقرَّر أنه لا بد من لفظٍ. فاختلف العلماء فيه. فعند أبي حنيفة أنه يكفي مجرد التعظيم كالله أجل , أو أعظم فإن لَم يقصد , فروايتان عنه. وروي عنه أنه قال: أكره أن تنعقد الصلاة بغير: الله أكبر. وعنه روايتان: فيما إذا قال: الله أو الرحمن , واقتصر عليه. ووافقه على عدم الانعقاد بيا الله ارحمني , وبيا اللهم اغفر لي , وبالله أستعين. والجمهور. على تعين لفظ التكبير , وبه قال مالك والشافعي وأحمد. مستدلين على وجوبه وتعينه بهذا النقل , على الطريقة السابقه من كونه بياناً للمجمل , وفيه ماذكرنا , لكن انضم إليه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: صلَّوا كما رأيتموني أصلي , فصار البيان بفعله وقوله. وصحَّ من حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -: قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة: استقبل القبلة , ورفع يديه , وقال: الله أكبر , رواه ابن ماجه , وصحَّحه ابن حبان في كتابه وصف الصلاة بالسنة. وذهب أبو يوسف إلى الانعقاد بالله الكبير. وجوابه: أن أكبر أبلغ. واختلف أصحابنا في الانعقاد بقوله: الله الأكبر. والأصح: نعم , بل هو أبلغ في التعظيم. ووجه مقابله أنه إذا أدخل الألف واللام على أكبر صار نعتاً , وبقي المبتدأ بلا خبر , كذا علَّله الأبهري المالكي. واعترض عليه: بأنه لا يمتنع أن يكون الأكبر خبراً , لأنَّ خبر المبتدأ قد يكون معروفة , إلاَّ أنه قد صار محتملاً للنعت وللخبر , فكيف يقوم ذلك مقام الله أكبر الذي تعين فيه أن أكبر خبر , ولعل هذا هو السر في اقتصار الشارع على الثاني. واعترض الأبهري على مَن قال بالانعقاد بالله الأكبر: بأنه لا يجوز الجمع بين الألف واللام , ومن في أفعل التفضيل إذ المعنى الله الأكبر من كل كبير. فإن قلت: الأكبر جاز أن يكون معه من يشاركه في الكبر , بخلاف أكبر. وفيما ذكره نظرٌ , لأنَّ صيغة أفعل التي للمفاضلة تقتضي وضعها للمشاركه في أصل الشيء والزيادة عليه , كان فيه الألف واللام أو لَم يكن: كقولنا: زيد أفضل من عمرو , =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وزيد الأفضل. وكذا مع الإضافة نحو زيد أفضل القوم. فرع: لو قال: الله أكبر بالتنوين أو بالنصب فلا نقل في ذلك , والذي يظهر المنع إذ لَم يأت بالتكبير اللغوي , كما صرَّحوا به فيما إذا مد الهمزة. فرع: من عجَزَ عن النطق بالعربية ولَم يقدر على التعلم ترجم بلسانه , ووجب عليه التعلم إن قدر , فإنه فقد من يعلمه ترجم ولا إعادة , فإنْ أهمل التعلم مع إمكانه وضاق الوقت صلَّى بالترجمة , والأصح وجوب الأعادة لتقصيره. وللمالكية ثلاثة أقول فيما إذا ضاق الوقت عن التعلم: أحدها: لا ينطق بغير التكبير إذ لا يقوم غيره مقامه , ومقتضاه أن يدخل في الصلاة بالنية , وهو قول الأبهري. وصوبه المازري. والثاني: يفتتح الصلاة بالحرف الذي دخل به في الإسلام , قاله أبو الفرج , وهو أولى من الاكتفاء بالنية. والثالث: كمذهبنا. فرع: قال صاحب " البيان والتقريب " من المالكية: واختلف فيمن افتتح الصلاة , ثم شك في صحة إحرامه , فتمادى , ثم تبين له أنه كان أحرم. وكذا من زاد في الصلاة متعمداً أو ساهياً , ثم تبين له أنه الواجب , ومن صلَّى شاكَّاً في إتمام صلاته , ثم تبين له إنه أتم أو شك في طهارته فتمادى , ثم تبين أنه متطهر. في جميع ذلك قولان: الإجزاء وعدمه. فائدة: الحكمة في تقديم التكبير تنبيه للمصلي على معنى هذه الكلمة التي معناها أنه الموصوف بالجلال وكِبَر الشأن , وأن كل شيء دون جلاله وسلطانه حقير , وأنه جل وتقدس عن شبه المخلوقين والعابثين , ولِيَشغل المُصلِّي فهمه وخاطره بمقتضى هذه اللفظة , ويستحقر أن يذكر معه غيره أو يحدث نفسه بسواه جلَّ اسمه. ثامنها: قوله: والقراءة بالحمد لله رب العالمين تمسك به مالك وأصحابه في ترك الذكر بين التكبير والقراءة , لأنه لو تخلل بينهما ذكر لَم يكن الاستفتاح بـ (الحمد لله رب العالمين) , وقد تقدم ما فيه في الوجه الثالث. تاسعها: قولها: بالحمد استدل به أصحاب مالك وغيرهم على ترك التسمية في ابتداء الفاتحة , وأنها ليست منها , ونقله القرطبي في شرحه عن الجمهور. وتأوله الشافعي والأكثرون القائلون بأنها من الفاتحة , كما نقله عنهم النووي في " شرح مسلم ": على أنَّ المراد يستفتح القراءة بسورة الحمد , لا بسورة أخرى , وقد قامت أدلة على أنَّ البسملة منها , وقد صنَّف في ذلك وفي الجهر بها أبو شامة المقدسي قدس الله روحه مجلدةً ضخمةً. فأفاد فيها وأجاد , وأغنى عن الخوض فيها. وقد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = صنَّف قبله في ذلك سليم الرازي , والخطيب , حتى ابن عبدالبر من المالكية. وأجاب بعض المخالفين عن تأويل الشافعي وغيره: بأن لفظ الحديث. إن أُجري مجرى الحكاية اقتضى البداءة به بعينه فلا يكون غيره قبله , لأنَّ الغير حينئذ يكون هو المفتتح به , وإن جعل اسماً فالفاتحة لا تسمى سورتها مجموع الحمد الله رب العالمين , بل بسورة الحمد. فلو كان لفظ الرواية كان يفتتح بالحمد لقوي تأويل الشافعي وغيره , فإنه يدل حينئذ على الافتتاح بالسورة التي البسملة بعضها عندهم , قاله الشيخ تقي الدين. وقوله: لا تسمى بهذا المجموع غلطٌ. ففي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله رب العالمين: أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني. وفيها أيضاً من حديث أبي سعيد بن المعلى: الحمد لله رب العالمين , وهي السبع المثاني الذي أوتيت والقرآن العظيم. وهذا ظاهرٌ , ونصَّ في أنَّ الفاتحة تسمى بهذا المجموع الذي هو: الحمد لله رب العالمين , وبالله التوفيق. وأجاب بعض المتأخرين من المخالفين؛ عن التأويل المذكور: بأن هذا الاحتجاج إنما كان يحتمل لو كانت الرواية بخفض الدال. وأما على الضم فهو على الحكاية كما تقدم , أعني حكاية لفظ - صلى الله عليه وسلم -. وكأنها قالت: كان يبتدئ الصلاة بهذا اللفظ. فائدة: تتعلق بإثبات البسملة في الفاتحة. روى الروياني في بحره عن أبي سهل الأبيوردي , أنَّ خطيباً ببخارى من العلماء الزهاد رأى خبراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنَّ مَن قرأ قل هو الله أحد ألف مرة رفع الله عنه وجع السن فلا يجع أبداً فوجع سنه , فقرأها ألفاً , فلم يزل الوجع. وزاد. فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فسأله عن وجع السنِّ وعما يفعل؟ فقال: رأيت خبراً عنك يارسول الله! كذا , وفعلت كذا , فلم يسكن وجعي , فقال - صلى الله عليه وسلم -: لأنك قرأتها بلا تسمية , فاقرأ بها بالتسمية , فقرأها بها فزال وجع سنه , ولَم يعد. قال هذا الخطيب: فاعتقدت مذهب الشافعي في هذه المسألة. فلا أصلي إلاَّ بها. وروى بعض العلماء عن بعض العارفين , وقد قيل له: بماذا ترى ظهر اسم الإمام الشافعي وغلب ذكره؟ فقال: أرى ذلك بإظهار اسم الله في البسملة لكل صلاة. عاشرها: قولها: (وكان إذا ركع لَم يشخص رأسه) هو بضم الياء , وماضية أشخص , أي: لَم يرفع رأسه. ومادة الإشخاص تدل على الارتفاع , ومنه أشخص بصره إذا رفعه إلي العلو: ومنه الشخص لارتفاعه للأبصار. ومنه شَخَصَ المسافر إذا خرج من منزله إلى غيره , والأصل شَخَصَ الرجل غير متعد , فلما دخلت عليه همزة النقل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تعدى إلى مفعول واحد , ويقال للرجل إذا ورد عليه أمرُ أقلقه: شخص. كأنه ارتفع عن الأرض لقلقه الحادي عشر: قولها: (ولَم يُصوبه) هو بضم الياء وفتح الصاد وكسر الواو المشددة، أي: لَم ينكسه , ومنه الصيب للمطر , يقال: صاب يصوب إذا نزل، ومَن أطلق الصيب على الغيم، فهو من المجاز لأنه سبب الصيب الذي هو المطر. الثاني عشر: قولها: (ولكن بين ذلك) أي: بين الارتفاع والتنكيس. فأن قلت: الأصل في " بين " أن تضاف إلى شيئين فصاعداً كقولك: المال بين زيد وعمرو، وبين الزيدين ونحو ذلك , فما بالها جاءت مضافة إلى مفرد وهو ذالك؟ فالجواب: أنه لَمَّا كانت الإشارة بـ ذلك إلى ما تقدم من الإشخاص والتصويب المفهومين من فعليهما ساغ فيها ذلك. ومنه قوله تعالى: (لا فارضُ ولا بكر عوان بين ذلك). وهذا منها إشارة إلى المسنون في الركوع , وهو الاعتدال باستواء الظهر والعنق. الثالث عشر: قولها: (وكان إذا رفع رأسه من الركوع لَم يسجد حتى يستوي قائماً). فيه دليل على الرفع من الركوع والاعتدال فيه بأن يستوي قائماً. وقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال. أحدها: يجب. وثانيها: يستحب. وثالثها: يجب فيما هو إلى الاعتدال أقرب , ويستحب ما زاد عليه , ولكن الرفع من الركوع من الأفعال التي ثبت استمرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها , ورواية ابن القاسم: أنه إذا أخلَّ به. وجبت الإعادة , ولَم تجب في رواية ابن زياد. فإذا قيل برواية ابن القاسم: فهل يجب الاعتدال أم لا؟ فيه الأقوال السالفة. الأول: لابن القاسم. والثاني: لأشهب. والثالث: للقاضي عبدالوهاب. وحيث قالوا بالوجوب فتجب الطمأنينة عندهم , وقيل: لا. ومن الفوائد الغريبة: أنَّ منصوراً التميمي من قدماء الشافعية، أخذ عن الربيع. ذَكَرَ في كتاب المسافر عن نصِّ الشافعي أنه يكفي الاعتدال في الرفع من الركوع وفي الجلوس بين السجدتين. وهذا غريب عن الشافعي. وفي " التتمة " وجهٌ أنَّ الاعتدال لا يجب في النافلة , وأجراه القفال فيما رأيته من " فتاويه " في الجلوس بين السجدتين. وبناه على أنَّ صلاة التطوع هل تجوز بالإيماء مع القدرة؟. وصحَّح الجواز , وأما غيره فصحَّح عدم الجواز. الرابع عشر: قولها: (وكان إذا رفع رأسه من السجود لَم يسجد حتى يتسوي قاعداً) فيه دليل على الرفع من السجود والاستواء في الجلوس بين السجدتين , أما الرفع فلا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بد منه لعدم تصور عدد السجدتين بغيره. بخلاف الركوع فإنه غير متعدد فلهذا أجرى الخلاف في وجوب الرفع منه. قال الشيح تقي الدين: وأجرى بعض الفضلاء من المتأخرين الخلاف الذي في الرفع من الركوع في الرفع من السجدة الأولى , وقال: الرفع منها والاعتدال والطمأنينة: كالرفع من الركوع , وهو سهو لعدم تصوره في الرفع من السجود لتعدده شرعاً بخلاف الركوع , فأنه غير متعدد , وهو متميز عن السجود بخلاف السجدة الثانية , فإنها غير متميزة عن الأولى , فافتقرت إلى التمييز بالرفع الفاصل بينهما , وكأن الذي نسب إليه الشيخ هذا السهو - هو ابن الحاجب - فإنه قال: والرفع منه والاعتدال فيه: كالركوع. وبعض المالكية شرع يؤوله , ويقوله: لا سهو فيه. وليس بظاهر. ومحل الكلام في أقل السجود وأكمله كتب الفقه , وقد بسطناه فيها , فلا نطول بإيرادها منه. ونص صاحب " الجواهر " من المالكية: على أنه يستحب كشف الكعبين , واستحب متأخروا المالكية أن يسجد بين كفيه , ولَم يحد مالك في ذلك حدّاً. ثم إذا سجد الثانيه قام مكبراً كسائر تكبيرات الانتقالات. ومذهب مالك. أنه يستثنى من ذلك تكبيرة القيام من الجلوس , فإنه لا يكبر حتى يستقبل قائماً , وفرَّقوا بأن الشروع في تكبير الانتقال إنما هو في الأركان , فلم ينتقل من ركن إلي ركن فيكبر فيه. قال القاضي عياض: هو مذهب عمر بن عبدالعزيز. قال: وعامة الفقهاء على خلافه. قال مالك: وإن كبرها في نهوضه فهو في سعة. الخامس عشر: قولها: (وكان في كل ركعتين التحية) تريد التشهد كله , وهو من باب إطلاق لفظ البعض على الكل , وهذا الموضع مما فارق فيه الاسم المسمى فإن التحية: الملك أو البقاء أو غيرهما , وذلك لا يتصور , قوله: بل يقال: اسمه الدال عليه. بخلاف قولنا: أكلت الخبز وشربت الماء. فإن الاسم فيه أريد به المسمى. وأما لفظ الاسم: فقد قيل فيها: إن الاسم هو المسمى , وفيه نظرٌ دقيق , كما قال الشيخ تقي الدين: وهذا بالنسبة إلينا , وأما بالنسبة إلى الله تعالى فلا يقال الاسم غير المسمى , ولا هو هو , بل يجب إطلاقه كما أطلقه الله تعالى من غير خوض وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف البطليموسي رحمه الله. ولَم تعيِّن رضي الله عنها ما كان يتشهد به في هذا الحديث. وقد ورد في ذلك أحاديث عدة جمعتهم في تخريجي لأحاديث الرافعي. واختار الشافعي منها: حديث ابن عباس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الذي أخرجه مسلم , واختار أبو حنيفة وأحمد: تشهد ابن مسعود. وإختار مالك: تشهد عمر. السادس عشر: قولها: (وكان يفرش رجله اليسرى , وينصب رجله اليمنى). يفرُش. بضم الراء أشهر من كسرها. واستدل أصحاب أبي حنيفة: بهذا الحديث على اختيار هذه الهيئة في الجلوس من الرِّجل , وهو مذهب سفيان. ومالك: اختار التورك. وأحمد: يتورك في آخر الرباعي. والشافعي: فصل بين الأول والأخير , فيفترش في الأول , كما يجلس بين السجدتين وجلسة الاستراحة , ويتورك في الأخير. واحتج بحديث أبي حميد الساعدي في صحيح البخاري: أنه لَمَّا وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى , ونصب اليمنى , فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى , ونصب الأخرى , وقعد على مقعدته " وحمل حديث عائشه هذا على غير الأخير , جمعاً بينه وبين حديث أبي حميد , ورجح من حيث المعنى بأمرين: أحدهما: أنَّ المخالفة في هيئة الجلوس قد يكون سبباً للتذكير عند الشك في كونه الأول أو الأخير. والثاني: أنَّ الافتراش هيئة استيفاز فناسب الجلسات الأُوَل. والتورك هيئة اطمئنان فناسب الأخير. كيف وهو مطابق للنقل في حديث أبي حميد السالف فكان أولى. ومذهب الشافعي: جلوس المرأة كجلوس الرجل. وذهب بعض السلف. إلى أنَّ سنة المرأة التربع في الجلسات سواء فيه الفريضة والنافلة , وخصَّه بعضهم بالنافلة , حكاه عنهما القاضي. ومذهب الجمهور: أنه لا فرق. وقد وردت هيئة التورك في بعض الأحاديث , لكن ليست لها قوة في الصحة: كأحاديث الافتراش والتورك. واختلف قول الشافعي - رضي الله عنه - في الأفضل في جلوس العاجز عن القيام في الفريضة وجلوس المتنفل الذي له أجر نصف القاعد على أقوال , ذكرتها في شرح المناهج وغيره أصحها: الافتراش , لأنه غالب جلسات الصلاة الأربع. السابع عشر: قولها: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) هو بضم العين وإسكان القاف. يروى عقب بفتح العين وكسر القاف , وحُكي ضم العين فيه وهو ضعيف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفسره أبو عبيدة وغيره بالإقعاء المنهي عنه. وهو أن يلصق إليته بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض. كذا حكاه النووي في (شرحه لمسلم) عن أبي عبيدة وغيره , وحكاه في " شرح المهذب " عن أبي عبيد: أنه حكاه عن شيخه أبي عبيدة. وقال الشيخ تقي الدين: فسر بأن يفرش قدميه ويجلس بإليته على عقبيه , وقد سمى ذلك بالأقعاء أيضاً. قلت: فأمّا الإقعاء الذي هو سنة الثابت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس فهو: أن ينصب أصابع قدميه ويجلس بوركيه على عقبيه , فليس من هذين التفسيرين في شيء وقال صاحب " التبصرة ": ولا يجوز أن يقعي في الجلوس بين السجدتين إقعاء الكلب. قال: هو أن يجلس على قدميه وهما منصوبتان وقال البيهقي في سننه: يحتمل أن يكون حديث عائشة هذا وارداً في الجلوس في التشهد الأخير فلا منافاة. وقال القاضي عياض: ذهب جماعة من السلف إلى أنَّ المنهي عنه من الإقعاء هو الرجوع على صدور القدمين فيما بين السجدتين وتمس أليته بعقبيه. قلت: وهو ماصدره المحب الطبري في " أحكامه ". ثم قال: وقيل: هو أن يترك عقبيه غير مغسولتين في الوضوء , ولَم يذكر غير ذلك في تفسيره. الثامن عشر: قولها: (وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افترش السبع) هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود , والسنة ان يرفعهما , ويكون الموضوع على الأرض كفيه , وإنما نهى عن ذلك لأنها صفة الكاسل والمتهاون بحاله , مع ما فيه من التشبه بالسباع والكلاب , كما نهى عن التشبه بهما في الأفعال. التاسع عشر: قولها: (وكان يختم الصلاة بالتسليم) معناه: يتحلّل منها بالتسليم ,كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السالف: وتحليلها التسليم. ولا شك أنَّ تحريمها التكبير , أو ما في معناه من التعظيم على قول أبي حنيفة , فكذلك تحليلها فتقتضي الوجوب فيه مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلّوا كما رأيتموني أصلّي " وبوجوبه , قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور سلفاً وخلفاً , وأن الصلاة لا تصحُّ إلاَّ به. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: هو سنة ولو تركه صحت صلاته. قال أبو حنيفة: لو فعل فعلاً منافياً للصلاة من حدث , أو غيره في آخرها صحت صلاته. واحتج: بأنه - صلى الله عليه وسلم - لَم يعلّمه الأعرابي حين علَّمه واجبات الصلاة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = واحتج الجمهور بفعله. وماذكرناه. قال القاضي: وعندنا مثل قول أبي حنيفة عن ابن القاسم غير أنها قولةٌ منكرةٌ غير جارية على أصولنا. واحتج له: بأنه - صلى الله عليه وسلم - علَّم ابن مسعود التشهد. وقال: إذا قضيت هذا فقد تمت صلاتك , فإن شئت فقم , وأن شئت فاقعد. والجواب: أنَّ هذا مُدرج في الحديث كما نبَّه الحفاظ. قال ابن العربي: وكان شيخنا فخر الدين ينشدنا في الدرس. ويرى الخروج من الصلاة بظرطة ... أين الضراط من السلام عليكم ومحل الخلاف في أقل السلام وأكمله , بسطناه في الفقه , فراجعه منه. وانفرد مالك من بين الأربعة فقال: المشروع تسليمة واحدة. وهو قول ضعيف وشذ بعض الظاهرية والمالكية: فأوجب الثانية , وهو رواية عن أحمد , وهو مخالف لإجماع من قبله. ولا يسلّم المأموم عند المالكيه: حتى يفرغ الإمام منها , ويضيف إليها المأموم اثنتين على المشهور عندهم: أولاهما: يرد بها على إمامه , والثانية: عن يساره إن كان عن يساره أحد. وقيل: يبدأ منها باليسار. وقيل: يتخير ولو كان مسبوقاً , ففي رده على الإمام ومَن على يساره روايتان عندهم. العشرون: في الحديث نقل أقواله وأفعاله وأحواله إلى الأمه كما فعلته عائشة رضي الله عنها الحادي والعشرون: فيه افتتاح الصلاة بالتكبير ووجوبه وتعيننه. وقد سلف واضحاً. الثاني والعشرون: فيه وجوب القراءة في الصلاة وأنه بالفاتحة. وفي الصحيحين من الحديث عبادة: لا صلاة لمن لَم يقرأ بفاتحة الكتاب. وفي رواية للدارقطني , وقال: إسنادها صحيح: لا تجزيء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب الثالث والعشرون: فيه تسمية السورة ببعضها. وكل سور القرآن في التسمية: كالفاتحة , ثم التسمية بالبعض قد يكون لعظم لفظة ومعناه. وقد يكون لشهرة قصته. وقد يكون لعظم المثوبة. وقد يكون لتفخم ذكر المنعوت في السورة. وقد يكون لغير ذلك على ما اقتضته التسمية. الرابع والعشرون: فيه تسوية الظهر في الركوع بحيث يستوي رأسه ومؤخره وقد مر , =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي الطبراني من حديث أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ركع لو صُب على ظهره ماءٌ لاستقرَّ. الخامس والعشرون: فيه وجوب الاعتدال إذا رفع رأسه من الركوع بحيث يستوي قائماً. السادس والعشرون: فيه وجوب الجلوس بين السجدتين. السابع والعشرون: فيه وجوب التشهد الأول والأخير , وهو مذهب أحمد وأصحاب الحديث وقال الشافعي: الأول سنّة , والثاني فرض وقال مالك , وأبو حنيفة والأكثرون: هما سنتان , لكن أوجب أبو حنيفة الجلوس بقدره. والأشهر عن مالك أنه يجب الجلوس بعد السلام فقط. دليل أحمد هذا الحديث مع حديث: صلّوا كما رأيتموني أصلي. ويقول ابن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّمنا التشهد كما يعلّمنا السورة من القرآن , وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلَّى أحدكم فليقل التحيات " والأمر للوجوب , لكنه قال في التشهد: إن تركه عمداً بطلت صلاته , وإن تركه سهواً أجزأته صلاته , ويسجد للسهو , لأنه - صلى الله عليه وسلم - تركه وجَبَرَه به. ونقيسه على واجب الحج في أنه إذا تركه جبر بدم. لكن الفرق بينهما أنَّ الأصل في الواجب أنه يتعين الإتيان به , ولا يجوز تركه ولا جبره. جُوّز في الحج لمشقة العبادة , ولمواساة الفقراء من أهل الحرم , ولدخول النيابة فيه للتخفيف , بخلاف الصلاة فإنها عبادة بدنيه لا مشقة فيها , ولا تدخلها النيابة , ولا تكفر بالمال , بل لا بد من الإتيان بها على كل حال ما دام العقل ثابتاً , حتى في مقابلة العدو وغيره. واحتج من أوجب الثاني: بأنه لَم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن غيره تركه عمداً ولا سهواً , فاقتضى وجوبه: كالركوع والسجود , بخلاف التشهد الأول مع أنَّ التشهد لَم يجر له ذكر فيما أعلم في حديث المسيء صلاته. فيجاب عنه: بأنه كان معلوماً عنده , ولهذا لَم يذكر له النية وقد أجمعنا على وجوبه , ولَم يذكر القعود للتشهد , وقد وافق أبو حنيفة على وجوبه , لَم يذكر السلام. وقد وافق مالك والجمهور على وجوبه. واعلم ان المحب الطبري نقل في " أحكامه ": عن الإمام أحمد أنه إنْ لَم يتشهد وسلَّم أجزأه , كذا أطلق النقل عنه , وقد عرفتَ تفصيل مذهبه فيه. الثامن والعشرون: فيه شرعية الافتراش في جلسات الصلاة , وقد تقدم مستوفى , وكيف قَعَدَ جَازَ , وانما الخلاف في الأفضل التاسع والعشرون: فيه شرعية مخالفة الشيطان في الجلوس في الصلاة وغيرها , ولا شكَّ أنَّ كل حالة من قول أو فعل أو حركة أو سكون أو خطرة أو نظرة أو فكرة مخالفة للشرع فهي شيطانية , لكن بعضها دخل في المجاوزة التي امتن الله بها , وبعضها لَم يدخل. الثلاثون: فيه مخالفة الحيوان كالكلب وغيره في حالة افتراش ذراعيه وغيرها خصوصاً في الصلاة. ولا شك أنَّ الله تعالى جبل الحيوانات على أحوال محمودةٍ ومذمومةٍ فبيَّن بالشرع محموداً منها ومذموماً للاكتساب وللاجتناب. وقد صنَّف بعض العلماء كتاباً في " تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب " , ولنا به سماع متصل. وكل كذلك كرماً منه سبحانه لتفضيل النوع الإنساني ليقتدي أو يرتدي. الحادي والثلاثون: فيه شرعية السلام آخر الصلاة , وقد تقدم واضحاً. الثاني والثلاثون: في دليل على أنَّ السلام ركنٌ من أركان الصلاة. لقولها: وكان يختم الصلاة بالتسليم , وليس ذلك بقوي. وادَّعى الرافعي الاتفاق على ركنيته , وليس كما ادعى , فقد حكى القاضي مجلِّي: أنه شرط. الثالث والثلاثون: فيه حُجّة لمن نكَّر السلام , وهو ماصحَّحه الرافعي , وخالف النووي , فصحح المنع , وعلَّله بأنه لَم ينقل لكنه صحَّح إجزاء: عليكم السلام , ولَم ينقل فيما أعلم. فرع: لَم أره منقولاً لو قال: سِلْم عليكم بكسر السين واسكان اللام , فظاهر كلامهم المنع , لكنها لغة في السلام , حكاها الحطابي. الرابع والثلاثون: فيه استحباب مجافاة المرفقين عن الجنبين في السجود , لأنه إذا نهى عنه افتراش ذراعيه لزم منه رفعهما , فلزم منه مجافاتهما , كما استنبطه بعضهم , ووجه تلازمها غير ظاهر.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون 88 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصّلاة , وإذا كبّر للرّكوع , وإذا رفع رأسه من

الرّكوع رفعهما كذلك , وقال: سمع الله لمن حمده , ربّنا ولك الحمد. وكان لا يفعل ذلك في السّجود. (¬1) قوله: (حذو منكبيه) بفتح المهملة وإسكان الذّال المعجمة. أي: مقابلهما، والمنكب مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا أخذ الشّافعيّ والجمهور. وهذا القول الأول. القول الثاني: ذهب الحنفيّة إلى حديث مالك بن الحويرث عند مسلم، ففي لفظٍ له عنه " حتّى يحاذي بهما فروع أذنيه " وعند أبي داود من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر بلفظ " حتّى حاذتا أذنيه ". ورجح الأوّل لكون إسناده أصحّ القول الثالث: روى أبو ثورٍ عن الشّافعيّ , أنّه جمع بينهما , فقال: يحاذي بظهر كفّيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين. ويؤيّده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ: حتّى كانتا حيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه ". وبهذا قال المتأخّرون من المالكيّة فيما حكاه ابن شاسٍ في الجواهر. لكن روى مالك عن نافعٍ عن ابن عمر , أنّه كان يرفع يديه حذو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (702 ,703 , 705) ومسلم (390) من طرق عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به. وأخرجه البخاري (706) من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر نحوه. وفيه زيادة الرفع بعد التشهد الأول. كما سيذكر في الشرح إن شاء الله.

منكبيه في الافتتاح، وفي غيره دون ذلك، أخرجه أبو داود. ويعارضه قول ابن جريجٍ: قلت لنافعٍ: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهنّ؟ قال: لا. ذكره أبو داود أيضاً وقال: لَم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالكٍ فيما أعلم. فائدةٌ: لَم يرد ما يدلّ على التّفرقة في الرّفع بين الرّجل والمرأة. وعن الحنفيّة: يرفع الرّجل إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين؛ لأنّه أستر لها. والله أعلم قوله: (إذا افتتح الصّلاة) في رواية شعيب عن الزهري عند البخاري " يرفع يديه حين يكبّر " فهذا دليل المقارنة. وقد ورد تقديم الرّفع على التّكبير وعكسه. أخرجهما مسلم، ففي حديث الباب عنده من رواية ابن جريجٍ وغيره عن ابن شهاب بلفظ " رفع يديه ثمّ كبّر " وفي حديث مالك بن الحويرث عنده " كبّر ثمّ رفع يديه ". وفي المقارنة وتقديم الرّفع على التّكبير خلاف بين العلماء، والمرجّح عند أصحابنا المقارنة، ولَم أر مَن قال بتقديم التّكبير على الرّفع. ويرجّح الأوّل حديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ " رفع يديه مع التّكبير " وقضيّة المعيّة أنّه ينتهي بانتهائه، وهو الذي صحّحه النّوويّ في " شرح المهذّب " ونقله عن نصّ الشّافعيّ، وهو المرجّح عند المالكيّة. وصحّح في الرّوضة - تبعاً لأصلها - أنّه لا حدّ لانتهائه. وقال صاحب الهداية من الحنفيّة: الأصحّ يرفع ثمّ يكبّر؛ لأنّ

الرّفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتّكبير إثبات ذلك له، والنّفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشّهادة. وهذا مبنيّ على أنّ الحكمة في الرّفع ما ذكر. وقد قال فريق من العلماء: الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصمّ ويسمعه الأعمى. وقد ذُكرت في ذلك مناسباتٌ أُخَر. فقيل: معناه الإشارة إلى طرح الدّنيا والإقبال بكليّته على العبادة. وقيل: إلى الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله: الله أكبر. وقيل: إلى استعظام ما دخل فيه. وقيل: إشارة إلى تمام القيام. وقيل: إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود. وقيل: ليستقبل بجميع بدنه، قال القرطبيّ: هذا أنسبها. وتُعقِّبَ. وقال الرّبيع: قلت للشّافعيّ: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله , واتّباع سنّة نبيّه. ونقل ابن عبد البرّ عن ابن عمر , أنّه قال: رفع اليدين من زينة الصّلاة. وعن عقبة بن عامر قال: بكل رفعٍ عشر حسنات، بكل إصبعٍ حسنة. قال النّوويّ في شرح مسلم: أجمعت الأمّة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ثمّ قال بعد أسطر: أجمعوا على أنّه لا يجب شيء من الرّفع، إلاَّ أنّه حكي وجوبه عند تكبيرة الإحرام عن

داود، وبه قال أحمد بن سيّار من أصحابنا. انتهى. واعترض عليه بأنّه تناقضٌ، وليس كما قال المعترض، فلعله أراد إجماع من قبل المذكورين , أو لَم يثبت عنده عنهما , أو لأنّ الاستحباب لا ينافي الوجوب. وبالاعتذار الأوّل يندفع اعتراض من أورد عليه أنّ مالكاً قال في روايته عنه: إنّه لا يستحبّ، نقله صاحب التّبصرة منهم، وحكاه الباجيّ عن كثيرٍ من متقدّميهم. وأسلم العبارات قول ابن المنذر: لَم يختلفوا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصّلاة. وقول ابن عبد البرّ: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصّلاة. وممَن قال بالوجوب أيضاً الأوزاعيّ والحميديّ - شيخ البخاريّ - وابن خزيمة من أصحابنا. نقله عنه الحاكم في ترجمة محمّد بن عليّ العلويّ، وحكاه القاضي حسين عن الإمام أحمد. وقال ابن عبد البرّ: كلّ من نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصّلاة بتركه , إلاَّ في روايةٍ عن الأوزاعيّ والحميديّ. قلت: ونقل بعض الحنفيّة عن أبي حنيفة يأثم تاركه. وأمّا قول النّوويّ في شرح المهذّب: أجمعوا على استحبابه. ونقله ابن المنذر , ونقل العبدريّ عن الزّيديّة. أنّه لا يرفع , ولا يعتدّ بخلافهم. ونقل القفّال عن أحمد بن سيّار أنّه أوجبه، وإذا لَم يرفع لَم تصحّ صلاته، وهو مردودٌ بإجماع من قبله.

وفي نقل الإجماع نظرٌ. فقد نقل القول بالوجوب عن بعض من تقدّمه , ونقله القفّال في فتاويه عن أحمد بن سيّار الذي مضى , ونقله القرطبيّ في أوائل تفسيره عن بعض المالكيّة , وهو مقتضى قول ابن خزيمة أنّه ركنٌ. واحتجّ ابن حزمٍ: بمواظبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك , وقد قال: صلّوا كما رأيتموني أصلي. وسيأتي ما يردّ عليه في ذلك. قوله: (وإذا كبّر للرّكوع) وللبخاري " حين يكبر للركوع " أي: عند ابتداء الرّكوع، وهو مقتضى رواية مالك بن الحويرث في البخاري حيث قال: وإذا أراد أن يركع رفع يديه. ولهما من حديث أبي هريرة " ثمّ يكبّر حين يركع ". قوله: (وإذا رفع رأسه من الرّكوع رفعهما كذلك) أي: إذا أراد أن يرفع. ويؤيّده رواية أبي داود من طريق الزّبيديّ عن الزّهريّ بلفظ " ثمّ إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتّى يكونا حذو منكبيه " , ومقتضاه أنّه يبتدئ رفع يديه عند ابتداء القيام من الرّكوع. وأمّا رواية ابن عيينة عن الزّهريّ التي أخرجها عنه أحمد , وأخرجها عن أحمد أبو داود بلفظ " وبعد ما يرفع رأسه من الرّكوع " فمعناه بعد ما يشرع في الرّفع لتتّفق الرّوايات. وقدّ صنّف البخاريّ في هذه المسألة جزءاً منفرداً، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال , أنّ الصّحابة كانوا يفعلون ذلك. قال البخاريّ: ولَم يستثنِ الحسنُ أحداً.

وقال ابن عبد البرّ: كلّ من روي عنه ترك الرّفع في الرّكوع والرّفع منه , روي عنه فعله إلاَّ ابن مسعود. وقال محمّد بن نصر المروزيّ: أجمع علماء الأمصار على مشروعيّة ذلك إلاَّ أهل الكوفة. وقال ابن عبد البرّ: لَم يرو أحدٌ عن مالك ترك الرّفع فيهما إلاَّ ابن القاسم. والذي نأخذ به الرّفع على حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهبٍ وغيره عن مالك، ولَم يحك التّرمذيّ عن مالكٍ غيره. ونقل الخطّابيّ وتبعه القرطبيّ في " المفهم " أنّه آخر قولي مالك وأصحّهما، ولَم أر للمالكيّة دليلاً على تركه ولا متمسّكاً إلاَّ بقول ابن القاسم. وأمّا الحنفيّة. فعوّلوا على رواية مجاهدٍ , أنّه صلَّى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك. وأجيبوا: بالطّعن في إسناده؛ لأنّ أبا بكر بن عيّاش راويه ساء حفظه بآخره، وعلى تقدير صحّته. فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه , ورواية نافعٍ عند البخاري، والعدد الكثير أولى من واحد، لاسيّما وهم مثبتون وهو نافٍ. مع أنّ الجمع بين الرّوايتين ممكنٌ , وهو أنّه لَم يكن يراه واجباً ففعله تارةً وتركه أخرى. وممّا يدلّ على ضعفه ما رواه البخاريّ في " جزء رفع اليدين " عن مالكٍ , أنّ ابن عمر كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع , وإذا

رفع رماه بالحصى. (¬1) واحتجّوا بحديث ابن مسعود , أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه عند الافتتاح , ثمّ لا يعود. أخرجه أبو داود. وردّه الشّافعيّ بأنّه لَم يثبت، قال: ولو ثبت لكان المثبت مقدّماً على النّافي. وقد صحّحه بعض أهل الحديث؛ لكنّه استدل به على عدم الوجوب، والطّحاويّ إنّما نصب الخلاف مع من يقول بوجوبه كالأوزاعيّ وبعض أهل الظّاهر. ونقل البخاريّ عقب حديث ابن عمر في هذا الباب عن شيخه عليّ بن المدينيّ قال: حقٌّ على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الرّكوع والرّفع منه لحديث ابن عمر هذا، وهذا في رواية ابن عساكر (¬2). وقد ذكره البخاريّ في " جزء رفع اليدين " , وزاد: وكان عليٌّ أعلم أهل زمانه. ومقابل هذا قول بعض الحنفيّة أنّه يبطل الصّلاة. ونسب بعض متأخّري المغاربة فاعله إلى البدعة، ولهذا مال بعض محقّقيهم كما حكاه ابن دقيق العيد إلى تركه درءاً لهذه المفسدة. وقد قال البخاريّ في " جزء رفع اليدين ": من زعم أنّه بدعةٌ فقد ¬

_ (¬1) جزء رفع اليدين (14) حدثنا الحميدي , أنبأنا الوليد بن مسلم , قال: سمعت زيد بن واقد يحدث عن نافع , أنَّ ابن عمر كان .. فذكره " هكذا فيه , ولَم أر ما ذكره الشارح. (¬2) هو علي بن الحسن , سبق ترجمته (1/ 114)

طعن في الصّحابة فإنّه لَم يثبت عن أحدٍ منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصحّ من أسانيد الرّفع. انتهى. وذكر البخاريّ أيضاً , أنّه رواه سبعة عشر رجلاً من الصّحابة، وذكر الحاكم وأبو القاسم بن منده ممّن رواه العشرة المبشّرة. وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ , أنّه تتبّع من رواه من الصّحابة فبلغوا خمسين رجلاً. قوله: (وكان لا يفعل ذلك في السّجود) أي: لا في الهويّ إليه. ولا في الرّفع منه كما في رواية شعيب في البخاري حيث قال " حين يسجد ولا حين يرفع رأسه " وهذا يشمل ما إذا نهض من السّجود إلى الثّانية والرّابعة والتّشهّدين، ويشمل ما إذا قام إلى الثّالثة أيضاً , لكن بدون تشهّدٍ لكونه غير واجبٍ. وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة , لَم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عند القيام منها إلى الثّانية والرّابعة. لكن قد روى يحيى القطّان عن مالكٍ عن نافعٍ عن ابن عمر مرفوعاً هذا الحديث. وفيه " ولا يرفع بعد ذلك " أخرجه الدّارقطنيّ في " الغرائب " بإسنادٍ حسنٍ. وظاهره يشمل النّفي عمّا عدا المواطن الثّلاثة. تكميلٌ: خرج البخاري في " صحيحه " حدّثنا عياش ثنا عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، أنَّ ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبَّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده،

رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله " إذا قام من الرّكعتين " أي: بعد التّشهّد، فيخرج ما إذا تركه ونهض قائماً من السّجود لعموم قوله في الرّواية التي قبله " ولا حين يرفع رأسه من السّجود. ويحتمل: حمل النّفي هناك على حالة رفع الرّأس من السّجود لا على ما بعد ذلك حين يستوي قائماً. وقد توبع نافعٌ على ذلك عن ابن عمر، وهو فيما رواه أبو داود وصحّحه البخاريّ في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثارٍ عن ابن عمر قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الرّكعتين كبّر ورفع يديه. وله شواهد منها حديث أبي حميدٍ السّاعديّ , وحديث عليّ بن أبي طالب. أخرجهما أبو داود. وصحّحهما ابن خزيمة وابن حبّان. وقال البخاريّ في الجزء المذكور: ما زاده ابن عمر وعليّ وأبو حميد في عشرةٍ من الصّحابة من الرّفع عند القيام من الرّكعتين صحيحٌ؛ لأنّهم لَم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها. وإنّما زاد بعضهم على بعض، والزّيادة مقبولة من أهل العلم. وقال ابن بطّال: هذه زيادة يجب قبولها لمن يقول بالرّفع. وقال الخطّابيّ: لَم يقل به الشّافعيّ، وهو لازمٌ على أصله في قبول الزّيادة. وقال ابن خزيمة: هو سنّةٌ، وإن لَم يذكره الشّافعيّ فالإسناد

صحيح، وقد قال: قولوا بالسّنّة , ودعوا قولي (¬1). وأغرب الشّيخ أبو حامد في تعليقه , فنقل الإجماع على أنّه لا يشرع الرّفع في غير المواطن الثّلاثة. وتعقّب: بصحّة ذلك عن ابن عمر وابن عبّاسٍ وطاوسٍ ونافع وعطاء كما أخرجه عبد الرّزّاق وغيره عنهم بأسانيد قويّةٍ. وقد قال به من الشّافعيّة ابن خزيمة وابن المنذر وأبو عليّ الطّبريّ والبيهقيّ والبغويّ , وحكاه ابن خويز منداد عن مالكٍ. وهو شاذّ. (¬2) وأصحّ ما وقفت عليه من الأحاديث في الرّفع في السّجود. ما رواه النّسائيّ من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث , أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتّى يحاذي بهما فروع أذنيه. وقد أخرج مسلم بهذا الإسناد طرفه الأخير (¬3) كما ذكرناه قبل هذا، ولَم ينفرد به سعيد فقد تابعه همّام عن قتادة عند أبي عوانة في " صحيحه ". وفي الباب عن جماعةٍ من الصّحابة لا يخلو شيءٌ منها عن مقال. وقد روى البخاريّ في " جزء رفع اليدين " في حديث عليٍّ المرفوع ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 288): قد أحسن ابن خزيمة في هذا قدّس الله روحه , وهذا هو اللائق به رحمه الله. (¬2) أي: حكاية القول عن مالك. (¬3) أي: قوله (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)

" ولا يرفع يديه في شيءٍ من صلاته وهو قاعد " وأشار إلى تضعيف ما ورد في ذلك. تنبيهٌ: روى الطّحاويّ حديث الباب في " مُشكله " من طريق نصر بن عليّ عن عبد الأعلى بلفظ " كان يرفع يديه في كل خفضٍ ورفعٍ وركوعٍ وسجودٍ وقيامٍ وقعودٍ وبين السّجدتين , ويذكر أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. وهذه رواية شاذّة، فقد رواه الإسماعيليّ عن جماعةٍ من مشايخه الحفّاظ عن نصر بن عليّ المذكور بلفظ عيّاش - شيخ البخاريّ -، وكذا رواه هو وأبو نعيمٍ من طريقٍ أخرى عن عبد الأعلى كذلك.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون 89 - عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعظمٍ: على الْجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين , والرّكبتين , وأطراف القدمين. (¬1) قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أُمرت أن أسجد) في رواية لهما " أُمرَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد " هو بضمّ الهمزة في جميع الرّوايات بالبناء لِمَا لَم يسمّ فاعله، والمراد به الله جلَّ جلالُه. قال البيضاويّ: عرف ذلك بالعرف، وذلك يقتضي الوجوب، قيل: وفيه نظر لأنّه ليس فيه صيغة أفعل. ولَمّا كان هذا السّياق يحتمل الخصوصيّة عقّبه البخاري بلفظٍ آخر دالٌّ على أنّه لعموم الأمّة، وهو من رواية شعبة عن عمرو بن دينار عن طاوس بلفظ: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرنا. وعُرف بهذا أنّ ابن عبّاسٍ تلقّاه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إمّا سماعاً منه وإمّا بلاغاً عنه. وقد أخرجه مسلم من حديث العبّاس بن عبد المطّلب بلفظ " إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب " الحديث. وهذا يرجّح أنّ النّون في أمرنا نون الجمع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (776 , 777 , 779 , 782 , 783) ومسلم (490) من طرق عبد الله بن طاوس وعمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس به.

والآراب بالمدّ جمع إرب - بكسر أوّله وإسكان ثانيه - وهو العضو. ويحتمل: أن يكون ابن عبّاسٍ تلقّاه عن أبيه - رضي الله عنه -. قوله: (أَعْظُم) وللبخاري " أعضاء ". قال ابن دقيق العيد: يسمّى كلّ واحد عظماً باعتبار الجملة وإن اشتمل كلّ واحد على عظام، ويجوز أن يكون من باب تسمية الجملة باسم بعضها. قوله: (الْجبهة) زاد في رواية ابن طاوسٍ عن أبيه عند الشيخين " وأشار بيده على أنفه " كأنّه ضمّن " أشار " معنى أمرّ بتشديد الرّاء فلذلك عدّاه بعلى دون إلى. ووقع في العمدة بلفظ " إلى " وهي في بعض النّسخ من رواية كريمة , وعند النّسائيّ من طريق سفيان بن عيينة عن ابن طاوسٍ فذكر هذا الحديث , وقال في آخره: قال ابن طاوسٍ: ووضع يده على جبهته وأمرّها على أنفه , وقال: هذا واحدٌ. فهذه رواية مفسّرة. قال القرطبيّ: هذا يدلّ على أنّ الجبهة الأصل في السّجود والأنف تبع. وقال ابن دقيق العيد: قيل معناه أنّهما جعلا كعضوٍ واحد وإلا لكانت الأعضاء ثمانية، قال: وفيه نظر لأنّه يلزم منه أن يكتفى بالسّجود على الأنف كما يكتفى بالسّجود على بعض الجبهة، وقد احتجّ بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسّجود على الأنف. قال: والحقّ أنّ مثل هذا لا يعارض التّصريح بذكر الجبهة وإن

أمكن أن يعتقد أنّهما كعضوٍ واحد، فذاك في التّسمية والعبارة لا في الحكم الذي دلَّ عليه الأمر، وأيضاً فإنّ الإشارة قد لا تعيّن المشار إليه فإنّها إنّما تتعلق بالجبهة لأجل العبادة، فإذا تقارب ما في الجبهة أمكن أن لا يعيّن المشار إليه يقيناً، وأمّا العبارة فإنّها معيّنة لِمَا وضعت له فتقديمه أولى. انتهى. وما ذكره من جواز الاقتصار على بعض الجبهة. قال به كثير من الشّافعيّة، وكأنّه أخذ من قول الشّافعيّ في " الأمّ " أنّ الاقتصار على بعض الجبهة يكره، وقد ألزمهم بعض الحنفيّة بما تقدّم. ونقل ابن المنذر إجماع الصّحابة على أنّه لا يجزئ السّجود على الأنف وحده. القول الأول: ذهب الجمهور. إلى أنّه يجزئ على الجبهة وحدها. القول الثاني: عن الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم , يجب أن يجمعهما. وهو قولٌ للشّافعيّ أيضاً. قوله: (واليدين) قال ابن دقيق العيد: المراد بهما الكفّان لئلا يدخل تحت المنهيّ عنه من افتراش السّبع والكلب. انتهى. ووقع بلفظ " الكفّين " في رواية حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار عند مسلم. قوله: (وأطراف القدمين) وللبخاري عن أبي حميد " فإذا سجد استقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ".

قال الزين بن المنير (¬1): المراد أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعان فيستقبل بظهور قدميه القبلة. قال أخوه (¬2): ومن ثَمَّ ندب ضمّ الأصابع في السّجود لأنّها لو تفرّجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة. قال ابن دقيق العيد: ظاهره يدلّ على وجوب السّجود على هذه الأعضاء. واحتجّ بعض الشّافعيّة على أنّ الواجب الجبهة دون غيرها بحديث المسيء صلاته حيث قال فيه " ويمكّن جبهته " قال: وهذا غايته أنّه مفهوم لقب، والمنطوق مقدّم عليه، وليس هو من باب تخصيص العموم. قال: وأضعف من هذا استدلالهم بحديث " سجد وجهي " فإنّه لا يلزم من إضافة السّجود إلى الوجه انحصار السّجود فيه، وأضعف منه قولهم إنّ مسمّى السّجود يحصل بوضع الجبهة , لأنّ هذا الحديث يدلّ على إثبات زيادة على المسمّى , وأضعف منه المعارضة بقياسٍ شبهيّ كأن يقال: أعضاء لا يجب كشفها فلا يجب وضعها. ¬

_ (¬1) علي بن محمد بن منصور الجذامي الاسكندرانى زين الدين المعروف بابن المنير المحدث الفقيه المالكى قاضى الاسكندرية توفي سنة 699. من تصانيفه " حواشى على شرح البخاري " لابن بطال المغربي. وشرح الجامع الصحيح للبخاري. والمتوارى على تراجم البخاري. هداية العارفين (1/ 714) لإسماعيل بن محمد الباباني البغدادي. (¬2) أي: أخو الزين بن المنير الذي تقدَّمت ترجمته. وهو أحمد بن محمد المعروف بابن المنير الاسكندرانى المالكى القاضى ناصر الدين أبو العباس. ولد سنة620 , وتوفي قتيلاً سنة 683. له تصانيف منها , مناسبات تراجم البخاري. هداية العارفين (1/ 99)

قال: وظاهر الحديث أنّه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء , لأنّ مسمّى السّجود يحصل بوضعها دون كشفها، أما الأحاديث الواردة بالاقتصار على الجبهة كحديث البراء: لَم يحنِ أحد منا ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض. (¬1) , فلا تعارض الحديث المنصوص فيه على الأعضاء السّبعة، بل الاقتصار على ذكر الجبهة , إمّا لكونها أشرف الأعضاء المذكورة , أو أشهرها في تحصيل هذا الرّكن، فليس فيه ما ينفي الزّيادة التي في غيره. وقال الكرمانيّ: إنّ العادة أنّ وضع الجبهة إنّما هو باستعانة الأعظم السّتّة غالباً. ولَم يُختلف في أنّ كشف الرّكبتين غير واجب لِمَا يحذر فيه من كشف العورة، وأمّا عدم وجوب كشف القدمين فلدليلٍ لطيف. وهو أنّ الشّارع وقّت المسح على الخفّ بمدّةٍ تقع فيها الصّلاة بالخفّ، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفّ المقتضي لنقض الطّهارة فتبطل الصّلاة. انتهى. وفيه نظرٌ. فللمخالف أن يقول: يخصّ لابس الخفّ لأجل الرّخصة. وأمّا كشف اليدين. فأخرج البخاري معلَّقاً (¬2) ووصله عبد الرّزّاق عن هشام بن حسّان عن الحسن , أنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم , ويسجد الرّجل منهم على قلنسوته ¬

_ (¬1) متفق عليه , وقد تقدَّم برقم (82) (¬2) في باب " السجود على الثوب في شدة الحر "

وعمامته. وهكذا رواه ابن أبي شيبة من طريق هشامٍ. تكميلٌ: زاد الشيخان في هذا الحديث " ولا نكفت الثياب والشعر " والكفت بمثنّاةٍ في آخره هو الضّمّ , وهو بمعنى الكفّ. والمراد أنّه لا يجمع ثيابه ولا شعره، وظاهره يقتضي أنّ النّهي عنه في حال الصّلاة، وإليه جنح الدّاوديّ، وترجم البخاري " باب لا يكفّ ثوبه في الصّلاة " وهي تؤيّد ذلك. وردّه عياض بأنّه خلاف ما عليه الجمهور، فإنّهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصّلاة أو قبل أن يدخل فيها. واتّفقوا على أنّه لا يفسد الصّلاة، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة. قيل: والحكمة في ذلك أنّه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض أشبه المتكبّر. وقيل: إنَّ الشّعر يسجد مع الرّأس إذا لَم يكفّ أو يلفّ. وجاء في حكمة النّهي عن ذلك: أنّ غرزة الشّعر يقعد فيها الشّيطان حالة الصّلاة. وفي سنن أبي داود بإسنادٍ جيّد , أنّ أبا رافع رأى الحسن بن عليّ يُصلِّي قد غرز ضفيرته في قفاه فحلَّها , وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذلك مقعد الشّيطان.

الحديث الواحد والأربعون

الحديث الواحد والأربعون 90 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصّلاة يكبّر حين يقوم , ثمّ يكبّر حين يركع , ثمّ يقول: سمع الله لمن حمده , حين يرفع صلبه من الرّكعة , ثمّ يقول وهو قائمٌ: ربّنا ولك الحمد , ثمّ يكبّر حين يهوي , ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه , ثمّ يكبّر حين يسجد , ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه , ثمّ يفعل ذلك في صلاته كلها , حتّى يقضيها , ويكبّر حين يقوم من الثّنتين بعد الجلوس. (¬1) قوله: (يكبّر حين يقوم) فيه التّكبير قائماً، وهو بالاتّفاق في حقّ القادر. قوله: (ثمّ يكبّر حين يركع) قال النّوويّ: فيه دليلٌ على مقارنة التّكبير للحركة وبسطه عليها، فيبدأ بالتّكبير حين يشرع في الانتقال إلى الرّكوع، ويمدّه حتّى يَصِلَ إلى حدّ الرّاكع. انتهى. ودلالة هذا اللفظ على البسط الذي ذكره غير ظاهرةٍ. قوله: (حين يرفع .. إلخ) فيه أنّ التّسميع ذكر النّهوض، وأنّ التّحميد ذكر الاعتدال. وفيه دليلٌ على أنّ الإمام يجمع بينهما خلافاً لمالكٍ وأبي حنيفة كما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (752 , 756 , 771 , 772) ومسلم (392) من طريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي سلمة عن أبي هريرة. مطولاً ومختصراً وأخرجه البخاري (762) ومسلم (392) من طرق أخرى عن أبي هريرة نحوه.

حكاه الطحاوي. واستدلوا بحديث أبي هريرة في الصحيحين , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده , فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد. وفيه نظرٌ. لأنّه ليس فيه ما يدلّ على النّفي، بل فيه أنّ قول المأموم ربّنا لك الحمد يكون عقب قول الإمام سمع الله لمن حمده، والواقع في التّصوير ذلك , لأنّ الإمام يقول التّسميع في حال انتقاله والمأموم يقول التّحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الخبر. وهذا الموضع يقرب من مسألة التّأمين من أنّه لا يلزم من قوله " إذا قال ولا الضّالين , فقولوا: آمين " أنّ الإمام لا يؤمّن بعد قوله " ولا الضّالين "، وليس فيه أنّ الإمام يؤمّن كما أنّه ليس في هذا أنّه يقول ربّنا لك الحمد، لكنّهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة كما في التّأمين , وكما في حديث الباب أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين التّسميع والتّحميد. وأمّا ما احتجّوا به من حيث المعنى من أنّ معنى " سمع الله لمن حمده " طلب التّحميد فيناسب حال الإمام، وأمّا المأموم فتناسبه الإجابة بقوله ربّنا لك الحمد ويقوّيه حديث أبي موسى الأشعريّ عند مسلم وغيره ففيه: وإذا قال سمع الله لمن حمده , فقولوا: ربّنا ولك الحمد , يسمع الله لكم. فجوابه أن يقال: لا يدلّ ما ذكرتم على أنّ الإمام لا يقول ربّنا ولك

الحمد، إذ لا يمتنع أن يكون طالباً ومجيباً، وهو نظير ما تقدّم في مسألة التّأمين من أنّه لا يلزم من كون الإمام داعياً والمأموم مؤمّناً أن لا يكون الإمام مؤمّناً. ويقرب منه الجمع بين الحيعلة والحوقلة لسامع المؤذّن. وقضيّة ذلك أنّ الإمام يجمعهما وهو قول الشّافعيّ وأحمد وأبي يوسف ومحمّد والجمهور، والأحاديث الصّحيحة تشهد له. وزاد الشّافعيّ: أنّ المأموم يجمع بينهما أيضاً. لكن لَم يصحّ في ذلك شيء , وقد ورد في ذلك حديث عن أبي هريرة أيضاً أخرجه الدّارقطنيّ بلفظ: كنّا إذا صلَّينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: سمع الله لمن حمده، قال مَن وراءه: سمع الله لمن حمده. ولكن قال الدّارقطنيّ: المحفوظ في هذا " فليقل من وراءه ربّنا ولك الحمد ". ولَم يثبت عن ابن المنذر أنّه قال: إنّ الشّافعيّ انفرد بذلك , لأنّه قد نقل في الإشراف عن عطاء وابن سيرين وغيرهما القول بالجمع بينهما للمأموم. وأمّا المنفرِد فحكى الطّحاويّ وابن عبد البرّ الإجماع على أنّه يجمع بينهما، وجعله الطّحاويّ حجّةً لكون الإمام يجمع بينهما. للاتّفاق على اتّحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلاف عندهم في المنفرد. قوله: (ولك الحمد) كذا ثبت زيادة الواو في طرق كثيرة، وفي

بعضها كما في البخاري بحذفها. قال النّوويّ: المختار لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وقال ابن دقيق العيد: كأنّ إثبات الواو دالٌّ على معنى زائد، لأنّه يكون التّقدير مثلاً ربّنا استجب ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدّعاء ومعنى الخبر. انتهى وهذا بناء على أنّ الواو عاطفة، وقيل: هي زائدةٌ , وقيل: هي واو الحال. قاله ابن الأثير , وضعّف ما عداه. والأكثر رجّحوا ثبوتها. وقال الأثرم: سمعت أحمد يثبت الواو في " ربّنا ولك الحمد " ويقول: ثبت فيه عدّة أحاديث. قوله: (ثمّ يكبّر حين يهوي) يعني ساجداً و " يهوي " ضبطناه بفتح أوّله، أي يسقط. وفيه أنّ التّكبير ذكرُ الهويّ، فيبتدئ به من حين يشرع في الهويّ بعد الاعتدال إلى حين يتمكّن ساجداً. قوله: (ويكبّر حين يقوم من الثّنتين بعد الجلوس) أي: الرّكعتين الأوليين. والمعنى أنه يكبر إذا قام إلى الثالثة. وفيه أنّه يشرع في التّكبير من حين ابتداء القيام إلى الثّالثة بعد التّشهّد الأوّل، خلافاً لِمَن قال إنّه لا يكبّر حتّى يستوي قائماً. فأما رواية الطيالسي عن ابن أبي ذئب عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ " وكان يكبّر بين السّجدتين " فالمراد بها التّكبير للسّجدة الثّانية، وكأنّ بعض الرّواة ذكر ما لَم يذكر الآخر. قوله: (بعد الجلوس) أي: في التّشهّد الأوّل.

وهذا الحديث مفسّرٌ للأحاديث المجملة حيث قال فيها " كان يكبّر في كل خفضٍ ورفعٍ " هو عامٌّ في جميع الانتقالات في الصّلاة، لكن خصّ منه الرّفع من الرّكوع بالإجماع فإنّه شرع فيه التّحميد. وقد جاء بهذا اللفظ العامّ من حديث أبي هريرة في الصحيحين، ومن حديث أبي موسى عند أحمد والنّسائيّ، ومن حديث ابن مسعودٍ عند الدّارميّ والطّحاويّ، ومن حديث ابن عبّاسٍ عند البخاري، ومن حديث ابن عمر عند أحمد والنّسائيّ. ومن حديث عبد الله بن زيدٍ عند سعيد بن منصورٍ، ومن حديث وائل بن حجرٍ عند ابن حبّان، ومن حديث جابرٍ عند البزّار.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون 91 - عن مطرّف بن عبد الله , قال: صلَّيتُ أنا وعمران بن حصينٍ خلف عليّ بن أبي طالبٍ. فكان إذا سجد كبّر , وإذا رفع رأسه كبّر , وإذا نَهَض من الرّكعتين كبّر , فلمّا قضى الصّلاة أخذ بيدي عمران بن حصينٍ , وقال: قد ذكّرني هذا صلاةَ محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - , أو قال: صلَّى بنا صلاة محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (عن مطرِّف بن عبد الله) ابن الشخير من كبار التابعين , ولا صحبة له. قوله: (صليت خلف عليّ بن أبي طالبٍ أنا وعمران) استدلَّ به على أنّ موقف الاثنين يكون خلف الإمام. خلافاً لِمَن قال يجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. (¬2) وفيه نظرٌ. لأنّه ليس فيه أنّه لَم يكن معهما غيرهما. وفي رواية للبخاري " أنّ ذلك كان بالبصرة بعد وقعة الجمل " , وكذا رواه سعيد بن منصورٍ من رواية حميد بن هلالٍ عن عمران " بالبصرة ". ووقع لأحمد من طريق سعيد بن أبي عروبة عن غيلان بن جرير عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (753 , 792) ومسلم (393) من طريق غيلان بن جرير , والبخاري أيضاً (751) من طريق أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير كلاهما عن مطرف به. (¬2) تقدّم ذكر الخلاف في هذه المسألة. في حديث رقم (77)

مطرف " بالكوفة " وكذا لعبد الرّزّاق عن معمرٍ عن قتادة وغير واحدٍ عن مطرّفٍ. فيحتمل: أن يكون ذلك وقع منه بالبلدين، وقد ذكره في رواية أبي العلاء عن مطرف عند البخاري بصيغة العموم , وهنا بذكر السّجود والرّفع والنّهوض من الرّكعتين فقط , ففيه إشعارٌ بأنّ هذه المواضع الثّلاثة هي التي كان ترك التّكبير فيها حتّى تذكّرها عمران بصلاة عليٍّ. قوله: (وإذا نهض من الرّكعتين كبّر) ذهب أكثر العلماء إلى أنّ المُصلِّي يشرع في التّكبير أو غيره عند ابتداء الخفض أو الرّفع. إلاَّ أنّه اختلف عن مالك في القيام إلى الثّالثة من التّشهّد الأوّل. فروى في " الموطّأ " عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما , أنّهم كانوا يكبّرون في حال قيامهم، وروى ابن وهب عنه , أنّ التّكبير بعد الاستواء أولى، وفي المدوّنة: لا يكبّر حتّى يستوي قائماً. ووجّهه بعض أتباعه: بأنّ تكبير الافتتاح يقع بعد القيام فينبغي أن يكون هذا نظيره من حيث إنّ الصّلاة فرضت أوّلاً ركعتين , ثمّ زيدت الرّباعيّة فيكون افتتاح المزيد كافتتاح المزيد عليه. وكان ينبغي لصاحب هذا الكلام أن يستحبّ رفع اليدين حينئذٍ لتكمل المناسبة، ولا قائل منهم به (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 393) يعني من المالكية. ولا ريب أنَّ السنة في ذلك التكبير حين ينهض إلى الثالثة مع رفع اليدين كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر. والله أعلم.

قوله: (قد ذكّرني) بتشديد الكاف وفتح الرّاء. وفيه إشارةٌ إلى أنّ التّكبير الذي ذكره كان قد ترك، وقد روى أحمد والطّحاويّ بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي موسى الأشعريّ قال: ذكَّرَنا عليٌّ صلاةً كنّا نُصلِّيها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إمّا نسيناها , وإمّا تركناها عمداً. ولأحمد من وجهٍ آخر عن مطرّفٍ قال: قلنا - يعني لعمران بن حصينٍ - يا أبا نجيدٍ - هو بالنّون والجيم مصغّرٌ - مَن أوّل مَن ترك التّكبير؟ قال: عثمان بن عفّان حين كبُر وضعف صوته. وهذا يحتمل إرادة ترك الجهر. وروى الطّبرانيّ عن أبي هريرة , أنّ أوّل من ترك التّكبير معاوية. وروى أبو عبيدٍ , أنّ أوّل من تركه زيادٌ. وهذا لا ينافي الذي قبله , لأنّ زياداً تركه بترك معاوية، وكأنّ معاوية تركه بترك عثمان. وقد حمل ذلك جماعةٌ من أهل العلم على الإخفاء. ويرشّحه ما رواه البخاري عن سعيد بن الحارث قال: صلَّى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين , وقال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن حكى الطّحاويّ: أنّ قوماً كانوا يتركون التّكبير في الخفض دون الرّفع. قال: وكذلك كانت بنو أُميَّة تفعل، وروى ابن المنذر نحوه عن ابن عمر وعن بعض السّلف , أنّه كان لا يكبّر سوى تكبيرة الإحرام.

وفرّق بعضهم بين المنفرد وغيره، ووجّهه بأنّ التّكبير شرع للإيذان بحركة الإمام فلا يحتاج إليه المنفرد. لكن استقرّ الأمر على مشروعيّة التّكبير في الخفض والرّفع لكل مصلٍّ. القول الأول: الجمهور على ندبيّة ما عدا تكبيرة الإحرام. القول الثاني: عن أحمد وبعض أهل العلم بالظّاهر يجب كلّه (¬1). قال ناصر الدّين بن المنير: الحكمة في مشروعيّة التّكبير في الخفض والرّفع. أنّ المكلف أمر بالنّيّة أوّل الصّلاة مقرونةً بالتّكبير، وكان من حقّه أن يستصحب النّيّة إلى آخر الصّلاة، فأمر أن يجدّد العهد في أثنائها بالتّكبير الذي هو شعار النّيّة. (¬2) قوله: (أو قال) هو شكٌّ من أحد رواته، ويحتمل: أن يكون من حمّاد بن زيد. فقد رواه أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن غيلان عن مطرف بلفظ " صلَّى بنا هذا مثل صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولَم يشكّ. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 249): وهذا القول أظهر من حيث الدليل , لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حافظ عليه وأمر به , وأصل الأمر الوجوب , وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: صلّو كما رأيتموني أصلي ". وأمَّا ما روي عن عثمان ومعاوية من عدم إتمام التكبير فهو محمول على عدم الجهر بذلك. لا أنهما تركاه. إحساناً للظن بهما. وعلى التسليم أنَّ الترك وقع منهما. فالحجة مقدَّمة على رأيهما رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين. والله أعلم. (¬2) قال الشيخ ابن باز (2/ 350): ولو قيل: إن الحكمة في تكرار شرعية التكبير تنبيه المُصلِّي على أنَّ الله سبحانه أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم. فلا ينبغي التشاغل عن طاعته بشيء من الأشياء , بل ينبغي الإقبال عليها بالقلب , والقالب والخشوع فيها تعظيماً له سبحانه وطلباً لرضاه , لكان ذلك متجهاً. والله أعلم

وفي رواية قتادة عن مطرّفٍ قال عمران: ما صليت منذ حينٍ أو منذ كذا وكذا أشبه بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الصّلاة. قال ابن بطّالٍ: ترك النّكير على من ترك التّكبير يدلّ على أنّ السّلف لَم يتلقّوه على أنّه ركنٌ من الصّلاة. وأشار الطّحاويّ. إلى أنّ الإجماع استقرّ على أنّ من تركه فصلاته تامّةٌ. وفيه نظرٌ. لِمَا تقدّم عن أحمد، والخلاف في بطلان الصّلاة بتركه ثابتٌ في مذهب مالكٍ إلاَّ أن يريد إجماعاً سابقاً.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون 92 - عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - , قال: رمقْتُ (¬1) الصّلاة مع محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فوجدت قيامه , فركعته فاعتداله بعد ركوعه , فسجدته , فجلسته بين السّجدتين , فسجدته فجلسته ما بين التّسليم والانصراف , قريباً من السّواء. (¬2) وفي رواية البخاريّ: ما خلا القيام والقعود قريباً من السّواء. (¬3) قوله: (فوجدت قيامه) كذا لمسلم , وحكى ابن دقيق العيد عن بعض العلماء , أنّه نسب هذه الرّواية إلى الوهم ثمّ استبعده , لأنّ توهيم الرّاوي الثّقة على خلاف الأصل، ثمّ قال في آخر كلامه: فلينظر ذلك من الرّوايات ويحقّق الاتّحاد أو الاختلاف من مخارج الحديث. انتهى. وقد جمعتُ طرقَه فوجدتُ مداره على ابن أبي ليلى عن البراء، لكن الرّواية التي فيها زيادة ذكر القيام من طريق هلال بن أبي حميدٍ عنه، ولَم يذكره الحَكَم بن عُتيبة عنه. وليس بينهما اختلاف في سوى ذلك، إلاَّ ما زاده بعض الرّواة عن ¬

_ (¬1) أَيْ: نَظَرْت وَتَأَمَّلْت. قاله السندي. (¬2) أخرجه البخاري (768 , 786) ومسلم (471) من طريق الحكم , ومسلم (471) من طريق هلال بن أبي حميد كلاهما عن ابن أبي ليلى عن البراء. ولفظ العمدة لابن أبي هلال كما سيذكره الشارح. (¬3) أخرجه البخاري (759) حدّثنا بدل بن الْمُحبَّر عن شعبة عن الحكم به.

شعبة عن الحكم من قوله " ما خلا القيام والقعود " وإذا جمع بين الرّوايتين ظهر من الأخذ بالزّيادة فيهما أنّ المراد بالقيام المستثنى القيام للقراءة، وكذا القعود والمراد به القعود للتّشهّد. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدلّ على أنّ الاعتدال ركن طويل. وحديث أنس (¬1) أصرح في الدّلالة على ذلك، بل هو نصّ فيه فلا ينبغي العدول عنه لدليلٍ ضعيف. وهو قولهم: لَم يسنّ فيه تكرير التّسبيحات كالرّكوع والسّجود. ووجَّه ضعفه أنّه قياس في مقابلة النّصّ وهو فاسد، وأيضاً فالذّكر المشروع في الاعتدال أطول من الذّكر المشروع في الرّكوع، فتكرير سبحان ربّي العظيم ثلاثاً يجيء قدر قوله: اللهمّ ربّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه. وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول. كما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى وأبي سعيد الخدريّ وعبد الله بن عبّاسٍ بعد قوله " حمداً كثيراً طيّباً " ملء السّموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ". زاد في حديث ابن أبي أوفى " اللهمّ طهّرني بالثّلج .. إلخ " وزاد في حديث الآخرين " أهل الثّناء والمجد إلخ ". وقد جاء في البخاري. أنَّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ترك الإنكار على من زاد في ¬

_ (¬1) يقصد بذلك حديث أنس الآتي بعد حديث البراء في العمدة

الاعتدال ذِكْراً غير مأثور (¬1)، ومن ثَمَّ اختار النّوويّ جواز تطويل الرّكن القصير بالذّكر خلافاً للمرجّح في المذهب. واستدل لذلك أيضاً بحديث حذيفة في مسلم , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعة بالبقرة أو غيرها ثمّ ركع نحواً ممّا قرأ , ثمّ قام بعد أن قال: ربّنا لك الحمد. قياماً طويلاً قريباً ممّا ركع. قال النّوويّ: الجواب عن هذا الحديث صعب، والأقوى جواز الإطالة بالذّكر. وقد أشار الشّافعيّ في الأمّ إلى عدم البطلان , فقال في ترجمة " كيف القيام من الرّكوع ": ولو أطال القيام بذكر الله أو يدعو أو ساهياً وهو لا ينوي به القنوت , كرهتُ له ذلك ولا إعادة، إلى آخر كلامه في ذلك. فالعجب ممّن يصحّح مع هذا بطلان الصّلاة بتطويل الاعتدال، وتوجيههم ذلك أنّه إذا أطيل انتفت الموالاة , معترض بأنّ معنى الموالاة أن لا يتخلَّل فصْلٌ طويل بين الأركان بما ليس منها، وما ورد به الشّرع لا يصحّ نفي كونه منها، والله أعلم وأجاب بعضهم عن حديث البراء: أنّ المراد بقوله " قريباً من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (799) عن رفاعة بن رافع الزرقي، قال: كنا يوماً نُصلِّي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا رفع رأسه من الركعة. قال: سمع الله لمن حمده، قال رجلٌ وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف، قال: مَن المتكلم؟ قال: أنا. قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول. ولمسلم (600) عن أنس نحوه

السّواء " ليس أنّه كان يركع بقدر قيامه وكذا السّجود والاعتدال بل المراد أنّ صلاته كانت قريباً معتدلة , فكان إذا أطال القراءة أطال بقيّة الأركان , وإذا أخفّها أخفّ بقيّة الأركان. فقد ثبت أنّه قرأ في الصّبح بالصّافّات (¬1) , وثبت في السّنن عن أنس , أنّهم حزروا في السّجود قدر عشر تسبيحات , فيُحمل على أنّه قرأ بدون الصّافّات اقتصر على دون العشر، وأقلّه كما ورد في السّنن أيضاً ثلاث تسبيحات. قوله: (ما خلا القيام والقعود) بالنّصب فيهما. قيل: المراد بالقيام الاعتدال وبالقعود الجلوس بين السّجدتين، وجزم به بعضهم , وتمسّك به في أنّ الاعتدال والجلوس بين السّجدتين لا يطوّلان. وردّه ابن القيّم في كلامه على حاشية السّنن , فقال: هذا سوء فهم من قائله، لأنّه قد ذكرهما بعينهما فكيف يستثنيهما؟ وهل يحسن قول القائل. جاء زيد وعمرو وبكر وخالد إلَّا زيداً وعمراً، فإنّه متى أراد نفي المجيء عنهما كان تناقضاً. انتهى. وتعقّب: بأنّ المراد بذكرها إدخالها في الطّمأنينة. وباستثناء بعضها إخراج المستثنى من المساواة. وقال بعض شيوخ شيوخنا: معنى قوله " قريباً من السّواء " أنّ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 26) والنسائي (2/ 95) من حديث ابن عمر. وصحَّحه ابن خزيمة (1606) وابن حبان (1817)

كلّ ركن قريب من مثله، فالقيام الأوّل قريب من الثّاني والرّكوع في الأولى قريب من الثّانية، والمراد بالقيام والقعود اللذين استثنيا الاعتدال والجلوس بين السّجدتين ولا يخفى تكلّفه. واستدل بظاهره على أنّ الاعتدال ركنٌ طويلٌ , ولا سيّما قوله في حديث أنس: حتّى يقول القائل قد نسي. وفي الجواب عنه تعسّف. والله أعلم. وقيل: المراد بالقيام والقعود. القيام للقراءة والجلوس للتّشهّد , لأنّ القيام للقراءة أطول من جميع الأركان في الغالب. واستدل به على تطويل الاعتدال والجلوس بين السّجدتين , وسيأتي في الحديث بعده

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون 93 - عن ثابتٍ البنانيّ عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: إنّي لا آلو أنْ أُصلِّي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي بنا. قال ثابتٌ: فكان أنسٌ يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه. كان إذا رفع رأسه من الرّكوع , انتصب قائماً حتّى يقول القائل: قد نسي , وإذا رفع رأسه من السّجدة مكث , حتّى يقول القائل: قد نسي (¬1). قوله: (لا آلو) بهمزةٍ ممدودة بعد حرف النّفي ولام مضمومة بعدها واو خفيفة , أي: لا أقصّر قوله: (أنْ أُصلِّي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي بنا) وللبخاري من رواية شعبة عن ثابت " كان أنس ينعَت لنا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يصلي .. " وينعت: بفتح المهملة، أي يصف. وهذا الحديث ساقه شعبة عن ثابت مختصراً، ورواه عنه حماد بن زيد مطولاً. فقال في أوله " عن أنس قال: إني لا آلو أن أُصلِّي بكم كما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا " فصرَّح بوصف أنس لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل. قوله: (قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه) فيه إشعار بأنّ من خاطبهم كانوا لا يطيلون الجلوس بين السّجدتين، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (787) ومسلم (472) من طريق حماد بن زيد عن ثابت به. ورواه البخاري (767) من طريق شعبة عن ثابت مختصراً.

ولكنّ السّنّة إذا ثبتت لا يبالي من تمسّك بها بمخالفة من خالفها. قوله: (حتّى نقول) بالنّصب. قوله: (قد نسي) أي: نسي وجوب الهويّ إلى السّجود , قاله الكرمانيّ. ويحتمل: أن يكون المراد أنّه نسي أنّه في صلاة، أو ظنّ أنّه وقت القنوت حيث كان معتدلاً , أو وقت التّشهّد حيث كان جالساً. ووقع عند الإسماعيليّ من طريق غندر عن شعبة عن ثابت , قلنا: قد نسي من طول القيام. أي: لأجل طول قيامه (¬1) ¬

_ (¬1) تقدم في حديث البراء الذي قبله ما يتعلّق ببعض مسائل هذا الحديث.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون 94 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: ما صليتُ خلف إمامٍ قطّ أخفّ صلاةً. ولا أتمّ صلاةً من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (ما صليت خلف إمام قط .. الخ) وللبخاري " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجز الصلاة ويكملها " المراد بالإيجاز مع الإكمال الإتيان بأقل ما يمكن من الأركان والأبعاض. وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز , قال: كانوا - أي الصحابة - يُتمّون ويُوجزون ويُبادرون الوسوسة. فبيَّن العلة في تخفيفهم. أما تخفيف النبي - صلى الله عليه وسلم - لَم يكن لهذا السبب لعصمته من الوسوسة , بل كان يخفف عند حدوث أمر يقتضيه كبكاء صبي. تكميلٌ: زاد البخاري " وإنْ كان ليسمع بكاء الصبي، فيخفف مخافة أن تفتن أمه " وفي رواية لهما عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي، فأخفف من شدة وجْدِ أمه به. واستدل بهذا الحديث على جواز إدخال الصّبيان المساجد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (676) من طريق سليمان بن بلال , ومسلم (469) من طريق إسماعيل بن جعفر كلاهما عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك به. ولمسلم (469) من رواية عن قتادة عن أنس، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من أخف الناس صلاة في تمام.

وفيه نظرٌ. لاحتمال أن يكون الصّبيّ كان مخلفاً في بيتٍ يقرب من المسجد بحيث يُسمع بكاؤه ". وعلى جواز صلاة النّساء في الجماعة مع الرّجال، وفيه شفقة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، ومراعاة أحوال الكبير منهم والصّغير. وقد بيّن مسلم في رواية ثابتٍ عن أنسٍ محلّ التّخفيف. ولفظه " فيقرأ بالسّورة القصيرة ". وبيّن ابن أبي شيبة من طريق عبد الرّحمن بن سابط مقدارها , ولفظه " أنّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الرّكعة الأولى بسورةٍ طويلةٍ فسمع بكاءَ صبيٍّ فقرأ بالثّانية بثلاث آيات " وهذا مرسل. قال ابن بطّال: احتجّ به مَن قال: يجوز للإمام إطالة الرّكوع إذا سمع بحسّ داخلٍ ليدركه. وتعقّبه ابن المنير: بأنّ التّخفيف نقيض التّطويل فكيف يقاس عليه؟. قال: ثمّ إنّ فيه مغايرة للمطلوب؛ لأنّ فيه إدخال مشقّة على جماعةٍ لأجل واحد. انتهى ويمكن أن يقال: محلّ ذلك مالم يشقّ على الجماعة، وبذلك قيّده أحمد وإسحاق وأبو ثور، وما ذكره ابن بطّال سبقه إليه الخطّابيّ , ووجّهه بأنّه إذا جاز التّخفيف لحاجةٍ من حاجات الدّنيا كان التّطويل لحاجةٍ من حاجات الدّين أجوز. وتعقّبه القرطبيّ: بأنّ في التّطويل هنا زيادة عملٍ في الصّلاة غير مطلوب، بخلاف التّخفيف فإنّه مطلوب. انتهى.

وفي هذه المسألة خلاف عند الشّافعيّة وتفصيل. القول الأول: أطلق النّوويّ عن المذهب استحباب ذلك. القول الثاني: في التّجريد للمحامليّ نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعيّ ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف. القول الثالث: قال محمّد بن الحسن: أخشى أن يكون شركاً.

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون 95 - عن أبي قلابة عبد الله بن زيدٍ الجرميّ البصريّ , قال: جاءنا مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - في مسجدنا هذا , فقال: إنّي لأُصلّي بكم , وما أريد الصّلاة , أُصلّي كيف رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي. فقلت لأبي قلابة: كيف كان يُصلِّي؟ فقال: مثل صلاةِ شيخِنا هذا , وكان يجلس إذا رفع رأسه من السّجود قبل أن ينهض في الركعة الأولى. (¬1) قال المصنِّف: أراد بشيخهم. أبا يزيد، عمرو بن سلمة الجرميّ. قوله: (جاءنا مالك بن الحويرث) بمهملة ومثلثة مُصغَّر. ابن حشيش - بمهملة ومعجمتين - وزن عظيم، ويقال: ابن أشيم بمعجمة. وزن أحمر. من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. حجازي سكن البصرة , ومات بها سنة أربعة وسبعين - بتقديم السين - على الصواب. قوله: (إنّي لأصلي بكم وما أريد الصّلاة) استشكل نفي هذه الإرادة لِمَا يلزم عليها من وجود صلاة غير قربةٍ. ومثلها لا يصحّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (645 , 769 , 785 , 790) من طريق وهيب بن خالد وحماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة به. والحديث لم يخرّجه مسلم كما قال الزركشي وابن دقيق وغيرهما. وقال الحافظ في " الفتح ": تنبيهٌ. أخرج صاحب العمدة هذا الحديث، وليس هو عند مسلم من حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -.

وأجيب: بأنّه لَم يرد نفي القربة , وإنّما أراد بيان السّبب الباعث له على الصّلاة في غير وقت صلاة معيّنة جماعةً، وكأنّه قال: ليس الباعث لي على هذا الفعل حضور صلاة معيّنةٍ من أداء أو إعادة أو غير ذلك، وإنّما الباعث لي عليه قصد التّعليم، وكأنّه كان تعيّن عليه حينئذٍ لأنّه أحد من خوطب بقوله " صلّوا كما رأيتموني أصلي "، ورأى أنّ التّعليم بالفعل أوضح من القول، ففيه دليل على جواز مثل ذلك , وأنّه ليس من باب التّشريك في العبادة. قوله: (أُصلي) وللبخاري من رواية وهيب عن أيوب عن أبي قلابة: ولكنّي أريد أن أريكم. وللبخاري , قال. أي أبو قلابة: وذلك في غير حين صلاة. أي: غير وقت صلاة من المفروضة , ويتعيّن حمله على ذلك حتّى لا يدخل فيه أوقات المنع من النّافلة لتنزيه الصّحابيّ عن التّنفّل حينئذٍ، وليس في اليوم والليلة وقتٌ أجمع على أنّه غير وقت لصلاةٍ من الخمس إلاَّ من طلوع الشّمس إلى زوالها. قوله: (مثل شيخنا) هو عمرو بن سلمة الجرمي. واختلف في ضبط كُنيته، ووقع في البخاري للأكثر " يزيد " بالتّحتانيّة والزّاي، وعند الحمويّ وكريمة " بريد " بالموحّدة والرّاء مصغّراً , وكذا ضبطه مسلم في الكنى. وقال عبد الغنيّ بن سعيد: لَم أسمعه من أحد إلاَّ بالزّاي لكن مسلم أعلم. والله أعلم قوله: (وكان يجلس إذا رفع رأسه من السّجود قبل أن ينهض)

وللبخاري من رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث , أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي، فإذا كان في وتر من صلاته لَم ينهض حتّى يستوي قاعداً. وفيه مشروعيّة جلسة الاستراحة. القول الأول: أخذ بها الشّافعيّ وطائفة من أهل الحديث، وعن أحمد روايتان، وذكر الخلال: أنّ أحمد رجع إلى القول بها. القول الثاني: لَم يستحبّها الأكثر. واحتجّ الطّحاويّ بخلوّ حديث أبي حميدٍ (¬1) عنها , فإنّه ساقه بلفظ " فقام , ولَم يتورّك " وأخرجه أبو داود (¬2) أيضاً كذلك , قال: فلمّا تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلةٍ كانت به فقعد لأجلها لا أنّ ذلك من سنّة الصّلاة، ثمّ قوّى ذلك بأنّها لو كانت مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص. وتعقّب: بأنّ الأصل عدم العلة , وبأنّ مالك بن الحويرث هو راوي حديث " صلّوا كما رأيتموني أصلي " فحكايته لصفات صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (828) عن محمد بن عمرو بن عطاء، أنه كان جالساً مع نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرنا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيته إذا كبَّر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره .. الحديث " (¬2) سنن أبي داود (773) والطحاوي في " شرح المشكل " (15/ 352) وابن حبان في " صحيحه " (1688) من طريق عباس أو عياش بن سهل الساعدي , أنه كان في مجلس فيه أبوه , وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المجلس أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو أسيد .. فذكر الحديث.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داخلة تحت هذا الأمر. ويستدلّ بحديث أبي حميدٍ المذكور على عدم وجوبها فكأنّه تركها لبيان الجواز. وتمسّك من لَم يقل باستحبابها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبادروني بالقيام والقعود، فإنّي قد بدّنت (¬1). فدلَّ على أنّه كان يفعلها لهذا السّبب، فلا يشرع إلاَّ في حقّ من اتّفق له نحو ذلك. وأمّا الذّكر المخصوص , فإنّها جلسة خفيفة جدّاً استغني فيها بالتّكبير المشروع للقيام، فإنّها من جملة النّهوض إلى القيام، ومن حيث المعنى. أنّ السّاجد يضع يديه وركبتيه ورأسه مميّزاً لكل عضو وضع، فكذا ينبغي إذا رفع رأسه ويديه أن يميّز رفع ركبتيه، وإنّما يتمّ ذلك بأن يجلس ثمّ ينهض قائماً، نبّه عليه ناصر الدّين بن المنير في الحاشية. ولَم تتّفق الرّوايات عن أبي حميدٍ على نفي هذه الجلسة كما يفهمه صنيع الطّحاويّ، بل أخرجه أبو داود أيضاً من وجه آخر عنه بإثباتها. وأمّا قول بعضهم: لو كانت سنّة لذكرها كلّ من وصف صلاته، فيقوّي أنّه فعلها للحاجة ففيه نظرٌ، فإنّ السّنن المتّفق عليها لَم يستوعبها كلّ واحد ممّن وصف، وإنّما أخذ مجموعها عن مجموعهم. تكميلٌ: زاد البخاري في رواية: قال أيوب: وكان ذلك الشيخ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 92) وأبو داود (619) وابن ماجه (963) وابن الجارود في " المنتقى " (324) من حديث معاوية - رضي الله عنه -. وصحَّحه ابن خزيمة (1594) وابن حبان (2229)

يتم التكبير، وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض، ثم قام. وفيه الاعتماد على الأرض عند القيام من السّجود أو الجلوس. وروي بخلاف ذلك، فعند سعيد بن منصور بإسنادٍ ضعيف عن أبي هريرة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان ينهض على صدور قدميه، وعن ابن مسعود مثله بإسنادٍ صحيحٍ، وعن إبراهيم , أنّه كره أن يعتمد على يديه إذا نهض. قال الكرمانيّ: بيان الكيفيّة مستفاد من قوله " جلس واعتمد على الأرض , ثمّ قام " فكأنّه يقوم معتمداً عن جلوسٍ لا عن سجود. وقيل: يستفاد من الاعتماد أنّه يكون باليد لأنّه افتعال من العماد والمراد به الاتّكاء وهو باليد. وروى عبد الرّزّاق عن ابن عمر , أنّه كان يقوم إذا رفع رأسه من السّجدة معتمداً على يديه قبل أن يرفعهما.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون 96 - عن عبد الله بن مالكٍ بن بحينة - رضي الله عنه -: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلَّى فرّج بين يديه , حتّى يبدو بياض إبطيه. (¬1) قوله: (عبد الله بن مالكٍ بن بحينة) وهو عبد الله بن مالك بن القشب - بكسر القاف وسكون المعجمة بعدها موحّدةٌ - وهو لقب , واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله. قال ابن سعد: قدم مالك بن القشب مكّة - يعني في الجاهليّة - فحالف بني المطّلب بن عبد منافٍ , وتزوّج بحينة بنت الحارث بن المطّلب واسمها عبدة، وبحينة لقبٌ، وأدركتْ بحينة الإسلام فأسلمتْ وصحِبَتْ، وأسلم ابنها عبد الله قديماً. وحكى ابن عبد البرّ. اختلافاً في بحينة. هل هي أمّ عبد الله , أو أمّ مالك؟ والصّواب أنّها أمّ عبد الله، فينبغي أن يكتب ابن بحينة بزيادة ألف , ويعرب إعراب عبد الله كما في عبد الله بن أبيّ بن سلولٍ ومحمّد بن عليّ ابن الحنفيّة. قوله: (فرّج بين يديه) أي: نحّى كلّ يد عن الجنب الذي يليها. قال القرطبيّ: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السّجود. أنّه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (383 , 774 , 3371) ومسلم (495) من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن عبد الله بن مالك به.

يخفّ بها اعتماده عن وجهه ولا يتأثّر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذّى بملاقاة الأرض. وقال غيره: هو أشبه بالتّواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض. مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ناصر الدّين بن المنير في الحاشية: الحكمة فيه أن يظهر كلّ عضو بنفسه ويتميّز حتّى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنّه عدد، ومقتضى هذا أن يستقلّ كلّ عضو بنفسه , ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضدّ ما ورد في الصّفوف من التصاق بعضهم ببعضٍ لأنّ المقصود هناك إظهار الاتّحاد بين المُصلِّين حتّى كأنّهم جسد واحد. وروى الطّبرانيّ وغيره من حديث ابن عمر بإسنادٍ صحيح , أنّه قال: لا تفترش افتراش السّبع، وادعم على راحتيك وأَبدِ ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كلّ عضو منك. ولمسلمٍ من حديث عائشة: نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يفترش الرّجل ذراعيه افتراش السّبع , وأخرج التّرمذيّ وحسّنه من حديث عبد الله بن أرقم: صليت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فكنت أنظر إلى عفرتي إبطيه إذا سجد. ولابن خزيمة عن أبي هريرة رفعه: إذا سجد أحدكم فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، وليضمّ فخذيه، وللحاكم من حديث ابن عبّاسٍ نحو حديث عبد الله بن أرقم، وعنه عند الحاكم: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد يُرى وضح إبطيه. وله من حديثه. ولمسلمٍ من حديث

البراء رفعه: إذا سجدت فضع كفّيك وارفع مرفقيك. وهذه الأحاديث , مع حديث ميمونة عند مسلم: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يجافي يديه، فلو أنّ بهيمة أرادت أن تمرّ لَمرّت " مع حديث ابن بحينة , ظاهرها وجوب التّفريج المذكور. لكن أخرج أبو داود ما يدلّ على أنّه للاستحباب , وهو حديث أبي هريرة: شكا أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له مشقّة السّجود عليهم إذا انفرجوا، فقال: استعينوا بالرّكب. وترجم له " الرّخصة في ذلك " أي: في ترك التّفريج. قال ابن عجلان أحد رواته: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السّجود وأعْيا. وقد أخرج التّرمذيّ الحديث المذكور , ولَم يقع في روايته " إذا انفرجوا " فترجم له " ما جاء في الاعتماد إذا قام من السّجود ". فجعل محلّ الاستعانة بالرّكب لمن يرفع من السّجود طالباً للقيام. واللفظ محتمل ما قال، لكنّ الزّيادة التي أخرجها أبو داود تعيّن المراد. وقال ابن التّين: فيه دليل على أنّه لَم يكن عليه قميص لانكشاف إبطيه. وتعقّب: باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقد روى التّرمذيّ في " الشّمائل " عن أمّ سلمة قالت: كان أحبّ الثّياب إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - القميص. أو أراد الرّاوي أنّ موضع بياضهما لو لَم يكن عليه

ثوب لرئي. قاله القرطبيّ. واختلف في المراد بوصف إبطيه بالبياض. فقيل: لَم يكن تحتهما شعر فكانا كلون جسده. وقيل: لَم يكن تحت إبطيه شعر البتّة. وفيه نظرٌ. فقد حكى المحبّ الطّبريّ في الاستسقاء من الأحكام له: أنّ من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنّ الإبط من جميع النّاس متغيّر اللون غيره (¬1). وقيل: كان لدوام تعهّده له لا يبقى فيه شعر. ووقع عند مسلم في حديث " حتّى رأينا عفرة إبطيه " ولا تنافي بينهما لأنّ الأعفر ما بياضه ليس بالنّاصع، وهذا شأن المغابن يكون لونها في البياض دون لون بقيّة الجسد. واستدل بإطلاقه على استحباب التّفريج في الرّكوع أيضاً، وفيه نظرٌ , لأنّ في رواية قتيبة عن بكر بن مضر , التّقييد بالسّجود، أخرجه البخاري، والمطلق إذا استعمل في صورة اكتفي بها. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 380): مثل هذا التخصيص يحتاج إلى دليل , ولا أعلم في الأحاديث ما يدلُّ على ما قاله المحب , فالأقرب ما قاله القرطبي. وهو ظاهر كثيرٍ من الأحاديث , ويحتمل أن يكون شعر إبطيه كان خفيفاً. فلا يتّضح للناظر من بُعدٍ سوى بياض الإبطين. والله أعلم

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون 97 - عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد , قال: سألت أنس بن مالكٍ , أكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في نعليه؟ , قال: نعم. (¬1) قوله: (يُصلِّي في نعليه) تثنية نعل. وهي مؤنّثة، قال ابن الأثير: هي التي تسمّى الآن تاسومة. وقال ابن العربيّ: النّعل لباس الأنبياء، وإنّما اتّخذ النّاس غيرها لِمَا في أرضهم من الطّين، وقد يطلق النّعل على كلّ ما يقي القدم. قال صاحب المحكم. النّعل والنّعلة ما وقيت به القدم. قال ابن بطّالٍ: هو محمول على ما إذا لَم يكن فيهما نجاسة، ثمّ هي من الرّخص كما قال ابن دقيق العيد لا من المستحبّات؛ لأنّ ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصّلاة، وهو - وإن كان من ملابس الزّينة - إلَّا أنّ ملامسته الأرض التي تكثر فيها النّجاسات قد تقصر عن هذه الرّتبة، وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التّحسين ومراعاة إزالة النّجاسة قدّمت الثّانية؛ لأنّها من باب دفع المفاسد، والأخرى من باب جلب المصالح. قال: إلاَّ أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمّل به فيرجع إليه , ويترك هذا النّظر. قلت: قد روى أبو داود والحاكم من حديث شدّاد بن أوس مرفوعاً: خالفوا اليهود فإنّهم لا يصلّون في نعالهم ولا خفافهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (379 , 5512) ومسلم (555) من طرق عن سعيد بن زيد به.

فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. وورد في كون الصّلاة في النّعال من الزّينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف جدّاً. أورده ابن عديٍّ في " الكامل " وابن مردويه في " تفسيره " من حديث أبي هريرة , والعقيليّ من حديث أنس.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون 98 - عن أبي قتادة الأنصاريّ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي. وهو حاملٌ أُمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأَبي العاص بن الرّبيع بن عبد شمسٍ , فإذا سجد وضعها , وإذا قام حملها. (¬1) قوله: (وهو حاملٌ أُمامة) المشهور في الرّوايات بالتّنوين ونصب أُمامة، وروي بالإضافة كما قرئ في قوله تعالى (إنّ الله بالغ أمره) بالوجهين. وتخصيص الحمل في التّرجمة (¬2) بكونه على العنق - مع أنّ السّياق يشمل ما هو أعمّ من ذلك - مأخوذ من طريقٍ أخرى مصرّحةٍ بذلك , وهي لمسلمٍ من طريق بكير بن الأشجّ عن عمرو بن سليم عن أبي قتادة. ورواه عبد الرّزّاق عن مالكٍ عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم. بإسناد البخاري فزاد فيه " على عاتقه ". وكذا لمسلم وغيره من طرقٍ أخرى، ولأحمد من طريق ابن جريجٍ " على رقبته ". وأمامة: بضمّ الهمزة تخفيف الميمين , كانت صغيرةً على عهد النّبيّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (494 , 5650) ومسلم (543) من طرق عن عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة - رضي الله عنه -. تنبيه: ظنَّ بعض المحققين أنَّ قوله (ولأبي العاص) حديثٌ مستقلٌ عن حديث أبي قتادة , فجعلوا له رقماً خاصاً وهو وهمٌ , كما يتبيّن من الشرح. (¬2) بوب عليه البخاري (باب إذا حمل جارية صغيرةً على عنقه في الصلاة)

- صلى الله عليه وسلم -، وتزوّجها عليٌّ بعد وفاة فاطمة بوصيّةٍ منها , ولَم تُعقِب. قوله: (ولأبي العاص) قال الكرمانيّ: الإضافة في قوله " بنت زينب " بمعنى اللام، فأظهر في المعطوف وهو قوله " ولأبي العاص " ما هو مقدّرٌ في المعطوف عليه. انتهى. وأشار ابن العطّار: إلى أنّ الحكمة في ذلك كون والد أُمامة كان إذ ذاك مشركاً , فنسبت إلى أمّها تنبيهاً على أنّ الولد ينسب إلى أشرف أبويه ديناً ونسباً. ثمّ بيّن أنّها من أبي العاص تبييناً لحقيقة نسبها. انتهى. وهذا السّياق لمالكٍ وحده، وقد رواه غيره عن عامر بن عبد الله فنسبوها إلى أبيها , ثمّ بيّنوا أنّها بنت زينب. كما هو عند مسلم وغيره. ولأحمد من طريق المقبريّ عن عمرو بن سليم " يَحمل أُمامة بنت أبي العاص , - وأمّها زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عاتقه ". قوله: (ابن الربيع بن عبد شمسٍ) كذا رواه يحيى بن بكير ومعن بن عيسى وأبو مصعب وغيرهم عن مالكٍ فقالوا " ابن الرّبيع " وهو الصّواب. ورواه الجمهور. منهم عبد الله بن يوسف عند البخاري عن مالك. فقالوا " ابن ربيعة ". وغفل الكرمانيّ , فقال: خالف القومَ البخاريُّ فقال: ربيعة، وعندهم الرّبيع. والواقع أنّ من أخرجه من القوم من طريق مالكٍ كالبخاريّ فالمخالفة فيه إنّما هي من مالك. وادّعى الأصيليّ أنّه ابن الرّبيع بن ربيعة , فنسبه مالك مرّةً إلى جدّه.

وردّه عياض والقرطبيّ وغيرهما لإطباق النّسّابين على خلافه. نعم. قد نسبه مالك إلى جدّه في قوله " ابن عبد شمس " وإنّما هو ابن عبد العزّى بن عبد شمس، أطبق على ذلك النّسّابون أيضاً. واسم أبي العاص لقيط , وقيل: مقسمٌ. وهو أثبتها عن الزبير , وقيل: القاسم , وقيل: مهشم , وقيل: هشيمٌ , وقيل: ياسر. وهو مشهورٌ بكنيته , أسلم قبل الفتح وهاجر، وردّ عليه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب وماتت معه , وأثنى عليه في مصاهرته، وكانت وفاته في خلافة أبي بكر الصّدّيق. وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة. فكان ابن أختها. وتزوج زينبَ بنتَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة. وهي أكبر بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد أُسر أبو العاص ببدر مع المشركين وفدَتْه زينب فشرط عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرسلها إليه فوفَى له بذلك، ثم أُسر أبو العاص مرة أخرى فأجارتْه زينب فأسلم، فردَّها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نكاحه، وولدت أمامة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحملها وهو يصلي. وولدت له أيضاً ابنا اسمه علي كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مراهقاً، فيقال إنه مات قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما أبو العاص فمات سنة اثنتي عشرة. قوله: (فإذا سجد وضعها) كذا لمالكٍ أيضاً، ورواه مسلم أيضاً من طريق عثمان بن أبي سليمان ومحمّد بن عجلان، والنّسائيّ من طريق الزّبيديّ، وأحمد من طريق ابن جريجٍ، وابن حبّان من طريق

أبي العميس كلّهم (¬1) عن عامر بن عبد الله - شيخ مالك - فقالوا " إذا ركع وضعها ". ولا منافاة بينهما , بل يحمل على أنّه كان يفعل ذلك في حال الرّكوع والسّجود. ولأبي داود من طريق المقبريّ عن عمرو بن سليم " حتّى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثمّ ركع وسجد، حتّى إذا فرغ من سجوده قام وأخذها فردّها في مكانها "، وهذا صريح في أنّ فعل الحمل والوضع كان منه لا منها. بخلاف ما أوّله الخطّابيّ حيث قال: يشبه أن تكون الصّبية كانت قد أَلِفَتْه، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. قال: هذا وجهه عندي. وقال ابن دقيق العيد: من المعلوم أنّ لفظ حمل لا يساوي لفظ وضع في اقتضاء فعل الفاعل؛ لأنّا نقول: فلان حمل كذا ولو كان غيره حمله، بخلاف وضع، فعلى هذا فالفعل الصّادر منه هو الوضع لا الرّفع فيقلّ العمل. قال: وقد كنت أحسب هذا حسناً. إلى أنْ رأيت في بعض طرقه الصّحيحة " فإذا قام أعادها ". قلت: وهي روايةٌ لمسلمٍ. ورواية أبي داود التي قدّمناها أصرح في ¬

_ (¬1) وأخرجه أيضاً البخاري في " صحيحه " (5650) من طريق المقبري عن عمرو بن سليم. مثله

ذلك. وهي " ثمّ أخذها فردّها في مكانها " ولأحمد من طريق ابن جريجٍ " وإذا قام حملها فوضعها على رقبته ". قال القرطبيّ: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلى ذلك أنّه عمل كثير، فروى ابن القاسم عن مالكٍ أنّه كان في النّافلة، وهو تأويلٌ بعيدٌ، فإنّ ظاهر الأحاديث أنّه كان في فريضة. وسبقه إلى استبعاد ذلك المازريّ وعياض، لِمَا ثبت في مسلم " رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يؤمّ النّاس. وأمامة على عاتقه ". قال المازريّ: إمامته بالنّاس في النّافلة ليست بمعهودةٍ. ولأبي داود " بينما نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظّهر أو العصر , وقد دعاه بلال إلى الصّلاة إذ خرج علينا وأمامة على عاتقه , فقام في مصلاه فقمنا خلفه , فكبّر فكبّرنا وهي في مكانها. وعند الزّبير بن بكّارٍ وتبعه السّهيليّ الصّبح , ووهم من عزاه للصّحيحين. قال القرطبيّ: وروى أشهب وعبد الله بن نافع عن مالكٍ , أنّ ذلك للضّرورة حيث لَم يجد من يكفيه أمرها. انتهى. وقال بعض أصحابه: لأنّه لو تركها لبكت وشغلت سرّه في صلاته أكثر من شغله بحملها. وفرّق بعض أصحابه بين الفريضة والنّافلة. وقال الباجيّ: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النّافلة دون الفريضة، وإن لَم يجد جاز فيهما.

قال القرطبيّ: وروى عبد الله بن يوسف التّنّيسيّ عن مالكٍ , أنّ الحديث منسوخ. قلت: روى ذلك الإسماعيليّ عقب روايته للحديث من طريقه، لكنّه غير صريح. ولفظه: قال التّنّيسيّ قال مالك: من حديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ناسخ ومنسوخ , وليس العمل على هذا. وقال ابن عبد البرّ: لعله نسخ بتحريم العمل في الصّلاة. وتُعقّب: بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال , وبأنّ هذه القصّة كانت بعد قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنّ في الصّلاة لشغلاً "؛ لأنّ ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصّة كانت بعد الهجرة قطعاً بمدّةٍ مديدةٍ. وذكر عياض عن بعضهم , أنّ ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لكونه كان معصوماً من أن تبول وهو حاملها، وردّ بأنّ الأصل عدم الاختصاص , وبأنّه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك. وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنّه عملٌ غير متوالٍ لوجود الطّمأنينة في أركان صلاته. وقال النّوويّ: ادّعى بعض المالكيّة أنّ هذا الحديث منسوخ، وبعضهم أنّه من الخصائص، وبعضهم أنّه كان لضرورة. وكلّ ذلك دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشّرع؛ لأنّ الآدميّ طاهر، وما في جوفه معفوّ عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطّهارة حتّى تتبيّن النّجاسة

والأعمال في الصّلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرّقت، ودلائل الشّرع متظاهرة على ذلك , وإنّما فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك لبيان الجواز. وقال الفاكهانيّ: وكأنّ السّرّ في حمله أُمامة في الصّلاة دفعاً لِمَا كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهنّ، فخالفهم في ذلك حتّى في الصّلاة للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول. واستدل به على ترجيح العمل بالأصل على الغالب كما أشار إليه الشّافعيّ. ولابن دقيق العيد هنا بحث من جهة أنّ حكايات الأحوال لا عموم لها. وعلى جواز إدخال الصّبيان في المساجد , وعلى أنّ لمس الصّغار الصّبايا غير مؤثّرٍ في الطّهارة، ويحتمل: أن يفرّق بين ذوات المحارم وغيرهنّ. وعلى صحّة صلاة من حمل آدميّاً، وكذا من حمل حيواناً طاهراً. وللشّافعيّة تفصيل بين المستجمر وغيره. وقد يجاب عن هذه القصّة: بأنّها واقعة حالٍ فيحتمل أن تكون أُمامة كانت حينئذٍ قد غسلت، كما يحتمل أنّه كان - صلى الله عليه وسلم - يمسّها بحائلٍ. وفيه تواضعه - صلى الله عليه وسلم -، وشفقته على الأطفال، وإكرامه لهم جبراً لهم ولوالديهم. واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنّه تعارض حينئذٍ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد

فقدّم الثّاني. ويحتمل: أن يكون - صلى الله عليه وسلم - إنّما فعل ذلك لبيان الجواز.

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون 99 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: اعتدلوا في السّجود , ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب. (¬1) قوله: (اعتدلوا) أي: كونوا متوسّطين بين الافتراش والقبض. وقال ابن دقيق العيد: لعل المراد بالاعتدال هنا وضع هيئة السّجود على وفق الأمر، لأنّ الاعتدال الحسّيّ المطلوب في الرّكوع لا يتأتّى هنا، فإنّه هناك استواء الظّهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكمَ هنا مقروناً بعلته، فإنّ التّشبيه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصّلاة. انتهى. والهيئة المنهيّ عنها أيضاً مشعرة بالتّهاون وقلة الاعتناء بالصّلاة. قوله: (ولا يبسط) وللبخاري " ولا ينبسط " كذا للأكثر بنونٍ ساكنة قبل الموحّدة. وللحمويّ " يبتسط " بمثنّاةٍ بعد موحّدة، وفي رواية ابن عساكر بموحّدة ساكنة فقط. وعليها اقتصر العمدة. قوله: (انبساط) بالنّون في الأولى والثّالثة وبالمثنّاة. وهي ظاهرة , والثّالثة تقديرها. ولا يبسط ذراعيه فينبسط انبساط الكلب. وفي رواية أبي داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ " ولا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (509) ومسلم (493) من طرق عن شعبة عن قتادة عن أنس به. وأخرجه البخاري (509) من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة. نحوه.

يفترش " بدل ينبسط. يجوز في يفترش الجزم على النهي. والرفع على النفي وهو بمعنى النهي. وروى أحمد والتّرمذيّ وابن خزيمة من حديث جابر نحوه بلفظ " إذا سجد أحدكم فليعتدل , ولا يفترش ذراعيه " الحديث، ولمسلمٍ عن عائشة نحوه. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن بحينة - رضي الله عنه - الماضي رقم (96).

باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود الحديث الواحد والخمسون 100 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد , فدخل رجلٌ فصلَّى , ثمّ جاء فسلَّم على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: ارجع فصلِّ , فإنّك لَم تصلِّ فرجع فصلَّى كما صلَّى , ثمّ جاء فسلَّم على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: ارجع فصلِّ , فإنّك لَم تصلِّ. ثلاثاً , فقال: والذي بعثك بالحقّ لا أحسن غيره فعلّمني , فقال: إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر , ثمّ اقرأ ما تيسّر من القرآن , ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعاً , ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائماً , ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً , ثمّ ارفع حتّى تطمئنّ جالساً. وافعل ذلك في صلاتك كلها. (¬1) قوله: (عن أبي هريرة) قال الدّارقطنيّ: خالف يحيى القطّان (¬2) أصحابَ عبيد الله كلّهم في هذا الإسناد، فإنّهم لَم يقولوا عن أبيه؛ ويحيى حافظٌ قال: فيشبه أن يكون عبيد الله حدّث به على الوجهين. وقال البزّار: لَم يتابع يحيى عليه، ورجّح التّرمذيّ رواية يحيى. قلت: لكلٍّ من الرّوايتين وجهٌ مرجّح، أمّا رواية يحيى فللزّيادة من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (724 , 760 , 5897 , 6290) ومسلم (397) من طرق عن عبيد الله بن عمر عن المقبري عن أبي هريرة به. وقيل: عن المقبري عن أبيه كما سيأتي تفصيله إن شاء الله. (¬2) رواية يحيى القطان. أخرجها البخاري (793) من طريقه عن عبيد الله العمري قال: حدّثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به.

الحافظ، وأمّا الرّواية الأخرى فللكثرة، ولأنّ سعيداً لَم يوصف بالتّدليس. وقد ثبت سماعه من أبي هريرة، ومن ثم أخرج الشيخان الطريقين. فأخرج البخاري طريق يحيى هنا (¬1) , وفي " باب وجوب القراءة ". وأخرج في " الاستئذان " طريق عبد الله بن نمير , وفي " الأيمان والنذور " طريق أبي أسامة كلاهما عن عبيد الله. ليس فيه عن أبيه , وأخرجه مسلم من رواية الثّلاثة. وللحديث طريق أخرى من غير رواية أبي هريرة. أخرجها أبو داود والنّسائيّ من رواية إسحاق بن أبي طلحة ومحمّد بن إسحاق ومحمّد بن عمرو ومحمّد بن عجلان وداود بن قيس كلّهم عن عليّ بن يحيى بن خلاد بن رافع الزّرقيّ عن أبيه عن عمّه رفاعة بن رافع، فمنهم من لَم يسمّ رفاعة قال " عن عمّ له بدريّ ". ومنهم من لَم يقل عن أبيه. ورواه النّسائيّ والتّرمذيّ من طريق يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن جدّه عن رفاعة , لكن لَم يقل التّرمذيّ عن أبيه. وفيه اختلاف آخر نذكره قريباً. قوله: (فدخل رجل) في رواية ابن نمير " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ ¬

_ (¬1) أي: في كتاب الصلاة. (باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة) عن مسدد عن يحيى وفيه (عن أبيه). أما في باب وجوب القراءة. فهو من طريق محمد بن بشار عنه.

في ناحية المسجد " , وللنّسائيّ من رواية إسحاق بن أبي طلحة " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس , ونحن حوله ". وهذا الرّجل. هو خلاد بن رافع جدّ عليّ بن يحيى راوي الخبر، بيّنه ابن أبي شيبة عن عبّاد بن العوّام عن محمّد بن عمرو عن عليّ بن يحيى عن رفاعة , أنّ خلاداً دخل المسجد ". وروى أبو موسى في " الذّيل " من جهة ابن عيينة عن ابن عجلان عن عليّ بن يحيى بن عبد الله بن خلاد عن أبيه عن جدّه , أنّه دخل المسجد. انتهى. وفيه أمران: الأول: زيادة عبد الله في نسب عليّ بن يحيى. الثاني: جعل الحديث من رواية خلاد جدّ عليّ. فأمّا الأوّل: فوهْمٌ من الرّاوي عن ابن عيينة. وأمّا الثّاني: فمن ابن عيينة , لأنّ سعيد بن منصور قد رواه عنه كذلك , لكن بإسقاط عبد الله، والمحفوظ أنّه من حديث رفاعة، كذلك أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد القطّان , وابن أبي شيبة عن أبي خالد. الأحمر كلاهما عن محمّد بن عجلان. وأمّا ما وقع عند التّرمذيّ " إذ جاء رجلٌ كالبدويّ فصلَّى فأخفّ صلاته " فهذا لا يمنع تفسيره بخلاد , لأنّ رفاعة شبّهه بالبدويّ لكونه أخفّ الصّلاة أو لغير ذلك. قوله: (فصلَّى) زاد النّسائيّ من رواية داود بن قيس " ركعتين "

وفيه إشعار بأنّه صلَّى نفلاً. والأقرب أنّها تحيّة المسجد، وفي الرّواية المذكورة " وقد كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يرمقه في صلاته " زاد في رواية إسحاق بن أبي طلحة " ولا ندري ما يعيب منها ". وعند ابن أبي شيبة من رواية أبي خالد " يرمقه ونحن لا نشعر " , وهذا محمول على حالهم في المرّة الأولى، وهو مختصر من الذي قبله كأنّه قال: ولا نشعر بما يعيب منها. قوله: (ثمّ جاء فسلَّم) في رواية أبي أسامة " فجاء فسلم " وهي أولى , لأنّه لَم يكن بين صلاته ومجيئه تراخٍ. قوله: (فردّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في رواية مسلم , وكذا في رواية ابن نمير عند البخاري " فقال: " وعليك السّلام ". وفي هذا تعقّبٌ على ابن المنير حيث قال فيه: إنّ الموعظة في وقت الحاجة أهمّ من ردّ السّلام، ولأنّه لعله لَم يردّ عليه السّلامَ تأديباً على جهله , فيؤخذ منه التّأديب بالهجر وترك السّلام. انتهى. والذي وقفنا عليه من نسخ الصّحيحين ثبوت الرّدّ في هذا الموضع وغيره، إلاَّ الذي في الأيمان والنّذور , وقد ساق الحديث صاحب " العمدة " بلفظ الباب إلاَّ أنّه حذف منه: فردّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فلعل ابن المنير اعتمد على النّسخة التي اعتمد عليها صاحب العمدة. قوله: (ارجع) في رواية ابن عجلان فقال: أعد صلاتك. قوله: (فإنّك لَم تصلّ) قال عياض: فيه أنّ أفعال الجاهل في

العبادة على غير علم لا تجزئ، وهو مبنيّ على أنّ المراد بالنّفي نفي الإجزاء وهو الظّاهر، ومن حمله على نفي الكمال تمسّك بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يأمره بعد التّعليم بالإعادة. فدلَّ على إجزائها وإلا لزم تأخير البيان، كذا قاله بعض المالكيّة. وهو المُهلَّب ومن تبعه. وفيه نظر , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - قد أمره في المرّة الأخيرة بالإعادة، فسأله التّعليم فعلمه، فكأنّه قال له أعد صلاتك على هذه الكيفيّة، أشار إلى ذلك ابن المنير. قوله: (ثلاثاً) في رواية ابن نمير " فقال في الثّالثة أو في التي بعدها " وفي رواية أبي أسامة " فقال في الثّانية أو الثّالثة ". وتترجّح الأولى لعدم وقوع الشّكّ فيها , ولكونه - صلى الله عليه وسلم - كان من عادته استعمال الثّلاث في تعليمه غالباً. قوله: (فعلّمني) في رواية يحيى بن عليّ (¬1) " فقال الرّجل: فأرني وعلّمني , فإنّما أنا بشر أصيب وأخطئ فقال: أجل. قوله: (إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر) في رواية ابن نمير " إذا قمت إلى الصّلاة فأسبغ الوضوء , ثمّ استقبل القبلة فكبّر " , وفي رواية يحيى ¬

_ (¬1) رواية يحيى بن علي لَم يشر إليها ابن حجر قبل ذلك , فظنها بعضهم أنها مقلوبه. وأن الصواب (علي بن يحيى) التي ذكر روايته , وليس كذلك , فقد أخرجها النسائي في " الكبرى " (2/ 247) والبيهقي في " السنن " (2/ 235) من طريق علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر حدّثنا يحيى بن عليّ بن يحيى بن خلاد بن رافعٍ الزّرقيّ عن أبيه عن جدّه عن رفاعة بن رافعٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينا هو جالسٌ في المسجد يوماً - فذكره وقد أخرجه الترمذي في " جامعه " (302) عن علي بن حجر , لكن قال: عن يحيى بن علي عن جده. ولَم يذكر والده علياً.

بن عليّ " فتوضّأ كما أمرك الله ثمّ تشهّد وأقم ". وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة عند النّسائيّ " إنّها لَم تتمّ صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره الله , فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ثمّ يكبّر الله ويحمده ويمجّده " , وعند أبي داود " ويثني عليه " بدل ويمجّده. قوله: (ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن) لَم تختلف الرّوايات في هذا عن أبي هريرة. وأمّا رفاعة ففي رواية إسحاق المذكورة " ويقرأ ما تيسّر من القرآن ممّا علمه الله " , وفي رواية يحيى بن عليّ " فإن كان معك قرآن فاقرأ , وإلا فاحمد الله وكبّره وهلله ". وفي رواية محمّد بن عمرو عند أبي داود " ثمّ اقرأ بأمّ القرآن , أو بما شاء الله ". ولأحمد وابن حبّان من هذا الوجه " ثمّ اقرأ بأمّ القرآن , ثمّ اقرأ بما شئت " ترجم له ابن حبّان بباب (فرض المُصلِّي قراءة فاتحة الكتاب في كلّ ركعة). قوله: (حتّى تطمئنّ راكعاً) في رواية أحمد هذه القريبة " فإذا ركعتَ فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك وتمكّن لركوعك " , وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة " ثمّ يكبّر فيركع حتّى تطمئنّ مفاصله ويسترخي " قوله: (حتّى تعتدل قائماً) في رواية ابن نمير عند ابن ماجه " حتّى تطمئنّ قائماً " أخرجه ابن أبي شيبة عنه، وقد أخرج مسلم إسناده

بعينه في هذا الحديث , لكن لَم يسق لفظه فهو على شرطه، وكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن أبي أسامة، وهو في " مستخرج " أبي نعيمٍ من طريقه، وكذا أخرجه السّرّاج عن يوسف بن موسى أحد شيوخ البخاريّ عن أبي أسامة. فثبَتَ ذكر الطّمأنينة في الاعتدال على شرط الشّيخين. ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبّان، وفي لفظ لأحمد " فأقم صلبك حتّى ترجع العظام إلى مفاصلها ". وعُرف بهذا أنّ قول إمام الحرمين: في القلب من إيجابها - أي الطّمأنينة في الرّفع من الرّكوع - شيء لأنّها لَم تذكر في حديث المسيء صلاته، دالٌّ على أنّه لَم يقف على هذه الطّرق الصّحيحة. قوله: (ثمّ اسجد) في رواية إسحاق بن أبي طلحة " ثمّ يكبّر فيسجد حتّى يمكّن وجهه أو جبهته حتّى تطمئنّ مفاصله وتسترخي ". قوله: (ثمّ ارفع) في رواية إسحاق المذكورة " ثمّ يكبّر فيركع حتّى يستوي قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه " وفي رواية محمّد بن عمرو " فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى " , وفي رواية إسحاق " فإذا جلست في وسط الصّلاة فاطمئنّ جالساً , ثمّ افترش فخذك اليسرى , ثمّ تشهّد " قوله: (ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها) في رواية محمّد بن عمرو " ثمّ اصنع ذلك في كلّ ركعة وسجدة ".

تنْبيهٌ: وقع في رواية ابن نمير في البخاري بعد ذكر السّجود الثّاني " ثمّ ارفع حتّى تطمئنّ جالساً ". وقد قال بعضهم: هذا يدلّ على إيجاب جلسة الاستراحة , ولَم يقل به أحد. وأشار البخاريّ إلى أنّ هذه اللفظة وهْمٌ، فإنّه عقّبه بأن قال: قال أبو أسامة في الأخير حتّى تستوي قائماً " , ويمكن أن يحمل - إن كان محفوظاً - على الجلوس للتّشهّد، ويقوّيه رواية إسحاق المذكورة قريباً. وكلام البخاريّ ظاهر في أنّ أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ: " ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً، ثمّ اقعد حتّى تطمئنّ قاعداً، ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً، ثمّ اقعد حتّى تطمئنّ قاعداً، ثمّ افعل ذلك في كلّ ركعة ". وأخرجه البيهقيّ من طريقه , وقال: كذا قال إسحاق بن راهويه عن أبي أسامة، والصّحيح رواية عبيد الله بن سعيد أبي قدامة ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ " ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً، ثمّ ارفع حتّى تستوي قائماً " ثمّ ساقه من طريق يوسف بن موسى كذلك. واستُدل بهذا الحديث. القول الأول: على وجوب الطّمأنينة في أركان الصّلاة، وبه قال الجمهور.

القول الثاني: اشتهر عن الحنفيّة أنّ الطّمأنينة سنّة، وصرّح بذلك كثيرٌ من مصنّفيهم، لكنّ كلام الطّحاويّ كالصّريح في الوجوب عندهم، فإنّه ترجم (مقدار الرّكوع والسّجود)، ثمّ ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله " سبحان ربّي العظيم ثلاثاً في الرّكوع , وذلك أدناه ". قال (¬1): فذهب قومٌ إلى أنّ هذا مقدار الرّكوع والسّجود لا يجزئ أدنى منه، قال: وخالفهم آخرون فقالوا: إذا استوى راكعاً واطمأنّ ساجداً أجزأ، ثمّ قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد. قال ابن دقيق العيد: تكرّر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه , وعلى عدم وجوب ما لَم يذكر، أمّا الوجوب فلتعلّق الأمر به، وأمّا عدمه فليس لمجرّد كون الأصل عدم الوجوب، بل لكون الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر , ويتقوّى ذلك بكونه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما تعلَّقت به الإساءة من هذا المُصلِّي وما لَم تتعلَّق به، فدلَّ على أنّه لَم يقصر المقصود على ما وقعت به الإساءة. قال: فكلّ موضع اختلف الفقهاء في وجوبه - وكان مذكوراً في هذا الحديث - فلنا أن نتمسّك به في وجوبه، وبالعكس. لكن يحتاج أوّلاً إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه والأخذ بالزّائد فالزّائد، ثمّ إن عارض الوجوب أو ¬

_ (¬1) أي الطحاوي رحمه الله.

عدمه دليلٌ أقوى منه عمل به، وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيءٍ لَم يذكر في هذا الحديث قدّمت. قلت: قد امتثلت ما أشار إليه وجمعت طرقه القويّة من رواية أبي هريرة ورفاعة، وقد أمليت الزّيادات التي اشتملت عليها. فممّا لَم يذكر فيه تصريحاً من الواجبات المتّفق عليها: النّيّة، والقعود الأخير ومن المختلف فيه التّشهّد الأخير والصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه، والسّلام في آخر الصّلاة. قال النّوويّ: وهو محمول على أنّ ذلك كان معلوماً عند الرّجل. انتهى. وهذا يحتاج إلى تكملة، وهو ثبوت الدّليل على إيجاب ما ذكر كما تقدّم، وفيه بعد ذلك نظر. قال: وفيه دليل على أنّ الإقامة والتّعوّذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في الإحرام وغيره ووضع اليمنى على اليسرى وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الرّكوع والسّجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ ونحو ذلك ممّا لَم يذكر في الحديث ليس بواجبٍ. انتهى. وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطّرق كما تقدّم بيانه، فيحتاج من لَم يقل بوجوبه إلى دليل على عدم وجوبه كما تقدّم تقريره. واستدل به على تعيّن لفظ التّكبير، خلافاً لِمَن قال يجزئ بكل لفظ

يدلّ على التّعظيم، وقد تقدّمت هذه المسألة في أوّل صفة الصّلاة (¬1). قال ابن دقيق العيد: ويتأيّد ذلك بأنّ العبادات محلّ التّعبّدات، ولأنّ رتب هذه الأذكار مختلفة، فقد لا يتأدّى برتبةٍ منها ما يقصد برتبةٍ أخرى. ونظيره الرّكوع، فإنّ المقصود به التّعظيم بالخضوع، فلو أبدله بالسّجود لَم يجزئ، مع أنّه غاية الخضوع. واستدل به على أنّ قراءة الفاتحة لا تتعيّن. قال ابن دقيق العيد: ووجهه أنّه إذا تيسّر فيه غير الفاتحة فقرأه يكون ممتثلاً فيخرج عن العهدة، قال: والذين عيّنوها , أجابوا بأنّ الدّليل على تعيّنها تقييد للمطلق في هذا الحديث. وهو متعقّب، لأنّه ليس بمطلقٍ من كلّ وجه بل هو مقيّد بقيد التّيسير الذي يقتضي التّخيير، وإنّما يكون مطلقاً لو قال: اقرأ قرآناً. ثمّ قال: اقرأ فاتحة الكتاب. وقال بعضهم: هو بيان للمجمل. وهو متعقّب أيضاً، لأنّ المجمل ما لَم تتّضح دلالته، وقوله " ما تيسّر " متّضح لأنّه ظاهرٌ في التّخيير. قال: وإنّما يقرب ذلك إن جعلت " ما " موصولة، وأريد بها شيء معيّن وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها، فهي المتيسّرة. وقيل: هو محمول على أنّه عرف من حال الرّجل أنّه لا يحفظ الفاتحة , ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسّر. ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة الماضي برقم (80)

وقيل: محمول على أنّه منسوخ بالدّليل على تعيين الفاتحة، ولا يخفى ضعفهما. لكنّه محتمل، ومع الاحتمال لا يترك الصّريح , وهو قوله " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " وقيل: إنّ قوله " ما تيسّر " محمول على ما زاد على الفاتحة جمعاً بينه وبين دليل إيجاب الفاتحة. ويؤيّده الرّواية التي تقدّمت لأحمد وابن حبّان حيث قال فيها " اقرأ بأمّ القرآن، ثمّ اقرأ بما شئت ". واستدل به على وجوب الطّمأنينة في الأركان. واعتذر بعض من لَم يقل به بأنّه زيادة على النّصّ، لأنّ المأمور به في القرآن مطلق السّجود فيصدق بغير طمأنينة، فالطّمأنينة زيادة , والزّيادة على المتواتر بالآحاد لا تعتبر. وعورض: بأنّها ليست زيادة لكن بيان للمراد بالسّجود، وأنّه خالف السّجود اللّغويّ , لأنّه مجرّد وضع الجبهة فبيّنت السّنّة أنّ السّجود الشّرعيّ ما كان بالطّمأنينة. ويؤيّده أنّ الآية نزلت تأكيداً لوجوب السّجود، وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن معه يصلّون قبل ذلك، ولَم يكن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي بغير طمأنينة. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم: وجوب الإعادة على من أخل بشيءٍ من واجبات الصّلاة. وفيه أنّ الشّروع في النّافلة ملزمٌ، لكن يحتمل أن تكون تلك الصّلاة كانت فريضة فيقف الاستدلال. وفيه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحسن التّعليم بغير

تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص، المقاصد، وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه. وفيه تكرار السّلام وردّه وإن لَم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال. وفيه أنّ القيام في الصّلاة ليس مقصوداً لذاته، وإنّما يقصد للقراءة فيه. وفيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه. وفيه التّسليم للعالم والانقياد له والاعتراف بالتّقصير والتّصريح بحكم البشريّة في جواز الخطأ , وفيه أنّ فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن لا ما زادته السّنّة فيندب (¬1). وفيه حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ولطف معاشرته، وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة. وقد استشكل تقرير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له على صلاته وهي فاسدة , على القول بأنّه أخل ببعض الواجبات. وأجاب المازريّ: بأنّه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرّات لاحتمال أن يكون فعله ناسياً أو غافلاً فيتذكّره فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التّقرير الخطأ، بل من باب تحقّق الخطأ. وقال النّوويّ نحوه، قال: وإنّما لَم يعلمه أوّلاً ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصّلاة المجزئة. وقال ابن الجوزيّ: يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 362): في هذا نظرٌ , والصواب ما دلَّت السنة على وجوبه من الوضوء كالمضمضة والاشتنشاق , لأنَّ السنة تفسّر القرآن , وما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مما أمر الله به كما قال الله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله). والله أعلم.

عليه، ورأى أنّ الوقت لَم يفته، فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك. وقال ابن دقيق العيد: ليس التّقرير بدليلٍ على الجواز مطلقاً، بل لا بدّ من انتفاء الموانع. ولا شكّ أنّ في زيادة قبول المتعلم لِمَا يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجّه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التّعليم، لا سيّما مع عدم خوف الفوات، إمّا بناءٍ على ظاهر الحال، أو بوحيٍ خاصّ. وقال التّوربشتيّ: إنّما سكت عن تعليمه أوّلاً , لأنّه لَمّا رجع لَم يستكشف الحال من مورد الوحي، وكأنّه اغترّ بما عنده من العلم فسكت عن تعليمه زجراً له وتأديباً وإرشاداً إلى استكشاف ما استبهم عليه، فلمّا طلب كشف الحال من مورده أرشد إليه. انتهى. لكن فيه مناقشة، لأنّه إن تمّ له في الصّلاة الثّانية والثّالثة لَم يتمّ له في الأولى، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - بدأه لَمّا جاء أوّل مرّة بقوله " ارجع فصل فإنّك لَم تصل " , فالسّؤال واردٌ على تقريره له على الصّلاة الأولى كيف لَم ينكر عليه في أثنائها؟. لكنّ الجواب يصلح بياناً للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك، والله أعلم. وفيه حجّة على من أجاز القراءة بالفارسيّة لكون ما ليس بلسان العرب لا يسمّى قرآناً، قاله عياض. وقال النّوويّ: وفيه وجوب القراءة في الرّكعات كلّها، وأنّ المفتي إذا سئل عن شيء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السّائل يستحبّ له أن يذكره له وإن لَم يسأله عنه , ويكون من باب النّصيحة لا من

الكلام فيما لا معنى له. وموضع الدّلالة منه كونه قال " علمني ". أي: الصّلاة , فعلمه الصّلاة ومقدّماتها. تكميل: بوَّب عليه البخاري (باب أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتمّ الرّكوع بالإعادة). قال الزين بن المنير: هذه من التّراجم الخفيّة، وذلك أنّ الخبر لَم يقع فيه بيان ما نقصه المُصلِّي المذكور، لكنّه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا قال له " ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعاً " إلى آخر ما ذكر له من الأركان اقتضى ذلك تساويها في الحكم لتناول الأمر كلّ فرد منها، فكلّ من لَم يتمّ ركوعه أو سجوده أو غير ذلك ممّا ذكر مأمور بالإعادة. قلت: ووقع في حديث رفاعة بن رافع عند ابن أبي شيبة في هذه القصّة " دخل رجلٌ فصلَّى صلاة خفيفة لَم يتمّ ركوعها ولا سجودها ". فالظّاهر أنّ البخاري أشار بالتّرجمة إلى ذلك.

باب القراءة في الصلاة

باب القراءة في الصّلاة الحديث الثاني والخمسون 101 - عن عبادة بن الصّامت - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: لا صلاة لمن لَم يقرأ بفاتحة الكتاب. (¬1) قوله: (لا صلاة لمن لَم يقرأ بفاتحة الكتاب) زاد الحميديّ عن سفيان (¬2) عن الزهري " فيها " كذا في " مسنده ". وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميديّ، أخرجه البيهقيّ. وكذا لابن أبي عمر عند الإسماعيليّ، ولِقُتَيبة وعثمان بن أبي شيبة عند أبي نعيمٍ في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (723) ومسلم (394) من طرق عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة - رضي الله عنه - به. وعبادة بن الصامت. هو ابن قيس بن أصرم الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الوليد. قال ابن سعد: كان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنويّ، وشهد المشاهد كلّها بعد بدر. وقال ابن يونس: شهد فتح مصر، وكان أمير ربع المدد. وفي الصّحيحين، عن عبادة، قال: أنا من النّقباء الذين بايعوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة. الحديث. قال عبد الصّمد بن سعيد في " تاريخ حمص ": هو أول من ولي قضاء فلسطين. وروى ابن سعد في ترجمته من طريق محمد بن كعب القرظي , أنه ممّن جمع القرآن في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وروى السراج في " تاريخه " عن جنادة: دخلت على عبادة- وكان قد تفقّه في دين اللَّه. وسنده صحيح. وروى ابن سعد في ترجمته , أنه كان طوالا جميلاً جسيماً، ومات بالرّملة سنة 34. وكذا ذكره المدائنيّ، وفيها أرّخه خليفة بن خياط وآخرون، منهم من قال: مات بيت المقدس. وأورد ابن عساكر في ترجمته أخباراً له مع معاوية تدلّ على أنه عاش بعد ولاية معاوية الخلافة، وبذلك جزم الهيثم بن عديّ. وقيل: إنه عاش إلى سنة 45. (¬2) أي ابن عيينة. وقد أخرجه الشيخان من طريقه أيضاً.

" المستخرج ". وهذا يعيّن أنّ المراد القراءة في نفس الصّلاة. قال عياض: قيل يحمل على نفي الذّات وصفاتها، لكنّ الذّات غير منتفيةٍ فيخصّ بدليلٍ خارج. ونوزع في تسليم عدم نفي الذّات على الإطلاق؛ لأنّه إنِ ادّعى أنّ المراد بالصّلاة معناها اللّغويّ فغير مُسلَّمٍ؛ لأنّ ألفاظ الشّارع محمولة على عرفه؛ لأنّه المحتاج إليه فيه لكونه بعث لبيان الشّرعيّات لا لبيان موضوعات اللّغة، وإذا كان المنفيّ الصّلاة الشّرعيّة استقام دعوى نفي الذّات، فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار الإجزاء ولا الكمال؛ لأنّه يؤدّي إلى الإجمال كما نقل عن القاضي أبي بكر وغيره حتّى مال إلى التّوقّف؛ لأنّ نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء فلو قدّر الإجزاء منتفياً لأجل العموم قدّر ثابتاً لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته فيتناقض، ولا سبيل إلى إضمارهما معاً؛ لأنّ الإضمار إنّما احتيج إليه للضّرورة، وهي مندفعةٌ بإضمار فردٍ فلا حاجة إلى أكثر منه، ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد. وفي هذا الأخير نظرٌ؛ لأنّا إنْ سلّمنا تعذّر الحمل على الحقيقة فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السّابق إلى الفهم؛ ولأنّه يستلزم نفي الكمال من غير عكسٍ فيكون أولى. ويؤيّده رواية الإسماعيليّ من طريق العبّاس بن الوليد النّرسيّ أحد

شيوخ البخاريّ عن سفيان بسند البخاري عن الزهري عن محمود بن لبيد عن عبادة بلفظ " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " , وتابعه على ذلك زيادُ بنُ أيّوب أحدُ الأثبات. أخرجه الدّارقطنيّ. وله شاهدٌ من طريق العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان وغيرهما، ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيريّ عن رجلٍ عن أبيه مرفوعاً " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأمّ القرآن " وقد أخرج ابن خزيمة عن محمّد بن الوليد القرشيّ عن سفيان حديث الباب بلفظ " لا صلاة إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب " فيمتنع أن يقال: إنّ قوله " لا صلاة " نفيٌ بمعنى النّهي. أي: لا تصلّوا إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب. ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم عن عائشة مرفوعاً " لا صلاة بحضرة الطّعام " فإنّه في صحيح ابن حبّان بلفظ " لا يُصلِّي أحدكم بحضرة الطّعام " أخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره عن يعقوب بن مجاهد عن القاسم، وابن حبّان من طريق حسين بن عليّ وغيره عن يعقوب به، وأخرج له ابن حبّان أيضاً شاهداً من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. وقد قال بوجوب قراءة الفاتحة في الصّلاة الحنفيّة. لكن بنوا على قاعدتهم أنّها مع الوجوب ليست شرطاً في صحّة الصّلاة؛ لأنّ وجوبها إنّما ثبت بالسّنّة، والذي لا تتمّ الصّلاة إلاَّ به فرضٌ، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى

(فاقرءوا ما تيسّر من القرآن) فالفرض قراءة ما تيسّر، وتعيين الفاتحة إنّما ثبت بالحديث فيكون واجباً يأثم من يتركه وتجزئ الصّلاة بدونه. وإذا تقرّر ذلك لا ينقضي عجبي ممّن يتعمّد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطّمأنينة , فيصلّي صلاة يريد أن يتقرّب بها إلى الله تعالى , وهو يتعمّد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره. واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناءً على أنّ الرّكعة الواحدة تسمّى صلاةً لو تجرّدت. وفيه نظرٌ؛ لأنّ قراءتها في ركعةٍ واحدةٍ من الرّباعيّة مثلاً يقتضي حصول اسم قراءتها في تلك الصّلاة، والأصل عدم وجوب الزّيادة على المرّة الواحدة. والأصل أيضاً عدم إطلاق الكل على البعض؛ لأنّ الظّهر مثلاً كلّها صلاة واحدة حقيقة كما صرّح به في حديث الإسراء حيث سمّى المكتوبات خمساً، وكذا حديث عبادة " خمس صلواتٍ كتبهنّ الله على العباد " وغير ذلك، فإطلاق الصّلاة على ركعةٍ منها يكون مجازاً. قال الشّيخ تقيّ الدّين: وغاية ما في هذا البحث أن يكون في الحديث دلالة مفهومٍ على صحّة الصّلاة بقراءة الفاتحة في كل ركعةٍ واحدةٍ منها، فإن دلَّ دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعةٍ كان مقدّماً. انتهى. وقال بمقتضى هذا البحث الحسن البصريّ. رواه عنه ابن المنذر بإسنادٍ صحيحٍ

ودليل الجمهور قوله - صلى الله عليه وسلم - " وافعل ذلك في صلاتك كلّها " بعد أن أمره بالقراءة، وفي روايةٍ لأحمد وابن حبّان " ثمّ افعل ذلك في كل ركعة " ولعل هذا هو السّرّ في إيراد البخاريّ له عقب حديث عبادة (¬1). واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سواء أسرّ الإمام أم جهر؛ لأنّ صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة إلاَّ إن جاء دليلٌ يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم فيقدّم، قاله الشّيخ تقيّ الدّين. واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقاً كالحنفيّة بحديث " من صلَّى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة " لكنّه حديثٌ ضعيفٌ عند الحفّاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدّارقطنيّ وغيره. واستدل من أسقطها عنه في الجهريّة كالمالكيّة بحديث " وإذا قرأ فأنصتوا " وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعريّ. ولا دلالة فيه. لإمكان الجمع بين الأمرين: فينصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت، وعلى هذا فيتعيّن على الإمام السّكوت في الجهريّة ليقرأ المأموم لئلا يوقعه في ارتكاب النّهي حيث لا ينصت إذا قرأ الإمام. ¬

_ (¬1) أي: أنَّ البخاري ذكر حديث عبادة (حديث الباب) ثم ذكر بعده حديث المسيء في صلاته الذي تقدَّم شرحه.

وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهريّة بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاريّ في " جزء القراءة " والتّرمذيّ وابن حبّان وغيرهما من رواية مكحول عن محمود بن الرّبيع عن عبادة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثقلت عليه القراءة في الفجر، فلمّا فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب، فإنّه لا صلاة لمن لَم يقرأ بها. والظّاهر أنّ حديث الباب مختصر من هذا , وكان هذا سببه , وله شاهدٌ من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنّسائيّ، ومن حديث أنس عند ابن حبّان. وروى عبد الرّزّاق عن سعيد بن جبير قال: لا بدّ من أمّ القرآن، ولكنّ من مضى كان الإمام يسكت ساعة قدر ما يقرأ المأموم بأمّ القرآن (¬1). فائدةٌ: زاد معمر عن الزّهريّ في آخر حديث الباب " فصاعداً " أخرجه النّسائيّ وغيره، واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة. وتعقّب: بأنّه ورد لدفع توهّم قصر الحكم على الفاتحة. قال البخاريّ في " جزء القراءة ": هو نظير قوله " تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً ". وادّعى ابن حبّان والقرطبيّ وغيرهما الإجماع ¬

_ (¬1) ولفظه في المصنف (2789) و (2749) " ولكن من مضى كانوا إذا كبَّر الإمام سكت ساعة لا يقرأ , قدر ما يقرؤون بأم القرآن.

على عدم وجوب قدر زائد عليها. وفيه نظرٌ لثبوته عن بعض الصّحابة ومن بعدهم فيما رواه ابن المنذر وغيره، ولعلهم أرادوا أنّ الأمر استقرّ على ذلك. وأخرج الشيخان حديث أبي هريرة: وإن لَم تزد على أمّ القرآن أجزأت. (¬1) ولابن خزيمة من حديث ابن عبّاسٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قام فصلَّى ركعتين لَم يقرأ فيها إلاَّ بفاتحة الكتاب. وقد ذكر البخاريّ في " صحيحه " حديث أبي هريرة في قصّة المسيء صلاته وموضع الحاجة منه قوله " ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن " , وكأنّه أشار بإيراده عقب حديث عبادة , أنّ الفاتحة إنّما تتحتّم على من يحسنها، وأنّ من لا يحسنها يقرأ بما تيسّر عليه، وأنّ إطلاق القراءة في حديث أبي هريرة مقيّد بالفاتحة كما في حديث عبادة. قال الخطّابيّ: قوله " ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن " ظاهر الإطلاق التّخيير؛ لكنّ المراد به فاتحة الكتاب لمن أحسنها بدليل حديث عبادة، وهو كقوله تعالى (فما استيسر من الهدي) ثمّ عيّنت السّنّة المراد. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح " في " باب ما أسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القراءة وما أخفاه ": وفيه استحباب السّورة أو الآيات مع الفاتحة , وهو قول الجمهور في الصّبح والجمعة والأوليين من غيرهما، وصحّ إيجاب ذلك عن بعض الصّحابة وهو عثمان بن أبي العاص، وقال به بعض الحنفيّة وابن كنانة من المالكيّة، وحكاه القاضي الفرّاء الحنبليّ في الشّرح الصّغير روايةً عن أحمد، وقيل: يستحبّ في جميع الرّكعات وهو ظاهر حديث أبي هريرة هذا، والله أعلم.

وقال النّوويّ: قوله " ما تيسّر " محمول على الفاتحة فإنّها متيسّرة، أو على ما زاد من الفاتحة بعد أن يقرأها، أو على من عجَزَ عن الفاتحة. وتعقّب: بأنّ قوله " ما تيسّر " لا إجمال فيه حتّى يبيّن بالفاتحة، والتّقييد بالفاتحة ينافي التّيسير الذي يدلّ عليه الإطلاق فلا يصح حمله عليه. وأيضاً فسورة الإخلاص متيسّرة - وهي أقصر من الفاتحة - فلم ينحصر التّيسير في الفاتحة، وأمّا الحمل على ما زاد فمبنيّ على تسليم تعيّن الفاتحة وهي محلّ النّزاع. وأمّا حمله على من عجَزَ فبعيد. والجواب القويّ عن هذا. أنّه ورد في حديث المسيء صلاته. تفسير ما تيسّر بالفاتحة كما أخرجه أبو داود من حديث رفاعة بن رافع رفعه: وإذا قمت فتوجّهت فكبّر , ثمّ اقرأ بأمّ القرآن وبما شاء الله أن تقرأ، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك. الحديث. ووقع فيه في بعض طرقه " ثمّ اقرأ إن كان معك قرآن، فإن لَم يكن فاحمد الله وكبّر وهلل ". فإذا جمع بين ألفاظ الحديث. كان تعيّن الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن، فإن عجَزَ عن تعلّمها وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسّر، وإلا انتقل إلى الذّكر. ويحتمل: الجمع أيضاً أن يقال: المراد بقوله " فاقرأ ما تيسّر معك من القرآن " أي: بعد الفاتحة، ويؤيّده حديث أبي سعيد عند أبي داود بسندٍ قويٍّ: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر.

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون 102 - عن أبي قتادة الأنصاريّ - رضي الله عنه - , قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الرّكعتين الأوليين من صلاة الظّهر بفاتحة الكتاب وسورتين , يطوّل في الأولى , ويقصّر في الثّانية , ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين , يطوّل في الأولى , ويقصّر في الثّانية , وفي الرّكعتين الأخريين بأمّ الكتاب. وكان يطوّل في الرّكعة الأولى من صلاة الصّبح , ويقصّر في الثّانية. (¬1) قوله: (عن أبي قتادة) الحارث بن ربعي. تقدَّمت ترجمته. (¬2) قوله: (الأوليين) بتحتانيّتين تثنية الأولى. قوله: (صلاة الظّهر) فيه جواز تسمية الصّلاة بوقتها. وفيه إثبات القراءة في الظهر والعصر وأنّها تكون سرّاً خلافاً لابن عبّاسٍ , فكان يشكّ في ذلك تارةً وينفي القراءة أخرى وربّما أثبتها. أمّا نفيه , فرواه أبو داود وغيره من طريق عبد الله بن عبيد الله بن عبّاسٍ عن عمّه , أنّهم دخلوا عليه , فقالوا له: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظّهر والعصر؟ قال: لا. قيل: لعله كان يقرأ في نفسه؟ قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (725 , 728 , 743 , 745 , 746) ومسلم (451) من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي قتادة - رضي الله عنه -. (¬2) في كتاب الطهارة رقم (17).

: هذه شرٌّ من الأولى، كان عبداً مأموراً بلغ ما أمر به. وأمّا شكّه , فرواه أبو داود أيضاً والطّبريّ من رواية حصينٍ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ قال: ما أدري أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظّهر والعصر أم لا. وقد أثبت قراءته فيهما خبّابٌ (¬1) وأبو قتادة وغيرهما، فروايتهم مقدّمةٌ على من نفى، فضلاً على من شكّ. ولأنّ ابن عباس احتجّ بقوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ) فيقال له: قد ثبت أنّه قرأ فيلزمك أن تقرأ، والله أعلم وقد جاء عن ابن عبّاسٍ إثبات ذلك أيضاً رواه أيّوب عن أبي العالية البرَّاء (¬2) قال: سألت ابن عبّاسٍ: أقرأُ في الظّهر والعصر؟ , قال: هو إمامك اقرأ منه ما قل أو كثر. أخرجه ابن المنذر والطّحاويّ وغيرهما. قوله: (وسورتين) أي: في كل ركعة سورة كما في رواية البخاري " يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة ". واستدل به على أنّ قراءة سورةٍ أفضل من قراءة قدرها من طويلةٍ , قاله النّوويّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (746) عن أبي معمر، قال: قلنا لخبَّاب: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بِمَ كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لحيته. (¬2) هو بتشديد الراء، كان يبري النبل، واسمه زياد , وقيل غير ذلك، وهو غير أبي العالية الرياحي، وقد اشتركا في الرواية عن ابن عباس. قاله ابن حجر في الفتح.

وزاد البغويّ: ولو قصرت السّورة عن المقروء، كأنّه مأخوذٌ من قوله كان يفعل؛ لأنّها تدلّ على الدّوام أو الغالب. قوله: (يطوّل في الأولى ويقصّر في الثّانية) قال الشّيخ تقيّ الدّين: كان السّبب في ذلك أنّ النّشاط في الأولى يكون أكثر فناسب التّخفيف في الثّانية حذراً من الملل. انتهى. وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن يحيى. في آخر هذا الحديث: فظننّا أنّه يريد بذلك أن يدرك النّاس الرّكعة، ولأبي داود وابن خزيمة نحوه من رواية أبي خالد عن سفيان عن معمرٍ. واستدل به على استحباب تطويل الأولى على الثّانية , وهو ظاهر الحديث المذكور في الباب , وعن أبي حنيفة: يطوّل في أولى الصّبح خاصّةً. وقال البيهقيّ في الجمع بين أحاديث المسألة: يطوّل في الأولى إن كان ينتظر أحداً , وإلاَّ فليسوّ بين الأوليين. وروى عبد الرّزّاق نحوه عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ قال: إنّي لأحبّ أن يطوّل الإمام الأولى من كل صلاةٍ حتّى يكثر النّاس، فإذا صليت لنفسي فإنّي أحرص على أن أجعل الأوليين سواءً. وذهب بعض الأئمّة إلى استحباب تطويل الأولى من الصّبح دائماً، وأمّا غيرها فإن كان يترجّى كثرة المأمومين ويبادر هو أوّل الوقت فينتظر وإلا فلا. وذكر في حكمة اختصاص الصّبح بذلك , أنّها تكون عقب النّوم

والرّاحة , وفي ذلك الوقت يواطئ السّمع واللسان القلب لفراغه وعدم تمكّن الاشتغال بأمور المعاش وغيرها منه، والعلم عند الله. وجمع الشيخ تقي الدين بين حديث أبي قتادة وبين حديث سعدٍ حيث قال: أَمُدُّ في الأوليين " (¬1) أنّ المراد تطويلهما على الأخريين لا التّسوية بينهما في الطّول. وقال من استحبّ استواءهما: إنّما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتّعوّذ، وأمّا في القراءة فهما سواء. ويدلّ عليه حديث أبي سعيد عند مسلم: كان يقرأ في الظّهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية , وفي روايةٍ لابن ماجه: أنّ الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصّحابة. وادّعى ابن حبّان. أنّ الأولى إنّما طالت على الثّانية بالزّيادة في التّرتيل فيها مع استواء المقروء فيهما , وقد روى مسلم من حديث حفصة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتّل السّورة حتّى تكون أطول من أطول منها. واستدل به بعض الشّافعيّة على جواز تطويل الإمام في الرّكوع لأجل الدّاخل. (¬2) قال القرطبيّ: ولا حجّة فيه؛ لأنّ الحكمة لا يعلل بها لخفائها أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الصحيح " (770) ومسلم (453) عن جابر بن سمرة، قال: قال عمر لسعد: لقد شكوك (أي أهل الكوفة) في كل شيء حتى الصلاة، قال: أما أنا، فأمدُّ في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديتُ به من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صدقت ذاك الظن بك أو ظني بك. (¬2) تقدَّم نقل الخلاف في هذه المسألة في شرح حديث رقم (94)

لعدم انضباطها؛ ولأنّه لَم يكن يدخل في الصّلاة يريد تقصير تلك الرّكعة ثمّ يطيلها لأجل الآتي، وإنّما كان يدخل فيها ليأتي بالصّلاة على سنّتها من تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع فامتنع الإلحاق. انتهى. وقد ذكر البخاريّ في " جزء القراءة " كلاماً معناه: أنّه لَم يرد عن أحدٍ من السّلف في انتظار الدّاخل في الرّكوع شيء. ولَم يقع في بعض روايات حديث أبي قتادة هذا ذكر القراءة في الأخريين، فتمسّك به بعض الحنفيّة على إسقاطها فيهما؛ لكنّه ثبت في حديثه من وجهٍ آخر كما في الصحيح. قوله: (ويُسمع الآية أحياناً) في رواية لهما " ويسمعنا ". وللنّسائيّ من حديث البراء: كنّا نُصلِّي خلف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الظّهر , فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذّاريات , ولابن خزيمة من حديث أنس نحوه , لكن قال: بسبّح اسم ربّك الأعلى , وهل أتاك حديث الغاشية. واستدل به على جواز الجهر في السّرّيّة , وأنّه لا سجود على من فعل ذلك , خلافاً لِمَن قال ذلك من الحنفيّة وغيرهم , سواء قلنا كان يفعل ذلك عمداً لبيان الجواز , أو بغير قصدٍ للاستغراق في التّدبّر. وفيه حجّةٌ على من زعم أنّ الإسرار شرط لصحّة الصّلاة السّرّيّة. وقوله " أحياناً " يدلّ على تكرّر ذلك منه. وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في

الإخبار دون التّوقّف على اليقين؛ لأنّ الطّريق إلى العلم بقراءة السّورة في السّرّيّة لا يكون إلاَّ بسماع كلها، وإنّما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهريّة، وكأنّه مأخوذٌ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها. ويحتمل: أن يكون الرّسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخبرهم عقب الصّلاة دائماً أو غالباً بقراءة السّورتين، وهو بعيدٌ جدّاً. والله أعلم. قوله: (وفي الركعتين الأخريين بأمّ الكتاب) ولمسلم " بفاتحة الكتاب " يعني بغير زيادة , وسكت عن ثالثة المغرب رعايةً للفظ الحديث مع أنَّ حكمها حكم الأخريين من الرباعية. ويحتمل: أن يكون لَم يذكرها. لِما رواه مالك من طريق الصنابحي , أنه سمع أبا بكر الصديق يقرأ فيها (ربنا لا تزغ قلوبنا .. الآية). وفيه التّنصيص على قراءة الفاتحة في كل ركعةٍ. قال ابن خزيمة: قد كنت زماناً أحسب أنّ هذا اللفظ لَم يروه عن يحيى غير همّامٍ. وتابعه أبان (¬1) , إلى أن رأيت الأوزاعيّ قد رواه أيضاً عن يحيى. يعني أنّ أصحاب يحيى اقتصروا على قوله " كان يقرأ في الأوّليّين بأمّ الكتاب وسورةٍ " كما تقدّم عنه من طرقٍ , وأنّ همّاماً زاد هذه ¬

_ (¬1) رواية همَّام أخرجها الشيخان. وهي التي أوردها صاحب العمدة هنا. أمَّا متابعة أبان بن يزيد العطار فهي عند مسلم. والحديث أخرجه الشيخان من طرق أخرى عن يحيى بن أبي كثير. دون هذه الزيادة. كما أشار إليه الشارح. وإخراجُ الشيخين لها مما يُطمْئن لثبوتها.

الزّيادة , وهي الاقتصار على الفاتحة في الأخريين , فكان يخشى شذوذها إلى أن قويت عنده بمتابعة من ذُكر. لكنّ أصحاب الأوزاعيّ لَم يتّفقوا على ذكرها كما أخرجه البخاري عن محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي به. دونها.

الحديث الرابع والخمسون

الحديث الرابع والخمسون 103 - عن جبير بن مطعمٍ - رضي الله عنه - , قال: سمعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطّور. (¬1) قوله: (عن جبير بن مطعم) ابن عدي (¬2) قوله: (يقرأ في المغرب بالطّور) كذا في رواية ابن عساكر " يقرأ " وكذا هو في الموطّأ وعند مسلم , وللبخاري في رواية " قرأ ". وزاد البخاري من طريق محمّد بن عمرو عن الزّهريّ " وكان جاء في أسارى بدر " ولابن حبّان من طريق محمّد بن عمرو عن الزّهريّ " في فداء أهل بدر ". وزاد الإسماعيليّ من طريق معمر " وهو يومئذٍ مشرك ". وللبخاري أيضاً من طريق معمر أيضاً في آخره قال: وذلك أوّل ما وقر الإيمان في قلبي " وللطّبرانيّ من رواية أسامة بن زيد عن الزّهريّ نحوه. وزاد " فأخذني من قراءته الكرب " , ولسعيد بن منصور عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (731 , 2885 , 3798 , 4573) ومسلم (463) من طرق عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه. (¬2) ابن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي، وأمه أم حبيب بنت سعيد. وقيل: أم جميل بنت سعيد من بني عامر بن لؤيّ. كان من أكابر قريش وعلماء النّسب. وأسلم جبير بين الحديبيّة والفتح، وقيل: في الفتح. وقال البغويّ: أسلم قبل فتح مكة. ومات في خلافة معاوية. وقال ابن إسحاق: أخبرني يعقوب بن عتبة عن شيخ من الأنصار , أنَّ عمر حين أتي بنسب النعمان دعا بجبير بن مطعم، وكان أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة، قال: وقال جبير: أخذتُ النسب عن أبي بكر الصّديق، وكان أبو بكر أنسب العرب. مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين. انتهى من الإصابة بتجوز.

هشيمٍ عن الزّهريّ: فكأنّما صدع قلبي حين سمعت القرآن. واستدل به على صحّة أداء ما تحمّله الرّاوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أدّاه في حال العدالة. وستأتي الإشارة إلى زوائد أخرى فيه لبعض الرّواة قوله: (بالطّور) أي: بسورة الطّور. وقال ابن الجوزيّ: يحتمل أن تكون الباء بمعنى من كقوله تعالى (عيناً يشرب بها عباد الله) وسنذكر ما فيه قريباً. قال التّرمذيّ: ذُكر عن مالكٍ أنّه كره أن يقرأ في المغرب بالسّور الطّوال نحو الطّور والمرسلات. وقال الشّافعيّ: لا أكره ذلك بل أستحبّه. وكذا نقله البغويّ في شرح السّنّة عن الشّافعيّ، والمعروف عند الشّافعيّة أنّه لا كراهية في ذلك ولا استحباب. وأمّا مالكٌ فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمرّ العمل على تطويل القراءة في الصّبح وتقصيرها في المغرب، والحقّ عندنا أنّ ما صحّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك , وثبتت مواظبته عليه فهو مستحبٌّ، وما لَم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة قيه. قلت: الأحاديث التي أخرجها البخاريّ في القراءة في المغرب ثلاثةٌ مختلفة المقادير , لأنّ الأعراف من السّبع الطّوال، والطّور من طوال المفصّل، والمرسلات من أوساطه. وفي ابن حبّان من حديث ابن عمر ,

أنّه قرأ بهم في المغرب بـ (الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله). ولَم أر حديثاً مرفوعاً فيه التّنصيص على القراءة فيها بشيءٍ من قصار المفصّل , إلاَّ حديثاً في ابن ماجه عن ابن عمر (¬1) , نصّ فيه على الكافرون والإخلاص، ومثله لابن حبّان عن جابر بن سمرة. فأمّا حديث ابن عمر. فظاهر إسناده الصّحّة إلاَّ أنّه معلولٌ، قال الدّارقطنيّ: أخطأ فيه بعض رواته. وأمّا حديث جابر بن سمرة. ففيه سعيد بن سماكٍ وهو متروكٌ. والمحفوظ أنّه قرأ بهما في الرّكعتين بعد المغرب. واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسارٍ عن أبي هريرة , أنّه قال: ما رأيت أحداً أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلانٍ، قال سليمان: فكان يقرأ في الصّبح بطوال المفصّل وفي المغرب بقصار المفصّل. الحديث. أخرجه النّسائيّ وصحّحه ابن خزيمة وغيره. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن في الاستدلال به نظرٌ. نعم. حديث رافعٍ , أنّهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب. (¬2) يدلّ ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (833) حدثنا أحمد بن بديل قال: حدثنا حفص بن غياث قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد ". وصوَّب الدارقطني في " العلل " أنه عن ابن عمر , كان يقرأ ذلك في العشاء الآخرة، ولَم يرفعه. (¬2) أخرجه البخاري (559) ومسلم (637) عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: كنا نُصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينصرف أحدنا , وإنه ليُبصر مواقع نبله. قال ابن حجر في " الفتح ": قوله (وإنه ليبصر مواقع نبله) بفتح النون وسكون الموحدة. أي: المواضع التي تصل إليها سهامه إذا رمى بها , وروى أحمد في " مسنده " من طريق علي بن بلال عن ناسٍ من الأنصار. قالوا: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب ثم نرجع فنترامى حتى نأتي ديارنا فما يخفى علينا مواقع سهامنا. إسناده حسن. والنبل: هي السهام العربية. وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. قاله ابن سيده. وقيل: واحدها نبلة مثل تمر وتمرة. ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باقٍ. انتهى

على تخفيف القراءة فيها. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً يطيل القراءة في المغرب. إمّا لبيان الجواز. وإمّا لعلمه بعدم المشقّة على المأمومين. وليس في حديث جبير بن مطعمٍ دليلٌ على أنّ ذلك تكرّر منه. وأمّا حديث زيد بن ثابتٍ (¬1) , ففيه إشعارٌ بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصّل، ولو كان مروان يعلم أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - واظب على ذلك لاحتجّ به على زيدٍ، لكن لَم يرد زيدٌ منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطّوال، وإنّما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث أمّ الفضل (¬2) إشعارٌ بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصّحّة بأطول من المرسلات لكونه كان في حال شدّة مرضه وهو مظنّة التّخفيف، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (764) من طريق عروة عن مروان بن الحكم، قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار؟ وقد سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين. (¬2) أخرجه البخاري (763) ومسلم (462) عن ابن عباس - رضي الله عنه - , أنه قال: إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ: {والمرسلات عرفا} , فقالت: يا بُني، والله لقد ذكّرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بِها في المغرب.

وهو يردّ على أبي داود ادّعاء نسخ التّطويل , لأنّه روى عقب حديث زيد بن ثابتٍ من طريق عروة , أنّه كان يقرأ في المغرب بالقصار. قال: وهذا يدلّ على نسخ حديث زيدٍ، ولَم يبيّن وجه الدّلالة. وكأنّه لَمّا رأى عروةَ راوي الخبر عمل بخلافه , حمله على أنّه اطّلع على ناسخه، ولا يخفى بُعد هذا الحمل، وكيف تصحّ دعوى النّسخ , وأمّ الفضل تقول: إنّ آخر صلاةٍ صلاها بهم قرأ بالمرسلات؟. قال ابن خزيمة في " صحيحه ": هذا من الاختلاف المباح، فجائزٌ للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصّلوات كلها بما أحبّ، إلاَّ أنّه إذا كان إماماً استحبّ له أن يخفّف في القراءة كما تقدّم. انتهى. وهذا أولى من قول القرطبيّ: ما ورد في مسلمٍ وغيره من تطويل القراءة فيما استقرّ عليه التّقصير أو عكسه فهو متروكٌ. وادّعى الطّحاويّ: أنّه لا دلالة في شيءٍ من الأحاديث الثّلاثة (¬1) على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنّه قرأ بعض السّورة. ثمّ استدل لذلك بما رواه من طريق هشيمٍ عن الزّهريّ في حديث جبير بلفظ: فسمعته يقول (إنّ عذاب ربّك لواقعٌ) قال: فأخبر أنّ الذي سمعه من هذه السّورة , هي هذه الآية خاصّةً. انتهى. وليس في السّياق ما يقتضي قوله " خاصّةً " مع كون رواية هشيمٍ عن الزّهريّ بخصوصها مضعّفةً، بل جاء في روايات أخرى ما يدلّ ¬

_ (¬1) يعني: حديث زيد بن ثابت في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمغرب في الأعرف , وحديث أم الفضل في قراء المرسلات وحديث الباب

على أنّه قرأ السّورة كلها، فعند البخاريّ في التّفسير " سمعته يقرأ في المغرب بالطّور، فلمّا بلغ هذه الآية (أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون) الآيات إلى قوله: (المسيطرون) كاد قلبي يطير ". وللقاسم بن أصبغ. في رواية أسامة ومحمّد بن عمرٍو المتقدّمتين " سمعته يقرأ والطّور وكتابٍ مسطورٍ " ومثله لابن سعدٍ، وزاد في أخرى " فاستمعت قراءته حتّى خرجت من المسجد ". ثمّ ادّعى الطّحاويّ: أنّ الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابتٍ، وكذا أبداه الخطّابيّ احتمالاً. وفيه نظرٌ , لأنّه لو كان قرأ بشيءٍ منها يكون قدر سورةٍ من قصار المفصّل لَمَا كان لإنكار زيدٍ معنىً. وقد روى حديثَ زيدٍ هشامُ بنُ عروة عن أبيه عنه , أنّه قال لمروان: إنّك لتخفّ القراءة في الرّكعتين من المغرب , فوالله لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بسورة الأعراف في الرّكعتين جميعاً. أخرجه ابن خزيمة. واختلف على هشام في صحابيّه. والمحفوظ عن عروة أنّه زيد بن ثابتٍ، وقال أكثر الرّواة: عن هشام عن زيد بن ثابتٍ أو أبي أيّوب، وقيل: عن عائشة. أخرجه النّسائيّ مقتصراً على المتن دون القصّة. واستدل به الخطّابيّ وغيره على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشّفق. وفيه نظرٌ , لأنّ مَن قال: إنّ لها وقتاً واحداً لَم يحدّه بقراءةٍ معيّنةٍ , بل

قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أوّل غروب الشّمس، وله أن يمدّ القراءة فيها , ولو غاب الشّفق. واستشكل المحبّ الطّبريّ إطلاق هذا، وحمله الخطّابيّ قبله على أنّه يوقع ركعةً في أوّل الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشّفق، ولا يخفى ما فيه، لأنّ تعمّد إخراج بعض الصّلاة عن الوقت ممنوعٌ، ولو أجزأت فلا يحمل ما ثبت عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. واختلف في المراد بالمفصّل , مع الاتّفاق على أنّ منتهاه آخر القرآن. هل هو من أوّل الصّافّات أو الجاثية أو القتال أو الفتح أو الحجرات أو ق أو الصّفّ أو تبارك أو سبّح أو الضّحى إلى آخر القرآن؟. أقوالٌ أكثرها مستغربٌ. اقتصر في شرح المهذّب على أربعةٍ من الأوائل سوى الأوّل والرّابع، وحكى الأوّلَ والسّابعَ والثّامنَ ابنُ أبي الصّيف اليمنيّ، وحكى الرّابعَ والثّامنَ الدّزْماريّ (¬1) في " شرح التّنبيه ". وحكى التّاسعَ المرزوقيّ في شرحه، وحكى الخطّابيّ والماورديّ العاشر، والرّاجح الحجرات (¬2) ذكره النّوويّ. ¬

_ (¬1) أحمد بن علي بن كشاسب أبو العباس. والدزماري نسبة إلى دزمار قلعة في أذر بيجان. قال ابن حجر في " الفتح ": وهو بزاي ساكنة وقبل ياء النسب راء مهملة. قال السبكي في طبقات الشافعية: توفّي فِي سَابِع عشر شهر ربيع الآخر سنة 643 (¬2) قال الشيخ ابن باز (2/ 323): هذا فيه نظرٌ , والراجح أنَّ أوله (ق) كما جزم بذلك الشارح كما تقدم , ويدلُّ عليه حديث أوس بن حذيفة في تحزيب الصحابة للقران. أخرجه أحمد وأبو داود وآخرون. والله أعلم

ونقل المحبّ الطّبريّ قولاً شاذّاً , أنّ المفصّل جميع القرآن. وأمّا ما أخرجه الطّحاويّ من طريق زرارة بن أوفى قال: أقرأني أبو موسى كتاب عمر إليه: اقرأ في المغرب آخر المفصّل. وآخر المفصّل من (لَم يكن) إلى آخر القرآن , فليس تفسيراً للمفصّل بل لآخره، فدلَّ على أنّ أوّله قبل ذلك.

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون 104 - عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان في سفرٍ , فصلَّى العشاء الآخرة , فقرأ في إحدى الرّكعتين بـ (التّين والزّيتون) فما سمعتُ أحداً أحسن صوتاً أو قراءةً منه. (¬1) قوله: (في سفرٍ) زاد الإسماعيليّ: فصلَّى العشاء ركعتين. قوله: (في إحدى الرّكعتين) في رواية النّسائيّ " في الرّكعة الأولى ". وقد كثر سؤال بعض النّاس: هل قرأ بها في الرّكعة الأولى أو الثّانية؟ , أو قرأ فيهما معاً. كأن يقول أعادها في الثّانية؟ , وعلى أن يكون قرأ غيرها فهل عُرف؟. وما كنت أستحضر لذلك جواباً، إلى أن رأيت في " كتاب الصّحابة لأبي عليّ بن السّكن " في ترجمة زرعة بن خليفة - رجل من أهل اليمامة - أنّه قال: سمعنا بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأتيناه , فعرض علينا الإسلام فأسلَمْنا وأَسَهم لنا، وقرأ في الصّلاة بـ (التّين والزّيتون) و (إنّا أنزلناه في ليلة القدر) ". فيمكن - إن كانت هي الصّلاة التي عيّن البراء بن عازب أنّها العشاء - أن يقال: قرأ في الأولى بالتّين وفي الثّانية بالقدر. ويحصل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (733 , 735 , 4669 , 7107) ومسلم (464) من طرق عن عدي بن ثابت عن البراء - رضي الله عنه -.

بذلك جواب السّؤال. ويقوّي ذلك , أنّا لا نعرف في خبر من الأخبار , أنّه قرأ بالتّين والزّيتون إلاَّ في حديث البراء ثمّ حديث زرعة هذا. (¬1) قوله: (بالتّين) أي بسورة التّين، وللبخاري " والتّين " على الحكاية. وإنّما قرأ في العشاء بقصار المفصّل لكونه كان مسافراً , والسّفر يطلب فيه التّخفيف، وحديث أبي هريرة " أنه قرأ في العتمة، إذا السماء انشقت، فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - , فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه " (¬2) , محمولٌ على الحضر , فلذلك قرأ فيها بأوساط المفصّل. قوله: (التين والزيتون) ذكر البخاري معلَّقاً , ووصله الفريابيّ من طريق مجاهد في قوله: (والتّين والزّيتون) قال: الفاكهة التي تأكل النّاس. (وطور سينين) الطّور الجبل وسينين المبارك ". وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عبّاس، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عبّاس مثله، ومن طريق العوفيّ عن ابن عبّاس قال: التّين مسجد نوح الذي بني ¬

_ (¬1) جاء عند ابن أبي شيبة وعبد حميد عن عبد الله بن يزيد , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها في المغرب , وعند إسحاق بن راهوية عن عبادة بن الصامت , أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأها في العشاء. وفي سندهما ضعف. انظر إتحاف المهرة للبوصيري (2/ 53) (¬2) أخرجه البخاري (766) ومسلم (578) عن أبي رافع , قال: صليت مع أبي هريرة صلاة ... العتمة. فقرأ .. " الحديث

على الجوديّ. ومن طريق الرّبيع بن أنس قال: التّين جبل عليه التّين والزّيتون جبل عليه الزّيتون. ومن طريق قتادة: الجبل الذي عليه دمشق. ومن طريق محمّد بن كعب قال: مسجد أصحاب الكهف، والزّيتون مسجد إيلياء. ومن طريق قتادة: جبل عليه بيت المقدس. قوله: (فما سمعت أحداً أحسن صوتاً (¬1) أو قراءةً منه) قال ابن المنير: فيه وصف التّلاوة بالتّحسين والتّرجيع والخفض والرّفع , ومقارنة الأحوال البشريّة. كقول عائشة: يقرأ القرآن في حجري. وأنا حائض. فكلّ ذلك يحقّق أنّ التّلاوة فعل القارئ , وتتّصف بما تتّصف به الأفعال , ويتعلق بالظّروف الزّمانيّة والمكانيّة. انتهى ويؤيّده ما قال في كتاب " خلق أفعال العباد " بعد أن أخرج حديث " زيّنوا القرآن بأصواتكم " من حديث البراء , وعلَّقه من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، وذكر حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا أبا موسى لقد أوتيت من مزامير آل داود. (¬2) وأخرجه من حديث البراء بلفظ " سمع أبا موسى يقرأ , فقال: كأنّ هذا من ¬

_ (¬1) روى الترمذي في " الشمائل " (321) عن قتادة قال: ما بعث الله نبياً إلاَّ حسنَ الوجه حسنَ الصوت , وكان نبيكم حسنَ الوجه حسنَ الصوت , وكان لا يرجع. قال العراقي في " تخريج أحاديث الإحياء " (2/ 227): ورويناه متصلاً في الغيلانيات من رواية قتادة عن أنس. والصواب الأول , قاله الدارقطني , ورواه ابن مردوية في " التفسير " من حديث علي بن أبي طالب. وطرقه كلها ضعيفة. انتهى (¬2) أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793).

أصوات آل داود ". ثمّ قال: ولا ريب في تخليق مزامير آل داود وندائهم. لقوله تعالى (وخلق كلّ شيء) ثمّ ذكر حديث عائشة " الماهر بالقرآن مع السّفرة " (¬1) الحديث، وحديث أنس , أنّه سئل عن قراءة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: كان يمدّ مدّاً " (¬2) , وحديث قطبة بن مالك , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة الفجر (والنّخل باسقات لها طلع نضيد) يمدّ بها صوته. (¬3) ثمّ قال: فبيّن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ أصوات الخلق وقراءتهم مختلفة , بعضها أحسن من بعض وأزين وأحلى وأرتل وأمهر وأمدّ وغير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4653) ومسلم (798). (¬2) وأخرجه أيضاً في صحيحه (4758). (¬3) وأخرجه مسلم في الصحيح (457). دون قوله (يمد بها صوته).

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون 105 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سريّةٍ فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم , فيختم بـ (قل هو الله أحدٌ) , فلمّا رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: سلوه لأيّ شيءٍ صنع ذلك؟ فسألوه. فقال: لأنّها صفة الرّحمن عزّ وجل , فأنا أحبّ أن أقرأ بها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبروه: أنّ الله تعالى يحبّه. (¬1) قوله: (بعث رجلاً على سريّة) في البخاري معلقاً. وقال عبيد الله: عن ثابت، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، كان رجلٌ من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباء، وكان كلَّما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح: بـ (قل هو الله أحد) حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة .. الحديث. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6940) ومسلم (813) من طريق سعيد بن أبي هلال , أنَّ أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن، حدثه عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة به. (¬2) وتمامه (.. فكلَّمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما تقرأ بها وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلمَّا أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال: يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها أدخلك الجنة. ذكره في كتاب الصلاة باب الجمع بين السورتين في الصلاة. قال في " الفتح " (2/ 257): حديثه هذا وصله التّرمذيّ والبزّار عن البخاريّ عن إسماعيل بن أبي أويسٍ , والبيهقيّ من رواية محرز بن سلمة كلاهما عن عبد العزيز الدّراورديّ عنه بطوله. قال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من حديث عبيد الله عن ثابتٍ , قال: وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابتٍ فذكر طرفاً من آخره. وذكر الطّبرانيّ في الأوسط أنّ الدّراورديّ تفرّد به عن عبيد الله. وذكر الدّارقطنيّ في العلل , أنّ حمّاد بن سلمة خالف عبيد الله في إسناده , فرواه عن ثابتٍ عن حبيب بن سبيعة مرسلاً. قال: وهو أشبه بالصّواب , وإنّما رجّحه لأنّ حمّاد بن سلمة مقدّمٌ في حديث ثابتٍ , لكنّ عبيد الله بن عمر حافظٌ حجّةٌ , وقد وافقه مباركٌ في إسناده , فيحتمل أن يكون لثابتٍ فيه شيخان. انتهى

قوله " كان رجلٌ من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباءٍ " , هو كلثوم بن الهدم. رواه ابن منده في " كتاب التّوحيد " من طريق أبي صالح عن ابن عبّاسٍ. كذا أورده بعضهم. والهدم. بكسر الهاء وسكون الدّال , وهو من بني عمرو بن عوفٍ سكّان قباءٍ , وعليه نزل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين قدم في الهجرة إلى قباءٍ. قيل: وفي تعيين المبهم به هنا نظرٌ , لأنّ في حديث عائشة في هذه القصّة , أنّه كان أمير سريّةٍ , وكلثوم بن الهدم مات في أوائل ما قدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة. فيما ذكره الطّبريّ وغيره من أصحاب المغازي , وذلك قبل أن يبعث السّرايا. ثمّ رأيت بخطّ بعض من تكلم على رجال العمدة , كلثوم بن زهدمٍ , وعزاه لابن منده , لكن رأيت أنا بخطّ الحافظ رشيد الدّين العطّار في " حواشي مبهمات الخطيب " نقلاً عن " صفة التّصوّف " لابن طاهرٍ. أخبرنا عبد الوهّاب بن أبي عبد الله بن منده عن أبيه. فسمّاه كرز بن زهدمٍ. فالله أعلم

وعلى هذا. فالذي كان يؤمّ في مسجد قباءٍ غير أمير السّريّة. ويدلّ على تغايرهما. أولاً. أنّ في رواية أنس , أنّه كان يبدأ بـ (قل هو الله أحدٌ) , وأمير السّريّة كان يختم بها. ثانياً. في حديث أنس , أنّه كان يصنع ذلك في كل ركعةٍ , ولَم يصرّح بذلك في قصّة الآخر. ثالثاً. في حديث أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سأله , وأمير السّريّة أمر أصحابه أن يسألوه. رابعاً. في حديث أنس , أنّه قال: إنّه يحبّها فبشّره بالجنّة , وأمير السّريّة قال: إنّها صفة الرّحمن , فبشّره بأنّ الله يحبّه. والجمع بين هذا التّغاير كله ممكنٌ , لولا ما تقدّم من كون كلثوم بن الهدم مات قبل البعوث والسّرايا. وأمّا من فسّره بأنّه قتادة بن النّعمان فأبعد جدّاً , فإنّ في قصّة قتادة , أنّه كان يقرؤها في الليل يردّدها , ليس فيه أنّه أمّ بها لا في سفرٍ ولا في حضرٍ , ولا أنّه سئل عن ذلك ولا بشّر. قوله: (فيختم بـ قل هو الله أحد) قال ابن دقيق العيد: هذا يدلّ على أنّه كان يقرأ بغيرها , ثمّ يقرؤها في كلّ ركعة وهذا هو الظّاهر، ويحتمل: أن يكون المراد أنّه يختم بها آخر قراءته فيختصّ بالرّكعة الأخيرة، وعلى الأوّل فيؤخذ منه جواز الجمع بين سورتين في ركعة. انتهى

وأخرج البخاري عن أبي وائل، قال: جاء رجلٌ إلى ابن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذَّاً كهذّ الشعر، لقد عرفت النظائر (¬1) التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة ". ففيه الجمع بين السّور , لأنّه إذا جمع بين السّورتين ساغ الجمع بين ثلاثٍ فصاعداً لعدم الفرق. وقد روى أبو داود وصحَّحه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن شقيقٍ , قال: سألت عائشة , أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين السّور؟ قالت: نعم من المفصّل. ولا يخالف هذا ما جاء أنّه جمع بين البقرة وغيرها من الطّوال (¬2) , لأنّه يحمل على النّادر. وقال عياض: في حديث ابن مسعودٍ هذا. يدلّ على أنّ هذا القدر كان قدر قراءته غالباً , وأمّا تطويله فإنّما كان في التّدبّر والتّرتيل , وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعةٍ فكان نادراً. قلت: لكن ليس في حديث ابن مسعودٍ ما يدلّ على المواظبة , بل ¬

_ (¬1) قال الشارح رحمه الله: أي السور المماثلة في المعاني كالموعظة أو الحِكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي، لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظنُّ أنَّ المراد أنها متساوية في العد، حتى اعتبرتها فلم أجد فيها شيئاً متساوياً. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (772) عن حذيفة، قال: صلّيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يُصلِّي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مُترسِّلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع .... الحديث

فيه أنّه كان يقرن بين هذه السّور المعيّنات إذا قرأ من المفصّل. قوله: (لأنّها صفة الرّحمن) قال ابن التّين: إنّما قال " إنّها صفة الرّحمن " لأنّ فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقّة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن يكون الصّحابيّ المذكور , قال ذلك مستنداً لشيءٍ سمعه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , إمّا بطريق النّصوصيّة , وإمّا بطريق الاستنباط. وقد أخرج البيهقيّ في " كتاب الأسماء والصّفات " بسندٍ حسن عن ابن عبّاس , أنّ اليهود أتوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقالوا: صف لنا ربّك الذي تعبد. فأنزل الله عزّ وجل (قل هو الله أحدٌ) إلى آخرها، فقال: هذه صفة ربّي عزّ وجل. وعن أُبيّ بن كعب قال: قال المشركون للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - انسُب لنا ربّك، فنزلت سورة الإخلاص. الحديث، وهو عند ابن خزيمة في " كتاب التّوحيد " وصحّحه الحاكم. وفيه , أنّه ليس شيء يولد إلاَّ يموت , وليس شيء يموت إلاَّ يورث، والله لا يموت ولا يورث، ولَم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيءٌ. قال البيهقيّ: معنى قوله " ليس كمثله شيءٌ " ليس كهو شيء، قاله أهل اللّغة قال: ونظيره قوله تعالى (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) يريد بالذي آمنتم به , وهي قراءة ابن عبّاس، قال: والكاف في قوله " كمثله " للتّأكيد، فنفى الله عنه المثليّة بآكد ما يكون من النّفي. وأنشد لورقة بن نوفل , في زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات: ودينك دينٌ

ليس دينٌ كمثله. ثمّ أسند عن ابن عبّاس في قوله تعالى (وله المثل الأعلى) يقول ليس كمثله شيء، وفي قوله (هل تعلم له سميّاً) هل تعلم له شبهاً أو مثلاً. وفي حديث الباب حجّة لمن أثبت أنّ لله صفة , وهو قول الجمهور. وشذّ ابن حزم فقال: هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولَم تثبت عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال وفيه ضعف. قال: وعلى تقدير صحّته فقل هو الله أحد صفة الرّحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه , بخلاف الصّفة التي يطلقونها فإنّها في لغة العرب لا تطلق إلاَّ على جوهر أو عرض. كذا قال، وسعيد متّفق على الاحتجاج به فلا يلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتّفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وقال بعد أن ذكر منها عدّة أسماء في آخر سورة الحشر: (له الأسماء الحسنى). والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات , ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته؛ لأنّه إذا ثبت أنّه حيّ مثلاً فقد وصف بصفةٍ زائدة على الذّات , وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذّات فقط، وقد قاله سبحانه وتعالى (سبحان ربّك ربّ

العزّة عمّا يصفون) فنزّه نفسه عمّا يصفونه به من صفة النّقص، ومفهومه أنّ وصفه بصفة الكمال مشروع. وقد قسّم البيهقيّ وجماعة من أئمّة السّنّة جميع الأسماء المذكورة في القرآن وفي الأحاديث الصّحيحة على قسمين: أحدهما: صفات ذاته. وهي ما استحقّه فيما لَم يزل ولا يزال. والثّاني: صفات فعله. وهي ما استحقّه فيما لا يزال دون الأزل. قال: ولا يجوز وصفه إلاَّ بما دلَّ عليه الكتاب والسّنّة الصّحيحة الثّابتة أو أجمع عليه، ثمّ منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسّمع والبصر والكلام من صفات ذاته، وكالخلق والرّزق والإحياء والإماتة والعفو والعقوبة من صفات فعله، ومنه ما ثبت بنصّ الكتاب والسّنّة كالوجه واليد والعين من صفات ذاته، وكالاستواء والنّزول والمجيء من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصّفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفي عنه التّشبيه، فصفة ذاته لَم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). وقال القرطبيّ في المفهم: اشتملت (قل هو الله أحد) على اسمين يتضمّنان جميع أوصاف الكمال: وهما الأحد والصّمد، فإنّهما يدلان على أحديّة الذّات المقدّسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإنّ الواحد والأحد - وإن رجعا إلى أصل واحد - فقد افترقا استعمالاً وعرفاً، فالوحدة راجعة إلى نفي التّعدّد والكثرة، والواحد أصل

العدد من غير تعرّض لنفي ما عداه , والأحد يثبت مدلوله ويتعرّض لنفي ما سواه، ولهذا يستعملونه في النّفي , ويستعملون الواحد في الإثبات، يقال ما رأيت أحداً ورأيت واحداً , فالأحد في أسماء الله تعالى مشعر بوجوده الخاصّ به الذي لا يشاركه فيه غيره. وأمّا الصّمد فإنّه يتضمّن جميع أوصاف الكمال؛ لأنّ معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلّها وهو لا يتمّ حقيقة إلاَّ لله. قال ابن دقيق العيد قوله " لأنّها صفة الرّحمن ": يحتمل أن يكون مراده , أنّ فيها ذكر صفة الرّحمن كما لو ذكر وصف فعبّر عن الذّكر بأنّه الوصف , وإن لَم يكن نفس الوصف , ويحتمل غير ذلك , إلاَّ أنّه لا يختصّ ذلك بهذه السّورة , لكن لعل تخصيصها بذلك؛ لأنّه ليس فيها إلاَّ صفات الله سبحانه وتعالى فاختصّت بذلك دون غيرها قوله: (أخبروه أنّ الله يحبّه) قال ابن دقيق العيد: يحتمل: أن يكون سبب محبّة الله له محبّته لهذه السّورة. ويحتمل: أن يكون لِمَا دلَّ عليه كلامه؛ لأنّ محبّته لذكر صفات الرّبّ دالة على صحّة اعتقاده. قال المازريّ ومن تبعه: محبّة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم، وقيل: هي نفس الإثابة والتّنعيم. ومحبّتهم له لا يبعد فيها الميل منهم إليه وهو مقدّس عن الميل،

وقيل: محبّتهم له استقامتهم على طاعته، والتّحقيق أنّ الاستقامة ثمرة المحبّة وحقيقة المحبّة له ميلهم إليه لاستحقاقه سبحانه المحبّة من جميع وجوهها. انتهى. وفيه نظر. لِمَا فيه من الإطلاق في موضع التّقييد. وقال ابن التّين: معنى محبّة المخلوقين لله إرادتهم أن ينفعهم. وقال القرطبيّ في المفهم: محبّة الله لعبده تقريبه له وإكرامه وليست بميلٍ ولا غرض كما هي من العبد، وليست محبّة العبد لربّه نفس الإرادة , بل هي شيء زائد عليها، فإنّ المرء يجد من نفسه أنّه يحبّ ما لا يقدر على اكتسابه ولا على تحصيله، والإرادة هي التي تخصّص الفعل ببعض وجوهه الجائزة , ويحسّ من نفسه أنّه يحبّ الموصوفين بالصّفات الجميلة والأفعال الحسنة كالعلماء والفضلاء والكرماء وإن لَم يتعلق له بهم إرادة مخصّصة. وإذا صحّ الفرق فالله سبحانه وتعالى محبوب لمحبّيه على حقيقة المحبّة كما هو معروف عند من رزقه الله شيئاً من ذلك، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من محبّيه المخلصين. وقال البيهقيّ: المحبّة والبغض عند بعض أصحابنا من صفات الفعل، فمعنى محبّته إكرام من أحبّه ومعنى بغضه إهانته، وأمّا ما كان من المدح والذّمّ فهو من قوله، وقوله من كلامه، وكلامه من صفات ذاته فيرجع إلى الإرادة، فمحبّته الخصال المحمودة، وفاعلها يرجع إلى إرادته إكرامه، وبغضه الخصال المذمومة، وفاعلها يرجع إلى

إرادته إهانته. (¬1) ¬

_ (¬1) هذا الكلام جار على مذهب الأشاعرة. وهو المقصود بقول البيهقي: قال أصحابنا. فإنهم يُرجعون صفة المحبة إلى صفة الإرادة , وينفون حقيقة المحبّة لله تعالى , بدعوى أنها تُوهم نقصاً وعيباً , إذ المحبة في المخلوق معناها ميله إلى ما يناسبه ويستلذّه. والله منزّه عن ذلك. أمّا أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون المحبة الحقيقية لله سبحانه على ما يليق به. كما قال تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع العلم). دون اقتضاء نقص أو عيب. كما يثبتون لازم المحبة , وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبُّه وإثابته. وكذلك يقول الأشاعرة في صفات الرضا والغضب والكراهية والسخط؛ كلها عندهم بمعنى إرادة الثواب والعقاب.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون 106 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال لمعاذٍ: فلولا صليت بسبّح اسم ربّك الأعلى , والشّمس وضحاها , والليل إذا يغشى؟ فإنّه يُصلِّي وراءك الكبير والضّعيف وذو الحاجة. (¬1) قوله: (فلولا صليت بسبّح اسم ربّك الأعلى .. الخ) وللبخاري من رواية شعبة عن عمرو بن دينار " فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بسورتين من أوسط المفصل , قال عمرو بن دينار: لا أحفظهما. وكأنه قال ذلك في حال تحديثه لشعبة , وإلاَّ ففي رواية سليم بن حيان عن عمرو: اقرأ والشمس وضحاها وسبّح اسم ربك الأعلى ونحوها. وقال في رواية ابن عيينة عند مسلم: اقرأ بكذا واقرأ بكذا. قال ابن عيينة: فقلت لعمرو: إنَّ أبا الزبير حدثنا عن جابر , أنه قال: اقرأ بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى وبسبح اسم ربك الأعلى. فقال عمرو نحو هذا. وجزَمَ بذلك محارب في حديثه عن جابر , وفي رواية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (673) من طريق شعبة عن محارب بن دثار عن جابر مطولاً. ولفظه: عن جابر قال: أقبل رجلٌ بناضِحَين وقد جنح الليل، فوافق معاذاً يُصلِّي، فترك ناضحه. وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل. وبلغه أنَّ معاذاً نال منه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه معاذاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا معاذ، أفتانٌ أنت أو أفاتنٌ؟ ثلاث مرار: فلولا صلَّيت. فذكره. وأخرجه البخاري (669 , 679 , 5755) ومسلم (465) من طريق عمرو بن دينار عن جابر نحوه. مطوّلاً ومختصراً. ولمسلم (465) عن أبي الزبير عن جابر نحوه.

الليث عن أبي الزبير عند مسلم مع الثلاثة. اقرأ باسم ربك وزاد ابن جريجٍ عن أبي الزّبير " والضّحى " (¬1) أخرجه عبد الرّزّاق. وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة مع الثّلاثة الأول " والسّماء ذات البروج والسّماء والطّارق ". وفي المراد بالمفصّل أقوالٌ أصحّها أنّه من أوّل ق إلى آخر القرآن (¬2) قوله: (فإنّه يُصلِّي وراءك الكبير) تقدم الكلام عليه (¬3) وفي حديث الباب من الفوائد. استحباب تخفيف الصّلاة مراعاة لحال المأمومين. وأمّا مَن قال لا يكره التّطويل إذا علم رضاء المأمومين , فيشكل عليه أنّ الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتمّ به بعد دخوله في الصّلاة، فعلى هذا يكره التّطويل مطلقاً إلاَّ إذا فرض في مصلٍ بقومٍ محصورين راضين بالتّطويل في مكانٍ لا يدخله غيرهم. ¬

_ (¬1) قلت: زيادة الضحى. رواها مسلم أيضاً (465) من طريق سفيان عن عمرو عن جابر. (¬2) تقدم الخلاف فيه عند شرح حديث جُبير - رضي الله عنه - في القراءة بالطور رقم (203). (¬3) انظر حديث أبي هريرة وأبي مسعود رضي الله عنهما. رقم (84 - 85).

باب ترك الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)

باب ترك الجهر بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الحديث الثامن والخمسون 107 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمر - رضي الله عنهم -: كانوا يفتتحون الصّلاة بـ (الحمد لله ربّ العالمين). (¬1) وفي روايةٍ: صليت مع أبي بكرٍ وعمر وعثمان , فلم أسمع أحداً منهم يقرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). (¬2) الحديث التاسع والخمسون 108 - ولمسلمٍ: صليتُ خلفَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعمر وعثمان , فكانوا يستفتحون بـ (الحمد لله ربّ العالمين) , لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , في أوّل قراءةٍ ولا في آخرها. (¬3) قوله: (وأبا بكر) عبد الله بن أبي قحافة التيمي. هكذا جزم البخاري بأن اسم أبي بكر عبد الله وهو المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة. وكان يُسمى أيضاً عتيقاً. واختلف هل هو اسم له أصلي , أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (710) من طريق شعبة عن قتادة عن أنس به. (¬2) أخرجه مسلم (399) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة عن أنس به. (¬3) أخرجه مسلم (399) من طريق الأوزاعي عن قتادة , أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

ما يعاب به , أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام , أو قيل له ذلك لحسنه , أو لأنَّ أمه كان لا يعيش لها ولد فلمَّا ولد استقبلت به البيت , فقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت , أو لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بشره بأن الله أعتقه من النار.؟ وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار، وصحَّحه ابن حبان. وزاد فيه " وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان " وعثمان اسم أبي قحافة لَم يختلف في ذلك كما لَم يختلف في كنية الصديق. ولُقِّب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء. وروى الطبراني من حديث علي , أنه كان يحلف أنَّ الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق. رجاله ثقات. وأما نسبه: فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب، وعدد آبائهما إلى مُرّة سواء. وأم أبي بكر سلمى , وتكنى أم الخير بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت وهاجرت، وذلك معدودٌ من مناقبه؛ لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده. وروى ابن سعد من طريق الزهري عن عروة عن عائشة: أوَّل بدءِ مرضِ أبي بكر , أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً، فحُمَّ خمسة عشر يوماً، ومات مساء ليلة الثلاثاء

لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة " قوله: (كانوا يفتتحون الصّلاة) أي: القراءة في الصّلاة، وكذلك رواه ابن المنذر والجوزقيّ وغيرهما من طريق أبي عمر الدّوريّ - وهو حفص بن عمر شيخ البخاريّ - فيه عن شعبة بلفظ " كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله ربّ العالمين " , وكذلك رواه البخاريّ في " جزء القراءة خلف الإمام " عن عمرو بن مرزوق عن شعبة , وذكر أنّها أبين من رواية حفص بن عمر. قوله: (بالحمد لله ربّ العالمين) بضمّ الدّال على الحكاية. واختلف في المراد بذلك: فقيل: المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة، (¬1) وهذا قول من أثبت البسملة في أوّلها. وتعقّب: بأنّها إنّما تسمّى الحمد فقط. وأجيب: بمنع الحصر، ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي " الحمد لله ربّ العالمين " في صحيح البخاريّ من حديث أبي سعيد بن المعلى , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن. فذكر الحديث. وفيه قال " الحمد لله ربّ العالمين , هي السّبع المثاني ". وقيل: المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسّكاً بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة، لكن لا يلزم من قوله " كانوا ¬

_ (¬1) حكاه ابن حجر في الفتح في " تفسير أم الكتاب " عن الشافعي.

يفتتحون بالحمد " أنّهم لَم يقرءوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سرّاً. وقد أطلق أبو هريرة السّكوت على القراءة سرّاً كما في الصحيحين قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة فقلت: بأبي وأمي يا رسولَ الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد .. الحديث. وقد اختلف الرّواة عن شعبة في لفظ الحديث: فرواه جماعةٌ من أصحابه عنه بلفظ " كانوا يفتتحون بـ (الحمد لله ربّ العالمين). ورواه آخرون عنه بلفظ " فلم أسمع أحداً منهم يقرأ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطّيالسيّ ومحمّد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدّوريّ - شيخ البخاريّ فيه -، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمّد بن جعفر باللفظين. وهؤلاء مِن أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة؛ لأنّا نقول قد رواه جماعةٌ من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاريّ في " جزء القراءة " والنّسائيّ وابن ماجه من طريق أيّوب , وهؤلاء والتّرمذيّ من طريق أبي عوانة والبخاريّ في " جزء القراءة " , وأبو داود من طريق هشام الدّستوائيّ , والبخاريّ فيه وابن حبّان من طريق حمّاد بن سلمة , والبخاريّ فيه والسّرّاج من طريق همّامٍ كلّهم عن قتادة باللفظ الأوّل.

وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعيّ عن قتادة بلفظ " لَم يكونوا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وقد قدح بعضهم في صحّته بكون الأوزاعيّ رواه عن قتادة مكاتبة. وفيه نظرٌ , فإنّ الأوزاعيّ لَم ينفرد به , فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدّورقيّ والسّرّاج عن يعقوب الدّورقيّ وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السّلميّ ثلاثتهم عن أبي داود الطّيالسيّ عن شعبة بلفظ " فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قال شعبة قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه. لكنّ هذا النّفي محمول على ما قدّمناه أنّ المراد أنّه لَم يسمع منهم البسملة. فيحتمل: أن يكونوا يقرءونها سرّاً، ويؤيّده رواية من رواه عنه بلفظ " فلم يكونوا يجهرون ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عند النّسائيّ وابن حبّان , وهمّام عند الدّارقطنيّ , وشيبان عند الطّحاويّ وابن حبّان , وشعبة أيضاً من طريق وكيعٍ عنه عند أحمد أربعتهم عن قتادة. ولا يقال هذا اضطراب من قتادة لأنّا نقول: قد رواه جماعةٌ من أصحاب أنسٍ عنه كذلك: فرواه البخاريّ في " جزء القراءة " والسّرّاج وأبو عوانة في " صحيحه " من طريق إسحاق بن أبي طلحة , والسّرّاج من طريق ثابت البنانيّ , والبخاريّ فيه من طريق مالك بن

دينار كلّهم عن أنس باللفظ الأوّل، ورواه الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق إسحاق أيضاً وابن خزيمة من طريق ثابت أيضاً , والنّسائيّ من طريق منصور بن زاذان , وابن حبّان من طريق أبي قلابة , والطّبرانيّ من طريق أبي نعامة كلّهم عن أنس باللفظ النّافي للجهر. فطريق الجمع بين هذه الألفاظ. حمل نفي القراءة على نفي السّماع ونفي السّماع على نفي الجهر. ويؤيّده أنّ لفظ رواية منصور بن زاذان " فلم يسمعنا قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وأصرح من ذلك , رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة بلفظ " كانوا يسرّون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". فاندفع بهذا تعليل من أعلَّه بالاضطراب كابن عبد البرّ؛ لأنّ الجمع إذا أمكن تعيّن المصير إليه. وأمّا من قدح في صحّته بأنّ أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنساً عن هذه المسألة , فقال: إنّك لتسألني عن شيءٍ ما أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك؟. ودعوى أبي شامة , أنّ أنساً سئل عن ذلك سؤالين فسؤال أبي سلمة: هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمدلة؟ , وسؤال قتادة: هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها؟. قال: ويدلّ عليه قول قتادة في صحيح مسلمٍ " نحن سألناه " انتهى. فليس بجيّدٍ؛ لأنّ أحمد روى في " مسنده " بإسناد الصّحيحين , أنّ سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلمٍ إنّما قاله عقب

رواية أبي داود الطّيالسيّ عن شعبة، ولَم يبيّن مسلم صورة المسألة، وقد بيّنها أبو يعلى والسّرّاج وعبد الله بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها عن أبي داود , أنّ السّؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة. وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر عن طريق أبي جابر عن شعبة عن قتادة قال: سألت أنساً: أيقرأ الرّجل في الصّلاة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فقال: صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر , فلم أسمع أحداً منهم يقرأ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , فظهر اتّحاد سؤال أبي سلمة وقتادة. وغايته أنّ أنساً أجاب قتادة بالحكم دون أبي سلمة، فلعله تذكّره لَمّا سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي سلمة " ما سألني عنه أحد قبلك " , أو قاله لهما معاً فحفظه قتادة دون أبي سلمة فإنّ قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع. وإذا انتهى البحث إلى أنّ محصّل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الرّوايات عنه , فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدّمت على نفيه، لمجرّد تقديم رواية المثبت على النّافي؛ لأنّ أنساً يبعد جدّاً أن يصحب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مدّة عشر سنين ثمّ يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمساً وعشرين سنةً فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاةٍ واحدةٍ، بل لكون أنسٍ اعترف بأنّه لا يحفظ هذا الحكم كأنّه لبعد عهده به، ثمّ تذكّر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهراً ولَم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعيّن الأخذ بحديث من أثبت

الجهر (¬1). وترجم له ابن خزيمة وغيره " إباحة الإسرار بالبسملة في الجهريّة ". وفيه نظرٌ؛ لأنّه لَم يختلف في إباحته بل في استحبابه. واستدل به المالكيّة على ترك دعاء الافتتاح، وحديث أبي هريرة يردّ عليه (¬2). وكأنّ هذا هو السّرّ في إيراد البخاري لحديث أبي هريرة عقب حديث الباب (حديث أنس)، وقد تحرّر أنّ المراد بحديث أنس بيان ما يفتتح به القراءة، فليس فيه تعرّضٌ لنفي دعاء الافتتاح. تنبيهٌ: وقع ذِكْر عثمان في حديث أنس في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند البخاريّ في " جزء القراءة " , وكذا في رواية حجّاج بن محمّد عن شعبة عند أبي عوانة، وهو في رواية شيبان وهشام والأوزاعيّ. وقد أشرنا إلى روايتهم فيما تقدَّم. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز حمه الله (2/ 296): هذا فيه نظرٌ. والصواب تقديم ما دلَّ عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة لصحته وصراحته في هذه المسألة , وكونه نسي ثم ذكره لا يقدح في روايته كما عُلم في الأصول والمصطلح. وتُحمل رواية من روى الجهر بالبسملة على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بها في بعض الأحيان ليعلَم مَن وراءه أنه يقرأها , وبهذا تجتمع الأحاديث , وقد وردت أحاديث صحيحه تؤيد ما دلَّ عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة. والله أعلم. (¬2) يقصد حديث أبي هريرة في الاستفتاح الذي تقدم ذكره هنا في شرح الحديث , وقد تقدّم شرحه مستوفى في باب " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " في هذا الكتاب رقم (86)

باب سجود السهو

باب سجود السّهو السّهو الغفلة عن الشّيء وذهاب القلب إلى غيره، وفرّق بعضهم بين السّهو والنّسيان، وليس بشيء. واختلف في حكمه. القول الأول: قال الشّافعيّة: مسنونٌ كلّه. القول الثاني: عن المالكيّة , السّجود للنّقص واجب دون الزّيادة. القول الثالث: عن الحنابلة , التّفصيل بين الواجبات غير الأركان فيجب لتركها سهواً، وبين السّنن القوليّة فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعلٍ أو قول يبطلها عمده. القول الرابع: عن الحنفيّة , واجب كلّه. وحجّتهم قوله في حديث ابن مسعود في صحيح البخاري " ثمّ ليسجد سجدتين " , ومثله لمسلمٍ من حديث أبي سعيد والأمر للوجوب. وقد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله في الصّلاة محمولة على البيان , وبيان الواجب واجب , ولا سيّما مع قوله " صلّوا كما رأيتموني أصلي ". (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -.

الحديث الستون

الحديث الستون 109 - عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشيّ , قال ابن سيرين: وسَمّاها أبو هريرة. ولكن نسيت أنا , قال: فصلَّى بنا ركعتين , ثمّ سلَّم. فقام إلى خشبةٍ معروضةٍ في المسجد , فاتّكأ عليها كأنّه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى , وشبّك بين أصابعه. وخرجت السَّرَعَان من أبواب المسجد , فقالوا: قصرت الصّلاة - وفي القوم أبو بكرٍ وعمر - فهابا أن يُكلِّماه. وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ , يقال له: ذو اليدين. فقال: يا رسولَ الله , أنسيت , أم قصرت الصّلاة؟ قال: لَم أنس ولَم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدّم فصلَّى ما ترك. ثمّ سلَّم , ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول. ثمّ رفع رأسه فكبّر , ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول. ثمّ رفع رأسه وكبّر. فربّما سألوه , ثمّ سلم؟ قال: فنبّئت أنّ عمران بن حصينٍ قال: ثمّ سلَّم. (¬1) قال المصنِّف: العشي مابين زوال الشمس إلى غروبها: قال الله تعالى (وسبِّح بحمد ربك بالعشي والإبكار). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (468 , 682 , 683 , 1172 , 5704 , 6823) ومسلم (573) من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (583 , 1169) ومسلم (573) من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مختصراً نحوه. ولمسلم (573) من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة نحوه.

قوله: (صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ظاهر في أنّ أبا هريرة حضر القصّة , وحمله الطّحاويّ على المجاز , فقال: إنّ المراد به صلَّى بالمسلمين , وسبب ذلك قول الزّهريّ: إنّ صاحب القصّة استشهد ببدرٍ، فإنّ مقتضاه أن تكون القصّة وقعت قبل بدرٍ , وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين (¬1). لكن اتّفق أئمّة الحديث - كما نقله ابن عبد البرّ وغيره - على أنّ الزّهريّ وهم في ذلك، وسببه أنّه حمل القصّة لذي الشّمالين، وذو الشّمالين هو الذي قتل ببدرٍ , وهو خزاعيّ. واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة. وأمّا ذو اليدين. فتأخّر بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمدّةٍ , لأنّه حدّث بهذا الحديث بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه الطّبرانيّ وغيره، وهو سلميّ , واسمه الخرباق على ما سيأتي البحث فيه. وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة " فقام رجلٌ من بني سليم " , فلمّا وقع عند الزّهريّ بلفظ " فقام ذو الشّمالين " وهو يعرف أنّه قتل ببدرٍ قال لأجل ذلك: إنّ القصّة وقعت قبل بدر. وقد جوّز بعض الأئمّة أن تكون القصّة وقعت لكلٍّ من ذي الشّمالين وذي اليدين , وأنّ أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما , ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 126): صوابه بأكثر من أربع سنين , لأنَّ غزوة بدرٍ وقعت في رمضان من الثانية من الهجرة , وإسلام أبي هريرة وقع في عام خيبر في أول سنة سبع. فتأمّل. والله أعلم

وهو قصّة ذي الشّمالين , وشاهد الآخر وهي قصّة ذي اليدين، وهذا محتمل من طريق الجمع. وقيل: يُحمل على أنّ ذا الشّمالين كان يقال له أيضاً ذو اليدين وبالعكس , فكان ذلك سبباً للاشتباه. ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطّحاويّ ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد اتّفق معظم أهل الحديث من المصنّفين وغيرهم , على أنّ ذا الشّمالين غير ذي اليدين , ونصّ على ذلك الشّافعيّ رحمه الله في " اختلاف الحديث ". قوله: (إحدى صلاتي العشيّ) كذا للأكثر , وللمستملي والحمويّ " العشاء " بالمدّ , وهو وهم، فقد صحّ " أنّها الظّهر أو العصر " كما سيأتي، وابتداء العشيّ من أوّل الزّوال. قوله: (قال ابن سيرين: وسَمّاها أبو هريرة. ولكن نسيت أنا) وللبخاري عن آدم عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة " الظهر أو العصر " كذا في هذه الطّريق بالشّكّ، وللبخاري أيضاً عن أبي الوليد عن شعبة بلفظ " الظّهر " بغير الشّكّ. ولمسلمٍ من طريق أبي سلمة المذكور " صلاة الظّهر " وله من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة " العصر " بغير شكّ، وللبخاري من طريق ابن سيرين أنّه قال: وأكثر ظنّي أنّها العصر،

ولمسلم " إحدى صلاتي العشيّ، إمّا الظّهر وإمّا العصر ". والظّاهر أنّ الاختلاف فيه من الرّواة. وأبعد مَن قال: يحمل على أنّ القصّة وقعت مرّتين. بل روى النّسائيّ من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين , أنّ الشّكّ فيه من أبي هريرة ولفظه: صلَّى - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشيّ , قال أبو هريرة: ولكنّي نسيتها. فالظّاهر أنّ أبا هريرة رواه كثيراً على الشّكّ، وكان ربّما غلب على ظنّه أنّها الظّهر فجزم بها، وتارةً غلب على ظنّه أنّها العصر فجزم بها. وطرأ الشّكّ في تعيينها أيضاً على ابن سيرين , وكان السّبب في ذلك الاهتمام بما في القصّة من الأحكام الشّرعيّة. ولَم تختلف الرّواة في حديث عمران في قصّة الخرباق , أنّها العصر. فإن قلنا: إنّهما قصّةٌ واحدةٌ فيترجّح رواية من عيّن العصر في حديث أبي هريرة. قوله: (فقام إلى خشبةٍ معروضةٍ في المسجد) أي: موضوعة بالعرض , وللبخاري " في مقدم المسجد " أي: في جهة القبلة. قوله: (فاتّكأ عليها) وللبخاري " فوضع يده عليها " , ولمسلمٍ من طريق ابن عيينة عن أيّوب " ثمّ أتى جذعاً في قبلة المسجد فاستند إليها مغضباً ". ولا تنافي بين هذه الرّوايات , لأنّها تحمل على أنّ الجذع قبل اتّخاذ المنبر كان ممتدّاً بالعرض، وكأنّه الجذع الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يستند إليه قبل

اتّخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشّرّاح. قوله: (ووضع يده اليمنى على اليسرى) وللبخاري " على ظهر كفه اليسرى " , وعند الكشميهنيّ " خدّه الأيمن " بدل " يده اليمنى " وهو أشبه لئلا يلزم التّكرار. قوله: (وشبّك بين أصابعه.) فيه دليل على جواز تشبيك الأصابع في المسجد , وإذا جاز في المسجد فهو في غيره أجوز. قال ابن بطّال: ورد في النّهي عن التّشبيك في المسجد مراسيل ومسندة من طرقٍ غير ثابتةٍ. انتهى. وكأنّه يشير بالمسند إلى حديث كعب بن عُجْرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا توضّأ أحدكم , ثمّ خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكنّ يديه فإنّه في صلاة. أخرجه أبو داود وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان. وفي إسناده اختلاف ضعّفه بعضهم بسببه. وروى ابن أبي شيبة من وجهٍ آخر بلفظ: إذا صلَّى أحدكم فلا يشبّكنّ بين أصابعه , فإنّ التّشبيك من الشّيطان. وإنّ أحدكم لا يزال في صلاةٍ ما دام في المسجد حتّى يخرج منه. وفي إسناده ضعيف ومجهول. وقال ابن المنير: التّحقيق أنّه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذ المنهيّ عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنّما هو لمقصود التّمثيل، وتصوير المعنى في النّفس بصورة الحسّ.

قلت: هو في حديث أبي موسى وابن عمر (¬1) كما قال، بخلاف حديث أبي هريرة. وجمع الإسماعيليّ بأنّ النّهي مقيّد بما إذا كان في الصّلاة أو قاصداً لها , إذ منتظر الصّلاة في حكم المُصلِّي، وأحاديث الباب الدّالة على الجواز خالية عن ذلك. أمّا الأوّلان فظاهران، وأمّا حديث أبي هريرة. فلأنّ تشبيكه إنّما وقع بعد انقضاء الصّلاة في ظنّه، فهو في حكم المنصرف من الصّلاة. والرّواية التي فيها النّهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة كما قدّمنا، فهي غير معارضةٍ لحديث أبي هريرة كما قال ابن بطّال. واختلف في حكمة النّهي عن التّشبيك. فقيل: لكونه من الشّيطان كما تقدّم في رواية ابن أبي شيبة. وقيل: لأنّ التّشبيك يجلب النّوم , وهو من مظانّ الحدث. وقيل: لأنّ صورة التّشبيك تشبه صورة الاختلاف كما نبّه عليه في حديث ابن عمر , فكره ذلك لمن هو في حكم الصّلاة حتّى لا يقع في المنهيّ عنه , وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - للمصلين " ولا تختلفوا فتختلف ¬

_ (¬1) يقصد الحديثين اللذين أوردهما البخاري في " صحيحه " مع حديث أبي هريرة في " باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره ". أما حديث أبي موسى فأخرجه برقم (481) ومسلم أيضاً (2585) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك أصابعه. أما الآخر. فأخرجه (478) عن ابن عمر أو ابن عمرو: شبَّك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه.

قلوبكم " (¬1). قوله: (وخرجت السَّرَعان) بفتح المهملات، ومنهم: من سكّن الرّاء , وحكى عياض , أنّ الأصيليّ ضبطه بضمٍّ ثمّ إسكان , كأنّه جمع سريع ككثيب وكثبان. والمراد بهم أوائل النّاس خروجاً من المسجد , وهم أصحاب الحاجات غالباً. قوله: (قُصِرتِ الصّلاة) في رواية لهما " أقصرت الصّلاة " بهمزة الاستفهام، فتحمل هذه على تلك. وفيه دليلٌ على ورعهم إذ لَم يجزموا بوقوع شيءٍ بغير علمٍ , وهابوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يسألوه، وإنّما استفهموه , لأنّ الزّمان زمان النّسخ. وقصرت بضمّ القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول. أي: أنّ الله قصرها، وبفتحٍ ثمّ ضمٍّ على البناء للفاعل. أي: صارت قصيرة. قال النّوويّ: هذا أكثر وأرجح. قوله: (فهابا أن يُكلِّماه) للبخاري " فهاباه " بزيادة الضّمير، والمعنى أنّهما غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه. وأمّا ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلّم العلم. قوله: (وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ , يقال له: ذو اليدين) وهو محمولٌ على الحقيقة، ويحتمل: أن يكون كنايةً عن طولها بالعمل أو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (432) عن أبي مسعود، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى , ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "

بالبذل , قاله القرطبيّ. وجزم ابن قتيبة: بأنّه كان يعمل بيديه جميعاً. وحكي عن بعض شرّاح " التّنبيه " أنّه قال: كان قصير اليدين , فكأنّه ظنّ أنّه حميد الطّويل , فهو الذي فيه الخلاف. وقد تقدّم أنّ الصّواب التّفرقة بين ذي اليدين وذي الشّمالين. وذهب الأكثر: إلى أنّ اسم ذي اليدين الْخِرْباق - بكسر المعجمة وسكون الرّاء بعدها موحّدة وآخره قاف - اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم. ولفظه " فقام إليه رجلٌ يقال له الخرباق , وكان في يده طول " (¬1). وهذا صنيع من يوحّد حديث أبي هريرة بحديث عمران , وهو الرّاجح في نظري. وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التّعدّد. والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السّياقين، ففي حديث أبي هريرة , أنّ السّلام وقع من اثنتين , وأنّه - صلى الله عليه وسلم - قام إلى خشبةٍ في المسجد، وفي حديث عمران , أنّه سلم من ثلاث ركعاتٍ , وأنّه دخل منزله لَمّا فرغ من الصّلاة. فأمّا الأوّل: فقد حكى العلائيّ , أنّ بعض شيوخه حمله على أنّ ¬

_ (¬1) وتمامه عند مسلم (574) من طريق خالد الحذَّاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى العصر، فسلَّم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، - وكان في يديه طول – فقال: يا رسول الله. فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم.

المراد به , أنّه سلم في ابتداء الرّكعة الثّالثة. واستبعده. ولكنّ طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدّد القصّة , فإنّه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرّةٍ استفهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك , واستفهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الصّحابة عن صحّة قوله. وأمّا الثّاني: فلعل الرّاوي لَمّا رآه تقدّم من مكانه إلى جهة الخشبة. ظنّ أنّه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله. فإن كان كذلك , وإلَّا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه. كما أخرجه الشّافعيّ وأبو دواد وابن ماجه وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه. كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في " زيادات المسند " وأبو بكر بن أبي خيثمة وغيرهم. وقول محمّد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة. يدل على أنه كان يرى التّوحيد بينهما، وذلك أنّه قال في آخر حديث أبي هريرة: نبّئت أنّ عمران بن حصين , قال: ثمّ سلم. قوله: (فقال: لَم أنس ولَم تقصر) كذا في أكثر الطّرق، وهو صريحٌ في نفي النّسيان ونفي القصر. وفيه تفسيرٌ للمراد بقوله في رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلم " كلّ ذلك لَم يكن ". وتأييد لِمَا قاله أصحاب المعاني: إنّ لفظ كلّ. إذا تقدّم وعقبها النّفي كان نفياً لكل فردٍ لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخّرت , كأن يقول:

لَم يكن كلّ ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله " قد كان بعض ذلك " وأجابه في هذه الرّواية بقوله " بلى قد نسيت " , لأنّه لَمّا نفى الأمرين , وكان مقرّراً عند الصّحابيّ أنّ السّهو غير جائزٍ عليه في الأمور البلاغيّة جزم بوقوع النّسيان لا بالقصر. وهو حجّةٌ لِمَن قال: إنَّ السّهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التّشريع، وإن كان عياضٌ نقل الإجماع على عدم جواز دخول السّهو في الأقوال التّبليغيّة وخصّ الخلاف بالأفعال، لكنّهم تعقّبوه. نعم. اتّفق من جوّز ذلك على أنّه لا يقرّ عليه , بل يقع له بيان ذلك إمّا متّصلاً بالفعل أو بعده كما وقع في هذا الحديث من قوله " لَم أنس ولَم تقصر " , ثمّ تبيّن أنّه نسي، ومعنى قوله " لَم أنس " أي: في اعتقادي لا في نفس الأمر، ويستفاد منه أنّ الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين. وفائدة جواز السّهو في مثل ذلك بيان الحكم الشّرعيّ إذا وقع مثله لغيره. وأمّا من منع السّهو مطلقاً , فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبةٍ. فقيل: قوله " لَم أنس " نفيٌ للنّسيان، ولا يلزم منه نفي السّهو. وهذا قول من فرّق بينهما. ويكفي فيه قوله في هذه الرّواية " بلى قد نسيت " وأقرّه على ذلك. وقيل: قوله " لَم أنس " على ظاهره وحقيقته , وكان يتعمّد ما يقع منه من ذلك ليقع التّشريع منه بالفعل لكونه أبلغ من القول.

وتعقّب: بحديث ابن مسعود في الصحيحين ففيه " إنّما أنا بشرٌ أنسى كما تنسون " , فأثبت العلة قبل الحكم , وقيّد الحكم بقوله " إنّما أنا بشر " ولَم يكتف بإثبات وصف النّسيان حتّى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا , فقال " كما تنسون ".وبهذا الحديث يردّ أيضاً القول الآتي. وقيل: معنى قوله " لَم أنس " إنكار اللفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال " إنّى لا أنسى , ولكن أنسّى "، وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره حيث قال: بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا. (¬1) وقد تعقّبوا هذا أيضاً: بأنّ حديث " إنّي لا أنسى .. " , لا أصل له , فإنّه من بلاغات مالك التي لَم توجد موصولة بعد البحث الشّديد. وأمّا الآخر: فلا يلزم من ذمّ إضافة نسيان الآية ذمّ إضافة نسيان كل شيءٍ فإنّ الفرق بينهما واضح جدّاً. وقيل: إنّ قوله " لَم أنس " , راجع إلى السّلام , أي: سلمت قصداً بانياً على ما في اعتقادي أنّي صليت أربعاً. وهذا جيّد، وكأنّ ذا اليدين فهم العموم , فقال " بلى قد نسيت " وكأنّ هذا القول أوقع شكّاً احتاج معه إلى استثبات الحاضرين. وبهذا التّقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلاً ولَم يقبل خبره بمفرده، فسبب التّوقّف فيه كونه أخبر عن أمرٍ يتعلق بفعل المسئول مغاير لِمَا في اعتقاده. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4744) ومسلم (790) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -

وبهذا يجاب مَن قال: إنّ من أخبر بأمرٍ حسّيٍّ بحضرة جمع لا يخفى عليهم , ولا يجوز عليهم التّواطؤ ولا حامل لهم على السّكوت عنه ثمّ لَم يكذّبوه أنّه لا يقطع بصدقه، فإنّ سبب عدم القطع كون خبره معارضاً باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به. وفيه أنّ الثّقة إذا انفرد بزيادة خبرٍ. وكان المجلس متّحداً , أو منعت العادة غفلتهم عن ذلك أن لا يقبل خبره. وفيه العمل بالاستصحاب , لأنّ ذا اليدين استصحب حكم الإتمام فسأل، مع كون أفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للتّشريع، والأصل عدم السّهو والوقت قابل للنّسخ، وبقيّة الصّحابة تردّدوا بين الاستصحاب وتجويز النّسخ فسكتوا، والسّرعان هم الذين بنوا على النّسخ , فجزموا بأنّ الصّلاة قصرت فيؤخذ منه جواز الاجتهاد في الأحكام. وفيه جواز البناء على الصّلاة لمن أتى بالمنافي سهواً. قال سحنون: إنّما يبني من سلم من ركعتين كما في قصّة ذي اليدين , لأنّ ذلك وقع على غير القياس فيقتصر به على مورد النّصّ , وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشيّ فيمنعه مثلاً في الصّبح. والذين قالوا يجوز البناء مطلقاً , قيّدوه بما إذا لَم يطل الفصل. واختلفوا في قدر الطّول. فحدّه الشّافعيّ في " الأمّ " بالعرف، وفي البويطيّ: بقدر ركعة، وعن أبي هريرة: قدر الصّلاة التي يقع السّهو فيها. وفيه أنّ الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام، وأنّ السّلام ونيّة

الخروج من الصّلاة سهواً لا يقطع الصّلاة، وأنّ سجود السّهو بعد السّلام، وأنّ الكلام سهواً لا يقطع الصّلاة خلافاً للحنفيّة. وأمّا قول بعضهم: إنّ قصّة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصّلاة. فضعيف , لأنّه اعتمد على قول الزّهريّ: إنّها كانت قبل بدر، وقد قدّمنا أنّه إمّا وهم في ذلك , أو تعدّدت القصّة لذي الشّمالين المقتول ببدر ولذي اليدين الذي تأخّرت وفاته بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصّة كما تقدّم وشهدها عمران بن حصين وإسلامه متأخّر أيضاً. وروى معاوية بن حديج - بمهملة وجيم مصغّراً - قصّة أخرى في السّهو. ووقع فيها الكلام ثمّ البناء , أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما , وكان إسلامه قبل موت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بشهرين. وقال ابن بطّال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم " ونهينا عن الكلام " أي: إلاَّ إذا وقع سهواً أو عمداً لمصلحة الصّلاة، فلا يعارض قصّة ذي اليدين. انتهى. واستدل به على أنّ المقدّر في حديث " رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان " أي: إثمهما وحكمهما خلافاً لمن قصره على الإثم. واستُدلَّ به على أنّ تعمّد الكلام لمصلحة الصّلاة لا يبطلها. وتعقّب: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يتكلم إلاَّ ناسياً، وأمّا قول ذي اليدين له " بلى قد نسيت " وقول الصّحابة له " صدق ذو اليدين " , فإنّهم تكلموا معتقدين النّسخ في وقتٍ يمكن وقوعه فيه , فتكلموا ظنّاً أنّهم ليسوا

في صلاة. كذا قيل. وهو فاسد، لأنّهم كلّموه بعد قوله - صلى الله عليه وسلم - " لَم تقصر ". وأجيب: بأنّهم لَم ينطقوا , وإنّما أومئوا كما عند أبي داود في رواية ساق مسلمٌ إسنادها، وهذا اعتمده الخطّابيّ , وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ بخلاف عكسه فينبني ردّ الرّوايات التي فيها التّصريح بالقول إلى هذه، وهو قويّ، وهو أقوى من قول غيره: يُحمل على أنّ بعضهم قال بالنّطق وبعضهم بالإشارة. لكن يبقى قول ذي اليدين " بلى قد نسيت ". ويجاب عنه وعن البقيّة على تقدير ترجيح: أنّهم نطقوا بأنّ كلامهم كان جواباً للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وجوابه لا يقطع الصّلاة كما في حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه، فقلت: يا رسولَ الله، إني كنت أصلي، فقال: أَلَم يقل الله {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِمَا يحييكم}. وتعقّب: بأنّه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصّلاة. وأجيب: بأنّه ثبت مخاطبته في التّشهّد وهو حيٌّ بقولهم " السّلام عليك أيّها النّبيّ " ولَم تفسد الصّلاة، والظّاهر أنّ ذلك من خصائصه. ويحتمل: أن يقال ما دام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يراجع المُصلِّي فجائز له جوابه حتّى تنقضي المراجعة , فلا يختصّ الجواز بالجواب لقول ذي اليدين " بلى قد نسيت " ولَم تبطل صلاته. والله أعلم. وفيه أنّ سجود السّهو لا يتكرّر بتكرّر السّهو - ولو اختلف الجنس

- خلافاً للأوزاعيّ، وروى ابن أبي شيبة عن النّخعيّ والشّعبيّ , أنّ لكل سهو سجدتين. وورد على وِفْقِه حديث ثوبان عند أحمد. وإسناده منقطع. وحمل على أنّ معناه: أنّ من سها بأيّ سهوٍ كان , شرع له السّجود. أي: لا يختصّ بما سجد فيه الشّارع، وروى البيهقيّ من حديث عائشة: سجدتا السّهو تجزئان من كل زيادة ونقصان. وفيه أنّ اليقين لا يترك إلاَّ باليقين، لأنّ ذا اليدين كان على يقينٍ أنّ فرضهم الأربع، فلمّا اقتصر فيها على اثنتين سأل عن ذلك , ولَم ينكر عليه سؤاله. وفيه أنّ الظّنّ قد يصير يقيناً بخبر أهل الصّدق، وهذا مبنيّ على أنّه - صلى الله عليه وسلم - رجع لخبر الجماعة. واستدل به على أنّ الإمام يرجع لقول المأمومين في أفعال الصّلاة , ولو لَم يتذكّر , وبه قال مالك وأحمد وغيرهما. ومنهم: من قيّده بما إذا كان الإمام مجوّزاً لوقوع السّهو منه، بخلاف ما إذا كان متحقّقاً لخلاف ذلك أخذاً من ترك رجوعه - صلى الله عليه وسلم - لذي اليدين ورجوعه للصّحابة. ومن حجّتهم قوله في حديث ابن مسعود الماضي " فإذا نسيت فذكّروني ". وقال الشّافعيّ: معنى قوله " فذكّروني " أي: لأتذكّر، ولا يلزم منه أن يرجع لمجرّد إخبارهم، واحتمال كونه تذكّر عند إخبارهم لا

يدفع. وفرّق بعض المالكيّة والشّافعيّة أيضاً بين ما إذا كان المخبرون ممّن يحصل العلم بخبرهم , فيقبل ويقدّم على ظنّ الإمام أنّه قد كمّل الصّلاة بخلاف غيرهم. قال الزين بن المنير: محلّ الخلاف في هذه المسألة , هو ما إذا كان الإمام شاكّاً، أمّا إذا كان على يقينٍ من فعل نفسه. فلا خلاف أنّه لا يرجع إلى أحد. انتهى وقال ابن التّين: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - شكّ بإخبار ذي اليدين , فسألهم إرادة تيقّن أحد الأمرين، فلمّا صدّقوا ذا اليدين علم صحّة قوله. وقال ابن بطّال بعد أن حكى الخلاف في هذه المسألة: حمل الشّافعيّ رجوعه - صلى الله عليه وسلم - على أنّه تذكّر فذكر، وفيه نظرٌ؛ لأنّه لو كان كذلك لبيّنه لهم ليرتفع اللبس، ولو بيّنه لنقل، ومن ادّعى ذلك فليذكره. قلت: قد ذكره أبو داود من طريق الأوزاعيّ عن الزّهريّ عن سعيد وعبيد الله عن أبي هريرة بهذه القصّة قال: ولَم يسجد سجدتي السّهو حتّى يقّنه الله ذلك. واستنبط منه بعض العلماء القائلين بالرّجوع اشتراط العدد في مثل هذا وألحقوه بالشّهادة، وفرّعوا عليه أنّ الحاكم إذا نسي حكمه , وشهد به شاهدان أنّه يعتمد عليهما.

واستدل به الحنفيّة على أنّ الهلال لا يقبل بشهادة الآحاد إذا كانت السّماء مصحية , بل لا بدّ فيه من عدد الاستفاضة. وتعقّب: بأنّ سبب الاستثبات كونه أخبر عن فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخلاف رؤية الهلال , فإنّ الأبصار ليست متساوية في رؤيته بل متفاوتة قطعاً. وعلى أنّ من سلم معتقداً أنّه أتمّ ثمّ طرأ عليه شكٌّ. هل أتمّ أو نقص أنّه يكتفي باعتقاده الأوّل. ولا يجب عليه الأخذ باليقين. ووجهه: أنّ ذا اليدين لَمّا أخبر أثار خبره شكّاً، ومع ذلك لَم يرجع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتّى استثبت. وعلى جواز التّعريف باللقب , وحاصله أنّ اللقب إن كان ممّا يعجب الملقّب ولا إطراء فيه ممّا يدخل في نهي الشّرع فهو جائز أو مستحبّ، وإن كان ممّا لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلاَّ إن تعيّن طريقاً إلى التّعريف به حيث يشتهر به ولا يتميّز عن غيره إلاَّ بذكره، ومن ثَمَّ أكثر الرّواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم. والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا سلم في ركعتين من صلاة الظّهر فقال: أكما يقول ذو اليدين ". وإلى التّفصيل في ذلك ذهب الجمهور واختاره البخاري (¬1). ¬

_ (¬1) أورد البخاري الحديث في كتاب الأدب. وبوب عليه (باب ما يجوز من ذكر الناس، نحو قولهم: الطويل والقصير. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يقول ذو اليدين , وما لا يُراد به شين الرجل).

وشذّ قوم. فشدّدوا حتّى نقل عن الحسن البصريّ , أنّه كان يقول: أخاف أن يكون قولنا حميداً الطّويل غيبة، وكأنّ البخاريّ لَمّح بذلك حيث ذكر قصّة ذي اليدين وفيها , وفي القوم رجل في يديه طول. قال ابن المنير: أشار البخاريّ إلى أنّ ذكر مثل هذا , إن كان للبيان والتّمييز فهو جائز , وإن كان للتّنقيص لَم يجز. قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنّها قصيرة، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اغتبتيها , وذلك أنّها لَم تفعل هذا بياناً إنّما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب. انتهى. والحديث المذكور أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب الغيبة " وابن مردوية في " التفسير " و .... في ... من طريق حسان بن مخارق عن عائشة. وهو .. (¬1) واستدل به التّرجيح بكثرة الرّواة. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ المقصود كان تقوية الأمر المسئول عنه لا ترجيح خبرٍ على خبرٍ. ¬

_ (¬1) بياضات في الأصل. وأخرجه أيضاً إسحاق بن راهوية في " مسنده " (1613) والأصبهاني في " الترغيب والترهيب " (2226) من طريق إبي إسحاق الشيباني عن حسان به. قال الحافظ العراقي في " تخريج الأحياء ": حسان وَثَّقَه ابن حبَان وباقيهم ثِقَات. انتهى. وللحديث طرق أخرى عند أحمد (41/ 500) والبيهقي في " الشعب " (9/ 115) وابن وهب في " جامعه " رقم (558) وغيرهم.

قوله: (فصلَّى ما ترك. ثمّ سلم , ثمّ كبّر وسجد). اختلف في سجود السّهو بعد السّلام , هل يشترط له تكبيرة إحرام , أو يكتفى بتكبير السّجود؟. القول الأول: الجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث. القول الثاني: حكى القرطبيّ: أنّ قول مالك لَم يختلف في وجوب السّلام بعد سجدتي السّهو، قال: وما يتحلل منه بسلامٍ لا بدّ له من تكبيرة إحرام. ويؤيّده ما رواه أبو داود من طريق حمّاد بن زيد عن هشام بن حسّان عن ابن سيرين في هذا الحديث قال " فكبّر ثمّ كبّر وسجد للسّهو ". قال أبو داود: لَم يقل أحدٌ " فكبّر ثمّ كبّر " إلاَّ حمّاد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزّيادة. وقال القرطبيّ أيضاً: قوله يعني في رواية مالك عند البخاري " فصلَّى ركعتين ثمّ سلم , ثمّ كبّر ثمّ سجد " يدلّ على أنّ التّكبيرة للإحرام , لأنّه أتى بثمّ التي تقتضي التّراخي، فلو كان التّكبير للسّجود لكان معه. وتعقّب: بأنّ ذلك من تصرّف الرّواة، ففي حديث الباب من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين بلفظ " فصلَّى ما ترك , ثمّ سلم ثمّ كبّر وسجد " فأتى بواو المصاحبة التي تقتضي المعيّة. والله أعلم. قوله: (فربّما سألوه: ثمّ سلم) أي: ربّما سألوا ابن سيرين هل في

الحديث ثمّ سلم؟ فيقول: نبّئت إلخ " , وهذا يدلّ على أنّه لَم يسمع ذلك من عمران. وقد بيّن أشعث في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران , فقال: قال ابن سيرين: حدّثني خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن عمّه أبي المُهلَّب عن عمران بن حصين. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ، ووقع لنا عالياً في جزء الذّهليّ، فظهر أنّ ابن سيرين أبهم ثلاثة. وروايته عن خالدٍ من رواية الأكابر عن الأصاغر. تكميلٌ: اختلف أهل العلم في التشهد في سجدتي السهو. أمّا قبل السّلام. القول الأول: الجمهور على أنّه لا يعيد التّشهّد. القول الثاني: حكى ابن عبد البرّ عن الليث أنّه يعيده، وعن البويطيّ عن الشّافعيّ مثله وخطّؤوه في هذا النّقل , فإنّه لا يعرف. القول الثالث: عن عطاءٍ يتخيّر، واختلف فيه عند المالكيّة. وأمّا من سجد بعد السّلام. فحكى التّرمذيّ عن أحمد وإسحاق أنّه يتشهّد، وهو قول بعض المالكيّة والشّافعيّة، ونقله أبو حامد الإسفرايينيّ عن القديم، لكن وقع في " مختصر المزنيّ " سمعت الشّافعيّ يقول: إذا سجد بعد السّلام تشهّد، أو قبل السّلام أجزأه التّشهّد الأوّل. وتأوّل بعضهم هذا النّصّ على أنّه تفريعٌ على القول القديم , وفيه ما لا يخفى.

وأخرج البخاري عن سلمة بن علقمة، قال: قلت لمحمد في سجدتي السهو تشهد؟ قال: ليس في حديث أبي هريرة " وفي رواية أبي نعيمٍ " فقال: لَم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئاً , وأحبّ إليّ أن يتشهّد ". وقد يفهم من قوله " ليس في حديث أبي هريرة " أنّه ورد في حديث غيره وهو كذلك. فقد رواه أبو داود والتّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمّد بن سيرين عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن أبي المُهلَّب عن عمران بن حصين , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم فسها، فسجد سجدتين ثمّ تشهّد ثمّ سلم. قال التّرمذيّ: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشّيخين. وقال ابن حبّان: ما روى ابن سيرين عن خالدٍ غير هذا الحديث. انتهى. وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر. وضعّفه البيهقيّ وابن عبد البرّ وغيرهما. ووهّموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفّاظ عن ابن سيرين، فإنّ المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التّشهّد. وروى السّرّاج من طريق سلمة بن علقمة أيضاً في هذه القصّة " قلت لابن سيرين: فالتّشهّد؟ قال: لَم أسمع في التّشهّد شيئاً ". وفي رواية الباب من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين قال: نبّئت أنّ عمران بن حصين قال: ثمّ سلم. وكذا المحفوظ عن خالدٍ بهذا

الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التّشهّد. كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذّة. ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التّشهّد في سجود السّهو يثبت. لكن قد ورد في التّشهّد في سجود السّهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنّسائيّ، وعن المغيرة عند البيهقيّ. وفي إسنادهما ضعف. فقد يقال: إنّ الأحاديث الثّلاثة في التّشهّد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائيّ: وليس ذلك ببعيدٍ، وقد صحّ ذلك عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبي شيبة.

الحديث الواحد والستون

الحديث الواحد والستون 110 - عن عبد الله بن بحينة - وكان من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم الظّهر , فقام في الرّكعتين الأوليين , ولَم يجلس , فقام النّاس معه , حتّى إذا قضى الصّلاة , وانتظر النّاس تسليمه , كبّر وهو جالسٌ. فسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم ثمّ سلَّم. (¬1) قوله: (بحينة) بالضم وفتح الحاء المهملة (¬2) قوله: (صلَّى بهم) في رواية لهما " صلَّى لنا " أي: بنا أو لأجلنا , وللبخاري من رواية ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن الأعرج بلفظ " صلَّى بنا " قوله: (فقام في الرّكعتين الأوليين , ولَم يجلس) أي: للتّشهّد، وفي صحيح مسلم " فلم يجلس " بالفاء، زاد الضّحّاك بن عثمان عن الأعرج " فسبّحوا به فمضى حتّى فرغ من صلاته " أخرجه ابن خزيمة. وفي حديث معاوية عند النّسائيّ وعقبة بن عامر عند الحاكم جميعاً نحو هذه القصّة بهذه الزّيادة. وللبخاري " فقام وعليه جلوس ". قال ابن رشيد: إذا أطلق في الأحاديث الجلوس في الصّلاة من غير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (795 , 796، 1166، 1167، 1173، 6293) ومسلم (570) من طرق الأعرج عن عبد الله ابن بحينة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدّمت ترجمته - رضي الله عنه - في صفة الصلاة برقم (96)

تقييد فالمراد به جلوس التّشهّد. انتهى والتشهد هو تفعّل من تشهّد، سُمِّي بذلك لاشتماله على النّطق بشهادة الحقّ تغليباً لها على بقيّة أذكاره لشرفها. واستدل بالحديث وهو القول الأول: على استحباب التشهد الأول. ووجه الدّلالة من حديث الباب , أنّه لو كان واجباً لرجع إليه لَمّا سبّحوا به بعد أن قام، ويعرف منه أنّ قول ناصر الدّين ابن المنير في الحاشية: لو كان واجباً لسبّحوا به , ولَم يسارعوا إلى الموافقة على التّرك، غفلةٌ عن الرّواية المنصوص فيها على أنّهم سبّحوا به. قال ابن بطّال: والدّليل على أنّ سجود السّهو لا ينوب عن الواجب , أنّه لو نسي تكبيرة الإحرام لَم تجبر فكذلك التّشهّد، ولأنّه ذكر لا يجهر به بحالٍ فلم يجب كدعاء الافتتاح. واحتجّ غيره بتقريره - صلى الله عليه وسلم - النّاس على متابعته بعد أن علم أنّهم تعمّدوا تركه. وفيه نظرٌ. وقال الزين بن المنير: وفي لفظ الحديث ما يشعر بالوجوب حيث قال " وعليه جلوس " وهو محتمل، وورد الأمر بالتّشهّد الأوّل أيضاً. انتهى. القول الثاني: قال بوجوبه الليث وإسحاق وأحمد في المشهور وهو قول للشّافعيّ، وفي رواية عند الحنفيّة.

واحتجّ الطّبريّ لوجوبه: بأنّ الصّلاة فرضت أوّلاً ركعتين , وكان التّشهّد فيها واجباً فلمّا زيدت لَم تكن الزّيادة مزيلة لذلك الواجب. وأجيب: بأنّ الزّيادة لَم تتعيّن في الأخيرتين , بل يحتمل أن يكونا هما الفرض الأوّل. والمزيد هما الرّكعتان الأولتان بتشهّدهما. ويؤيّده. استمرار السّلام بعد التّشهّد الأخير كما كان. واحتجّ أيضاً: بأنّ من تعمّد ترك الجلوس الأوّل بطلت صلاته. وهذا لا يرِد , لأنّ من لا يوجبه لا يبطل الصّلاة بتركه. فائدةٌ: لا خلاف في أنّ ألفاظ التّشهّد في الأولى كالتي في الأخيرة، إلاَّ ما روى الزّهريّ عن سالم قال: وكان ابن عمر لا يسلم في التّشهّد الأوّل، كان يرى ذلك نسخاً لصلاته. قال الزّهريّ: فأمّا أنا فأسلم، يعني قوله " السّلام عليك أيّها النّبيّ - إلى - الصّالحين " هكذا أخرجه عبد الرّزّاق. قوله: (حتّى إذا قضى الصّلاة) أي: فرغ منها كذا رواه مالك عن الزهري. وقد استدل به لمن زعم أنّ السّلام ليس من الصّلاة , حتّى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمّت صلاته , وهو قول بعض الصّحابة والتّابعين. وبه قال أبو حنيفة. وتعقّب: بأنّ السّلام لَمّا كان للتّحليل من الصّلاة كان المُصلِّي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته. ويدلّ على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من

الثّقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج " حتّى إذا فرغ من الصّلاة إلاَّ أن يسلم " فدلَّ على أنّ بعض الرّواة حذف الاستثناء لوضوحه، والزّيادة من الحافظ مقبولة. قوله: (وانتظر النّاس تسليمه) وفي هذه الجملة ردّ على من زعم أنّه - صلى الله عليه وسلم - سجد في قصّة ابن بحينة قبل السّلام سهواً، أو أنّ المراد بالسّجدتين سجدتا الصّلاة، أو المراد بالتّسليم التّسليمة الثّانية، ولا يخفى ضعف ذلك وبعده. قوله: (كبّر وهو جالسٌ) وللبخاري " كبَّر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس " , وهي جملة حاليّة متعلقة بقوله " سجد " أي: أنشأ السّجود جالساً. قوله: (فسجد سجدتين قبل أن يسلم) فيه مشروعيّة سجود السّهو , وأنّه سجدتان , فلو اقتصر على سجدةٍ واحدةٍ ساهياً لَم يلزمه شيء أو عامداً بطلت صلاته , لأنّه تعمّد الإتيان بسجدةٍ زائدةٍ ليست مشروعة. وأنّه يكبّر لهما كما يكبّر في غيرهما من السّجود. وفي رواية الليث عن ابن شهاب عند البخاري " يكبّر في كل سجدة " وفي رواية الأوزاعيّ " فكبّر ثمّ سجد ثمّ كبّر فرفع رأسه , ثمّ كبّر فسجد ثمّ كبّر فرفع رأسه , ثمّ سلم " أخرجه ابن ماجه، ونحوه في رواية ابن جريج بلفظ " فكبر فسجد ثم كبر فسجد ثم سلم " أخرجه أحمد. واستدل به على مشروعيّة التّكبير فيهما والجهر به كما في الصّلاة وأنّ

بينهما جلسةً فاصلةً. واستدل به بعض الشّافعيّة على الاكتفاء بالسّجدتين للسّهو في الصّلاة، ولو تكرّر من جهة أنّ الذي فات في هذه القصّة الجلوس والتّشهّد فيه , وكلٌّ منهما لو سها المُصلِّي عنه على انفراده سجد لأجله , ولَم ينقل أنّه - صلى الله عليه وسلم - سجد في هذه الحالة غير سجدتين. وتعقّب: بأنّه ينبني على ثبوت مشروعيّة السّجود لترك ما ذكر، ولَم يستدلّوا على مشروعيّة ذلك بغير هذا الحديث فيستلزم إثبات الشّيء بنفسه وفيه ما فيه، وقد صرّح في بقيّة الحديث بأنّ السّجود مكان ما نسي من الجلوس كما سيأتي من رواية الليث بلفظ " وسجدهما الناس معه , مكان ما نسي من الجلوس "، نعم حديث ذي اليدين دالٌّ لذلك كما تقدم قوله: (ثمّ سلَّم) زاد في رواية يحيى بن سعيد " ثمّ سلم بعد ذلك " وزاد في رواية الليث عند البخاري " وسجدهما النّاس معه مكان ما نسي من الجلوس " واستدل به على أنّ سجود السّهو قبل السّلام , ولا حجّة فيه في كون جميعه كذلك، نعم. يردّ على من زعم أنّ جميعه بعد السّلام كالحنفيّة. واستُدل بزيادة الليث المذكورة على أنّ السّجود خاصٌّ بالسّهو , فلو تعمّد ترك شيءٍ ممّا يجبر بسجود السّهو لا يسجد , وهو قول الجمهور، ورجّحه الغزاليّ وناس من الشّافعيّة.

واستدل به أيضاً على أنّ المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام وإن لَم يسه المأموم، ونقل ابن حزمٍ فيه الإجماع. لكن استثنى غيره ما إذا ظنّ الإمام أنّه سها فسجد وتحقّق المأموم أنّ الإمام لَم يسه فيما سجد له. وفي تصويرها عسر، وما إذا تبيّن أنّ الإمام محدث، ونقل أبو الطّيّب الطّبريّ , أنّ ابن سيرين استثنى المسبوق أيضاً. وفي هذا الحديث أنّ سجود السّهو لا تشهّد بعده إذا كان قبل السّلام (¬1) , وأنّ التّشهّد الأوّل غير واجبٍ. وأنّ من سها عن التّشهّد الأوّل حتّى قام إلى الرّكعة ثمّ ذكر لا يرجع , فقد سبّحوا به - صلى الله عليه وسلم - فلم يرجع، فلو تعمّد الْمُصلِّي الرّجوع بعد تلبّسه بالرّكن بطلت صلاته. عند الشّافعيّ خلافاً للجمهور. وأنّ السّهو والنّسيان جائزان على الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام فيما طريقه التّشريع، وأنّ محلّ سجود السّهو آخر الصّلاة فلو سجد للسّهو قبل أن يتشهّد ساهياً أعاد عند من يوجب التّشهّد الأخير , وهم الجمهور. تكميلٌ: اختلف أهل العلم بين ما إذا كان السّهو بالنّقصان أو الزّيادة. القول الأول: في الأوّل يسجد قبل السّلام كما في حديث ابن بحينة , وفي الزّيادة يسجد بعده، وبالتّفرقة هكذا. قال مالك والمزنيّ وأبو ¬

_ (¬1) تقدَّم نقل الخلاف في الحديث الذي قبله.

ثورٍ من الشّافعيّة. وزعم ابن عبد البرّ , أنّه أولى من قول غيره للجمع بين الخبرين (¬1). قال: وهو موافقٌ للنّظر , لأنّه في النّقص جَبْرٌ فينبغي أن يكون من أصل الصّلاة، وفي الزّيادة ترغيم للشّيطان فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شكّ أنّ الجمع أولى من التّرجيح وادّعاء النّسخ، ويترجّح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرةً , وكان الحكم على وفقها. كانت عِلَّة فيعمّ الحكم جميع محالّها فلا تخصّص إلاَّ بنصّ. وتعقّب: بأنّ كون السّجود في الزّيادة ترغيماً للشّيطان فقط ممنوع، بل هو جبرٌ أيضاً لِمَا وقع من الخلل، فإنّه وإن كان زيادة فهو نقصٌ في المعنى، وإنّما سمّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سجود السّهو ترغيماً للشّيطان في حالة الشّكّ كما في حديث أبي سعيد عند مسلم. وقال الخطّابيّ: لَم يرجع من فرّق بين الزّيادة والنّقصان إلى فرقٍ صحيحٍ. وأيضاً فقصّة ذي اليدين وقع السّجود فيها بعد السّلام وهي عن نقصان. وأمّا قول النّوويّ: أقوى المذاهب فيها قول مالك ثمّ أحمد. فقد قال غيره: بل طريق أحمد أقوى , لأنّه قال يستعمل كلّ حديث ¬

_ (¬1) يعني بهما حديث الباب. وحديث ابن مسعود , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظهر خمساً، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ , قالوا: صليتَ خمساً، فسجد سجدتين بعد ما سلَّم. أخرجه البخاري (404) ومسلم (572). وكذا حديث ذي اليدين المتقدِّم. حيث سجد بعد السلام.

فيما ورد فيه، وما لَم يرد فيه شيءٌ يسجد قبل السّلام. وهو القول الثاني. قال: ولولا ما روي عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لرأيته كلّه قبل السّلام، لأنّه من شأن الصّلاة فيفعله قبل السّلام. القول الثالث: قال إسحاق مثله، إلاَّ أنّه قال: ما لَم يرد فيه شيءٌ يفرّق فيه بين الزّيادة والنّقصان، فحرّر مذهبه من قولي أحمد ومالك. وهو أعدل المذاهب فيما يظهر. القول الرابع: أمّا داود فجرى على ظاهريّته , فقال: لا يشرع سجود السّهو إلاَّ في المواضع التي سجد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها فقط. القول الخامس: عند الشّافعيّ سجود السّهو كلّه قبل السّلام. القول السادس: عند الحنفيّة كلّه بعد السّلام، واعتمد الحنفيّة على حديث ابن مسعود (¬1). وتعقّب: بأنّه لَم يعلم بزيادة الرّكعة إلاَّ بعد السّلام حين سألوه: هل زيد في الصّلاة؟. وقد اتّفق العلماء في هذه الصّورة. على أنّ سجود السّهو بعد السّلام لتعذّره قبله لعدم علمه بالسّهو، وإنّما تابعه الصّحابة لتجويزهم الزّيادة في الصّلاة , لأنّه كان زمان توقّع النّسخ. وأجاب بعضهم: بما وقع في حديث ابن مسعود من الزّيادة , وهي " إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب فليتمّ عليه , ثمّ ليسلم ¬

_ (¬1) متفق عليه , وقد تقدم ذكره في التعليق السابق.

ثمّ يسجد سجدتين " متفق عليه. وأجيب: بأنّه معارضٌ بحديث أبي سعيد عند مسلم. ولفظه: إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلَّى , فليطرح الشّكّ وليبنِ على ما استيقن , ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلم. وبه تمسّك الشّافعيّة. وجمع بعضهم بينهما بحمل الصّورتين على حالتين. ورجّح البيهقيّ طريقة التّخيير في سجود السّهو قبل السّلام أو بعده. ونقل الماورديّ وغيره الإجماع على الجواز , وإنّما الخلاف في الأفضل. وكذا أطلق النّوويّ. وتعقّب: بأنّ إمام الحرمين نقل في " النّهاية " الخلاف في الإجزاء عن المذهب , واستبعد القول بالجواز. وكذا نقل القرطبيّ الخلاف في مذهبهم، وهو مخالفٌ لِمَا قاله ابن عبد البرّ: إنّه لا خلاف عن مالكٍ , أنّه لو سجد للسّهو كلّه قبل السّلام أو بعده أن لا شيء عليه، فيجمع بأنّ الخلاف بين أصحابه والخلاف عند الحنفيّة. قال القدوريّ: لو سجد للسّهو قبل السّلام , روي عن بعض أصحابنا لا يجوز , لأنّه أداءٌ قبل وقته، وصرّح صاحب الهداية بأنّ الخلاف عندهم في الأولويّة. وقال ابن قدامة في " المقنع ": من ترك سجود السّهو الذي قبل السّلام بطلت صلاته إن تعمّد، وإلاّ فيتداركه ما لَم يطل الفصل.

ويمكن أن يقال: الإجماع الذي نقله الماورديّ وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة. وقال ابن خزيمة: لا حجّة للعراقيّين في حديث ابن مسعود , لأنّهم خالفوه فقالوا: إن جلس المُصلِّي في الرّابعة مقدار التّشهّد أضاف إلى الخامسة سادسة ثمّ سلم وسجد للسّهو، وإن لَم يجلس في الرّابعة لَم تصحّ صلاته. ولَم ينقل في حديث ابن مسعود إضافة سادسة , ولا إعادة , ولا بدّ من أحدهما عندهم. قال: ويحرم على العالم أن يخالف السّنّة بعد علمه بها.

باب المرور بين يدي المصلي

باب المرور بين يدي المُصلِّي الحديث الثاني والستون 111 - عن أبي جهيم بن الحارث بن الصّمّة الأنصاريّ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو يعلم المارّ بين يديْ الْمُصلِّي ماذا عليه من الإثم (¬1) لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه. قال أبو النّضر: لا أدري , قال أربعين يوماً أو شهراً أو سنةً. (¬2) قوله: (عن أبي جهيم بن الحارث) قيل اسمه عبد الله , وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه قال: يقال هو الحارث بن الصمّة. فعلى هذا لفظة ابن زائدة بين أبي جهيم والحارث , لكن صحَّح أبو حاتم أنَّ الحارث اسم أبيه لا اسمه , وفرَّق ابن أبي حاتم بينه وبين عبد الله بن جهيم يكنى أيضاً أبا جهيم. وقال ابن منده: عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة. فجعل الحارث اسم جده , ولم يوافق عليه , وكأنَّه أراد أن يجمع الأقوال المختلفة فيه. والصِّمة بكسر المهملة وتشديد الميم. هو ابن عمرو بن عتيك ¬

_ (¬1) قوله " من الإثم " ليست في الصحيحين , وهو وهْمٌ من صاحب العمدة. كما سينبِّه عليه الشارح. (¬2) أخرجه البخاري (488) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (507) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد: أنَّ زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المارِّ بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: فذكره

الخزرجي. وفي الصحابة شخص آخر يقال له أبو الجهم - وهو صاحب الإنبجانية - (¬1) وهو غير هذا لأنه قرشي وهذا أنصاري , ويقال بحذف الألف واللام في كلٍّ منهما وبإثباتهما. قوله: (بين يدي المُصلِّي) أي: أمامه بالقرب منه، وعبّر باليدين لكون أكثر الشّغل يقع بهما. واختلف في تحديد ذلك. فقيل: إذا مرّ بينه وبين مقدار سجوده، وقيل: بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل: بينه وبين قدر رمية بحجر. قوله: (ماذا عليه من الإثم) زاد الكشميهنيّ " من الإثم " , وليست هذه الزّيادة في شيءٍ من الرّوايات عند غيره، والحديث في الموطّأ بدونها. وقال ابن عبد البرّ: لَم يختلف على مالك في شيءٍ منه. وكذا رواه باقي السّتّة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولَم أرها في شيءٍ من الرّوايات مطلقاً. لكن في مصنّف ابن أبي شيبة " يعني من الإثم ". فيحتمل: أن تكون ذكرت في أصل البخاريّ حاشية فظنّها الكشميهنيّ أصلاً؛ لأنّه لَم يكن من أهل العلم , ولا من الحفّاظ , بل كان راوية. ¬

_ (¬1) سيأتي حديثه إن شاء الله برقم (135).

وقد عزاها المحبّ الطّبريّ في الأحكام للبخاريّ وأطلق، فعِيْب ذلك عليه , وعلى صاحب العمدة في إيهامه أنّها في الصّحيحين. وأنكر ابن الصّلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها في الخبر , فقال: لفظ الإثم. ليس في الحديث صريحاً. ولَمَّا ذكره النّوويّ في شرح المهذّب دوَّنها قال: وفي روايةٍ روّيناها في الأربعين لعبد القادر الهرويّ " ماذا عليه من الإثم ". قوله: (لكان أن يقف أربعين) يعني: أنّ المارّ لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المُصلِّي لاختار أن يقف المدّة المذكورة حتّى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرمانيّ: جواب " لو " ليس هو المذكور، بل التّقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيراً له. وليس ما قاله متعيّناً، قال: وأبهم المعدود تفخيماً للأمر وتعظيماً. قلت: ظاهر السّياق. أنّه عيّن المعدود , ولكن شكّ الرّاوي فيه. ثمّ أبدى الكرمانيّ لتخصيصٍ الأربعين بالذّكر حكمتين: إحداهما: كون الأربعة أصل جميع الأعداد. فلمّا أُريد التّكثير ضربت في عشرة. ثانيتهما: كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنّطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشدّ. ويحتمل غير ذلك. انتهى. وفي ابن ماجه وابن حبّان من حديث أبي هريرة " لكان أن يقف مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها ". وهذا يشعر بأنّ إطلاق

الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر , لا لخصوص عددٍ معيّنٍ. وجنح الطّحاويّ إلى أنّ التّقييد بالمائة وقع بعد التّقييد بالأربعين زيادةً في تعظيم الأمر على المارّ؛ لأنّهما لَم يقعا معاً إذ المائة أكثر من الأربعين , والمقام مقام زجرٍ وتخويفٍ فلا يناسب أن يتقدّم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخّر. ومميّز الأربعين إن كان هو السّنة ثبت المدّعى، وأمّا دونها فمن باب الأولى. وقد وقع في مسند البزّار من طريق ابن عيينة عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن أبي الجهيم التي ذكرها ابن القطّان " لكان أن يقف أربعين خريفاً ". أخرجه عن أحمد بن عبدة الضّبّيّ عن ابن عيينة. وقد جعل ابن القطّان الجزم في طريق ابن عيينة. والشّكّ في طريق غيره دالاًّ على التّعدّد، لكن رواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وغيرهم من الحفّاظ عن ابن عيينة عن أبي النّضر على الشّكّ أيضاً , وزاد فيه " أو ساعة " , فيبعد أن يكون الجزم والشّكّ وقعا معاً من راوٍ واحدٍ في حالةٍ واحدةٍ إلاَّ أن يقال: لعلَّه تذكّر في الحال فجزم، وفيه ما فيه. قوله: (خيراً له) كذا في روايتنا بالنّصب على أنّه خبر كان، ولبعضهم " خير " بالرّفع. وهي رواية التّرمذيّ، وأعربها ابن العربيّ على أنّها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنّكرة لكونها موصوفةً. ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشّأن والجملة خبرها.

قوله: (قال أبو النّضر) هو كلام مالكٍ , وليس من تعليق البخاريّ، لأنّه ثابتٌ في الموطّأ من جميع الطّرق. وكذا ثبت في رواية الثّوريّ وابن عيينة. قال النّوويّ: فيه دليل على تحريم المرور، فإنّ معنى الحديث النّهي الأكيد والوعيد الشّديد على ذلك. انتهى. ومقتضى ذلك أن يعدّ في الكبائر , وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فاته أو استثباته فيما سمع معه. وفيه الاعتماد على خبر الواحد؛ لأنّ زيداً اقتصر على النّزول مع القدرة على العلوّ اكتفاءً برسوله المذكور. وفيه استعمال " لو " في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النّهي، لأنّ محلّ النّهي أن يشعر بما يعاند المقدور. تنبيهات: أحدها: استنبط ابن بطّال من قوله " لو يعلم " أنّ الإثم يختصّ بمن يعلم بالنّهي وارتكبه. انتهى. وأخذُه من ذلك فيه بعدٌ، لكن هو معروفٌ من أدلةٍ أخرى. ثانيها: ظاهر الحديث أنّ الوعيد المذكور يختصّ بمن مرّ. لا بمن وقف عامداً مثلاً بين يدي المُصلِّي. أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة فيه التّشويش على المُصلِّي فهو في معنى المارّ. ثالثها: ظاهره عموم النّهي في كلّ مصلٍّ، وخصّه بعض المالكيّة بالإمام والمنفرد؛ لأنّ المأموم لا يضرّه من مرّ بين يديه؛ لأنّ سترة إمامه سترة له أو إمامه سترة له. انتهى.

والتّعليل المذكور لا يطابق المدّعى؛ لأنّ السّترة تفيد رفع الحرج عن المُصلِّي لا عن المارّ، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك. رابعها: ذكر ابن دقيق العيد: أنّ بعض الفقهاء أي: المالكيّة قسّم أحوال المارّ والمُصلِّي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام: يأثم المارّ دون المُصلِّي، وعكسه يأثمان جميعاً، وعكسه. فالصّورة الأولى: أن يُصلِّي إلى سترةٍ في غير مشرعٍ , وللمارّ مندوحة فيأثم المارّ دون المُصلِّي. الثّانية: أن يُصلِّي في مشرعٍ مسلوك بغير سترةٍ أو متباعداً عن السّترة , ولا يجد المارّ مندوحة. فيأثم المُصلِّي دون المارّ. الثّالثة: مثل الثّانية , لكن يجد المارّ مندوحة فيأثمان جميعاً. الرّابعة: مثل الأولى لكن لَم يجد المارُّ مندوحة فلا يأثمان جميعاً. انتهى. وظاهر الحديث يدلّ على منع المرور مطلقاً ولو لَم يجد مسلكاً , بل يقف حتّى يفرغ المُصلِّي من صلاته. ويؤيّده قصّة أبي سعيد (¬1) فإن فيها " فنظر الشاب فلم يجد مساغاً ". وقول إمام الحرمين: إنّ الدّفع لا يشرع للمصلي في هذه الصّور تبعه الغزاليّ، ونازعه الرّافعيّ. وتعقّبه ابن الرّفعة: بما حاصله أنّ الشّابّ إنّما استوجب من أبي سعيد الدّفع لكونه قصّر في التّأخّر عن الحضور إلى الصّلاة حتّى وقع ¬

_ (¬1) حديث أبي سعيد متفق عليه. وفد ذكره المصنف مختصراً. وسيأتي بعد هذا. فانظره.

الزّحام. انتهى. وما قاله محتمل , لكن لا يدفع الاستدلال؛ لأنّ أبا سعيد لَم يعتذر بذلك؛ ولأنّه متوقّفٌ على أنّ ذلك وقع قبل صلاة الجمعة أو فيها. مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها فلا يتّجه ما قاله من التّقصير بعدم التّبكير، بلى كثرة الزّحام حينئذٍ أوجه، والله أعلم. التنبيه الخامس: وقع في رواية أبي العبّاس السّرّاج من طريق الضّحّاك بن عثمان عن أبي النّضر " لو يعلم المارّ بين يدي المُصلِّي والْمُصلَّى ". فحمله بعضهم: على ما إذا قصّر المُصلِّي في دفع المارّ أو بأن صلَّى في الشّارع، ويحتمل: أن يكون قوله " والمصلَّى " بفتح اللام. أي: بين يدي المُصلِّي من داخل سترته، وهذا أظهر، والله أعلم.

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون 112 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا صلَّى أحدكم إلى شيءٍ يستره من النّاس , فأراد أحدٌ أن يَجتازَ بين يديه فليدفعه. فإنْ أَبَى فليقاتله , فإنّما هو شيطانٌ. (¬1) قوله: (إلى شيء يستره) هذا لفظ سليمان بن المغيرة عن حميد , وللبخاري من طريق يونس عن حميد بن هلال: إذا مرّ بين يدي أحدكم شيءٌ وهو يُصلِّي " وليس فيه تقييد الدّفع بما إذا كان المُصلِّي يُصلِّي إلى سترة. وذكر الإسماعيليّ: أنّ سليم بن حيّان (¬2) تابع يونسَ عن حميدٍ على عدم التّقييد. قلت: والمطلق في هذا محمول على المقيّد؛ لأنّ الذي يُصلِّي إلى غير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (487 , 3100) ومسلم (505) من طريق حميد بن هلال عن أبي صالح السمان، قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يُصلِّي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شابٌّ من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلاَّ بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشدَّ من الأولى، فنال مِن أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكره. وأخرجه مسلم (505) من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه - رضي الله عنه - مختصراً نحو رواية العمدة. دون قيد السترة. (¬2) أخرج روايته الذهبي في " السير " (14/ 199) من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه عنه به.

سترةٍ مقصّرٌ بتركها , ولا سيّما إن صلَّى في مشارع المشاة , وقد روى عبد الرّزّاق عن معمر التّفرقة بين من يُصلِّي إلى سترةٍ وإلى غير سترة. وفي الرّوضة تبعاً لأصلها: ولو صلَّى إلى غير سترةٍ أو كانت , وتباعد منها , فالأصحّ. أنّه ليس له الدّفع لتقصيره , ولا يحرم المرور حينئذٍ بين يديه (¬1) ولكنّ الأولى تركه. قوله: (فليدفعه) ولمسلمٍ " فليدفع في نحره " قال القرطبيّ: أي: بالإشارة ولطيف المنع. وقوله: (فليقاتله) أي: يزيد في دفعه الثّاني أشدّ من الأوّل. قال القرطبي: وأجمعوا على أنّه لا يلزمه أن يقاتله بالسّلاح، لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصّلاة والاشتغال بها والخشوع فيها. انتهى. وأطلق جماعةٌ من الشّافعيّة أنّ له أن يقاتله حقيقة , واستبعد ابن العربيّ ذلك في " القبس " وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة. وأغرب الباجيّ , فقال: يحتمل أن يكون المراد بالمقاتلة اللعن أو التّعنيف. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (1/ 753): في هذا نظرٌ , وظاهر الأحاديث يقتضي تحريم المرور بين يديه , وأنه يشرع له ردُّ المارِّ , اللهمَّ إلاَّ أن يضطر المارُّ إلى ذلك لعدم وجود متسع إلاَّ بين يديه , ومتى بعُد المارُّ عما بين يدي المُصلِّي إذا لَم يلق بين يديه سترة سلِم من الإثم , لأنّه إذا بعُد عنه عُرفاً لا يسمى ماراً بين يديه , كالذي يمر من وراء السترة. انتهى

وتعقّب: بأنّه يستلزم التّكلّم في الصّلاة وهو مبطل، بخلاف الفعل اليسير. ويمكن أن يكون أراد أنّه يلعنه داعياً لا مخاطباً، لكنّ فعل الصّحابيّ يخالفه، وهو أدرى بالمراد. وقد رواه الإسماعيليّ بلفظ " فإن أبى , فليجعل يده في صدره ويدفعه " وهو صريحٌ في الدّفع باليد. ونقل البيهقيّ عن الشّافعيّ: أنّ المراد بالمقاتلة دفعٌ أشدّ من الدّفع الأوّل، وما جاء عن ابن عمر يقتضي أنّ المقاتلة إنّما تشرع إذا تعيّنت في دفعه. فأخرج عبد الرّزّاق عنه أنه قال: لا تدع أحداً يمرّ بين يديك وأنت تصلي، فإن أبى إلاَّ أن تقاتله فقاتله. وبنحوه صرّح أصحابنا , فقالوا: يردّه بأسهل الوجوه فإن أبى فبأشدّ، ولو أدّى إلى قتله. فلو قتل فلا شيء عليه؛ لأنّ الشّارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره , أنّ عندهم خلافاً في وجوب الدّية في هذه الحالة. ونقل ابن بطّال وغيره الاتّفاق على أنّه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه، ولا العمل الكثير في مدافعته؛ لأنّ ذلك أشدّ في الصّلاة من المرور. وذهب الجمهور. إلى أنّه إذا مرّ ولَم يدفعه فلا ينبغي له أن يردّه؛ لأنّ فيه إعادةً للمرور. وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وغيره , أنّ له ذلك، ويمكن حمله على ما إذا ردّه فامتنع وتمادى، لا حيث يقصّر

المُصلِّي في الرّدّ. وقال النّوويّ: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بوجوب هذا الدّفع، بل صرّح أصحابنا بأنّه مندوب. انتهى. وقد صرّح بوجوبه أهّل الظّاهر، فكأنّ الشّيخ لَم يراجع كلامهم فيه , أو لَم يعتدّ بخلافهم. قوله: (فإنّما هو شيطانٌ) أي: فعله فعل الشّيطان؛ لأنّه أبى إلاَّ التّشويش على المُصلِّي. وإطلاق الشّيطان على المارد من الإنس سائغ شائع وقد جاء في القرآن قوله تعالى (شياطين الإنس والجنّ). وقال ابن بطّال: في هذا الحديث جواز إطلاق لفظ الشّيطان على من يفتن في الدّين، وأنّ الحكم للمعاني دون الأسماء، لاستحالة أن يصير المارّ شيطاناً بمجرّد مروره. انتهى. وهو مبنيٌّ على أنّ لفظ " الشّيطان " يطلق حقيقةً على الجنّيّ ومجازاً على الإنسيّ، وفيه بحث. ويحتمل: أن يكون المعنى: فإنّما الحامل له على ذلك الشّيطان. وقد وقع في روايةٍ للإسماعيليّ " فإنّما هو شيطان " ونحوه لمسلمٍ من حديث ابن عمر بلفظ " فإنّ معه القرين ". واستنبط ابن أبي جمرة من قوله " فإنّما هو شيطان " أنّ المراد بقوله " فليقاتله " المدافعة اللطيفة لا حقيقة القتال، قال: لأنّ مقاتلة الشّيطان إنّما هي بالاستعاذة والتّستّر عنه بالتّسمية ونحوها، وإنّما جاز الفعل اليسير في الصّلاة للضّرورة، فلو قاتله حقيقة المقاتلة لكان أشدّ على

صلاته من المارّ. قال: وهل المقاتلة لخللٍ يقع في صلاة المُصلِّي من المرور، أو لدفع الإثم عن المارّ؟ الظّاهر الثّاني. انتهى. وقال غيره: بل الأوّل أظهر؛ لأنّ إقبال المُصلِّي على صلاته أولى له من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود , أنّ المرور بين يدي المُصلِّي يقطع نصف صلاته , وروى أبو نعيم عن عمر: لو يعلم المُصلِّي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه , ما صلَّى إلاَّ إلى شيءٍ يستره من النّاس. فهذان الأثران مقتضاهما أنّ الدّفع لخللٍ يتعلق بصلاة المُصلِّي، ولا يختصّ بالمارّ، وهما - وإن كانا موقوفين لفظاً - فحكمهما حكم الرّفع؛ لأنّ مثلهما لا يقال بالرّأي. فائدة: روى الشيخان عن سهل بن سعد السَّاعدي قال: كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممر الشاة. قال ابن بطال: هذا أقلُّ ما يكون بين المصلي وسترته، يعني قدر ممر الشاة، وقيل: أقل ذلك ثلاثة أذرع لحديث بلال , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع. أخرجه البخاري. وجمع الداودي: بأنَّ أقلَّه ممر الشاة. وأكثره ثلاثة أذرع. وجمع بعضهم: بأنَّ الأول في حال القيام والقعود والثاني في حال الركوع والسجود.

وقال ابن الصلاح: قدَّروا ممر الشاة بثلاثة أذرع. قلت: ولا يخفى ما فيه. وقال البغوي: استحب أهلُ العلم الدنوَّ من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها، وفيه بيان الحكمة في ذلك، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعاً: إذا صلَّى أحدكم إلى سُترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون 113 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: أقبلْتُ راكباً على حمارٍ أتانٍ , وأنا يومئذٍ قد ناهزتُ الاحتلام , ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي بالنّاس بمنىً إلى غير جدارٍ. فمررتُ بين يدي بعض الصّفّ فنزلت , فأرسلت الأتان ترتع. ودخلت في الصّفّ , فلم ينكر ذلك عليَّ أحدٌ. (¬1) قوله: (على حمار) هو اسم جنس يشمل الذّكر والأنثى كقولك بعير. وقد شذّ حمارة في الأنثى. حكاه في الصّحاح. قوله: (أتان) بفتح الهمزة وشذّ كسرها كما حكاه الصّغانيّ , هي الأنثى من الحمير، وربّما قالوا للأنثى: أتانة حكاه يونس وأنكره غيره، فجاء في الرّواية على اللّغة الفصحى. وحمارٌ أتانٌ بالتّنوين فيهما على النّعت أو البدل، وروي بالإضافة. وذكر ابن الأثير: أنّ فائدة التّنصيص على كونها أنثى للاستدلال بطريق الأولى على أنّ الأنثى من بني آدم لا تقطع الصّلاة , لأنّهنّ أشرف. وهو قياس صحيح من حيث النّظر، إلاَّ أنّ الخبر الصّحيح (¬2) لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (76 , 471، 823، 1758، 4150) ومسلم (504) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس به. (¬2) أي: حديث أبي ذر الآتي إن شاء الله.

يدفع بمثله. قوله: (ناهزت) أي: قاربت، والمراد بالاحتلام البلوغ الشّرعيّ. وفي البخاري من رواية أبي بشر عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال ابن عبّاسٍ: توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشر سنين. وقد استشكل عياض قول ابن عبّاسٍ: توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشر سنين " وقوله " أنّه كان في حجّة الوداع ناهز الاحتلام " , وللبخاري عن ابن عباس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مات وأنا ختينٌ , وكانوا لا يختنون الرّجل حتّى يدرك , وعنه أيضاً , أنّه كان عند موت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ابن خمس عشرة سنةً. وسبق إلى استشكال ذلك الإسماعيليّ , وبالغ الداودي , فقال: حديث أبي بشرٍ وهْمٌ. وقال عمرو بن عليٍّ الفلاس: الصّحيح عندنا أنّ ابن عبّاسٍ كان له عند وفاة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنةً قد استكملها. وأسند البيهقيّ عن مصعب الزبيري , أنه كان بن أربع عشرة , وبه جزم الشّافعيّ في الأمّ , ثمّ حكى أنّه قيل: ستّ عشرة , وحكى: ثلاث عشرة. وهو المشهور. وأورد البيهقيّ عن أبي العالية عن ابن عبّاسٍ: قرأت المحكم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن ثنتي عشرة. فهذه ستّة أقوالٍ , ولو ورد إحدى عشرة لكانت سبعةً , لأنّها من عشرٍ إلى ستّ عشرة. قلت: والأصل فيه قول الزّبير بن بكّارٍ وغيره من أهل النّسب , أنَّ

ولادة ابن عبّاس كانت قبل الهجر بثلاث سنين , وبنو هاشمٍ في الشِّعْب (¬1) , وذلك قبل وفاة أبي طالبٍ. ونحوه لأبي عبيدٍ , وبذلك ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح " (7/ 192): قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لَمَّا رأت قريش أنَّ الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً وأنَّ عمر أسلم وأنَّ الإسلام فشا في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شِعبَهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية. فلما رأتْ قريشٌ ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتاباً أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففعلوا ذلك، وعلَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فشلّت أصابعه، ويقال: إنَّ الذي كتبها النضر بن الحارث، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، قال ابن إسحاق، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع قريش. وقيل: كان ابتداء حصرهم في المحرم سنة سبع من المبعث. قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً. وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين حتى جهدوا , ولَم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئاً من الصِلات، إلى أن قام في نقْض الصحيفة نفرٌ من أشدهم في ذلك صنيعاً هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جدُّه، فكان يصِلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية - وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - فكلَّمه في ذلك فوافقه، ومشيا جميعاً إلى المطعم بن عدي وإلى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلمَّا جلسوا بالْحِجر تكلَّموا في ذلك وأنكروه وتواطئوا عليه. فقال أبو جهل: هذا أمرٌ قُضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها. وذكر ابن هشام: أنهم وجدوا الأرضة قد أكلتْ جميع ما فيها إلاَّ اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك: أنَّ الأرضة لَم تدع اسماً لله تعالى إلاَّ أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم. وذكر الواقدي. أنَّ خروجهم من الشعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات أبو طالب بعد أن خرجوا بقليل. قال ابن إسحاق: ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لَم تكن تنله في حياة أبي طالب. انتهى

قطع أهل السّير , وصحَّحه ابن عبد البر , وأورد بسند صحيح عن ابن عبّاسٍ , أنّه قال: ولدت وبنو هاشمٍ في الشِّعْب. ويمكن الجمع بين مختلف الرّوايات إلاَّ ستّ عشرة وثنتي عشرة , فإنّ كلاًّ منهما لَم يثبت سنده. أنّ المحفوظ الصّحيح , أنّه ولد بالشِّعْب , وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين , فيكون له عند الوفاة النّبويّة ثلاث عشرة سنةً. وهذا لا ينافي قوله " ناهزت الاحتلام " أي: قاربته , ولا قوله " وكانوا لا يختنون الرّجل حتّى يدرك " , لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النّبويّة وبعد حجّة الوداع. وأما قوله " وأنا ابن عشرٍ " , فمحمولٌ على إلغاء الكسر , وروى أحمد من طريق أخرى عن ابن عبّاس , أنه كان حينئذٍ ابن خمس عشرة ". يمكن ردّه إلى رواية ثلاث عشرة , بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء , وولد في أثناء السّنة , فجبر الكسرين , بأن يكون ولد مثلاً في شوّالٍ فله من السّنة الأولى ثلاثة. قوله: (يُصلِّي بالنّاس بمنىً) كذا قال مالك وأكثر أصحاب الزّهريّ عنه، ووقع عند مسلم من رواية ابن عيينة " بعرفة ".

قال النّوويّ: يُحمل ذلك على أنّهما قضيّتان. وتعقّب: بأنّ الأصل عدم التّعدّد ولا سيّما مع اتّحاد مخرج الحديث، فالحقّ أنّ قول ابن عيينة " بعرفة " شاذّ. ووقع عند مسلم أيضاً من رواية معمرٍ عن الزّهريّ " وذلك في حجّة الوداع أو الفتح " , وهذا الشّكّ من معمرٍ لا يعوّل عليه، والحقّ أنّ ذلك كان في حجّة الوداع. قوله: (إلى غير جدار) أي: إلى غير سترة. قاله الشّافعيّ. وسياق الكلام يدلّ على ذلك؛ لأنّ ابن عبّاس أورده في معرض الاستدلال على أنّ المرور بين يدي المُصلِّي لا يقطع صلاته. ويؤيّده رواية البزّار بلفظ: والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي المكتوبة ليس لشيءٍ يستره. وقال بعض المتأخّرين: قوله " إلى غير جدار ": لا ينفي غير الجدار، إلاَّ أنّ إخبار ابن عبّاس عن مروره بهم وعدم إنكارهم لذلك مشعر بحدوث أمرٍ لَم يعهدوه، فلو فرض هناك سترةٌ أخرى غير الجدار لَم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذٍ لا ينكره أحد أصلاً. وقد بوب البخاريّ على الحديث " باب سترة الإمام سترة لمن خلفه " , فحمل الأمرَ في ذلك على المألوف المعروف من عادته - صلى الله عليه وسلم - , أنّه كان لا يُصلِّي في الفضاء إلاَّ والعنزة أمامه، ثمّ أيّد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة (¬1)، وفي حديث ابن عمر ما يدلّ على المداومة. وهو قوله ¬

_ (¬1) حديث أبي جحيفة تقدّم الكلام عليه في الأذان. في المجلد الأول رقم (69). أمّا حديث ابن عمر. فأخرجه البخاري (494) ومسلم (501). أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلّي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر. فمِن ثَم اتخذها الأمراء.

بعد ذكر الحربة " وكان يفعل ذلك في السّفر ". وقد تبعه النّوويّ. فقال في شرح مسلمٍ في كلامه على فوائد هذا الحديث: فيه أنّ سترة الإمام سترة لمن خلفه، والله أعلم. قوله: (بين يدي بعض الصّفّ) هو مجاز عن الأمام بفتح الهمزة؛ لأنّ الصّفّ ليس له يد. وبعض الصّفّ. يحتمل: أن يراد به صفّ من الصّفوف , أو بعض من أحد الصّفوف. قاله الكرمانيّ. زاد البخاري من رواية ابن أخي ابن شهاب عن عمّه " حتّى سِرْت بين يدي بعض الصّفّ الأوّل " , وهو يعيّن أحد الاحتمالين. قوله: (ترتع) بمثنّاتين مفتوحتين وضمّ العين. أي: تأكل ما تشاء، وقيل: تسرع في المشي، وجاء أيضاً بكسر العين بوزن يفتعل من الرّعي، وأصله ترتعي لكن حذفت الياء تخفيفاً. والأوّل أصوب، ويدلّ عليه رواية البخاري " نزلت عنها فرتعت ". قوله: (ودخلت) وللكشميهنيّ: " فدخلت " بالفاء. قوله: (فلم ينكر ذلك عليّ أحد) قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عبّاس بترك الإنكار على الجواز، ولَم يستدل بترك إعادتهم للصّلاة؛ لأنّ ترك الإنكار أكثر فائدةً. قلت: وتوجيهه أنّ ترك الإعادة يدلّ على صحّتها فقط لا على

جواز المرور، وترك الإنكار يدلّ على جواز المرور وصحّة الصّلاة معاً. ويستفاد منه أنّ ترك الإنكار حجّة على الجواز بشرطه , وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالاطّلاع على الفعل، ولا يقال لا يلزم ممّا ذكر اطّلاع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لاحتمال أن يكون الصّفّ حائلاً دون رؤية النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له؛ لأنّا نقول إنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في الصّلاة من ورائه كما يرى من أمامه. وتقدّم أنّ في رواية البخاري " أنّه مرّ بين يدي بعض الصّفّ الأوّل "، فلم يكن هناك حائل دون الرّؤية، ولو لَم يرد شيء من ذلك لكان توفّر دواعيهم على سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عمّا يحدث لهم كافياً في الدّلالة على اطّلاعه على ذلك. والله أعلم. واستدل به على مرور الحمار لا يقطع الصّلاة، فيكون ناسخاً لحديث أبي ذرٍّ الذي رواه مسلم في كون مرور الحمار يقطع الصّلاة , وكذا مرور المرأة والكلب الأسود (¬1) وتعقّب: بأنّ مرور الحمار متحقّق في حال مرور ابن عبّاس وهو ¬

_ (¬1) ولفظه عند مسلم (510) من طريق عبد الله بن الصامت عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قام أحدكم يُصلِّي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لَم يكن بين يديه مثل آخرة الرَّحْل، فإنه يقطع صلاتَه الحمارُ، والمرأةُ، والكلبُ الأسودُ , قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني؟ فقال: الكلب الأسود شيطان.

راكبه، وقد تقدّم أنّ ذلك لا يضرّ لكون الإمام سترة لمن خلفه. وأمّا مروره بعد أن نزل عنه فيحتاج إلى نقل. وقال ابن عبد البرّ: حديث ابن عبّاس هذا يخصّ حديث أبي سعيد: إذا كان أحدكم يُصلِّي فلا يدع أحداً يمرّ بين يديه. فإنّ ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد، فأمّا المأموم فلا يضرّه من مرّ بين يديه لحديث ابن عبّاس هذا، قال: وهذا كلّه لا خلاف فيه بين العلماء. وكذا نقل عياض الاتّفاق على أنّ المأمومين يصلّون إلى سترة، لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإمام , أم سترتهم الإمام نفسه. انتهى. فيه نظرٌ، لِمَا رواه عبد الرّزّاق عن الحكم بن عمرو الغفاريّ الصّحابيّ , أنّه صلَّى بأصحابه في سفرٍ وبين يديه سترة، فمرّت حميرٌ بين يدي أصحابه , فأعاد بهم الصّلاة. وفي رواية له , أنّه قال لهم: إنّها لَم تقطع صلاتي , ولكن قطعت صلاتكم. فهذا يعكّر على ما نقل من الاتّفاق. وقد ورد في حديثٍ مرفوعٍ رواه الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق سويد بن عبد العزيز عن عاصمٍ عن أنس مرفوعاً: سترة الإمام سترة لمن خلفه. وقال: تفرّد به سويدٌ عن عاصم. انتهى. وسويدٌ ضعيف عندهم. ووردت أيضاً في حديثٍ موقوفٍ على ابن عمر. أخرجه عبد الرّزّاق. ويظهر أثر الخلاف الذي نقله عياض. فيما لو مرّ بين يدي الإمام أحد، فعلى قول من يقول: إنّ سترة الإمام سترة من خلفه. يضرّ

صلاته وصلاتهم معاً، وعلى قول من يقول: إنّ الإمام نفسه سترة من خلفه يضرّ صلاته ولا يضرّ صلاتهم. قيل فيه جواز تقديم المصلحة الرّاجحة على المفسدة الخفيفة؛ لأنّ المرور مفسدة خفيفة، والدّخول في الصّلاة مصلحة راجحة. واستدلَّ ابنُ عبّاس على الجواز بعدم الإنكار لانتفاء الموانع إذ ذاك، ولا يقال منع من الإنكار اشتغالهم بالصّلاة لأنّه نفى الإنكار مطلقاً فتناول ما بعد الصّلاة. وأيضاً فكان الإنكار يمكن بالإشارة. وفيه أنّ التّحمّل لا يشترط فيه كمال الأهليّة , وإنّما يشترط عند الأداء. ويلحق بالصّبيّ في ذلك العبد والفاسق والكافر. وقامت حكاية ابن عبّاس لفعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتقريره مقام حكاية قوله، إذ لا فرق بين الأمور الثّلاثة في شرائط الأداء. وفيه اختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. رواه الخطيب في الكفاية عن عبد الله بن أحمد وغيره , أنّ يحيى قال: أقلّ سنّ التّحمّل خمس عشرة سنة لكون ابن عمر ردّ يوم أحد إذ لَم يبلغها. فبلغ ذلك أحمدَ , فقال: بل إذا عقل ما يسمع، وإنّما قصّة ابن عمر في القتال. ثمّ أورد الخطيب أشياء ممّا حفظها جمع من الصّحابة ومن بعدهم في الصّغر وحدّثوا بها بعد ذلك وقُبلت عنهم، وهذا هو المعتمد. وما قاله ابن معين , إن أراد به تحديد ابتداء الطّلب بنفسه فموجّه، وإن أراد به ردّ حديث من سمع اتّفاقاً أو اعتنى به فسمع وهو صغير

فلا. وقد نقل ابن عبد البرّ الاتّفاق على قبول هذا، وفيه دليل على أنّ مراد ابن معين الأوّل. وأمّا احتجاجه: بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ردّ البراء وغيره يوم بدر (¬1) ممّن كان لَم يبلغ خمس عشرة , فمردود: بأنّ القتال يقصد فيه مزيد القوّة والتّبصّر في الحرب، فكانت مظنّته سنّ البلوغ، والسّماع يقصد فيه الفهم فكانت مظنّته التّمييز. وقد احتجّ الأوزاعيّ لذلك بحديث: " مروهم بالصّلاة لسبعٍ " (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3956) عن البراء , قال: استُصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفاً على ستين، والأنصار نيفاً وأربعين ومائتين. (¬2) أخرجه أبو داود (495) وأحمد (2/ 187) والحاكم (1/ 197) وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وأخرجه أبو داود (494) والترمذي (407) من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره. دون التفرقة. وقال الترمذي: حسن صحيح. وصحَّحه ابن خزيمة والحاكم. أمَّا اللفظ الذي ذكره الشارح. فأخرجه الطبراني في " الأوسط " (4129) والدارقطني (891) من حديث أنس رفعه: مروهم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لثلاث عشرة. وسنده ضعيف جداً. ولفظه منكر. قال ابن حجر في التلخيص (1/ 331): وفي إسناده داود بن الْمُحبَّر، وهو متروك، وقد تفرد به. فيما قاله الطبراني.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون 114 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: كنتُ أنامُ بين يدَيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلتِه , فإذا سجد غَمَزَني , فقبضتُ رجلَيَّ , فإذا قام بسطتُهما. والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيحُ. (¬1) قوله: (كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته) أي: في مكان سجوده، ويتبيّن ذلك من الرّواية الأخرى في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عنها , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي , وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة. زادا في رواية لهما " فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت " (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (375 , 491 , 1151) ومسلم (512) من طرق عن مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة به. وأخرجه البخاري (376 , 493) ومسلم (512) من طريقين عن عروة عن عائشة نحوه. وله طريق آخر سيذكره الشارح. (¬2) قال الحافظ في " الفتح " (2/ 628): واستُدلّ به على وجوب الوتر. لكونه - صلى الله عليه وسلم - سلك به مسلك الواجب , حيث لَم يدعها نائمة للوتر وأبقاها للتهجد. وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب , نعم. يدل على تأكد أمر الوتر , وأنه فوق غيره من النوافل الليلية. وفيه استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة , ولا يختص ذلك بالمفروضة , ولا بخشية خروج الوقت , بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة , وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات. قال القرطبي: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب في الواجب مندوب في المندوب , لأنَّ النائم وإن لَم يكن مكلفاً , لكن مانعه سريع الزوال فهو كالغافل , وتنبيه الغافل واجب. انتهى

واستدل به على أنّ المرأة لا تقطع الصّلاة , فأخرج الشيخان عن مسروق، عن عائشة، وذُكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة , فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي , وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة " الحديث , ولسعيد بن منصور من وجهٍ آخر " قالت عائشة: يا أهل العراق قد عدلتمونا " الحديث. وللبخاري عن ابن أخي ابن شهاب، أنه سأل عمَّه عن الصلاة، يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله. وقوله " لا يقطع الصلاة شيئ " صريحٌ من قول الزّهريّ، ورواها مالك في " الموطّأ " عن الزّهريّ عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه من قوله، وأخرجها الدّارقطنيّ مرفوعة من وجهٍ آخر عن سالمٍ. لكنّ إسنادها ضعيف. ووردت أيضاً مرفوعة من حديث أبي سعيد عند أبي داود، ومن حديث أنس وأبي أُمامة عند الدّارقطنيّ، ومن حديث جابر عند الطّبرانيّ في " الأوسط " , وفي إسناد كلٍّ منهما ضعفٌ. وروى سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيحٍ عن عليّ وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفاً. وكأنّ عائشة أشارت بذلك إلى ما رواه أهل العراق عن أبي ذرٍّ

وغيره في ذلك مرفوعاً، وهو عند مسلم وغيره من طريق عبد الله بن الصّامت عن أبي ذرٍّ (¬1)، وقيّد الكلب في روايته بالأسود. وعند ابن ماجه من طريق الحسن البصريّ عن عبد الله بن مغفّل، وعند الطّبرانيّ من طريق الحسن أيضاً، عن الحكم بن عمر نحوه من غير تقييد، وعند مسلم من حديث أبي هريرة كذلك. وعند أبي داود من حديث ابن عبّاس مثله، لكن قيّد المرأة بالحائض، وأخرجه ابن ماجه كذلك , وفيه تقييد الكلب أيضاً بالأسود. وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث. القول الأول: مال الطّحاويّ وغيره إلى أنّ حديث أبي ذرٍّ وما وافقه , منسوخ بحديث عائشة وغيرها. وتعقّب: بأنّ النّسخ لا يصار إليه إلاَّ إذا علم التّاريخ وتعذّر الجمع، والتّاريخ هنا لَم يتحقّق , والجمع لَم يتعذّر. القول الثاني: مال الشّافعيّ وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذرٍّ: بأنّ المراد به نقص الخشوع لا الخروج من الصّلاة. ويؤيّد ذلك أنّ الصّحابيّ راوي الحديث سأل عن الحكمة في التّقييد بالأسود فأجيب بأنّه شيطان. وقد علم أنّ الشّيطان لو مرّ بين يدي المُصلِّي لَم تفسد صلاته كما في الصّحيح " إذا ثوّب بالصّلاة أدبر الشّيطان فإذا قضى التّثويب أقبل حتّى يخطر بين المرء ونفسه " ¬

_ (¬1) تقدم لفظه في حديث ابن عباس المتقدّم.

الحديث. وللبخاري من حديث أبي هريرة " إنّ الشّيطان عرض لي فشدّ عليّ ليقطع الصلاة عليَّ، فأمكننى الله منه " الحديث. وللنّسائيّ من حديث عائشة " فأخذته فصرعته فخنقته " , ولا يقال قد ذكر في هذا الحديث أنّه جاء ليقطع صلاته؛ لأنّا نقول: قد بيّن في رواية مسلم سبب القطع، وهو " أنّه جاء بشهابٍ من نارٍ ليجعله في وجهه ". وأمّا مجرّد المرور فقد حصل ولَم تفسد به الصّلاة. القول الثالث: قال بعضهم: حديث أبي ذرٍّ مُقدَّم؛ لأنّ حديث عائشة على أصل الإباحة. انتهى. وهو مبنيٌّ على أنّهما متعارضان، ومع إمكان الجمع المذكور لا تعارض. القول الرابع: قال أحمد: يقطع الصّلاة الكلب الأسود، وفي النّفس من الحمار والمرأة شيء. ووجّهه ابن دقيق العيد وغيره. بأنّه لَم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عبّاس (¬1) يعني الذي تقدّم في مروره وهو راكبٌ بمنىً، ووجد في المرأة حديث عائشة. ووجه الدّلالة من حديث عائشة الذي احتجّ به ابن شهاب أنّ حديث " يقطع الصّلاة المرأة .. إلخ " يشمل ما إذا كانت مارّة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلمّا ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى وهي مضطجعةٌ أمامه ¬

_ (¬1) حديث ابن عباس مضى قبل حديث عائشة حديث الباب.

دلَّ ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه. وهذا يتوقّف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، فلو ثبت أنّ حديثها متأخّرٌ عن حديث أبي ذرٍّ لَم يدل إلاَّ على نسخ الاضطجاع فقط. وقد نازع بعضهم في الاستدلال به مع ذلك من أوجهٍ أخرى: أحدها: أنّ العلة في قطع الصّلاة بها ما يحصل من التّشويش، وقد قالت: إنّ البيوت يومئذٍ لَم يكن فيها مصابيح " , فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها: أنّ المرأة في حديث أبي ذرٍّ مطلقة , وفي حديث عائشة مقيّدة بكونها زوجته، فقد يحمل المطلق على المقيّد، ويقال يتقيّد القطع بالأجنبيّة لخشية الافتتان بها بخلاف الزّوجة فإنّها حاصلة. ثالثها: أنّ حديث عائشة واقعة حالٍ يتطرّق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذرٍّ فإنّه مسوق مساق التّشريع العامّ. وقد أشار ابن بطّال إلى أنّ ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه كان يقدر من ملك إربه على ما لا يقدر عليه غيره. وقال بعض الحنابلة: يعارض حديث أبي ذرٍّ وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحةٍ وصريحةٌ غير صحيحةٍ. فلا يترك العمل بحديث أبي ذرٍّ الصّريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المارّ وبين النّائم في القبلة أنّ المرور حرام بخلاف الاستقرار نائماً كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لبثها.

قوله: (فإذا سجد غمزني) استُدل به على أنّ لمس المرأة لا ينقض الوضوء. وتعقّب: باحتمال الحائل، أو بالخصوصيّة. قوله: (فقبضت رجلاي) وللبخاري " رجليَّ " كذا بالتّثنية للأكثر، وكذا في قولها " بسطتهما " وللمستملي والحمويّ " رجليْ " بالإفراد، وكذا " بسطتها " قولها: (والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح) كأنّها أرادت به الاعتذار عن نومها على تلك الصّفة. قال ابن بطّالٍ: وفيه إشعارٌ بأنّهم صاروا بعد ذلك يستصبحون. انتهى. وفي قولها " والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح " إشارة إلى عدم الاشتغال بها. ولا يعكّر على ذلك كونه يغمزها عند السّجود ليسجد مكان رجليها كما وقع صريحاً في روايةٍ لأبي داود؛ لأنّ الشّغل بها مأمون في حقّه - صلى الله عليه وسلم -، فمن أمن ذلك لَم يكره في حقّه. وبوّب البخاري على الحديث " باب الصلاة على الفراش " أي: سواء كان ينام عليه مع امرأته أم لا , وقد صرّحت عائشة في الرواية الأخرى كما تقدم بأنّ ذلك كان على فراش أهله. وكأنّ البخاري يشير إلى الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من طريق الأشعث عن محمّد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُصلِّي في لحفنا.

وكأنّه أيضاً لَم يثبت عنده، أو رآه شاذّاً مردوداً، وقد بيّن أبو داود علته. وأخرج البخاري معلقاً. ووصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور كلاهما عن ابن المبارك عن حميدٍ قال: كان أنس يُصلِّي على فراشه. وأخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن إبراهيم النّخعيّ عن الأسود وأصحابه , أنّهم كانوا يكرهون أن يصلّوا على الطّنافس والفراء والمسوح. وأخرج عن جمعٍ من الصّحابة والتّابعين جواز ذلك. وقال مالك: لا أرى بأساً بالقيام عليها إذا كان يضع جبهته ويديه على الأرض. وفيه أنّ الصّلاة إلى النّائم لا تكره؛ وقد وردت أحاديث ضعيفة في النّهي عن ذلك، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عبّاس. وقال أبو داود: طرقه كلّها واهية، يعني حديث ابن عبّاس. انتهى وفي الباب عن ابن عمر. أخرجه ابن عديّ، وعن أبي هريرة. أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط ". وهما واهيان أيضاً. وهي محمولة - إن ثبتت - على ما إذا حصل شغل الفكر به , وكره مجاهد وطاوس ومالك الصّلاة إلى النّائم خشية أن يبدو منه ما يلهي المُصلِّي عن صلاته. وظاهر تصرّف البخاري أنّ عدم الكراهية حيث يحصل الأمن من ذلك.

تكميلٌ: في رواية للشيخين. واللفظ للبخاري: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي وسط السرير، وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة. الحديث. والسرير بمهملاتٍ. وزن عظيم معروف. ذكر الرّاغب: أنّه مأخوذ من السّرور , لأنّه في الغالب لأولي النّعمة. قال: وسرير الميّت لشبهه به في الصّورة وللتّفاؤل بالسّرور، وقد يعبّر بالسّرير عن الملك، وجمعه أسرّة وسرر بضمّتين، ومنهم: من يفتح الرّاء استثقالاً للضّمّتين. قال ابن بطّال: فيه جواز اتّخاذ السّرير والنّوم عليه ونوم المرأة بحضرة زوجها. وقال ابن التّين: وقوله فيه " وسط السّرير " قرأناه بسكون السّين، والذي في اللّغة المشهورة بفتحها. وقال الرّاغب: وسط الشّيء يقال بالفتح للكميّة المتّصلة كالجسم الواحد نحو وسطه صلب، ويقال: بالسّكون للكميّة المنفصلة بين جسمين نحو وسط القوم. قلت: وهذا ممّا يرجّح الرّواية بالتّحريك، ولا يمنع السّكون.

باب جامع

بابٌ جامعٌ الحديث السادس والستون 115 - عن أبي قتادة بن ربعيٍّ الأنصاريّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلس حتّى يُصلِّي ركعتين. (¬1) قوله: (عن أبي قتادة) بفتحتين، هكذا اتّفق عليه الرّواة عن مالك عن عامر عن عمرو بن سليم الزرقي عنه، ورواه سهيل بن أبي صالح عن عامر بن عبد الله بن الزّبير. فقال: عن جابر. بدل أبي قتادة، وخطّأه التّرمذيّ والدّارقطنيّ وغيرهما. وهو السَّلميّ بفتحتين؛ لأنّه من الأنصار قوله: (فلا يجلس) صرّح جماعة بأنّه إذا خالف وجلس لا يُشرع له التّدارك. وفيه نظرٌ , لِمَا رواه ابن حبّان في " صحيحه " من حديث أبي ذرٍّ , أنّه دخل المسجد. فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أركعتَ ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما. ترجم عليه ابن حبّان أنّ تحيّة المسجد لا تفوت بالجلوس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (433) ومسلم (714) من طرق عن مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (1110) من طريق عبد الله بن سعيد , ومسلم (714) من طريق محمد بن يحيى بن حبان كلاهما عن عمرو بن سليم به.

قلت: ومثله قصّة سليك كما في صحيح البخاري (¬1). وقال المحبّ الطّبريّ: يحتمل: أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء. ويحتمل: أن تحمل مشروعيّتهما بعد الجلوس على ما إذا لَم يطل الفصل. قوله: (يُصلِّي ركعتين) وللبخاري " فليركع ركعتين قبل أن يجلس " أي: فليصل، من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ , وهذا العدد لا مفهوم لأكثره باتّفاقٍ. واختلف في أقلّه، والصّحيح اعتباره فلا تتأدّى هذه السّنّة بأقلّ من ركعتين واتّفق أئمّة الفتوى على أنّ الأمر في ذلك للنّدب، ونقل ابن بطّالٍ عن أهل الظّاهر الوجوب، والذي صرّح به ابن حزم عدمه. ومن أدلة عدم الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي رآه يتخطّى: اجلس فقد آذيت (¬2) , ولَم يأمره بصلاةٍ، كذا استدل به الطّحاويّ وغيره , وفيه نظر. وقال الطّحاويّ أيضاً: الأوقات التي نهي عن الصّلاة فيها ليس هذا الأمر بداخلٍ فيها. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري رقم (930) ومسلم (875) من طرق عن جابر قال: جاء سليكٌ الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجلس، فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما. وهذا لفظ مسلم. وسيأتي برقم (140) (¬2) حديث عبد الله بن بسر - رضي الله عنه -. سيأتي كلام الشارح عليه. انظر حديث رقم (140).

قلت: هما عمومان تعارضا، الأمر بالصّلاة لكلّ داخل من غير تفصيل، والنّهي عن الصّلاة في أوقات مخصوصة، فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين. فذهب جمعٌ: إلى تخصيص النّهي وتعميم الأمر , وهو الأصحّ عند الشّافعيّة. وذهب جمعٌ: إلى عكسه , وهو قول الحنفيّة والمالكيّة. فائدتان: الفائدة الأولى: حديث أبي قتادة هذا ورد على سبب، وهو أنّ أبا قتادة دخل المسجد فوجد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جالساً بين أصحابه فجلس معهم، فقال له: ما منعك أنْ تركع؟ قال: رأيتك جالساً والنّاس جلوس. قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يركع ركعتين. أخرجه مسلم. وعند ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي قتادة: أعطوا المساجد حقّها، قيل له: وما حقّها؟ قال: ركعتين قبل أن تجلس. الفائدة الثانية: قال الشّافعيّ: أرى للإمام أن يأمر الآتي بالرّكعتين. ويزيد في كلامه (¬1) ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصّلاة، فإن لَم يفعل كرهت ذلك. وحكى النّوويّ عن المحقّقين: أنّ المختار إن لَم يفعل أن يقف حتّى ¬

_ (¬1) أي: في الخطبة.

تقام الصّلاة , لئلا يكون جالساً بغير تحيّة أو متنفّلاً حال إقامة الصّلاة. واستثنى المحامليّ المسجد الحرام , لأنّ تحيّته الطّواف. وفيه نظرٌ. لطول زمن الطّواف بالنّسبة إلى الرّكعتين. والذي يظهر من قولهم إنّ تحيّة المسجد الحرام الطّواف إنّما هو في حقّ القادم ليكون أوّل شيء يفعله الطّواف.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون 116 - عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كنّا نتكلم في الصّلاة، يكلِّم الرّجلُ صاحبَه , وهو إلى جنبه في الصّلاة , حتّى نزلتْ (وقوموا لله قانتين) فأُمرنا بالسّكوت ونُهينا عن الكلام (¬1). قوله: (عن زيد بن أرقم) الأنصاري (¬2) قوله: (كنّا نتكَلَّم) وللبخاري " إنْ كنّا لنَتكلم في الصلاة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بتخفيف النّون، وهذا حكمه الرّفع. وكذا قوله " أمرنا " لقوله فيه " على عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " حتّى ولو لَم يقيّد بذلك لكان ذكر نزول الآية كافياً في كونه مرفوعاً قوله: (يُكلِّم الرّجل صاحبه) وللبخاري " يكلّم أحدُنا صاحبَه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1142 , 4260) ومسلم (539) من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شُبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم به. وقوله (ونهينا عن الكلام) تفرَّد بها مسلم , كما سيذكره الشارح رحمه الله. (¬2) بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الخزرج. مختلف في كنيته، قيل أبو عمر، وقيل أبو عامر، واستصغر يوم أحد. وأول مشاهده الخندق، وقيل المريسيع، وغزا مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة، ثبت ذلك في الصّحيح، وله حديث كثير , ورواية أيضاً عن عليّ. وشهد صفّين مع علي، ومات بالكوفة أيام المختار سنة 66. وقيل سنة 68. قال ابن إسحاق: حدّثني عبد اللَّه بن أبي بكر عن بعض قومه عن زيد بن أرقم، قال: كنتُ يتيماً لعبد اللَّه بن رواحة، فخرج بي معه مردفي - يعني إلى مؤتة ... فذكر الحديث. وهو الذي سمع عبد اللَّه بنَ أُبيٍّ يقول: لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ، فأخبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - , فسأل عبد اللَّه، فأنكر، فأنزل اللَّه تصديق زيد. ثبت ذلك في الصّحيحين. وفيه: فقال: إنّ اللَّه قد صدقك يا زيد. انتهى من الإصابة بتجوز.

بحاجته " وهو تفسير لقوله " نتكلم " , والذي يظهر أنّهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيءٍ , وإنّما يقتصرون على الحاجة من ردّ السّلام ونحوه. قوله: (حتّى نزلت) ظاهر في أنّ نسخ الكلام في الصّلاة وقع بهذه الآية، فيقتضي أنّ النّسخ وقع بالمدينة , لأنّ الآية مدنيّةٌ باتّفاقٍ، فيشكل ذلك على قول ابن مسعود: كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلمَّا رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: إن في الصلاة شغلاً (¬1). متفق عليه. وكان رجوعهم من عنده إلى مكّة، وذلك أنّ بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة ثمّ بلغهم أنّ المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكّة , فوجدوا الأمر بخلاف ذلك , واشتدّ الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضاً , فكانوا في المرّة الثّانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود مع الفريقين. واختلف في مراده بقوله " فلمّا رجعنا " هل أراد الرّجوع الأوّل أو ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح ": أي بقراءة القرآن والذكر والدعاء , أو للتعظيم. أي: شغلاً وأي شغل , لأنها مناجاة مع الله تستدعي الاستغراق بخدمته فلا يصلح فيها الاشتغال بغيره. وقال النووي: معناه أنَّ وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله فلا ينبغي أن يعرِّج على غيرها من رد السلام ونحوه. زاد في رواية أبي وائل عن ابن مسعود عند أبي داود واللفظ له وأحمد والنسائي. وصحَّحه ابن حبان: إن الله يُحدِث من أمره ما يشاء , وإنَّ الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة. فائدة: روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة. انتهى

الثّاني؟ جنح القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ وآخرون إلى الأوّل , وقالوا: كان تحريم الكلام بمكّة، وحملوا حديث زيد على أنّه وقومه لَم يبلغهم النّسخ , وقالوا: لا مانع أن يتقدّم الحكم ثمّ تنزل الآية بوفقه. وجنح آخرون إلى التّرجيح , فقالوا: يترجّح حديث ابن مسعود بأنّه حكى لفظ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف زيد بن أرقم فلم يحكه. وقال آخرون: إنّما أراد ابن مسعود رجوعه الثّاني، وقد ورد أنّه قدم المدينة والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتجهّز إلى بدر، وفي " مستدرك الحاكم " من طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النّجاشيّ ثمانين رجلاً. فذكر الحديث بطوله. وفي آخره: فتعجّل عبد الله بن مسعود فشهد بدراً. وفي " السّير " لابن إسحاق: أنّ المسلمين بالحبشة لَمّا بلغهم أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكّة ثلاثة وثلاثون رجلاً، فمات منهم رجلان بمكّة , وحبس منهم سبعة , وتوجّه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلاً فشهدوا بدراً. فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أنّ اجتماعه بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه كان بالمدينة، وإلى هذا الجمع نحا الخطّابيّ , ولَم يفقَه من تعقّب كلامه على مستنده. ويقوّي هذا الجمع رواية كلثوم (¬1) المتقدّمة فإنّها ظاهرةٌ في أنّ كلاًّ ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه النسائي (1220) من طريق كلثومٍ الخزاعي عن عبد الله بن مسعودٍ قال: كنت آتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي فأُسلّم عليه فيردّ عليّ، فأتيته فسلّمت عليه وهو يُصلِّي فلم يردّ عليّ، فلمّا سلَّّم أشار إلى القوم، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ. يعني: أحدث في الصلاة أن لا تكلّموا إلاَّ بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين. وأصله في الصحيحين من طريق آخر نحوه. وقد أشار إلى هذه الرواية الشارح في شرح حديث ابن مسعود المذكور في الشرح هنا.

من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أنّ النّاسخ قوله تعالى (وقوموا لله قانتين). وأمّا قول ابن حبّان: كان نسخ الكلام بمكّة قبل الهجرة بثلاث سنين، قال: ومعنى قول زيد بن أرقم " كنّا نتكلم " أي: كان قومي يتكلمون , لأنّ قومه كانوا يصلّون قبل الهجرة مع مصعب بن عمير الذي كان يعلمهم القرآن، فلمّا نسخ تحريم الكلام بمكّة , بلغ ذلك أهل المدينة فتركوه. فهو متعقّبٌ: بأنّ الآية مدنيّةٌ باتّفاقٍ، وبأنّ إسلام الأنصار وتوجُّه مصعب بن عمير إليهم إنّما كان قبل الهجرة بسنةٍ واحدةٍ، وبأنّ في حديث زيد بن أرقم: كنّا نتكلم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كذا أخرجه التّرمذيّ. فانتفى أن يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلّون بالمدينة قبل هجرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم. وأجاب ابن حبّان في موضعٍ آخر: بأنّ زيد بن أرقم أراد بقوله " كنّا نتكلم " من كان يُصلِّي خلف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمكّة من المسلمين. وهو متعقّبٌ أيضاً: بأنّهم ما كانوا بمكّة يجتمعون إلاَّ نادراً، وبما

روى الطّبرانيّ من حديث أبي أُمامة قال: كان الرّجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلّون سأل الذي إلى جنبه فيخبره بما فاته فيقضي ثمّ يدخل معهم، حتّى جاء معاذ يوماً فدخل في الصّلاة " فذكر الحديث، وهذا كان بالمدينة قطعاً , لأنّ أبا أُمامة ومعاذ بن جبل إنّما أسلما بها. قوله: (حتّى نزلت وقوموا لله قانتين) قال البخاري: أي مطيعين , وهو تفسير ابن مسعود , أخرجه ابن أبي حاتم بإسنادٍ صحيح، ونقله أيضاً عن ابن عبّاس وجماعة من التّابعين. وذكر من وجه آخر عن ابن عبّاس قال: قانتين. أي مصلين. وعن مجاهد قال: من القنوت الرّكوع والخشوع وطول القيام وغضّ البصر وخفض الجناح والرّهبة لله. وأصحّ ما دلَّ عليه حديث الباب - وهو حديث زيد بن أرقم - في أنّ المراد بالقنوت في الآية السّكوت , والمراد به السّكوت عن كلام النّاس لا مطلق الصّمت، لأنّ الصّلاة لا صمت فيها , بل جميعها قرآن وذكر. والله أعلم. قوله: (فأُمرنا بالسّكوت) أي: عن الكلام المتقدّم ذكره لا مطلقاً , فإنّ الصّلاة ليس فيها حال سكوت حقيقيّة. قال ابن دقيق العيد: ويترجّح بما دلَّ عليه لفظ " حتّى " التي للغاية , والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لِمَا يأتي بعدها. تنبيه: زاد مسلم في روايته " ونُهينا عن الكلام " ولَم يقع في البخاريّ، وذكرها صاحب العمدة , ولَم ينبّه أحدٌ من شرّاحها عليها.

واستدل بهذه الزّيادة على أنّ الأمر بالشّيء ليس نهياً عن ضدّه، إذ لو كان كذلك لَم يحتج إلى قوله " ونهينا عن الكلام ". وأجيب: بأنّ دلالته على ضدّه دلالة التزام، ومن ثَمَّ وقع الخلاف , فلعله ذكر لكونه أصرح والله أعلم. قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أحد ما يستدلّ به على النّسخ وهو تقدُّم أحد الحكمين على الآخر، وليس كقول الرّاوي هذا منسوخ , لأنّه يطرقه احتمال أن يكون قاله عن اجتهاد، وقيل: ليس في هذه القصّة نسخ , لأنّ إباحة الكلام في الصّلاة كان بالبراءة الأصليّة، والحكم المزيل لها ليس نسخاً. وأجيب: بأنّ الذي يقع في الصّلاة ونحوها ما يمنع أو يباح إذا قرّره الشّارع كان حكماً شرعيّاً، فإذا ورد ما يخالفه كان ناسخاً وهو كذلك هنا. قال ابن دقيق العيد: وقوله " ونهينا عن الكلام " يقتضي أنّ كل شيءٍ يسمّى كلاماً فهو منهيٌّ عنه حملاً للفظ على عمومه، ويحتمل: أن تكون اللام للعهد الرّاجع إلى قوله " يكلم الرّجل منّا صاحبه بحاجته " وقوله " فأمرنا بالسّكوت " أي: عمّا كانوا يفعلونه من ذلك. تكميلٌ: أجمعوا على أنّ الكلام في الصّلاة - من عالمٍ بالتّحريم عامد لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم - مُبطلٌ لها. واختلفوا في السّاهي والجاهل.

القول الأول: لا يبطلها القليل منه عند الجمهور. القول الثاني: أبطلها الحنفيّة مطلقاً كما تقدم في الكلام على حديث ذي اليدين في السّهو. (¬1) واختلفوا في أشياء أيضاً , كمَن جرى على لسانه بغير قصدٍ , أو تعمّد إصلاح الصّلاة لسهوٍ دخل على إمامه , أو لإنقاذ مسلم لئلا يقع في مهلكةٍ , أو فتح على إمامه , أو سبّح لمن مرّ به , أو ردّ السّلام , أو أجاب دعوة أحد والديه , أو أُكره على الكلام أو تقرّب بقربةٍ كأعتقت عبدي لله. ففي جميع ذلك خلافٌ محلّ بسطه كتب الفقه. قال ابن المنير في الحاشية: الفرق بين قليل الفعل للعامد فلا يبطل , وبين قليل الكلام , أنّ الفعل لا تخلو منه الصّلاة غالباً لمصلحتها , وتخلو من الكلام الأجنبيّ غالباً مطّرداً، والله أعلم. ¬

_ (¬1) حديث ذي اليدين تقدّم برقم (109).

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون 117 - عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنّه قال: إذا اشتدّ الحرّ فأبْرِدوا بالصّلاة. فإنّ شدّة الحرّ من فَيْح جهنّم. (¬1) قوله: (إذا اشتدّ) أصله اشتدد بوزن افتعل من الشّدّة , ثمّ أدغمت إحدى الدّالين في الأخرى، ومفهومه أنّ الحرّ إذا لَم يشتدّ لَم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى. قوله: (فأبردوا) بقطع الهمزة وكسر الرّاء، أي: أخّروا إلى أن يبرد الوقت. يقال أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظّهيرة، ومثله في المكان أنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تهامة. ولفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزّوال لا قبله، إذ وقت الإبراد هو ما إذا انحطّت قوّة الوهج من حرّ الظّهيرة. والأمر بالإبراد أمر استحباب، وقيل: أمر إرشاد، وقيل: بل هو للوجوب. حكاه عياض وغيره , وغفل الكرمانيّ فنقل الإجماع على عدم الوجوب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (510) من طريق صالح بن كيسان حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره عن أبي هريرة، ونافع مولى ابن عمر عن ابن عمر , أنهما حدَّثاه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكره. وأخرجه البخاري (512) ومسلم (615) من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة به. ولمسلم (615) من طرق أخرى عن أبي هريرة نحوه. ولم أر الحديث في صحيح مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

نعم. قال جمهور أهل العلم: يستحبّ تأخير الظهر في شدّة الحرّ إلى أن يبرد الوقت , وينكسر الوهج. وخصّه بعضهم بالجماعة. فأمّا المنفرد فالتّعجيل في حقّه أفضل، وهذا قول أكثر المالكيّة والشّافعيّ أيضاً , لكن خصّه بالبلد الحارّ. وقيّد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجداً من بعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كِنٍّ فالأفضل في حقّهم التّعجيل. والمشهور عن أحمد التّسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق والكوفيّين وابن المنذر. واستدل له التّرمذيّ بحديث أبي ذرٍّ قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال له: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد حتى ساوى الظل التلول , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فذكره. لأنّ في روايته أنّهم كانوا في سفر، وهي روايةٌ للبخاري أيضاً. قال: فلو كان على ما ذهب إليه الشّافعيّ لَم يأمر بالإبراد لاجتماعهم في السّفر , وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد. قال التّرمذيّ: والأوّل أولى للاتّباع. وتعقبه الكرمانيّ: بأنّ العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتّخفيف وطلب الرّعي فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة. انتهى. وأيضاً فلم تجر عادتهم باتّخاذ خباءٍ كبيرٍ يجمعهم، بل كانوا يتفرّقون

في ظلال الشّجر، وليس هناك كِنّ يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشّافعيّ، وغايته أنّه استنبط من النّصّ العامّ - وهو الأمر بالإبراد - معنى يخصّصه، وذلك جائز على الأصحّ في الأصول، لكنّه مبنيٌّ على أنّ العلة في ذلك تأذّيهم بالحرّ في طريقهم. وللمتمسّك بعمومه أن يقول: العلة فيه تأذّيهم بحرّ الرّمضاء في جباههم حالة السّجود، ويؤيّده حديث أنس: كنّا إذا صلينا خلف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالظّهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ. رواه أبو عوانة في " صحيحه " بهذا اللفظ , وأصله في مسلم، وفي حديث أنس أيضاً في الصّحيحين نحوه. وسيأتي قريباً (¬1). والجواب عن ذلك: أنّ العلة الأولى أظهر، فإنّ الإبراد لا يزيل الحرّ عن الأرض. وذهب بعضهم. إلى أنّ تعجيل الظهر أفضل مطلقاً. وقالوا: معنى " أبردوا ": صلّوا في أوّل الوقت أخذاً من برد النّهار وهو أوّله. وهو تأويلٌ بعيدٌ، ويردّه قوله " فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم " إذ التّعليل بذلك يدلّ على أنّ المطلوب التّأخير، وحديث أبي ذرٍّ في البخاري صريح في ذلك حيث قال: انتظر انتظر. والحامل لهم على ذلك حديث خبّاب: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرّ الرّمضاء في جباهنا وأكفّنا , فلم يشكنا. أي: فلم يزل شكوانا، ¬

_ (¬1) يعني به حديث أنس - رضي الله عنه - الآتي بعد حديثين حيث ذكره صاحب العمدة.

وهو حديثٌ صحيحٌ رواه مسلم. (¬1) وتمسّكوا أيضاً بالأحاديث الدّالة على فضيلة أوّل الوقت، وبأنّ الصّلاة حينئذٍ أكثر مشقّة فتكون أفضل. والجواب عن حديث خبّاب: الجواب الأول: أنّه محمولٌ على أنّهم طلبوا تأخيراً زائداً عن وقت الإبراد وهو زوال حرّ الرّمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت، فلذلك لَم يجبهم. الجواب الثاني: هو منسوخٌ بأحاديث الإبراد فإنّها متأخّرة عنه. واستدل له الطّحاويّ بحديث المغيرة بن شعبة قال: كنّا نُصلِّي مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالهاجرة، ثمّ قال لنا: أبردوا بالصّلاة. الحديث. وهو حديث رجاله ثقات. رواه أحمد وابن ماجه وصحّحه ابن حبّان. ونقل الخلال عن أحمد أنّه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) هو في صحيحه (619) من طريق أحمد بن يونس وعون بن سلام كلاهما عن زهير عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خبّاب. دون قوله (في جباهنا وأكفّنا). ورواه البغوي في " شرح السنة " (1/ 275) من طريق أحمد بن يونس - شيخ مسلم - عن زهير. بهذه الزيادة. ورواه أيضاً البيهقي في " الكبرى " (2/ 105) من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق. بهذه الزيادة. وقد تنبّه ابن حجر في " التلخيص " (1/ 252) إلى كون هذه الزيادة ليست عند مسلم. فعزاه للحاكم في الأربعين من طريق أحمد بن يونس. ثم ذكر أنه عند مسلم بدونها.

الجواب الثالث: جمع بعضهم بين الحديثين: بأنّ الإبراد رخصة والتّعجيل أفضل، وهو قول مَن قال إنّه أمر إرشاد. الجواب الرابع: عكسه بعضهم , فقال: الإبراد أفضل. وحديث جبّاب يدلّ على الجواز , وهو الصّارف للأمر عن الوجوب. كذا قيل. وفيه نظرٌ؛ لأنّ ظاهره المنع من التّأخير. وقيل معنى قول خبّاب " فلم يشكنا ". أي: فلم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد، حكي عن ثعلب. ويردّه أنّ في الخبر زيادةً رواها ابن المنذر بعد قوله " فلم يشكنا " وقال: إذا زالت الشّمس فصلّوا. (¬1) وأحسن الأجوبة كما قال المازريّ الأوّل. والجواب عن أحاديث أوّل الوقت أنّها عامّةٌ أو مطلقة , والأمر بالإبراد خاصّ فهو مقدّم. ولا التفات إلى مَن قال: التّعجيل أكثر مشقّة فيكون أفضل؛ لأنّ الأفضليّة لَم تنحصر في الأشقّ، بل قد يكون الأخفّ أفضل كما في قصر الصّلاة في السّفر ¬

_ (¬1) وأخرج هذه الزيادة أيضاً الطبراني في " الكبير " (9/ 79) و " الأوسط " (2054) والبيهقي في " الكبرى " (1/ 644) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب به. ورواه الطبراني في " الكبير " (4/ 79) من طريق عمرو بن خالد الحراني وعمرو بن مرزوق كلاهما عن زهير عن أبي إسحاق. بهذه الزيادة. وقد صحَّح هذه الزيادة ابن القطان. انظر البدر المنير لابن الملقن (3/ 650) والتلخيص الحبير للشارح (1/ 613).

قوله: (بالصّلاة) كذا للأكثر، والباء للتّعدية , وقيل زائدة. ومعنى أبردوا أخّروا على سبيل التّضمين. أي: أخّروا الصّلاة. وفي رواية الكشميهنيّ " عن الصّلاة " , فقيل: زائدة أيضاً , أو عن بمعنى الباء، أو هي للمجاوزة , أي: تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدّة الحرّ. والمراد بالصّلاة الظهر؛ لأنّها الصّلاة التي يشتدّ الحرّ غالباً في أوّل وقتها. وقد جاء صريحاً في حديث أبي سعيد , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبردوا بالظهر فإن شدة. الحديث. أخرجه البخاري، فلهذا حمل البخاري المطلق على المقيّد. والله أعلم وقد حمل بعضهم الصّلاة على عمومها بناءً على أنّ المفرد المعرّف يعمّ، فقال به أشهب في العصر، وقال به أحمد في روايةٍ عنه في الشّتاء حيث قال: تؤخّر في الصّيف دون الشّتاء. ولَم يقل أحدٌ به في المغرب , ولا في الصّبح لضيق وقتهما. قوله: (فإنّ شدّة الحرّ) تعليل لمشروعيّة التّأخير المذكور. وهل الحكمة فيه دفع المشقّة لكونها قد تسلب الخشوع؟. وهذا أظهر. أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيّده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له: أقصر عن الصّلاة عند استواء الشّمس , فإنّها ساعة تسجّر فيها جهنّم.

وقد استشكل هذا بأنّ الصّلاة سبب الرّحمة , ففعلها مظنّة لطرد العذاب. فكيف أمر بتركها؟. وأجاب عنه أبو الفتح اليعمريّ: بأنّ التّعليل إذا جاء من جهة الشّارع وجب قبوله. وإن لَم يفهم معناه. واستنبط له الزين بن المنير معنىً يناسبه فقال: وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطّلب إلاَّ ممّن أذن له فيه , والصّلاة لا تنفكّ عن كونها طلباً ودعاءً فناسب الاقتصار عنها حينئذٍ. واستدل بحديث الشّفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلّهم للأمم بأنّ الله تعالى غضب غضباً لَم يغضب قبله مثله , ولا يغضب بعده مثله , سوى نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - فلم يعتذر , بل طلب لكونه أذن له في ذلك. (¬1) ويمكن أن يقال: سجر جهنّم سبب فيحها , وفيحها سبب وجود شدّة الحرّ , وهو مظنّة المشقّة التي هي مظنّة سلب الخشوع , فناسب أن لا يُصلَّى فيها. لكن يرِدُ عليه أنّ سجرها مستمرّ في جميع السّنة , والإبراد مختصّ بشدّة الحرّ فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقّة، وحكمة التّرك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب. والله أعلم. قوله: (من فيح جهنّم) أي: من سعة انتشارها وتنفّسها، ومنه مكانٌ أفيح. أي: متّسع، وهذا كناية عن شدّة استعارها، وظاهره. أنّ مثار وهج الحرّ في الأرض من فيح جهنّم حقيقة، وقيل: هو من مجاز ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4435) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -

التّشبيه، أي: كأنّه نار جهنّم في الحرّ. والأوّل أولى. ويؤيّده ما في الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: اشتكت النّار إلى ربّها , فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير. تنبيهان: الأوّل: قضيّة التّعليل المذكور , قد يتوهّم منها مشروعيّة تأخير الصّلاة في وقت شدّة البرد، ولَم يقل به أحد؛ لأنّها تكون غالباً في وقت الصّبح فلا تزول إلاَّ بطلوع الشّمس، فلو أخّرت لخرج الوقت. الثّاني: النّفس المذكور ينشأ عنه أشدّ الحرّ في الصّيف , وإنّما لَم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشدّه لوجود المشقّة عند شديده أيضاً , فالأشدّيّة تحصل عند التّنفّس، والشّدّة مستمرّة بعد ذلك , فيستمرّ الإبراد إلى أن تذهب الشّدّة. والله أعلم. وقد اختلف العلماء في غاية الإبراد. فقيل: حتّى يصير الظّلّ ذراعاً بعد ظل الزّوال، وقيل: ربع قامةٍ، وقيل: ثلثها، وقيل: نصفها، وقيل: غير ذلك. ونزّلها المازريّ على اختلاف الأوقات. والجاري على القواعد , أنّه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتدّ إلى آخر الوقت. وأمّا ما وقع عند البخاري بلفظ " حتّى ساوى الظّلّ التّلول " , فظاهره يقتضي أنّه أخّرها إلى أن صار ظلّ كل شيءٍ مثله.

ويحتمل: أن يراد بهذه المساواة ظهور الظّل بجنب التّل بعد أن لَم يكن ظاهراً , فساواه في الظّهور لا في المقدار. أو يقال: قد كان ذلك في السّفر , فلعله أخّر الظّهر حتّى يجمعها مع العصر.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون 118 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نسي صلاةً فليصلِّها إذا ذكرها , لا كفّارة لها إلاَّ ذلك (وأقم الصّلاة لذكري). (¬1) ولمسلمٍ: من نسي صلاةً , أو نام عنها. فكفّارتها , أن يُصلِّيها إذا ذكرها. (¬2) قوله: (من نسي صلاة فليصلّها) وللبخاري " فليصل " كذا وقع في جميع الرّوايات بحذف المفعول، ورواه مسلم عن هدّاب بن خالد عن همّام. بلفظ " فليصلها " وهو أبين للمراد. وزاد مسلم أيضاً من رواية سعيد عن قتادة " أو نام عنها " , وله من رواية المثنّى بن سعيد الضّبعيّ عن قتادة نحوه , وسيأتي لفظه. وقد تمسّك بدليل الخطاب منه , القائل إنّ العامد لا يقضي الصّلاة , لأنّ انتفاء الشّرط يستلزم انتفاء المشروط , فيلزم منه أنّ من لَم ينس لا يُصلِّي. وقال مَن قال يقضي العامد: بأنّ ذلك مستفاد من مفهوم الخطاب، فيكون من باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنّه إذا وجب القضاء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (572) ومسلم (684) من طريق همام , ومسلم (684) من طريق أبي عوانة كلاهما عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (684) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به.

على النّاسي - مع سقوط الإثم ورفع الحرج عنه - فالعامد أولى. وادّعى بعضهم. أنّ وجوب القضاء على العامد يؤخذ من قوله " نسي " , لأنّ النّسيان يطلق على التّرك سواءٌ كان عن ذهولٍ أم لا، ومنه قوله تعالى (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) وقوله (نسوا الله فنسيهم). قال: ويقوّي ذلك قوله " لا كفّارة لها " والنّائم والنّاسي لا إثم عليه. قال: وهو بحثٌ ضعيف، لأنّ الخبر بذكر النّائم ثابتٌ , وقد قال فيه " لا كفّارة لها " والكفّارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد. والقائل بأنّ العامد لا يقضي , لَم يرد أنّه أخفّ حالاً من النّاسي، بل يقول إنّه: لو شرع له القضاء لكان هو والنّاسي سواءً، والنّاسي غير مأثومٍ بخلاف العامد , فالعامد أسوأ حالاً من النّاسي. فكيف يستويان؟. ويمكن أن يقال: إنّ إثم العامد بإخراجه الصّلاة عن وقتها باقٍ عليه ولو قضاها، بخلاف النّاسي فإنّه لا إثم عليه مطلقاً، ووجوب القضاء على العامد بالخطاب الأوّل لأنّه قد خوطب بالصّلاة وترتّبت في ذمّته فصارت ديناً عليه، والدّين لا يسقط إلاَّ بأدائه , فيأثم بإخراجه لها عن الوقت المحدود لها , ويسقط عنه الطّلب بأدائها، فمن أفطر في رمضان عامداً فإنّه يجب عليه أن يقضيه مع بقاء إثم الإفطار عليه، والله أعلم.

والحديث بوّب عليه البخاري " باب من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها ولا يعيد إلاَّ تلك الصلاة ". قال عليّ بن المنير: صرّح البخاريّ بإثبات هذا الحكم مع كونه ممّا اختلف فيه لقوّة دليله، ولكونه على وفق القياس، إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر فمن قضى الفائتة كمّل العدد المأمور به، ولكونه على مقتضى ظاهر الخطاب لقول الشّارع " فليصلها " ولَم يذكر زيادة. وقال أيضاً " لا كفّارة لها إلاَّ ذلك " فاستفيد من هذا الحصر أن لا يجب غير إعادتها. وذهب مالك إلى أنّ من ذكر بعد أن صلَّى صلاة أنّه لَم يصلِّ التي قبلها , فإنّه يُصلِّي التي ذكر ثمّ يُصلِّي التي كان صلاها مراعاةً للتّرتيب. انتهى. ويحتمل: أن يكون البخاريّ أشار بقوله " ولا يعيد إلاَّ تلك الصّلاة " إلى تضعيف ما وقع في بعض طرق حديث أبي قتادة عند مسلم في قصّة النّوم عن الصّلاة حيث قال " فإذا كان الغد فليصلِّها عند وقتها " , فإنّ بعضهم زعم: أنّ ظاهره إعادة المقضيّة مرّتين عند ذكرها وعند حضور مثلها من الوقت الآتي. ولكنّ اللفظ المذكور ليس نصّاً في ذلك , لأنّه يحتمل أن يريد بقوله " فليصلها " عند وقتها. أي: الصّلاة التي تحضر. لا أنّه يريد أن يعيد التي صلاها بعد خروج وقتها. لكن في رواية أبي داود من حديث عمران بن حصينٍ (¬1) في هذه ¬

_ (¬1) كذا قال الشارح رحمه الله. والحديث في سنن أبي داود (438) لكن من حديث أبي قتادة.

القصّة " من أدرك منكم صلاة الغداة من غدٍ صالحاً , فليقض معها مثلها ". قال الخطّابيّ: لا أعلم أحداً قال بظاهره وجوباً. قال: ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب ليحوز فضيلة الوقت في القضاء. انتهى. ولَم يقل أحدٌ من السّلف باستحباب ذلك أيضاً، بل عدّوا الحديث غلطاً من راويه. وحكى ذلك التّرمذيّ وغيره عن البخاريّ. ويؤيّد ذلك ما رواه النّسائيّ من حديث عمران بن حصينٍ أيضاً , أنّهم قالوا: يا رسولَ الله. ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا ينهاكم الله عن الرّبا ويأخذه منكم. قوله: (وأقم الصّلاة لذكري) وللبخاري " للذّكرى " بلامين وفتح الرّاء بعدها ألفٌ مقصورةٌ - ووقع عند مسلم من طريق يونس , أنّ الزّهريّ كان يقرأها كذلك , ومرّةً كان يقولها قتادة بلفظ " لذكري " بلامٍ واحدةٍ وكسر الرّاء , وهي القراءة المشهورة. وقد اختلف في ذِكر الآية. هل هي من كلام قتادة , أو هي من قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟. وفي رواية مسلمٍ عن هدّابٍ قال قتادة: (وأقم الصّلاة لذكري) , وفي روايته من طريق المثنّى عن قتادة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رقد أحدكم عن الصّلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها , فإنّ الله يقول (أقم الصّلاة لذكري) , وهذا ظاهر أنّ الجميع من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

واستدل به على أنّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا، لأنّ المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه الصّلاة والسّلام، وهو الصّحيح في الأصول ما لَم يرد ناسخ. واختلف في المراد بقوله " لذكري ". فقيل: المعنى لتذكرني فيها. وقيل: لأذكرك بالمدح، وقيل: إذا ذكرتها، أي: لتذكيري لك إيّاها، وهذا يعضد قراءة من قرأ " للذّكرى ". وقال النّخعيّ. اللام للظّرف، أي: إذا ذكرتني , أي: إذا ذكرت أمري بعدما نسيت، وقيل: لا تذكر فيها غيري، وقيل: شكراً لذكري، وقيل: المراد بقوله ذكري , ذكر أمري، وقيل: المعنى إذا ذكرت الصّلاة فقد ذكرتني , فإنّ الصّلاة عبادة لله. فمتى ذكرها ذكر المعبود , فكأنّه أراد لذكر الصّلاة. وقال التوربشتي: الأولى أن يقصد إلى وجهٍ يوافق الآية والحديث، وكأنّ المعنى أقم الصّلاة لذكرها، لأنّه إذا ذكرها ذكر الله تعالى، أو يقصد مضاف أي لذكر صلاتي أو ذكر الضّمير فيه موضع الصّلاة لشرفها.

الحديث السبعون

الحديث السبعون 119 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , أنّ معاذ بن جبلٍ كان يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة. ثمّ يرجع إلى قومه , فيصلِّي بهم تلك الصّلاة. عشاء الآخرة , صلاة العشاء. (¬1) قوله: عن جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي المشهور. (¬2) قوله: (يُصلِّي مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) زاد مسلمٌ من رواية منصور عن عمرو بن دينار عن جابر " عشاء الآخرة " , فكأنّ العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصّلاة مرّتين. وللبخاري: يرجع فيؤمّ قومه , فصلَّى العشاء فقرأ البقرة , كذا في معظم الرّوايات. ووقع في روايةٍ لأبي عوانة والطّحاويّ من طريق محارب عن جابر " صلَّى بأصحابه المغرب " , وكذا لعبد الرّزّاق من رواية أبي الزّبير. فإن حُمل على تعدّد القصّة , أو على أنّ المراد بالمغرب العشاء مجازاً تمّ، وإلا فما في الصّحيح أصحّ. قوله: (ثمّ يرجع إلى قومه) في رواية منصور المذكورة " فيصلي بهم تلك الصّلاة " وللبخاري " فيصلي بهم الصّلاة " أي: المذكورة. وفي هذا ردٌّ على من زعم أنّ المراد أنّ الصّلاة التي كان يُصلِّيها مع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (669 , 679 , 5755) ومسلم (465) من طرق عن عمرو بن دينار عن جابر. مطوّلاً ومختصراً. وانظر رقم (106). (¬2) تقدّمت ترجمته في الطهارة رقم (39). وستأتي إن شاء الله ترجمة معاذ - رضي الله عنه - برقم (174)

النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غير الصّلاة التي كان يُصلِّيها بقومه. وفي رواية ابن عيينة عن عمرو عن جابر عند مسلم " فصلَّى ليلةً مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثمّ أتى قومه فأمّهم , وفي رواية الحميديّ عن ابن عيينة " ثمّ يرجع إلى بني سلمة فيُصلِّيها بهم " , ولا مخالفة فيه؛ لأنّ قومه هم بنو سلمة. وفي رواية الشّافعيّ عنه " ثمّ يرجع فيُصلِّيها بقومه في بني سلمة " , ولأحمد " ثمّ يرجع فيؤمّنا ". واستدل بهذا الحديث على صحّة اقتداء المفترض بالمتنفّل؛ بناءً على أنّ معاذاً كان ينوي بالأولى الفرض وبالثّانية النّفل. ويدلّ عليه ما رواه عبد الرّزّاق والشّافعيّ والطّحاويّ والدّارقطنيّ وغيرهم من طريق ابن جريجٍ عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب. وزاد " هي له تطوّع ولهم فريضة " وهو حديثٌ صحيحٌ رجاله رجال الصّحيح، وقد صرّح ابن جريجٍ في رواية عبد الرّزّاق بسماعه فيه فانتفت تهمة تدليسه. فقول ابن الجوزيّ: إنّه لا يصحّ , مردود. وتعليل الطّحاويّ له: بأنّ ابن عيينة ساقه عن عمرو أتمّ من سياق ابن جريجٍ , ولَم يذكر هذه الزّيادة , ليس بقادحٍ في صحّته؛ لأنّ ابن جريجٍ أسنّ وأجلّ من ابن عيينة وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لَم يكن كذلك فهي زيادةٌ من ثقةٍ حافظٍ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً , فلا معنى للتّوقّف في الحكم بصحّتها.

وأمّا ردّ الطّحاويّ لها: باحتمال أن تكون مدرجة. فجوابه: أنّ الأصل عدم الإدراج حتّى يثبت التّفصيل، فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه , ولا سيّما إذا روي من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإنّ الشّافعيّ أخرجها من وجهٍ آخر عن جابر. متابعاً لعمرو بن دينار عنه. وقول الطّحاويّ هو ظنٌّ من جابر. مردود؛ لأنّ جابراً كان ممّن يُصلِّي مع معاذ , فهو محمولٌ على أنّه سمع ذلك منه , ولا يظنّ بجابر أنّه يخبر عن شخصٍ بأمرٍ غير مشاهدٍ إلاَّ بأن يكون ذلك الشّخص أطلعه عليه. وأمّا احتجاج أصحابنا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة (¬1). فليس بجيّد؛ لأنّ حاصله النّهي عن التّلبّس بصلاةٍ غير التي أقيمت من غير تعرّضٍ لنيّة فرض أو نفل، ولو تعيّنت نيّة الفريضة لامتنع على معاذ أن يُصلِّي الثّانية بقومه؛ لأنّها ليست حينئذٍ فرضاً له. وكذلك قول بعض أصحابنا: لا يظنّ بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمّة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد، فإنّه وإن كان فيه نوع ترجيح لكن للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , لَم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتّباع. وكذلك قول الخطّابيّ: إنّ العشاء في قوله " كان يُصلِّي مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (710) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -

العشاء " حقيقة في المفروضة، فلا يقال كان ينوي بها التّطوّع؛ لأنّ لمخالفه أن يقول: هذا لا ينافي أن ينوي بها التّنفّل. وأمّا قول ابن حزم: إنّ المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوّعاً , فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم؟. فهذا - إن كان كما قال - نقضٌ قويٌّ. وأسلم الأجوبة التّمسّك بالزّيادة المتقدّمة. وأمّا قول الطّحاويّ: لا حجّة فيها؛ لأنّها لَم تكن بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا تقريره. فجوابه أنّهم لا يختلفون في أنّ رأي الصّحابيّ إذا لَم يخالفه غيره حجّة، والواقع هنا كذلك، فإنّ الذين كان يُصلِّي بهم معاذ كلّهم صحابةٌ , وفيهم ثلاثون عقبيّاً وأربعون بدريّاً، قاله ابن حزم. وقال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصّحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر، وابن عمر، وأبو الدّرداء وأنس وغيرهم. وأمّا قول الطّحاويّ: لو سلَّمنا جميع ذلك , لَم يكن فيه حجّة لاحتمال أنّ ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرّتين. أي: فيكون منسوخاً. فقد تعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّه يتضمّن إثبات النّسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ، وبأنّه يلزمه إقامة الدّليل على ما ادّعاه من إعادة الفريضة. انتهى. وكأنّه لَم يقف على كتابه , فإنّه قد ساق فيه دليل ذلك , وهو حديث

ابن عمر رفعه " لا تصلّوا الصّلاة في اليوم مرّتين " (¬1). ومن وجهٍ آخر مرسل , إنّ أهل العالية كانوا يصلّون في بيوتهم, ثمّ يصلّون مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فبلغه ذلك فنهاهم. (¬2) ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحّته نظرٌ، لاحتمال أن يكون النّهي عن أن يصلّوها مرّتين على أنّها فريضة، وبذلك جزم البيهقيّ جمعاً بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النّهي منسوخ بحديث معاذ، لَم يكن بعيداً. ولا يقال القصّة قديمة؛ لأنّ صاحبها استشهد بأحدٍ؛ لأنّا نقول: كانت أُحدٌ في أواخر الثّالثة فلا مانع أن يكون النّهي في الأولى والإذن في الثّالثة مثلاً، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للرّجلين اللذين لَم يصليا معه: إذا صليتما في رحالكما , ثمّ أتيتما مسجد جماعةٍ فصليا معهم , فإنّها نافلة. أخرجه أصحاب السّنن من حديث يزيد بن الأسود العامريّ. وصحّحه ابن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجّة الوداع في أواخر حياة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ويدلّ على الجواز أيضاً. أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن أدرك الأئمّة الذين يأتون بعده ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (4689) وأبو داود (579)، والنسائي (2/ 144) عن سليمان بن يسار مولى ميمونة، قال: أتيتُ ابن عمر على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تُصلّي معهم؟ قال: قد صلّيت، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكره. وصحَّحه ابن خزيمة (1641) وابن حبان (2396). (¬2) أخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/ 317) عن عمرو بن شعيب عن خالد بن أيمن المعافري , قال: كان أهل العوالي. وفيه: فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُعيدوا الصلاة في يوم مرتين. قال عمرو: قد ذكرتُ ذلك لسعيد بن المسيب. فقال: صدق.

ويؤخّرون الصّلاة عن ميقاتها: أن صلّوها في بيوتكم في الوقت , ثمّ اجعلوها معهم نافلة (¬1). وأمّا استدلال الطّحاويّ: أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى معاذاً عن ذلك بقوله في حديث سليم بن الحارث: إمّا أن تصلي معي , وإمّا أن تخفّف بقومك (¬2). ودعواه أنّ معناه إمّا أن تصلي معي ولا تصل بقومك , وإمّا أن تخفّف بقومك ولا تصل معي. ففيه نظرٌ؛ لأنّ لمخالفه أن يقول: بل التّقدير إمّا أن تصلي معي فقط إذا لَم تخفّف , وإمّا أن تخفّف بقومك فتصلي معي، وهو أولى من تقديره؛ لِمَا فيه من مقابلة التّخفيف بترك التّخفيف؛ لأنّه هو المسئول عنه المتنازع فيه. وأمّا تقوية بعضهم بكونه منسوخاً: بأنّ صلاة الخوف وقعت مراراً على صفةٍ فيها مخالفةٌ ظاهرةٌ بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفّل لصلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بهم مرّتين على وجهٍ لا تقع فيه منافاة، فلمّا لَم يفعل دلَّ ذلك على المنع. فجوابه: أنّه ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم صلاة الخوف مرّتين. كما أخرجه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ أو يُميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصلِّ، فإنها لك نافلة. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (20699) من طريق معاذ بن رفاعة الأنصاري، عن رجلٍ من بني سلمة يقال له: سليم. وقد أعلّه الشارح كما تقدّم في التعليق على حديث رقم (85).

أبو داود عن أبي بكرة صريحاً، ولمسلمٍ عن جابر نحوه، وأمّا صلاته بهم على نوعٍ من المخالفة فلبيان الجواز. وأمّا قول بعضهم: كان فعل معاذ للضّرورة لقلة القرّاء في ذلك الوقت. فهو ضعيفٌ كما قال ابن دقيق العيد؛ لأنّ القدر المجزئ من القراءة في الصّلاة كان حافظوه كثيراً، وما زاد لا يكون سبباً لارتكاب أمرٍ ممنوعٍ منه شرعاً في الصّلاة.

الحديث الواحد والسبعون

الحديث الواحد والسبعون 120 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: كنّا نُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدّة الحرّ. فإذا لَم يستطع أحدنا أنْ يُمكِّن جبهته من الأرض , بسط ثوبه فسجد عليه. (¬1) قوله: (بسط ثوبه فسجد عليه) وللبخاري من رواية بشر بن المفضل عن غالب " فيضع أحدنا طرف الثّوب " وله من طريق خالد بن عبد الرّحمن عن غالب: سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ. والثّوب في الأصل يطلق على غير المخيط. وقد يطلق على المخيط مجازاً. وفي الحديث جواز استعمال الثّياب , وكذا غيرها في الحيلولة بين المُصلِّي وبين الأرض لاتّقاء حرّها وكذا بردها. وفيه إشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السّجود هو الأصل؛ لأنّه علق بسط الثّوب بعدم الاستطاعة. واستدل به على إجازة السّجود على الثّوب المتّصل بالمُصلِّي. قال النّوويّ: وبه قال أبو حنيفة والجمهور، وحمله الشّافعيّ على الثّوب المنفصل. انتهى. وأيّد البيهقيّ هذا الحملَ بما رواه الإسماعيليّ من هذا الوجه بلفظ " فيأخذ أحدنا الحصى في يده , فإذا برد وضعه وسجد عليه " , قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (378 , 517 , 1150) ومسلم (620) من طريق غالب القطان، عن بكر بن عبد الله، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

فلو جاز السّجود على شيء متّصل به لَمَا احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه. وتعقّب: باحتمال أن يكون الذي كان يبرّد الحصى لَم يكن في ثوبه فضلة يسجد عليها مع بقاء سترته له. وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من استدل به على الجواز إلى أمرين: أحدهما: أنّ لفظ " ثوبه " دالٌّ على المتّصل به، إمّا من حيث اللفظ , وهو تعقيب السّجود بالبسط يعني كما في رواية مسلم، وإمّا من خارج اللفظ , وهو قلة الثّياب عندهم. وعلى تقدير أن يكون كذلك - وهو الأمر الثّاني - يحتاج إلى ثبوت كونه متناولاً لمحل النّزاع، وهو أن يكون ممّا يتحرّك بحركة المُصلِّي، وليس في الحديث ما يدلّ عليه. والله أعلم. وفيه جواز العمل القليل في الصّلاة، ومراعاة الخشوع فيها؛ لأنّ الظّاهر أنّ صنيعهم ذلك لإزالة التّشويش العارض من حرارة الأرض. وفيه تقديم الظّهر في أوّل الوقت، وظاهر الأحاديث الوارد في الأمر بالإبراد كما تقدّم يعارضه، فمَن قال الإبراد رخصة فلا إشكال. ومَن قال سنّة. فإمّا أن يقول التّقديم المذكور رخصة، وإمّا أن يقول منسوخ بالأمر بالإبراد. وأحسن منهما أن يقال: إنّ شدّة الحرّ قد توجد مع الإبراد فيحتاج إلى السّجود على الثّوب أو إلى تبريد الحصى؛ لأنّه قد يستمرّ حرّه بعد

الإبراد، وتكون فائدة الإبراد وجود ظلٍّ يمشي فيه إلى المسجد أو يُصلِّي فيه في المسجد، أشار إلى هذا الجمع القرطبيّ ثمّ ابن دقيق العيد، وهو أولى من دعوى تعارض الحديثين. وفيه أنّ قول الصّحابيّ " كنّا نفعل كذا " من قبيل المرفوع لاتّفاق الشّيخين على تخريج هذا الحديث في صحيحيهما , بل ومعظم المصنّفين. لكن قد يقال إنّ في هذا زيادة على مجرّد الصّيغة لكونه في الصّلاة خلف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يرى فيها من خلفه كما يرى من أمامه فيكون تقريره فيه مأخوذاً من هذه الطّريق لا من مجرّد صيغة " كنّا نفعل ".

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون 121 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يُصلِّي أحدكم في الثّوب الواحد , ليس على عاتقيه منه شيءٌ. (¬1) قوله: (لا يُصلِّي) قال ابن الأثير: كذا هو في الصّحيحين بإثبات الياء، ووجهه أنّ " لا " نافية، وهو خبر بمعنى النّهي. قلت: ورواه الدّارقطنيّ في " غرائب مالك " من طريق الشّافعيّ عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ " لا يصلِّ " بغير ياء، ومن طريق عبد الوهّاب بن عطاء عن مالك بلفظ " لا يصلّين " بزيادة نون التّأكيد، ورواه الإسماعيليّ من طريق الثّوريّ عن أبي الزّناد بلفظ " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (ليس على عاتقيه شيء) كذا للبخاري , وزاد مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزّناد " منه شيء " أي بعضه، وفي رواية " عاتقه " (¬2) بالإفراد. والعاتق هو ما بين المنكبين إلى أصل العنق، وهو مذكّر , وحكي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (352) ومسلم (516) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. تنبيه: في كثير من نسخ العمدة (عاتقه) بالإفراد , والصواب ما أثبتّه , وهو الموافق لرواية الصحيحين. (¬2) رواية عاتقه بالإفراد. أخرجها الإمام أحمد (9980) والنسائي (769) والبيهقي في " الكبرى " (2/ 316) وغيرهم.

تأنيثه. والمراد أنّه لا يتّزر في وسطه ويشدّ طرفي الثّوب في حقويه , بل يتوشّح بهما على عاتقيه ليحصل السّتر لجزءٍ من أعالي البدن وإن كان ليس بعورةٍ، أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة. وللبخاري من طريق شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعاً " من صلَّى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه " , وعند أحمد من طريق معمر عن يحيى فيه " فليخالف بين طرفيه على عاتقيه " , وكذا للإسماعيليّ وأبي نعيمٍ من طريق حسين عن شيبان. القول الأول: حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، والنّهي في الذي قبله على التّنزيه. القول الثاني: عن أحمد. لا تصحّ صلاة من قدر على ذلك فترَكَه , جعله من الشّرائط. القول الثالث: وعن أحمد: تصحّ ويأثم , جعله واجباً مستقبلاً. وقال الكرمانيّ: ظاهر النّهي يقتضي التّحريم , لكنّ الإجماع منعقد على جواز تركه. كذا قال , وغفل عمّا ذكره بعد قليل عن النّوويّ من حكاية ما نقلناه عن أحمد، وقد نقل ابن المنذر عن محمّد بن عليّ عدم الجواز، وكلام التّرمذيّ يدلّ على ثبوت الخلاف أيضاً. وعقد الطّحاويّ له باباً في شرح المعاني , ونقل المنع عن ابن عمر ثمّ عن طاوسٍ والنّخعيّ، ونقله غيره عن ابن وهب وابن جرير.

وجمع الطّحاويّ بين أحاديث الباب: بأنّ الأصل أن يُصلِّي مشتملاً فإن ضاق اتّزر ونقل الشّيخ تقيّ الدّين السّبكيّ وجوب ذلك عن نصّ الشّافعيّ واختاره، لكنّ المعروف في كتب الشّافعيّة خلافه. واستدل الخطّابيّ على عدم الوجوب: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في ثوب كان أحد طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة (¬1). قال: ومعلوم أنّ الطّرف الذي هو لابسه من الثّوب غير متّسع لأن يتّزر به , ويفضل منه ما كان لعاتقه. وفيما قاله نظرٌ لا يخفى. والظّاهر من تصرّف البخاري التّفصيل بين ما إذا كان الثّوب واسعاً فيجب، وبين ما إذا كان ضيّقاً فلا يجب وضع شيء منه على العاتق، وهو اختيار ابن المنذر. وبذلك تظهر مناسبة تعقيبه بباب إذا كان الثوب ضيقاً. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (514) عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من الليل وأنا إلى جنبه، وأنا حائض , وعليَّ مرط وعليه بعضُه إلى جنبه. (¬2) بوَّب البخاري على حديث الباب بقوله (باب: إذا صلَّى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه) ثم ذكر حديث الباب , وكذا حديث أبي هريرة الآخر بلفظ: من صلَّى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه ". ثم قال البخاري (باب إذا كان الثوب ضيقاً) ثم روى عن سعيد بن الحارث، قال: سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فجئت ليلة لبعض أمري، فوجدته يصلي، وعليَّ ثوب واحد فاشتملتُ به وصليتُ إلى جانبه، فلمَّا انصرف قال: ما السرى يا جابر؟ فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت. قال: ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟، قلت: كان ثوب - يعني ضاق - قال: فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به ". وساق أيضاً حديث سهل بن سعد، قال: كان رجالٌ يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء: لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً.

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون 122 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه قال: من أكل ثوماً أو بصلاً , فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته. وأُتِي بقِدْرٍ فيه خضراتٌ من بقولٍ , فوجد لها ريحاً , فسأل؟ فأُخبر بما فيها من البقول , فقال: قرّبوها إلى بعض أصحابي , فلمّا رآه كره أكلها , قال: كُل. فإنّي أناجي من لا تناجي. (¬1) الحديث الرابع والسبعون 123 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن أكل الثّومَ والبصلَ والكرّاثَ فلا يقْرَبنّ مسجدنا، فإنّ الملائكةَ تتأذّى ممّا يتأذّى منه الإنسان. وفي روايةٍ: بني آدم. (¬2) قوله: (عن جابر) وللبخاري " أنَّ جابر بن عبد الله زعم ". قال الخطّابيّ: لَم يقل زعم على وجه التّهمة، لكنّه لَمّا كان أمراً مختلفاً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (817 , 5137 , 6926) ومسلم (564) من طريق يونس عن الزهري عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (816) ومسلم (564) من طريق ابن جريج عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم. واختصره البخاري كما سيذكر الشارح. وأخرجه مسلم (653) من رواية هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر. نحو رواية الباب.

فيه , أتى بلفظ الزّعم , لأنّ هذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلاَّ في أمر يرتاب به أو يختلف فيه. قلت: وقد يستعمل في القول المحقّق أيضاً، وكلام الخطّابيّ لا ينفي ذلك، وفي رواية أحمد بن صالح عند البخاري عن جابر , ولَم يقل " زعم ". قوله: (من أكل ثوماً) وللبخاري عن ابن جريج عن عطاء عن جابر: من أكل من هذه الشجرة - يريد الثوم - فلا يغشانا في مساجدنا , قلت: ما يعني به؟ قال: ما أراه يعني إلاَّ نيئه، وقال مخلد بن يزيد: عن ابن جريج: إلاَّ نتنه. وقوله: " يريد الثّوم " لَم أعرف الذي فسّره , وأظنّه ابن جريجٍ فإنّ في رواية الزّهريّ عن عطاء الجزم بذكر الثّوم. على أنّه قد اختلف في سياقه عن ابن جريجٍ. فقد رواه مسلم من رواية يحيى القطّان عن ابن جريجٍ بلفظ " من أكل من هذه البقلة الثّوم " وقال مرّة " من أكل البصل والثّوم والكرّاث " , ورواه أبو نعيمٍ في " المستخرج " من طريق روح بن عبادة عن ابن جريجٍ مثله , وعيّن الذي قال، وقال مرّة , ولفظه: قال ابن جريجٍ: وقال عطاء في وقت آخر: الثّوم والبصل والكرّاث. ورواه أبو الزّبير عن جابر بلفظ: نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكل البصل والكرّاث , قال: ولَم يكن ببلدنا يومئذٍ الثّوم. هكذا أخرجه ابن خزيمة من رواية يزيد بن إبراهيم وعبد الرّزّاق عن ابن عيينة كلاهما

عن أبي الزّبير. قلت: هذا لا ينافي التّفسير المتقدّم , إذ لا يلزم من كونه لَم يكن بأرضهم أن لا يجلب إليهم، حتّى لو امتنع هذا الحمل لكانت رواية المثبت مقدّمة على رواية النّافي، والله أعلم قال ابن بطّال: هذا يدلّ على إباحة أكل الثّوم، لأنّ قوله " من أكل " لفظ إباحة. وتعقّبه ابن المنير: بأنّ هذه الصّيغة إنّما تعطي الوجود لا الحكم، أي: من وجد منه الأكل، وهو أعمّ من كونه مباحاً أو غير مباح. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم الدّلالة على عدم تحريمه , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً، فلا يقربنا في المسجد , فقال الناس: حرمت، حرمت، فبلغ ذاك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحلَّ الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها. قوله: (فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا) شكّ من الرّاوي وهو الزّهريّ، ولَم تختلف الرّواة عنه في ذلك قوله: (وليقعد في بيته) بواو العطف، وكذا لمسلمٍ، ولإبي ذر " أو ليقعد في بيته " بالشّكّ أيضاً , وهي أخصّ من الاعتزال , لأنّه أعمّ من أن يكون في البيت أو غيره. قوله: (وأتي بقدرٍ) وللبخاري " وأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتي بقدر " هذا حديث آخر، وهو معطوف على الإسناد المذكور، والتّقدير. وحدّثنا سعيد بن عفير قال: حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب،

زعم عطاء، أنَّ جابر بن عبد الله زعم , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتي .. ". وهذا الحديث الثّاني كان متقدّماً على الحديث الأوّل بستّ سنين، لأنّ الأوّل في حديث ابن عمر في البخاري وغيره , أنّه وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر - وكانت سنة سبع - وهذا وقع في السّنة الأولى عند قدومه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة , ونزوله في بيت أبي أيّوب الأنصاريّ كما سأبيّنه. قوله: (بقدرٍ) بكسر القاف وهو ما يطبخ فيه، ويجوز فيه التّأنيث والتّذكير، والتّأنيث أشهر، لكنّ الضّمير في قوله " فيه خُضَرات " يعود على الطّعام الذي في القدر، فالتّقدير أتي بقدرٍ من طعام فيه خُضَرات، ولهذا لَمّا أعاد الضّمير على القدر أعاده بالتّأنيث حيث قال " فأخبر بما فيها " وحيث قال " قرّبوها " وللبخاري في الاعتصام حدثنا أحمد بن صالح عن ابن وهب فقال " أتي ببدر " فخالف سعيدَ بن عفير في هذه اللفظة فقط , وشاركه في سائر الحديث عن ابن وهب بإسناده المذكور , وفيه قول ابن وهب " يعني: طبقاً فيه خضرات "، وكذا أخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح، لكن أخّر تفسير ابن وهب فذكره بعد فراغ الحديث. وأخرجه مسلم عن أبي الطّاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب فقال " بقدرٍ " بالقاف. ورجّح جماعةٌ من الشّرّاح روايةَ أحمد بن صالح لكون ابن وهب فسّر " البدر " بالطّبق فدلَّ على أنّه حدّث به كذلك. وزعم بعضهم أنّ لفظة " بقدرٍ " تصحيف , لأنّها تشعر بالطّبخ ,

وقد ورد الإذن بأكل البقول مطبوخة، بخلاف الطّبق فظاهره أنّ البقول كانت فيه نيئة. والذي يظهر لي أنّ رواية " القدر " أصحّ لِمَا جاء من حديث أبي أيّوب وأمّ أيّوب جميعاً، فإنّ فيه التّصريح بالطّعام، ولا تعارض بين امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من أكل الثّوم وغيره مطبوخاً , وبين إذنه لهم في أكل ذلك مطبوخاً، فقد علَّل ذلك بقوله " إنّي لست كأحدٍ منكم ". وترجم ابن خزيمة على حديث أبي أيّوب (ذِكْر ما خصّ الله نبيّه به من ترك أكل الثّوم ونحوه مطبوخاً). وقد جمع القرطبيّ في " المفهم " بين الرّوايتين: بأنّ الذي في القدر لَم ينضج حتّى تضمحلّ رائحته , فبقي في حكم النّيء. وقوله " ببدرٍ " بفتح الموحّدة وهو الطّبق، سُمِّي بذلك لاستدارته تشبيهاً له بالقمر عند كماله. قوله: (خُضَرات) بضمّ الخاء وفتح الضّاد المعجمتين. كذا ضُبط في رواية أبي ذرّ، ولغيره بفتح أوّله وكسر ثانيه وهو جمع خضرة، ويجوز مع ضمّ أوّله ضمّ الضّاد وتسكينها أيضاً. قوله: (إلى بعض أصحابه) قال الكرمانيّ: فيه النّقل بالمعنى، إذ الرّسول - صلى الله عليه وسلم - لَم يقله بهذا اللفظ , بل قال: قرّبوها إلى فلان مثلاً، أو فيه حذف. أي: قال: قرّبوها مشيراً أو أشار إلى بعض أصحابه. قلت: والمراد بالبعض أبو أيّوب الأنصاريّ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيّوب في قصّة نزول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه , قال: فكان يصنع

للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فإذا جيء به إليه - أي بعد أن يأكل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منه , سأل عن موضع أصابع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فصنع ذلك مرّة فقيل له: لَم يأكل، وكان الطّعام فيه ثوم، فقال: أحرام هو يا رسولَ الله؟ قال: لا. ولكن أكرهه. قوله: (كل فإنّي أناجي من لا تناجي) أي: الملائكة، وفي حديث أبي أيّوب عند ابن خزيمة وابن حبّان من وجه آخر , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه بطعامٍ من خضرة فيه بصل أو كرّاث , فلم ير فيه أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يأكل، فقال له: ما منعك؟ قال: لَم أر أثر يدك , قال: أستحي من ملائكة الله , وليس بمحرّمٍ. ولهما من حديث أمّ أيّوب , قالت: نزل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلَّفنا له طعاماً فيه بعض البقول، فذكر الحديث نحوه. وقال فيه: كُلوا، فإنّي لست كأحدٍ منكم، إنّي أخاف أوذي صاحبي. وكان أبو أيّوب استدل بعموم قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ} على مشروعيّة متابعته في جميع أفعاله , فلمّا امتنع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أكل تلك البقول تأسّى به , فبيّن له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وجه تخصيصه فقال: إنّي أناجي من لا تناجي. واختلف هل كان أكلُ ذلك حراماً على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو لا؟. فقيل: كان محرماً عليه , والرّاجح الحلّ , لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: وليس بمحرّمٍ. كما تقدّم من حديث أبي أيّوب عند ابن خزيمة. وحجّة الأوّل: أنّ العلة في المنع ملازمة الملك له - صلى الله عليه وسلم -، وأنّه ما من

ساعة إلاَّ وملك يمكن أن يلقاه فيها. قوله في حديث جابر الثاني (فلا يقربنّ) وللبخاري عن أنس مرفوعاً: من أكل من هذه الشجرة فلا يقرَبَنّا. بفتح الرّاء والموحّدة وتشديد النّون. وليس في حديث أنس تقييد النّهي بالمسجد , فيستدلّ بعمومه على إلحاق الْمَجَامع بالمساجد كمُصلَّى العيد والجنازة ومكان الوليمة. وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتّمسّك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله " وليقعد في بيته " كما تقدّم. لكن قد علَّل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين، فإن كان كلّ منهما جزء عِلَّة اختصّ النّهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلاَّ لعمّ النّهي كلّ مجمع كالأسواق. ويؤيّد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: من أكل من هذه الشّجرة شيئاً فلا يقربنا في المسجد. قال القاضي ابن العربيّ: ذِكْر الصّفة في الحكم يدلّ على التّعليل بها، ومن ثَمَّ ردّ على المازريّ حيث قال: لو أنّ جماعة مسجد أكلوا كلّهم ما له رائحة كريهة لَم يمنعوا منه، بخلاف ما إذا أكل بعضهم، لأنّ المنع لَم يختصّ بهم بل بهم وبالملائكة، وعلى هذا يتناول المنع من تناول شيئاً من ذلك ودخل المسجد مطلقاً ولو كان وحده. واستدل بأحاديث الباب على أنّ صلاة الجماعة ليست فرض عين.

قال ابن دقيق العيد: لأنّ اللازم من منعه أحد أمرين: الأول: إمّا أن يكون أكل هذه الأمور مباحاً فتكون صلاة الجماعة ليست فرض عين. الثاني: أو حراماً فتكون صلاة الجماعة فرضاً. وجمهور الأمّة على إباحة أكلها فيلزم أن لا تكون الجماعة فرض عين. وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة، وترك الجماعة في حقّ آكلها جائز، ولازم الجائز جائز وذلك ينافي الوجوب (¬1). ونقل عن أهل الظّاهر أو بعضهم تحريمها , بناء على أنّ الجماعة فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض عين، ولا تتمّ إلاَّ بترك أكلها، وما لا يتمّ الواجب إلاَّ به فهو واجب، فترك أكل هذا واجب فيكون حراماً. انتهى. وكذا نقله غيره عن أهل الظّاهر، لكن صرّح ابن حزم منهم. بأنّ أكلها حلال مع قوله بأنّ الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللّزوم المذكور. بأنّ المنع من أكلها مختصّ بمن علم بخروج الوقت قبل زوال ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 443): ليس هذا التقرير بجيد , والصواب أنَّ إباحةَ أكل هذه الخضراوات ذوات الرائحة الكريهة لا ينافي كون الجماعة فرض عين , كما أنَّ حضور الطعام يسوغ ترك الجماعة لمن قُدِّم بين يديه مع كون ذلك مباحاً. وخلاصة الكلام أنَّ الله سبحانه يسَّر على عباده , وجعل مثل هذه المباحات عذراً في ترك الجماعة لمصلحة شرعيّة , فإذا أراد أحد أن يتخذها حيلة لترك الجماعة حرم عليه ذلك. والله أعلم

الرّائحة. ونظيره أنّ صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسّفر. وهو في أصله مباح، لكن يحرم على من أنشأه بعد سماع النّداء. وقال ابن دقيق العيد أيضاً: قد يستدلّ بهذا الحديث على أنّ أكل هذه الأمور من الأعذار المرخّصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إنّ هذا الكلام خرج مخرج الزّجر عنها , فلا يقتضي ذلك أن يكون عذراً في تركها إلاَّ أن تدعو إلى أكلها ضرورة. قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه، فإنّ ذلك ينفي الزّجر. انتهى ويمكن حمله على حالتين، والفرق بينهما أنّ الزّجر وقع في حقّ من أراد إتيان المسجد، والإذن في التّقريب وقع في حالة لَم يكن فيها ذلك، بل لَم يكن المسجد النّبويّ إذ ذاك بني، فقد قدّمت أنّ الزّجر متأخّر عن قصّة التّقريب بستّ سنين. وقال الخطّابيّ: توهّم بعضهم أنّ أكل الثّوم عذر في التّخلّف عن الجماعة، وإنّما هو عقوبة لآكله على فعله إذ حرم فضل الجماعة. انتهى وكأنّه يخصّ الرّخصة بما لا سبب للمرء فيه كالمطر مثلاً، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون أكلها حراماً، ولا أنّ الجماعة فرض عين. واستدل المُهلَّب بقوله " فإنّي أناجي من لا تناجي " على أنّ الملائكة أفضل من الآدميّين. وفيه نظرٌ، لأنّ المراد بمن كان - صلى الله عليه وسلم - يناجيه من ينزل عليه بالوحي وهو في الأغلب الأكثر جبريل، ولا يلزم من وجود دليل يدلّ على

أفضليّة جبريل على مثل أبي أيّوب أن يكون أفضل ممّن هو أفضل من أبي أيّوب، ولا سيّما إن كان نبيّاً، ولا يلزم من تفضيل بعض الأفراد على بعض تفضيل جميع الجنس على جميع الجنس. ونقل ابن التّين عن مالكٍ قال: الفجل إن كان يظهر ريحه فهو كالثّوم. وقيّده عياضٌ بالجشاء. قلت: وفي الطّبرانيّ الصّغير من حديث أبي الزّبير عن جابر التّنصيص على ذكر الفجل في الحديث، لكن في إسناده يحيى بن راشد. وهو ضعيف. وألْحَقَ بعض الشافعية بذلك مَن بفيه بَخرٌ أو به جرح له رائحة. وزاد بعضهم , فألحق أصحاب الصّنائع كالسّمّاك، والعاهات كالمجذوم، ومن يؤذي النّاس بلسانه , وأشار ابن دقيق العيد: إلى أنّ ذلك كلّه توسّع غير مرضيّ. واختلف في الكراهية: القول الأول: الجمهور على التّنزيه. القول الثاني: عن الظّاهريّة التّحريم. وأغرب عياضٌ فنقل عن أهل الظّاهر تحريم تناول هذه الأشياء مطلقاً , لأنّها تمنع حضور الجماعة والجماعة فرض عين , ولكن صرَّح ابن حزمٍ بالجواز , ثمّ يحرم على من يتعاطى ذلك حضور المسجد , وهو أعلم بمذهبه من غيره. قوله: (مسجدنا) وللبخاري من طريق يحيى القطان عن عبيد الله

عن نافع عن ابن عمر , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا " , قوله قال (في غزوة خيبر) قال الداودي: أي حين أراد الخروج , أو حين قدم. وتعقبه ابن التين. بأن الصواب أنه قال ذلك وهو في الغزاة نفسها , قال: ولا ضرورة تمنع أن يخبرهم بذلك في السفر. انتهى. فكأنَّ الذي حمل الداوديَّ على ذلك. قوله في الحديث: فلا يقربن مسجدنا. لأنَّ الظاهر أنَّ المراد به مسجد المدينة فلهذا حمل الخبر على ابتداء التوجه إلى خيبر أو الرجوع إلى المدينة , لكن حديث أبي سعيد عند مسلم دلَّ على أنّ القول المذكور صدر منه - صلى الله عليه وسلم - عقب فتح خيبر. فعلى هذا فقوله " مسجدنا " يريد به المكان الذي أعدّ ليصلِّي فيه مدّة إقامته هناك , أو المراد بالمسجد الجنس , والإضافة إلى المسلمين. أي: فلا يقربنّ مسجد المسلمين ويؤيّده رواية أحمد عن يحيى القطّان فيه بلفظ " فلا يقربنّ المساجد " ونحوه لمسلمٍ. وهذا يدفع قول من خصّ النّهيَّ بمسجد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد حكاه ابن بطّال عن بعض أهل العلم ووهّاه. وفي مصنّف عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ قال: قلت لعطاءٍ: هل النّهي للمسجد الحرام خاصّة , أو في المساجد؟ قال: لا. بل في المساجد. فائدتان: الفائدة الأولى: في قوله " شجرة " مجاز , لأنّ المعروف في اللّغة أنّ

الشّجرة ما كان لها ساقٌ , وما لا ساق له يقال له نجم، وبهذا فسّر ابن عبّاسٍ وغيره قوله تعالى (والنّجم والشّجر يسجدان). ومن أهل اللّغة مَن قال: كلّ ما ثبتت له أرومة، أي: أصل في الأرض يخلف ما قطع منه فهو شجرٌ، وإلا فنجمٌ. وقال الخطّابيّ: في هذا الحديث إطلاق الشّجر على الثّوم , والعامّة لا تعرف الشّجر إلاَّ ما كان له ساق. انتهى. ومنهم مَن قال: بين الشّجر والنّجم عمومٌ وخصوصٌ، فكلّ نجمٍ شجرٌ من غير عكس كالشّجر والنّخل، فكلّ نخلٍ شجر من غير عكس. الفائدة الثانية: حكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع كما ثبت في مسلم عن عمر - رضي الله عنه -. تنبيهٌ: وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة: من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربنّ مسجدنا، ثلاثاً. وبوّب عليه " توقيت النّهي عن إتيان الجماعة لآكل الثّوم ". وفيه نظرٌ، لاحتمال أن يكون قوله " ثلاثاً " يتعلق بالقول، أي: قال ذلك ثلاثاً، بل هذا هو الظّاهر، لأنّ عِلَّة المنع وجود الرّائحة. وهي لا تستمرّ هذه المدّة.

باب التشهد

باب التشهُّد الحديث الخامس والسبعون 124 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: علَّمَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التّشهّد. كفّي بين كفّيه , كما يُعلِّمني السّورة من القرآن: التّحيّات لله والصّلوات والطّيّبات , السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته , السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين , أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله. (¬1) وفي لفظٍ: إذا قعد أحدكم في الصّلاة فليقل: التّحيّات لله , وذكره. وفيه: فإنّكم إذا فعلتم ذلك , فقد سلَّمتم على كل عبدٍ لله صالِحٍ في السّماء والأرض. وفيه: فليتخيّر من المسألة ما شاء. (¬2) قوله: (التّشهّد) هو تفعّل من تشهّد، سُمِّي بذلك لاشتماله على النّطق بشهادة الحقّ تغليباً لها على بقيّة أذكاره لشرفها. قوله: (كفّي بين كفّيه) فيه جواز الأخذ باليد من غير حصول المصافحة , وهي مفاعلة من الصّفحة , والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5910) ومسلم (402) من طريق مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (797 , 800 , 1144 , 5876 , 5969 , 6946) ومسلم (402) من طرق عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - به.

وقد أخرج التّرمذيّ من حديث ابن مسعود رفعه " من تمام التّحيّة الأخذ باليد " وفي سنده ضعف، وحكى التّرمذيّ عن البخاريّ: أنّه رجّح أنّه موقوف على عبد الرّحمن بن يزيد النّخعيّ أحد التّابعين. وأخرج ابن المبارك في " كتاب البرّ والصّلة " من حديث أنس: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي الرّجل لا ينزع يده حتّى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتّى يكون هو الذي يصرفه ". وأخرج التّرمذيّ بسندٍ ضعيف من حديث أبي أُمامة رفعه " تمام تحيّتكم بينكم المصافحة ". وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " وأبو داود بسندٍ صحيح من طريق حميدٍ عن أنس رفعه: قد أقبل أهل اليمن , وهم أوّل من حيّانا بالمصافحة. وفي " جامع ابن وهب " من هذا الوجه " وكانوا أوّل من أظهر المصافحة ". وأخرج البخاري في " صحيحه " عن قتادة، قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم ". قال ابن بطّال (¬1): المصافحة حسنة عند عامّة العلماء، وقد استحبّها مالك بعد كراهته. وقال النّوويّ (¬2): المصافحة سنّة مجمع عليها عند التّلاقي. وقد أخرج أحمد وأبو داود والتّرمذيّ عن البراء رفعه " ما من مسلمَين ¬

_ (¬1) ((هو علي بن خلف , سبق ترجمته (1/ 34) (¬2) هو يحيى بن شرف , سبق ترجمته (1/ 22)

يلتقيان فيتصافحان , إلاَّ غفر لهما قبل أن يتفرّقا " , وزاد فيه ابن السّنّيّ " وتكاشرا بودٍّ ونصيحة " , وفي رواية لأبي داود " وحمدا الله واستغفراه ". وأخرجه أبو بكر الرّويانيّ في " مسنده " من وجه آخر عن البراء: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصافحني، فقلت: يا رسولَ الله كنت أحسب أنّ هذا من زيّ العجم، فقال: نحن أحقّ بالمصافحة. فذكر نحو سياق الخبر الأوّل. وفي مرسل عطاء الخراسانيّ في الموطّأ " تصافحوا يذهب الغلّ " ولَم نقف عليه موصولاً، واقتصر ابن عبد البرّ على شواهده من حديث البراء وغيره. قال النّوويّ: وأمّا تخصيص المصافحة بما بعد صلاتي الصّبح والعصر , فقد مثّل ابن عبد السّلام في " القواعد " البدعة المباحة منها. قال النّوويّ: وأصل المصافحة سنّة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السّنّة. قلت: للنّظر فيه مجال، فإنّ أصل صلاة النّافلة سنّة مرغّب فيها، ومع ذلك فقد كره المحقّقون تخصيص وقت بها دون وقت. ومنهم: من أطلق تحريم مثل ذلك كصلاة الرّغائب التي لا أصل لها، ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبيّة والأمرد الحسن.

وقال ابن بطّال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة , وذلك مستحبّ عند العلماء، وإنّما اختلفوا في تقبيل اليد , فأنكره مالك , وأنكر ما روي فيه. وأجازه آخرون: واحتجّوا بما روي عن ابن عمر , أنّهم لَمّا رجعوا من الغزو حيث فرّوا , قالوا: نحن الفرّارون، فقال: بل أنتم العكّارون أنا فئة المؤمنين، قال: فقبّلنا يده. قال: وقبّل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين تاب الله عليهم. ذكره الأبهريّ، وقبّل أبو عبيدة يدَ عمر حين قدم، وقبّل زيد بن ثابت يدَ ابن عبّاس حين أخذ ابن عبّاس بركابه. قال الأبهريّ: وإنّما كرهها مالك إذا كانت على وجه التّكبّر والتّعظّم، وأمّا إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإنّ ذلك جائز. قال ابن بطّال: وذكر التّرمذيّ من حديث صفوان بن عسّال " أنّ يهوديّين أتيا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن تسع آيات " الحديث وفي آخره " فقبّلا يده ورجله ". قال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ. قلت: حديث ابن عمر. أخرجه البخاريّ في " الأدب المفرد " وأبو داود، وحديث أبي لبابة. أخرجه البيهقيّ في " الدّلائل " وابن المقري، وحديث كعب وصاحبيه. أخرجه ابن المقري، وحديث أبي عبيدة. أخرجه سفيان في " جامعه " , وحديث ابن عبّاس. أخرجه الطّبريّ وابن المقري، وحديث صفوان. أخرجه أيضاً النّسائيّ وابن

ماجه وصحّحه الحاكم. وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءاً في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثاراً. فمن جيّدها حديث الزّارع العبديّ - وكان في وفد عبد القيس –قال: فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبّل يد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ورجله " أخرجه أبو داود، ومن حديث مزيدة العصريّ مثله، ومن حديث أسامة بن شريك قال: قمنا إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقبّلْنَا يده. وسنده قويّ. ومن حديث جابر , أنّ عمر قام إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقبّل يده. ومن حديث بريدة في قصّة الأعرابيّ والشّجرة. فقال: يا رسولَ الله. ائذن لي أن أقبّل رأسك ورجليك فأذن له. وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " من رواية عبد الرّحمن بن رزين قال: أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفّاً له ضخمة كأنّها كفّ بعير , فقمنا إليها فقبّلناها , وعن ثابت , أنّه قبّل يدَ أنس , وأخرج أيضاً: أنّ عليّاً قبّل يدَ العبّاس ورجله. وأخرجه ابن المقري، وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال: قلت لابن أبي أوفى: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فناولنيها فقبّلتها. قال النّوويّ: تقبيل يد الرّجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدّينيّة لا يكره بل يستحبّ. فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدّنيا فمكروه شديد

الكراهة , وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز. قوله: (التّحيّات) جمع تحيّة , ومعناها السّلام. وقيل: البقاء , وقيل: العظمة , وقيل: السّلامة من الآفات والنّقص , وقيل: الملك. وقال أبو سعيد الضّرير: ليست التّحيّة الملك نفسه , لكنّها الكلام الذي يحيّا به الملك. وقال ابن قتيبة: لَم يكن يحيّا إلاَّ الملك خاصّة، وكان لكل ملك تحيّةٌ تخصّه فلهذا جُمعت، فكان المعنى التّحيّات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلّها مستحقّة لله. وقال الخطّابيّ (¬1) ثمّ البغويّ: ولَم يكن في تحيّاتهم شيء يصلح للثّناء على الله، فلهذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التّعظيم فقال: قولوا التّحيّات لله، أي: أنواع التّعظيم له. وقال المحبّ الطّبريّ: يحتمل أن يكون لفظ التّحيّة مشتركاً بين المعاني المقدّم ذكرها، وكونها بمعنى السّلام أنسب هنا. قوله: (لله) قال القرطبي (¬2): فيه تنبيهٌ على الإخلاص في العبادة، أي: أنّ ذلك لا يفعل إلاَّ لله، ويحتمل: أن يراد به الاعتراف بأنّ ملك الملوك وغير ذلك ممّا ذكر كلّه في الحقيقة لله تعالى. ¬

_ (¬1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61). (¬2) هو صاحب المفهم أحمد بن عمر , سبق ترجمته (1/ 26)

وقال البيضاويّ (¬1): يحتمل: أن يكون والصّلوات والطّيّبات عطفاً على التّحيّات، ويحتمل: أن تكون الصّلوات مبتدأً , وخبره محذوف , والطّيّبات معطوفة عليها , والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة، والثّانية لعطف المفرد على الجملة. وقال ابن مالك: إن جعلتَ التّحيّات مبتدأ , ولَم تكن صفة لموصوفٍ محذوف , كان قولك والصّلوات مبتدأ , لئلا يعطف نعت على منعوته , فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، وكلّ جملة مستقلة بفائدتها، وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو. قوله: (والصّلوات) قيل المراد الخمس، أو ما هو أعمّ من ذلك من الفرائض والنّوافل في كلّ شريعة. وقيل: المراد العبادات كلّها، وقيل: الدّعوات. وقيل: المراد الرّحمة. وقيل: التّحيّات العبادات القوليّة والصّلوات العبادات الفعليّة والطّيّبات الصّدقات. قوله: (والطّيّبات) أي: ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته ممّا كان الملوك يحيّون به. وقيل: الطّيّبات ذكر الله. وقيل: الأقوال الصّالحة كالدّعاء والثّناء. وقيل: الأعمال الصّالحة وهو أعمّ. ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي , سبق ترجمته (1/ 191)

قال ابن دقيق العيد (¬1): إذا حمل التّحيّة على السّلام فيكون التّقدير التّحيّات التي تعظّم بها الملوك مستمرّة لله، وإذا حمل على البقاء فلا شكّ في اختصاص الله به، وكذلك الملك الحقيقيّ والعظمة التّامّة، وإذا حملت الصّلاة على العهد أو الجنس , كان التّقدير أنّها لله واجبة لا يجوز أن يقصد بها غيره، وإذا حملت على الرّحمة فيكون معنى قوله " لله " أنّه المتفضّل بها , لأنّ الرّحمة التّامّة لله يؤتيها من يشاء. وإذا حملت على الدّعاء فظاهر. وأمّا الطّيّبات. فقد فسّرت بالأقوال، ولعلَّ تفسيرها بما هو أعمّ أولى فتشمل الأفعال والأقوال والأوصاف، وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشّوائب. انتهى قوله: (السّلام عليك أيّها النّبيّ) قال النّوويّ: يجوز فيه وفيما بعده , أي: السّلام , حذف اللام وإثباتها , والإثبات أفضل. وهو الموجود في روايات الصّحيحين. قلت: لَم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنّما اختلف ذلك في حديث ابن عبّاسٍ. وهو من أفراد مسلم. قال الطّيبيّ (¬2): أصل " سلام عليك " سلمت سلاماً عليك، ثمّ حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النّصب إلى الرّفع على الابتداء للدّلالة على ثبوت المعنى واستقراره، ثمّ التّعريف إمّا للعهد ¬

_ (¬1) هو محمد بن علي , سبق ترجمته (1/ 12) (¬2) هو الحسن بن محمد , سبق ترجمته (1/ 23)

التّقديريّ، أي: ذلك السّلام الذي وجّه إلى الرّسل والأنبياء عليك أيّها النّبيّ، وكذلك السّلام الذي وجّه إلى الأمم السّالفة علينا وعلى إخواننا، وإمّا للجنس , والمعنى: أنّ حقيقة السّلام الذي يعرفه كلّ واحد وعمّن يصدر وعلى من ينزل عليك وعلينا، ويجوز أن يكون للعهد الخارجيّ إشارة إلى قوله تعالى (وسلام على عباده الذين اصطفى). قال: ولا شكّ أنّ هذه التّقادير أولى من تقدير النّكرة. انتهى. وحكى صاحب الإقليد عن أبي حامد: أنّ التّنكير فيه للتّعظيم، وهو وجه من وجوه التّرجيح لا يقصر عن الوجوه المتقدّمة. وقال البيضاويّ: علمهم أن يفردوه - صلى الله عليه وسلم - بالذّكر لشرفه ومزيد حقّه عليهم، ثمّ علمهم أن يخصّصوا أنفسهم أوّلاً , لأنّ الاهتمام بها أهمّ، ثمّ أمرهم بتعميم السّلام على الصّالحين إعلاماً منه بأنّ الدّعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم. وقال التّوربشتيّ: السّلام بمعنى السّلامة كالمقام والمقامة، والسّلام من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى أنّه سالم من كلّ عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى قولنا السّلام عليك الدّعاء. أي: سلمت من المكاره، وقيل: معناه اسم السّلام عليك , كأنّه تبرّك عليه باسم الله تعالى. فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ , وهو خطاب بشر مع كونه منهيّاً عنه في الصّلاة؟. فالجواب أنّ ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -.

فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب , في قوله " عليك أيّها النّبيّ " مع أنّ لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السّياق , كأن يقول السّلام على النّبيّ , فينتقل من تحيّة الله إلى تحيّة النّبيّ ثمّ إلى تحيّة النّفس ثمّ إلى الصّالحين. أجاب الطّيبيّ بما محصّله: نحن نتّبع لفظ الرّسول بعينه الذي كان علمه الصّحابة. ويحتمل: أن يقال على طريق أهل العرفان: إنّ المُصلِّين لَمّا استفتحوا باب الملكوت بالتّحيّات أذن لهم بالدّخول في حريم الحيّ الذي لا يموت فقرّت أعينهم بالمناجاة , فنبّهوا على أنّ ذلك بواسطة نبيّ الرّحمة وبركة متابعته , فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر , فأقبلوا عليه قائلين: السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته. انتهى وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا , ما يقتضي المغايرة بين زمانه - صلى الله عليه وسلم - فيقال بلفظ الخطاب، وأمّا بعده فيقال بلفظ الغيبة، وهو ممّا يخدش في وجه الاحتمال المذكور، ففي صحيح البخاريّ من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التّشهّد قال: وهو بين ظهرانينا، فلمّا قبض قلنا: السّلام. يعني على النّبيّ. كذا وقع في البخاريّ، وأخرجه أبو عوانة في " صحيحه " والسّرّاج والجوزقيّ وأبو نعيمٍ الأصبهانيّ والبيهقيّ من طرق متعدّدة إلى أبي نعيمٍ - شيخ البخاريّ فيه - بلفظ " فلمّا قبض قلنا: السّلام على النّبيّ " بحذف لفظ " يعني "، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن

أبي نعيمٍ. قال السّبكيّ في " شرح المنهاج " بعد أن ذكر هذه الرّواية من عند أبي عوانة وحده: إن صحّ هذا عن الصّحابة دلَّ على أنّ الخطاب في السّلام بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غير واجب , فيقال: السّلام على النّبيّ. قلت: قد صحّ بلا ريب , وقد وجدت له متابعاً قويّاً. قال عبد الرّزّاق: أخبرنا ابن جريجٍ أخبرني عطاء , أنّ الصّحابة كانوا يقولون والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حيّ: السّلام عليك أيّها النّبيّ، فلمّا مات قالوا: السّلام على النّبيّ. وهذا إسناد صحيح. وأمّا ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمهم التّشهّد. فذكره. قال: فقال ابن عبّاسٍ: إنّما كنّا نقول السّلام عليك أيّها النّبيّ إذ كان حيّاً، فقال ابن مسعود: هكذا علّمنا وهكذا نُعلِّم. فظاهر أنّ ابن عبّاسٍ قاله بحثاً , وأنّ ابن مسعود لَم يرجع إليه، لكنّ رواية أبي معمر أصحّ , لأنّ أبا عبيدة لَم يسمع من أبيه , والإسناد إليه مع ذلك ضعيف. فإن قيل , لِمَ عدل عن الوصف بالرّسالة إلى الوصف بالنّبوّة مع أنّ الوصف بالرّسالة أعمّ في حقّ البشر؟. أجاب بعضهم: بأنّ الحكمة في ذلك أن يجمع له الوصفين لكونه وصفه بالرّسالة في آخر التّشهّد , وإن كان الرّسول البشريّ يستلزم النّبوّة، لكنّ التّصريح بهما أبلغ. قيل: والحكمة في تقديم الوصف بالنّبوّة , أنّها كذا وجدت في

الخارج لنزول قوله تعالى (اقرأ باسم ربّك) قبل قوله (يا أيّها المدّثّر قم فأنذر) والله أعلم. قوله: (ورحمة الله) أي: إحسانه. قوله: (وبركاته) أي: زيادته من كلّ خير. قوله: (السّلام علينا) استدل به على استحباب البداءة بالنّفس في الدّعاء , وفي التّرمذيّ مصحَّحاً من حديث أبيّ بن كعب , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر أحداً فدعا له , بدأ بنفسه. وأصله في مسلم، ومنه قول نوح وإبراهيم عليهما السّلام كما في التّنزيل. (¬1) قوله: (عباد الله الصّالحين) الأشهر في تفسير الصّالح , أنّه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاته. قال التّرمذيّ الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السّلام الذي يسلّمه الخلق في الصّلاة , فليكن عبداً صالحاً , وإلا حرم هذا الفضل العظيم. وقال الفاكهانيّ: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحلّ جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني: ليتوافق لفظه مع قصده. وقد اختلف في معنى السّلام: فنقل عياض (¬2). أنّ معناه اسم الله , أي: كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال: الله معك ومصاحبك. ¬

_ (¬1) في قوله عن نوح عليه السلام (رَبِّ اغفِر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيتِيَ مُؤمِنًا وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ) سورة نوح آية 28. وقوله عن إبراهيم (رَبَّنَا اغفِر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ الحِسَابُ).سورة إبراهيم آية 41 (¬2) هو القاضي عياض بن موسى , سبق ترجمته (1/ 103)

وقيل: معناه إنّ الله مطّلع عليك فيما تفعل. وقيل: معناه إنّ اسم الله يذكر على الأعمال توقّعاً لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها. وقيل: معناه السّلامة كما قال تعالى: (فسلام لك من أصحاب اليمين) وكما قال الشّاعر: تحيّي بالسّلامة أمّ عمرو ... وهل لي بعد قومي من سلام. فكأنّ المسلِّم أعلم من سلم عليه أنّه سالم منه , وأن لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام ": السّلام يطلق بإزاء معانٍ، منها السّلامة، ومنها التّحيّة، ومنها أنّه اسم من أسماء الله. قال: وقد يأتي بمعنى التّحيّة محضاً. وقد يأتي بمعنى السّلامة محضاً، وقد يأتي متردّداً بين المعنيين كقوله تعالى (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً) فإنّه يحتمل التّحيّة والسّلامة، وقوله تعالى (ولهم ما يدّعون سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ). قوله: (أشهد أن لا إله إلاَّ الله) زاد ابن أبي شيبة من رواية أبي عبيدة عن أبيه " وحده لا شريك له " وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزّيادة في حديث أبي موسى عند مسلم , وفي حديث عائشة الموقوف في الموطّأ. وفي حديث ابن عمر عند الدّارقطنيّ، إلاَّ أنّ سنده ضعيف. وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح عن ابن عمر في التّشهّد:

أشهد أن لا إله إلاَّ الله. قال ابن عمر: زدتُ فيها وحده لا شريك له. وهذا ظاهره الوقف. قوله: (وأشهد أنّ محمّداً عبدُه ورسُوله) لَم تختلف الطّرق عن ابن مسعود في ذلك، وكذا هو في حديث أبي موسى وابن عمر وعائشة المذكور وجابر وابن الزّبير عند الطّحاويّ وغيره. وروى عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عطاء قال: بينا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلّم التّشهّد إذ قال رجل: وأشهد أنّ محمّداً رسوله وعبده، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لقد كنتُ عبداً قبل أن أكون رسولاً. قل: عبده ورسوله. ورجاله ثقات إلاَّ أنّه مرسل. وفي حديث ابن عبّاسٍ عند مسلم وأصحاب السّنن " وأشهد أنّ محمّداً رسول الله " ومنهم من حذف " وأشهد " ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود. قال التّرمذيّ: حديث ابن مسعود روي عنه من غير وجه، وهو أصحُّ حديثٍ روي في التّشهّد , والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصّحابة ومن بعدهم. قال: وذهب الشّافعيّ إلى حديث ابن عبّاسٍ في التّشهّد. وقال البزّار لَمّا سئل عن أصحِّ حديث في التّشهّد , قال: هو عندي حديث ابن مسعود، وروي من نيّف وعشرين طريقاً، ثمّ سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التّشهّد أثبت منه , ولا أصحّ أسانيد ولا أشهر رجالاً. انتهى.

ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممّن جزم بذلك البغويّ في شرح السّنّة، ومن رجحانه. أولاً: أنّه متّفق عليه دون غيره، وأنّ الرّواة عنه من الثّقات لَم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره. ثانياً: وأنّه تلقّاه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تلقيناً , فروى الطّحاويّ من طريق الأسود بن يزيد عنه قال: أخذت التّشهّد من فيِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقّننيه كلمةً كلمةً. ولابن أبي شيبة وغيره من رواية جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّمنا التّشهّد كما يعلّمنا السّورة من القرآن. وقد وافقه على هذا اللفظ أبو سعيد الخدريّ , وساقه بلفظ ابن مسعود. أخرجه الطّحاويّ، لكن هذا الأخير ثبت مثله في حديث ابن عبّاسٍ عند مسلم. ثالثاً: ورجَحَ أيضاً بثبوت الواو في الصّلوات والطّيّبات، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه , فتكون كلّ جملة ثناء مستقلاً، بخلاف ما إذا حذفت فإنّها تكون صفة لِمَا قبلها، وتعدّد الثّناء في الأوّل صريح فيكون أولى، ولو قيل: إنّ الواو مقدّرة في الثّاني. رابعاً: ورجَحَ بأنّه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره , فإنّه مجرّد حكاية.

ولأحمد من حديث ابن مسعود , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه التّشهّد , وأمره أن يُعلمه النّاس. ولَم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيّته. وقال الشّافعيّ بعد أن أخرج حديث ابن عبّاسٍ: رُويت أحاديث في التّشهّد مختلفة، وكان هذا أحبّ إليّ لأنّه أكملها. وقال في موضع آخر، وقد سئل عن اختياره تشهّد ابن عبّاسٍ: لَمّا رأيته واسعاً , وسمعته عن ابن عبّاسٍ صحيحاً , كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنّف لمن يأخذ بغيره ممّا صحّ. ورجّحه بعضهم: بكونه مناسباً للفظ القرآن في قوله تعالى (تحيّةً من عند الله مباركةً طيّبةً) وأمّا من رجّحه بكون ابن عبّاسٍ من أحداث الصّحابة فيكون أضبط لِمَا روى، أو بأنّه أفقه من رواه، أو بكون إسناد حديثه حجازيّاً وإسناد ابن مسعود كوفيّاً , وهو ممّا يرجّح به , فلا طائل فيه لمن أنصف. نعم. يمكن أن يقال: إنّ الزّيادة التي في حديث ابن عبّاسٍ. وهي " المباركات " لا تنافي رواية ابن مسعود، ورجح الأخذ بها. لكون أخذه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان في الأخير. وقد اختار مالك وأصحابه تشهّدَ عمر , لكونه علَّمه للنّاس وهو على المنبر , ولَم ينكروه فيكون إجماعاً، ولفظه نحو حديث ابن عبّاسٍ إلاَّ أنّه قال " الزّاكيات " بدل المباركات. وكأنّه بالمعنى. لكن أورد على الشّافعيّ زيادة " بسم الله " في أوّل التّشهّد، ووقع

في رواية عمر المذكورة , لكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه , لا من طريق الزّهريّ عن عروة التي أخرجها مالك , أخرجه عبد الرّزّاق وسعيد بن منصور وغيرهما , وصحّحه الحاكم مع كونه موقوفاً. وثبت في الموطّأ أيضاً عن ابن عمر موقوفاً , ووقع أيضاً في حديث جابر المرفوع. تفرّد به أيمن بن نابل - بالنّون ثمّ الموحّدة - عن أبي الزّبير عنه، وحكم الحفّاظ - البخاريّ وغيره - على أنّه أخطأ في إسناده , وأنّ الصّواب رواية أبي الزّبير عن طاوسٍ وغيره عن ابن عبّاسٍ. وفي الجملة. لَم تصحّ هذه الزّيادة. وقد ترجم البيهقيّ عليها " من استحبّ أو أباح التّسمية قبل التّحيّة " , وهو وجه لبعض الشّافعيّة , وضُعّف. ويدلّ على عدم اعتبارها , أنّه ثبت في حديث أبي موسى المرفوع في التّشهّد وغيره " فإذا قعد أحدكم , فليكن أوّل قوله التّحيّات لله " الحديث. كذا رواه عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة بسنده، وأخرج مسلم من طريق عبد الرّزّاق هذه، وقد أنكر ابن مسعود وابن عبّاسٍ وغيرهما على من زادها. أخرجه البيهقيّ وغيره. ثمّ إنّ هذا الاختلاف إنّما هو في الأفضل , وكلام الشّافعيّ المتقدّم يدلّ على ذلك , ونقل جماعة من العلماء الاتّفاق على جواز التّشهّد بكل ما ثبت، لكنّ كلام الطّحاويّ يشعر بأنّ بعض العلماء يقول

بوجوب التّشهّد المرويّ عن عمر. وذهب جماعة من محدّثي الشّافعيّة كابن المنذر إلى اختيار تشهّد ابن مسعود. وذهب بعضهم. كابن خزيمة إلى عدم التّرجيح. وسيأتي الكلام عن المالكيّة , أنّ التّشهّد مطلقاً غير واجب. والمعروف عند الحنفيّة , أنّه واجب لا فرض، بخلاف ما يوجد عنهم في كتب مخالفيهم. وقال الشّافعيّ: هو فرض، لكن قال: لو لَم يزد رجل على قوله " التّحيّات لله سلام عليك أيّها النّبيّ إلخ " كرهت ذلك له , ولَم أر عليه إعادة، هذا لفظه في الأمّ. وقال صاحب الرّوضة تبعاً لأصله: وأمّا أقلّ التّشهّد , فنصّ الشّافعيّ وأكثر الأصحاب إلى أنّه. فذكره، لكنّه قال " وأنّ محمّداً رسول الله ". قال: ونقله ابنُ كجّ والصّيدلانيّ فقالا " وأشهد أنّ محمّداً رسول الله " لكن أسقطا " وبركاته ". انتهى وقد استشكل جواز حذف " الصّلوات " مع ثبوتها في جميع الرّوايات الصّحيحة , وكذلك " الطّيّبات " مع جزْم جماعةٍ من الشّافعيّة بأنّ المقتصر عليه هو الثّابت في جميع الرّوايات. ومنهم: من وجّه الحذف بكونهما صفتين كما هو الظّاهر من سياق ابن عبّاسٍ، لكن يعكّر على هذا ما تقدّم من البحث في ثبوت العطف

فيهما في سياق غيره , وهو يقتضي المغايرة. قوله: (إذا قعد أحدكم في الصّلاة , فليقل) في رواية لهما " فإذا صلَّى أحدكم فليقل " , وللنّسائيّ من طريق أبي الأحوص عن عبد الله: كنّا لا ندري ما نقول في كلّ ركعتين، وإنّ محمّداً علم فواتح الخير وخواتمه , فقال: إذا قعدتم في كلّ ركعتين فقولوا. وله من طريق الأسود عن عبد الله. فقولوا: في كلّ جلسة. ولابن خزيمة من وجه آخر عن الأسود عن عبد الله: علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التّشهّد في وسط الصّلاة وفي آخرها , وزاد الطّحاويّ من هذا الوجه في أوّله " وأخذت التّشهّد من في رسولِّ الله - صلى الله عليه وسلم - ولقّننيه كلمة كلمة ". وللشيخين عن أبي معمر عن ابن مسعود: علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التّشهّد , وكفّي بين كفّيه كما يعلمني السّورة من القرآن. واستدل بقوله " فليقل " على الوجوب خلافاً لمن لَم يقل به كمالكٍ. وأجاب بعض المالكيّة: بأنّ التّسبيح في الرّكوع والسّجود مندوب، وقد وقع الأمر به في قوله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا نزلت (فسبّح باسم ربّك العظيم) " اجعلوها في ركوعكم .. الحديث " (¬1) , فكذلك التّشهّد. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (4/ 155) وأبو داود (869) وابن ماجه (887) والطحاوي في " شرح المعاني " (1/ 138) والحاكم (1/ 225 , 2/ 477) والبيهقي (2/ 86) وابن حبان (1898) من طريق موسى بن أيوب الغافقي، قال: سمعت عمي إياس بن عامر يقول: سمعت عقبة بن عامر الجهني، يقول: لَمَّا نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74]، قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم , فلمَّا نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في سجودكم. وزاد أبو داود من وجه آخر عن موسى: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع , قال: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثاً، وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً. قال أبو داود: وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة. قلتُ: ومدار الحديث على إياس. وقد وثَّقه ابن حبان , وقال العجلي: لابأس به. وصحَّح ابن خزيمة والحاكم حديثه هذا. وذكره ابن أبي حاتم ولَم يذكر فيه شيئاً , وقال ابن حجر في التقريب: صدوق. وقال الذهبي: ليس بالمعروف.

وأجاب الكرمانيّ (¬1): بأنّ الأمر حقيقته الوجوب , فيحمل عليه إلاَّ إذا دلَّ دليل على خلافه، ولولا الإجماع على عدم وجوب التّسبيح في الرّكوع والسّجود لحملناه على الوجوب. انتهى. وفي دعوى هذا الإجماع نظرٌ، فإنّ أحمد يقول بوجوبه , ويقول بوجوب التّشهّد الأوّل أيضاً، ورواية أبي الأحوص المتقدّمة وغيرها تقوّيه، وقد قدّمنا ما فيه قبل. وقد جاء عن ابن مسعود التّصريح بفرضيّة التّشهّد، وذلك فيما رواه الدّارقطنيّ وغيره بإسنادٍ صحيح من طريق علقمة عن ابن مسعود: كنّا لا ندري ما نقول قبل أن يفرض علينا التّشهّد. تكميل: زاد البخاري في أوله من رواية أبي نعيم عن الأعمش: كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام على جبريل ومكائيل السلام على فلان وفلان. فالتفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل. الحديث. ¬

_ (¬1) هو محمد بن يوسف , سبق ترجمته (1/ 18)

وللبخاري عن مسدد عن يحيى: كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. ولأبي داود عن مسدد - شيخ البخاري فيه - " إذا جلسنا " , ومثله للإسماعيلي من رواية محمد بن خلاد عن يحيى، وله من رواية علي بن مسهر، وإسحاق في " مسنده " عن عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش نحوه. قوله: (قلنا السلام على جبريل) وقع في هذه الرواية اختصار ثبت في رواية يحيى المذكورة وهو " قلنا السلام على الله من عباده " كذا وقع للبخاري فيها، وأخرجه أبو داود عن مسدد - شيخ البخاري فيه - فقال " قبل عباده ". وكذا للبخاري في " الاستئذان " من طريق حفص بن غياث عن الأعمش. وهو المشهور في أكثر الروايات. وبهذه الزيادة يتبين موقع قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنَّ الله هو السلام " ولفظه في رواية يحيى المذكورة " لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام ". قوله: (السلام على فلان وفلان) في رواية عبد الله بن نمير عن الأعمش عند ابن ماجه " يعنون الملائكة ". وللإسماعيلي من رواية علي بن مسهر " فنعدّ الملائكة ". ومثله للسراج من رواية محمد بن فضيل عن الأعمش بلفظ " فنعدُّ من الملائكة ما شاء الله ". قوله: (فالتفتُّ) ظاهره أنه كلَّمهم بذلك في أثناء الصلاة، ونحوه في رواية حصين عن أبي وائل - وهو شقيق - عند البخاري، في أواخر الصلاة بلفظ " فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قولوا " لكن بين

حفص بن غياث في روايته المذكورة المحلَّ الذي خاطبهم بذلك فيه , وأنه بعد الفراغ من الصلاة. ولفظه " فلمَّا انصرفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه " وفي رواية عيسى بن يونس أيضاً " فلما انصرف من الصلاة قال ". قوله: (إنَّ الله هو السلام) قال البيضاوي ما حاصله: أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر التسليم على الله , وبيَّن أنَّ ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإنَّ كلَّ سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها. وقال التوربشتي: وجه النهي عن السلام على الله لأنَّه المرجوع إليه بالمسائل المتعالي عن المعاني المذكورة. فكيف يدعى له وهو المدعو على الحالات؟. وقال الخطابي: المراد أنَّ الله هو ذو السلام فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدأ وإليه يعود، ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب. ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حظ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك. وقال النووي: معناه أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، يعني السالم من النقائص، ويقال: المسلم أولياءه , وقيل المسلم عليهم، قال ابن الأنباري: أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وغناه سبحانه وتعالى عنها. قوله: (فإنكم إذا فعلتم ذلك) في رواية لهما " فإنّكم إذا قلتموها " , أي: وعلى عباد الله الصّالحين , وهو كلام معترض بين قوله

الصّالحين , وبين قوله أشهد .. إلخ. وإنّما قُدّمت للاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عدّ الملائكة واحداً واحداً , ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك، فعلَّمهم لفظاً يشمل الجميع مع غير الملائكة من النّبيّين والمرسلين والصّدّيقين وغيرهم بغير مشقّة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم -. وإلى ذلك الإشارة بقول ابن مسعود: وأنّ محمّداً علم فواتح الخير وخواتمه. كما تقدّم , وقد ورد في بعض طرقه سياق التّشهّد متوالياً وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرّف الرّواة. قوله: (كلّ عبدٍ لله صالح) استدل به على أنّ الْجمعَ المضاف , والْجمعَ الْمُحلَّى بالألف واللام يعمّ، لقوله أوّلاً عباد الله الصّالحين , ثمّ قال: أصابت كلّ عبد صالح. وقال القرطبيّ: فيه دليل على أنّ جمع التّكسير للعموم، وفي هذه العبارة نظر. واستدل به على أنّ للعموم صيغة. قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب وتصرّفات ألفاظ الكتاب والسّنّة، قال: والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى، لا للاقتصار عليه. قوله: (في السّماء والأرض) وللبخاري عن مسدّد عن يحيى عن الأعمش " أو بين السّماء والأرض " , والشّكّ فيه من مسدّد، وإلاَّ فقد رواه غيره عن يحيى بلفظ " من أهل السّماء والأرض " وأخرجه

الإسماعيليّ وغيره. قوله: (فليتخيّر من المسألة ما شاء) وللبخاري " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء أعجبه إليه فيدعو " , زاد أبو داود عن مسدّد - شيخ البخاريّ فيه - " فيدعو به " , ونحوه النّسائيّ من وجه آخر بلفظ " فليدع به ". ولإسحاق عن عيسى عن الأعمش " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء ما أحبّ " , وفي رواية منصور عن أبي وائل عند البخاري " ثمّ ليتخيّر من الثّناء ما شاء " , ونحوه لمسلمٍ بلفظ " من المسألة " واستدل به على جواز الدّعاء في الصّلاة بما اختار المُصلِّي من أمر الدّنيا والآخرة. قال ابن بطّال: خالف في ذلك النّخعيّ وطاوسٌ وأبو حنيفة , فقالوا: لا يدعو في الصّلاة إلاَّ بما يوجد في القرآن. كذا أطلق هو ومن تبعه عن أبي حنيفة، والمعروف في كتب الحنفيّة , أنّه لا يدعو في الصّلاة إلاَّ بما جاء في القرآن أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم: ما كان مأثوراً. قال قائلهم: والمأثور أعمّ من أن يكون مرفوعاً أو غير مرفوع. لكنّ ظاهر حديث الباب يردّ عليهم، وكُلاًّ يردّ على قول ابن سيرين: لا يدعو في الصّلاة إلاَّ بأمر الآخرة. واستثنى بعض الشّافعيّة: ما يقبح في أمر الدّنيا، فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، وإلاَّ فلا شكّ أنّ الدّعاء بالأمور المحرّمة مطلقاً

لا يجوز. وقد ورد فيما يقال بعد التّشهّد أخبار من أحسنها. ما رواه سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمير بن سعد قال: كان عبد الله - يعني ابن مسعود - يعلمنا التّشهّد في الصّلاة ثمّ يقول: إذا فرغ أحدكم من التّشهّد , فليقل: اللهمّ إنّي أسألك من الخير كلّه ما علمت منه وما لَم أعلم، وأعوذ بك من الشّرّ كلّه ما علمت منه وما لَم أعلم. اللهمّ إنّي أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصّالحون، وأعوذ بك من شرّ ما استعاذك منه عبادك الصّالحون. ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً الآية. قال: ويقول: لَم يدع نبيّ ولا صالح بشيءٍ إلاَّ دخل في هذا الدّعاء. وهذا من المأثور غير مرفوع، وليس هو ممّا ورد في القرآن. وقد استدلَّ البيهقيّ بالحديث المتّفق عليه " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء أعجبه إليه فيدعو به " , وبحديث أبي هريرة رفعه: إذا فرغ أحدكم من التّشهّد فليتعوّذ بالله الحديث. وفي آخره: ثمّ يدعو لنفسه بما بدا له. هكذا أخرجه البيهقيّ. وأصل الحديث في مسلم، وهذه الزّيادة صحيحة , لأنّها من الطّريق التي أخرجها مسلم. قال ابن رشيد: ليس التّخيير في آحاد الشّيء بدالٍّ على عدم وجوبه، فقد يكون أصل الشّيء واجباً , ويقع التّخيير في وصفه. وقال الزين بن المنير: قوله " ثمّ ليتخيّر " وإن كان بصيغة الأمر

لكنّها كثيراً ما ترد للنّدب. وادّعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب. وفيه نظرٌ، فقد أخرج عبد الرّزّاق بإسنادٍ صحيح عن طاوسٍ ما يدلّ على أنّه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في حديث أبي هريرة المذكور في الباب (¬1) , وذلك أنّه سأل ابنه: هل قالها بعد التّشهّد؟ فقال: لا، فأمره أن يعيد الصّلاة. وبه قال بعض أهل الظّاهر. وأفرط ابن حزم فقال بوجوبها في التّشهّد الأوّل أيضاً. وقال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعود " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء " لقلت بوجوبها، وقد قال الشّافعيّ أيضاً بوجوب الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد التّشهّد. وادّعى أبو الطّيّب الطّبريّ من أتباعه والطّحاويّ وآخرون , أنّه لَم يُسبق إلى ذلك، واستدلّوا على ندبيّتها بحديث الباب مع دعوى الإجماع. وفيه نظرٌ , لأنّه ورد عن أبي جعفر الباقر والشّعبيّ وغيرهما ما يدلّ على القول بالوجوب. وأعجب من ذلك , أنّه صحّ عن ابن مسعود - راوي حديث الباب - ما يقتضيه، فعند سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح إلى أبي الأحوص قال: قال عبد الله: يتشهّد الرّجل في الصّلاة , ثمّ يُصلِّي على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ يدعو لنفسه بعد. ¬

_ (¬1) أي: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الآتي إن شاء الله بعد حديث.

وقد وافق الشّافعيَّ أحمدُ في إحدى الرّوايتين عنه. وبعضُ أصحاب مالك. وقال إسحاق بن راهويه أيضاً بالوجوب , لكن قال: إن تركها ناسياً رجوت أن يجزئه، فقيل: إنّ له في المسألة قولين كأحمد، وقيل: بل كان يراها واجبة لا شرطاً. ومنهم من قيّد تفرّد الشّافعيّ بكونه عيّنها بعد التّشهّد لا قبله ولا فيه , حتّى لو صلَّى على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أثناء التّشهّد مثلاً لَم يجزئ عنده. فائدةٌ: قال القفّال في فتاويه: ترك الصّلاة يضرّ بجميع المسلمين , لأنّ المُصلِّي يقول: اللهمّ اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بدّ أن يقول في التّشهّد " السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين " فيكون مقصّراً بخدمة الله وفي حقّ رسوله وفي حقّ نفسه وفي حقّ كافّة المسلمين، ولذلك عظمت المعصية بتركها. واستنبط منه السّبكيّ: أنّ في الصّلاة حقّاً للعباد مع حقّ الله، وأنّ من تركها أخلَّ بحقّ جميع المؤمنين من مضى , ومن يجيء إلى يوم القيامة لوجوب قوله فيها " السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين ".

الحديث السادس والسبعون

الحديث السادس والسبعون 125 - عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى , قال: لقِيَنِي كعب بن عُجْرة , فقال: ألا أهدي لك هديّةً؟ إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا , فقلنا: يا رسولَ الله , قد علِمْنا كيف نُسلّم عليك , فكيف نُصلِّي عليك؟ فقال: قولوا: اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ , كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيدٌ , وبارك على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ , كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيدٌ. (¬1) قوله: (عبد الرّحمن بن أبي ليلى) تابعيّ كبير , وهو والد ابن أبي ليلى فقيه الكوفة محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى ينسب إلى جدّه. (¬2) قوله: (لقِيَنِي كعب بن عُجْرة) في رواية فطر بن خليفة عن ابن أبي ليلى: لقيني كعب بن عُجْرة الأنصاريّ. أخرجه الطّبرانيّ. ونقل ابن سعد عن الواقديّ , أنّه أنصاريّ من أنفسهم، وتعقّبه , فقال: لَم أجده في نسب الأنصار، والمشهور أنّه بلويّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3190) من طريق عبد الله بن عيسى , والبخاري أيضاً (5996) ومسلم (406) من طريق الحكم كلاهما عن ابن أبي ليلى به. (¬2) قال ابن الأثير في " جامع الأصول " (12/ 381): اسم ابن أبي ليلى: عبد الرحمن، وهو تابعيّ مشهور. وقد يقال: ابن أبي ليلى لولدِه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو قاضي الكوفة إمام مشهور في الفقه، صاحب مذهب وقول. وإذا أطلق المحدِّثون ابن أبي ليلى فإنَّما يعنون أباه، وإذا أطلق الفقهاء ابن أبي ليلى فإنَّما يعنون محمداً. ووُلد محمد هذا سنة 74. ومات سنة 148، وتفقَّه بالشعبي، والحكم بن عُتَيْبة. انتهى

والجمع بين القولين: أنّه بلويّ حالف الأنصار. (¬1) وعيّن المحاربيّ عن مالك بن مِغْوَل عن الحكم المكانَ الذي التقيا به، فأخرجه الطّبريّ من طريقه بلفظ " أنّ كعباً قال له وهو يطوف بالبيت ". قوله: (ألا أُهدي لك هديّة) زاد عبد الله بن عيسى بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن جدّه كما في البخاري " سمعتها من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا) يجوز في " أنّ " الفتح والكسر. وقال الفاكهانيّ في " شرح العمدة ": في هذا السّياق إضمار تقديره , فقال عبد الرّحمن: نعم. فقال كعب: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وقع ذلك صريحاً في رواية شبّابة وعفّان عن شعبة بلفظ " قلت: بلى. قال. أخرجه الْخِلَعيّ (¬2) في " فوائده " وفي رواية عبد الله بن عيسى المذكورة , ولفظه " فقلت: بلى فاهدها لي، فقال. قوله: (فقلنا: يا رسولَ الله) كذا في معظم الرّوايات عن كعب بن ¬

_ (¬1) قال في الإصابة (5/ 448): أطلق أنَّه أنصاري البخاريُّ، وقال: مدني له صحبة. يكنى أبا محمد. ذكره ابن سعد بإسناده، وقيل: كنيته أبو إسحاق بابنه إسحاق. وقيل: أبو عبد اللَّه. وأخرج ابن سعد بسندٍ جيدٍ عن ثابت بن عبيد , أنَّ يدَ كعب قُطعت في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة. قيل: مات بالمدينة سنة إحدى , وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث وخمسين. وله خمس، وقيل: سبع وسبعون سنة. انتهى بتجوز. (¬2) هو أبو الحسن علي بن الحسين الموصلي المتوفى. ولد بمصر سنة 405. وتوفي بها سنة 492. قال ابن خلكان في " وفيات الأعيان " (3/ 318): والخلعي: بكسر الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى الخلع , ونسب إليها أبو الحسن المذكور , لأنَّه كان يبيع بمصر الْخِلَع لأملاك مصر، فاشتهر بذلك وعرف به. انتهى

عُجْرة " قلنا " بصيغة الجمع، وكذا وقع في حديث أبي سعيد عند البخاري، ومثله في حديث أبي بريدة عند أحمد , وفي حديث طلحة عند النّسائيّ , وفي حديث أبي هريرة عند الطّبريّ. ووقع عند أبي داود - بسند حديث الباب - عن حفص بن عمر عن شعبة عن الحكم " قلنا أو قالوا: يا رسولَ الله " بالشّكّ. والمراد الصّحابة أو من حضر منهم، ووقع عند السّرّاج والطّبرانيّ من رواية قيس بن سعد عن الحكم به , أنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قالوا. وقال الفاكهانيّ: الظّاهر أنّ السّؤال صدر من بعضهم لا من جميعهم , ففيه التّعبير عن البعض بالكل. ثمّ قال: ويبعد جدّاً أن يكون كعب هو الذي باشر السّؤال منفرداً فأتى بالنّون التي للتّعظيم، بل لا يجوز ذلك , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أجاب بقوله " قولوا " , فلو كان السّائل واحداً لقال له: قل , ولَم يقل: قولوا. انتهى ولَم يظهر لي وجه نفي الجواز , وما المانع أن يسأل الصّحابيّ الواحد عن الحكم فيجيب - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الجمع إشارة إلى اشتراك الكلّ في الحكم.؟ ويؤكّده أنّ في نفس السّؤال " قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نُصلِّي " كلّها بصيغة الجمع فدلَّ على أنّه سأل لنفسه ولغيره فحسن الجواب بصيغة الجمع. لكن الإتيان بنون العظمة في خطاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -

لا يظنّ بالصّحابيّ. فإن ثبت أنّ السّائل كان متعدّداً فواضح، وإن ثبت أنّه كان واحداً , فالحكمة في الإتيان بصيغة الجمع الإشارة إلى أنّ السّؤال لا يختصّ به , بل يريد نفسه ومن يوافقه على ذلك، فحمله على ظاهره من الجمع هو المعتمد. على أنّ الذي نفاه الفاكهانيّ قد ورد في بعض الطّرق. فعند الطّبريّ من طريق الأجلح عن الحكم بلفظ " قمت إليه فقلت: السّلام عليك قد عرفناه، فكيف الصّلاة عليك يا رسولَ الله؟ قال: قل اللهمّ صلِّ على محمّد. الحديث. وقد وقفت من تعيين من باشر السّؤال على جماعة وهم: كعب بن عُجْرة وبشير بن سعد - والد النّعمان - وزيد بن خارجة الأنصاريّ وطلحة بن عبيد الله وأبو هريرة وعبد الرّحمن بن بشير. أمّا كعب: فوقع عند الطّبرانيّ من رواية محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن الحكم بهذا السّند بلفظ: قلت: يا رسولَ الله قد علمنا. وأمّا بشير: ففي حديث أبي مسعود عند مالك ومسلم وغيرهما , أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نُصلِّي عليك. الحديث وأمّا زيد بن خارجة: فأخرج النّسائيّ من حديثه قال: أنا سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صلّوا عليّ واجتهدوا في الدّعاء , وقولوا: اللهمّ صلِّ على محمّد " الحديث. وأخرج الطّبريّ من حديث طلحة قال:

قلت: يا رسولَ الله كيف الصّلاة عليك؟ ومخرج حديثهما واحد. وأمّا حديث أبي هريرة: فأخرج الشّافعيّ من حديثه أنّه قال: يا رسولَ الله كيف نُصلِّي عليك؟. وأمّا حديث عبد الرّحمن بن بشير: فأخرجه إسماعيل القاضي في كتاب " فضل الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " قال: قلت , أو قيل للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. هكذا عنده على الشّكّ، وأبهم أبو عوانة في " صحيحه " من رواية الأجلح وحمزة الزّيّات عن الحكم السّائلَ. ولفظه " جاء رجلٌ فقال: يا رسولَ الله قد علِمنا. ووقع لهذا السّؤال سبب. أخرجه البيهقيّ والخلعيّ من طريق الحسن بن محمّد بن الصّباح الزّعفرانيّ حدّثنا إسماعيل بن زكريّا عن الأعمش ومسعر ومالك بن مِغْوَل عن الحكم عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عُجْرة , قال: لَمّا نزلت (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ) الآية. قلنا: يا رسولَ الله، قد علِمنا. الحديث. وقد أخرج مسلم هذا الحديث عن محمّد بن بكّار عن إسماعيل بن زكريّا , ولَم يسق لفظه , بل أحال به على ما قبله فهو على شرطه، وأخرجه السّرّاج من طريق مالك بن مِغْوَل وحده كذلك. وأخرج أحمد والبيهقيّ وإسماعيل القاضي من طريق يزيد بن أبي زياد , والطّبرانيّ من طريق محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى , والطّبريّ من طريق الأجلح , والسّرّاج من طريق سفيان وزائدة فرّقهما، وأبو عوانة في " صحيحه " من طريق الأجلح وحمزة الزّيّات كلّهم عن

الحكم مثله، وأخرج أبو عوانة أيضاً من طريق مجاهد عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى مثله. وفي حديث طلحة عند الطّبريّ: أتى رجلٌ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: سمعت الله يقول (إنّ الله وملائكته) الآية. فكيف الصّلاة عليك؟. قوله: (قد عَلِمنا) المشهور في الرّواية بفتح أوّله وكسر اللام مخفّفاً، وجوّز بعضهم ضمّ أوّله والتّشديد على البناء للمجهول. ووقع في رواية ابن عيينة عن يزيد بن أبي زياد وبالشّكّ. ولفظه " قلنا قد علمناه أو علمنا " روّيناه في " الخليعات " وكذا أخرج السّرّاج من طريق مالك بن مِغْوَل عن الحكم بلفظ " علمنا أو علمناه ". ووقع في رواية حفص بن عمر المذكورة " أمرتنا أن نُصلِّي عليك، وأن نسلم عليك، فأمّا السّلام فقد عرفناه " , وفي ضبط " عرفناه " ما تقدّم في " علمناه " وأراد بقوله " أمرتنا " أي: بلغتنا عن الله تعالى أنّه أمر بذلك. ووقع في حديث أبي مسعود " أمرنا الله " , وفي رواية عبد الله بن عيسى عند البخاري " كيف الصّلاة عليكم أهل البيت , فإنّ الله قد علمنا كيف نسلِّم " أي: علمنا الله كيفيّة السّلام عليك على لسانك وبواسطة بيانك. وأمّا إتيانه بصيغة الجمع في قوله " عليكم " فقد بيّن مراده بقوله، أهل البيت، لأنّه لو اقتصر عليها لاحتمل أن يريد بها التّعظيم، وبها تحصل مطابقة الجواب للسّؤال حيث قال " على محمّد وعلى آل

محمّد ". وبهذا يستغنى عن قول مَن قال: في الجواب زيادة على السّؤال , لأنّ السّؤال وقع عن كيفيّة الصّلاة عليه , فوقع الجواب عن ذلك بزيادة كيفيّة الصّلاة على آله. قوله: (كيف نسلم عليك؟) قال البيهقيّ: فيه إشارة إلى السّلام الذي في التّشهّد وهو قول " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته " فيكون المراد بقولهم " فكيف نُصلِّي عليك " أي: بعد التّشهّد. انتهى. وتفسير السّلام بذلك هو الظّاهر. وحكى ابن عبد البرّ فيه احتمالاً، وهو أنّ المراد به السّلام الذي يتحلَّل به من الصّلاة , وقال: إنّ الأوّل أظهر، وكذا ذكر عياض وغيره. وردّ بعضهم الاحتمال المذكور: بأنّ سلام التّحلّل لا يتقيّد به اتّفاقاً. كذا قيل، وفي نقل الاتّفاق نظرٌ، فقد جزم جماعة من المالكيّة بأنّه يستحبّ للمصلي أن يقول عند سلام التّحلّل، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته السّلام عليكم، ذكره عياض , وقبله ابن أبي زيد وغيره. قوله: (فكيف نُصلِّي عليك؟) زاد أبو مسعود في حديثه عند مسلم، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى تمنّينا أنّه لَم يسأله. وإنّما تمنّوا ذلك

خشية أن يكون لَم يعجبه السّؤال المذكور لِمَا تقرّر عندهم من النّهي عن ذلك، لقوله تعالى (لا تسألوا عن أشياء)، ووقع عند الطّبريّ من وجه آخر في هذا الحديث، فسكتَ حتّى جاءه الوحي فقال: تقولون. واختلف في المراد بقولهم " كيف ". فقيل: المراد السّؤال عن معنى الصّلاة المأمور بها بأيّ لفظ يؤدّى. وقيل: عن صفتها، قال عياض: لَمّا كان لفظ الصّلاة المأمور بها في قوله تعالى (صلّوا عليه) يحتمل الرّحمة والدّعاء والتّعظيم , سألوا بأيّ لفظ تؤدّى؟ هكذا قال بعض المشايخ. ورجّح الباجيّ أنّ السّؤال إنّما وقع عن صفتها لا عن جنسها، وهو أظهر لأنّ لفظ " كيف " ظاهر في الصّفة، وأمّا الجنس فيسأل عنه بلفظ " ما ". وبه جزم القرطبيّ فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفيّة ما فهم أصله، وذلك أنّهم عرفوا المراد بالصّلاة فسألوا عن الصّفة التي تليق بها ليستعملوها. انتهى والحامل لهم على ذلك , أنّ السّلام لَمّا تقدّم بلفظٍ مخصوص وهو " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته " , فهموا منه أنّ الصّلاة أيضاً تقع بلفظٍ مخصوص، وعدلوا عن القياس لإمكان الوقوف على النّصّ , ولا سيّما في ألفاظ الأذكار فإنّها تجيء خارجة عن القياس غالباً، فوقع الأمر كما فهموا , فإنّه لَم يقل لهم قولوا: الصّلاة عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته , ولا قولوا: الصّلاة والسّلام عليك

إلخ. بل علمهم صيغة أخرى. قوله: (قال: قولوا اللهمّ) هذه كلمة كثر استعمالها في الدّعاء , وهو بمعنى يا الله، والميم عوض عن حرف النّداء , فلا يقال: اللهمّ غفور رحيم مثلاً , وإنّما يقال: اللهمّ اغفر لي وارحمني، ولا يدخلها حرف النّداء إلاَّ في نادر كقول الرّاجز: إنّي إذا ما حادث ألَمَّا ... أقول يا اللهمّ يا اللهمّا. واختصّ هذا الاسم بقطع الهمزة عند النّداء , ووجوب تفخيم لامه , وبدخول حرف النّداء عليه مع التّعريف. وذهب الفرّاء ومن تبعه من الكوفيّين , إلى أنّ أصله يا الله وحذف حرف النّداء تخفيفاً والميم مأخوذ من جملة محذوفة مثل أمّنا بخيرٍ. وقيل: بل زائدة كما في زرقم للشّديد الزّرقة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيماً. وقيل: بل هو كالواو الدّالة على الجمع كأنّ الدّاعي قال: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى، ولذلك شدّدت الميم لتكون عوضاً عن علامة الجمع. وقد جاء عن الحسن البصريّ: اللهمّ مجتمع الدّعاء، وعن النّضر بن شميلٍ: مَن قال اللهمّ , فقد سأل الله بجميع أسمائه. قوله: (صلِّ على محمّد) أخرج ابن أبي حاتم , وذكره البخاري مُعلقاً من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية: أنّ معنى صلاة الله على نبيّه ثناؤه عليه عند ملائكته، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدّعاء

له. وعند ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبّان قال: صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار. وعن ابن عبّاس , أنّ معنى صلاة الرّبّ الرّحمة وصلاة الملائكة الاستغفار. وقال الضّحّاك بن مزاحم: صلاة الله رحمته " وفي رواية عنه " مغفرته، وصلاة الملائكة الدّعاء " أخرجهما إسماعيل القاضي عنه، وكأنّه يريد الدّعاء بالمغفرة ونحوها. وقال المبرّد: الصّلاة من الله الرّحمة. ومن الملائكة رقّة تبعث على استدعاء الرّحمة. وتعقّب: بأنّ الله غاير بين الصّلاة والرّحمة في قوله (أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة) , وكذلك فهِم الصّحابة المغايرة من قوله تعالى (صلّوا عليه وسلموا) حتّى سألوا عن كيفيّة الصّلاة مع تقدّم ذكر الرّحمة في تعليم السّلام حيث جاء بلفظ " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته " وأقرّهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت الصّلاة بمعنى الرّحمة لقال لهم: قد علِمتم ذلك في السّلام. وجوّز الحليميّ: أن تكون الصّلاة بمعنى السّلام عليه. وفيه نظرٌ , وحديث الباب يردّ على ذلك. وأولى الأقوال ما تقدّم عن أبي العالية , أنّ معنى صلاة الله على نبيّه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى , والمراد طلب الزّيادة لا طلب أصل الصّلاة.

وقيل: صلاة الله على خلقه تكون خاصّة وتكون عامّة , فصلاته على أنبيائه هي ما تقدّم من الثّناء والتّعظيم، وصلاته على غيرهم الرّحمة فهي التي وسعت كلّ شيء. ونقل عياض عن بكر القشيريّ. قال: الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الله تشريف وزيادة تكرمة , وعلى من دون النّبيّ رحمة. وبهذا التّقرير يظهر الفرق بين النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ) وقال قبل ذلك في السّورة المذكورة (هو الذي يُصلِّي عليكم وملائكته) , ومن المعلوم أنّ القدر الذي يليق بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أرفع ممّا يليق بغيره. والإجماع منعقد على أنّ في هذه الآية من تعظيم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , والتّنويه به ما ليس في غيرها. وقال الحليميّ في " الشّعب ": معنى الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهمّ صلِّ على محمّد عظّم محمّداً. والمراد تعظيمه في الدّنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمّته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى (صلّوا عليه) ادعوا ربّكم بالصّلاة عليه. انتهى. ولا يعكّر عليه عطف آله وأزواجه وذرّيّته عليه فإنّه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتّعظيم، إذ تعظيم كلّ أحد بحسب ما يليق به. وما تقدّم عن أبي العالية أظهر، فإنّه يحصل به استعمال لفظ الصّلاة بالنّسبة إلى الله وإلى ملائكته وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنىً

واحد. ويؤيّده أنّه لا خلاف في جواز التّرحّم على غير الأنبياء، واختلف في جواز الصّلاة على غير الأنبياء، (¬1) ولو كان معنى قولنا: اللهمّ صلِّ على محمّد اللهمّ ارحم محمّداً أو ترحّم على محمّد لجاز لغير الأنبياء، وكذا لو كانت بمعنى البركة وكذا الرّحمة لسقط الوجوب في التّشهّد عند من يوجبه بقول المُصلِّي في التّشهّد " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته ". ويمكن الانفصال: بأنّ ذلك وقع بطريق التّعبّد. فلا بدّ من الإتيان به ولو سبق الإتيان بما يدلّ عليه. قوله: (على محمّد وعلى آل محمّد) كذا وقع في الموضعين في قوله " صلِّ " وفي قوله " وبارك "، ولكن وقع في الثّاني " وبارك على آل إبراهيم ". ووقع عند البيهقيّ من وجه آخر عن آدم - شيخ البخاريّ فيه - " على إبراهيم " ولَم يقل على آل إبراهيم. وأخذ البيضاويّ من هذا , أنّ ذكر الآل في رواية الأصل مقحمٌ كقوله: على آل أبي أوفى. (¬2) ¬

_ (¬1) أفاض الشارح رحمه الله. في ذكر الخلاف في هذه المسألة بأدلّتها في فتح الباري (11/ 202) كتاب الدعوات. باب 33: هل يُصلّى على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. فانظره. (¬2) أخرجه البخاري (1497) ومسلم (1078) عن عبد الله بن أبى أوفى , قال: كان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم , قال: اللهم صلِّ على آل فلان. فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهمَّ صل على آل أبى أوفى. قال ابن حجر في " الفتح " (3/ 361): قوله (على آل أبي أوفى) يريد أبا أوفى نفسَه , لأنَّ الآل يطلق على ذات الشيء كقوله في قصة أبي موسى: لقد أُوتي مزماراً من مزامير آل داود , وقيل: لا يقال ذلك إلاَّ في حق الرجل الجليل القدر. انتهى

قلت: والحقّ أنّ ذكر محمّد وإبراهيم وذكر آل محمّد وآل إبراهيم ثابتٌ في أصل الخبر. وإنّما حفظ بعض الرّواة ما لَم يحفظ الآخر، وسأبيّن من ساقه تامّاً بعد قليل. وشرح الطّيبيّ على ما وقع في رواية البخاريّ هنا. فقال: هذا اللفظ يساعد قول مَن قال: إنّ معنى قول الصّحابيّ: علمنا كيف السّلام عليك. أي: في قوله تعالى (يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلَّموا تسليماً) فكيف نُصلِّي عليك؟ أي: على أهل بيتك؛ لأنّ الصّلاة عليه قد عرفت مع السّلام من الآية. قال: فكان السّؤال عن الصّلاة على الآل تشريفاً لهم. وقد ذكر محمّد في الجواب لقوله تعالى (لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله). وفائدته الدّلالة على الاختصاص. قال: وإنّما ترك ذكر إبراهيم لينبّه على هذه النّكتة، ولو ذكر لَم يفهم أنّ ذكر محمّد على سبيل التّمهيد. انتهى. ولا يخفى ضعف ما قال. ووقع في حديث أبي مسعود عند أبي داود والنّسائيّ " على محمّد النّبيّ الأمّيّ " وفي حديث أبي سعيد عند البخاري " على محمّد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم " , ولَم يذكر آل محمّد ولا آل

إبراهيم، وهذا إن لَم يحمل على ما قلتُه إنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ الآخر , والأظهر فساد ما بحثه الطّيبيّ. وفي حديث أبي حميد في البخاري " على محمّد وأزواجه وذرّيّته " , ولَم يذكر الآل في الصّحيح، ووقعت في رواية ابن ماجه. وعند أبي داود من حديث أبي هريرة " اللهمّ صلِّ على محمّد النّبيّ وأزواجه أمّهات المؤمنين وذرّيّته وأهل بيته " وأخرجه النّسائيّ من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود. ولكن وقع في السّند اختلاف بين موسى بن إسماعيل - شيخ أبي داود فيه - وبين عمرو بن عاصم شيخ شيخ النّسائيّ فيه. فروياه معاً عن حِبّان بن يسار - وهو بكسر المهملة وتشديد الموحّدة - وأبوه بمثنّاةٍ ومهملة خفيفة - فوقع في رواية موسى عنه عن عبيد الله بن طلحة عن محمّد بن عليّ عن نعيم المجمر عن أبي هريرة، وفي رواية عمرو بن عاصم عنه عن عبد الرّحمن بن طلحة عن محمّد بن عليّ عن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه عليّ بن أبي طالب. ورواية موسى أرجح. ويحتمل: أن يكون لِحِبّان فيه سندان. ووقع في حديث أبي مسعود وحده في آخره " في العالمين إنّك حميد مجيد " , ومثله في رواية داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة. عند السّرّاج. قال النّوويّ في " شرح المهذّب ": ينبغي أن يُجمع ما في الأحاديث الصّحيحة , فيقول: اللهمّ صلِّ على محمّد النّبيّ الأمّيّ , وعلى آل

محمّد وأزواجه وذرّيّته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك " مثله وزاد في آخره " في العالمين ". وقال في " الأذكار " مثله وزاد: عبدك ورسولك. بعد قوله محمّد في محلٍّ. ولَم يزدها في بارك. وقال في " التّحقيق " و " الفتاوى ": مثله إلاَّ أنّه أسقط النّبيّ الأمّيّ في وبارك. وفاته أشياء لعلها توازي قدر ما زاده أو تزيد عليه. منها قوله " أمّهات المؤمنين " بعد قوله أزواجه , ومنها " وأهل بيته " بعد قوله وذرّيّته، وقد وردت في حديث ابن مسعود عند الدّارقطنيّ، ومنها " ورسولك " في وبارك، ومنها " في العالمين " في الأوّل، ومنها " إنّك حميد مجيد " قبل وبارك، ومنها " اللهمّ " قبل وبارك. فإنّهما ثبتا معاً في رواية للنّسائيّ، ومنها " وترحّم على محمّد إلخ " وسيأتي البحث فيها بعدُ. ومنها في آخر التّشهّد " وعلينا معهم " , وهي عند التّرمذيّ من طريق أبي أسامة عن زائدة بن قدامة عن الأعمش عن الحكم نحو حديث الباب، قال في آخره: قال عبد الرّحمن: ونحن نقول: وعلينا معهم "، وكذا أخرجها السّرّاج من طريق زائدة. وتعقّب ابن العربيّ هذه الزّيادةَ , قال: هذا شيء انفرد به زائدة فلا يعوّل عليه، فإنّ النّاس اختلفوا في معنى الآل اختلافاً كثيراً , ومن جملته أنّهم أمّته فلا يبقى للتّكرار فائدة، واختلفوا أيضاً في جواز

الصّلاة على غير الأنبياء فلا نرى أن نشرك في هذه الخصوصيّة مع محمّد وآله أحداً. وتعقّبه شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": بأنّ زائدةَ مِن الأثبات فانفراده لو انفرد لا يضرّ مع كونه لَم ينفرد، فقد أخرجها إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصّلاة من طريقين عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى , ويزيد استشهد به مسلم. وعند البيهقيّ في " الشّعب " من حديث جابر نحو حديث الباب وفي آخره " وعلينا معهم ". وأمّا الإيراد الأوّل: فإنّه يختصّ بمن يرى أنّ معنى الآل كلّ الأمّة، ومع ذلك فلا يمتنع أن يعطف الخاصّ على العامّ. ولا سيّما في الدّعاء. وأمّا الإيراد الثّاني: فلا نعلم من منع ذلك تبعاً، وإنّما الخلاف في الصّلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وقد شرع الدّعاء للآحاد بما دعاه به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في حديث " اللهمّ إنّي أسألك من خير ما سألك منه محمّد " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1). انتهى ملخّصاً. ¬

_ (¬1) لَم يُخرِّجه مسلم في صحيحه , وإنما أخرجه الإمام أحمد (6/ 134) وابن ماجه (3846) وابن حبان (3846) والحاكم (1/ 521) من طريق جبر بن حبيب عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمها هذا الدعاء: اللهمَّ إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمتُ منه وما لَم أعلم , اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - , وأعوذ .. " الحديث. وصحَّحه الحاكم. وله شاهد نحوه من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أخرجه الترمذي (3521) وقال: حديث حسن غريب. وفي صحيح مسلم (2716) عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: سألتُ عائشة عمَّا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به الله. قالت: كان يقول: اللهمَّ إني أعوذ بك من شرّ ما عملت ومن شرّ ما لَم أعمل. لعلَّ هذا هو مراد الحافظ أبي الفضل العراقي شيخ ابن حجر رحمهما الله.

وحديث جابر ضعيف. ورواية يزيد أخرجها أحمد أيضاً عن محمّد بن فضيلٍ عنه وزاد في آخره: قال يزيد: فلا أدري. أشيء زاده عبد الرّحمن من قبل نفسه , أو رواه عن كعب، وكذا أخرجه الطّبريّ من رواية محمّد بن فضيلٍ. ووردت هذه الزّيادة من وجهين آخرين مرفوعين: أحدهما: عند الطّبرانيّ من طريق فطر بن خليفة عن الحكم بلفظ: يقولون اللهمّ صلِّ على محمّد إلى قوله. وآل إبراهيم وصل علينا معهم، وبارك على محمّد مثله، وفي آخره وبارك علينا معهم " ورواته موثّقون , لكنّه فيما أحسب مدرجٌ لِمَا بيّنه زائدة عن الأعمش. ثانيهما: عند الدّارقطنيّ من وجه آخر عن ابن مسعود مثله , لكن قال: اللهمّ بدل الواو في وصل وفي وبارك، وفيه عبد الوهّاب بن مجاهد. وهو ضعيف وقد تعقّب الإسنويّ ما قاله النّوويّ. فقال: لَم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعيّ: لَم يُسبق إلى ما قال. والذي يظهر أنّ الأفضل لمن تشهّد أن يأتي بأكمل الرّوايات ويقول كلّ ما ثبت هذا مرّة وهذا مرّة، وأمّا التّلفيق فإنّه يستلزم إحداث صفةٍ في التّشهّد لَم ترد مجموعة في

حديث واحد. انتهى. وكأنّه أخذه من كلام ابن القيّم فإنّه قال: إنّ هذه الكيفيّة لَم ترد مجموعة في طريق من الطّرق، والأولى أن يستعمل كلّ لفظ ثبت على حدة فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد , بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة , فإنّ الغالب على الظّنّ أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يقله كذلك. وقال الإسنويّ أيضاً: كان يلزم الشّيخ أن يجمع الألفاظ الواردة في التّشهّد. وأجيب: بأنّه لا يلزم من كونه لَم يصرّح بذلك أن لا يلتزمه. وقال ابن القيّم أيضاً: قد نصّ الشّافعيّ على أنّ الاختلاف في ألفاظ التّشهّد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولَم يقل أحد من الأئمّة باستحباب التّلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن , وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التّعليم للتّمرين. انتهى. والذي يظهر أنّ اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في أزواجه وأمّهات المؤمنين , فالأولى الاقتصار في كلّ مرّة على أحدهما وإن كان اللفظ يستقلّ بزيادة معنىً ليس في اللفظ الآخر البتّة، فالأولى الإتيان به. ويحتمل: على أنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ الآخر كما تقدّم، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئاً ما فلا بأس بالإتيان به احتياطاً.

وقالت طائفة منهم الطّبريّ: إنّ ذلك من الاختلاف المباح، فأيّ لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه. واستدل على ذلك باختلاف النّقل عن الصّحابة. فذكر ما نقل عن عليّ، وهو حديث موقوف طويل. أخرجه سعيد بن منصور والطّبريّ والطّبرانيّ وابن فارس. وأوّله " اللهمّ داحي المدحوّات. إلى أن قال: اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحيّتك على محمّد عبدك ورسولك " الحديث. وعن ابن مسعود بلفظ " اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيّد المرسلين إمام المتّقين وخاتم النّبيّين محمّد عبدك ورسولك " الحديث أخرجه ابن ماجه والطّبريّ. وادّعى ابن القيّم: أنّ أكثر الأحاديث بل كلّها مصرّحة بذكر محمّد وآل محمّد وبذكر آل إبراهيم فقط. أو بذكر إبراهيم فقط. قال: ولَم يجيء في حديث صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معاً , إنّما أخرجه البيهقيّ من طريق يحيى بن السّبّاق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود، ويحيى مجهول وشيخه مبهم فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قويّ , لكنّه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النّسائيّ والدّارقطنيّ من حديث طلحة. قلت: وغفل عمّا وقع في صحيح البخاريّ في " أحاديث الأنبياء " في ترجمة إبراهيم عليه السّلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى بلفظ " كما صليت على

إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد " وكذا في قوله " كما باركت ". وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدريّ من رواية محمّد بن إسحاق عن محمّد بن إبراهيم عن محمّد بن عبد الله بن زيد عنه. أخرجه الطّبريّ، بل أخرجه الطّبريّ أيضاً في رواية الحكم عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى. أخرجه من طريق عمرو بن قيس عن الحكم بن عتيبة فذكره بلفظ " على محمّد وآل محمّد إنّك حميد مجيد " وبلفظ " على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد " وأخرجه أيضاً من طريق الأجلح عن الحكم مثله سواء. وأخرج أيضاً من طريق حنظلة ابن عليّ عن أبي هريرة ما سأذكره. وأخرجه أبو العبّاس السّرّاج من طريق داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة , أنّهم قالوا: يا رسولَ الله كيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد , وبارك على محمّد , وعلى آل محمّد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. ومن حديث بريدة رفعه " اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " وأصله عند أحمد. ووقع في حديث ابن مسعود المشار إليه زيادة أخرى وهي " وارحم محمّداً وآل محمّد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم " الحديث

، وأخرجه الحاكم في " صحيحه " من حديث ابن مسعود , فاغترّ بتصحيحه قوم فوهموا، فإنّه من رواية يحيى بن السّبّاق - وهو مجهول - عن رجل مبهم. نعم. أخرج ابن ماجه ذلك عن ابن مسعود من قوله " قال قولوا: اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد عبدك ورسولك " الحديث. وبالغ ابن العربيّ في إنكار ذلك فقال: حذار ممّا ذكره ابن أبي زيد من زيادة " وترحّم " فإنّه قريب من البدعة , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - علمهم كيفيّة الصّلاة عليه بالوحي. ففي الزّيادة على ذلك استدراك عليه. انتهى. وابن أبي زيد ذكر ذلك في صفة التّشهّد في " الرّسالة " لَمّا ذكر ما يستحبّ في التّشهّد ومنه " اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد " فزاد " وترحّم على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وآل محمّد إلخ ". فإن كان إنكاره لكونه لَم يصحّ فمسلَّمٌ، وإلا فدعوى من ادّعى أنّه لا يقال ارحم محمّداً مردودة لثبوت ذلك في عدّة أحاديث أصحّها في التّشهّد " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته ". ثمّ وجدت لابن أبي زيد مستنداً، فأخرج الطّبريّ في تهذيبه من طريق حنظلة بن عليّ عن أبي هريرة رفعه: مَن قال اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحّم على محمّد وعلى آل محمّد كما ترحّمت على إبراهيم وعلى آل

إبراهيم , شهدت له يوم القيامة وشفعت له. ورجال سنده رجال الصّحيح إلاَّ سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص الرّاوي له عن حنظلة بن عليّ فإنّه مجهول. تنبيه: هذا كلّه فيما يقال مضموماً إلى السّلام أو الصّلاة. وقد وافق ابن العربيُّ الصّيدلانيَّ من الشّافعيّة على المنع، وقال أبو القاسم الأنصاريّ شارح " الإرشاد ": يجوز ذلك مضافاً إلى الصّلاة , ولا يجوز مفرداً. ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقاً. وقال القرطبيّ في " المفهم ": إنّه الصّحيح لورود الأحاديث به. وخالفه غيره: ففي " الذّخيرة " من كتب الحنفيّة عن محمّد: يكره ذلك لإيهامه النّقص , لأنّ الرّحمة غالباً إنّما تكون عن فعل ما يلام عليه. وجزم ابن عبد البرّ بمنعه , فقال: لا يجوز لأحدٍ إذا ذكر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: رحمه الله , لأنّه قال من صلَّى عليّ، ولَم يقل من ترحّم عليّ , ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصّلاة الرّحمة، ولكنّه خصّ هذا اللفظ تعظيماً له فلا يعدل عنه إلى غيره، ويؤيّده قوله تعالى (لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) انتهى. وهو بحث حسن , لكن في التّعليل الأوّل نظرٌ، والمعتمد الثّاني، والله أعلم. قوله: (وعلى آل محمّد) قيل: أصل " آل " أهل , قلبت الهاء همزة

ثمّ سهّلت ولهذا إذا صغّر ردّ إلى الأصل فقالوا: أهيل. وقيل: بل أصله أول من آل إذا رجع، سُمِّي بذلك من يئول إلى الشّخص ويضاف إليه، ويقوّيه أنّه لا يضاف إلاَّ إلى معظّم , فيقال: آل القاضي , ولا يقال: آل الحجّام بخلاف أهل، ولا يضاف آل أيضاً غالباً إلى غير العاقل ولا إلى المضمر عند الأكثر، وجوّزه بعضهم بقلةٍ، وقد ثبت في شعر عبد المطّلب في قوله في قصّة أصحاب الفيل من أبيات: وانصر على آل الصّليب وعابديه اليوم آلك. وقد يطلق آل فلان على نفسه وعليه وعلى من يضاف إليه جميعاً. وضابطه أنّه إذا قيل: فعل آل فلان كذا , دخل هو فيهم إلاَّ بقرينةٍ، ومن شواهده قوله - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن عليّ: إنّا آل محمّد لا تحلّ لنا الصّدقة (¬1). وإن ذكرا معاً فلا، وهو كالفقير والمسكين، وكذا الإيمان والإسلام والفسوق والعصيان. ولَمّا اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معاً وفي إفراد أحدهما , كان أولى المحامل أن يحمل على أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك كلّه، ويكون بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ الآخر. وأمّا التّعدّد فبعيد , لأنّ غالب الطّرق تصرّح بأنّه وقع جواباً عن قولهم " كيف نُصلِّي عليك " , ويحتمل: أن يكون بعض من اقتصر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1485) ومسلم (1069) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم.

على آل إبراهيم بدون ذكر إبراهيم , رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله " آل إبراهيم " كما تقدّم. واختلف في المراد بآل محمّد في هذا الحديث. القول الأول: الرّاجح أنّهم من حرّمت عليهم الصّدقة، وهذا نصّ عليه الشّافعيّ واختاره الجمهور. ويؤيّده. قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن عليّ: إنّا آل محمّد لا تحلّ لنا الصّدقة " وقد تقدّم من حديث أبي هريرة، ولمسلمٍ من حديث عبد المطّلب بن ربيعة في أثناء حديث مرفوع " إنّ هذه الصّدقة إنّما هي أوساخ النّاس , وإنّها لا تحلّ لمحمّدٍ , ولا لآلِ محمّد ". القول الثاني: قال أحمد: المراد بآل محمّد في حديث التّشهّد أهل بيته. وعلى هذا فهل يجوز أن يقال: أهل عِوَض آل؟ روايتان عندهم. القول الثالث: المراد بآل محمّد أزواجه وذرّيّته , لأنّ أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ " وآل محمّد " وجاء في حديث أبي حميدٍ موضعه " وأزواجه وذرّيّته " فدلَّ على أنّ المراد بالآل الأزواج والذّرّيّة. وتعقّب: بأنّه ثبت الجمع بين الثّلاثة كما في حديث أبي هريرة، فيحمل على أنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ غيره , فالمراد بالآل في التّشهّد الأزواج ومن حرّمت عليهم الصّدقة , ويدخل فيهم الذّرّيّة، فبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق على أزواجه - صلى الله عليه وسلم - آل محمّد في حديث عائشة: ما شبع آل

محمّد من خبز مأدوم ثلاثاً. أخرجه البخاري، وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة " اللهمّ اجعل رزقَ آلِ محمّدٍ قوتاً " , وكأنّ الأزواج أفردوا بالذّكر تنويهاً بهم. وكذا الذّرّيّة. القول الرابع: المراد بالآل ذرّيّة فاطمة خاصّة. حكاه النّوويّ في " شرح المهذّب " القول الخامس: هم جميع قريش. حكاه ابن الرّفعة في " الكفاية ". القول السادس: المراد بالآل جميع الأمّة أمّة الإجابة. وقال ابن العربيّ: مال إلى ذلك مالك. واختاره الأزهريّ , وحكاه أبو الطّيّب الطّبريّ عن بعض الشّافعيّة , ورجّحه النّوويّ في شرح مسلم، وقيّده القاضي حسين والرّاغب بالأتقياء منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق. ويؤيّده قوله تعالى (إنْ أولياؤه إلاَّ المتّقون) , وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ أوليائي منكم المتّقون (¬1). وفي " نوادر أبي العيناء " إنّه غضّ من بعض الهاشميّين , فقال له: أتغضّ منّي وأنت تصلّي عليّ في كلّ صلاة في قولك: اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، فقال: إنّي أريد الطّيّبين الطّاهرين , ولست منهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (75) والحاكم في " المستدرك " (2/ 358) وصحَّحه من حديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -. وأخرجه أيضاً البخاري (897) من حديث أبي هريرة. وأعلَّه الدارقطني في العلل بالارسال.

ويمكن أن يُحمل كلام من أطلق , على أنّ المراد بالصّلاة الرّحمة المطلقة فلا تحتاج إلى تقييد. وقد استدل لهم بحديث أنس رفعه " آل محمّد كلّ تقيّ " أخرجه الطّبرانيّ , ولكن سنده واهٍ جدّاً، وأخرج البيهقيّ عن جابر نحوه من قوله بسندٍ ضعيف. قوله: (كما صلَّيت على آل إبراهيم) اشتهر السّؤال عن موقع التّشبيه مع أنّ المقرّر أنّ المشبّه دون المشبّه به، والواقع هنا عكسه. لأنّ محمّداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أفضل من آل إبراهيم ومن إبراهيم , ولا سيّما قد أضيف إليه آل محمّد. وقضيّة كونه أفضل أن تكون الصّلاة المطلوبة أفضل من كلّ صلاة حصلت أو تحصل لغيره، وأجيب عن ذلك بأجوبة: الجواب الأوّل: أنّه قال ذلك قبل أن يعلم أنّه أفضل من إبراهيم. وقد أخرج مسلم من حديث أنس , أنّ رجلاً قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يا خير البريّة، قال: ذاك إبراهيم. أشار إليه ابن العربيّ , وأيّده بأنّه سأل لنفسه التّسوية مع إبراهيم وأمر أمّته أن يسألوا له ذلك , فزاده الله تعالى بغير سؤال أن فضّله على إبراهيم. وتعقّب: بأنّه لو كان كذلك لغيّر صفة الصّلاة بعد أن علم أنّه أفضل. الجواب الثّاني: أنّه قال ذلك تواضعاً وشرع ذلك لأمّته ليكتسبوا بذلك الفضيلة.

الجواب الثّالث: أنّ التّشبيه إنّما هو لأصل الصّلاة بأصل الصّلاة , لا للقدر بالقدر , فهو كقوله تعالى (إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) وقوله (كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم) , وهو كقول القائل: أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان. ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك). ورجّح هذا الجوابَ القرطبيّ في " المفهم " الجواب الرّابع: أنّ الكاف للتّعليل كما في قوله (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم) وفي قوله تعالى (فاذكروه كما هداكم)، وقال بعضهم: الكاف على بابها من التّشبيه ثمّ عدل عنه للإعلام بخصوصيّة المطلوب. الجواب الخامس: أنّ المراد أن يجعله خليلاً كما جعل إبراهيم، وأن يجعل له لسان صدق كما جعل لإبراهيم مضافاً إلى ما حصل له من المحبّة، ويرِدُ عليه ما ورد على الأوّل. وقرّبه بعضهم: بأنّه مثل رجلين يملك أحدهما ألفاً ويملك الآخر ألفين , فسأل صاحب الألفين أن يعطى ألفاً أخرى نظير الذي أعطيها الأوّل , فيصير المجموع للثّاني أضعاف ما للأوّل. الجواب السّادس: أنّ قوله " اللهمّ صلِّ على محمّد " مقطوع عن التّشبيه , فسيكون التّشبيه متعلقاً بقوله " وعلى آل محمّد ". وتعقّب: بأنّ غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء , فكيف

تطلب لهم صلاة مثل الصّلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله؟. ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّ المطلوب الثّواب الحاصل لهم لا جميع الصّفات التي كانت سبباً للثّواب، وقد نقل العمرانيّ في " البيان " عن الشّيخ أبي حامد أنّه نقل هذا الجواب عن نصّ الشّافعيّ. واستبعد ابن القيّم صحّة ذلك عن الشّافعيّ , لأنّه مع فصاحته ومعرفته بلسان العرب لا يقول هذا الكلام الذي يستلزم هذا التّركيب الرّكيك المعيب من كلام العرب. كذا قال، وليس التّركيب المذكور بركيكٍ , بل التّقدير: اللهمّ صلِّ على محمّد وصل على آل محمّد كما صليت إلى آخره , فلا يمتنع تعلّق التّشبيه بالجملة الثّانية. الجواب السّابع: أنّ التّشبيه إنّما هو للمجموع بالمجموع , فإنّ في الأنبياء من آل إبراهيم كثرة، فإذا قوبلت تلك الذّوات الكثيرة من إبراهيم وآل إبراهيم بالصّفات الكثيرة التي لمحمّدٍ , أمكن انتفاء التّفاضل. قلت: ويعكّر على هذا الجواب , أنّه وقع في حديث أبي سعيد عند البخاري مقابلة الاسم فقط بالاسم فقط. ولفظه " اللهمّ صلِّ على محمّد كما صليت على إبراهيم ". الجواب الثّامن: أنّ التّشبيه بالنّظر إلى ما يحصل لمحمّدٍ وآل محمّد من صلاة كلّ فرد فرد، فيحصل من مجموع صلاة المُصلِّين من أوّل التّعليم إلى آخر الزّمان أضعاف ما كان لآل إبراهيم.

وعبّر ابن العربيّ عن هذا بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره. الجواب التّاسع: أنّ التّشبيه راجع إلى المُصلِّي فيما يحصل له من الثّواب. لا بالنّسبة إلى ما يحصل للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ضعيف , لأنّه يصير كأنّه قال: اللهمّ أعطني ثواباً على صلاتي على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما صليت على آل إبراهيم. ويمكن أن يجاب: بأنّ المراد مثل ثواب المُصلِّي على آل إبراهيم. الجواب العاشر: دفع المقدّمة المذكورة أوّلاً , وهي أنّ المشبّه به يكون أرفع من المشبّه، وأنّ ذلك ليس مطّرداً، بل قد يكون التّشبيه بالمثل بل وبالدّون كما في قوله تعال (مثل نوره كمشكاة) , وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟. ولكن لَمّا كان المراد من المشبّه به أن يكون شيئاً ظاهراً واضحاً للسّامع حسن تشبيه النّور بالمشكاة، وكذا هنا لَمّا كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصّلاة عليهم مشهوراً واضحاً عند جميع الطّوائف حسن أن يطلب لمحمّدٍ وآل محمّد بالصّلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم. ويؤيّد ذلك ختم الطّلب المذكور بقوله " في العالمين " أي: كما أظهرت الصّلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، ولهذا لَم يقع قوله " في العالمين " إلاَّ في ذكر آل إبراهيم دون ذكر آل محمّد , على ما وقع في الحديث الذي ورد فيه , وهو حديث أبي مسعود فيما أخرجه مالك ومسلم وغيرهما.

وعبّر الطّيبيّ عن ذلك بقوله: ليس التّشبيه المذكور من باب إلحاق النّاقص بالكامل , بل من باب إلحاق ما لَم يشتهر بما اشتهر. وقال الْحَلِيميّ: سبب هذا التّشبيه أنّ الملائكة قالت في بيت إبراهيم (رحمةُ الله وبركاته عليكم أهلَ البيت إنّه حميد مجيد) , وقد علم أنّ محمّداً وآل محمّد من أهل بيت إبراهيم فكأنّه قال: أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك في محمّد وآل محمّد كما أجبتها عندما قالوها في آل إبراهيم الموجودين حينئذٍ، ولذلك ختم بما ختمت به الآية , وهو قوله " إنّك حميد مجيد ". وقال النّوويّ بعد أن ذكر بعض هذه الأجوبة: أحسنها ما نُسب إلى الشّافعيّ , والتّشبيه لأصل الصّلاة بأصل الصّلاة أو للمجموع بالمجموع. وقال ابن القيّم بعد أن زيّف أكثر الأجوبة إلاَّ تشبيه المجموع بالمجموع: وأحسن منه أن يقال: هو - صلى الله عليه وسلم - من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال: محمّد من آل إبراهيم , فكأنّه أمرنا أن نُصلِّي على محمّد وعلى آل محمّد خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموماً , فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كلّه له، وذلك القدر أزيد ممّا لغيره من آل إبراهيم قطعاً، ويظهر حينئذٍ فائدة التّشبيه، وأنّ المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من

المطلوب بغيره من الألفاظ. الجواب الحادي عشر: وجدت في مصنّف لشيخنا مجد الدّين الشّيرازيّ اللّغويّ جواباً آخر نقله عن بعض أهل الكشف , حاصله أنّ التّشبيه لغير اللفظ المشبّه به لا لعينه، وذلك أنّ المراد بقولنا " اللهمّ صلِّ على محمّد " اجعل من أتباعه من يبلغ النّهاية في أمر الدّين كالعلماء بشرعه بتقريرهم أمر الشّريعة " كما صليت على إبراهيم " بأن جعلت في أتباعه أنبياء يقرّرون الشّريعة. والمراد بقوله " وعلى آل محمّد " اجعل من أتباعه ناساً محدّثين - بالفتح - يخبرون بالمغيّبات كما صليت على إبراهيم بأن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيّبات. والمطلوب حصول صفات الأنبياء لآل محمّد وهم أتباعه في الدّين كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم. وهذا محصّل ما ذكره، وهو جيّد إن سلم أنّ المراد بالصّلاة هنا ما ادّعاه، والله أعلم الجواب الثاني عشر: نحو هذه الدّعوى: المراد. اللهمّ استجب دعاء محمّد في أمّته كما استجبت دعاء إبراهيم في بنيه. ويعكّر على هذا عطف الآل في الموضعين. قوله: (على آل إبراهيم) هم ذرّيّته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به جماعة من الشّرّاح، وإن ثبت أنّ إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر فهم داخلون لا محالة. ثمّ إنّ المراد المسلمون منهم بل المتّقون، فيدخل فيهم الأنبياء

والصّدّيقون والشّهداء والصّالحون دون من عداهم، وفيه ما تقدّم في آل محمّد. قوله: (وبارك) المراد بالبركة هنا الزّيادة من الخير والكرامة. وقيل: المراد التّطهير من العيوب والتّزكية. وقيل: المراد إثبات ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل. أي ثبتت على الأرض، وبه سُمّيت بركة الماء - بكسر أوّله وسكون ثانيه - لإقامة الماء فيها. والحاصل أنّ المطلوب أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمرّ دائماً. والمراد بالعالمين فيما رواه أبو مسعود في حديثه أصناف الخلق. وفيه أقوال أخرى: قيل: ما حواه بطن الفلك، وقيل: كلّ محدث، وقيل: ما فيه روح، وقيل: بقيد العقلاء، وقيل: الإنس والجنّ فقط. قوله: (إنّك حميد مجيد) أمّا الحميد فهو فعيل من الحمد بمعنى محمود، وأبلغ منه. وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها. وقيل: هو بمعنى الحامد. أي يحمد أفعال عباده. وأمّا المجيد فهو من المجد. وهو صفة من كمل في الشّرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما أنّ الحمد يدلّ على صفة الإكرام. ومناسبة ختم هذا الدّعاء بهذين الاسمين العظيمين. الأول: أنّ المطلوب تكريم الله لنبيّه وثناؤه عليه والتّنويه به وزيادة

تقريبه، وذلك ممّا يستلزم طلب الحمد والمجد ففي ذلك إشارة إلى أنّهما كالتّعليل للمطلوب. الثاني: أو هو كالتّذييل له، والمعنى إنّك فاعل ما تستوجب به الحمد من النّعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك. واستدل بهذا الحديث على إيجاب الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في كلّ صلاة لِمَا وقع في هذا الحديث من الزّيادة في بعض الطّرق عن أبي مسعود، وهو ما أخرجه أصحاب السّنن وصحّحه التّرمذيّ وابن خزيمة والحاكم كلّهم من طريق محمّد بن إسحاق عن محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن محمّد بن عبد الله بن زيد عنه بلفظ " فكيف نُصلِّي عليك إذا نحن صلّينا عليك في صلاتنا؟. وقال الدّارقطنيّ: إسناده حسن متّصل. وقال البيهقيّ: إسناده حسن صحيح. وتعقّبه ابن التّركمانيّ: بأنّه قال في " باب تحريم قتل ما له روح " بعد ذكر حديث فيه ابن إسحاق: الحفّاظ يتوقّون ما ينفرد به. قلت: وهو اعتراض متّجه , لأنّ هذه الزّيادة تفرّد بها ابن إسحاق، لكن ما ينفرد به. وإن لَم يبلغ درجة الصّحيح فهو في درجة الحسن إذا صرّح بالتّحديث وهو هنا كذلك، وإنّما يصحّح له من لا يفرّق بين الصّحيح والحسن , ويجعل كلّ ما يصلح للحجّة صحيحاً. وهذه طريقة ابن حبّان ومن ذكر معه. وقد احتجّ بهذه الزّيادة جماعةٌ من الشّافعيّة كابن خزيمة والبيهقيّ

لإيجاب الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التّشهّد بعد التّشهّد وقبل السّلام. وتعقّب: بأنّه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنّما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلَّى على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التّشهّد. وعلى تقدير أن يدلّ على إيجاب أصل الصّلاة فلا يدلّ على هذا المحلّ المخصوص، ولكن قرّب البيهقيّ ذلك بما تقدّم أنّ الآية لَمّا نزلت. وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد علَّمهم كيفيّة السّلام عليه في التّشهّد، والتّشهّد داخل الصّلاة فسألوا عن كيفيّة الصّلاة فعلمهم، فدلَّ على أنّ المراد بذلك إيقاع الصّلاة عليه في التّشهّد بعد الفراغ من التّشهّد الذي تقدّم تعليمه لهم. وأمّا احتمال أن يكون ذلك خارج الصّلاة فهو بعيدٌ كما قال عياض وغيره. وقال ابن دقيق العيد: ليس فيه تنصيص على أنّ الأمر به مخصوص بالصّلاة، وقد كثر الاستدلال به على وجوب الصّلاة، وقرّر بعضهم الاستدلال: بأنّ الصّلاة عليه واجبة بالإجماع , وليست الصّلاة عليه خارج الصّلاة واجبة بالإجماع , فتعيّن أن تجب في الصّلاة. قال: وهذا ضعيف؛ لأنّ قوله لا تجب في غير الصّلاة بالإجماع إن أراد به عيناً فهو صحيح , لكن لا يفيد المطلوب , لأنّه يفيد أن تجب في أحد الموضعين لا بعينه. وزعم القرافيّ في " الذّخيرة " أنّ الشّافعيّ هو المستدلّ بذلك، وردّه بنحو ما ردّ به ابن دقيق العيد.

ولَم يصب في نسبة ذلك للشّافعيّ. والذي قاله الشّافعيّ في " الأمّ ": فرض الله الصّلاة على رسوله بقوله (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً) فلم يكن فرض الصّلاة عليه في موضع أولى منه في الصّلاة، ووجدنا الدّلالة عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك: أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدّثني صفوان بن سليمٍ عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة , أنّه قال: يا رسولَ الله كيف نُصلِّي عليك - يعني في الصّلاة؟ قال: تقولون اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم " الحديث، أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدّثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عُجْرة عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه كان يقول في الصّلاة: اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " الحديث. قال الشّافعيّ: فلمّا روي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم التّشهّد في الصّلاة، وروي عنه أنّه علَّمهم كيف يصلّون عليه في الصّلاة، لَم يجز أن نقول التّشهّد في الصّلاة واجب والصّلاة عليه فيه غير واجبة. وقد تعقّب بعضُ المخالفين هذا الاستدلال من أوجهٍ: أحدها: ضعف إبراهيم بن أبي يحيى. والكلام فيه مشهور. الثّاني: على تقدير صحّته فقوله في الأوّل " يعني في الصّلاة " لَم يصرّح بالقائل. يعني ". الثّالث: قوله في الثّاني: إنّه كان يقول في الصّلاة " , وإن كان

ظاهره أنّ الصّلاة المكتوبة , لكنّه يحتمل أن يكون المراد بقوله في الصّلاة , أي: في صفة الصّلاة عليه، وهو احتمال قويّ؛ لأنّ أكثر الطّرق عن كعب بن عُجْرة كما قدّم تدلّ على أنّ السّؤال وقع عن صفة الصّلاة لا عن محلها. الرّابع: ليس في الحديث ما يدلّ على تعيّن ذلك في التّشهّد خصوصاً بينه وبين السّلام من الصّلاة. وقد أطنب قومٌ في نسبة الشّافعيّ في ذلك إلى الشّذوذ، منهم أبو جعفر الطّبريّ وأبو جعفر الطّحاويّ وأبو بكر بن المنذر والخطّابيّ، وأورد عياض في " الشّفاء " مقالاتهم , وعاب عليه ذلك غير واحد , لأنّ موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشّافعيّ , لأنّه من جملة تعظيم المصطفى. وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته , مع أنّ الأكثر على خلافه , لكنّه استجاده لِمَا فيه من الزّيادة في تعظيمه. وانتصر جماعة للشّافعيّ , فذكروا أدلة نقليّة ونظريّة، ودفعوا دعوى الشّذوذ. فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم. وأصحّ ما ورد في ذلك عن الصّحابة والتّابعين. ما أخرجه الحاكم بسندٍ قويٍّ عن ابن مسعود قال: يتشهّد الرّجل , ثمّ يُصلِّي على النّبيّ , ثمّ يدعو لنفسه. وهذا أقوى شيء يحتجّ به للشّافعيّ، فإنّ ابن مسعود ذكر أنّ النّبيّ

- صلى الله عليه وسلم - علمهم التّشهّد في الصّلاة. وأنّه قال: ثمّ ليتخيّر من الدّعاء ما شاء. فلمّا ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصّلاة عليه قبل الدّعاء دلَّ على أنّه اطّلع على زيادة ذلك بين التّشهّد والدّعاء، واندفعتْ حجّة من تمسّك بحديث ابن مسعود في دفع ما ذهب إليه الشّافعيّ مثل ما ذكر عياض. قال: وهذا تشهّد ابن مسعود الذي علّمه له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه ذكر الصّلاة عليه. وكذا قول الخطّابيّ إنّ في آخر حديث ابن مسعود " إذا قلتَ هذا فقد قضيتَ صلاتك " , لكن ردّ عليه بأنّ هذه الزّيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أنّ مشروعيّة الصّلاة عليه وردت بعد تعليم التّشهّد. ويتقوّى ذلك بما أخرجه التّرمذيّ عن عمر موقوفاً: الدّعاء موقوف بين السّماء والأرض لا يصعد منه شيء حتّى يُصلِّي على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن العربيّ: ومثل هذا لا يقال من قِبَل الرّأي. فيكون له حكم الرّفع. انتهى وورد له شاهد مرفوع في " جزء الحسن بن عرفة " , وأخرج العمريّ في " عمل يوم وليلة " عن ابن عمر بسندٍ جيّد , قال: لا تكون صلاة إلاَّ بقراءةٍ وتشهّدٍ وصلاة عليّ. وأخرج البيهقيّ في " الخلافيّات " بسندٍ قويٍّ عن الشّعبيّ - وهو من كبار التّابعين - قال: من لَم يصلِّ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التّشهّد , فليعد

صلاته. وأخرج الطّبريّ بسندٍ صحيح عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير - وهو من كبار التّابعين - قال: كنّا نعلم التّشهّد , فإذا قال: وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله يحمد ربّه ويثني عليه ثمّ يُصلِّي على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثمّ يسأل حاجته. وأمّا فقهاء الأمصار فلم يتّفقوا على مخالفة الشّافعيّ في ذلك بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم به في العمد , فقال: إذا تركها يعيد. والخلاف أيضاً عند المالكيّة ذكرها ابن الحاجب في سنن الصّلاة , ثمّ قال: على الصّحيح، فقال شارحه ابن عبد السّلام: يريد أنّ في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن الموّاز منهم. وأمّا الحنفيّة. فألزم بعض شيوخنا مَن قال بوجوب الصّلاة عليه كما ذكر كالطّحاويّ. ونقله السّروجيّ في " شرح الهداية " عن أصحاب " المحيط " و " العقد " و " التّحفة " و " المغيث " من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التّشهّد لتقدّم ذكره في آخر التّشهّد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك , لكن لا يجعلونه شرطاً في صحّة الصّلاة. وروى الطّحاويّ , أنّ حرملة انفرد عن الشّافعيّ بإيجاب ذلك بعد التّشهّد وقبل سلام التّحلّل , قال: لكنّ أصحابه قبلوا ذلك وانتصروا له وناظروا عليه. انتهى. واستدل له ابن خزيمة ومن تبعه: بما أخرجه أبو داود والنّسائيّ

والتّرمذيّ وصحّحه، وكذا ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد , قال: سمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته لَم يحمد الله , ولَم يصلِّ على النّبيّ , فقال: عَجِل هذا، ثمّ دعاه , فقال: إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه والثّناء عليه , ثمّ يصلِّ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ يدعو بما شاء. وهذا ممّا يدلّ على أنّ قول ابن مسعود المذكور قريباً مرفوع فإنّه بلفظه. وقد طعن ابن عبد البرّ في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب , فقال: لو كان كذلك لأمر المُصلِّي بالإعادة كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم. وأجيب: باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه , ويكفي التّمسّك بالأمر في دعوى الوجوب. وقال جماعة منهم الجرجانيّ من الحنفيّة: لو كانت فرضاً للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنّه علمهم التّشهّد , وقال " فيتخيّر من الدّعاء ما شاء " ولَم يذكر الصّلاة عليه. وأجيب: باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذٍ. وقال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": قد ورد هذا في الصّحيح بلفظ " ثمّ ليتخيّر " و " ثمّ " للتّراخي فدلَّ على أنّه كان هناك شيء بين التّشهّد والدّعاء. واستدل بعضهم بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة

رفعه: إذا فرغ أحدكم من التّشهّد الأخير , فليستعذ بالله من أربع. الحديث. وعلى هذا عوّل ابن حزم في إيجاب هذه الاستعاذة في التّشهّد , وفي كون الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مستحبّة عقب التّشهّد لا واجبة، وفيه ما فيه، والله أعلم. وقد انتصر ابن القيّم للشّافعيّ , فقال: أجمعوا على مشروعيّة الصّلاة عليه في التّشهّد، وإنّما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسّك من لَم يوجبه بعمل السّلف الصّالح نظرٌ , لأنّ عملهم كان بوفاقه، إلاَّ إن كان يريد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأنّ ذلك ليس بواجبٍ وأنّى يوجد ذلك؟. قال: وأمّا قول عياض: إنّ النّاس شنّعوا على الشّافعيّ. فلا معنى له، فأيّ شناعة في ذلك , لأنّه لَم يخالف نصّاً ولا إجماعاً ولا قياساً ولا مصلحة راجحة؟. بل القول بذلك من محاسن مذهبه. وأمّا نقله للإجماع فقد تقدّم ردّه. وأمّا دعواه أنّ الشّافعيّ اختار تشهّد ابن مسعود , فيدلّ على عدم معرفة باختيارات الشّافعيّ , فإنّه إنّما اختار تشهّد ابن عبّاس. وأمّا ما احتجّ به جماعة من الشّافعيّة من الأحاديث المرفوعة الصّريحة في ذلك فإنّها ضعيفة كحديث سهل بن سعد وعائشة وأبي مسعود وبريدة وغيرهم. وقد استوعبها البيهقيّ في " الخلافيّات " ولا بأس بذكرها للتّقوية

لا أنّها تنهض بالحجّة. قلت: ولَم أر عن أحد من الصّحابة والتّابعين التّصريحَ بعدم الوجوب إلاَّ ما نقل عن إبراهيم النّخعيّ، ومع ذلك فلفظ المنقول عنه كما تقدّم يشعر بأنّ غيره كان قائلاً بالوجوب , فإنّه عبّر بالإجزاء. واستدل بهذا الحديث على تعين هذا اللفظ الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في امتثال الأمر. سواء قلنا بالوجوب مطلقاً أو مقيداً بالصلاة. وأما تعينه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصح عند أتباعه لا تجب. واختلف في الأفضل: فعن أحمد: أكمل ما ورد، وعنه: يتخير، وأما الشافعية فقالوا: يكفي أن يقول " اللهم صل على محمد ". واختلفوا: هل يكفي الإتيان بما يدل على ذلك. كأن يقوله بلفظ الخبر فيقول: صلى الله على محمد مثلاً. والأصح إجزاؤه. وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد فيكون جائزا بطريق الأولى. ومن منع وقف عند التعبد. وهو الذي رجحه ابن العربي. بل كلامه يدل على أنَّ الثواب الوارد لِمن صلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة. واتفق أصحابنا على أنه لا يجزئ أن يقتصر على الخبر. كأن يقول الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى. واختلفوا في تعين لفظ محمد، لكن جوزوا الاكتفاء بالوصف دون

الاسم كالنبي ورسول الله , لأنَّ لفظ محمد وقع التعبد به فلا يجزئ عنه إلاَّ ما كان أعلى منه، ولهذه قالوا لا يجزئ الإتيان بالضمير ولا بأحمد مثلاً في الأصح فيهما مع تَقدُّم ذكره في التشهد بقوله النبي , وبقوله محمد. وذهب الجمهور: إلى الاجتزاء بكل لفظ أدى المراد بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. حتى قال بعضهم: ولو قال في أثناء التشهد الصلاة والسلام عليك أيها النبي أجزأ، وكذا لو قال أشهد أنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله، بخلاف ما إذا قدم عبده ورسوله. وهذا ينبغي أنْ ينبني على أنَّ ترتيب ألفاظ التشهد لا يشترط وهو الأصح، ولكن دليل مقابله قوي لقولهم " كما يعلمنا السورة " وقول ابن مسعود " عدهنَّ في يدي " (¬1). ورأيتُ لبعض المتأخرين فيه تصنيفاً. وعمدة الجمهور في الاكتفاء بما ذكر أن الوجوب ثبت بنص القرآن بقوله تعالى (صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً) فلمَّا سأل الصحابةُ عن ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (1582) من طريق أبي إسحاق، قال: أتيتُ الأسود بن يزيد فقلت: إنَّ أبا الأحوص قد زاد في خطبة: الصلوات والمباركات. قال: فأتِه فقل له: إنَّ الأسود ينهاك , ويقول لك: إنَّ علقمة بن قيس تعلمهنَّ من عبد الله كما يتعلَّم السورة من القرآن , عدهنَّ عبد الله في يده , ثم ذكر تشهُّدَ عبد الله. قلت: وتشهُّد عبدِ الله تقدَّم مرفوعاً برقم (124). وظاهر كلام الشارح أنَّ العدَّ حصل بيد ابن مسعود - رضي الله عنه - من قِبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولم أره مرفوعاً صريحاً. والله أعلم.

الكيفية وعلَّمها لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - , واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات , وترك ما زاد على ذلك كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجباً لَما سكت عنه انتهى. وقد استشكل ذلك ابن الفركاح في " الإقليد " فقال: جعلهم هذا هو الأقل يحتاج إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإنَّ الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار، والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقل ما وقع في الروايات " اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم ". ومن ثَمَّ حكى الفورانيُّ عن صاحب الفروع في إيجاب ذكر إبراهيم وجهين. واحتج لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة عند النسائي بسند قوي ولفظه " صلوا عليَّ وقولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد. وفيه نظرٌ. لأنه من اختصار بعض الرواة , فإنَّ النسائيَّ أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي. واختلف في إيجاب الصلاة على الآل. ففي تعينها أيضاً عند الشافعية والحنابلة روايتان، والمشهور عندهم لا، وهو قول الجمهور. وادعى كثير منهم فيه الإجماع , وأكثر من أثبت الوجوب من الشافعية

نسبوه إلى التُربُجي (¬1). ونقل البيهقي في " الشعب " عن أبي إسحاق المروزي - وهو من كبار الشافعية - قال: أنا أعتقد وجوبها. قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالةٌ على صحة ما قال. قلت: وفي كلام الطحاوي في " مشكله " ما يدلُّ على أنَّ حرملة نقله عن الشافعي , واستدل به على مشروعية الصلاة على النبي وآله في التشهد الأول , والمصحح عند الشافعية استحباب الصلاة عليه فقط , لأنه مبني على التخفيف وأما الأول فبناه الأصحاب على حكم ذلك في التشهد الأخير إن قلنا بالوجوب. قلت: واستدل بتعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل , ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بذلك. هكذا صوبه النووي في " الروضة " بعد ذِكر حكاية الرافعي عن إبراهيم المروزي أنه قال: يبَرُّ إذا قال: كلَّما ذكره الذاكرون، وكلَّما سها عن ذكره الغافلون. قال النووي: وكأنه أخذ ذلك من كون الشافعي ذكر هذه الكيفية. قلت: وهي في خطبة الرسالة، لكن بلفظ غفل بدل سها. ¬

_ (¬1) قال النووي في " المجموع " (3/ 465): بمثناه من فوق مضمومة ثم راء ساكنة ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ. انتهى

وقال الأذرعي: إبراهيم المذكور كثيرُ النقل من تعليقة القاضي حسين، ومع ذلك فالقاضي قال: في طريق البر يقول: اللهمَّ صلِّ على محمَّد كما هو أهله ومستحقه، وكذا نقله البغوي في تعليقه. قلت: ولو جمع بينها فقال ما في الحديث. وأضاف إليه أثر الشافعي , وما قاله القاضي لكان أشمل. ويحتمل أن يقال: يعمد إلى جميع ما اشتملت عليه الروايات الثابتة فيستعمل منها ذكراً يحصل به البر. وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في جزء له في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض العلماء أنه قال: أفضل الكيفيات أن يقول: اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأزواجه وذريته وسلّم عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. وعن آخر نحوه , لكن قال: عدد الشفع والوتر وعدد كلماتك التامة. ولم يُسم قائلها. والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلَّى علينا فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم " الحديث (¬1) والله أعلم. تنبيه: إن كان مستند المروزي ما قاله الشافعي فظاهر كلام الشافعي أن الضمير لله تعالى، فإن لفظه " وصلَّى الله على نبيه كلَّما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (982). وقد تقدَّم كلام الشارح عليه ضمن شرح الحديث.

ذكره الذاكرون " فكان حق من غير عبارته أن يقول: اللهمَّ صلّ على محمد كلَّما ذكرك الذاكرون .. إلخ. واستدل به على جواز الصلاة على غير الأنبياء. واستدل به على أن الواو لا تقتضي الترتيب , لأنَّ صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى (صلُّوا عليه وسلّموا) وقدم تعليم السلام قبل الصلاة كما قالوا " علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك ". واستدل به على رد قول النخعي: يجزئ في امتثال الأمر بالصلاة قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته في التشهد؛ لأنه لو كان كما قال لأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إلى ذلك ولَما عدل إلى تعليمهم كيفية أخرى. واستدلّ به على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره , وكذا العكس؛ لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة كما تقدم. فأفرد التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه. وقد صرح النووي بالكراهة، واستدل بورود الأمر بهما معا في الآية، وفيه نظر. نعم: يكره أن يفرد الصلاة , ولا يسلم أصلاً. أمَّا لو صلَّى في وقت وسلَّم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلاً. واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة ورود الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها. وقد ورد في التصريح

بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئاً. منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه " من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا " وله شاهد عن أنس عند أحمد والنسائي وصحَّحه ابن حبان. وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة " من صلَّى عليَّ من أمتي صلاة مخلصاً من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات , ورفعه بها عشر درجات , وكتب له بها عشر حسنات , ومحا عنه عشر سيئات " ولفظ أبي طلحة عنده نحوه , وصحَّحه ابن حبان. ومنها حديث ابن مسعود رفعه " إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " وحسنه الترمذي وصحَّحه ابن حبان، وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ " صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة " ولا بأس بسنده. وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس. وهو عند أحمد وأبي داود وصحَّحه ابن حبان والحاكم، ومنها حديث " البخيل من ذُكرت عنده فلم يصلِّ علي " أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي , وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث علي , ومن حديث ابنه الحسين , ولا يقصر عن درجة الحسن.

ومنها حديث " من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة " أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس , والبيهقي في " الشعب " من حديث أبي هريرة , وابن أبي حاتم من حديث جابر , والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشدُّ بعضها بعضاً. وحديث " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي " أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ " من ذكرت عنده ولم يصلِّ علي فمات فدخل النار فأبعده الله " وله شاهد عنده، وصحَّحه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني , وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة , وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة , ومن حديث مالك بن الحويرث , ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني , ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي. وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ " بعد من ذكرت عنده فلم يصلّ عليَّ " وعند الطبراني من حديث جابر رفعه " شقى عبد ذكرت عنده فلم يصل عليَّ " وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة " من الجفاء أن أُذكر عند رجل فلا يصلي علي ". ومنها حديث أبي بن كعب " أن رجلا قال: يا رسول الله إني أكثر الصلاة فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت. قال: الثلث؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير " إلى أن قال " أجعل لك كل صلاتي؟ قال: إذا تكفى همك " الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن.

فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك. قال الحليمي: المقصود بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - التقرب إلى الله بامتثال أمره وقضاء حق النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا. وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لَمَّا علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه. وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يُصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة - صلى الله عليه وسلم -، وقد تمسك بالأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر؛ لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعيد على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه وإحسانه مستمر فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضا بقوله (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) فلو كان إذا ذكر لا يصلى عليه لكان كآحاد الناس. ويتأكد ذلك إذا كان المعنى بقوله (دعاء الرسول) الدعاء المتعلق بالرسول.

وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة: منها: أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن , وكذا سامعه وللزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن , وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين , ولكان في ذلك من المشقة , والحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به. وقد أطلق القدوري وغيره من الحنفية , أن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله؛ لأنه لا يُحفظ عن أحدٍ من الصحابة أنه خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى. وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه. وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذلك بتكرر ذكره - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد. واحتج الطبري لعدم الوجوب أصلاً - مع ورود صيغة الأمر بذلك - بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأُمَّة على أن ذلك غير لازم فرضاً حتى يكون تاركه عاصياً. قال: فدل ذلك على أن الأمر فيه للندب ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة.

وما ادعاه من الإجماع مُعارَض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك في الصلاة. إما بطريق الوجوب. وإما بطريق الندب. ولا يعرف عن السلف لذلك مخالف إلاَّ ما أخرجه ابن أبي شيبة والطبري عن إبراهيم , أنه كان يرى أنَّ قول المصلي في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يجزئ عن الصلاة. ومع ذلك لم يخالف في أصل المشروعية , وإنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة، والله أعلم. ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها. التشهد الأول , وخطبة الجمعة وغيرها من الخطب , وصلاة الجنازة. ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة. عقب إجابة المؤذن , وأول الدعاء وأوسطه وآخره. وفي أوله آكد , وفي آخر القنوت , وفي أثناء تكبيرات العيد , وعند دخول المسجد والخروج منه , وعند الاجتماع والتفرق , وعند السفر والقدوم , وعند القيام لصلاة الليل , وعند ختم القرآن , وعند الهم والكرب , وعند التوبة من الذنب , وعند قراءة الحديث تبليغ العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضاً في أحاديث ضعيفة , وعند استلام الحجر , وعند طنين الأذن , وعند التلبية , وعقب الوضوء , وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضاً. وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح عند أبي

داود والنسائي , وصحَّحه ابن خزيمة وغيره عن أوس بن أوس رفعه. في فضل يوم الجمعة: فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه. فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ , قالوا: يا رسول الله. وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أَرمْت؟ قال: إنَّ الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.

الحديث السابع والسبعون

الحديث السابع والسبعون 126 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: اللهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر , وعذاب النّار , ومن فتنة المحيا والممات , ومن فتنة المسيح الدّجّال. (¬1) وفي لفظٍ لمسلمٍ: إذا تشهّد أحدكم فليستعذ بالله من أربعٍ , يقول: اللهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب جهنّم. (¬2) قوله: (من عذاب القبر) فيه ردّ على من أنكره مطلقاً من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو وبشر المريسيّ ومن وافقهما. وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلة وجميع أهل السّنّة وغيرهم , وأكثروا من الاحتجاج له. وذهب بعض المعتزلة كالجيّانيّ: إلى أنّه يقع على الكفّار دون المؤمنين. قوله: (وعذاب النّار) وللبخاري عن عائشة " ومن فتنة النار " هي سؤال الخزنة على سبيل التّوبيخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها أَلَم يأتكم نذير). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1311) ومسلم (588) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (588) من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية عن محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة , وعن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. وأخرجه مسلم أيضاً من طرق أخرى عن أبي هريرة.

قوله: (فتنة المحيا والممات) قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدّة حياته من الافتتان بالدّنيا والشّهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت. وفتنة الممات. يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك. ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صحّ يعني في حديث أسماء في البخاري " إنّكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدّجّال " , ولا يكون مع هذا الوجه متكرّراً مع قوله " عذاب القبر " , لأنّ العذاب مرتّب عن الفتنة والسّبب غير المسبّب. وقيل: أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصّبر، وبفتنة الممات السّؤال في القبر مع الحيرة، وهذا من العامّ بعد الخاصّ، لأنّ عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدّجّال داخلة تحت فتنة المحيا. وأخرج الحكيم التّرمذيّ في " نوادر الأصول " عن سفيان الثّوريّ , أنّ الميّت إذا سئل من ربّك؟ تراءى له الشّيطان فيشير إلى نفسه إنّي أنا ربّك، فلهذا ورد سؤال التّثبّت له حين يسأل. ثمّ أخرج بسندٍ جيّد إلى عمرو بن مرّة: كانوا يستحبّون إذا وضع الميّت في القبر أن يقولوا: اللهمّ أعذه من الشّيطان. قوله: (من فتنة المسيح الدّجّال) قال أهل اللّغة: الفتنة الامتحان والاختبار.

قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره. انتهى. وتُطلق على القتل والإحراق والنّميمة وغير ذلك. قوله: (المسيح) بفتح الميم وتخفيف المهملة المكسورة وآخره حاء مهملة , يطلق على الدّجّال , وعلى عيسى ابن مريم عليه السّلام، لكن إذا أريد الدّجّال قيّد به. وقال أبو داود في السّنن: المسيح مثقّل الدّجّال ومخفّف عيسى، والمشهور الأوّل. وأمّا ما نقل الفربريّ في رواية المستملي وحده عنه عن خلف بن عامر - وهو الهمدانيّ أحد الحفّاظ - أنّ المسيح بالتّشديد والتّخفيف واحد يقال للدّجّال , ويقال: لعيسى. وأنّه لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين , فهو رأي ثالث. وقال الجوهريّ: مَن قاله بالتّخفيف فلمسحه الأرض، ومَن قاله بالتّشديد فلكونه ممسوح العين. وحكى بعضهم , أنّه قال: بالخاء المعجمة في الدّجّال. ونسب قائله إلى التّصحيف. واختلف في تلقيب الدّجّال بذلك. فقيل: لأنّه ممسوح العين، وقيل: لأنّ أحد شقّي وجهه خلق ممسوحاً لا عين فيه ولا حاجب، وقيل: لأنّه يمسح الأرض إذا خرج. وأمّا عيسى عليه السلام. فقيل: سُمِّي بذلك لأنّه خرج من بطن أمّه ممسوحاً بالدّهن، وقيل

: لأنّ زكريّا مسحه، وقيل: لأنّه كان لا يمسح ذا عاهة إلاَّ برئ، وقيل: لأنّه كان يمسح الأرض بسياحته. وقيل: لأنّ رجله كانت لا أخمص لها، وقيل: للبسه المسوح، وقيل: هو بالعبرانيّة ماشيخا فعرّب المسيح، وقيل: المسيح الصّدّيق. وذكر شيخنا الشّيخ مجد الدّين الشّيرازيّ صاحب القاموس , أنّه جمع في سبب تسمية عيسى بذلك خمسين قولاً. أوردها في شرح المشارق. قوله: (إذا تشهّد أحدكم) ولمسلمٍ أيضاً من رواية الوليد بن مسلم حدثني الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية حدثني محمد بن أبي عائشة، أنه سمع أبا هريرة بلفظ " إذا فرغ أحدكم من التّشهّد الأخير " فذكره، وصرّح بالتّحديث في جميع الإسناد. ثمّ قد أخرج ابن خزيمة من رواية ابن جريجٍ أخبرني عبد الله بن طاوسٍ عن أبيه (¬1) , أنّه كان يقول بعد التّشهّد كلمات يعظّمهنّ جدّاً. قلت: في المثنى كليهما؟ قال: بل في التّشهّد الأخير، قلت: ما هي؟ قال: أعوذ بالله من عذاب القبر " الحديث. قال ابن جريجٍ: أخبرنيه عن أبيه عن عائشة مرفوعاً. فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التّشهّد، فيكون سابقاً على غيره من الأدعية. وما ورد الإذن فيه أنّ المُصلِّي يتخيّر من ¬

_ (¬1) تقدم نقل الوجوب عن طاوس وأهل الظاهر في شرح حديث ابن مسعود قبل حديث. عند قوله (فليتخير من المسألة ما شاء)

الدّعاء ما شاء , يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السّلام. وقد استشكل دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر. وأجيب بأجوبة: أحدها: أنه قصد التعليم لأمته. ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته. فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأمتي. ثالثها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه , ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة , لأنَّ ذلك يحصِّل الحسنات ويرفع الدرجات. وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك , لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع. فمن لَم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه. فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين. وقيل: على الثالث يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه. ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه. الحديث. والله أعلم

الحديث الثامن والسبعون

الحديث الثامن والسبعون 127 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص , عن أبي بكرٍ الصّدّيق - رضي الله عنهم - , أنّه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علّمني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: قل اللهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً , ولا يغفر الذّنوب إلاَّ أنت , فاغفر لي مغفرةً من عندك , وارحمني , إنّك أنت الغفور الرّحيم. (¬1) قوله: (عن أبي بكر) (¬2) هذه رواية الليث عن يزيد بن أبي حبيب , ومقتضاها أنّ الحديث من مسند الصّدّيق - رضي الله عنه -. وفيه تابعيّ عن تابعيّ وهو يزيد عن أبي الخير، وصحابيّ عن صحابيّ , وهو عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - , وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطّيالسيّ عن الليث. فإنّ لفظه عن أبي بكر قال: قلت: يا رسولَ الله. أخرجه البزّار من طريقه. وخالف عمرو بنُ الحارث الليثَ فجعله من مسند عبد الله بن عمرو. ولفظه عن أبي الخير , أنّه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إنّ أبا بكر قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. هكذا رواه ابن وهب عن عمرو، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحّة الحديث. وقد أخرج البخاري طريق عمرو معلقةً في الدّعوات وموصولةً في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (799 , 5967، 6953) ومسلم (2705) من طرق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. (¬2) تقدّمت ترجمته - رضي الله عنه -. رقم (108).

التّوحيد، وكذلك أخرج مسلم الطّريقين طريق الليث وطريق ابن وهب , وزاد مع عمرو بن الحارث رجلاً مبهماً، وبيّن ابن خزيمة في روايته أنّه ابن لهيعة. قوله: (ظلمت نفسي) أي: بملابسة ما يستوجب العقوبة أو ينقص الحظّ. وفيه أنّ الإنسان لا يعرى عن تقصير ولو كان صدّيقاً. قوله: (ولا يغفر الذّنوب إلاَّ أنت) فيه إقرار بالوحدانيّة واستجلاب للمغفرة، وهو كقوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم) الآية، فأثنى على المستغفرين , وفي ضِمْن ثنائه عليهم بالاستغفار , لوّح بالأمر به كما قيل: إنّ كلّ شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكلّ شيء ذمّ فاعله فهو ناهٍ عنه. قوله: (مغفرة من عندك) قال الطّيبيّ: دلَّ التّنكير على أنّ المطلوب غفران عظيم لا يدرك كنهه، ووصفه بكونه من عنده سبحانه وتعالى مريداً لذلك العظم , لأنّ الذي يكون من عند الله لا يحيط به وصف. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما: الإشارة إلى التّوحيد المذكور , كأنّه قال: لا يفعل هذا إلاَّ أنت , فافعله لي أنت. الثّاني: وهو أحسن أنّه إشارة إلى طلب مغفرة متفضّل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره. انتهى. وبهذا الثّاني جزم ابن الجوزيّ. فقال: المعنى هب لي المغفرة تفضّلاً

, وإن لَم أكن لها أهلاً بعملي. قوله: (إنّك أنت الغفور الرّحيم) هما صفتان ذكرتا ختماً للكلام على جهة المقابلة لِمَا تقدّم، فالغفور مقابل لقوله اغفر لي، والرّحيم مقابل لقوله ارحمني، وهي مقابلة مرتّبة. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً. استحباب طلب التّعليم من العالم، خصوصاً في الدّعوات المطلوب فها جوامع الكلم. ولَم يصرّح في الحديث بتعيين محلّه. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي الأمر بهذا الدّعاء في الصّلاة من غير تعيين محلّه، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين - السّجود أو التّشهّد - لأنّهما أمر فيهما بالدّعاء، قال: ولعله ترجّح كونه فيما بعد التّشهّد لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحلّ. ونازعه الفاكهانيّ فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين، أي السّجود والتّشهّد. وقال النّوويّ: استدلال البخاريّ صحيح بقوله " باب الدعاء قبل السلام "، لأنّ قوله " في صلاتي " يعمّ جميعها، ومن مظانّه هذا الموطن. قلت: ويحتمل أن يكون سؤال أبي بكر عن ذلك , كان عند قوله لَمّا علمهم التّشهّد " ثمّ ليتخيّر من الدّعاء ما شاء " , ومن ثَمَّ أعقب البخاري التّرجمة بذلك. قال الطّبريّ: في حديث أبي بكر دلالة على ردّ قول من زعم: أنّه لا

يستحقّ اسم الإيمان إلاَّ من لا خطيئة له ولا ذنب؛ لأنّ الصّدّيق من أكبر أهل الإيمان. وقد علَّمه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقول " إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذّنوب إلاَّ أنت ". وقال الكرمانيّ: هذا الدّعاء من الجوامع؛ لأنّ فيه الاعتراف بغاية التّقصير وطلب غاية الإنعام، فالمغفرة ستر الذّنوب ومحوها، والرّحمة إيصال الخيرات، ففي الأوّل طلب الزّحزحة عن النّار , وفي الثّاني طلب إدخال الجنّة. وهذا هو الفوز العظيم. وقال ابن أبي حمزة ما ملخّصه: في الحديث مشروعيّة الدّعاء في الصّلاة، وفضل الدّعاء المذكور على غيره، وطلب التّعليم من الأعلى وإن كان الطّالب يعرف ذلك النّوع، وخصّ الدّعاء بالصّلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد. (¬1) وفيه أنّ المرء ينظر في عبادته إلى الأرفع فيتسبّب في تحصيله. وفي تعليم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر هذا الدّعاء إشارة إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدّنيا، ولعله فهم ذلك من حال أبي بكر وإيثاره أمر الآخرة. قال: وفي قوله " ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذّنوب إلاَّ أنت " أي: ليس لي حيلة في دفعه فهي حالة افتقار، فأشبه حال المضطرّ الموعود بالإجابة، وفيه هضم النّفس والاعتراف بالتّقصير. تنبيهٌ: المشهور في الرّوايات " ظلماً كثيراً " بالمثلثة , ووقع هنا للقابسيّ بالموحّدة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (482) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -

فائدة: محصّل ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من المواضع التي كان يدعو فيها داخل الصّلاة ستّة مواطن: الأوّل: عقب تكبيرة الإحرام. ففيه حديث أبي هريرة في الصّحيحين " اللهمّ باعد بيني وبين خطاياي " الحديث. الثّاني: في الاعتدال. ففيه حديث ابن أبي أوفى عند مسلم , أنّه كان يقول بعد قوله من شيء بعد: اللهمّ طهّرني بالثّلج والبرد والماء البارد. الثّالث: في الرّكوع. وفيه حديث عائشة: كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك اللهمّ اغفر لي. أخرجاه. الرّابع: في السّجود. وهو أكثر ما كان يدعو فيه وقد أمر به فيه. الخامس: بين السّجدتين. " اللهمّ اغفر لي ". السّادس: في التّشهّد. وكان أيضاً يدعو في القنوت وفي حال القراءة إذا مرّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ.

الحديث التاسع والسبعون

الحديث التاسع والسبعون 128 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزلت عليه (إذا جاء نصر الله والفتح) إلاَّ يقول فيها: سبحانك ربّنا وبحمدك , اللهمّ اغفر لي. (¬1) وفي لفظٍ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك , اللهمّ اغفر لي. (¬2) قوله: (ما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه التّصريح بالمواظبة على ذلك بعد نزول السّورة , قيل: اختار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الصّلاة لهذا القول , لأنّ حالها أفضل من غيرها. وليس في الحديث أنّه لَم يكن يقول ذلك خارج الصّلاة أيضاً، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على ذلك داخل الصّلاة وخارجها، وفي هذه الرواية بيان المحلّ الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه من الصّلاة وهو الرّكوع والسّجود. قوله: (بعد أن نزلت عليه " إذا جاء نصر الله والفتح ") أخرج النّسائيّ من حديث ابن عبّاس أنّها آخر سورة نزلت من القرآن، وقد أخرج البخاري عن البراء - رضي الله عنه - أن براءة آخر سورة نزلت. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4683) ومسلم (484) من طريق الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة به. واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه البخاري (761 , 784، 4042، 4784) ومسلم (484) من طرق عن أبي الضحى عن مسروق عنها.

والجمع بينهما: أنّ آخريّة سورة النّصر نزولها كاملة، بخلاف براءة. فقد قيل: إنَّ المراد بعضها فقل قوله (فإن تابوا وأقاموا الصلاة). وقيل: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) , ويقال: إنّ (إذا جاء نصر الله) نزلت يوم النّحر وهو بمنىً في حجّة الوداع. وقيل: عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً، وليس منافياً للذي قبله بناء على بعض الأقوال في وقت الوفاة النّبويّة. وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عبّاس " عاش بعدها تسع ليالٍ " , وعن مقاتل: سبعاً، وعن بعضهم ثلاثاً، وقيل: ثلاث ساعات. وهو باطل. وأخرج ابن أبي داود في " كتاب المصاحف " بإسنادٍ صحيح عن ابن عبّاس , أنّه كان يقرأ (إذا جاء فتح الله والنّصر). قوله: (سبحانك ربّنا وبحمدك) زادا في رواية لهما " يتأول القرآن " أي: يفعل ما أمر به فيه، وقد تبيّن من هذه الرواية , أنّ المراد بالقرآن بعضه وهو السّورة المذكورة والذّكر المذكور. ووقع في رواية ابن السّكن عن الفربريّ: قال البخاري: يعني قوله تعالى (فسبّح بحمد ربّك) الآية. وفي هذا تعيين أحد الاحتمالين في قوله تعالى (فسبّح بحمد ربّك) لأنّه يحتمل: أن يكون المراد بسبّح , نفس الحمد لِمَا تضمّنه الحمد من معنى التّسبيح الذي هو التّنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود

عليها إلى الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا يكفي في امتثال الأمر الاقتصار على الحمد. ويحتمل: أن يكون المراد , فسبّح متلبّساً بالحمد , فلا يمتثل حتّى يجمعهما وهو الظّاهر. ومعنى قوله " يتأوّل القرآن " يجعل ما أمر به من التّسبيح والتّحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال. وقد أخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن مسروق عن عائشة. فزاد فيه " علامة في أمّتي أمرني ربّي إذا رأيتها أكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتُ جاء نصر الله، والفتح فتح مكّة , ورأيتُ النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً. وقال ابن القيّم في " الهدي ": كأنّه أخذه من قوله تعالى (واستغفره) , لأنّه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور، فيقول إذا سلم من الصّلاة: أستغفر الله ثلاثاً , وإذا خرج من الخلاء قال: غفرانك. وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك (ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس واستغفروا الله) الآية. قلت: ويؤخذ أيضاً من قوله تعالى (إنّه كان توّاباً) , فقد كان يقول عند انقضاء الوضوء: اللهمّ اجعلني من التّوّابين. قوله: (اللهمّ اغفر لي) فيه الرّدّ على من كره الدّعاء في الرّكوع كمالك. وأمّا التّسبيح فلا خلاف فيه، فاهتمّ هنا بذكر الدّعاء لذلك. وحجّة المخالف. الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية ابن عبّاسٍ

مرفوعاً. وفيه " فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ، وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء، فقِمن أن يستجاب لكم ". لكنّه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدّعاء في الرّكوع كما لا يمتنع التّعظيم في السّجود. وظاهر حديث عائشة أنّه كان يقول هذا الذّكر كلّه في الرّكوع. وكذا في السّجود. قال ابن دقيق العيد: يؤخذ من هذا الحديث إباحة الدّعاء في الرّكوع وإباحة التّسبيح في السّجود، ولا يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: أمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ , وأمّا السّجود فاجتهدوا فيه من الدّعاء. قال: ويمكن أن يُحمل حديث الباب على الجواز، وذلك على الأولويّة , ويحتمل: أن يكون أمر في السّجود بتكثير الدّعاء لإشارة قوله " فاجتهدوا " والذي وقع في الرّكوع من قوله " اللهمّ اغفر لي " ليس كثيراً فلا يعارض ما أمر به في السّجود، انتهى. واعترضه الفاكهانيّ: بأنّ قول عائشة: كان يكثر أن يقول " صريح في كون ذلك وقع منه كثيراً فلا يعارض ما أمر به في السّجود. هكذا نقله عنه شيخنا ابن الملقّن في " شرح العمدة "، وقال: فليتأمّل. وهو عجيب، فإنّ ابن دقيق العيد أراد بنفي الكثرة عدم الزّيادة على قوله " اللهمّ اغفر لي " في الرّكوع الواحد، فهو قليل بالنّسبة إلى السّجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدّعاء المشعر بتكثير الدّعاء، ولَم يرد أنّه كان يقول ذلك في بعض

تنبيهٌ: الحديث الذي ذكره ابن دقيق العيد " أمّا الرّكوع إلخ " أخرجه مسلم وأبو داود والنّسائيّ، وفيه بعد قوله " فاجتهدوا في الدّعاء: فقمن أن يستجاب لكم ". وقَمِنٌ. بفتح القاف والميم. وقد تكسر , معناه حقيق. وجاء الأمر بالإكثار من الدّعاء في السّجود، وهو أيضاً عند مسلم وأبي داود والنّسائيّ من حديث أبي هريرة بلفظ: أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدّعاء. والأمر بإكثار الدّعاء في السّجود يشمل الحثّ على تكثير الطّلب لكل حاجة كما جاء في حديث أنس: ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلّها حتّى شسع نعله. أخرجه التّرمذيّ. ويشمل التّكرار للسّؤال الواحد , والاستجابة تشمل استجابة الدّاعي بإعطاء سؤله واستجابة المثني بتعظيم ثوابه.

باب الوتر

باب الوتر الوتر بالكسر الفرد، وبالفتح الثّأر، وفي لغة مترادفان فائدةٌ: قال ابن التّين (¬1): اختلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النّيّة فيه، واختصاص بقراءةٍ، واشتراط شفع قبله، وفي آخر وقته، وصلاته في السّفر على الدّابّة. قلت: وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محلّ القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووصله، وهل تسنّ ركعتان بعده؟، وفي صلاته من قعود. لكن هذا الأخير ينبني على كونه مندوباً أو لا. وقد اختلفوا في أوّل وقته أيضاً، وفي كونه أفضل صلاة التّطوّع، أو الرّواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر. وقد ترجم البخاريّ لبعض ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) هو عبدالواحد بن التين , سبق ترجمته (1/ 151)

الحديث الثمانون

الحديث الثمانون 129 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: سأل رجلٌ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى. فإذا خشي أحدُكم الصّبحَ صلَّى واحدةً. فأوْتَرَتْ له ما صلَّى , وإنّه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً. (¬1) قوله: (سأل رجلٌ) لَم أقف على اسمه. ووقع في المعجم الصّغير للطبرانيّ , أنّ السّائل هو ابن عمر، لكن يعكّر عليه رواية عبد الله بن شقيق عن ابن عمر , أنّ رجلاً سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وأنا بينه وبين السّائل. فذكر الحديث، وفيه. ثمّ سأله رجلٌ على رأس الحول , وأنا بذلك المكان منه , قال: فما أدري أهو ذلك الرّجل أو غيره. (¬2) وعند النّسائيّ من هذا الوجه , أنّ السّائل المذكور من أهل البادية. وعند محمّد بن نصر في " كتاب أحكام الوتر " - وهو كتاب نفيس في مجلدة - من رواية عطيّة عن ابن عمر , أنّ أعرابيّاً سأل. فيحتمل: أن يجمع بتعدّد من سأل، فأنّ السّؤال المذكور وقع في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (460 , 461) ومسلم (749) من طرق عن نافع (زاد مالك: عبد الله بن دينار) عن ابن عمر به. وأخرجه البخاري (1086) ومسلم (749) من طرق الزهري عن سالم عن أبيه نحوه. وأخرجه البخاري (948 , 950) ومسلم (749) من طرق أخرى عن ابن عمر نحوه (¬2) رواية عبد الله بن شقيق. أخرجها مسلم (749).

المسجد , والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على المنبر (¬1). قوله: (في صلاة الليل) في رواية أيّوب عن نافع عند البخاري: أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل " ونحوه في رواية سالم عن أبيه. وقد تبيّن من الجواب: أنّ السّؤال وقع عن عددها أو عن الفصل والوصل، وفي رواية محمّد بن نصر من طريق أيّوب عن نافع عن ابن عمر , قال: قال رجل: يا رسولَ الله كيف تأمرنا أن نُصلِّي من الليل؟. وأمّا قول ابن بزيزة جوابه بقوله " مثنى " يدلّ على أنّه فهم من السّائل طلب كيفيّة العدد لا مطلق الكيفيّة , ففيه نظرٌ، وأولى ما فسّر به الحديث من الحديث. واستدل بمفهومه: على أنّ الأفضل في صلاة النّهار أن تكون أربعاً , وهو عن الحنفيّة وإسحاق. وتعقّب: بأنّه مفهوم لقب , وليس بحجّةٍ على الرّاجح، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصرٍ في أربع، وبأنّه خرج جواباً للسّؤال عن صلاة الليل , فقيّد الجواب بذلك مطابقة للسّؤال، وبأنّه قد تبيّن عن رواية أخرى أنّ حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به، ففي ¬

_ (¬1) أمَّا التصريح بأنه على المنبر ففي رواية الباب التي ساقها المقدسي. أمَّا التصريح بكونها في المسجد. ففي مسلم (749) من طريق الوليد بن كثير عن عبيد الله بن عبيد الله بن عمر عن أبيه. وعلَّقها البخاري (473) باب الحلق والجلوس في المسجد.

السّنن وصحّحه ابن خزيمة وغيره من طريق على الأزديّ عن ابن عمر مرفوعاً: صلاة الليل والنّهار مثنى مثنى. وقد تعقّب هذا الأخير: بأنّ أكثر أئمّة الحديث أعلّوا هذه الزّيادة. وهي قوله " والنّهار " بأنّ الحفّاظ من أصحاب ابن عمر لَم يذكروها عنه , وحكم النّسائيّ على راويها بأنّه أخطأ فيها. وقال يحيى بن معين: مَن عليّ الأزديّ حتّى أقبل منه؟. وادّعى يحيى بن سعيد الأنصاريّ عن نافع , أنّ ابن عمر كان يتطوّع بالنّهار أربعاً لا يفصل بينهنّ , ولو كان حديث الأزديّ صحيحاً لَمَا خالفه ابن عمر، يعني مع شدّة اتّباعه. رواه عنه محمّد بن نصر في " سؤالاته ". لكن روى ابن وهب بإسناد قويّ عن ابن عمر قال: صلاة الليل والنّهار مثنى مثنى. موقوف. أخرجه ابن عبد البرّ من طريقه. فلعل الأزديّ اختلط عليه الموقوف بالمرفوع , فلا تكون هذه الزّيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصّحيح أن لا يكون شاذّاً. وقد روى ابن أبي شيبة عن وجه آخر عن ابن عمر , أنّه كان يُصلِّي بالنّهار أربعاً أربعاً , وهذا موافق لِمَا نقله ابن معين. قوله: (مثنى مثنى) أي: اثنين اثنين، وهو غير منصرف لتكرار العدل فيه. قاله صاحب الكشّاف. وقال آخرون: للعدل والوصف. وأمّا إعادة مثنى. فللمبالغة في التّأكيد، وقد فسّره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم عن طريق عقبة بن حريث قال: قلت لابن عمر:

ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تُسلّم من كلّ ركعتين. وفيه ردّ على من زعم من الحنفيّة: أنّ معنى مثنى أن يتشهّد بين كلّ ركعتين , لأنّ راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسّره به هو المتبادر إلى الفهم , لأنّه لا يقال في الرّباعيّة مثلاً إنّها مثنى. واستدل بهذا على تعيّن الفصل بين كلّ ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السّياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنّه لبيان الأفضل لِمَا صحّ من فعله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه، ولَم يتعيّن أيضاً كونه لذلك، بل يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخفّ، إذ السّلام بين كلّ ركعتين أخفّ على المُصلِّي من الأربع فما فوقها , لِمَا فيه من الرّاحة غالباً وقضاء ما يعرض من أمر مهمّ، ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط لَم يواظب عليه - صلى الله عليه وسلم -. ومن ادّعى اختصاصه به فعليه البيان. وقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - الفصل كما صحّ عنه الوصل، فعند أبي داود ومحمّد بن نصر من طريقي الأوزاعيّ وابن أبي ذئب كلاهما عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة , يُسلِّم من كلّ ركعتين. وإسنادهما على شرط الشّيخين. واستدل به أيضاً على عدم النّقصان عن ركعتين في النّافلة ما عدا الوتر. قال ابن دقيق العيد: والاستدلال به أقوى من الاستدلال بامتناع

قصر الصّبح في السّفر إلى ركعة. يشير بذلك إلى الطّحاويّ , فإنّه استدل على منع التّنفّل بركعةٍ بذلك. واستدل بعض الشّافعيّة للجواز بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: الصّلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل. صحّحه ابن حبّان. وقد اختلف السّلف في الفصل والوصل في صلاة الليل أيّهما أفضل: وقال الأثرم عن أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، فإن صلَّى بالنّهار أربعاً فلا بأس. وقال محمّد بن نصر نحوه في " صلاة الليل " قال: وقد صحّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه أوتر بخمسٍ لَم يجلس إلاَّ في آخرها (¬1) , إلى غير ذلك من الأحاديث الدّالة على الوصل، إلاَّ أنّا نختار أن يسلم من كلّ ركعتين , لكونه أجاب به السّائل ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقاً. وقد تضمّن كلامه الرّدّ على الدّاوديّ (¬2) الشارح ومن تبعه , في دعواهم أنّه لَم يثبت عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه صلَّى النّافلة أكثر من ركعتين ركعتين. قوله: (فإذا خشي أحدُكم الصّبحَ) استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو داود والنّسائيّ وصحّحه ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة الآتي برقم (131) (¬2) هو أحمد بن نصر , سبق ترجمته (1/ 312)

أبو عوانة وغيره من طريق سليمان بن موسى عن نافع أنّه حدّثه , أنّ ابن عمر كان يقول: من صلَّى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً , فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كلّ صلاة الليل والوتر. وفي صحيح ابن خزيمة من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً: من أدركه الصّبح ولَم يوتر , فلا وتر له. وهذا محمول على التّعمّد , أو على أنّه لا يقع أداء، لِمَا رواه من حديث أبي سعيد أيضاً مرفوعاً: من نسي الوتر أو نام عنه , فليصله إذا ذكره. وقيل معنى قوله " إذا خشي أحدكم الصّبح " , أي: وهو في شفع , فلينصرف على وتر. وهذا ينبني على أنّ الوتر لا يفتقر إلى نيّة. وحكى ابن المنذر عن جماعة من السّلف: أنّ الذي يخرج بالفجر وقته الاختياريّ , ويبقى وقت الضّرورة إلى قيام صلاة الصّبح، وحكاه القرطبيّ عن مالك والشّافعيّ وأحمد، وإنّما قاله الشّافعيّ في القديم. وقال ابن قدامة: لا ينبغي لأحدٍ أن يتعمّد ترك الوتر حتّى يصبح. واختلف السّلف في مشروعيّة قضائه. فنفاه الأكثر، وفي مسلم وغيره عن عائشة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره , فلم يقم من الليل , صلَّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة.

وقال محمّد بن نصر: لَم نجد عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الأخبار أنّه قضى الوتر , ولا أمر بقضائه، ومن زعم أنّه - صلى الله عليه وسلم - في ليلة نومهم عن الصّبح في الوادي قضى الوتر فلم يصب. وعن عطاء والأوزاعيّ: يقضي ولو طلعت الشّمس، وهو وجه عند الشّافعيّة. حكاه النّوويّ في شرح مسلم. وعن سعيد بن جبير: يقضي من القابلة. وعن الشّافعيّة: يقضي مطلقاً، ويستدلّ لهم بحديث أبي سعيد المتقدّم. والله أعلم فائدةٌ: يؤخذ من سياق هذا الحديث. أنّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشّمس من النّهار شرعاً، وقد روى ابن دريد في أماليه بسندٍ جيّد , أنّ الخليل بن أحمد سئل عن حدّ النّهار , فقال: من الفجر المستطير إلى بداءة الشّفق. وحكي عن الشّعبيّ , أنّه وقت منفرد لا من الليل ولا من النّهار. (¬1) قوله: (صلَّى واحدة) في رواية لهما " صلَّى ركعة واحدة " , وفي رواية الشّافعيّ وعبد الله بن وهب ومكّيِّ بن إبراهيم ثلاثتهم عن مالك " فليصل ركعة " أخرجه الدّارقطنيّ في " الموطّآت ". هكذا بصيغة الأمر. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 619): هذا القول المحكي عن الشعبي باطلٌ , لأنَّ الأدلة الشرعية دالة على أنه من النهار في حكم الشرع. أعني بذلك ما بعد طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. والله أعلم

وللبخاري بصيغة الأمر أيضاً من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن ابن عمر: فإذا أردت أن تنصرف، فاركع ركعة توتر لك ما صليت , قال القاسم (¬1): ورأينا أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإنَّ كلاً لواسع أرجو أن لا يكون بشيء منه. ولمسلمٍ من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه مرفوعاً نحوه. واستدل بهذا على أنّه لا صلاة بعد الوتر، وقد اختلف السّلف في ذلك في موضعين. أحدهما: في مشروعيّة ركعتين بعد الوتر عن جلوس. الثّاني: فيمن أوتر , ثمّ أراد أن يتنفّل في الليل , هل يكتفي بوتره الأوّل وليتنفّل ما شاء. أو يشفع وتره بركعةٍ ثمّ يتنفّل , ثمّ إذا فعل ذلك. هل يحتاج إلى وتر آخر أو لا؟ فأمّا الأوّل: فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي ركعتين بعد الوتر وهو جالس. وقد ذهب إليه بعض أهل العلم , وجعلوا الأمر في قوله " اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً " مختصّاً بمن أوتر آخر الليل. وأجاب من لَم يقل بذلك: بأنّ الرّكعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر. وحمله النّوويّ: على أنّه - صلى الله عليه وسلم - فعله لبيان جواز التّنفّل بعد الوتر ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في " الفتح " (2/ 485): وقوله فيه (قال القاسم) هو بالإسناد المذكور. كذلك أخرجه أبو نعيم في " مستخرجه ". ووهم من زعم أنه معلَّق.

وجواز التّنفّل جالساً. وأمّا الثّاني: فذهب الأكثر إلى أنّه يُصلِّي شفعاً ما أراد , ولا ينقض وتره. عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا وتران في ليلة. وهو حديث حسن. أخرجه النّسائيّ وابن خزيمة وغيرهما من حديث طلق بن عليٍّ. وإنّما يصحّ نقض الوتر عند من يقول بمشروعيّة التّنفّل بركعةٍ واحدة غير الوتر. وروى محمّد بن نصر من طريق سعيد بن الحارث , أنّه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصّبح , ولا النّوم فاشفع , ثمّ صلِّ ما بدا لك , ثمّ أوتر، وإلا فصلِّ واترك على الذي كنت أوترت. ومن طريق أخرى عن ابن عمر , أنّه سئل عن ذلك فقال: أمّا أنا فأصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة. فقيل: أرأيت إن أوترت قبل أن أنام ثمّ قمت من الليل فشفعت حتّى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس. واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - " صلِّ ركعة واحدة " على أنّ فصل الوتر أفضل من وصله. وتعقّب: بأنّه ليس صريحاً في الفصل، فيحتمل أن يريد بقوله " صلِّ ركعة واحدة " أي: مضافة إلى ركعتين ممّا مضى. واحتجّ بعض الحنفيّة لِمَا ذهب إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث: بأنّ الصّحابة أجمعوا على أنّ الوتر بثلاثٍ موصولة حسنٌ جائزٌ، واختلفوا فيما عداه، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما

اختلفوا فيه. وتعقّبه محمّد بن نصر المروزيّ: بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً: لا توتروا بثلاثٍ تشبهوا بصلاة المغرب. وقد صحّحه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة والأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، وإسناده على شرط الشّيخين، وقد صحّحه ابن حبّان والحاكم. ومن طريق مقسم عن ابن عبّاس وعائشة كراهية الوتر بثلاثٍ، وأخرجه النّسائيّ أيضاً. وعن سليمان بن يسار , أنّه كره الثّلاث في الوتر , وقال: لا يشبه التّطوّع الفريضة. فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله. وأمّا قول محمّد بن نصر: لَم نجد عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خبراً ثابتاً صريحاً أنّه أوتر بثلاثٍ موصولة. نعم. ثبت عنه أنّه أوتر بثلاثٍ، لكن لَم يبيّن الرّاوي. هل هي موصولة أو مفصولة. انتهى. فيردّ عليه ما رواه الحاكم من حديث عائشة , أنّه كان - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاثٍ لا يقعد إلاَّ في آخرهنّ. وروى النّسائيّ من حديث أبيّ بن كعب نحوه. ولفظه: يوتر (بسبّح اسم ربّك الأعلى) و (قل يا أيّها الكافرون) و (قل هو الله أحد) , ولا يُسلِّم إلاَّ في آخرهنّ. وبيّن في عدّة طرق أنّ السّور الثّلاث بثلاث ركعات. ويجاب عنه: باحتمال أنّهما لَم يثبتا عنده. والجمع بين هذا وبين ما تقدّم من النّهي عن التّشبّه بصلاة المغرب.

أنْ يُحمل النّهي على صلاة الثّلاث بتشهّدين. وقد فعله السّلف أيضاً. فروى محمّد بن نصر من طريق الحسن , أنّ عمر كان ينهض في الثّالثة من الوتر بالتّكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة , أنّ عمر أوتر بثلاثٍ لَم يسلم إلاَّ في آخرهنّ، ومن طريق ابن طاوسٍ عن أبيه , أنّه كان يوتر بثلاثٍ لا يقعد بينهنّ، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحمّاد بن زيد عن أيّوب مثله. وروى محمّد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية , أنّهم أوتروا بثلاثٍ كالمغرب. وكأنّهم لَم يبلغهم النّهي المذكور، ولكنّ النّزاع في تعيّن ذلك فإنّ الأخبار الصّحيحة تأباه. وقوله في رواية القاسم " فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة " فيه دفعٌ لقول من ادّعى: أنّ الوتر بواحدةٍ مختصّ بمن خشي طلوع الفجر , لأنّه علَّقه بإرادة الانصراف , وهو أعمّ من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك. وقوله فيه " منذ أدركنا " أي بلغنا الحلم أو عقلنا، وقوله " يوترون بثلاثٍ وإنَّ كلاً لواسعٌ " , يقتضي أنّ القاسم فهم من قوله " فاركع ركعة " أي: منفردة منفصلة، ودلَّ ذلك على أنّه لا فرق عنده بين الوصل والفصل في الوتر. والله أعلم. قوله: (فأوترتْ له ما صلَّى) استدل به على أنّ الرّكعة الأخيرة هي الوتر , وأنّ كلّ ما تقدّمها شفع. وادّعى بعض الحنفيّة: أنّ هذا إنّما يشرع لمن طرقه الفجر قبل أن

يوتر , فيكتفي بواحدة لقوله " فإذا خشي الصّبح " , فيحتاج إلى دليل تعيّن الثّلاث. وذكرنا ما فيه من رواية القاسم الماضية. واستدل به على تعيّن الشّفع قبل الوتر , وهو عن المالكيّة بناء على أنّ قوله " ما قد صلَّى " أي: من النّفل. وحمله من لا يشترط سبق الشّفع على ما هو أعمّ من النّفل والفرض , وقالوا: إنّ سبقَ الشّفعِ شرطٌ في الكمال لا في الصّحّة. ويؤيّده حديث أبي أيّوب مرفوعاً: الوتر حقّ، فمن شاء أوتر بخمسٍ , ومن شاء بثلاثٍ , ومن شاء بواحدةٍ. أخرجه أبو داود والنّسائيّ وصحّحه ابن حبّان والحاكم. وصحّ عن جماعة من الصّحابة , أنّهم أوتروا بواحدةٍ من غير تقدّم نفل قبلها. ففي كتاب محمّد بن نصر وغيره بإسنادٍ صحيح عن السّائب بن يزيد , أنّ عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لَم يصلِّ غيرها. وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن ثعلبة , أنّ سعداً أوتر بركعةٍ، ولمحمد بن نصر في كتاب الوتر عن معاوية , أنّه أوتر بركعةٍ وأنّ ابن عبّاس استصوبه. وفي كلّ ذلك ردّ على ابن التّين في قوله: إنّ الفقهاء لَم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك، وكأنّه أراد فقهاءهم. تكميلٌ. زاد البخاري عن نافع , أنَّ عبد الله بن عمر كان يسلم بين

الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته. ظاهره أنّه كان يُصلِّي الوتر موصولاً فإنْ عرضت له حاجة فَصَلَ , ثمّ بنى على ما مضى، وفي هذا دفع لقول مَن قال: لا يصحّ الوتر إلاَّ مفصولاً. وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عن بكر بن عبد الله المزنيّ قال: صلَّى ابن عمر ركعتين , ثمّ قال: يا غلام أرْحِل لنا، ثمّ قام فأوتر بركعةٍ. وروى الطّحاويّ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه , أنّه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمةٍ، وأخبر أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله. وإسناده قويّ. ولَم يعتذر الطّحاويّ عنه إلاَّ باحتمال أن يكون المراد بقوله " بتسليمةٍ " أي: التّسليمة التي في التّشهّد , ولا يخفى بعد هذا التّأويل. والله أعلم

الحديث الواحد والثمانون

الحديث الواحد والثمانون 130 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: مِنْ كلِّ الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , من أوّلِ الليلِ , وأوسطِه , وآخرِه. وانتهى وترُه إلى السّحر (¬1) قوله: (مِنْ كلِّ الليل) في رواية لهما " كلَّ الليل " بنصب كل على الظّرفيّة , وبالرّفع على أنّه مبتدأٌ , والجملة خبره , والتّقدير أوتر فيه. والليل كلّه وقت للوتر، لكن أجمعوا على أنّ ابتداءه مغيب الشّفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن المنذر. لكن أطلق بعضهم: أنّه يدخل بدخول العشاء، قالوا: ويظهر أثر الخلاف فيمن صلَّى العشاء وبان أنّه كان بغير طهارة ثمّ صلَّى الوتر متطهّراً , أو ظنّ أنّه صلَّى العشاء فصلَّى الوتر , فإنّه يجزئ على هذا القول دون الأوّل. ولا معارضة بين وصيّة أبي هريرة بالوتر قبل النّوم (¬2) وبين قول عائشة " وانتهى وتره إلى السّحر " , لأنّ الأوّل لإرادة الاحتياط، والآخر لمن علم من نفسه قوّة، كما ورد في حديث جابر عند مسلم ولفظه: من طَمِع منكم أن يقوم آخر الليل فليوتر من آخره، فإنّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (996) ومسلم (745) من طرق عن مسروق عنها. واللفظ لمسلم. وليس عند البخاري قوله (من أوله وأوسطه وآخره). (¬2) متفق عليه. وسيأتي إن شاء الله في كتاب الصيام برقم (203)

صلاة آخر الليل مشهودة. وذلك أفضل. ومن خاف منكم أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوّله. قوله: (إلى السّحر) زاد أبو داود والتّرمذيّ " حين مات " , ويحتمل: أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال. فحيث أوتر في أوّله لعله كان وجعاً. وحيث أوتر وسطه لعله كان مسافراً. وأمّا وتره في آخره , فكأنّه كان غالب أحواله لِمَا عرف من مواظبته على الصّلاة في أكثر الليل. والله أعلم والسّحر. قُبيل الصّبح. وحكى الماورديّ: أنّه السّدس الأخير. وقيل: أوّله الفجر الأوّل , وفي رواية طلحة بن نافعٍ عن ابن عبّاس عند ابن خزيمة: فلمّا انفجر الفجر قام فأوتر بركعةٍ. قال ابن خزيمة: المراد به الفجر الأوّل. وروى أحمد من حديث معاذٍ مرفوعاً: زادني ربّي صلاةً , وهي الوتر , وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر. وفي إسناده ضعفٌ. (¬1) وكذا في حديث خارجة بن حذافة في السّنن , وهو الذي احتجّ به مَن قال بوجوب الوتر , وليس صريحاً في الوجوب. والله أعلم. ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (22095) من طريق عبيد الله بن زحر عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية , أن معاذ بن جبل قدم الشام - وأهل الشام لا يوترون - فقال لمعاوية: ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟ فقال معاوية: وواجب ذلك عليهم؟ قال: نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكره.

وأمّا حديث بريدة رفعه: الوتر حقٌّ , فمن لَم يوتر فليس منّا , وأعاد ذلك ثلاثاً. ففي سنده أبو المنيب , وفيه ضعفٌ. وعلى تقدير قبوله. فيحتاج من احتجّ به إلى أن يثبت أنّ لفظ " حقٍّ " بمعنى واجب في عرف الشّارع , وأنّ لفظ واجبٍ بمعنى ما ثبت من طريق الاحاد. (¬1) ¬

_ (¬1) تقدم ذكر الخلاف في حكم الوتر , ونقل أدلة الموجب والرد عليها. انظر حديث ابن عمر برقم (72) وحديث عائشة برقم (114).

الحديث الثاني والثمانون

الحديث الثاني والثمانون 131 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً يوتر من ذلك بخمسٍ , لا يجلس في شيءٍ إلاَّ في آخرها. (¬1) قوله: (يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً) وللبخاري عن مسروق، قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل؟ فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة، سوى ركعتي الفجر " , وما أجابت به مسروقاً فمرادها , أنّ ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يُصلِّي سبعاً وتارة تسعاً وتارة إحدى عشرة. وأمّا حديث القاسم عنها عند البخاري " كان يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة , منها الوتر وركعتا الفجر , وفي رواية مسلم من هذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (737) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. بتمامه. ولَم يخرّجه البخاري في صحيحه بهذا اللفظ , وإنما أخرج نحوه برقم (1140) من طريق حنظلة عن القاسم عن عائشة بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر. قال الشيخ أبو الحسن عبيد الله بن محمد المبارك فوري رحمه الله. في كتابه " مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (4/ 263) بعد أن عزاه التبريزي للمتفق عليه. قال: فيه نظر؛ لأنَّ قوله: يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلاَّ في آخرها، ليس عند البخاري، بل هو من أفراد مسلم، وكأن المصنف قلَّد في ذلك الجزري وصاحب المنتقى والمنذري حيث نسبوا هذا السياق إلى الشيخين، والعجب من الحافظ أنه قال بعد ذكره في بلوغ المرام: متفق عليه. مع أنه عزاه في التلخيص لمسلم فقط، اللهم إلاَّ أن يقال: إنهم أرادوا بذلك أنَّ أصل الحديث متفق عليه لا السياق المذكور بتمامه، ولا يخفى ما فيه. انتهى

الوجه " كانت صلاته عشر ركعات , ويوتر بسجدة , ويركع ركعتي الفجر , فتلك ثلاث عشرة " , فمحمولٌ على أنّ ذلك كان غالب حاله. وللبخاري ومسلم من رواية أبي سلمة عنها , أنّ ذلك كان أكثر ما يصليه في الليل، ولفظه " ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة " الحديث، وفيه ما يدلّ على أنّ ركعتي الفجر من غيرها , فهو مطابق لرواية القاسم. وأمّا ما رواه الزّهريّ عن عروة عنها كما في البخاري بلفظ: كان يُصلِّي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثمّ يُصلِّي إذا سمع النّداء بالصّبح ركعتين خفيفتين. فظاهره يخالف ما تقدّم. فيحتمل: أن تكون أضافت إلى صلاة الليل سنّة العشاء , لكونه كان يُصلِّيها في بيته. أو: ما كان يفتتح به صلاة الليل , فقد ثبت عند مسلم من طريق سعد بن هشام عنها , أنّه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين. وهذا أرجح في نظري , لأنّ رواية أبي سلمة التي دلَّت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند البخاري وغيره: يُصلِّي أربعاً ثمّ أربعاً ثمّ ثلاثاً. فدلَّ على أنّها لَم تتعرّض للرّكعتين الخفيفتين , وتعرّضت لهما في رواية الزّهريّ.

والزّيادة من الحافظ مقبولة، وبهذا يجمع بين الرّوايات. وينبغي أن يستحضر هنا ذكر الرّكعتين بعد الوتر , والاختلاف هل هما الرّكعتان بعد الفجر أو صلاة مفردة بعد الوتر؟. ويؤيّده ما وقع عند أحمد وأبي داود من رواية عبد الله بن أبي قيس عن عائشة بلفظ " كان يوتر بأربعٍ وثلاث، وستّ وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولَم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة , ولا أنقص من سبع. وهذا أصحُّ ما وقفت عليه من ذلك، وبه يجمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك. والله أعلم. قال القرطبيّ: أشْكلَتْ روايات عائشة على كثير من أهل العلم , حتّى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنّما يتمّ لو كان الرّاوي عنها واحداً أو أخبرت عن وقت واحد: والصّواب أنّ كلّ شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النّشاط وبيان الجواز. والله أعلم. وظهر لي أنّ الحكمة في عدم الزّيادة على إحدى عشرة. أنّ التّهجّد والوتر مختصّ بصلاة الليل، وفرائض النّهار - الظّهر وهي أربع , والعصر وهي أربع , والمغرب وهي ثلاث وتر النّهار - فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النّهار في العدد جملة وتفصيلاً وأمّا مناسبة ثلاث عشرة , فبضمّ صلاة الصّبح , لكونها نهاريّة إلى ما بعدها

قوله: (يوتر من ذلك بخمسٍ , لا يجلس في شيءٍ إلاَّ في آخرها) (¬1). ¬

_ (¬1) هذه اللفظة لَم يخرجها البخاري كما ذكرتُه قبلاً , ولذا لَم يتكلَّم عليه ابن حجر. قال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري (9/ 102): وقد تكلَّم في حديث هشام هذا غيرُ واحدٍ. قال ابن عبد البر: قد أنكره مالك. وقال: مذ صار هشام إلى العراق أتانا عنه ما لَم يعرف منه. وقد أعلَّه الأثرم بأنه يقال في حديثه: كان يوتر بواحدة، كذا رواه مالك وغيره عن الزهري. ورواه عمرو بن الحارث ويونس عن الزهري، وفي حديثهما: يُسلّم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة , وقد خرجه مسلم من طريقهما أيضاً. وكذا رواه ابن أبي ذئب والأوزاعي عن الزهري. خرَّج حديثهما أبو داود 0 قال الأثرم: وقد روى هذا الحديث عن عائشة غير واحد، لَم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه من سرْد الخمس. ورواه القاسم عن عائشة، في حديثه: يوتر بواحدة. ولَم يوافق هشاماً على قوله إلاَّ ابن إسحاق، فرواه عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة - بنحو رواية هشام. وخرجه أبو داود من طريقه كذلك. ورواه أيضا سعد بن هشام عن عائشة، واختلف عليه فيه: فخرجه مسلم من رواية قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام، أنه سأل عائشةَ عن وتر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان يُصلِّي تسع ركعات، لا يجلس إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثُمَّ ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يقعد، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يُصلِّي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني. وقد خرّجه أبو داود بلفظ آخر، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي ثمان ركعات، لا يجلس فيهن إلاَّ عند الثامنة، فيجلس فيذكر الله، ثم يدعو، ثم يسلّم تسليماً، ثم يُصلِّي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يُصلِّي ركعة، فتلك إحدى عشرة ركعة. وفي هذه الرواية: أنه كان يُصلِّي الركعتين جالساً قبل الوتر، ثم يوتر بعدها بواحدة. وهذا يخالف ما في رواية مسلم. ورواه سعد بن هشام عن عائشة، واختلف عليه في لفظه: فروي عنه: الوتر بتسعٍ، وروي عنه: بواحدة. ورواه أبان عن قتادة بهذا الإسناد، ولفظه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، ولا يقعد إلاَّ في آخرهن. قال الإمام أحمد: فهذه الرواية خطأ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يشير إلى إنها مختصرة من رواية قتادة المبسوطة. وقد روي في هذا المعنى من حديث ابن عباس وأم سلمة. وقد تكلَّم الأثرم في إسنادهما. وطعن البخاري في حديث أم سلمة بانقطاعه، وذكر أنَّ حديث ابن عمر في الوتر بركعة , أصحُّ من ذلك .. ثم قال ابن رجب: وأجاز أحمد وأصحابه وإسحاق , أن يوتر بثلاث موصولة، وأن يوتر بخمس لا يجلس إلاَّ في آخرهن، وبتسع لا يجلس إلاَّ في الثامنة، ولا يسلم ثم يقوم فيصلّي ركعة، ثم يسلم؛ لِمَا جاء في حديث عائشة المتقدم. وجعلوا هذه النصوص خاصةً تخص عموم حديث صلاة الليل مثنى مثنى، وقالوا في التسع والسبع والخمس: الأفضل أن تكون بسلام واحد؛ لذلك. فأما الوتر بسبع، فنصَّ أحمد على أنه لا يجلس إلاَّ في آخرهن. ومن أصحابنا مَن قال: يجلس عقيب السادسة بتشهد، ولا يسلم. وقد اختلف ألفاظ حديث عائشة في ذلك. انتهى كلام ابن رجب. وقال الشيخ أبو الحسن المبارك فوري رحمه الله في " مرعاة المفاتيح ": قوله: (لا يجلس في شيء) أي: للتشهد. (إلاَّ في آخرها) أي: لا يجلس في ركعة من الركعات الخمس إلاَّ في آخرهن، وفيه دليل على مشروعية الإيتار بخمس ركعات بقعدة واحدة، وهذا أحد أنواع إيتاره - صلى الله عليه وسلم - كما أنَّ الإيتار بواحدة أحدها كما أفاده حديثها السابق , وعلى أنَّ القعود على آخر كل ركعتين غير واجب. ففيه ردٌ على مَن قال بتعيين الثلاث، وبوجوب القعود بعد كل من الركعتين. قال الترمذي: وقد رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم الوتر بخمس، وقالوا: لا يجلس في شيء منهن إلاَّ في آخرهن، وروى محمد بن نصر في " قيام الليل " عن إسماعيل بن زيد , أنَّ زيد بن ثابت كان يوتر بخمس ركعات لا ينصرف فيها. أي: لا يسلم. وقال الشيخ سراج أحمد السرهندي في شرح الترمذي: وهو مذهب سفيان الثوري، وبعض الأئمة. انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وهو الظاهر من كلام الشافعي ومذهبه، فقد حكى الربيع بن سليمان في (اختلاف مالك والشافعي) الملحق بكتاب الأم (ج7 ص189) أنه سأل الشافعي عن الوتر بواحدة ليس قبلها شيء؟ , فقال الشافعي: نعم، والذي أختار أن أصلي عشر ركعات ثم أوتر بواحدة. ثم حكى الحجة عنه في ذلك. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثم قال: قال الشافعي: وقد أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بخمس ركعات. لا يجلس ولا يسلم إلاَّ في الآخرة منهن " فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلة يسع أن يوتر بواحدة وأكثر، ونختار ما وصفت من غير أن نضيق غيره. وانظر المجموع للنووي (ج4 ص12، 13) فقد رجح جواز هذا لدلالة الأحاديث الصحيحة عليه. انتهى والحديث مُشكل على الحنفية جداً، فإنهم قالوا بوجوب القعود والتشهد بعد كل من الركعتين في الفرض والنفل جميعاً، وأجابوا عنه بوجوه كلها مردودة باطلة. أحدها: أنَّ المعنى لا يجلس في شيء للسلام بخلاف ما قبله من الركعات، ذكره القاري. وقد رده صاحب البذل حيث قال: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الحنفية قائلون بأنَّ الوتر ثلاث لا يجوز الزيادة عليها، فإذا صلَّى خمس ركعات، فإن نوى الوتر في أول التحريمة لا يجوز ذلك؛ لأنَّ الزيادة على الثلاث ممنوعة، وإن نوى النفل في أول التحريمة لا يؤدي الوتر بنية النفل. وإن قيل: إنها كانت في ابتداء الإسلام ثم استقرَّ الأمر على أنَّ الوتر ثلاث ركعات. فينافيه حديث زرارة بن أوفي عند أبي داود: فلم تزل تلك صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدن، فنقص من التسع ثنتين، فجعلها إلى الست والسبع وركعتيه وهو قاعد حتى قبض على ذلك. وثانيها: أنَّ المنفي جلسة الفراغ والاستراحة , أي: لا يجلس في شيء من الخمس جلسة الفراغ والاستراحة إلاَّ في آخرها. أي: بعد الركعة الآخرة، يعني بعد الفراغ منها، وكانت الركعتان نافلتي الوضوء أو غيرها والثلاثة وتراً. وفيه أنَّ تخصيص الجلوس المنفي بجلوس الاستراحة والفراغ يحتاج إلى دليل، وإذ لا دليل على ذلك فهو مردود على قائله، على أنَّ قوله: إلاَّ في آخرهن يدلُّ على وجود الجلوس في آخر الركعات الخمس، بناء على أنَّ " في " للظرفية، وهي تقتضي تحقق الجلوس داخل الصلاة لا خارجها، وعلى أنَّ الأصل في الاستثناء الاتصال، وهذا ينافي كون المراد بالجلوس المنفي جلسة الفراغ. وثالثها: أنَّ المعنى لَم يكن يُصلِّي من تلك الخمس جالساً , إذ قد ورد أنه كان يُصلِّي قائماً وقاعداً، وعلى هذا فالمنفي من الجلوس هو الجلوس مقام، والاستثناء في قوله: إلاَّ في آخرهن منقطع، كما في الوجه الثاني , والمعنى لا يُصلِّي جالساً إلاَّ بعد أن يفرغ من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الخمس. وهذا أيضاً مردودٌ لِمَا تقدم آنفاً. ورابعها: أنَّ المراد بقوله " آخرهن " الركعتان الأخيرتان، فالثلاثة الأول من الخمس وتر , والركعتان بعده هما اللتان كان يُصلّيهما النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً بعد الوتر، والمعنى لَم يكن يُصلِّي شيئاً من تلك الخمس جالساً إلاَّ الركعتين الأخيرتين منها، وعلى هذا فالاستثناء متصل. وفيه أنَّ هذا يردُّه قوله: يوتر من ذلك بخمس؛ لأنه يدل على أنَّ الركعات الخمس كلها ركعات الوتر. ويبطله أيضاً رواية الشافعي بلفظ: كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلاَّ في الآخرة منها، ورواية أبي داود " يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة فيسلم " وهذا ظاهر. وخامسها: أنَّ المراد بآخرهن الركعة الأخيرة , والمنفي بالجلوس الجلوس الخاص وهو الذي فيه تشهد بلا تسليم، فالمعنى لا يجلس بهذه المثابة إلاَّ في ابتداء الركعة الأخيرة. وأما الجلوس بعد الركعتين فهو على المعروف المتبادر يعني مع التسليم. وهذا أيضاً مردود , يردُّه رواية الشافعي وأبي داود، كما لا يخفي. وهذه الوجوه كلها تحريف للحديث الصحيح وإبطال لمؤاده. انتهى كلام صاحب المرعاة.

باب الذكر عقب الصلاة

باب الذكر عقب الصّلاة الحديث الثالث والثمانون 132 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه -: أنّ رفع الصّوت بالذّكر حين ينصرف النّاس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبّاسٍ: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. (¬1) وفي لفظٍ: ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , إلاَّ بالتّكبير. (¬2) قوله: (كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه أنّ مثل هذا عند البخاريّ يُحكم له بالرّفع خلافاً لمن شذّ ومنع ذلك، وقد وافقه مسلم والجمهور على ذلك. وفيه دليل على جواز (¬3) الجهر بالذّكر عقب الصّلاة. قال الطّبريّ: فيه الإبانة عن صحّة ما كان يفعله بعض الأمراء من التّكبير عقب الصّلاة. وتعقّبه ابن بطّال: بأنّه لَم يقف على ذلك عن أحد من السّلف إلاَّ ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (805) ومسلم (583) من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس عنه به. (¬2) أخرجه البخاري (806) ومسلم (583) من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس - رضي الله عنه - به. واللفظ لمسلم. (¬3) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 420) لو قال " شرعية الجهر " لكان أصح. والله أعلم

حكاه ابن حبيب في " الواضحة " أنّهم كانوا يستحبّون التّكبير في العساكر عقب الصّبح والعشاء تكبيراً عالياً ثلاثاً، قال: وهو قديم من شأن النّاس. قال ابن بطّال: وفي " العتبيّة " عن مالك أنّ ذلك محدث. قال: وفي السّياق إشعار بأنّ الصّحابة لَم يكونوا يرفعون أصواتهم بالذّكر في الوقت الذي قال فيه ابن عبّاسٍ ما قال. قلت: في التّقييد بالصّحابة نظر، بل لَم يكن حينئذٍ من الصّحابة إلاَّ القليل. وقال النّوويّ: حمل الشّافعيُّ هذا الحديث على أنّهم جهروا به وقتاً يسيراً لأجل تعليم صفة الذّكر، لا أنّهم داوموا على الجهر به، والمختار أنّ الإمام والمأموم يخفيان الذّكر إلاَّ إن احتيج إلى التّعليم. قوله: (قال ابن عباس: كنت أعلم) فيه إطلاق العلم على الأمر المستند إلى الظّنّ الغالب. قوله: (إذا انصرفوا) أي: أعلم انصرافهم بذلك. أي: برفع الصّوت إذا سمعته. أي: الذّكر، والمعنى كنت أعلم بسماع الذّكر انصرافهم. قوله: (ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ بالتّكبير) بصيغة الحصر كذا أخرجه مسلم , وللبخاري: كنت أعرف انقضاء صلاة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالتّكبير. واختلف في كون ابن عبّاسٍ قال ذلك.

فقال عياض: الظّاهر أنّه لَم يكن يحضر الجماعة , لأنّه كان صغيراً ممّن لا يواظب على ذلك ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاء الصّلاة بما ذكر. وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضراً في أواخر الصّفوف , فكان لا يعرف انقضاءها بالتّسليم، وإنّما كان يعرفه بالتّكبير. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ منه أنّه لَم يكن هناك مبلِّغ جهير الصّوت يُسمع من بعُد. قوله: (بالتّكبير) هو أخصّ من رواية " الذكر " التي قبلها، لأنّ الذّكر أعمّ من التّكبير. ويحتمل: أن تكون هذه مفسّرة لذلك , فكان المراد أنّ رفع الصّوت بالذّكر. أي: بالتّكبير، وكأنّهم كانوا يبدءون بالتّكبير بعد الصّلاة قبل التّسبيح والتّحميد (¬1) ¬

_ (¬1) قال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري (6/ 398): ورواه (أي حديث الباب) الإمام أحمد عن سفيان عن عمروٍ به، وزاد: قال عمروٌ: قلت له: إنَّ الناس كانوا إذا سلَّم الإمام من صلاة المكتوبة كبَّروا ثلاث تكبيرات. وهكذا هنا ثلاث تهليلات [...]. وقال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: ثنا عليٌ بن ثابتٍ: ثنا واصلٌ، قال: رأيتُ عليَّ بنَ عبد الله بن عباسٍ إذا صلَّى كبَّر ثلاث تكبيراتٍ. قلت لأحمد: بعد الصلاة؟ قال: هكذا. قلت له: حديث عمرو عن أبي معبد عن ابن عباسٍ: كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير. هؤلاء أخذوه عن هذا؟. قال: نعم. ذكره أبو بكرٍ عبد العزيز بن جعفر في كتابه الشافي. فقد تبَّين بهذا أنَّ معنى التكبير الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقب الصلاة المكتوبة: هو ثلاث تكبيراتٍ متواليةٍ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ويشهد لذلك: ما روي عن مسعرٍ عن محمد بن عبد الرحمن عن طيسلة عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال في دبر الصلوات، وإذا أخذ مضجعه: الله أكبر كبيراً، عدد الشفع والوتر، وكلمات الله الطيبات المباركات ثلاثاً، ولا إله إلا الله مثل ذلك. كنَّ له في القبر نوراً، وعلى الحشر نوراً، وعلى الصراط نوراً، حتى يدخل الجنة. وخَّرجه أيضاً بلفظ آخر، وهو: سبحان الله عدد الشفع والوتر، وكلمات ربي الطيبات التامات المباركات ثلاثاً. والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله. وذكر الإسماعيلي: أنَّ محمد بن عبد الرحمن، هو: مولى آل طلحة، وهو ثقةٌ مشهورٌ، وخرّج له مسلمٌ , وطيسلة، وثقه ابن معينٍ، هو: ابن علي اليمامي، ويقال: ابن مياسٍ، وجعلهما ابن حبان اثنين، وذكرهما في ثقاته، وذكر أنهما يرويان عن ابن عمر. وخرّجه ابن أبي شيبة في كتابه عن يزيد بن هارون، عن مسعر بهذا الإسناد - موقوفاً على ابن عمر. وأنكر عبيدة السلماني على مصعب بن الزبير تكبيره عقب السلام، وقال: قاتله الله، نعَّار بالبدع، واتباع السنة أولى. وروى ابن سعدٍ في طبقاته بإسناده عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يُكبِّر: الله أكبر ولله الحمد ثلاثاً دبر كل صلاةٍ. انتهى كلام ابن رجب. وقوله (ورواه الإمام أحمد) أي حديث ابن عباس حديث الباب. وقد أخرجه مسلم أيضاً عن سفيان كما ذكرت في تخريجه. وروى ابن أبي شيبة في " المصنف " (3104) والبيهقي في " معرفة السنن والآثار " (989) عن يحيى بن سعيد قال: ذكرتُ للقاسم عن رجلٍ من أهل اليمن، أنه قال: ذُكر لي أنَّ الناس، كانوا إذا سلَّم الإمام من صلاته المكتوبة، كبَّروا ثلاث تكبيرات، أو تهليلات. فقال القاسم: والله إنْ كان ابن الزبير ليصنعه. وإستاده صحيح.

الحديث الرابع والثمانون

الحديث الرابع والثمانون 133 - عن ورّادٍ مولى المغيرة بن شعبة , قال: أملى عليَّ المغيرة بن شعبة من كتابٍ إلى معاوية: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دُبر كل صلاةٍ مكتوبةٍ: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد , وهو على كل شيءٍ قديرٍ. اللهمّ لا مانع لِمَا أعطيتَ ولا معطي لِمَا منعتَ , ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ. ثمّ وفدتُ بعد ذلك على معاوية فسمعتُه يأمر النّاس بذلك. وفي لفظٍ: كان ينهى عن قيل وقال , وإضاعة المال , وكثرة السّؤال , وكان ينهى عن عقوق الأمّهات , ووأدِ البنات , ومنعٍ وهات. (¬1) قوله: (أملى عليَّ المغيرة بن شعبة من كتاب إلى معاوية) كان المغيرة إذ ذاك أميراً على الكوفة من قِبَل معاوية , وللبخاري من وجه آخر عن ورّاد بيان السّبب في ذلك، وهو أنّ معاوية كتب إليه: اكتب لي بحديثٍ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وللبخاري في القدر من رواية عبدة بن أبي لبابة عن ورّاد قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ ما سمعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول خلف الصّلاة. قد قيّدها في رواية الباب بالمكتوبة , فكأنّ المغيرة فهم ذلك من قرينة في السّؤال. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (808 , 1407 , 2277 , 5630 , 5971 , 6108 , 6241 , 6862) ومسلم (593) و (3/ 1341) من طرق عدةٍ عن وراد عن المغيرة.

واستدل به على العمل بالمكاتبة وإجرائها مجرى السّماع في الرّواية , ولو لَم تقترن بالإجازة. وعلى الاعتماد على خبر الشّخص الواحد. وللبخاري في آخره أنّ ورّاداً قال: ثمّ وفدت بعد على معاوية , فسمعته يأمر النّاس بذلك. وزعم بعضهم: أنّ معاوية كان قد سمع الحديث المذكور، وإنّما أراد استثبات المغيرة. (¬1) واحتجّ بما في الموطّأ من وجه آخر عن معاوية , أنّه كان يقول على المنبر: أيّها النّاس، إنّه لا مانع لِمَا أعطى الله، ولا معطي لِمَا منع الله، ولا ينفع ذا الجدّ منه الجدّ. من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدّين. ثمّ يقول: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأعواد. قوله: (معاوية) أي ابن أبي سفيان. واسمه صخر , ويكنى أيضاً أبا حنظلة بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أسلم قبل الفتح، وأسلم أبواه بعده. وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتب له. وولي إمرةَ دمشق عن عمر بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان سنة تسع عشرة , واستمر عليها بعد ذلك إلى ¬

_ (¬1) قال العيني في " عمدة القاري " (2/ 45): فإن قلتَ إنّ معاوية إذا كان قد سمع هذا من رسول الله. فكيف يسأل عنه؟ قلتُ: أراد أن يستثبت ذلك , وينظر هل رواه غيره أو نسي بعض حروفه أو ما أشبه ذلك. انتهى. قلت: والصواب أنه لا منافاة بينهما. فمعاوية سمع هذا الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر , ولم يسمعه منه بعد الصلاة , ولذلك سأل المغيرة عما يُقال بعد الصلاة. أمَّا ما وقع في بعض الرويات أنَّ معاوية سمع هذا الكلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من الصلاة فهي روايةٌ شاذةٌ. بيّنتها في كتابي زوائد الموطأ. رقم (777)

خلافة عثمان، ثم زمان محاربته لعلي وللحسن، ثم اجتمع عليه الناس في سنة إحدى وأربعين إلى أن مات سنة ستين. فكانت ولايته بين إمارة ومحاربة ومملكة أكثر من أربعين سنة متوالية. قوله: (في دبر كل صلاةٍ) أخرج السّرّاج والطّبرانيّ وابن حبّان من طريق شعبة عن الحكم عن القاسم بن مخيمرة عن وراد. ولفظه كلفظ عبد الملك (¬1) إلاَّ أنّه قال فيه " كان إذا قضى صلاته وسلَّم , قال: فذكره، ووقع نحو هذا التّصريح لمسلمٍ من طريق المسيّب بن رافع عن ورّاد به. قوله: (له الملك وله الحمد) زاد الطّبرانيّ من طريق أخرى عن المغيرة " يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، بيده الخير .. إلى .. قدير " ورواته موثّقون. وثبت مثله عند البزّار من حديث عبد الرّحمن بن عوف بسندٍ ضعيف، لكن في القول " إذا أصبح وإذا أمسى ". قوله: (ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ) قال الخطّابيّ: الجدّ الغنى , ويقال: الحظّ، قال: و " من " في قوله " منك " بمعنى البدل، قال الشّاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبرّدةً باتت على الطّهيان. يريد ليت لنا بدل ماء زمزم. انتهى. وفي الصّحاح: معنى " منك " هنا عندك، أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنّما ينفعه العمل الصّالح. وقال ابن التّين: الصّحيح عندي أنّها ليست بمعنى البدل ولا عند ¬

_ (¬1) أي: ابن عمير عن ورَّاد. وروايته هي رواية الباب التي أوردها المقدسي رحمه الله.

، بل هو كما تقول: ولا ينفعك منّي شيء إن أنا أردتك بسوءٍ. ولَم يظهر من كلامه معنىً، ومقتضاه أنّها بمعنى عند أو فيه حذف تقديره من قضائي أو سطوتي أو عذابي. واختار الشّيخ جمال الدّين في المغني الأوّل. قال ابن دقيق العيد: قوله " منك " يجب أن يتعلق بينفع، وينبغي أن يكون ينفع قد ضمّن معنى يمنع وما قاربه، ولا يجوز أن يتعلق منك بالجدّ كما يقال حظّي منك كثير لأنّ ذلك نافع. انتهى. والجدّ مضبوط في جميع الرّوايات بفتح الجيم , ومعناه الغنى. كما نقله البخاري عن الحسن، أو الحظّ. وحكى الرّاغب: أنّ المراد به هنا أبو الأب، أي: لا ينفع أحداً نسبه. قال القرطبيّ: حكي عن أبي عمرو الشّيبانيّ , أنّه رواه بالكسر , وقال: معناه لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده. وأنكره الطّبريّ. وقال القزّاز في توجيه إنكاره: الاجتهاد في العمل نافع , لأنّ الله قد دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا ينفع عنده؟. قال: فيحتمل أن يكون المراد أنّه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدّنيا وتضييع أمر الآخرة. وقال غيره: لعل المراد أنّه لا ينفع بمجرّده ما لَم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلاَّ بفضل الله ورحمته، كما في قوله " لا يدخل أحداً منكم الجنّة عمله "

وقيل: المراد على رواية الكسر السّعي التّامّ في الحرص أو الإسراع في الهرب. قال النّوويّ: الصّحيح المشهور الذي عليه الجمهور , أنّه بالفتح. وهو الحظّ في الدّنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السّلطان، والمعنى لا ينجّيه حظّه منك، وإنّما ينجّيه فضلك ورحمتك. وفي الحديث استحباب هذا الذّكر عقب الصّلوات لِمَا اشتمل عليه من ألفاظ التّوحيد , ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السّنن وإشاعتها. فائدةٌ: اشتهر على الألسنة في الذّكر المذكور زيادة " ولا رادّ لِمَا قضيت " وهي في مسند عبد بن حميدٍ من رواية معمر عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد، لكن حذف قوله " ولا معطي لِمَا منعت " , ووقع عند الطّبرانيّ من وجه آخر من طريق مسعر عن عبد الملك بن عمير بسند صحيح عنه. ووقع عند أحمد والنّسائيّ وابن خزيمة من طريق هشيمٍ عن عبد الملك عن وراد , أنّه كان يقول الذّكر المذكور أوّلاً ثلاث مرّات. قوله: (وكان ينهى عن قيل وقال) في رواية لهما " وكره لكم قيل وقال " كذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، ووقع في رواية الكشميهنيّ (¬1) هنا (¬2) " قيلاً وقالاً " والأوّل أشهر. وفيه تعقّب: على ¬

_ (¬1) هو أبو الهيثم محمد بن مكي , سبق ترجمته (1/ 32) (¬2) أي: في كتاب الأدب من صحيح البخاري. باب عقوق الوالدين من العقوق. أمّا في المواضع الأخرى فمثل رواية العمدة.

من زعم أنّه جائز ولَم تقع به الرّواية. قال الجوهريّ: قيل وقال اسمان، يقال كثير القيل والقال. كذا جزم بأنّهما اسمان، وأشار إلى الدّليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما. وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين بمعنىً واحد كالقول لَم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، فأشار إلى ترجيح الأوّل. وقال المحبّ الطّبريّ: في " قيل وقال " ثلاثة أوجه: أحدها: أنّهما مصدران للقول، تقول قلت قولاً وقيلاً وقالاً , والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنّها تؤوّل إلى الخطأ، قال: وإنّما كرّره للمبالغة في الزّجر عنه. ثانيها: إرادة حكاية أقاويل النّاس , والبحث عنها ليخبر عنها فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا، والنّهي عنه إمّا للزّجر عن الاستكثار منه، وإمّا لشيءٍ مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكيّ عنه. ثالثها: أنّ ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدّين كقوله: قال فلان كذا وقال فلان كذا، ومحلّ كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزّلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبّت، ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له. قلت: ويؤيّد ذلك الحديث الصّحيح: كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع. أخرجه مسلم.

وفي " شرح المشكاة " قوله " قيل وقال ": من قولهم قيل كذا وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيّين متضمّنين للضّمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضّمير، ومنه قوله: " إنّما الدّنيا قيل وقال " وإدخال حرف التّعريف عليهما في قوله: ما يعرف القال القيل لذلك. قوله: (وإضاعة المال) قال الجمهور: إنَّ المراد به السرف في إنفاقه , وعن سعيد بن جبير: إنفاقه في الحرام. والأقوى: أنّه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينيّة أو دنيويّة فمنع منه؛ لأنّ الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إمّا في حقّ مضيّعها وإمّا في حقّ غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البرّ لتحصيل ثواب الآخرة ما لَم يفوّت حقّاً أخرويّاً أهمّ منه. والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه: الأوّل: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً , فلا شكّ في منعه. والثّاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً , فلا شكّ في كونه مطلوباً بالشّرط المذكور. والثّالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النّفس، فهذا ينقسم إلى قسمين. القسم الأول: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسرافٍ.

القسم الثّاني: ما لا يليق به عرفاً، وهو ينقسم أيضاً إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إمّا ناجزة أو متوقّعة، فهذا ليس بإسرافٍ. والثّاني: ما لا يكون في شيء من ذلك , فالجمهور على أنّه إسراف. وذهب بعض الشّافعيّة. إلى أنّه ليس بإسرافٍ , قال: لأنّه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له. قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال. انتهى. وقد صرّح بالمنع القاضي حسين , فقال في كتاب قسم الصّدقات: هو حرام، وتبعه الغزاليّ، وجزم به الرّافعيّ في الكلام على المغارم، وصحّح في باب الحجر من الشّرح وفي المحرّر , أنّه ليس بتبذيرٍ، وتبعه النّوويّ. والذي يترجّح أنّه ليس مذموماً لذاته؛ لكنّه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال النّاس، وما أدّى إلى المحذور فهو محذور. وقد ذكرنا البحث في جواز التّصدّق بجميع المال , وأنّ ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصّبر على المضايقة (¬1). ¬

_ (¬1) استوعب الحافظ رحمه الله في " الفتح " كلام أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة , عند شرح حديث أبي هريرة. الذي أخرجه البخاري (1426) من طريق الزهري عن ابن المسيب عنه رفعه: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. وابدأ بمن تعول. قال البخاري: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى. ومن تصدَّق وهو محتاج، أو أهله محتاج، أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو ردٌّ عليه، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ليس له أن يتلف أموال الناس. قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله. إلا أن يكون معروفاً بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كفعل أبى بكر - رضي الله عنه - حين تصدق بماله، وكذلك آثر الأنصارُ المهاجرين، ونهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة. وقال كعب - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله إنَّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - , قال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك. قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر. انتهى كلام البخاري. قال ابن حجر: أورد في الباب حديث أبي هريرة بلفظ " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وهو مشعرٌ بأن النفي في اللفظ الأول للكمال لا للحقيقة، فالحقيقة لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى، وقد أورده أحمد من طريق أبي صالح بلفظ " إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وهو أقرب إلى لفظ الترجمة. وأخرجه أيضاً من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة بلفظ الترجمة قال " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " الحديث. ومعنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. قال الخطابي: لفظ الظهر يرد في مثل هذا إشباعا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده: وابدأ بمن تعول. وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه. ونحوه قولهم ركب متن السلامة. والتنكير في قوله " غنى " للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل " عن " للسببية والظهر زائد، أي: خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقال النووي: مذهبنا أنَّ التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دَيْن عليه , ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه. وقال القرطبي في " المفهم ": يرد على تأويل الخطابي بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذر " فضل الصدقة جهد من مقل " والمختار أنَّ معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحَّ الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله. قوله: (وابدأ بمن تعول) فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم. قوله: (ومن تصدق وهو محتاج إلى آخر الترجمة) كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدّق أن لا يكون محتاجاً لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. ويلتحق بالتصدق سائر التبرعات. وأما قوله (فهو ردٌّ عليه) فمقتضاه أنَّ ذا الدين المستغرق لا يصحُّ منه التبرع، لكن محل هذا عند الفقهاء إذا حجر عليه الحاكم بالفلس، وقد نقل فيه صاحب " المغني " وغيره الإجماع، فيحمل إطلاق البخاري عليه. واستدل له المصنف بالأحاديث التي علقها. وأما قوله: (إلا أن يكون معروفاً بالصبر) كأنَّ البخاري أراد أنْ يخص به عموم الحديث الأول. والظاهر أنه يختص بالمحتاج، ويحتمل: أن يكون عاماً ويكون التقدير إلا أن يكون كل من المحتاج أو من تلزمه النفقة أو صاحب الدين معروفا بالصبر. ويقوي الأول التمثيل الذي مثل به من فعل أبي بكر والأنصار. قال ابن بطال: أجمعوا على أنَّ المديان لا يجوز له أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدين، فتعين حمل ذلك على المحتاج. وحكى ابن رشيد عن بعضهم , أنه يتصور في المديان فيما إذا عامله الغرماء على أن يأكل من المال فلو آثر بقوته. وكان صبوراً جاز له ذلك , وإلاّ كان إيثاره سبباً في أن يرجع لاحتياجه فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع. وقوله " كفعل أبي بكر حين تصدق بماله " هذا مشهورٌ في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصحَّحه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه سمعت عمر يقول: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إنْ سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله " الحديث تفرد به هشام بن سعد عن زيد، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه. قال الطبري وغيره: قال الجمهور: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه , وكان صبوراً على الإضاقة ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضاً فهو جائز، فإن فُقد شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود. وروي عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمةَ ماله. ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره، فإنه - صلى الله عليه وسلم - باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبَّره لكونه كان محتاجاً وقال آخرون: يجوز من الثلث ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول. وعن مكحول أيضاً يرد ما زاد على النصف. قال الطبري: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعاً بين قصة أبي بكر وحديث كعب. والله أعلم. انتهى بتجوز.

وجزم الباجيّ من المالكيّة: بمنع استيعاب جميع المال بالصّدقة , قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدّنيا، ولا بأس به إذا وقع نادراً لحادثٍ يحدث كضيفٍ أو عيد أو وليمة. وممّا لا خلاف في كراهته. مجاوزة الحدّ في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيّما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزّخرفة , ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب. وأمّا إضاعة المال في المعصية فلا يختصّ بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرّقيق والبهائم حتّى يهلكوا، ودفع مال من لَم يؤنس منه الرّشد إليه، وقسمه ما لا ينتفع بجزئه كالجوهرة النّفيسة. وقال السّبكيّ الكبير في " الحلبيّات ": الضّابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرضٍ دينيّ ولا دنيويّ، فإن انتفيا حرم قطعاً، وإن وجد

أحدهما وجوداً له بال وكان الإنفاق لائقاً بالحال ولا معصية فيه جاز قطعاً، وبين الرّتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط. فعلى المفتي أن يرى فيما تيسّر منها رأيه، وأمّا ما لا يتيسّر فقد تعرّض له؛ فالإنفاق في المعصية حرام كلّه، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذّة حسنة. وأمّا إنفاقه في الملاذّ المباحة فهو موضع الاختلاف، فظاهر قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لَم يسرفوا ولَم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) أنّ الزّائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف. ثمّ قال: ومن بذل مالاً كثيراً في غرض يسير تافه عدّه العقلاء مضيّعاً، بخلاف عكسه، والله أعلم. قال الطّيبيّ: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق، وهو تتبّع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة. قوله: (وكثرة السّؤال) اختلف في المراد منه , وهل هو سؤال المال، أو السّؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعمّ من ذلك؟. والأولى حمله على العموم. وقد ذهب بعض العلماء: إلى أنّ المراد به كثرة السّؤال عن أخبار النّاس وأحداث الزّمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإنّ ذلك ممّا يكره المسئول غالباً. وقد ثبت النّهي عن الأغلوطات. أخرجه أبو داود من حديث معاوية، وثبت عن جمع من السّلف كراهة تكلّف المسائل التي

يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدّاً، وإنّما كرهوا ذلك لِمَا فيه من التّنطّع والقول بالظّنّ، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ. وأمّا ما سيأتي في اللعان " فكره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها " (¬1)، وكذا في التّفسير في قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (¬2) , فذلك خاصّ بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث " أعظم النّاس جرماً عند الله من سأل عن شيء لَم يحرّم فحرّم من أجل مسألته " (¬3). وثبت أيضاً ذمّ السّؤال للمال ومدح من لا يلحف فيه كقوله تعالى: (لا يسألون النّاس إلحافاً) وجاء في الصحيحين من حديث ابن عمر: لا تزال المسألة بالعبد حتّى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم , وفي صحيح مسلم: إنّ المسألة لا تحلّ إلاَّ لثلاثةٍ: لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو جائحة. وفي السّنن قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عبّاس: إذا سألت فاسأل الله. وفي سنن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4745) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - , وستأتي رواياته إن شاء الله ضمن شرح حديث ابن عمر الآتي في اللعان رقم (327) (¬2) أخرجه البخاري (4621) ومسلم (2359) عن أنس - رضي الله عنه -، قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قطُّ، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، قال: فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم لهم خنين، فقال رجل: مَن أَبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} وللبخاري (5622) عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاءً، فيقول الرجل: مَن أَبِي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. (¬3) أخرجه البخاري (7289) ومسلم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -

أبي داود: إن كنت لا بدّ سائلاً فاسأل الصّالحين. وقد اختلف العلماء في ذلك. والمعروف عند الشّافعيّة أنّه جائز , لأنّه طلب مباح فأشبه العاريّة، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزّكاة الواجبة ممّن ليس من أهلها. لكن قال النّوويّ في " شرح مسلم ": اتّفق العلماء على النّهي عن السّؤال من غير ضرورة. قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين. أصحّهما: التّحريم لظاهر الأحاديث. والثّاني: يجوز مع الكراهة بشروطٍ ثلاثة: الأول: أن لا يلحّ , الثاني: ولا يذلّ نفسه زيادة على ذلّ نفس السّؤال، الثالث: ولا يؤذي المسئول. فإن فُقد شرط من ذلك حرُم. وقال الفاكهانيّ: يتعجّب ممن قال بكراهة السّؤال مطلقاً مع وجود السُّؤال في عصر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ السّلف الصّالح من غير نكير، فالشّارع لا يقرّ على مكروه. قلت: لعلَّ من كره مطلقاً أراد أنّه خلاف الأولى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغيّر صفته ولا من تقريره أيضاً، وينبغي حمل حال أولئك على السّداد، وأنّ السّائل منهم غالباً ما كان يسأل إلاَّ عند الحاجة الشّديدة. وفي قوله: " من غير نكير " نظرٌ ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في

ذمّ السّؤال كفاية في إنكار ذلك. تنْبيه: جميع ما تقدّم فيما سأل لنفسه، وأمّا إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضاً أنّه يختلف باختلاف الأحوال. قوله: (وكان ينهى عن عقوق الأمّهات) في رواية لهما عن المغيرة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجلَّ حرَّم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنعاً وهات. قيل: خصّ الأمّهات بالذّكر , لأنّ العقوق إليهنّ أسرع من الآباء لضعف النّساء , ولينبّه على أنّ برّ الأمّ مقدّم على برّ الأب في التّلطّف والحنوّ ونحو ذلك , وهو من تخصيص الشّيء بالذّكر إظهاراً لعظم موقعه. والأمّهات: جمع أمّهة وهي لمن يعقل، بخلاف لفظ الأمّ فإنّه أعمّ. والعقوق: بضمّ العين المهملة مشتقّ من العقّ وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذّى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلاَّ في شرك أو معصية ما لَم يتعنّت الوالد. وضبَطَه ابن عطيّة , بوجوب طاعتهما في المباحات فعلاً وتركاً واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عند تعارض الأمرين , وهو كمن دعته أمّه ليمرّضها مثلاً بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمرّ عندها , ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها , وغير ذلك لو تركها وفعله , وكان ممّا يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصّلاة أوّل الوقت أو في الجماعة.

قوله: (ووأد البنات) بسكون الهمزة هو دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهليّة يفعلون ذلك كراهة فيهنّ. ويقال: إنّ أوّل من فعل ذلك قيس بن عاصم التّميميّ، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتّخذها لنفسه , ثمّ حصل بينهم صلح فخيّر ابنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلاَّ دفنها حيّة، فتبعه العرب في ذلك. وكان من العرب فريق ثانٍ يقتلون أولادهم مطلقاً، إمّا نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإمّا من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدّة آيات. وكان صعصعة بن ناجية التّميميّ أيضاً - وهو جدّ الفرزدق همّام بن غالب بن صعصعة - أوّل من فدى الموءودة، وذلك أنّه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمالٍ يتّفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله: وجدّي الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد وهذا محمول على الفريق الثّاني، وقد بقي كلٌّ من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة، وإنّما خصّ البنات بالذّكر , لأنّه كان الغالب من فعلهم، لأنّ الذّكور مظنّة القدرة على الاكتساب. وكانوا في صفة الوأد على طريقين: أحدهما: أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكراً أبقته , وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا

أليق بالفريق الأوّل. الثاني: من كان إذا صارت البنت سداسيّة قال لأمّها: طيّبيها وزيّنيها لأزور بها أقاربها، ثمّ يبعد بها في الصّحراء حتّى يأتي البئر , فيقول لها: انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمّها، وهذا اللائق بالفريق الثّاني، والله أعلم. قوله: (ومنعٍ وهاتٍ) وللبخاري " ومنع " بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النّون مصدر منع يمنع، وتقدم ما يتعلق به في الكلام على " قيل وقال ". وأمّا هات: فبكسر المثنّاة فعل أمر من الإيتاء. قال الخليل: أصل هات آت فقلبت الألف هاء. والحاصل من النّهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحقّ أخذه. ويحتمل: أن يكون النّهي عن السّؤال مطلقاً كما تقدّم بسط القول فيه قريباً، ويكون ذكره هنا مع ضدّه ثمّ أعيد تأكيداً للنّهي عنه. ثمّ هو محتمل أن يدخل في النّهي ما يكون خطاباً لاثنين كما يُنهى الطّالب عن طلب ما لا يستحقّه , ويُنهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقّه الطّالب , لئلا يعينه على الإثم.

الحديث الخامس والثمانون

الحديث الخامس والثمانون 134 - عن سُميٍّ مولى أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ عن أبي صالحٍ السّمّان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ فقراء المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقالوا: يا رسولَ الله , قد ذهب أهل الدُّثور بالدّرجات العلى والنّعيم المقيم. قال: وما ذاك؟ قالوا: يصلّون كما نُصلِّي , ويصومون كما نصوم , ويتصدّقون ولا نتصدّق. ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا أعلمكم شيئاً تُدركون به من سبقكم , وتسبقون من بعدكم. ولا يكون أحدٌ أفضل منكم , إلاَّ من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى , يا رسولَ الله. قال: تسبّحون وتكبّرون وتحمدون دبر كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين مرّةً. قال أبو صالحٍ: فرجع فقراء المهاجرين , فقالوا: سَمِع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا , ففعلوا مثله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال سُمي: فحدَّثت بعض أهلي هذا الحديث، فقال: وهِمْت، إنما قال: تسبح الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبّر الله ثلاثاً وثلاثين. فرجعت إلى أبي صالح , فقلت له ذلك، فأخذ بيدي. فقال: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى تبلغ من جميعهن ثلاثة وثلاثين (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (807 , 5970) ومسلم (595) من طرق عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة به. وهذا سياق مسلم في صحيحه. وهو عند البخاري مختصراً كما سينبّه عليه الشارح رحمه الله

قوله: (سُمي) بضم أوله. بلفظ التصغير. وأبو بكر أحد الفقهاء السبعة. قوله: (عن أبي صالحٍ السّمّان) هو ذكوان السمان. قوله: (جاء فقراء المهاجرين) سُمِّيَ منهم في رواية محمّد بن أبي عائشة عن أبي هريرة. أبو ذرّ الغفاريّ. أخرجه أبو داود , وأخرجه جعفر الفريابيّ في كتاب " الذّكر " له من حديث أبي ذرّ نفسه، وسُمِّيَ منهم أبو الدّرداء عند النّسائيّ وغيره من طرق عنه. ولمسلمٍ من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنّهم قالوا: يا رسولَ الله. فذكر الحديث، والظّاهر أنّ أبا هريرة منهم. وفي رواية النّسائيّ عن زيد بن ثابت قال: أمرنا أن نسبّح. الحديث كما سيأتي لفظه، وهذا يمكن أن يقال فيه إنّ زيد بن ثابت كان منهم، ولا يعارضه قوله في رواية ابن عجلان عن سميٍّ عند مسلم " جاء فقراء المهاجرين " لكون زيد بن ثابت من الأنصار لاحتمال التّغليب. قوله: (الدّثور) ضمّ المهملة والمثلثة جمع دثر - بفتحٍ ثمّ سكون - هو المال الكثير، وللبخاري " ذهب أهل الدثور من الأموال " , و " مِن " في قوله " من الأموال " للبيان.

ووقع عند الخطّابيّ " ذهب أهل الدُّور من الأموال " وقال: كذا وقع الدُّور جمع دار , والصّواب الدّثور. انتهى. وذكر صاحب المطالع عن رواية أبي زيد المروزيّ أيضاً: الدّور. قوله: (بالدّرجات العلى) ضمّ العين جمع العلياء وهي تأنيث الأعلى، ويحتمل: أن تكون حسّيّة، والمراد درجات الجنّات، أو معنويّة , والمراد علوّ القدر عند الله. قوله: (والنّعيم المقيم) وصفه بالإقامة إشارة إلى ضدّه وهو النّعيم العاجل، فإنّه قلَّ ما يصفو، وإن صفا فهو بصدد الزّوال. وفي رواية محمّد بن أبي عائشة المذكورة " ذهب أصحاب الدّثور بالأجور " وكذا لمسلمٍ من حديث أبي ذرّ. قوله: (ويصومون كما نصوم) زاد في حديث أبي الدّرداء المذكور " ويذكرون كما نذكر " , وللبزّار من حديث ابن عمر " صدَّقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا ". زاد البخاري " ولهم فضل أموال " كذا للأكثر بالإضافة، وفي رواية الأصيليّ (¬1) " فضل الأموال " , وللكشميهنيّ " فضل من أموال ". وزاد أيضاً " يحجّون بها " أي: ولا نحجّ. يشكل عليه ما وقع في رواية جعفر الفريابيّ من حديث أبي الدّرداء " ويحجّون كما نحجّ " , ونظيره ما وقع للبخاري " ويجاهدون " , ووقع عند البخاري من رواية ورقاء عن سميٍّ: وجاهدوا كما جاهدنا. ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن ابراهيم , سبق ترجمته (1/ 114)

لكنّ الجواب عن هذا الثّاني ظاهر , وهو التّفرقة بين الجهاد الماضي فهو الذي اشتركوا فيه , وبين الجهاد المتوقّع فهو الذي تقدر عليه أصحاب الأموال غالباً. ويمكن أن يقال مثله في الحجّ. ويحتمل: أن يقرأ " يحجّون بها " بضمّ أوّله من الرّباعيّ. أي: يعينون غيرهم على الحجّ بالمال. قوله: (أفلا أعلمكم شيئاً) وللبخاري " فقال: ألا أحدّثكم بما إن أخذتم به " , في رواية الأصيليّ " بأمرٍ إن أخذتم " , وكذا للإسماعيليّ. وسقط قوله " بما " من أكثر الرّوايات، وكذا قوله " به " , وقد فسّر السّاقط في الرّواية الأخرى , وفي رواية أبي داود " فقال: يا أبا ذرّ ألا أعلمك كلمات تقولهنّ ". قوله: (تُدركون به من سبقكم) أي: من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصّدقة. والسّبقيّة هنا: يحتمل: أن تكون معنويّة. وأن تكون حسّيّة. قال الشّيخ تقيّ الدّين: والأوّل أقرب. وسقط قوله " من سبقكم " من رواية الأصيليّ. قوله: (ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم) وللبخاري " وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم " بفتح النّون وسكون التّحتانيّة، وفي رواية كريمة وأبي الوقت " ظهرانيه " بالإفراد، وكذا للإسماعيليّ. قيل: ظاهره يخالف ما سبق , لإنّ الإدراك ظاهره المساواة، وهذا

ظاهره الأفضليّة وأجاب بعضهم: بأنّ الإدراك لا يلزم منه المساواة فقد يدرك ثمّ يفوق، وعلى هذا فالتّقرّب بهذا الذّكر راجح على التّقرّب بالمال. ويحتمل: أن يقال: الضّمير في " كنتم " للمجموع من السّابق والمدرك، وكذا قوله " إلاَّ من عمل مثل عملكم " أي: من الفقراء فقال الذّكر، أو من الأغنياء فتصدّق , أو أنّ الخطاب للفقراء خاصّة , لكن يشاركهم الأغنياء في الخيريّة المذكورة فيكون كلّ من الصّنفين خيراً ممّن لا يتقرّب بذكرٍ ولا صدقة. ويشهد له قوله في حديث ابن عمر عند البزّار " أدركتم مثل فضلهم " ولمسلمٍ في حديث أبي ذرّ " أوليس قد جعل لكم ما تتصدّقون؟ إنّ بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة " الحديث. واستُشكل تساوي فضل هذا الذّكر بفضل التّقرّب بالمال مع شدّة المشقّة فيه. وأجاب الكرمانيّ: بأنّه لا يلزم أن يكون الثّواب على قدر المشقّة في كلّ حالة، واستدل لذلك بفضل كلمة الشّهادة مع سهولتها على كثير من العبادات الشّاقّة. قوله: (قال أبو صالحٍ: فرجع فقراء المهاجرين .. إلى قوله .. فضل الله يؤتيه من يشاء) زادها مسلم في رواية ابن عجلان عن سميٍّ قال أبو صالح. ثمّ ساقه مسلم من رواية روح بن القاسم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. فذكر طرفاً منه. ثمّ قال: بمثل حديث قتيبة، قال:

إلاَّ أنّه أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: فرجع فقراء المهاجرين. قلت: وكذا رواه أبو معاوية عن سهيل مدرجاً. أخرجه جعفر الفريابيّ، وتبيّن بهذا أنّ الزّيادة المذكورة مرسلة. وقد روى الحديث البزّار من حديث ابن عمر. وفيه " فرجع الفقراء " فذكره موصولاً , لكن قد قدّمت أنّ إسناده ضعيف. ورواه جعفر الفريابيّ من رواية حرام بن حكيم - وهو بحاءٍ وراءٍ مهملتين - عن أبي ذرّ. وقال فيه: فقال أبو ذرّ: يا رسولَ الله إنّهم قد قالوا مثل ما نقول. فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ونقل الخطيب: أنّ حرام بن حكيم يرسل الرّواية عن أبي ذرّ. فعلى هذا لَم يصحّ بهذه الزّيادة إسناد، إلاَّ أنّ هذين الطّريقين يقوى بهما مرسل أبي صالح. قوله: (وتسبّحون وتكبّرون وتحمدون) كذا في رواية ابن عجلان. تقديم التّكبير على التّحميد خاصّة، وفيه أيضاً قول أبي صالح " يقول: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله " , ومثله لأبي داود من حديث أمّ الحكم، وله من حديث أبي هريرة " تكبّر وتحمد وتسبّح " , وكذا في حديث ابن عمر. ووقع في أكثر الأحاديث تقديم التّسبيح على التّحميد وتأخير التّكبير , وهذا الاختلاف دالٌّ على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث الباقيات الصّالحات " لا يضرّك بأيّهنّ

بدأت " (¬1). لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتّسبيح لأنّه يتضمّن نفي النّقائض عن الباري سبحانه وتعالى، ثمّ التّحميد , لأنّه يتضمّن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النّقائض إثبات الكمال. ثمّ التّكبير إذ لا يلزم من نفي النّقائض وإثبات الكمال أن يكون هنا كبير آخر، ثمّ يختم بالتّهليل الدّالّ على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك. قوله: (دبر كلّ صلاة) وللبخاري " خلف كلّ صلاة " , وهذه الرّواية مفسّرة للرّواية. وهي قوله " دبر كلّ صلاة " , ولجعفرٍ الفريابيّ في حديث أبي ذرّ " إثر كلّ صلاة ". وأمّا رواية " دبر " فهي بضمّتين، قال الأزهريّ: دبر الأمر. يعني: بضمّتين , ودبره. يعني: بفتحٍ ثمّ سكون: آخره. وادّعى أبو عمرو الزّاهد: أنّه لا يقال بالضّمّ إلاَّ للجارحة، ورد بمثل قولهم أعتق غلامه عن دبر. ومقتضى الحديث. أنّ الذّكر المذكور يقال عند الفراغ من الصّلاة، فلو تأخّر ذلك عن الفراع , فإن كان يسيراً بحيث لا يعدّ معرضاً , أو كان ناسياً أو متشاغلاً بما ورد أيضاً بعد الصّلاة كآية الكرسيّ فلا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (2137) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر. لا يضرك بأيهن بدأت.

يضرّ. وظاهر قوله " كلّ صلاة " يشمل الفرض والنّفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عُجْرة عند مسلم التّقييد بالمكتوبة (¬1)، وكأنّهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا. هل يكون التّشاغل بعد المكتوبة بالرّاتبة بعدها فاصلاً بين المكتوبة والذّكر , أو لا؟ محلّ النّظر، والله أعلم قوله: (ثلاثاً وثلاثين) يحتمل: أن يكون المجموع للجميع. فإذا وزّع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن أبي صالح. كما رواه مسلم من طريق روح بن القاسم عنه. لكن لَم يتابع سهيل على ذلك، بل لَم أر في شيء من طرق الحديث كلّها التّصريح بإحدى عشرة إلاَّ في حديث ابن عمر عند البزّار. وإسناده ضعيف. والأظهر: أنّ المراد أنّ المجموع لكل فرد فرد، فعلى هذا ففيه تنازع أفعال في ظرف ومصدر , والتّقدير تسبّحون خلف كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين وتحمدون وتكبّرون كذلك. قوله: (قال سُمَيٌ: فحدثتُ بعض أهلي هذا الحديث فقال: وهمت) وللبخاري " فاختلفنا بيننا " , وظاهره أنّ أبا هريرة هو القائل، وكذا قوله " فرجعت إليه " وأنّ الذي رجع أبو هريرة إليه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (596) بلفظ: معقبات لا يخيب قائلهنَّ أو فاعلهن دُبر كل صلاة مكتوبة، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة.

هو النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فالخلاف في ذلك وقع بين الصّحابة. لكن بيّن مسلم في رواية ابن عجلان عن سميٍّ , أنّ القائل " فاختلفنا " هو سُميٌّ، وأنّه هو الذي رجع إلى أبي صالح، وأنّ الذي خالفه بعض أهله. ولفظه " قال سُميٌّ: فحدّثت بعض أهل هذا. الحديث، قال: وهمت، فذكر كلامه. قال: فرجعت إلى أبي صالح. وعلى رواية مسلم اقتصر صاحب العمدة، لكن لَم يوصِل مسلمٌ هذه الزّيادة، فإنّه أخرج الحديث عن قتيبة عن الليث عن ابن عجلان , ثمّ قال: زاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث، فذكرها. والغير المذكور , يحتمل أن يكون شعيب بن الليث أو سعيد بن أبي مريم، فقد أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه " عن الرّبيع بن سليمان عن شعيب، وأخرجه الجوزقيّ والبيهقيّ من طريق سعيد. وتبيّن بهذا. أنّ في رواية عبيد الله بن عمر عن سميٍّ في حديث الباب إدراجاً، وقد روى ابن حبّان هذا الحديث من طريق المعتمر بن سليمان بالإسناد المذكور. فلم يذكر قوله " فاختلفنا إلخ ". قوله: (وتكبّر ثلاثا وثلاثين) وللبخاري " ونكبِّر أربعاً وثلاثين " وهو قول بعض أهل سُميٍّ كما تقدّم التّنبيه عليه من رواية مسلم، وقد تقدّم احتمال كونه من كلام بعض الصّحابة. وقد جاء مثله في حديث أبي الدّرداء عند النّسائيّ، وكذا عنده من حديث ابن عمر بسندٍ قويٍّ، ومثله لمسلمٍ من حديث كعب بن عُجْرة، ونحوه لابن ماجه من حديث أبي ذرّ , لكن شكّ بعض رواته في

أنّهنّ أربع وثلاثون. ويخالف ذلك ما في رواية محمّد بن أبي عائشة عن أبي هريرة عند أبي داود ففيه " ويختم المائة بلا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له إلخ "، وكذا لمسلمٍ في رواية عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، ومثله لأبي داود في حديث أمّ الحكم، ولجعفرٍ الفريابيّ في حديث أبي ذرّ. قال النّوويّ: ينبغي أن يجمع بين الرّوايتين بأن يكبّر أربعاً وثلاثين , ويقول معها: لا إله إلاَّ الله وحده. إلخ. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرّة بزيادة تكبيرة , ومرّة بلا إله إلاَّ الله على وفق ما وردت به الأحاديث. قوله: (حتى تبلغ من جميعهن ثلاثة وثلاثين) وللبخاري " حتّى يكون منهنّ كلّهنّ ثلاث وثلاثون " بكسر اللام تأكيداً للضّمير المجرور. قوله: (ثلاث وثلاثون) بالرّفع وهو اسم كان. وفي رواية كريمة والأصيليّ وأبي الوقت (¬1) " ثلاثاً وثلاثين " , وتوجّه بأنّ اسم كان محذوف , والتّقدير حتّى يكون العدد منهنّ كلّهنّ ثلاثاً وثلاثين. وفي قوله " منهنّ كلّهنّ " الاحتمال المتقدّم: هل العدد للجميع أو المجموع؟ وفي رواية ابن عجلان ظاهرها أنّ العدد للجميع , لكن يقول ذلك مجموعاً، وهذا اختيار أبي صالح. ¬

_ (¬1) هو عبدالأول بن عيسى السجزي , سبق ترجمته (1/ 130)

لكنّ الرّواية الثّابتة عن غيره الإفراد، قال عياض: وهو أولى. ورجّح بعضهم الجمع للإتيان فيه بواو العطف. والذي يظهر أنّ كلاً من الأمرين حسنٌ، إلاَّ أنّ الإفراد يتميّز بأمرٍ آخر , وهو أنّ الذّاكر يحتاج إلى العدد، وله على كلّ حركة لذلك - سواء كان بأصابعه أو بغيرها - ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلاَّ الثّلث. تنبيه: وقع في رواية ورقاء عن سُميٍّ عند البخاري في الدّعوات في هذا الحديث " تسبّحون عشراً وتحمدون عشراً وتكبّرون عشراً ". ولَم أقف في شيء من طرق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاءَ على ذلك. لا عن سميٍّ ولا عن غيره. ويحتمل: أن يكون تأوّل ما تأوّل سهيل من التّوزيع، ثمّ ألغى الكسر. ويعكّر عليه: أنّ السّياق صريح في كونه كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد وجدت لرواية العشر شواهد: منها عن عليّ عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقّاص عند النّسائيّ، وعن عبد الله بن عمرو عنده، وعن أبي داود والتّرمذيّ، وعن أمّ سلمة عند البزّار، وعن أمّ مالك الأنصاريّة عند الطّبرانيّ. وجمع البغويّ في " شرح السّنّة " بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعدّدة. أوّلها عشراً عشراً , ثمّ إحدى عشرة إحدى عشرة , ثمّ ثلاثاً وثلاثين ثلاثاً وثلاثين.

ويحتمل: أن يكون ذلك على سبيل التّخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال. وقد جاء من حديث زيد بن ثابت وابن عمر , أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يقولوا كلّ ذكر منها خمساً وعشرين. ويزيدوا فيها لا إله إلاَّ الله خمساً وعشرين. ولفظ زيد بن ثابت: أمرنا أن نسبّح في دبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين ونحمد ثلاثاً وثلاثين ونكبّر أربعاً وثلاثين، فأُتي رجلٌ في منامه , فقيل له: أمركم محمّد أن تسبّحوا - فذكره - قال: نعم. قال: اجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا فيها التّهليل. فلمّا أصبح أتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره , فقال: فافعلوه. أخرجه النّسائيّ وابن خزيمة وابن حبّان. ولفظ ابن عمر: رأى رجلٌ من الأنصار فيما يرى النّائم - فذكر نحوه. وفيه فقيل له: سبّح خمساً وعشرين واحمد خمساً وعشرين وكبّر خمساً وعشرين وهلَّل خمساً وعشرين فتلك مائة. فأمرهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يفعلوا كما قال. أخرجه النّسائيّ وجعفر الفريابيّ. واستنبط من هذا أنّ مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة , وإلاَّ لكان يمكن أن يقال لهم: أضيفوا لها التّهليل ثلاثاً وثلاثين. وقد كان بعض العلماء يقول: إنّ الأعداد الواردة كالذّكر عقب الصّلوات إذا رتّب عليها ثواب مخصوص فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثّواب المخصوص. لاحتمال أن يكون

لتلك الأعداد حكمة وخاصّيّة تفوت بمجاوزة ذلك العدد. قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في " شرح التّرمذيّ ": وفيه نظرٌ، لأنّه أتى بالمقدار الذي رتّب الثّواب على الإتيان به فحصل له الثّواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزّيادة مزيلة لذلك الثّواب بعد حصوله؟. انتهى. ويمكن أن يفترق الحال فيه بالنّيّة، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثمّ أتى بالزّيادة فالأمر كما قال شيخنا لا محالة، وإن زاد بغير نيّة بأن يكون الثّواب رتّب على عشرة مثلاً فرتّبه هو على مائة فيتّجه القول الماضي. وقد بالغ القرافيّ في " القواعد ". فقال: من البدع المكروهة الزّيادة في المندوبات المحدودة شرعاً، لأنّ شأن العظماء إذا حدّوا شيئاً أن يوقف عنده ويعدّ الخارج عنه مسيئاً للأدب. انتهى. وقد مثّله بعض العلماء بالدّواء يكون مثلاً فيه أوقيّة سكّر فلو زيد فيه أوقيّة أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقيّة في الدّواء ثمّ استعمل من السّكّر بعد ذلك ما شاء لَم يتخلف الانتفاع. ويؤيّد ذلك أنّ الأذكار المتغايرة إذا ورد لكلٍّ منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لَم تحسن الزّيادة على العدد المخصوص , لِمَا في ذلك من قطع الموالاة , لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصّة تفوت بفواتها، والله أعلم.

قال ابن بطّال عن المُهلَّب (¬1): في هذا الحديث فضل الغنيّ نصّاً لا تأويلاً، إذا استوت أعمال الغنيّ والفقير فيما افترض الله عليهما، فللغنيّ حينئذٍ فضل عمل البرّ من الصّدقة ونحوها ممّا لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أنّ هذا الفضل يخصّ الفقراء دون غيرهم، أي: الفضل المترتّب على الذّكر المذكور، وغفل عن قوله في نفس الحديث " إلاَّ من صنع مثل ما صنعتم " , فجعل الفضل لقائله كائناً من كان. وقال القرطبيّ: تأوّل بعضهم قوله " ذلك فضل الله يؤتيه " بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثّواب المترتّب على العمل الذي يحصل به التّفضيل عند الله، فكأنّه قال: ذاك الثّواب الذي أخبرتكم به لا يستحقّه أحد بحسب الذّكر ولا بحسب الصّدقة، وإنّما هو بفضل الله. قال: وهذا التّأويل فيه بُعدٌ، ولكن اضطرّه إليه ما يعارضه. وتعقّب: بأنّ الجمع بينه وبين ما يعارضه ممكن من غير احتياج إلى التّعسّف. وقال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث القريب من النّصّ أنّه فضّل الغنيّ، وبعض النّاس تأوّله بتأويلٍ مستكره كأنّه يشير إلى ما تقدّم. قال: والذي يقتضيه النّظر أنّهما إن تساويا وفضّلت العبادة الماليّة ¬

_ (¬1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).

أنّه يكون الغنيّ أفضل، وهذا لا شكّ فيه، وإنّما النّظر إذا تساويا وانفرد كلّ منهما بمصلحةٍ ما هو فيه أيّهما أفضل؟. إن فُسّر الفضل بزيادة الثّواب , فالقياس يقتضي أنّ المصالح المتعدّية أفضل من القاصرة فيترجّح الغنيّ. وإن فُسّر بالأشرف بالنّسبة إلى صفات النّفس , فالذي يحصل لها من التّطهير بسبب الفقر أشرف فيترجّح الفقر، ومن ثَمَّ ذهب جمهور الصّوفيّة إلى ترجيح الفقير الصّابر. وقال القرطبيّ: للعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال. ثالثها: الأفضل الكفاف، رابعها: يختلف باختلاف الأشخاص، خامسها: التّوقّف. وقال الكرمانيّ: قضيّة الحديث أنّ شكوى الفقر تبقى بحالها. وأجاب: بأنّ مقصودهم كان تحصيل الدّرجات العلا والنّعيم المقيم لهم أيضاً لا نفي الزّيادة عن أهل الدّثور مطلقاً. انتهى. والذي يظهر أنّ مقصودهم إنّما كان طلب المساواة. ويظهر أنّ الجواب وقع قبل أن يعلم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ متمنّي الشّيء يكون شريكاً لفاعله في الأجر كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود الذي أوّله " لا حسد إلاَّ في اثنتين " , فإنّ في رواية التّرمذيّ من وجه آخر التّصريح: بأنّ المنفق والمتمنّي إذا كان صادق النّيّة في الأجر سواء (¬1). ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2325) عن أبي كبشة الأنماري: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وفيه: أحدثكم حديثاً فاحفظوه. قال: إنما الدنيا لأربعة نفر. عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً. فهذا بأفضل المنازل , وعبد رزقه الله علماً ولَم يرزقه مالاً فهو صادق النية. يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ بعمل فلان فهو نيته. فأجرهما سواء , وعبد رزقه الله مالاً ولَم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علمٍ. لا يتقى فيه ربه , ولا يصل فيه رحمه , ولا يعلم لله فيه حقاً. فهذا بأخبث المنازل , وعبد لَم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو نيته. فوزرهما سواء. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح

وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء " (¬1) فإنّ الفقراء في هذه القصّة كانوا السّبب في تعلّم الأغنياء الذّكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله , امتاز الفقراء بأجر السّبب مضافاً إلى التّمنّي، فلعل ذلك يقاوم التّقرّب بالمال. وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شظف العيش , وشكر الغنيّ على التّنعّم بالمال، ومن ثَمَّ وقع التّردّد في تفضيل أحدهما على الآخر. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. أنّ العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس، الفاضل لئلا يقع الخلاف، كذا قال ابن بطّال وكأنّه أخذه من كونه - صلى الله عليه وسلم - أجاب بقوله " أَلا أدلّكم على أمر تساوونهم فيه " وعدل عن قوله: نعم هم أفضل منكم بذلك. وفيه التّوسعة في الغبطة، وهي تمنّي المرء أن يكون له نظير ما للآخر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1017) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -.

من غير أن يزول عنه، والفرق بينها وبين الحسد المذموم. وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصّلة للدّرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، ولَم ينكر عليهم - صلى الله عليه وسلم - فيؤخذ منه أنّ قوله " إلاَّ من عمل " عامّ للفقراء والأغنياء خلافاً لمن أوّله بغير ذلك وفيه أنّ العمل السّهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشّاقّ. وفيه فضل الذّكر عقب الصّلوات. واستدل به البخاريّ على فضل الدّعاء عقيب الصّلاة لأنّه في معناها، ولأنّها أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدّعاء. وزعم بعضهم: أنّ الدّعاء بعد الصّلاة لا يشرع، متمسّكاً بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم لا يثبت إلاَّ قدر ما يقول: اللهمّ أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. والجواب: أنّ المراد بالنّفي المذكور نفي استمراره جالساً على هيئته قبل السّلام إلاَّ بقدر أن يقول ما ذُكر، فقد ثبت , أنّه كان إذا صلَّى أقبل على أصحابه (¬1) , فيُحمل ما ورد من الدّعاء بعد الصّلاة على أنّه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه. وقد ثبت عن معاذ بن جبل , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا معاذ. إنّي والله لأحبّك، فلا تدع دبر كلّ صلاة أن تقول: اللهمّ أعنّي على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (809) من حديث سمرة , والبخاري ومسلم من حديث زيد بن خالد ومن حديث أنس - رضي الله عنهم -.

ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. أخرجه أبو داود والنّسائيّ وصحّحه ابن حبّان والحاكم. وحديث أبي بكرة في قول: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهنّ دبر كلّ صلاة. أخرجه أحمد والتّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه الحاكم. وحديث سعد , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر. أخرجه البخاري. وحديث زيد بن أرقم. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في دبر كلّ صلاة: اللهمّ ربّنا وربّ كلّ شيء. الحديث أخرجه أبو داود والنّسائيّ. وحديث صهيب رفعه " كان يقول إذا انصرف من الصّلاة: اللهمّ أصلح لي ديني. الحديث. أخرجه النّسائيّ , وصحّحه ابن حبّان وغير ذلك. فإن قيل: المراد بدبر كلّ صلاة قرب آخرها وهو التّشهّد. قلنا: قد ورد الأمر بالذّكر دبر كلّ صلاة، والمراد به بعد السّلام إجماعاً، فكذا هذا حتّى يثبت ما يخالفه. وقد أخرج التّرمذيّ من حديث أبي أُمامة: قيل: يا رسولَ الله. أيّ الدّعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ودبر الصّلوات المكتوبات.

وقال: حسن. وأخرج الطّبريّ من رواية جعفر بن محمّد الصّادق قال: الدّعاء بعد المكتوبة أفضل من الدّعاء بعد النّافلة. كفضل المكتوبة على النّافلة. ومناسبة ذِكر البخاري لحديث المغيرة وأبي هريرة في " باب الذكر بعد الدعاء " أنّ الذّاكر يحصل له ما يحصل للدّاعي إذا شغله الذّكر عن الطّلب كما في حديث ابن عمر رفعه: يقول الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين. أخرجه الطّبرانيّ بسندٍ ليّن. وحديث أبي سعيد بلفظ: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي. الحديث أخرجه التّرمذيّ وحسّنه. وفيه أنّ العمل القاصر قد يساوي المتعدّي خلافاً لِمَن قال: إنّ المتعدّي أفضل مطلقاً، نبّه على ذلك الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام.

الحديث السادس والثمانون

الحديث السادس والثمانون 135 - عن عائشة رضي الله عنها: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في خميصةٍ لَها أعلامٌ. فنظر إلى أعلامها نظرةً , فلمّا انصرف , قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهمٍ , وأتوني بأنبجانيّة أبي جهمٍ. فإنّها ألْهتني آنفاً عن صلاتي. (¬1) قال المصنِّف: الخميصة كساء مربع له أعلام. والأنبجانية: كساء غليظ قوله: (خميصة) بفتح المعجمة وكسر الميم وبالصّاد المهملة، وهي كساء من صوف أسود أو خزّ مربّعة لها أعلام، ولا يُسمّى الكساء خميصة إلاَّ إن كان لها علم. والأنبجانيّة: بفتح الهمزة وسكون النّون وكسر الموحّدة وتخفيف الجيم وبعد النّون ياء النّسبة , كساء غليظ لا علم له. وقال ثعلب: يجوز فتح همزته وكسرها، وكذا الموحّدة، يقال كبش أنبجانيّ إذا كان ملتفّاً، كثير الصّوف وكساء أنبجانيّ كذلك. وأنكر أبو موسى المدينيّ على من زعم أنّه منسوب إلى منبج البلد المعروف بالشّام. قال صاحب الصّحاح: إذا نسبت إلى منبج فتحت الباء. فقلتَ: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (366 , 719 , 5479) ومسلم (556) من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وللبخاري (366) معلّقاً , ووصله مسلم (556) عن هشام عن أبيه عن عائشة نحوه.

كساء منبجانيّ أخرجوه مخرج منظرانيّ. وفي الجمهرة: منبج موضع أعجميّ تكلمت به العرب , ونسبوا إليه الثّياب المنبجانيّة. وقال أبو حاتم السّجستانيّ: لا يقال كساء أنبجانيّ. وإنّما يقال منبجانيّ، قال: وهذا ممّا تخطئ فيه العامّة. وتعقّبه أبو موسى كما تقدّم. فقال: الصّواب أنّ هذه النّسبة إلى موضع يقال له أنبجان، والله أعلم. قوله: (إلى أبي جهم) كذا للأكثر وهو الصحيح. وللكشمهني " جهيم " بالتصغير. وهو عبيد الله , ويقال عامر بن حذيفة القرشيّ العدويّ صحابيّ مشهور. وإنّما خصّه - صلى الله عليه وسلم - بإرسال الخميصة؛ لأنّه كان أهداها للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مالك في " الموطّأ " من طريق أخرى عن عائشة قالت: أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خميصة لها علم فشهد فيها الصّلاة، فلمّا انصرف , قال: ردّي هذه الخميصة إلى أبي جهم. ووقع عند الزّبير بن بكّارٍ ما يخالف ذلك، فأخرج من وجه مرسل , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتي بخميصتين سوداوين فلبس إحداهما , وبعث الأخرى إلى أبي جهم. ولأبي داود من طريق أخرى " وأخذ كرديّاً لأبي جهم، فقيل: يا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخميصة كانت خيراً من الكرديّ. قال ابن بطّالٍ: إنّما طلب منه ثوباً غيرها ليعلمه أنّه لَم يردّ عليه

هديّته استخفافاً به، قال: وفيه أنّ الواهب إذا ردّت عليه عطيّته من غير أن يكون هو الرّاجع فيها. فله أن يقبلها من غير كراهة. قلت: وهذا مبنيّ على أنّها واحدة، ورواية الزّبير والتي بعدها تصرّح بالتّعدّد قوله: (بأنبجانيّة أبي جهمٍ) وللبخاري " بأنبجانية أبى جهم بنِ حذيفةَ بن غانم من بنى عدى بن كعب ". وبقية نسبِه مُدرج في الخبر من كلام ابن شهاب قوله: (ألهتني) في رواية لهما " شغلتني ". يقال لَهِي بالكسر إذا غفل، ولَهَا بالفتح إذا لعب. قوله: (آنفاً) أي: قريباً، وهو مأخوذٌ من ائتناف الشّيء. أي: ابتدائه. قوله: (عن صلاتي) أي: عن كمال الحضور فيها، كذا قيل. والطّريق التي علَّقها البخاري عقب الحديث , وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كنت أنظر إلى علِمها، وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني. تدلّ على أنّه لَم يقع له شيء من ذلك , وإنّما خشي أن يقع لقوله " فأخاف ". وكذا في رواية مالك " فكاد " فلتؤوّل الرّواية الأولى. وطريق هشام بن عروة. أخرجه أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود من طريقه، ولَم أر في شيء من طرقهم هذا اللفظ. نعم. اللفظ الذي ذكرناه عن الموطّأ قريب من هذا اللفظ المعلَّق،

ولفظه: " فإنّي نظرت إلى علمها في الصّلاة فكاد يفتنني ". والجمع بين الرّوايتين بحمل قوله " ألهتني " على قوله " كادت " فيكون إطلاق الأولى للمبالغة في القرب لا لتحقّق وقوع الإلهاء. قال ابن دقيق العيد: فيه مبادرة الرّسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مصالح الصّلاة، ونفي ما لعله يخدش فيها. وأمّا بعثه بالخميصة إلى أبي جهم فلا يلزم منه أن يستعملها في الصّلاة. ومثله قوله في حلة عطارد حيث بعث بها إلى عمر " إنّي لَم أبعث بها إليك لتلبسها " , ويحتمل: أن يكون ذلك من جنس قوله " كل فإنّي أناجي من لا تناجي ". ويستنبط منه كراهية كلّ ما يشغل عن الصّلاة من الأصباغ والنّقوش ونحوها. وفيه قبول الهديّة من الأصحاب والإرسال إليهم والطّلب منهم. واستدل به الباجيّ على صحّة المعاطاة لعدم ذكر الصّيغة. وقال الطّيبيّ: فيه إيذانٌ بأنّ للصّور والأشياء الظّاهرة تأثيراً في القلوب الطّاهرة والنّفوس الزّكيّة، يعني فضلاً عمّن دونها. تنبيهٌ: قوله " فأخاف أن تفتنّي " في روايتنا بكسر المثنّاة وتشديد النّون، وفي رواية الباقين بإظهار النّون الأولى وهو بفتح أوّله من الثّلاثيّ. تكميل: قال البخاري: باب الالتفات في الصلاة. ثم روى حديث عائشة , قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد. ثم أورد حديث

الباب. لَم يبين البخاري حكمَه؛ لكن الحديث الذي أورده دلَّ على الكراهة وهو إجماع؛ لكن الجمهور على أنها للتنزيه. وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر. وورد في كراهية الالتفات صريحاً على غير شرط البخاري عدة أحاديث. منها: عند أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر رفعه: لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لَم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف " ومن حديث الحارث الأشعري نحوه. وزاد " فإذا صليتم فلا تلتفتوا ". وأخرج الأول أيضاً أبو داود والنسائي. والمراد بالالتفات المذكور ما لَم يستدبر القبلة بصدره أو عنقه كله. وسبب كراهة الالتفات. يحتمل: أن يكون لنقص الخشوع، أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن. قوله: (هو اختلاس) أي: اختطاف بسرعة. قال الطيبي: سُمي اختلاسا تصويراً لقبح تلك الفعلة بالمختلس؛ لأنَّ المصلي يقبل عليه الرب سبحانه وتعالى، والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة. ثم أورد البخاري حديث عائشة في قصة أنبجانية أبي جهم، ووجه دخوله في الترجمة أنَّ أعلام الخميصة إذا لَحَظَها المصلِّي وهي على عاتقه كان قريباً من الالتفات , ولذلك خلعها معللاً بوقوع بصره على

أعلامها , وسَمَّاه شغلاً عن صلاته. وكأن البخاري أشار إلى أنَّ علة كراهة الالتفات كونه يؤثر في الخشوع كما وقع في قصة الخميصة. ويحتمل: أن يكون أراد أن ما لا يستطاع دفعه معفو عنه؛ لأنَّ لَمْح العين يغلب الإنسان , ولهذا لَم يُعِد النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الصلاة.

باب الجمع بين الصلاتين في السفر

باب الجمع بين الصلاتين في السفر الحديث السابع والثمانون 136 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع في السّفر بين صلاة الظّهر والعصر , إذا كان على ظهر سيرٍ , ويَجمع بين المغرب والعشاء (¬1) قوله: (يجمع في السّفر بين صلاة الظّهر والعصر) أورد البخاري ثلاثة أحاديث. حديثَ ابن عمر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير. وهو مقيّد بما إذا جدّ السّير. ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن الملقّن رحمه الله في " الإعلام بفوائد عمدة الأحكام " (4/ 71): هذا اللفظ المذكور هو لفظ البخاري دون مسلم كما نبّه عليه الشيخ تقي الدين , وأطلق المصنّف إخراجه عنهما نظراً لأصل الحديث على عادة المحدثين , فإنَّ مسلماً أخرجه بألفاظ نحو رواية البخاري , فإذا أرادوا التحقيق فيه قالوا: أخرجاه بلفظه إن كان , أو بمعناه إن كان. انتهى. قلت: ولَم يخرجه البخاري موصولاً. وإنما معلّقاً برقم (1056) فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن الحسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لحديث. قال ابن حجر في " الفتح " (2/ 749): وصله البيهقي من طريق محمد بن عبدوس عن أحمد بن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم المذكور. بسنده المذكور. انتهى ولمسلم (705) من طريق أبي الزبير حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاة في سفرةٍ سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء , قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حَمَلَه على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرِّج أمته.

وحديثَ الباب. وهو مقيّد بما إذا كان سائراً. وحديثَ أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر. وهو مطلق. واستعمل البخاري الترجمة (¬1) مطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق , لأنَّ المقيدَ فردٌ من أفراده، وكأنّه رأى جواز الجمع بالسّفر. سواء كان سائراً أم لا، وسواء كان سيره مُجدّاً أم لا. وهذا ممّا وقع فيه الاختلاف بين أهل العلم. القول الأول: قال بالإطلاق كثيرٌ من الصّحابة والتّابعين , ومن الفقهاء الثّوريّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأشهب. القول الثاني: قال قوم: لا يجوز الجمع مطلقاً إلاَّ بعرفة ومزدلفة , وهو قول الحسن والنّخعيّ وأبي حنيفة وصاحبيه، ووقع عند النّوويّ أنّ الصّاحبين خالفا شيخهما , وردّ عليه السّروجيّ في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه. وأجابوا عمّا ورد من الأخبار في ذلك: بأنّ الذي وقع جمع صوريّ، وهو أنّه أخّر المغرب مثلاً إلى آخر وقتها وعجّل العشاء في أوّل وقتها. وتعقّبه الخطّابيّ وغيره: بأنّ الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأنّ أوائل الأوقات وأواخرها ممّا لا يدركه أكثر الخاصّة فضلاً عن العامّة. ¬

_ (¬1) قال (باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء)

ومن الدّليل على أنّ الجمع رخصةٌ , قول ابن عبّاس: أراد أن لا يحرج أمّته. أخرجه مسلم. وأيضاً فإنّ الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصّلاتين , وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع كما في حديث ابن عمر في البخاري: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير في السفر، يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء , قال سالم: وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - يفعله إذا أعجله السير , ويقيم المغرب، فيُصلِّيها ثلاثاً، ثم يسلّم، ثم قلَّما يلبث حتى يقيم العشاء، فيُصلِّيها ركعتين، ثم يسلم. لَم يعيّن غاية التّأخير. وبيّنه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنّه بعد أن يغيب الشّفق، وفي رواية عبد الرّزّاق عن معمر عن أيّوب وموسى بن عقبة عن نافع: فأخّر المغرب بعد ذهاب الشّفق حتّى ذهب هوى من الليل. وللبخاري من طريق أسلم مولى عمر عن ابن عمر في هذه القصّة: حتّى كان بعد غروب الشّفق نزل فصلَّى المغرب والعشاء جمعاً بينهما , ولأبي داود من طريق ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصّة: فسار حتّى غاب الشّفق وتصوّبت النّجوم نزل فصلَّى الصّلاتين جمعاً. وجاءت عن ابن عمر روايات أخرى , أنّه صلَّى المغرب في آخر الشّفق، ثمّ أقام الصّلاة وقد توارى الشّفق، فصلَّى العشاء. أخرجه

أبو داود من طريق عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر عن نافع. ولا تعارض بينه وبين ما سبق , لأنّه كان في واقعة أخرى. وممّا يردّ الحمل على الجمع الصّوريّ. جمع التّقديم , فروى البخاري ومسلم عن قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلَّى الظهر ثم ركب. كذا فيه الظهر فقط، وهو المحفوظ عن عقيل في الكتب المشهورة، ومقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلاَّ في وقت الثانية منهما. وبه احتج من أَبَى جمعَ التقديم (¬1). ولكن روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا كان في سفر فزالت الشمس. صلَّى الظهر والعصر جميعاً , ثم ارتحل. أخرجه الإسماعيلي. وأُعلَّ بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة , ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق. وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان. وقد وقع نظيره في " الأربعين " للحاكم قال: حدثنا محمد بن يعقوب هو الأصم حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني - هو أحد شيوخ مسلم - قال: حدثنا محمد بن عبد الله الواسطي. فذكر الحديث. وفيه: فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلَّى الظهر والعصر ثم ركب. ¬

_ (¬1) وهو القول السادس الآتي ذكره.

قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد. انتهى. قلت: وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه - إن كانت ثابتة - لكن في ثبوتها نظرٌ، لأنَّ البيهقي أخرج هذا الحديث عن الحاكم بهذا الإسناد مقروناً برواية أبي داود عن قتيبة. وقال: إن لفظهما سواء، إلاَّ أن في رواية قتيبة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية حسان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمشهور في جمع التقديم. ما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل (¬1). وقد أعلَّه جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث، وأشار البخاري إلى أنَّ بعض الضعفاء أدخله على قتيبة، حكاه الحاكم في " علوم الحديث ". وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل. أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل، وهشام مختلف فيه. ¬

_ (¬1) ولفظه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجَّل العصر إلى الظهر , وصلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجَّل العشاء فصلاَّها مع المغرب. قال الترمذي: غريب. وقال أبو داود: ولَم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده. انظر التلخيص الحبير (2/ 122)

وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم. فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم (¬1). وورد في جمع التقديم حديث آخر عن ابن عباس. أخرجه أحمد , وذكره أبو داود تعليقاً. والترمذي في بعض الروايات عنه. وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي. وهو ضعيف. لكن له شواهد من طريق حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس. لا أعلمه إلاَّ مرفوعاً: أنه كان إذا نزل منزلاً في السفر فأعجبه أقام فيه , حتى يجمع بين الظهر والعصر ثم يرتحل، فإذا لَم يتهيأ له المنزل مدَّ في السير فسار حتى ينزل فيجمع بين الظهر والعصر. أخرجه البيهقي ورجاله ثقات، إلاَّ أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوماً بوقفه على ابن عباس. ولفظه: إذا كنتم سائرين. فذكر نحوه. القول الثالث: يختصّ الجمع بمن يجدّ في السّير. قاله الليث، وهو القول المشهور عن مالك. القول الرابع: يختصّ بالمسافر دون النّازل , وهو قول ابن حبيب. القول الخامس: يختصّ بمن له عذر. حكي عن الأوزاعيّ. القول السادس: يجوز جمع التّأخير دون التّقديم , وهو مرويّ عن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (706) من طريق مالك وزهير وقرّة بن خالد عن أبي الزبير به. بلفظ: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً. ورواه غيرهم عن أبي الزبير بهذا اللفظ المختصر. كما ذكر الشارح. تركتُ ذكرها اختصاراً.

مالك وأحمد واختاره ابن حزم. قوله: (على ظهر سير) كذا للأكثر بالإضافة، وفي رواية الكشميهنيّ " على ظهرٍ - بالتّنوين - يسير " بلفظ المضارع بتحتانيّةٍ مفتوحة في أوّله. قال الطّيبيّ: الظّهر في قوله " ظهر سير " للتّأكيد كقوله الصّدقة عن ظهر غنىً، ولفظ الظّهر يقع في مثل هذا اتّساعاً للكلام , كأنّ السّير كان مستنداً إلى ظهر قويّ من المطيّ مثلاً. وقال غيره: حصل للسّير ظهر, لأنّ الرّاكب ما دام سائراً فكأنّه راكب ظهر. قلت: وفيه جناس التّحريف بين الظُّهر والظَّهر. واستُدل به على جواز جمع التّأخير، وقيّد الجمع فيه بما إذا كان على ظهر السّير، ولا قائل بأنّه يصليهما وهو راكب , فتعيّن أنّ المراد به جمع التّأخير. ويؤيّده رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني في " مسنده " من طريق مقسم عن ابن عبّاس ففيها التّصريح بذلك وإن كان في إسناده مقال، لكنّه يصلح للمتابعة. وللبخاري عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت صلَّى الظهر ثم ركب. وقد استدل به على اختصاص الجمع بمن جدّ به السّير، لكن وقع

التّصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطّأ. ولفظه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أخّر الصّلاة في غزوة تبوك، ثمّ خرج فصلَّى الظّهر والعصر جميعاً، ثمّ دخل، ثمّ خرج فصلَّى المغرب والعشاء جميعاً. (¬1) قال الشّافعيّ في " الأمّ ". قوله " دخل ثمّ خرج ": لا يكون إلاَّ وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافراً. وقال ابن عبد البرّ: في هذا أوضح دليل على الرّدّ على مَن قال لا يجمع إلاَّ من جدّ به السّير، وهو قاطع للالتباس. انتهى. وحكى عياض: أنّ بعضهم أوّل قوله " ثمّ دخل " أي: في الطّريق مسافراً " ثمّ خرج " أي: عن الطّريق للصّلاة، ثمّ استبعده. ولا شكّ في بُعده، وكأنّه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته ما دلَّ عليه حديث أنس. والله أعلم. ومن ثَمَّ قال الشّافعيّة: ترك الجمع أفضل , وعن مالك رواية أنّه مكروه. وفي هذه الأحاديث تخصيص لحديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبيّنها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيّ حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين. قال إمام الحرمين (¬2): ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرّق ¬

_ (¬1) وهو عند مسلم أيضاً (706) كتاب الفضائل. باب في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق مالك. (¬2) هو عبدالملك الجويني , سبق ترجمته (1/ 283)

إليها تأويل، ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة، فإنّ سببه احتياج الحاجّ إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كلّ الأسفار ولَم تتقيّد الرّخص كالقصر والفطر بالنّسك. إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أنّ الجمع أرفق من القصر، فإنّ القائم إلى الصّلاة لا يشقّ عليه ركعتان يضمّهما إلى ركعتيه، ورفق الجمع واضح لمشقّة النّزول على المسافر.

باب قصر الصلاة في السفر

باب قصر الصلاة في السفر تقول: قصَرَت الصلاة بفتحتين مخففاً قصْرا، وقصَّرتها بالتشديد تقصيراً، وأقصرتها إقصاراً، والأول أشهر في الاستعمال. والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين. ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب. وقال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح. وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة والثوري في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية. انتهى وروى الشيخان عن حارثة بن وهب الخزاعي - رضي الله عنه - , قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنى ركعتين. وفيه ردٌّ على من زعم أنَّ القصر مختصٌ بالخوف، والذي قال ذلك تمسك بقوله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا). ولَم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم. فقيل: لأنَّ شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب. وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب ثم زال السبب , وبقي الحكم كالرمل.

وقيل: المراد بالقصر في الآية قصر الصلاة في الخوف إلى ركعة. وفيه نظر لما رواه مسلم من طريق يعلى بن أمية - وله صحبة - أنه سأل عمر عن قصر الصلاة في السفر , فقال إنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك , فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم. فهذا ظاهر في أنَّ الصحابة فهموا من ذلك قصر الصلاة في السفر مطلقاً لا قصرها في الخوف خاصة. وفي جواب عمر إشارة إلى القول الثاني. وروى السراج من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي حنظلة - وهو الحذاء لا يُعرف اسمه - قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر , فقال: ركعتان، فقلت إن الله عز وجل قال (إن خفتم) ونحن آمنون، فقال: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يرجح القول الثاني أيضا.

الحديث الثامن والثمانون

الحديث الثامن والثمانون 137 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: صحِبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السّفر على ركعتين , وأبا بكرٍ وعمر وعثمان كذلك. (¬1) قوله: (فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) في رواية لهما " صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أره يسبح في السفر " , والمقصود أنّه مطلق , أي: يتنفّل الرّواتب التي قبل الفريضة وبعدها، وذلك مستفاد من قوله في رواية الباب " وكان لا يزيد في السّفر على ركعتين ". قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل: أن يريد أن لا يزيد في عدد ركعات الفرض فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل: أن يريد لا يزيد نفلاً، ويمكن أن يريد ما هو أعمّ من ذلك. قلت: ويدلّ على هذا الثّاني رواية مسلم. ولفظه: عن حفص بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1051) ومسلم (689) من طريق عيسى بن حفص بن عاصم عن أبيه , أنه سمع ابن عمر. فذكره. واللفظ للبخاري. وأخرجه مسلم مطولاً: عن حفص بن عاصم قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلَّى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلَّى، فرأى ناساً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مُسبّحاً لأتممت صلاتي، يا ابن أخي. إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله , وقد قال الله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.

عاصم قال: صحِبتُ ابن عمر في طريق مكّة فصلَّى لنا الظّهر ركعتين، ثمّ أقبل وأقبلنا معه حتّى جاء رحلَه وجلسنا معه، فحانتْ منه التفاتة , فرأى ناساً قياماً , فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبّحون. قال: لو كنت مسبّحاً لأتممت. فذكر المرفوع. قال النّوويّ: أجابوا عن قول ابن عمر هذا. بأنّ الفريضة محتّمة، فلو شرعت تامّة لتحتّم إتمامها، وأمّا النّافلة فهي إلى خيرة المُصلِّي، فطريق الرّفق به أن تكون مشروعة ويخيّر فيها. انتهى. وتعقّب: بأنّ مراد ابن عمر بقوله " لو كنت مسبّحاً لأتممت " يعني: أنّه لو كان مخيّراً بين الإتمام وصلاة الرّاتبة لكان الإتمام أحبّ إليه، لكنّه فهم من القصر التّخفيف، فلذلك كان لا يُصلِّي الرّاتبة ولا يتمّ. قوله: (وأبا بكر) معطوف على قوله " صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (وعمر وعثمان) أي: أنّه كذلك صحبهم، وكانوا لا يزيدون في السّفر على ركعتين. وفي ذِكْر عثمان إشكال لأنّه كان في آخر أمره يتمّ الصّلاة (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (1028) ومسلم (694) نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وأبي بكر، وعمر. ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها. ولمسلم (694) عن سالم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلَّى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان ركعتين صدراً من خلافته، ثم أتَمَّها أربعاً. وأخرج البخاري (1090) ومسلم (685) عن الزهري عن عروة عن عائشة , أنَّ الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرّت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان قال الحافظ في " الفتح " (2/ 736): هذا فيه ردٌ على من زعم أنَّ عثمان إنما أتَمَّ لكونه تأهَّل بمكة، أو لأنه أمير المؤمنين وكل موضع له دار، أو لأنه عزم على الإقامة بمكة، أو لأنه استجد له أرضاً بمنى، أو لأنه كان يسبق الناس إلى مكة، لأنَّ جميع ذلك منتف في حق عائشة , وأكثره لا دليل عليه , بل هي ظنون ممَن قالها. ويردُّ الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر بزوجاته وقصر. والثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك. والثالث: أنَّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما في حديث العلاء بن الحضرمي في البخاري. والرابع والخامس: لَم ينقلا. فلا يكفي التخرص في ذلك. والأول: وإن كان نقل. وأخرجه أحمد والبيهقي من حديث عثمان , وأنه لَمَّا صلَّى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه , فقال: إني تأهَّلت بمكة لَمَّا قدمت , وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهَّل ببلدة فإنه يُصلِّي صلاة مقيم ". فهذا الحديث لا يصح , لأنه منقطع. وفي رواته من لا يحتج به. ويرده قول عروة: إن عائشة تأوَّلت ما تأوَّل عثمان، ولا جائز أن تتأهَّل عائشة أصلاً. فدلَّ على وَهْن ذلك الخبر. ثم ظهر لي أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله " كما تأوَّل عثمان " التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقوّيه أنَّ الأسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت، بخلاف تأويل عائشة. والمنقول: أنَّ سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم. والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لَمَّا قدم علينا معاوية حاجاً صلَّى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان , فقالا: لقد عبت أمرَ ابنِ عمك , لأنه كان قد أتم الصلاة. قال: وكان عثمان حيث أتمَّ الصلاة إذا قدم مكة صلَّى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة. وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك , أنَّ عثمان وعائشة كانا يريان أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصر , لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة. انتهى. وهذا رجَّحه جماعةٌ من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب. وأما ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , أنَّ عثمان إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج. فهو مرسل، وفيه نظرٌ , لأنَّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما في حديث العلاء بن الحضرمي. وصحَّ عن عثمان , أنه كان لا يودِّع النساء إلاَّ على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته. وثبت عن عثمان , أنه قال لَمَّا حاصروه , وقال له المغيرة: اركب رواحلك إلى مكة , قال: لن أفارق دار هجرتي. ومع هذا النظر في رواية معمر عن الزهري , فقد روى أيوب عن الزهري ما يخالفه، فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري قال: إنما صلَّى عثمان بمنى أربعاً , لأنَّ الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام. فأحبَّ أن يعلّمهم أن الصلاة أربع. وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان , أنه أتم بمنى ثم خطب , فقال: إنَّ القصر سنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ولكنه حدث طَغَام - يعني بفتح الطاء والمعجمة - فخفت أن يستنّوا. وعن ابن جريج , أنَّ أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته بل يقويه من حيث إن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلَقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان. وأما عائشة. فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً، وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه , أنها كانت تصلِّي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليتِ ركعتين، فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي. إسناده صحيح. وهو دالٌّ على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل. ويدل على اختيار الجمهور. ما رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة , أنه سافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر فكلُّهم كان يُصلِّي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير وفي المقام بمكة.

فيحمل على الغالب. أو المراد به أنّه كان لا يتنفّل في أوّل أمره ولا في آخره، وأنّه إنّما كان يتمّ إذا كان نازلاً، وأمّا إذا كان سائراً فيقصر، فلذلك قيّده في هذه الرّواية بالسّفر، وهذا أولى.

مسائل: المسألة الأولى: أخذ بظاهر قول عائشة: فرض الله الصلاةَ حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرِّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر " متفق عليه. الحنفيةُ وبنوا عليه أنَّ القصر في السفر عزيمة لا رخصة. ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكية وهي رواية عن مالك وعن أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه على الاختيار والقصرُ عنده أفضل، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين. واحتج الشافعي على عدم الوجوب بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلى أربعاً باتفاقهم، ولو كان فرضه القصر لَم يأتَمَّ مسافرٌ بمقيم. وقال الطحاوي: لما كان الفرض لا بد لمن هو عليه أن يأتي به , ولا يتخير في الإتيان ببعضه. وكان التخيير مختصاً بالتطوع دلَّ على أنَّ المصلي لا يتخير في الاثنتين والأربع. وتعقبه ابن بطال: بأنا وجدنا واجباً يتخير بين الإتيان بجميعه أو ببعضه وهو الإقامة بمنى. انتهى ونقل الداودي عن ابن مسعود , أنه كان يرى القصر فرضاً. وفيه نظر. فروى الشيخان عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلَّى بنا عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود. فاسترجع , ثم قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين،

وصليت مع أبى بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظِّي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. وهذا يدلُّ على أنه كان يرى الإتمام جائزاً. وإلاَّ لَمَا كان له حظ من الأربع ولا من غيرها. فإنها كانت تكون فاسدة كلها. وإنما استرجع ابن مسعود لِما وقع عنده من مخالفة الأولى. ويؤيده ما روى أبو داود , أنَّ ابن مسعود صلَّى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟!. فقال: الخلاف شر. وفي رواية البيهقي " إني لأكره الخلاف " ولأحمد من حديث أبي ذر مثل الأول. وهذا يدل على أنه لَم يكن يعتقد أنَّ القصر واجب. واحتج مخالفوهم بقوله سبحانه وتعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) لأنَّ نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه. ويدل على أنه رخصة أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم. وأجابوا عن حديث الباب: بأنه من قول عائشة غير مرفوع , وبأنها لَم تشهد زمان فرض الصلاة، قاله الخطابي وغيره. وفي هذا الجواب نظر. أما أولاً: فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع. وأما ثانياً: فعلى تقدير تسليم أنها لَم تُدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة؛ لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , أو عن صحابي آخر أدرك ذلك.

وأما قول إمام الحرمين: لو كان ثابتاً لنقل متواتراً. ففيه أيضاً نظر؛ لأنَّ التواتر في مثل هذا غير لازم. وقالوا أيضاً: يعارض حديث عائشة هذا حديث ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين. أخرجه مسلم. والجواب: أنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس كما سيأتي فلا تعارض. وألزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته بأنهم يقولون: العبرة بما رأى لا بما روى، وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت عن عائشة أنها كانت تُتم في السفر. فدلَّ ذلك على أنَّ المروي عنها غير ثابت. والجواب عنهم: أنَّ عروة الراوي عنها قد قال لَمَّا سئل عن إتمامها في السفر: إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها وبين رأيها، فروايتها صحيحة ورأيها مبنيٌ على ما تأوَّلت. والذي يظهر لي - وبه تجتمع الأدلة السابقة - أنَّ الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلاَّ المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقِب الهجرة إلاَّ الصبح، كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة. قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأنَّ زِيْد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار. انتهى.

ثم بعد أن استقرَّ فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة وهي قوله تعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة). ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند. أنَّ قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره أنَّ نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية. ذكره الدولابي , وأورده السهيلي بلفظ " بعد الهجرة بعام أو نحوه. وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوماً. فعلى هذا المراد بقول عائشة " فأقرت صلاة السفر " أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أنَّ القصر عزيمة. ويظهر أثر الخلاف فيما إذا قام إلى الثالثة عمداً فصلاته عند الجمهور صحيحة، وعند الحنفية فاسدة ما لَم يكن جلس للتشهد. المسألة الثانية: قال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ لمن يريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها. واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت: فذهب الجمهور. إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت. وذهب بعض الكوفيين. إلى أنه إذا أراد السفر يُصلي ركعتين ولو كان في منزله. ومنهم من قال: إذا ركب قصر إن شاء. ورجّح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت

، واختلفوا فيما قبل ذلك، فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أنَّ له القصر. قال: ولا أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر في شيء من أسفاره إلا بعد خروجه عن المدينة. المسألة الثالثة: اختلف السلف في المقيم بِمنىً هل يقصر أو يتم، بناء على أنَّ القصر بها للسفر أو للنسك؟ واختار الثاني مالك. وتعقبه الطحاوي: بأنه لو كان كذلك لكان أهل منى يتمون ولا قائل بذلك. وقال بعض المالكية: لو لَم يجز لأهل مكة القصر بِمنىً. لقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أَتِمُّوا، وليس بين مكة ومِنىً مسافة القصر، فدلَّ على أنهم قصروا للنسك. وأجيب: بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين , أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمكة ركعتين , ويقول: يا أهل مكة أَتِمُّوا فإنا قوم سفر. وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة. قلت: وهذا ضعيف، لأنَّ الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ولو صحَّ فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بدَّ من بيان ذلك لبُعد العهد. ولا يخفى أنَّ أصل البحث مبنيٌ على تسليم أنَّ المسافة التي بين مكة ومنى لا يقصر فيها، وهو من محالِّ الخلاف.

باب الجمعة

باب الجمعة الجمعة بضمّ الميم على المشهور، وقد تسكّن وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحديّ عن الفرّاء فتحها، وحكى الزّجّاج الكسر أيضاً. واختلف في تسمية اليوم بذلك , مع الاتّفاق على أنّه كان يسمّى في الجاهليّة العروبة بفتح العين المهملة وضمّ الرّاء وبالموحّدة. فقيل: سُمِّي بذلك لأنّ كمال الخلائق جمع فيه، ذكره أبو حذيفة النّجّاريّ في المبتدأ عن ابن عبّاسٍ وإسناده ضعيف. وقيل: لأنّ خلق آدم جمع فيه , ورد ذلك من حديث سلمان. أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديثٍ، وله شاهد عن أبي هريرة. ذكره ابن أبي حاتم موقوفاً بإسنادٍ قويّ، وأحمد مرفوعاً بإسنادٍ ضعيف. وهذا أصحّ الأقوال. ويليه. ما أخرجه عبد بن حميدٍ عن ابن سيرين بسندٍ صحيح إليه. في قصّة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة، وكانوا يسمّون يوم الجمعة يوم العروبة، فصلَّى بهم وذكّرهم فسمّوه الجمعة حين اجتمعوا إليه، ذكره ابن أبي حاتم موقوفاً. وقيل: لأنّ كعب بن لؤيّ كان يجمع قومه فيه فيذكّرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنّه سيبعث منه نبيّ، روى ذلك الزّبير في " كتاب النّسب " عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف مقطوعاً , وبه جزم الفرّاء وغيره. وقيل: إنّ قصيّاً هو الذي كان يجمعهم. ذكره

ثعلب في أماليه. وقيل: سُمّي بذلك لاجتماع النّاس للصّلاة فيه، وبهذا جزم ابن حزم , فقال: إنّه اسم إسلاميّ لَم يكن في الجاهليّة. وإنّما كان يسمّى العروبة. انتهى وفيه نظر، فقد قال أهل اللّغة: إنّ العروبة اسم قديم كان للجاهليّة، وقالوا في الجمعة هو يوم العروبة، فالظّاهر أنّهم غيّروا أسماء الأيّام السّبعة بعد أن كانت تسمّى: أوّل، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شيار. وقال الجوهريّ: كانت العرب تسمّي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة، وهذا يشعر بأنّهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارفة الآن كالسّبت والأحد إلى آخرها. وقيل: إنّ أوّل من سمّى الجمعة العروبة كعب بن لؤيّ , وبه جزم الفرّاء وغيره، فيحتاج مَن قال إنّهم غيّروها إلاَّ الجمعة فأبقوه على تسمية العروبة إلى نقل خاصّ. وذكر ابن القيّم في الهدي ليوم الجمعة اثنين وثلاثين خصوصيّة، وفيها أنّها يوم عيد ولا يُصام منفرداً، وقراءة الم تنزيل وهل أتى في صبيحتها والجمعة والمنافقين فيها، والغسل لها والطّيب والسّواك ولبس أحسن الثّياب، وتبخير المسجد والتّبكير والاشتغال بالعبادة حتّى يخرج الخطيب، والخطبة والإنصات، وقراءة الكهف، ونفي كراهية النّافلة وقت الاستواء، ومنع السّفر قبلها، وتضعيف أجر

الذّاهب إليها بكل خطوة أجر سنة، ونفي تسجير جهنّم في يومها، وساعة الإجابة، وتكفير الآثام، وأنّها يوم المزيد والشّاهد المدّخر لهذه الأمّة، وخير أيّام الأسبوع، وتجتمع فيه الأرواح إن ثبت الخبر فيه. انتهى ملخّصاً وذكر أشياء أخر فيها نظر، وترك أشياء يطول تتبّعها. والله أعلم

الحديث التاسع والثمانون

الحديث التاسع والثمانون 138 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ جاءَ منكم الجمعةَ فليغتسل. (¬1) قوله: (من جاء منكم الجمعة) وللبخاري من رواية نافع عن ابن عمر " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " قوله: (فليغتسل) الفاء للتّعقيب، وظاهره أنّ الغسل يعقب المجيء، وليس ذلك المراد وإنّما التّقدير إذا أراد أحدكم. وقد جاء مصرّحاً به في رواية الليث عن نافع عند مسلم. ولفظه " إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل " ونظير ذلك قوله تعالى (إذا ناجيتم الرّسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقةً) , فإنّ المعنى إذا أردتم المناجاة بلا خلاف. ويقوّي رواية الليث حديث أبي هريرة الآتي قريباً بلفظ " من اغتسل يوم الجمعة ثمّ راح " (¬2) فهو صريح في تأخير الرّواح عن الغسل، وعرف بهذا فساد قول من حمله على ظاهره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (854 , 877) ومسلم (844) من طرق عن الزهري عن سالم (زاد مسلمٌ وعبد الله بن عبد الله بن عمر) عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنه قال وهو قائم على المنبر. فذكره. لفظ مسلم. وأخرجه البخاري (837) من طريق مالك , ومسلم (844) من طريق الليث كلاهما عن نافع عن ابن عمر. (¬2) سيأتي إن شاء الله رقم (143)

واحتجّ به على أنّ الغسل لليوم لا للصّلاة، لأنّ الحديث واحد ومخرّجه واحد، وقد بيّن الليث في روايته المراد، وقوّاه حديث أبي هريرة. ورواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهورة جدّاً. فقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في " صحيحه ". فساقه من طريق سبعين نفساً رووه عن نافع. وقد تتبّعت ما فاته , وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرضٍ اقتضى ذلك , فبلغتْ أسماء من رواه عن نافع مائةً وعشرين نفساً. فما يستفاد منه هنا ذكر سبب الحديث. ففي رواية إسماعيل بن أُميَّة عن نافع عند أبي عوانة وقاسم بن أصبغ: كان النّاس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاءوا وعليهم ثياب متغيّرة، فشكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل. ومنها ذكر محلّ القول. ففي رواية الحكم بن عتيبة عن نافع عن ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعواد هذا المنبر بالمدينة يقول. أخرجه يعقوب الجصّاص في " فوائده " من رواية اليسع بن قيس عن الحكم. وطريق الحكَم عند النّسائيّ وغيره من رواية شعبة عنه. بدون هذا السّياق , بلفظ حديث الباب إلاَّ قوله " جاء " فعنده " راح " وكذا

رواه النّسائيّ من رواية إبراهيم بن طهمان عن أيّوب ومنصور ومالك ثلاثتهم عن نافع. ومنها ما يدلّ على تكرار ذلك. ففي رواية صخر بن جويرية عن نافع عند أبي مسلم الكجّيّ بلفظ " كان إذا خطب يوم الجمعة قال. الحديث. ومنها زيادة في المتن. ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبّان في صحاحهم بلفظ: من أتى الجمعة من الرّجال والنّساء فليغتسل، ومن لَم يأتها فليس عليه غسل. ورجاله ثقات، لكن قال البزّار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه. ومنها زيادة في المتن والإسناد أيضاً. أخرجه أبو داود والنّسائيّ وابن خزيمة وابن حبّان وغيرهم من طرق عن مفضّل بن فضالة عن عيّاش بن عبّاسٍ القتبانيّ عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ عن نافع عن ابن عمر عن حفصة , قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجمعة واجبة على كلّ محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل. قال الطّبرانيّ في " الأوسط ": لَم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلاَّ بكير، ولا عنه إلاَّ عيّاش تفرّد به مفضّل. قلت: رواته ثقات - فإن كان محفوظاً فهو حديث آخر - ولا مانع

أن يسمعه ابن عمر من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن غيره من الصّحابة، ففي الصحيحين من رواية ابن عمر عن أبيه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ولا سيّما مع اختلاف المتون. قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة، واستدل به لمالكٍ في أنّه يعتبر أن يكون الغسل متّصلاً بالذّهاب، ووافقه الأوزاعيّ والليث. والجمهور قالوا: يجزئ من بعد الفجر. ويشهد لهم حديث ابن عبّاسٍ: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم. وإن لَم تكونوا جنباً. أخرجه البخاري. وطلوع الفجر أول اليوم شرعاً. وقال الأثرم: سمعت أحمد سئل عمّن اغتسل ثمّ أحدث. هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم. ولَم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزى. يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عن سعيد بن عبد الرّحمن بن أبزى عن أبيه - وله صحبة - أنّه كان يغتسل يوم الجمعة , ثمّ يحدث فيتوضّأ , ولا يعيد الغسل. ومقتضى النّظر أن يقال: إذا عرف أنّ الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة والتّنظيف رعاية الحاضرين من التّأذّي بالرّائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النّهار ما يزيل تنظيفه استحبّ له أن يؤخّر الغسل لوقت ذهابه، ولعل هذا هو الذي لحظه مالك. فشرط اتّصال

الذّهاب بالغسل ليحصل الأمن ممّا يغاير التّنظيف. والله أعلم قال ابن دقيق العيد: ولقد أبعد الظّاهريّ إبعاداً يكاد أن يكون مجزوماً ببطلانه. حيث لَم يشترط تقدّم الغسل على إقامة صلاة الجمعة حتّى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده , تعلّقاً بإضافة الغسل إلى اليوم، يعني كما تقدّم في حديث ابن عباس. وقد تبيّن من بعض الرّوايات أنّ الغسل لإزالة الرّوائح الكريهة. كما روى البخاري في حديث عائشة , قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا. قال: وفهم منه أنّ المقصود عدم تأذّي الحاضرين. وذلك لا يتأتّى بعد إقامة الجمعة، وكذلك أقول لو قدّمه بحيث لا يتحصّل هذا المقصود لَم يعتدّ به. والمعنى إذا كان معلوماً كالنّصّ قطعاً أو ظنّاً مقارناً للقطع فاتّباعه وتعليق الحكم به أولى من اتّباع مجرّد اللفظ. قلت: وقد حكى ابن عبد البرّ الإجماع على أنّ من اغتسل بعد الصّلاة لَم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به. وادّعى ابن حزم أنّه قول جماعة من الصّحابة والتّابعين. وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد المنع، والرّدّ يفضي إلى التّطويل بما لا طائل تحته. ولَم يُورد عن أحدٍ ممّن ذكر التّصريح بإجزاء الاغتسال بعد صلاة

الجمعة، وإنّما أورد عنهم ما يدلّ على أنّه لا يشترط اتّصال الغسل بالذّهاب إلى الجمعة، فأخذ هو منه أنّه لا فرق بين ما قبل الزّوال أو بعده. والفرق بينهما ظاهر كالشّمس، والله أعلم واستدل من مفهوم الحديث على أنّ الغسل لا يشرع لمن لَم يحضر الجمعة، وقد تقدّم التّصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع، وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة، وبه قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفيّة. وقوله فيه " الجمعة " المراد به الصّلاة أو المكان الذي تقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب , وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاوراً للجامع أو مقيماً به. واستدل بقوله " واجب " (¬1). وهو القول الأول: على فرضيّة غسل الجمعة. وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمّار بن ياسرٍ وغيرهما، وهو قول أهل الظّاهر وإحدى الرّوايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجمعٍ جمٍّ من الصّحابة ومن بعدهم، ثمّ ساق الرّواية عنهم , لكن ليس فيها عن أحد منهم التّصريح بذلك إلاَّ نادراً، وإنّما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظنّ مسلماً يدع غسل ¬

_ (¬1) أي. ما أخرجه البخاري (879) ومسلم (846) من حديث أبي سعيد , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. وكذا في رواية من حديث ابن عمر. كما ذكره الشارح قبل قليل.

يوم الجمعة. وحكاه ابن المنذر والخطّابيّ عن مالك، وقال القاضي عياض وغيره: ليس ذلك بمعروفٍ في مذهبه. قال ابن دقيق العيد: قد نصّ مالك على وجوبه , فحَمَلَه مَن لَم يمارس مذهبه على ظاهره , وأبى ذلك أصحابه. انتهى والرّواية عن مالك بذلك في التّمهيد. وفيه أيضاً من طريق أشهب عن مالك أنّه سئل عنه. فقال: حسن , وليس بواجبٍ. وحكاه بعض المتأخّرين عن ابن خزيمة من أصحابنا، وهو غلطٌ عليه. فقد صرّح في " صحيحه " بأنّه على الاختيار، واحتجّ لكونه مندوباً بعدّة أحاديث في عدّة تراجم. وحكاه شارح الغنية لابن سريج قولاً للشّافعيّ. واستغرب. وقد قال الشّافعيّ في الرّسالة بعد أن أورد حديثَي ابن عمر وأبي سعيد: احتمل قوله " واجب " معنيين، الظّاهر منهما أنّه واجبٌ فلا تجزي الطّهارة لصلاة الجمعة إلاَّ بالغسل. واحتمل: أنّه واجبٌ في الاختيار وكرم الأخلاق والنّظافة. ثمّ استدل للاحتمال الثّاني بقصّة عثمان مع عمر (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجها البخاري (878) ومسلم (1992) عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنَّ عمر بن الخطاب، بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة. إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت فقال: والوضوء أيضاً، وقد علمتَ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل.

قال: فلمّا لَم يترك عثمان الصّلاة للغسل , ولَم يأمره عمر بالخروج للغسل دلَّ ذلك على أنّهما قد علما أنّ الأمر بالغسل للاختيار. انتهى. وعلى هذا الجواب عوّل أكثر المصنّفين في هذه المسألة. كابن خزيمة والطّبريّ والطّحاويّ وابن حبّان وابن عبد البرّ وهلمّ جرّاً. وزاد بعضهم فيه: أنّ من حضر من الصّحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعاً منهم. على أنّ الغسل ليس شرطاً في صحّة الصّلاة , وهو استدلال قويّ. وقد نقل الخطّابيّ وغيره الإجماع على أنّ صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة، لكن حكى الطّبريّ عن قوم: أنّهم قالوا بوجوبه , ولَم يقولوا إنّه شرط , بل هو واجبٌ مستقلٌّ تصحّ الصّلاة بدونه , كأنّ أصله قصد التّنظيف وإزالة الرّوائح الكريهة التي يتأذّى بها الحاضرون من الملائكة والنّاس، وهو موافق لقول مَن قال: يحرم أكل الثّوم على من قصد الصّلاة في الجماعة. ويردّ عليهم: أنّه يلزم من ذلك تأثيم عثمان. والجواب: أنّه كان معذوراً , لأنّه إنّما تركه ذاهلاً عن الوقت. مع أنّه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أوّل النّهار، لِمَا ثبت في صحيح مسلم عن حمران , أنّ عثمان لَم يكن يمضي عليه يوم حتّى يفيض عليه الماء، وإنّما لَم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التّأخّر , لأنّه لَم يتّصل غسله بذهابِه إلى الجمعة كما هو الأفضل.

القول الثاني: عن بعض الحنابلة: التّفصيل بين ذي النّظافة وغيره، فيجب على الثّاني دون الأوّل نظراً إلى العلة، حكاه صاحب الهدي. وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه. أنّ قصّة عمر وعثمان تدلّ على وجوب الغسل لا على عدم وجوبه , من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رءوس النّاس، فلو كان ترك الغسل مباحاً لَمَا فعل عمر ذلك، وإنّما لَم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت , إذ لو فعل لفاتته الجمعة , أو لكونه كان اغتسل كما تقدّم. القول الثالث: قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة , وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظّاهر، وقد أوّلوا صيغة الأمر على النّدب وصيغة الوجوب على التّأكيد كما يقال: إكرامك عليّ واجبٌ، وهو تأويل ضعيف إنّما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً على هذا الظّاهر. وأقوى ما عارضوا به هذا الظّاهر حديث " من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل " ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث، قال: وربّما تأوّلوه تأويلاً مستكرهاً كمن حمل لفظ الوجوب على السّقوط. انتهى. فأمّا الحديث فعوّل على المعارضة به كثيرٌ من المصنّفين، ووجه الدّلالة منه قوله " فالغسل أفضل " , فإنّه يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء.

ولهذا الحديث طرق. أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السّنن الثّلاثة وابن خزيمة وابن حبّان، وله علتان: إحداهما: أنّه من عنعنة الحسن. والأخرى: أنّه اختلف عليه فيه. وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطّبرانيّ من حديث عبد الرّحمن بن سمرة، والبزّار من حديث أبي سعيد، وابن عديّ من حديث جابر. وكلّها ضعيفة. وعارضوا أيضاً بأحاديث. منها حديث أبي سعيد , قال: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد. أخرجه البخاري. فإنّ فيه " وأن يستنّ، وأن يمسّ طيباً ". قال القرطبيّ: ظاهره وجوب الاستنان والطّيب لذكرهما بالعاطف، فالتّقدير الغسل واجبٌ والاستنان والطّيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتّفاقاً، فدلَّ على أنّ الغسل ليس بواجبٍ، إذ لا يصحّ تشريك ما ليس بواجبٍ مع الواجب بلفظٍ واحد. انتهى. وقد سبق إلى ذلك الطّبريّ والطّحاويّ. وتعقّبه ابن الجوزيّ: بأنّه لا يمتنع عطف ما ليس بواجبٍ على الواجب، لا سيّما ولَم يقع التّصريح بحكم المعطوف.

وقال ابن المنير (¬1) في الحاشية: إن سلم أنّ المراد بالواجب الفرض لَم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجبٍ عليه , لأنّ للقائل أن يقول: أخرج بدليلٍ فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أنّ دعوى الإجماع في الطّيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في " جامعه " عن أبي هريرة , أنّه كان يوجب الطّيب يوم الجمعة. وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظّاهر. ومنها حديث أبي هريرة مرفوعاً: من توضّأ فأحسن الوضوء , ثمّ أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له. أخرجه مسلم. قال القرطبيّ: ذكر الوضوء وما معه مرتّباً عليه الثّواب المقتضي للصّحّة، فدلَّ على أنّ الوضوء كافٍ. وأجيب: بأنّه ليس فيه نفي الغسل. وقد ورد من وجه آخر في الصّحيحين بلفظ " من اغتسل " , فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدّم غسله على الذّهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. ومنها حديث ابن عبّاسٍ , أنّه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجبٌ هو؟ فقال: لا، ولكنّه أطهر لمن اغتسل، ومن لَم يغتسل فليس بواجبٍ عليه. وسأخبركم عن بدء الغسل: كان النّاس مجهودين يلبسون الصّوف ويعملون، وكان مسجدهم ضيّقاً، فلمّا آذى بعضهم بعضاً قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أيّها النّاس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا , قال ابن عبّاسٍ: ثمّ جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصّوف، وكُفُوا العمل، ¬

_ (¬1) هو علي بن محمد الاسكندراني , سبق ترجمته (2/ 378)

ووسع المسجد. أخرجه أبو داود والطّحاويّ. وإسناده حسنٌ. لكنّ الثّابت عن ابن عبّاسٍ خلافه كما سيأتي قريباً. وعلى تقدير الصّحّة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدّالة على الوجوب، وأمّا نفي الوجوب. فهو موقوف لأنّه من استنباط ابن عبّاسٍ، وفيه نظرٌ. إذ لا يلزم من زوال السّبب زوال المسبّب كما في الرّمل والجمار، على تقدير تسليمه فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسّك به. ومنها حديث طاوسٍ , قلت لابن عبّاسٍ: زعموا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رءوسكم إلاَّ أن تكونوا جنباً. الحديث. قال ابن حبّان بعد أن أخرجه: فيه أنّ غسل الجمعة يجزئ عنه غسل الجنابة، وأنّ غسل الجمعة ليس بفرضٍ، إذ لو كان فرضاً لَم يجز عنه غيره. انتهى. وهذه الزّيادة " إلاَّ أن تكونوا جنباً " تفرّد بها ابن إسحاق عن الزّهريّ، وقد رواه شعيب عن الزّهريّ بلفظ " وإن لَم تكونوا جنباً " وهذا هو المحفوظ عن الزّهريّ كما أخرجه البخاري. ومنها حديث عائشة عند البخاري " كان الناس مهنة أنفسهم , وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم , فقيل لهم: لو اغتسلتم ". ففيه عرض وتنبيهٌ لا حتم ووجوب.

وأجيب: بأنّه ليس فيه نفي الوجوب، وبأنّه سابقٌ على الأمر به والإعلام بوجوبه. ونقل الزين بن المنير بعد قول الطّحاويّ لَمّا ذكر حديث عائشة: فدلَّ على أنّ الأمر بالغسل لَم يكن للوجوب، وإنّما كان لعلةٍ ثمّ ذهبت تلك العلة فذهب الغسل، وهذا من الطّحاويّ يقتضي سقوط الغسل أصلاً , فلا يعدّ فرضاً ولا مندوباً , لقوله: زالت العلة إلخ، فيكون مذهباً ثالثاً في المسألة. انتهى. ولا يلزم من زوال العلة سقوط النّدب تعبّداً، ولا سيّما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثمّ إنّ هذه الأحاديث كلّها لو سلمت لَمَا دلَّت إلاَّ على نفي اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرّد كما تقدّم. وأمّا ما أشار إليه ابن دقيق العيد. من أنّ بعضهم أوّله بتأويلٍ مستكره , فقد نقله ابن دحية عن القدوريّ من الحنفيّة , وأنّه قال: قوله " واجب " أي: ساقط، وقوله " على " بمعنى عن، فيكون المعنى أنّه غير لازمٍ. ولا يخفى ما فيه من التّكلّف. وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللّغة السّقوط، فلمّا كان في الخطاب على المكلف عِبءٌ ثقيل كان كلّ ما أكّد طلبه منه يسمّى واجباً كأنّه سقط عليه، وهو أعمّ من كونه فرضاً أو ندباً. وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثمّ تعقّبه: بأنّ اللفظ الشّرعيّ خاصّ بمقتضاه شرعاً لا وضعاً.

وكأنّ الزّين استشعر هذا الجواب فزاد أنّ تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادثٌ. وأجيب: بأنّ " وجب " في اللّغة لَم ينحصر في السّقوط، بل ورد بمعنى مات، وبمعنى اضطرب، وبمعنى لزم وغير ذلك. والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنّها بمعنى لزم، لا سيّما إذا سيقت لبيان الحكم. وقد تقدّم في بعض طرق حديث ابن عمر " الجمعة واجبة على كلّ محتلم " وهو بمعنى اللّزوم قطعاً , ويؤيّده أنّ في بعض طرق حديث الباب " واجب كغسل الجنابة " أخرجه ابن حبّان من طريق الدّراورديّ عن صفوان بن سليمٍ، وظاهره اللّزوم. وأجاب عنه بعض القائلين: بالنّدبيّة بأنّ التّشبيه في الكيفيّة لا في الحكم. وقال ابن الجوزيّ: يحتمل أن تكون لفظة " الوجوب " مغيّرة من بعض الرّواة أو ثابتة ونسخ الوجوب. وردّ: بأنّ الطّعن في الرّوايات الثّابتة بالظّنّ الذي لا مستند له لا يقبل، والنّسخ لا يصار إليه إلاَّ بدليلٍ، ومجموع الأحاديث يدلّ على استمرار الحكم، فإنّ في حديث عائشة , أنّ ذلك كان في أوّل الحال حيث كانوا مجهودين، وأبو هريرة وابن عبّاسٍ إنّما صحبا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن حصل التّوسّع بالنّسبة إلى ما كانوا فيه أوّلاً، ومع ذلك فقد سمع كلٌّ منهما منه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالغسل والحثّ عليه والتّرغيب فيه.

فكيف يدعى النّسخ بعد ذلك؟. فائدةٌ: حكى ابن العربيّ وغيره أنّ بعض أصحابهم , قالوا: يجزئ عن الاغتسال للجمعة التّطيّب , لأنّ المقصود النّظافة. وقال بعضهم: لا يشترط له الماء المطلق , بل يجزئ بماء الورد ونحوه. وقد عاب ابن العربيّ ذلك , وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التّعبّد بالمعيّن، والجمع بين التّعبّد والمعنى أولى. انتهى. وعكس ذلك قول بعض الشّافعيّة بالتّيمّم، فإنّه تعبّد دون نظر إلى المعنى، أمّا الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود , لأنّها عبادة لثبوت التّرغيب فيها فيحتاج إلى النّيّة ولو كان لمحض النّظافة لَم تكن كذلك. والله أعلم. تكميلٌ: بوَّب عليه البخاري " باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء ". اعترض أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين على هذا الشق الثاني من الترجمة , فقال: ترجم. هل على الصبي أو النساء جمعة؟ وأورد " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وليس فيه ذكر وجوب شهود ولا غيره. وأجاب ابن التين: بأنه أراد سقوط الوجوب عنهم، أما الصبيان فبالحديث الثالث في الباب حيث قال " على كل محتلم " فدلَّ على أنها

غير واجبة على الصبيان. قال: وقال الداودي: فيه دليل على سقوطها عن النساء , لأنَّ الفروض تجب عليهن في الأكثر بالحيض لا بالاحتلام. وتعقب: بأن الحيض في حقهن علامة للبلوغ كالاحتلام، وليس الاحتلام مختصاً بالرجال , وإنما ذكر في الخبر لكونه الغالب , وإلا فقد لا يحتلم الإنسان أصلاً , ويبلغ بالإنزال أو السن. وحكمه حكم المحتلم. وقال الزين بن المنير: إنما أشار إلى أنَّ غسل الجمعة شرع للرواح إليها كما دلت عليه الأخبار، فيحتاج إلى معرفة من يطلب رواحه فيطلب غسله، واستعمل الاستفهام في الترجمة للإشارة إلى وقوع الاحتمال في حق الصبي في عموم قوله " أحدكم " لكن تقيده بالمحتلم في الحديث الآخر يخرجه. وأما النساء فيقع فيهن الاحتمال بأن يدخلن في " أحدكم " بطريق التبع، وكذا احتمال عموم النهي في منعهن المساجد، لكن تقيده بالليل يخرج الجمعة. انتهى. ولعلَّ البخاري أشار بذكر النساء إلى ما تقدَّم قريباً في بعض طرق حديث نافع، وإلى الحديث المصرِّح " بأن لا جمعة على امرأة ولا صبي " لكونه ليس على شرطه , وإن كان الإسناد صحيحاً , وهو عند أبي داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورجاله ثقات. لكن قال أبو داود: لَم يسمع طارق من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ أنه رآه.

انتهى. وقد أخرجه الحاكم في " المستدرك " من طريق طارق عن أبي موسى الأشعري. قال الزين بن المنير: ونقل عن مالك أنَّ من يحضر الجمعة من غير الرجال إن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة، وإن حضرها لأمر اتفاقي فلا.

الحديث التسعون

الحديث التسعون 139 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين وهو قائمٌ , يفصل بينهما بجلوسٍ. (¬1) قوله: (وهو قائمٌ) قال ابن المنذر: الذي حمل عليه جلّ أهل العلم من علماء الأمصار ذلك. ونقل غيرُه عن أبي حنيفة: أنّ القيام في الخطبة سنّة وليس بواجبٍ، وعن مالك رواية: أنّه واجب، فإن تركه أساء وصحّت الخطبة، وعند الباقين: أنّ القيام في الخطبة يشترط للقادر كالصّلاة. واستدل للأوّل بحديث أبي سعيد في البخاري , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله , وبحديث سهل: مُري غلامك يعمل لي أعواداً أجلس عليها. (¬2) وأجيب: عن الأوّل , أنّه كان في غير خطبة الجمعة. وعن الثّاني , باحتمال أن تكون الإشارة إلى الجلوس أوّل ما يصعد وبين الخطبتين. واستدل للجمهور بحديث جابر بن سمرة الآتي , وبحديث كعب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (878 ,) ومسلم (681) من طريق خالد بن الحارث , والبخاري (886) من طريق بشر بن المفضل كلاهما عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم. قال: كما يفعلون اليوم. واللفظ لمسلم. وللبخاري (928) " كان يخطب خطبتين يقعد بينهما. واللفظ الذي ذكره المقدسي هنا عند النسائي والدارقطني كما سيذكره الشارح. (¬2) هذه إحدى روايات حديث سهل - رضي الله عنه - عند البخاري, وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله رقم (142).

بن عُجْرة , أنّه دخل المسجد , وعبد الرّحمن بن أبي الحكم يخطب قاعداً، فأنكر عليه. وتلا (وتركوك قائماً) , وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قطّ إماماً يؤمّ المسلمين يخطب وهو جالس، يقول ذلك مرّتين. وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوسٍ: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً وأبو بكر وعمر وعثمان، وأوّل من جلس على المنبر معاوية. وبمواظبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على القيام، وبمشروعيّة الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعاً في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس. ولأنّ الذي نقل عنه القعود كان معذوراً. فعند ابن أبي شيبة من طريق الشّعبيّ , أنّ معاوية إنّما خطب قاعداً لَمّا كثر شحم بطنه ولحمه. وأمّا من احتجّ: بأنّه لو كان شرطاً ما صلَّى من أنكر ذلك مع القاعد. فجوابه: أنّه محمول على أنّ من صنع ذلك خشي الفتنة، أو أنّ الذي قعد قعد باجتهادٍ كما قالوا في إتمام عثمان الصّلاة في السّفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود , ثمّ إنّه صلَّى خلفه فأتمّ معه. واعتذر بأنّ الخلاف شرّ (¬1). وفي الباب حديث جابر بن سمرة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً ثمّ يجلس ثمّ يقوم فيخطب قائماً، فمن نبّأك أنّه كان يخطب جالساً فقد كذب. أخرجه مسلم. ¬

_ (¬1) تقدّم الكلام عليه. انظر رقم (137)

وهو أصرح في المواظبة من حديث ابن عمر. إلاَّ أنّ إسناده ليس على شرط البخاريّ. وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوسٍ قال: أوّل من خطب قاعداً معاوية حين كثر شحم بطنه. وهذا مرسل. يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال: أوّل من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان , وكان إذا أعيا جلس ولَم يتكلم حتّى يقوم، وأوّل من خطب جالساً معاوية. وروى عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة، حتّى شقّ على عثمان القيام فكان يخطب قائماً ثمّ يجلس، فلمّا كان معاوية خطب الأولى جالساً والأخرى قائماً. ولا حجّة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعداً , لأنّه تبيّن أنّ ذلك للضّرورة. قوله: (يفصل بينهما بجلوسٍ) وللبخاري من رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله عن نافع " يخطب خطبتين يقعد بينهما " , مقتضاه أنه كان يخطبهما قائماً. وصرَّح به في رواية خالد بن الحارث عن عبيد الله. ولفظه " كان يخطب قائماً ثم يقعد ثم يقوم " (¬1). وللنّسائيّ والدّارقطنيّ من هذا الوجه (¬2) " كان يخطب خطبتين ¬

_ (¬1) رواية خالد بن الحارث في الصحيحين. وقد تقدّم ذكرها في تخريج الحديث. (¬2) أي من رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله.

قائماً يفصل بينهما بجلوسٍ ". وغفل صاحب العمدة فعزا هذا اللفظ للصّحيحين. ورواه أبو داود بلفظ " كان يخطب خطبتين: كان يجلس إذا صعد المنبر حتّى يفرغ المؤذّن، ثمّ يقوم فيخطب، ثمّ يجلس فلا يتكلم، ثمّ يقوم فيخطب " واستفيد من هذا أنّ حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرّاً. واستدل به الشّافعيّ في إيجاب الجلوس بين الخطبتين. لمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك مع قوله " صلّوا كما رأيتموني أصلي ". قال ابن دقيق العيد: يتوقّف ذلك على ثبوت أنّ إقامة الخطبتين داخل تحت كيفيّة الصّلاة، وإلا فهو استدلال بمجرّد الفعل. وزعم الطّحاويّ: أنّ الشّافعيّ تفرّد بذلك. وتعقّب: بأنّه محكيّ عن مالك أيضاً في رواية، وهو المشهور عن أحمد نقله شيخنا في شرح التّرمذيّ. وحكى ابن المنذر: أنّ بعض العلماء عارض الشّافعيّ: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - واظب على الجلوس قبل الخطبة الأولى، فإن كانت مواظبته دليلاً على شرطيّة الجلسة الوسطى فلتكن دليلاً على شرطيّة الجلسة الأولى. وهذا متعقّب: بأنّ جلّ الرّوايات عن ابن عمر ليست فيها هذه الجلسة الأولى. وهي من رواية عبد الله العمريّ المضعّف فلم تثبت المواظبة عليها، بخلاف التي بين الخطبتين.

وقال صاحب " المغني ": لَم يوجبها أكثر أهل العلم , لأنّها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تجب، وقدّرها مَن قال بوجوبها بقدر جلسة الاستراحة وبقدر ما يقرأ سورة الإخلاص. واختلف في حكمتها. فقيل: للفصل بين الخطبتين، وقيل: للرّاحة. وعلى الأوّل - وهو الأظهر - يكفي السّكوت بقدرها، ويظهر أثر الخلاف أيضاً فيمن خطب قاعداً لعجزه عن القيام. وقد ألزم الطّحاويّ مَن قال بوجوب الجلوس بين الخطبتين. أن يُوجب القيام في الخطبتين، لأنّ كلاًّ منهما اقتصر على فعل شيء واحد. وتعقّبه الزين بن المنير. وبالله التّوفيق.

الحديث الواحد والتسعون

الحديث الواحد والتسعون 140 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , قال: جاء رجلٌ. والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب النّاس يوم الجمعة. فقال: صلَّيتَ يا فلان؟. قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين. وفي روايةٍ: فصلِّ ركعتين. (¬1) قوله: (جاء رجل) هو سليك بمهملةٍ مصغّراً ابن هدبة , وقيل: ابن عمرو الغطفانيّ - بفتح المعجمة ثمّ المهملة بعدها فاء - من غطفان بن سعد بن قيس عيلان. ووقع مسمّىً في هذه القصّة عند مسلم من رواية الليث بن سعد عن أبي الزّبير عن جابر بلفظ: جاء سليك الغطفانيّ يوم الجمعة. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فقعد سليك قبل أن يُصلِّي، فقال له: أصليتَ ركعتين؟ فقال: لا. فقال: قم فاركعهما. ومن طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر نحوه. وفيه " فقال له: يا سليك، قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما. هكذا رواه حفّاظ أصحاب الأعمش عنه، ووافقه الوليد أبو بشر عن أبي سفيان. عند أبي داود والدّارقطنيّ. وشذّ منصور بن أبي الأسود عن الأعمش بهذا الإسناد. فقال: جاء النّعمان بن نوفل .. فذكر الحديث. أخرجه الطّبرانيّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (888 , 889 , 1113) ومسلم (875) من طرق عن عمرو بن دينار عن جابر - رضي الله عنه -.

قال أبو حاتم الرّازيّ: وهِم فيه منصور. يعني في تسمية الآتي. وقد رواه الطّحاويّ من طريق حفص بن غياث عن الأعمش قال: سمعت أبا صالح يحدّث بحديث سليك الغطفانيّ، ثمّ سمعت أبا سفيان يحدّث به عن جابر، فتحرّر أنّ هذه القصّة لسليك. وروى الطّبرانيّ أيضاً من طريق أبي صالح عن أبي ذرّ , أنّه أتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب , فقال لأبي ذرّ: صليت ركعتين؟ قال: لا. الحديث. وفي إسناده ابن لهيعة. وشذّ بقوله " وهو يخطب " فإنّ الحديث مشهور عن أبي ذرّ , أنّه جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد. أخرجه ابن حبّان وغيره. وأمّا ما رواه الدّارقطنيّ من حديث أنس قال: دخل رجلٌ من قيس المسجد. فذكر نحو قصّة سليك، فلا يخالف كونه سليكاً فإنّ غطفان من قيس كما تقدّم، وإن كان بعض شيوخنا غاير بينهما , وجوّز أن تكون الواقعة تعدّدت. فإنّه لَم يتبيّن لي ذلك. واختلف فيه على الأعمش اختلافاً آخر. رواه الثّوريّ عنه عن أبي سفيان عن جابر عن سليك فجعل الحديث من مسند سليك. قال ابن عديّ: لا أعلم أحداً قاله عن الثّوريّ هكذا غير الفريابيّ وإبراهيم بن خالد. انتهى. وقد قاله عنه أيضاً عبد الرّزّاق، أخرجه هكذا في " مصنّفه " وأحمد عنه وأبو عوانة والدّارقطنيّ من طريقه. ونقل ابن عديّ عن النّسائيّ أنّه قال: هذا خطأ.

والذي يظهر لي أنّه ما عنى أنّ جابراً حمل القصّة عن سليك، وإنّما معناه أنّ جابراً حدّثهم عن قصّة سليك، ولهذا نظيرٌ كما في حديث أبي مسعود في قصّة أبي شعيب اللحّام (¬1). ومن المستغربات ما حكاه ابن بشكوال في المبهمات , أنّ الدّاخل المذكور يقال له أبو هديّة، فإن كان محفوظاً فلعلها كنية سليك صادفت اسم أبيه. قوله: (فقال: صليت؟) كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام , وثبت في رواية الأصيليّ. (¬2) قوله: (قم فاركع ركعتين) واستدل به على أنّ الخطبة لا تمنع الدّاخل من صلاة تحيّة المسجد. وتعقّب: بأنّها واقعة عين لا عموم لها. فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدلّ عليه قوله في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب السّنن وغيرهم " جاء رجل والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2081) من طريق الأعمش عن شقيق عن أبي مسعود قال: جاء رجلٌ من الأنصار يكنى أبا شعيب، فقال لغلام له قصَّاب: اجعل لي طعاما يكفي خمسة، فإني أريد أن أدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - خامس خمسة .. الحديث. قال الحافظ في " الفتح ": اتفقت الطرق على أنه من مسند أبي مسعود , إلاَّ ما رواه أحمد عن ابن نمير عن الأعمش بسنده. فقال فيه: عن رجلٍ من الأنصار يكنى أبا شعيب. قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفت في وجهه الجوع فأتيت غلاماً لي. فذكر الحديث. وكذا رويناه في الجزء التاسع من أمالى المحاملي من طريق ابن نمير. زاد مسلم في بعض طرقه , وعن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر. انتهى (¬2) أي: أصليت؟ بإثبات الهمزة , وكذا جاءت في رواية مسلم (875) من طريق حماد بن زيد وسفيان عن عمرو بن دينار به.

والرّجل في هيئة بذّة، فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: صلِّ ركعتين، وحضّ النّاس على الصّدقة .. الحديث. فأمره أن يُصلِّي ليراه بعض النّاس وهو قائم فيتصدّق عليه. ويؤيّده أنّ في هذا الحديث عند أحمد , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّ هذا الرّجل دخل المسجد في هيئة بذّة فأمرتُه أن يُصلِّي ركعتين , وأنا أرجو أن يفطن له رجلٌ فيتصدّق عليه. وعرف بهذه الرّواية الرّدّ على من طعن في هذا التّأويل , فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتم ذا بذّة فتصدّقوا عليه، أو إذا كان أحدٌ ذا بذّة فليقم فليركع حتّى يتصدّق النّاس عليه. والذي يظهر أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التّفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة، وممّا يضعف الاستدلال به أيضاً على جواز التّحيّة في تلك الحال أنّهم أطلقوا أنّ التّحيّة تفوت بالجلوس. وورد أيضاً ما يؤكّد الخصوصيّة. وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لسليك في آخر الحديث: لا تعودنّ لمثل هذا. أخرجه ابن حبّان. انتهى ما اعتلَّ به مَن طعن في الاستدلال بهذه القصّة على جواز التّحيّة. وكلّه مردود، لأنّ الأصل عدم الخصوصيّة. والتّعليل بكونه - صلى الله عليه وسلم - قصد التّصدّق عليه لا يمنع القول بجواز التّحيّة، فإنّ المانعين منها لا يجيزون التّطوّع لعلة التّصدّق. قال ابن المنير في الحاشية: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التّطوّع عند

طلوع الشّمس وسائر الأوقات المكروهة ولا قائل به، وممّا يدلّ على أنّ أمره بالصّلاة لَم ينحصر في قصد التّصدّق , معاودته - صلى الله عليه وسلم - بأمره بالصّلاة أيضاً في الجمعة الثّانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثّانية فتصدّق بأحدهما فنهاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. أخرجه النّسائيّ وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضاً. ولأحمد وابن حبّان , أنّه كرّر أمره بالصّلاة ثلاث مرّات في ثلاث جُمَع، فدلَّ على أنّ قصد التّصدّق عليه جزء عِلَّة لا عِلَّة كاملة. وأمّا إطلاق من أطلق أنّ التّحيّة تفوت بالجلوس. فقد حكى النّوويّ في " شرح مسلم " عن المحقّقين: أنّ ذلك في حقّ العامد العالم، أمّا الجاهل أو النّاسي فلا، وحال هذا الدّاخل محمولة في الأولى على أحدهما وفي المرّتين الأخريين على النّسيان. والحامل للمانعين على التّأويل المذكور أنّهم زعموا أنّ ظاهره معارِض للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة. قال ابن العربيّ: عارض قصّةَ سُليكٍ ما هو أقوى منها كقوله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت. متّفق عليه، قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه. فمنع التّشاغل بالتّحيّة مع طول زمنها أولى. وعارضوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب للذي دخل يتخطّى رقاب النّاس: اجلس فقد آذيت. أخرجه أبو داود والنّسائيّ وصحّحه ابن

خزيمة وغيره من حديث عبد الله بن بُسر، قالوا: فأمره بالجلوس ولَم يأمره بالتّحيّة. وروى الطّبرانيّ من حديث ابن عمر رفعه: إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتّى يفرغ الإمام. والجواب عن ذلك كلّه: أنّ المعارضة التي تئول إلى إسقاط أحد الدّليلين إنّما يعمل بها عند تعذّر الجمع، والجمع هنا ممكن. أمّا الآية فليست الخطبة كلّها قرآناً، وأمّا ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث وهو تخصيص عمومه بالدّاخل. وأيضاً فمصلي التّحيّة يجوز أن يطلق عليه أنّه منصت، فقد تقدّم من حديث أبي هريرة أنّه قال: يا رسولَ الله سكوتك بين التّكبير والقراءة ما تقول فيه؟. فأطلق على القول سرّاً السّكوت. وأمّا حديث ابن بشر. فهو أيضاً واقعة عين لا عموم فيها. فيحتمل: أن يكون ترك أمره بالتّحيّة قبل مشروعيّتها، وقد عارض بعضهم في قصّة سليك بمثل ذلك. ويحتمل أن يجمع بينهما: أن يكون قوله له " اجلس " أي: بشرطه، وقد عرف قوله للدّاخل " فلا تجلس حتّى تصلي ركعتين " فمعنى قوله " اجلس " أي: لا تتخطّ. أو ترك أمره بالتّحيّة لبيان الجواز فإنّها ليست واجبة. أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة , بحيث ضاق الوقت عن

التّحيّة. وقد اتّفقوا على استثناء هذه الصّورة. ويحتمل: أن يكون صلَّى التّحيّة في مؤخّر المسجد , ثمّ تقدّم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التّخطّي فأنكر عليه. والجواب عن حديث ابن عمر: بأنّه ضعيف فيه أيّوب بن نهيك وهو منكر الحديث، قاله أبو زرعة وأبو حاتم الأحاديث الصّحيحة لا تعارض بمثله. وأمّا قصّة سليك. فقد ذكر التّرمذيّ: أنّها أصحّ شيء روي في هذا الباب وأقوى. وأجاب المانعون أيضاً بأجوبةٍ غير ما تقدّم، اجتمع لنا منها زيادة على عشرة. أوردتها ملخّصة مع الجواب عنها لتستفاد: الجواب الأوّل: قالوا: إنّه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا خاطب سليكاً سكت عن خطبته حتّى فرغ سليك من صلاته، فعلى هذا فقد جمع سليك بين سماع الخطبة وصلاة التّحيّة، فليس فيه حجّة لمن أجاز التّحيّة والخطيب يخطب. والجواب: أنّ الدّارقطنيّ الذي أخرجه من حديث أنس قد ضعّفه وقال: إنّ الصّواب أنّه من رواية سليمان التّيميّ مرسلاً أو معضلاً. وقد تعقّبه ابن المنير في الحاشية: بأنّه لو ثبت لَم يسغ على قاعدتهم، لأنّه يستلزم جواز قطع الخطبة لأجل الدّاخل، والعمل عندهم لا يجوز قطعه بعد الشّروع فيه لا سيّما إذا كان واجباً. الجواب الثّاني: قيل لَمّا تشاغل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمخاطبة سليك سقط

فرض الاستماع عنه، إذ لَم يكن منه حينئذٍ خطبة لأجل تلك المخاطبة، قاله ابن العربيّ. وادّعى أنّه أقوى الأجوبة. وتعقّب: بأنّه من أضعفها , لأنّ المخاطبة لَمّا انقضت رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خطبته، وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصّلاة، فصحّ أنّه صلَّى في حال الخطبة. الجواب الثّالث: قيل كانت هذه القصّة قبل شروعه - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة، ويدلّ عليه قوله في رواية الليث عند مسلم " والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر ". وأجيب: بأنّ القعود على المنبر لا يختصّ بالابتداء، بل يحتمل: أن يكون بين الخطبتين أيضاً، فيكون كلمه بذلك وهو قاعد، فلمّا قام ليصلي قام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للخطبة لأنّ زمن القعود بين الخطبتين لا يطول. ويحتمل أيضاً: أن يكون الرّاوي تجوّز في قوله " قاعد " , لأنّ الرّوايات الصّحيحة كلّها مطبقة على أنّه دخل والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب. الجواب الرّابع: قيل كانت هذه القصّة قبل تحريم الكلام في الصّلاة. وتعقّب: بأنّ سليكاً متأخّر الإسلام جدّاً , وتحريم الكلام متقدّم جدّاً كما تقدّم في الصّلاة (¬1)، فكيف يدّعى نسخ المتأخّر بالمتقدّم مع أنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل: كانت قبل الأمر بالإنصات، وقد تقدّم الجواب عنه. ¬

_ (¬1) انظر حديث زيد بن أرقم المتقدِّم برقم (116)

وعورض هذا الاحتمال بمثله في الحديث الذي استدلّوا به. وهو ما أخرجه الطّبرانيّ عن ابن عمر: إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام. لاحتمال أن يكون ذلك قبل الأمر بصلاة التّحيّة. والأولى في هذا أن يقال على تقدير تسليم ثبوت رفعه: يخصّ عمومه بحديث الأمر بالتّحيّة خاصّة كما تقدّم. الجواب الخامس: قيل: اتّفقوا على أنّ منع الصّلاة في الأوقات المكروهة يستوي فيه من كان داخل المسجد أو خارجه، وقد اتّفقوا على أنّ من كان داخل المسجد يمتنع عليه التّنفّل حال الخطبة فليكن الآتي كذلك. قاله الطّحاويّ وتعقّب: بأنّه قياس في مقابلة النّصّ فهو فاسد، وما نقله من الاتّفاق وافقه عليه الماورديّ وغيره، وقد شذّ بعض الشّافعيّة فقال: ينبني على وجوب الإنصات، فإن قلنا به امتنع التّنفّل وإلا فلا. الجواب السّادس: قيل اتّفقوا على أنّ الدّاخل والإمام في الصّلاة تسقط عنه التّحيّة، ولا شكّ أنّ الخطبة صلاة فتسقط عنه فيها أيضاً. وتعقّب: بأنّ الخطبة ليست صلاة من كلّ وجه , والفرق بينهما ظاهر من وجوه كثيرة، والدّاخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصّلاة قبل جلوسه، بخلاف الدّاخل في حال الصّلاة فإنّ إتيانه بالصّلاة التي أقيمت يحصّل المقصود، هذا مع تفريق الشّارع بينهما فقال: إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (710) من طريق عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وقد وقع في بعض طرقه " فلا صلاة إلاَّ التي أقيمت " (¬1) ولَم يقل ذلك في حال الخطبة بل أمرهم فيها بالصّلاة. الجواب السّابع: قيل اتّفقوا على سقوط التّحيّة عن الإمام مع كونه يجلس على المنبر مع أنّ له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التّحيّة بطريق الأولى. وتعقّب: بأنّه أيضاً قياس في مقابلة النّصّ فهو فاسد، ولأنّ الأمر وقع مقيّداً بحال الخطبة فلم يتناول الخطيب وقال الزين بن المنير: منع الكلام إنّما هو لمن شهد الخطبة لا لمن خطب، فكذلك الأمر بالإنصات واستماع الخطبة. الجواب الثّامن: قيل لا نُسلِّم أنّ المراد بالرّكعتين المأمور بهما تحيّة المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائتة كالصّبح مثلاً. قاله بعض الحنفيّة. وقوّاه ابن المنير في الحاشية , وقال: لعله - صلى الله عليه وسلم - كان كشف له عن ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (6832) من طريق ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس القتباني عن أبي تميم الزهري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي سنده ضعف واختلاف. قال الحافظ في " تعجيل المنفعة ": أبو تميم الزهرى عن أبى هريرة. وعنه عياش بن عباس القتباني. مجهول , قاله الحسيني. قلت: حديثه (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت) وهو من طريق ابن لهيعة. وقد تفرد بهذا اللفظ. والحديث في الأصل مشهور , وقد ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لَم يُعرف اسمه. وكذا ذكره ابن يونس في " تاريخ علماء مصر ". ولَم يَعرفا من حاله بشيء. انتهى

ذلك، وإنّما استفهمه ملاطفة له في الخطاب، قال: ولو كان المراد بالصّلاة التّحيّة لَم يحتج إلى استفهامه لأنّه قد رآه لَمّا دخل. وقد تولى ردّه ابن حبّان في " صحيحه " فقال: لو كان كذلك لَم يتكرّر أمره له بذلك مرّة بعد أخرى. ومن هذه المادّة قولهم: إنّما أمره بسنّة الجمعة التي قبلها. ومستندهم قوله في قصّة سليك عند ابن ماجه " أصليت قبل أن تجيء " لأنّ ظاهره قبل أن تجيء من البيت، ولهذا قال الأوزاعيّ: إن كان صلَّى في البيت قبل أن يجيء فلا يُصلِّي إذا دخل المسجد. وتعقّب: بأنّ المانع من صلاة التّحيّة لا يجيز التّنفّل حال الخطبة مطلقاً، ويحتمل أن يكون معنى " قبل أن تجيء " أي: إلى الموضع الذي أنت به الآن. وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخّر المسجد ثمّ تقدّم ليقرب من سماع الخطبة. كما تقدّم في قصّة الذي تخطّى. ويؤكّده أنّ في رواية لمسلمٍ " أصليت الرّكعتين؟ " بالألف واللام وهو للعهد. ولا عهد هناك أقرب من تحيّة المسجد. وأمّا سنّة الجمعة التي قبلها فلم يثبت فيها شيء (¬1). الجواب التّاسع: قيل لا نسلم أنّ الخطبة المذكورة كانت للجمعة، ويدلّ على أنّها كانت لغيرها قوله للدّاخل " أصليت؟ " لأنّ وقت الصّلاة لَم يكن دخل. انتهى ¬

_ (¬1) تقدَّم الكلام عليه في شرح حديث ابن عمر الماضي في المجلد الأول برقم (66)

وهذا ينبني على أنّ الاستفهام وقع عن صلاة الفرض فيحتاج إلى ثبوت ذلك، وقد وقع في حديث الباب. أنّ ذلك كان يوم الجمعة فهو ظاهر في أنّ الخطبة كانت لصلاة الجمعة. الجواب العاشر: قال جماعة منهم القرطبيّ: أقوى ما اعتمده المالكيّة في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف من لدن الصّحابة إلى عهد مالك , أنّ التّنفّل في حال الخطبة ممنوع مطلقاً. وتعقّب: بمنع اتّفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التّحيّة عن أبي سعيد الخدريّ - وهو من فقهاء الصّحابة من أهل المدينة -. وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضاً، فروى التّرمذيّ وابن خزيمة وصحّحاه عن عياض بن أبي سرح , أنّ أبا سعيد الخدريّ دخل ومروان يخطب فصلَّى الرّكعتين، فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتّى صلاهما , ثمّ قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بهما. ولَم يثبت عن أحد من الصّحابة صريحاً ما يخالف ذلك. وأمّا ما نقله ابن بطّال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصّحابة من المنع مطلقاً فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال، كقول ثعلبة بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان - وكان الإمام - إذا خرج تركنا الصّلاة. ووجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عنى بذلك مَن كان داخل المسجد خاصّة.

قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح التّرمذيّ: كلّ من نقل عنه - يعني من الصّحابة - منع الصّلاة والإمام يخطب محمولٌ على من كان داخل المسجد , لأنّه لَم يقع عن أحد منهم التّصريح بمنع التّحيّة، وقد ورد فيها حديث يخصّها فلا تترك بالاحتمال، انتهى. ولَم أقف على ذلك صريحاً عن أحد من الصّحابة. وأمّا ما رواه الطّحاويّ عن عبد الله بن صفوان , أنّه دخل المسجد وابن الزّبير يخطب فاستلم الرّكن ثمّ سلَّم عليه , ثمّ جلس ولَم يركع. وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزّبير صحابيّان صغيران , فقد استدل به الطّحاويّ فقال: لَمّا لَم ينكر ابن الزّبير على ابن صفوان ولا من حضرهما من الصّحابة ترك التّحيّة دلَّ على صحّة ما قلناه. وتعقّب: بأنّ تركهم النّكير لا يدلّ على تحريمها بل يدلّ على عدم وجوبها، ولَم يقل به مخالفوهم. وسيأتي في أواخر الكلام على هذا الحديث البحث في أنّ صلاة التّحيّة. هل تعمّ كلّ مسجد، أو يستثنى المسجد الحرام , لأنّ تحيّته الطّواف؟ فلعلَّ ابنَ صفوان كان يرى أنّ تحيّته استلام الرّكن فقط. وهذه الأجوبة التي قد قدّمناها تندفع من أصلها بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يُصلِّي ركعتين. متّفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه. (¬1) وورد أخصّ منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة عن عمرو بن ¬

_ (¬1) انظره برقم (115).

دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصل ركعتين. متّفق عليه أيضاً. ولمسلمٍ من طريق أبي سفيان عن جابر , أنّه قال ذلك في قصّة سليك. ولفظه بعد قوله. فاركعهما: وتجوّز فيهما. ثمّ قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما. قال النّوويّ: هذا نصّ لا يتطرّق إليه التّأويل , ولا أظنّ عالماً يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحاً فيخالفه. وقال أبو محمّد بن أبي جمرة: هذا الذي أخرجه مسلم نصٌّ في الباب لا يحتمل التّأويل. وحكى ابن دقيق العيد: أنّ بعضهم تأوّل هذا العموم بتأويلٍ مستكرهٍ، وكأنّه يشير إلى بعض ما تقدّم من ادّعاء النّسخ أو التّخصيص. وقد عارض بعض الحنفيّة الشّافعيّة: بأنّهم لا حجّة لهم في قصّة سليك، لأنّ التّحيّة عندهم تسقط بالجلوس، وقد تقدّم جوابه. وعارض بعضهم بحديث أبي سعيد رفعه: لا تصلّوا والإمام يخطب (¬1). ¬

_ (¬1) وذكره أبو محمد عبد الحق في " أحكامه " قال: وروى أبو سعيد الماليني في كتابه عن محمد بن أبي مطيع عن أبيه عن محمد بن جابر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعاً: لا تصلوا والإمام يخطب. قال الحافظ في " الدراية " ص (216): أخرجه أبو سعيد الماليني. فيما ذكره عبد الحق. وإسناده واهٍ. قلت: قول الحافظ في الشرح: حديث أبي سعيد. وهم. إلاّ إن كان يقصد أبا سعيد الماليني. فهذا يقع كثيراً في كلام المحققين.

وتعقّب: بأنّه لا يثبت، وعلى تقدير ثبوته فيخصّ عمومه بالأمر بصلاة التّحيّة. وبعضهم: بأنّ عمر لَم يأمر عثمان بصلاة التّحيّة مع أنّه أنكر عليه الاقتصار على الوضوء. وأجيب: باحتمال أن يكون صلاهما. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. جواز صلاة التّحيّة في الأوقات المكروهة، لأنّها إذا لَم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى. وفيه أنّ التّحيّة لا تفوت بالقعود، لكن قيّده بعضهم بالجاهل أو النّاسي كما تقدّم، وأنّ للخطيب أن يأمر في خطبته وينهى ويبيّن الأحكام المحتاج إليها، ولا يقطع ذلك التّوالي المشترط فيها، بل لقائلٍ أن يقول كلّ ذلك يعدّ من الخطبة. واستدل به على أنّ المسجد شرط للجمعة للاتّفاق على أنّه لا تشرع التّحيّة لغير المسجد. وفيه نظرٌ. واستدل به على جواز ردّ السّلام وتشميت العاطس في حال الخطبة لأنّ أمرهما أخفّ وزمنهما أقصر , ولا سيّما ردّ السّلام فإنّه واجب. وسيأتي البحث في ذلك في الحديث بعده.

فائدةٌ: قيل: يخصّ عموم حديث الباب بالدّاخل في آخر الخطبة كما تقدّم. قال الشّافعيّ: أرى للإمام أن يأمر الآتي بالرّكعتين. ويزيد في كلامه ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصّلاة، فإن لَم يفعل كرهت ذلك. وحكى النّوويّ عن المحقّقين: أنّ المختار إن لَم يفعل أن يقف حتّى تقام الصّلاة , لئلا يكون جالساً بغير تحيّة أو متنفّلاً حال إقامة الصّلاة. واستثنى المحامليّ المسجد الحرام , لأنّ تحيّته الطّواف. وفيه نظرٌ. لطول زمن الطّواف بالنّسبة إلى الرّكعتين. والذي يظهر من قولهم إنّ تحيّة المسجد الحرام الطّواف إنّما هو في حقّ القادم ليكون أوّل شيء يفعله الطّواف. وأمّا المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول من أطلق أنّه يبدأ في المسجد الحرام بالطّواف لكون الطّواف يعقبه صلاة الرّكعتين فيحصل شغل البقعة بالصّلاة غالباً وهو المقصود، ويختصّ المسجد الحرام بزيادة الطّواف. والله أعلم

الحديث الثاني والتسعون

الحديث الثاني والتسعون 141 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة. والإمام يخطب , فقد لغوت. (¬1) قوله: (إذا قلت لصاحبك) المراد بالصّاحب من يخاطبه بذلك مطلقاً، وإنّما ذكر الصّاحب لكونه الغالب. قوله: (أنصت) قال الأزهريّ: يقال أنصت ونصت وانتصت. قال ابن خزيمة: المراد بالإنصات السّكوت عن مكالمة النّاس دون ذكر الله. وتعقّب: بأنّه يلزم منه جواز القراءة والذّكر حال الخطبة، فالظّاهر أنّ المراد السّكوت مطلقاً , ومن فرّق احتاج إلى دليل، ولا يلزم من تجويز التّحيّة لدليلها الخاصّ جواز الذّكر مطلقاً. قوله: (يوم الجمعة) مفهومه أنّ غير يوم الجمعة (¬2) بخلاف ذلك، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (892) ومسلم (851) من طريق عُقيل عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ولمسلم (851) عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه مثله. (¬2) قال العراقي في طرح التثريب (4/ 117): تقييد الخطبة بكونها يوم الجمعة يخرج خطبة غير الجمعة كالعيد والكسوف والاستسقاء فلا يجب الإنصات لها , ولا يحرم الكلام والإمام فيها , واستماعها مستحب فقط لأنها غير واجبة , وقد صرَّح بذلك أصحابنا وغيرهم , وحكاه ابن عبد البر عن عطاء , قال: يحرم الكلام ما كان الإمام على المنبر , وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله , قال: ويوم عرفة والعيدين كذلك في الخطبة.

وفيه بحثٌ. قوله: (والإمام يخطب) أشار البخاري في ترجمته (¬1) إلى الرّدّ على من جعل وجوب الإنصات من خروج الإمام، لأنّ قوله في الحديث " والإمام يخطب " جملة حاليّة , يخرج ما قبل خطبته من حين خروجه وما بعده إلى أن يشرع في الخطبة , لأنَّ الاستماع لا يتجه إلاَّ إذا تكلم: نعم الأولى أن ينصت. وقالت الحنفية: يحرم الكلام من ابتداء خروج الإمام. وورد فيه حديث ضعيف. (¬2) وأمّا حال الجلوس بين الخطبتين. فحكى صاحب " المغني " عن العلماء فيه قولين. بناءً على أنّه غير خاطب، أو أنّ زمن سكوته قليل فأشبه السّكوت للتّنفّس قوله: (فقد لغوت) قال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه، وقال ابن عرفة: اللغو السّقط من القول، وقيل: الميل عن الصّواب، وقيل: اللغو الإثم كقوله تعالى (وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً). وقال الزين بن المنير: اتّفقت أقوال المفسّرين على أنّ اللغو ما لا يحسن من الكلام. ¬

_ (¬1) ترجم عليه البخاري (باب الانصات يوم الجمعة والإمام يخطب). (¬2) انظر حديث جابر الماضي في قصة سليك - رضي الله عنه -.

وأغرب أبو عبيد الهرويّ في " الغريب " فقال: معنى لغا تكلم، كذا أطلق. والصّواب التّقييد. وقال النّضر بن شميلٍ: معنى لغوت خبت من الأجر، وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل: صارت جمعتك ظهراً. قلت: أقوال أهل اللّغة متقاربة المعنى. ويشهد للقول الأخير ما رواه أبو داود وابن خزيمة من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: ومن لغا وتخطّى رقاب النّاس كانت له ظهراً. قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأت عنه الصّلاة , وحُرِم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث عليّ مرفوعاً: مَن قال صهٍ فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود نحوه، ولأحمد والبزّار من حديث ابن عبّاسٍ مرفوعاً: من تكلَّم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت ليست له جمعة. وله شاهد قويّ في جامع حمّاد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً. قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة. للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه. وحكى ابن التّين: عن بعض من جوّز الكلام في الخطبة أنّه تأوّل قوله " فقد لغوت " أي: أمرت بالإنصات من لا يجب عليه. وهو جمود شديد، لأنّ الإنصات لَم يختلف في مطلوبيّته. فكيف

يكون من أمر بما طلبه الشّرع لاغياً؟ بل النّهي عن الكلام مأخوذ من حديث الباب بدلالة الموافقة، لأنّه إذا جعل قوله " أنصت " مع كونه أمراً بمعروفٍ لغواً فغيره من الكلام أولى أن يسمّى لغواً. وقد وقع عند أحمد من رواية الأعرج عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث بعد قوله " فقد لغوت , عليك بنفسك ". واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حقّ من سمعها، وكذا الحكم في حقّ من لا يسمعها عند الأكثر. قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة. وأغرب ابن عبد البرّ. فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلاَّ عن قليل من التّابعين. ولفظه: لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها في الجمعة. وأنّه غير جائز أن يقول لمن سمعه من الجهّال يتكلم والإمام يخطب: أنصت، ونحوها، أخذاً بهذا الحديث. وروي عن الشّعبيّ وناسٍ قليلٍ أنّهم كانوا يتكلَّمون إلاَّ في حين قراءة الإمام في الخطبة خاصّة. قال: وفعلهم في ذلك مردودٌ عند أهل العلم، وأحسن أحوالهم أن يقال: إنّه لَم يبلغهم الحديث. قلت: للشّافعيّ في المسألة قولان مشهوران , وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أنّ الخطبتين بدلٌ عن الرّكعتين أم لا؟. فعلى الأوّل يحرم. لا على الثّاني، والثّاني هو الأصحّ عندهم، فمن

ثمّ أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام حتّى شنّع عليهم من شنّع من المخالفين. وعن أحمد: أيضاً روايتان. وعنهما: أيضاً التّفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها. ولبعض الشّافعيّة: التّفرقة بين من تنعقد بهم الجمعة , فيجب عليهم الإنصات دون من زاد. فجعله شبيهاً بفروض الكفاية. واختلف السّلف إذا خطب بما لا ينبغي من القول، وعلى ذلك يُحمل ما نُقل عن السّلف من الكلام حال الخطبة. والذي يظهر: أنّ من نفى وجوبه أراد أنّه لا يشترط في صحّة الجمعة، بخلاف غيره. ويدلّ على الوجوب في حقّ السّامع أنّ في حديث عليٍّ المشار إليه آنفاً " ومن دنا فلم ينصت , كان عليه كفلان من الوزر " , لأنّ الوزر لا يترتّب على من فعل مباحاً. ولو كان مكروهاً كراهة تنزيه. وأمّا ما استدلَّ به من أجاز مطلقاً من قصّة السّائل في الاستسقاء (¬1) ونحوه. ففيه نظرٌ. لأنّه استدلال بالأخصّ على الأعمّ، فيمكن أن يخصّ عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمرٍ عارض في مصلحة عامّة، كما خصّ بعضهم منه ردّ السّلام لوجوبه. ونقل صاحب " المغني " الاتّفاق على أنّ الكلام الذي يجوز في ¬

_ (¬1) انظر حديث أنس - رضي الله عنه - الآتي برقم (156)

الحديث الثالث والتسعون

الصّلاة. يجوز في الخطبة كتحذير الضّرير من البئر. وعبارة الشّافعيّ: وإذا خاف على أحد لَم أر بأساً إذا لَم يفهم عنه بالإيماء أن يتكلم. وقد استثنى من الإنصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى كلّ ما لَم يُشرع مثل الدّعاء للسّلطان مثلاً. بل جزم صاحب التّهذيب بأنّ الدّعاء للسّلطان مكروه. وقال النّوويّ: محلّه ما إذا جازف. وإلاَّ فالدّعاء لولاة الأمور مطلوب. انتهى ومحلّ التّرك إذا لَم يخف الضّرر، وإلاَّ فيباح للخطيب إذا خشي على نفسه، والله أعلم الحديث الثالث والتسعون 142 - عن سهل بن سعدٍ السّاعديّ - رضي الله عنه - , أنّ رجالاً تَمَاروا في منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أيِّ عودٍ هو؟ فقال سهلٌ: من طرفاء الغابة , وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عليه فكبّر , وكبّر النّاس وراءه , وهو على المنبر. ثمّ رفع فنزل القهقرى , حتّى سجد في أصل المنبر , ثمّ عاد حتّى فرغ من آخر صلاته , ثمّ أقبل على النّاس , فقال: أيّها النّاس , إنّما صنعت هذا لتأتَمّوا بي , ولتعلموا صلاتي. وفي لفظٍ: صلَّى عليها. ثمّ كبّر عليها. ثمّ ركع وهو عليها , فنزل القهقرى. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (370 , 437 , 875 , 1988 , 2430) ومسلم (544) مطوّلاً ومختصراً من طرق عن أبي حازم بن دينار عن سهل - رضي الله عنه - به.

قوله: (عن سهل بن سعدٍ السّاعديّ - رضي الله عنه -) سعد بن مالك. (¬1) قوله: (أنّ رجالاً) وللبخاري " أنَّ رجالاً أتوا سهل بن سعد " لَم أقف على أسمائهم. قوله: (تماروا) وللبخاري " امتروا " من المماراة. وهي المجادلة. وقال الكرمانيّ: من الامتراء وهو الشّكّ. ويؤيّد الأوّل قوله في رواية الباب " تَماروا " فإنّ معناه تجادلوا. قال الرّاغب: الامتراء والمماراة المجادلة، ومنه (فلا تمار فيهم إلاَّ مراءً ظاهراً) وقال أيضاً: المرية التّردّد في الشّيء، ومنه (فلا تكن في مريةٍ من لقائه) .. قوله: (فقال سهلٌ: من طرفاء الغابة) في رواية لهما " والله إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فلانة - امرأة من الأنصار قد سماها سهل - مُري غلامك النجار، أن يعمل لي أعواداً أجلس ¬

_ (¬1) بن خالد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة الأنصاريّ السّاعدي. من مشاهير الصّحابة، يقال: كان اسمه حزناً فغيّره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حكاه ابن حبّان. قال الزّهريّ: مات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصّحابة، مات سنة إحدى وتسعين. وقيل قبل ذلك. قال الواقديّ: عاش مائة سنة، وكذا قال أبو حاتم، وزاد أو أكثر، وقيل: ستاً وتسعين. وزعم ابن أبي داود , أنه مات بالإسكندرية. وروي عن قتادة أنه مات بمصر، ويحتمل أن يكون وهماً، والصّواب أنَّ ذلك ابنه العباس. قاله في الإصابة.

عليهن إذا كلمت الناس , فأمرته فعملها من طرفاء الغابة ". فيه القسم على الشّيء لإرادة تأكيده للسّامع، وفي قوله " ولقد رأيته أوّل يوم وضع، وأوّل يوم جلس عليه " زيادة على السّؤال، لكنّ فائدته إعلامهم بقوّة معرفته بما سألوه عنه، وللبخاري أنّ سهلاً قال: ما بقي أحد أعلم به منّي. وفي رواية سفيان عن أبي حازم عن سهل عند البخاري " من أثل الغابة " , ولا مغايرة بينهما فإنّ الأثل هو الطّرفاء , وقيل: يشبه الطّرفاء وهو أعظم منه. والغابة: بالمعجمة وتخفيف الموحّدة موضع من عوالي المدينة جهة الشّام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضاً، وأصلها كلّ شجر ملتفّ. وقوله " إلى فلانة امرأة من الأنصار " في رواية أبي غسّان عن أبي حازم عند البخاري في الهبة " امرأة من المهاجرين "، وهو وهْمٌ من أبي غسّان , لإطباق أصحاب أبي حازم على قولهم " من الأنصار "، وكذا قال أيمن عن جابر كما في البخاري. ويحتمل: أن تكون أنصارية حالفت مهاجرياً وتزوجت به أو بالعكس. وقد ساقه ابن بطال في هذا الموضع بلفظ " امرأة من الأنصار " والذي في النسخ التي وقفت عليها من البخاري ما وصفته. قوله: (في أصل المنبر) أي: على الأرض إلى جنب الدّرجة السّفلى منه.

قوله: (ولِتعلَّموا) بكسر اللام وفتح المثنّاة وتشديد اللام. أي: لتتعلموا. وعرف منه أنّ الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلَّى على الأرض. ويستفاد منه أنّ من فعل شيئاً يخالف العادة أن يبيّن حكمته لأصحابه. وفيه مشروعيّة الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفةً كان أو غيره. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصّلاة بالفعل وجواز العمل اليسير في الصّلاة، وكذا الكثير إن تفرّق، وقد تقدّم البحث فيه (¬1). وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسّفل، وقد صرّح بذلك البخاري في حكايته عن شيخه عليّ بن المدينيّ عن أحمد بن حنبل (¬2). ولابن دقيق العيد في ذلك بحثٌ، فإنّه قال: من أراد أن يستدلّ به ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي قتادة المتقدِّم برقم (98) (¬2) بوَّب عليه البخاري رحمه الله (باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب) ثم أورد الحديث. ثم قال عقِبه: قال علي بن المديني: سألني أحمد بن حنبل رحمه الله عن هذا الحديث، قال: فإنما أردت أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعلى من الناس , فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث، قال فقلت: إنَّ سفيان بن عيينة كان يُسأل عن هذا كثيراً. فلمْ تسمعه منه؟ قال: لا. قال الحافظ في " الفتح " (1/ 631): قوله (قال: فقلت) أي: قال علي لأحمد بن حنبل , قوله: (فلم تسمعه منه؟ قال: لا) صريح في أنَّ أحمد بن حنبل لَم يسمع هذا الحديث من ابن عيينة , وقد راجعتُ مسنده فوجدته قد أخرج فيه عن ابن عيينة بهذا الإسناد من هذا الحديث قول سهل " كان المنبر من أثل الغابة " فقط , فتبيَّن أنَّ المنفي في قوله " فلم تسمعه منه؟ قال: لا " , جميع الحديث لا بعضه , والغرض منه هنا وهو صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر داخل في ذلك البعض , فلذلك سأل عنه علياً.

على جواز الارتفاع من غير قصد التّعليم لَم يستقم؛ لأنّ اللفظ لا يتناوله، ولانفراد الأصل بوصفٍ معتبرٍ تقتضي المناسبة اعتباره فلا بدّ منه. وللبخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة من طريق صالح مولى التّوأمة قال: صليت مع أبي هريرة فوق المسجد بصلاة الإمام. وصالح فيه ضعف، لكن رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة. فاعتضد. وفيه استحباب اتّخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسّماع منه، واستحباب الافتتاح بالصّلاة في كلّ شيء جديد إمّا شكراً وإمّا تبرّكاً. وقال ابن بطّال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنّته أن يخطب على المنبر، وإن كان غيره يخيّر بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض. وتعقّبه الزين بن المنير: بأنّ هذا خارج عن مقصود التّرجمة , ولأنّه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الرّاشدين فهو سنّة متّبعة، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسّنّة. قلت: ولعل هذا هو حكمة هذه التّرجمة، أشار بها إلى أنّ هذا التّفصيل غير مستحبّ، ولعل مراد من استحبّه أنّ الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين. ولا يلزم من مشروعيّة ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ لمن ولي الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجّة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السّامعين وتعليمهم بعض أمور الدّين.

وفي الحديث جواز الصّلاة على الخشب، وكره ذلك الحسن وابن سيرين، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما. وأخرج أيضاً عن ابن مسعود وابن عمر نحوه , وعن مسروق , أنّه كان يحمل لبنةً ليسجد عليها إذا ركب السّفينة، وعن ابن سيرين نحوه. والقول بالجواز هو المعتمد. والله الموفّق. قوله: (وفي لفظ. فصلَّى وهو عليها) أي: على الأعواد، وكانت صلاته على الدّرجة العليا من المنبر, وللبخاري " فأمر بها فوُضعتْ " أنَّثَ لإرادة الأعواد والدّرجات، ففي رواية مسلم من طريق عبد العزيز بن أبي حازم " فعمل له هذا الدّرجات الثّلاث " قوله: (ثم كبّر وهو عليها , ثمّ ركع وهو عليها , ثمّ نزل القهقرى) لَم يذكر القيام بعد الرّكوع في هذه الرّواية. وكذا لَم يذكر القراءة بعد التّكبيرة، وقد تبيّن ذلك في رواية سفيان عن أبي حازم عند البخاري. ولفظه " كبّر فقرأ وركع , ثمّ رفع رأسه , ثمّ رجع القهقرى. والقهقرى بالقصر المشي إلى خلف. والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة، وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطّبرانيّ " فخطب النّاس عليه , ثمّ أقيمت الصّلاة فكبّر وهو على المنبر " , فأفادت هذه الرّواية تقدّم الخطبة على الصّلاة. تكميلٌ: الغلام النجّار سمّاه عبّاسٍ بن سهل عن أبيه. فيما أخرجه قاسم بن أصبغ وأبو سعد في " شرف المصطفى " جميعاً من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة حدّثني عمارة بن غزيّة عنه. ولفظه: كان

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى خشبة، فلمّا كثر النّاس قيل له: لو كنت جعلت منبراً. قال: وكان بالمدينة نجّار واحد يقال له ميمون. فذكر الحديث، وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعد الأنصاريّ عن ابن عبّاسٍ نحو هذا السّياق , ولكن لَم يُسمِّه. وفي الطّبرانيّ من طريق أبي عبد الله الغفاريّ سمعت سهل بن سعد يقول: كنت جالساً مع خالٍ لي من الأنصار. فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اخرج إلى الغابة وأتني من خشبها فاعمل لي منبراً. الحديث. وجاء في صانع المنبر أقوال أخرى: أحدها: اسمه إبراهيم، أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط " عن جابر. وفي إسناده العلاء بن مسلمة الرّوّاس وهو متروك. ثانيها: باقول بموحّدةٍ وقاف مضمومة، رواه عبد الرّزّاق بإسنادٍ ضعيف منقطع، ووصله أبو نعيمٍ في المعرفة , لكن قال: باقوم آخره ميم. وإسناده ضعيف أيضاً. ثالثها: صباح بضمّ المهملة بعدها موحّدة خفيفة وآخره مهملة أيضاً. ذكره ابن بشكوال بإسنادٍ شديد الانقطاع. رابعها: قبيصة أو قبيصة المخزوميّ مولاهم، ذكره عمر بن شبّة في " الصّحابة " بإسنادٍ مرسل. خامسها: كلاب مولى العبّاسٍ كما سيأتي. سادسها: تميم الدّاريّ رواه أبو داود مختصراً والحسن بن سفيان والبيهقيّ من طريق أبي عاصم عن عبد العزيز بن أبي روّادٍ عن نافع

عن ابن عمر , أنّ تميماً الدّاريّ قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا كثر لحمه: ألا نتّخذ لك منبراً يحمل عظامك؟ قال: بلى، فاتّخذ له منبراً. الحديث. وإسناده جيّد. وروى ابن سعد في " الطّبقات " من حديث أبي هريرة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب وهو مستند إلى جذع , فقال: إنّ القيام قد شقّ عليّ. فقال له تميم الدّاريّ: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشّام؟ فشاور النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المسلمين في ذلك فرأوا أن يتّخذه، فقال العبّاسٍ بن عبد المطّلب: إنّ لي غلاماً يقال له كلاب أعمل النّاس، فقال: مُره أن يعمل ". الحديث رجاله ثقات إلاَّ الواقديّ. سابعها: ميناء. ذكره ابن بشكوال عن الزّبير بن بكّار حدّثني إسماعيل - هو ابن أبي أويس - عن أبيه قال: عمل المنبرَ غلامٌ لامرأةٍ من الأنصار من بني سلمة - أو من بني ساعدة أو امرأة لرجلٍ منهم , يقال له: ميناء. انتهى. وهذا يحتمل أن يعود الضّمير فيه على الأقرب , فيكون ميناء اسم زوج المرأة. وأغرب الكرماني هنا , فزعم: أنَّ اسم المرأة مينا وهو وهمٌ، وإنما قيل ذلك في اسم النجار. وليس في جميع هذه الرّوايات التي سُمِّي فيها النّجّار شيء قويّ السّند إلاَّ حديث ابن عمر، وليس فيه التّصريح بأنّ الذي اتّخذ المنبر تميم الدّاريّ، بل قد تبيّن من رواية ابن سعد أنّ تميماً لَم يعمله.

وأشبه الأقوال بالصّواب. قول مَن قال: هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضاً , وأمّا الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدّاً أن يجمع بينها بأنّ النّجّار كانت له أسماء متعدّدة. وأمّا احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله. فيمنع منه قوله في كثير من الرّوايات السّابقة " لَم يكن بالمدينة إلاَّ نجّار واحد " إلاَّ إن كان يحمل على أنّ المراد بالواحد الماهر في صناعته والبقيّة أعوانه فيمكن. والله أعلم. ووقع عند التّرمذيّ وابن خزيمة وصحّحاه من طريق عكرمة بن عمّار عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب، فجاء إليه روميّ , فقال: ألا أصنع لك منبراً. الحديث، ولَم يسمّه. يحتمل: أن يكون المراد بالرّوميّ تميم الدّاريّ , لأنّه كان كثير السّفر إلى أرض الرّوم. وقد عرف ممّا تقدّم سبب عمل المنبر. وجزم ابن سعد: بأنّ ذلك كان في السّنة السّابعة. وفيه نظرٌ لذكر العبّاسٍ وتميم فيه , وكان قدوم العبّاسٍ بعد الفتح في آخر سنة ثمانٍ، وقدوم تميم سنة تسع. وجزم ابن النّجّار: بأنّ عمله كان سنة ثمانٍ. وفيه نظرٌ أيضاً. لِمَا ورد في حديث الإفك في الصّحيحين عن عائشة قالت: فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى كادوا أن يقتتلوا , ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فنزل فخفّضهم حتّى سكتوا.

فإن حُمل على التّجوّز في ذكر المنبر , وإلا فهو أصحّ ممّا مضى. وحكى بعض أهل السّير: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتّخذ المنبر الذي من خشب. ويعكّر عليه أنّ في الأحاديث الصّحيحة , أنّه كان يستند إلى الجذع إذا خطب، ولَم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتّى زاده مروان في خلافة معاوية ستّ درجات من أسفله. وكان سبب ذلك ما حكاه الزّبير بن بكّار في " أخبار المدينة " بإسناده إلى حميد بن عبد الرّحمن بن عوف قال: بعث معاوية إلى مروان - وهو عامله على المدينة - أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب , وقال: إنّما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجّاراً، وكان ثلاث درجات. فزاد فيه الزّيادة التي هي عليها اليوم، ورواه من وجه آخر قال: فكسفت الشّمس حتّى رأينا النّجوم , وقال: فزاد فيه ستّ درجات , وقال: إنّما زدت فيه حين كثر النّاس. قال ابن النّجّار وغيره: استمرّ على ذلك إلاَّ ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستّمائةٍ فاحترق، ثمّ جدّد المظفّر صاحب اليمن سنة ستّ وخمسين منبراً، ثمّ أرسل الظّاهر بيبرس بعد عشر سنين منبراً فأزيل منبر المظفّر، فلم يزل إلى هذا العصر , فأرسل الملك المؤيّد سنة عشرين وثمانمائةٍ منبراً جديداً، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبراً جديداً إلى مكّة أيضاً، شكر الله له

صالح عمله آمين.

الحديث الرابع والتسعون

الحديث الرابع والتسعون 143 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: من اغتسل يوم الجمعة , غسل الجنابة , ثمّ راح في الساعة الأولى (¬1) فكأنّما قرّب بدنةً , ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرةً , ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشاً أقرن , ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجةً , ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضةً , فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذّكر. (¬2) قوله: (من اغتسل) يدخل فيه كلّ من يصحّ التّقرّب منه , من ذكر أو أنثى حرّ أو عبد. قوله: (غسلَ الجنابة) بالنّصب على أنّه نعت لمصدرٍ محذوف , أي: غسلاً كغسل الجنابة، وهو كقوله تعالى (وهي تمرّ مرّ السّحاب) , وفي رواية ابن جريجٍ عن سُميٍّ عند عبد الرّزّاق " فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة " , وظاهره أنّ التّشبيه للكيفيّة لا للحكم , وهو قول الأكثر. ¬

_ (¬1) قوله (في الساعة الأولى) ليست في الصحيحين , وإنما هي زيادة عند بعض رواة الموطأ كما سينبّه عليه الشارح رحمه الله. (¬2) أخرجه البخاري (941) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (850) عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك عن سُميٍّ عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة به. وللبخاري (887 , 3039) ومسلم (850) من طريق الزهري عن أبي سلمة والأغر عن أبي هريرة نحوه.

وقيل: فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة، والحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرّواح إلى الصّلاة. ولا تمتدّ عينه إلى شيء يراه، وفيه حمل المرأة أيضاً على الاغتسال ذلك اليوم، وعليه حمل قائل ذلك حديث: من غسَّل واغتسل. المخرّج في السّنن على رواية مَن روى غسّل بالتّشديد. قال النّوويّ: ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل، والصّواب الأوّل. انتهى وقد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد، وثبت أيضاً عن جماعة من التّابعين. وقال القرطبيّ: إنّه أنسب الأقوال فلا وجه لادّعاء بطلانه , وإن كان الأوّل أرجح. ولعله عنى أنّه باطلٌ في المذهب. قوله: (ثمّ راح) زاد أصحاب الموطّأ عن مالك " في السّاعة الأولى ". قوله: (فكأنّما قرّب بدنة) أي: تصدّق بها متقرّباً إلى الله. وقيل: المراد أنّ للمبادر في أوّل ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثّواب ممّن شرع له القربان، لأنّ القربان لَم يشرع لهذه الأمّة على الكيفيّة التي كانت للأمم السّالفة. وفي رواية ابن جريجٍ المذكورة " فله من الأجر مثل الجزور " , وظاهره أنّ المراد أنّ الثّواب لو تجسّد لكان قدر الجزور (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 472): ليس هذا بشيء , والصواب أنَّ معنى رواية ابن جريج موافق لمعنى باقي الروايات , وأنَّ المراد بذلك بيان فضل المبادر إلى الجمعة , وأنه بمنزلة من قرّب بدنة .. إلخ. والله أعلم

وقيل: ليس المراد بالحديث إلاَّ بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأنّ نسبة الثّاني من الأوّل نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلاً. ويدلّ عليه أنّ في مرسل طاوسٍ عند عبد الرّزّاق " كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة ". ووقع في رواية الزّهريّ عن الأغر عن أبي هريرة عند البخاري بلفظ " كمثل الذي يُهدي بدنة " , فكأنّ المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة. قال الطّيبيّ: في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التّعظيم للجمعة، وأنّ المبادر إليها كمن ساق الهدي، والمراد بالبدنة البعير ذكراً كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتّأنيث، وكذا في باقي ما ذكر. وحكى ابن التّين عن مالك: أنّه كان يتعجّب ممّن يخصّ البدنة بالأنثى. وقال الأزهريّ في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلاَّ من الإبل، وصحّ ذلك عن عطاء، وأمّا الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، هذا لفظه. وحكى النّوويّ عنه أنّه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وكأنّه خطأ نشأ عن سقط. وفي الصّحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكّة، سُمّيت بذلك , لأنّهم كانوا يسمّنونها. انتهى.

والمراد بالبدنة هنا النّاقة بلا خلاف. واستُدلّ به على أنّ البدنة تختصّ بالإبل لأنّها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق، وقسم الشّيء لا يكون قسيمه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد. وقال إمام الحرمين: البدنة من الإبل، ثمّ الشّرع قد يقيم مقامها البقرة وسبعاً من الغنم. وتظهر ثمرة هذا فيما إذا قال: لله عليّ بدنة، وفيه خلاف، الأصحّ تعيّن الإبل إن وجدت، وإلا فالبقرة أو سبع من الغنم. وقيل: تتعيّن الإبل مطلقاً، وقيل: يتخيّر مطلقاً. قوله: (كأنّما قرب بقرة) البقر اسم جنس يكون للمذكر والمؤنث، اشتُقَّ من بقرتُ الشيء إذا شققته , لأنها تبقر الأرض بالحراثة. قوله: (دجاجة) بالفتح، ويجوز الكسر، وحكى الليث الضّمّ أيضاً. وعن محمّد بن حبيب: أنّها بالفتح من الحيوان وبالكسر من النّاس. واستشكل التّعبير في الدّجاجة والبيضة بقوله في رواية الزّهريّ " كالذي يهدي " لأنّ الهدي لا يكون منهما. وأجاب القاضي عياض تبعاً لابن بطّال: بأنّه لَمّا عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ , فيكون من الاتّباع كقوله: متقلداً سيفاً ورمحاً. وتعقّبه ابن المنير في الحاشية: بأنّ شرط الاتّباع أن لا يصرّح باللفظ في الثّاني , فلا يسوغ أن يقال متقلداً سيفاً ومتقلداً رمحاً. والذي يظهر

أنّه من باب المشاكلة، وإلى ذلك أشار ابن العربيّ بقوله: هو من تسمية الشّيء باسم قرينه. وقال ابن دقيق العيد: قوله " قرّب بيضة " وفي الرّواية الأخرى " كالذي يهدي " يدلّ على أنّ المراد بالتّقريب الهدي، وينشأ منه أنّ الهدي يطلق على مثل هذا حتّى لو التزم هدياً هل يكفيه ذلك أو لا؟. انتهى. والصّحيح عند الشّافعيّة الثّاني، وكذا عند الحنفيّة والحنابلة، وهذا ينبني على أنّ النّذر. هل يسلك به مسلك جائز الشّرع أو واجبه.؟ فعلى الأوّل: يكفي أقلّ ما يتقرّب به، وعلى الثّاني: يُحمل على أقلّ ما يتقرّب به من ذلك الجنس. ويقوّي الصّحيح أيضاً. أنّ المراد بالهدي هنا التّصدّق كما دلَّ عليه لفظ التّقرّب، والله أعلم. قوله: (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر) استنبط منه الماورديّ , أنّ التّبكير لا يستحبّ للإمام، قال: ويدخل للمسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر. وما قاله غير ظاهرٍ لإمكان أن يجمع الأمرين بأن يبكّر ولا يخرج من المكان المعدّ له في الجامع إلاَّ إذا حضر الوقت، أو يحمل على من ليس له مكان معدّ. وزاد في رواية الزّهريّ " طووا صحفهم " ولمسلمٍ من طريقه " فإذا جلس الإمام طووا الصّحف وجاءوا يستمعون الذّكر " , وكأنّ ابتداء

طيّ الصّحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهائه بجلوسه على المنبر، وهو أوّل سماعهم للذّكر. والمراد به ما في الخطبة من المواعظ وغيرها. وأوّل حديث الزّهريّ " إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأوّل فالأوّل " , ونحوه في رواية ابن عجلان عن سميٍّ عند النّسائيّ. وفي رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند ابن خزيمة " على كلّ بابٍ من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأوّل فالأوّل " , فكأنّ المراد بقوله في رواية الزّهريّ " على باب المسجد " جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع، فلا حجّة فيه لمن أجاز التّعبير عن الاثنين بلفظ الجمع. ووقع في حديث ابن عمر صفة الصّحف المذكورة، أخرجه أبو نعيمٍ في " الحلية " مرفوعاً بلفظ: إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحفٍ من نورٍ وأقلام من نورٍ. الحديث، وهو دالٌّ على أنّ الملائكة المذكورين غير الحفظة. والمراد بطيّ الصّحف طيّ صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصّلاة والذّكر والدّعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنّه يكتبه الحافظان قطعاً، ووقع في رواية ابن عيينة عن الزّهريّ في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه " فمن جاء بعد ذلك فإنّما يجيء لحقّ الصّلاة ". وفي رواية ابن جريجٍ عن سُميٍّ من الزّيادة في آخره " ثمّ إذا استمع

وأنصت غفر له ما بين الجمعتين , وزيادة ثلاثة أيّام ". وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند ابن خزيمة " فيقول بعض الملائكة لبعضٍ: ما حبس فلاناً؟ فتقول: اللهمّ إن كان ضالاً فاهده، وإن كان فقيراً فأغنه، وإن كان مريضاً فعافه ". وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. الحضّ على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفضل التّبكير إليها، وأنّ الفضل المذكور إنّما يحصل لمن جمعهما. وعليه يحمل ما أطلق في باقي الرّوايات من ترتّب الفضل على التّبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أنّ مراتب النّاس في الفضل بحسب أعمالهم، وأنّ القليل من الصّدقة غير محتقر في الشّرع. وفيه أنّ التّقرّب بالإبل أفضل من التّقرّب بالبقر وهو بالاتّفاق في الهدي، واختلف في الضّحايا، والجمهور على أنّها كذلك. وقال الزين بن المنير: فرّق مالك بين التّقرّبين باختلاف المقصودين، لأنّ أصل مشروعيّة الأضحيّة التّذكير بقصّة الذّبيح، وهو قد فُدي بالغنم. والمقصود بالهدي التّوسعة على المساكين فناسب البدن. واستدل به على أنّ الجمعة تصحّ قبل الزّوال كما سيأتي نقل الخلاف فيه (¬1). ووجه الدّلالة منه تقسيم السّاعة إلى خمس. ثمّ عقّب بخروج الإمام، وخروجه عند أوّل وقت الجمعة، فيقتضي أنّه يخرج في أوّل السّاعة ¬

_ (¬1) انظر حديث سلمة - رضي الله عنه - الآتي.

السّادسة وهي قبل الزّوال. والجواب: أنّه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أوّل النّهار، فلعل السّاعة الأولى منه جعلت للتّأهّب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أوّل الثّانية فهي أولى بالنّسبة للمجيء ثانية بالنّسبة للنّهار، وعلى هذا فآخر الخامسة أوّل الزّوال فيرتفع الإشكال. وإلى هذا أشار الصّيدلانيّ شارح المختصر حيث قال: إنّ أوّل التّبكير يكون من ارتفاع النّهار، وهو أوّل الضّحى، وهو أوّل الهاجرة. ويؤيّده الحثّ على التّهجير إلى الجمعة. ولغيره من الشّافعيّة في ذلك وجهان اختلف فيهما التّرجيح. فقيل: أوّل التّبكير طلوع الشّمس. وقيل: طلوع الفجر، ورجّحه جمع. وفيه نظرٌ. إذ يلزم منه أن يكون التّأهّب قبل طلوع الفجر، وقد قال الشّافعيّ: يجزئ الغسل إذا كان بعد الفجر. فأشعر بأنّ الأولى أن يقع بعد ذلك. ويحتمل: أن يكون ذكر السّاعة السّادسة لَم يذكره الرّاوي. وقد وقع في رواية ابن عجلان عن سميٍّ عند النّسائيّ من طريق الليث عنه زيادة مرتبة بين الدّجاجة والبيضة وهي العصفور، وتابعه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان، أخرجه محمّد بن عبد السّلام

الخشنيّ. وله شاهدٌ من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في " التّرغيب " له بلفظ " فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشّاة إلى علية الطّير إلى العصفور " الحديث، ونحوه في مرسل طاوسٍ عند سعيد بن منصور. ووقع عند النّسائيّ أيضاً في حديث الزّهريّ من رواية عبد الأعلى عن معمر زيادة (البطّة) بين الكبش والدّجاجة، لكن خالفه عبد الرّزّاق، وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها، وعلى هذا فخروج الإمام يكون عند انتهاء السّادسة. وهذا كلّه مبنيّ على أنّ المراد بالسّاعات ما يتبادر الذّهن إليه من العرف فيها، وفيه نظرٌ. إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشّاتي والصّائف، لأنّ النّهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات وفي الطّول إلى أربع عشرة، وهذا الإشكال للقفّال. وأجاب عنه القاضي حسين: بأنّ المراد بالسّاعات ما لا يختلف عدده بالطّول والقصر، فالنّهار اثنتا عشرة ساعة لكن يزيد كلٌّ منها وينقص والليل كذلك، وهذه تسمّى السّاعات الآفاقيّة عند أهل الميقات وتلك التّعديليّة. وقد روى أبو داود والنّسائيّ وصحّحه الحاكم من حديث جابر مرفوعاً: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. وهذا - وإن لَم يرد في حديث التّبكير - فيستأنس به في المراد

بالسّاعات. وقيل: المراد بالسّاعات بيان مراتب المبكّرين من أوّل النّهار إلى الزّوال. وأنّها تنقسم إلى خمس. وتجاسر الغزاليّ فقسّمها برأيه , فقال: الأولى من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس، والثّانية إلى ارتفاعها، والثّالثة إلى انبساطها، والرّابعة إلى أن ترمض الأقدام، والخامسة إلى الزّوال. واعترضه ابن دقيق العيد: بأنّ الرّدّ إلى السّاعات المعروفة أولى وإلا لَم يكن لتخصيص هذا العدد بالذّكر معنىً لأنّ المراتب متفاوتة جدّاً. وأولى الأجوبة الأوّل إن لَم تكن زيادة ابن عجلان محفوظة، وإلا فهي المعتمدة. وانفصل المالكيّة إلاَّ قليلاً منهم , وبعض الشّافعيّة عن الإشكال: بأنّ المراد بالسّاعات الخمس لحظات لطيفة أوّلها زوال الشّمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر. واستدلّوا على ذلك: بأنّ السّاعة تطلق على جزء من الزّمان غير محدود، تقول جئت ساعة كذا، وبأنّ قوله في الحديث " ثمّ راح " يدلّ على أنّ أوّل الذّهاب إلى الجمعة من الزّوال، لأنّ حقيقة الرّواح من الزّوال إلى آخر النّهار، والغدوّ من أوّله إلى الزّوال. قال المازريّ: تمسّك مالك بحقيقة الرّواح , وتجوّز في السّاعة وعكس غيره. انتهى وقد أنكر الأزهريّ على من زعم أنّ الرّواح لا يكون إلاَّ بعد

الزّوال، ونقل أنّ العرب تقول " راح " في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في " الغريبين " نحوه. قلت: وفيه ردّ على الزين بن المنير. حيث أطلق أنّ الرّواح لا يستعمل في المضيّ في أوّل النّهار بوجهٍ، وحيث قال: إنّ استعمال الرّواح بمعنى الغدوّ لَم يسمع ولا ثبت ما يدلّ عليه. ثمّ إنّي لَم أر التّعبير بالرّواح في شيء من طرق هذا الحديث إلاَّ في رواية مالك هذه عن سُمَيٍّ، وقد رواه ابن جريجٍ عن سُمَيٍّ بلفظ " غدا " , ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ " المتعجّل إلى الجمعة كالمهدي بدنة. الحديث " وصحّحه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الجمعة في التّبكير كناحر البدنة. الحديث، أخرجه ابن ماجه. ولأبي داود من حديث عليّ مرفوعاً: إذا كان يوم الجمعة غدت الشّياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد فتكتب الرّجل من ساعة والرّجل من ساعتين. الحديث. فدلَّ مجموع هذه الأحاديث على أنّ المراد بالرّواح الذّهاب. وقيل: النّكتة في التّعبير بالرّواح. الإشارة إلى أنّ الفعل المقصود إنّما يكون بعد الزّوال، فيسمّى الذّاهب إلى الجمعة رائحاً وإن لَم يجيء وقت الرّواح، كما سُمِّي القاصد إلى مكّة حاجّاً. وقد اشتدّ إنكار أحمد وابن حبيب من المالكيّة ما نُقل عن مالك من

كراهية التّبكير إلى الجمعة , وقال أحمد: هذا خلاف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واحتجّ بعض المالكيّة أيضاً بقوله في رواية الزّهريّ " مثل المهجّر " , لأنّه مشتقّ من التّهجير , وهو السّير في وقت الهاجرة. وأجيب: بأنّ المراد بالتّهجير هنا التّبكير كما تقدّم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل: أن يكون مشتقّاً من الْهِجِّير - بالكسر وتشديد الجيم - وهو ملازمة ذكر الشّيء، وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف , لأنّ مصدره الهجر لا التّهجير. وقال القرطبيّ: الحقّ أنّ التّهجير هنا من الهاجرة وهو السّير وقت الحرّ، وهو صالح لِمَا قبل الزّوال وبعده، فلا حجّة فيه لمالكٍ. وقال التّوربشتيّ: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النّهار ويأخذ الحرّ في الازدياد من الهاجرة تغليباً، بخلاف ما بعد زوال الشّمس فإنّ الحرّ يأخذ في الانحطاط، وممّا يدلّ على استعمالهم التّهجير في أوّل النّهار ما أنشد ابن الأعرابيّ في " نوادره " لبعض العرب: تهجرون تهجير الفجر. واحتجّوا أيضاً: بأنّ السّاعة لو لَم تطل لزم تساوي الآتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السّابق، بخلاف ما إذا قلنا إنّها لحظة لطيفة. والجواب ما قاله النّوويّ في " شرح المهذّب " تبعاً لغيره. أنّ التّساوي وقع في مسمّى البدنة والتّفاوت في صفاتها.

ويؤيّده أنّ في رواية ابن عجلان تكرير كلّ من المتقرّب به مرّتين حيث قال " كرجلٍ قدّم بدنة، وكرجلٍ قدّم بدنة " الحديث ولا يرِدُ على هذا أنّ في رواية ابن جريجٍ " وأوّل السّاعة وآخرها سواء " , لأنّ هذه التّسوية بالنّسبة إلى البدنة كما تقرّر. واحتجّ من كره التّبكير أيضاً: بأنّه يستلزم تخطّي الرّقاب في الرّجوع لمن عرضت له حاجة فخرج لها ثمّ رجع. وتعقّب: بأنّه لا حرج عليه في هذه الحالة لأنّه قاصد للوصول لحقّه. وإنّما الحرج على من تأخّر عن المجيء ثمّ جاء فتخطّى، والله سبحانه وتعالى أعلم

الحديث الخامس والتسعون

الحديث الخامس والتسعون 144 - عن سلمة بن الأكوع - وكان من أصحاب الشّجرة - رضي الله عنه - , قال: كنّا نُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة , ثمّ ننصرف. وليس للحيطان ظلٌّ نستظلّ به. (¬1) وفي لفظٍ: كنّا نجمّع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشّمس , ثمّ نرجع فنتتبّع الفيء. (¬2) قوله: (عن سلمة بن الأكوع) واسم الأكوع سنان. وموت سلمة سنة أربع وسبعين على الصحيح. قوله: (وكان من أصحاب الشجرة) أي: التي كانت بيعة الرضوان تحتها. (¬3) قوله: (ثمّ ننصرف. وليس للحيطان ظلٌّ نستظلّ به) استدل به لمن يقول بأنّ صلاة الجمعة تجزئ قبل الزّوال، لأنّ الشّمس إذا زالت ظهرت الظّلال. وأجيب: بأنّ النّفي إنّما تسلط على وجود ظلٍّ يستظلّ به لا على وجود الظّل مطلقاً، والظّلّ الذي يستظلّ به لا يتهيّأ لا بعد الزّوال بمقدارٍ يختلف في الشّتاء والصّيف. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3935) ومسلم (860) من طريق يعلى بن الحارث المحاربي عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه. (¬2) أخرجه مسلم (860) من طريق يعلى بن الحارث عن إياس عن أبيه به. (¬3) سيأتي الكلام إن شاء الله عليها. انظر حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - في النذور. رقم (367)

وأغرب ابن العربيّ. فنقل الإجماع على أنّها لا تجب حتّى تزول الشّمس، إلاَّ ما نقل عن أحمد. أنّه إن صلاها قبل الزّوال أجزأ. انتهى. وقد نقله ابن قدامة وغيره عن جماعة من السّلف كما سيأتي. وروى أبو نعيمٍ شيخ البخاريّ في " كتاب الصّلاة " له. وابن أبي شيبة من رواية عبد الله بن سيدان قال: شهدتُ الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النّهار، وشهدتها مع عمر - رضي الله عنه - فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النّهار. رجاله ثقات إلاَّ عبد الله بن سيدان - وهو بكسر المهملة بعدها تحتانيّة ساكنة - فإنّه تابعيّ كبير إلاَّ أنّه غير معروف العدالة. قال ابن عديّ: شبه المجهول. وقال البخاريّ: لا يُتابع على حديثه. بل عارضه ما هو أقوى منه. فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة , أنّه صلَّى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشّمس. إسناده قويّ. وفي الموطّأ عن مالك بن أبي عامر قال: كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربيّ، فإذا غشيها ظلّ الجدار خرج عمر. إسناده صحيح. وهو ظاهر في أنّ عمر كان يخرج بعد زوال الشّمس. وفهم منه بعضهم عكس ذلك، ولا يتّجه إلاَّ إن حمل على أنّ

الطّنفسة كانت تفرش خارج المسجد وهو بعيد، والذي يظهر أنّها كانت تفرش له داخل المسجد، وعلى هذا فكان عمر يتأخّر بعد الزّوال قليلاً. وفي حديث السّقيفة عن ابن عبّاسٍ قال: فلمّا كان يوم الجمعة وزالت الشّمس , خرج عمر فجلس على المنبر. (¬1) وأمّا عليّ. فروى ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق , أنّه صلَّى خلف عليّ الجمعة بعدما زالت الشّمس. إسناده صحيح. وروى أيضاً من طريق أبي رزين قال: كنّا نُصلِّي مع عليّ الجمعة فأحياناً نجد فيئاً وأحياناً لا نجد. وهذا محمول على المبادرة عند الزّوال أو التّأخير قليلاً. وأمّا النّعمان بن بشير. فروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن سماك بن حرب قال: كان النّعمان بن بشير يُصلِّي بنا الجمعة بعدما تزول الشّمس. قلت: وكان النّعمان أميراً على الكوفة في أوّل خلافة يزيد بن معاوية. وأمّا عمرو بن حريثٍ. فأخرجه ابن أبي شيبة أيضاً من طريق الوليد بن العيزار , قال: ما رأيت إماماً كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6830) وفيه قال ابن عبّاس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجَّلت الرواح حين زاغت الشمس، حتى أجدَ سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب. الحديث.

بن حريثٍ، فكان يُصلِّيها إذا زالت الشّمس. إسناده صحيح أيضاً، وكان عمروٌ ينوب عن زياد , وعن ولده في الكوفة أيضاً. وأمّا ما يعارض ذلك عن الصّحابة. فروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن سلِمة - وهو بكسر اللام - قال: صلَّى بنا عبد الله - يعني ابن مسعود - الجمعة ضحىً , وقال: خشيت عليكم الحرّ. وعبد الله صدوق إلاَّ أنّه ممّن تغيّر لَمّا كبر. قاله شعبة وغيره. ومن طريق سعيد بن سويدٍ قال: صلَّى بنا معاوية الجمعة ضحىً. وسعيد ذكره ابن عديّ في الضّعفاء. واحتجّ بعض الحنابلة: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين. قال: فلمّا سمّاه عيداً جازت الصّلاة فيه وقت العيد كالفطر والأضحى. وتعقّب: بأنّه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيداً أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أنّ يوم العيد يحرم صومه مطلقاً سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة باتّفاقهم. قوله: (كنّا نجمّع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشّمس) وللبخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي الجمعة حين تميل الشمس. فيه إشعار بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الجمعة إذا زالت الشّمس.

أمّا رواية حميدٍ عن أنس عند البخاري: كنّا نبكّر بالجمعة , ونقيل بعد الجمعة. فظاهره أنّهم كانوا يصلّون الجمعة باكر النّهار، لكنّ طريق الجمع أولى من دعوى التّعارض. وقد تقرّر فيما تقدّم أنّ التّبكير يطلق على فعل الشّيء في أوّل وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا. والمعنى أنّهم كانوا يبدءون بالصّلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظّهر في الحرّ فإنّهم كانوا يقيلون ثمّ يصلّون لمشروعيّة الإبراد تنبيهٌ: لَم يقع التّصريح عند البخاري برفع حديث أنس الثّاني. وقد أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق فضيل بن عياض عن حميدٍ فزاد فيه " مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وكذا أخرجه ابن حبّان في " صحيحه " من طريق محمّد بن إسحاق حدّثني حميدٌ الطّويل. وله شاهد من حديث سهل بن سعد في الصحيحين قال: كُنا نقيل ونتغدَّى بعد الجمعة (¬1). وفيه ردٌّ على من زعم أنَّ الساعات المطلوبة في الذهاب إلى الجمعة من عند الزوال , لأنهم كانوا يتبادرون إلى الجمعة قبل القائلة. واستُدلّ بحديث سهل لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال , وترجم عليه ابن أبي شيبة " باب من كان يقول الجمعة أول النهار " ¬

_ (¬1) زاد مسلم (859) في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وفي رواية للبخاري (941): كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم تكون القائلة.

وأورد فيه حديث سهل هذا. وحديث أنس: كنا نبكر إلى الجمعة، ثم نقيل (¬1). وعن ابن عمر مثله , وعن عمر وعثمان وسعد وابن مسعود مثله من قولهم. وتعقّب: بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلّون الجمعة قبل الزوال , بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة , ثم ينصرفون فيتداركون ذلك. بل ادعى الزين بن المنير. أنه يؤخذ منه أنَّ الجمعة تكون بعد الزوال , لأنَّ العادة في القائلة أن تكون قبل الزوال فأخبر الصحابي أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة عن القائلة ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة. ¬

_ (¬1) وأخرجه البخاري في " صحيحه " (940). باب القائلة بعد الجمعة.

الحديث السادس والتسعون

الحديث السادس والتسعون 145 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: الَم تنزيل السّجدة , وهل أتى على الإنسان. (¬1) قوله: (الَم تنزيل) بضمّ اللام على الحكاية، وقوله " السّجدة " بالنّصب. قال ابن بطّال: أجمعوا على السّجود فيها، وإنّما اختلفوا في السّجود بها في الصّلاة. انتهى قوله: (وهل أتى على الإنسان) زاد الأصيليّ في روايته " حينٌ من الدّهر " (¬2) والمراد أن يقرأ في كلّ ركعة بسورةٍ، وكذا بيّنه مسلم من طريق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه بلفظ " الم تنزيل، في الرّكعة الأولى، وفي الثّانية: هل أتى على الإنسان ". وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السّورتين في هذه الصّلاة من هذا اليوم. لِمَا تشعر الصّيغة به من مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أو إكثاره منه. بل ورد من حديث ابن مسعود التّصريح بمداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، أخرجه الطّبرانيّ ولفظه " يديم ذلك " , وأصله في ابن ماجه بدون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (850 , 1018) ومسلم (880) من طريق سعد بن إبراهيم عن الأعرج عن أبي هريرة به. (¬2) ولمسلم (حينٌ من الدهر لَم يكن شيئاً مذكوراً)

هذه الزّيادة ورجاله ثقات، لكن صوّب أبو حاتم إرساله. وكأنّ ابن دقيق العيد لَم يقف عليه , فقال في الكلام على حديث الباب: ليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائماً اقتضاء قويّاً. وهو كما قال بالنّسبة لحديث الباب، فإنّ الصّيغة ليست نصّاً في المداومة , لكنّ الزّيادة التي ذكرناها نصّ في ذلك. وقد أشار أبو الوليد الباجيّ في رجال البخاريّ: إلى الطّعن في سعد بن إبراهيم لروايته لهذا الحديث، وأنّ مالكاً امتنع من الرّواية عنه لأجله، وأنّ النّاس تركوا العمل به لا سيّما أهل المدينة. انتهى. وليس كما قال، فإنّ سعداً لَم ينفرد به مطلقاً، فقد أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاسٍ مثله، وكذا ابن ماجه والطّبرانيّ من حديث ابن مسعود، وابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقّاص، والطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث عليّ. وأمّا دعواه أنّ النّاس تركوا العمل به فباطلة، لأنّ أكثر أهل العلم من الصّحابة والتّابعين قد قالوا به كما نقله ابن المنذر وغيره، حتّى إنّه ثابتٌ عن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف والد سعد وهو من كبار التّابعين من أهل المدينة , أنّه أمّ النّاس بالمدينة بهما في الفجر يوم الجمعة. أخرجه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ. وكلام ابن العربيّ يشعر بأنّ ترك ذلك أمر طرأ على أهل المدينة , لأنّه قال: وهو أمر لَم يعلم بالمدينة، فالله أعلم بمن قطعه كما قطع غيره. انتهى.

وأمّا امتناع مالك من الرّواية عن سعد فليس لأجل هذا الحديث، بل لكونه طعن في نسب مالك، كذا حكاه ابن البرقيّ عن يحيى بن معين، وحكى أبو حاتم عن عليّ بن المدينيّ قال: كان سعد بن إبراهيم لا يحدّث بالمدينة فلذلك لَم يكتب عنه أهلها. وقال السّاجيّ: أجمع أهل العلم على صدقه. وقد روى مالك عن عبد الله بن إدريس عن شعبة عنه، فصحّ أنّه حجّة باتّفاقهم. قال: ومالك إنّما لَم يرو عنه لمعنىً معروف، فأمّا أن يكون تكلم فيه فلا أحفظ ذلك. انتهى. وقد اختلف تعليل المالكيّة بكراهة قراءة السّجدة في الصّلاة. فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض. قال القرطبيّ: وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث. وقيل: لخشية التّخليط على المُصلِّين، ومن ثَمَّ فرّق بعضهم بين الجهريّة والسّريّة , لأنّ الجهريّة يؤمن معها التّخليط، لكن صحّ من حديث ابن عمر (¬1) أنّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة فيها سجدة في صلاة الظّهر فسجد بهم فيها، أخرجه أبو داود والحاكم، فبطلت التّفرقة. ومنهم: من علَّلَ الكراهة بخشية اعتقاد العوامّ أنّها فرض. قال ابن دقيق العيد: أمّا القول بالكراهة مطلقاً فيأباه الحديث، ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 486): قوله (لكن صحَّ من حديث ابن عمر) في تصحيحه نظرٌ , والصواب أنه ضعيفٌ , لأنَّ في إسناده عند أبي داود رجلاً مجهولاً يُدعى أُميَّة كما نصَّ على ذلك أبو داود في رواية الرملي عنه , ونبّه عليه الشوكاني في نيل الأوطار. والله أعلم

لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغي أن تُترك أحياناً لتندفع، فإنّ المستحبّ قد يترك لدفع المفسدة المتوقّعة، وهو يحصل بالتّرك في بعض الأوقات. انتهى. وإلى ذلك أشار ابن العربيّ بقوله: ينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب للقدرة، ويقطع أحياناً , لئلا تظنّه العامّة سنّة. انتهى. وهذا على قاعدتهم في التّفرقة بين السّنّة والمستحبّ. وقال صاحب المحيط من الحنفيّة: يستحبّ قراءة هاتين السّورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً , لئلا يظنّ الجاهل أنّه لا يجزئ غيره. وأمّا صاحب الهداية منهم. فذكر أنّ عِلَّة الكراهة: هجران الباقي وإيهام التّفضيل. وقول الطّحاويّ يناسب قول صاحب المحيط، فإنّه خصّ الكراهة بمن يراه حتماً لا يجزئ غيره , أو يرى القراءة بغيره مكروهة. فائدتان. الأولى: لَم أر في شيء من الطّرق التّصريح بأنّه - صلى الله عليه وسلم - سجد لَمّا قرأ سورة تنزيل السّجدة في هذا المحلّ , إلاَّ في كتاب الشّريعة لابن أبي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاسٍ قال: غدوتُ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة في صلاة الفجر , فقرأ سورة فيها سجدة. فسجد. الحديث، وفي إسناده من ينظر في حاله. وللطّبرانيّ في الصّغير من حديث عليّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة

الصّبح. في تنزيل السّجدة " لكن في إسناده ضعف. الثّانية: قيل: الحكمة في اختصاص يوم الجمعة بقراءة سورة السّجدة , قصد السّجود الزّائد حتّى أنّه يستحبّ لمن لَم يقرأ هذه السّورة بعينها أن يقرأ سورة غيرها فيها سجدة، وقد عاب ذلك على فاعله غير واحدٍ من العلماء. ونسبهم صاحب الهدي إلى قلة العلم ونقص المعرفة. لكن عند ابن أبي شيبة بإسنادٍ قويّ عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال: يستحبّ أن يقرأ في الصّبح يوم الجمعة بسورةٍ فيها سجدة. وعنده من طريقه أيضاً , أنّه فعل ذلك فقرأ سورة مريم. ومن طريق ابن عون , قال: كانوا يقرءون في الصّبح يوم الجمعة بسورةٍ فيها سجدة. وعنده من طريقه أيضاً قال: وسألت محمّداً - يعني ابن سيرين - عنه فقال: لا أعلم به بأساً. فهذا قد ثبت عن بعض علماء الكوفة والبصرة. فلا ينبغي القطع بتزييفه. وقد ذكر النّوويّ في زيادات الرّوضة هذه المسألة وقال: لَم أر فيها كلاماً لأصحابنا، ثمّ قال: وقياس مذهبنا أنّه يكره في الصّلاة إذا قصده. انتهى. وقد أفتى ابن عبد السّلام قبله بالمنع وببطلان الصّلاة بقصد ذلك، قال صاحب المهمّات: مقتضى كلام القاضي حسين الجواز. وقال الفارقيّ في فوائد المهذّب: لا تستحبّ قراءة سجدة غير

تنزيل، فإن ضاق الوقت عن قراءتها قرأ بما أمكن منها ولو بآية السّجدة منها. ووافقه ابن أبي عصرون في كتاب الانتصار. وفيه نظرٌ. تكملة: قيل: إنّ الحكمة في هاتين السّورتين الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة، لأنّ ذلك كان وسيقع يوم الجمعة، ذكره ابن دحية في العلم المشهور , وقرّره تقريراً حسناً.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين العيد مشتق من العود , وقيل له ذلك , لأنه يعود في كل عام. وقد نقل الكرماني عن الزمخشري: أنَّ العيد هو السرور العائد. وأقرَّ ذلك. فالمعنى أنَّ كل يوم شُرع تعظيمه يسمى عيداً. انتهى فوائد الفائدة الأولى: روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر، إنَّ لكل قوم عيداً وهذا عيدنا. قوله " لكل قوم " أي من الطوائف وقوله عيد أي كالنيروز والمهرجان وفي النسائي وبن حبان بإسناد صحيح عن أنس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة - ولهم يومان يلعبون فيهما - فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما. يوم الفطر والأضحى. واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم , وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالى. الفائدة الثانية: روى ابن عدي من حديث واثلة , أنه لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد فقال: تقبل الله منا ومنك. فقال: نعم. تقبل الله منا

ومنك. وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي وهو ضعيف , وقد تفرد به مرفوعاً , وخولف فيه. فروى البيهقي من حديث عبادة بن الصامت , أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال: ذلك فعل أهل الكتابين. وإسناده ضعيف أيضاً. وروينا في المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك الفائدة الثالثة: روى بن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى بن عمر , أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين.

الحديث السابع والتسعون

الحديث السابع والتسعون 146 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ وعمر يصلّون العيدين قبل الخطبة. (¬1) قوله: (يصلّون العيدين قبل الخطبة) صريح وظاهر في المسألة. واختلف في أوّل من غيّر ذلك. فرواية طارق بن شهابٍ عن أبي سعيدٍ عند مسلمٍ صريحةٌ في أنّه مروان قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان. فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رأى منكم منكراً .. الحديث. وقيل: بل سبقه إلى ذلك عثمان، وروى ابن المنذر بإسنادٍ صحيحٍ إلى الحسن البصريّ قال: أوّل من خطب قبل الصّلاة عثمان، صلَّى بالنّاس ثمّ خطبهم - يعني على العادة - فرأى ناساً لَم يدركوا الصّلاة، ففعل ذلك. أي: صار يخطب قبل الصّلاة. وهذه العلة غير التي اعتلَّ بها مروان (¬2). لأنّ عثمان رأى مصلحة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (914 , 920) ومسلم (888) من طرق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) روى البخاري في الصحيح (956) عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الصلاة قبل الخطبة ثم قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان - وهو أمير المدينة - في أضحى أو فطر، فلمَّا أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبَذَني فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيَّرتم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة. قال ابن حجر في " الفتح " (2/ 580): وهذا يشعر بأنَّ مروان فعل ذلك باجتهادٍ منه .. وفيه جواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى , لأنَّ أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به على أنَّ المبادأة بالصلاة فيها ليس بشرط في صحتها. والله أعلم. قال ابن المنير في الحاشية: حمَلَ أبو سعيد فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك على التعيين، وحمله مروان على الأولوية، واعتذر عن ترك الأَوْلى بما ذكره من تغير حال الناس، فرأى أنَّ المحافظة على أصل السنة - وهو إسماع الخطبة - أولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها. والله أعلم. انتهى.

الجماعة في إدراكهم الصّلاة، وأمّا مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنّهم كانوا في زمن مروان يتعمّدون ترك سماع خطبته لِمَا فيها من سبِّ من لا يستحقّ السبَّ والإفراط في مدح بعض النّاس، فعلى هذا إنّما راعى مصلحة نفسه. ويحتمل: أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً، بخلاف مروان فواظب عليه، فلذلك نسب إليه. وقد روي عن عمر مثل فعل عثمان، قال عياضٌ ومن تبعه: لا يصحّ عنه. وفيما قالوه نظرٌ، لأنّ عبد الرّزّاق وابن أبي شيبة روياه جميعاً عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ عن يوسف بن عبد الله بن سلامٍ، وهذا إسنادٌ صحيحٌ. لكن يعارضه حديث ابن عبّاسٍ: شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فكلّهم كانوا يصلون قبل الخطبة. متفق عليه، وكذا حديث الباب. فإن جُمع بوقوع ذلك منه نادراً , وإلا فما في الصّحيحين أصحّ. وقد أخرج الشّافعيّ عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عبّاسٍ. وزاد: حتّى قدم معاوية فقدّم الخطبة , فهذا يشير إلى أنّ مروان إنّما فعل ذلك تبعاً لمعاوية , لأنّه كان أمير المدينة من جهته. وروى عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن الزّهريّ قال: أوّل من أحدث الخطبة قبل الصّلاة في العيد معاوية. وروى ابن المنذر عن ابن سيرين , أنّ أوّل من فعل ذلك زيادٌ بالبصرة. قال عياضٌ: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان، لأنّ كلاًّ من مروان وزيادٍ كان عاملاً لمعاوية , فيحمل على أنّه ابتدأ ذلك وتبعه عمّاله، والله أعلم.

الحديث الثامن والتسعون

الحديث الثامن والتسعون 147 - عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - قال: خطبنا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصّلاة , فقال: من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا. فقد أصاب النّسك , ومن نسك قبل الصّلاة فلا نسك له. فقال أبو بُرْدة بن نيارٍ - خال البراء بن عازبٍ -: يا رسولَ الله , إنّي نسكْتُ شاتي قبل الصّلاة. وعرفت أنّ اليوم يوم أكلٍ وشربٍ , وأحببت أن تكون شاتي أوّل ما يذبح في بيتي , فذبحت شاتي , وتغذّيت قبل أن آتي الصّلاة. فقال: شاتك شاة لحمٍ. قال: يا رسولَ الله , فإنّ عندنا عناقاً هي أحبّ إليّ من شاتين. أفتجزي عنّي؟ قال: نعم , ولن تَجزي عن أحدٍ بعدك. (¬1) قوله: (خطبنا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصّلاة) تقدم في الحديث قبله. قوله: (من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا) وللبخاري " من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا , فلا يذبح حتى ينصرف ". وفي رواية لهما " أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نُصلِّي , ثمّ نرجع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (908 , 912 , 922، 925، 933، 940، 5225، 5236، 5240، 5243، 6296) ومسلم (1961) من طرق عدّةٍ عن الشعبي عن البراء - رضي الله عنه -. ورواه البخاري (5237) ومسلم (1961) من طريق سلمة بن كهيل عن أبي جحيفة عن البراء - رضي الله عنه - مختصراً بذكر قصة خاله أبي بردة فقط.

فننحر ". فيه إشعار بأنّ الصّلاة ذلك اليوم هي الأمر المهمّ، وأنّ ما سواها من الخطبة والنّحر والذّكر وغير ذلك من أعمال البرّ يوم النّحر فبطريق التّبع، وهذا القدر مشتركٌ بين العيدين. وهو مشعرٌ أيضاً بأنّ هذا الكلام وقع قبل إيقاع الصّلاة فيستلزم تقديم الخطبة على الصّلاة بناءً على أنّ هذا الكلام من الخطبة، ولأنّه عقّب الصّلاة بالنّحر. والجواب: أنّ المراد أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى العيد ثمّ خطب فقال هذا الكلام (¬1) وأراد بقوله " إنّ أوّل ما نبدأ به " , أي: في يوم العيد تقديم الصّلاة في أيّ عيدٍ كان. والتّعقيب بثمّ لا يستلزم عدم تخلّل أمرٍ آخر بين الأمرين. قال ابن بطّالٍ: غلط النّسائيّ فترجم بحديث البراء فقال " باب الخطبة قبل الصّلاة " قال: وخفي عليه أنّ العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضي، وكأنّه قال عليه الصّلاة والسّلام: أوّل ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصّلاة التي قدّمنا فعلها. قال: وهو ¬

_ (¬1) بوَّب البخاري على الحديث بقوله (باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، وإذا سئل الإمام عن شيء وهو يخطب) قال الشارح رحمه الله: في هذه الترجمة حكمان , وظنَّ بعضهم أنَّ فيها تكراراً , وليس ذلك، بل الأول أعم من الثاني، ولم يذكر المصنف الجواب استغناء بما في الحديث، ووجهه من حديث البراء , أنَّ المراجعة الصادرة بين أبي بردة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - دالَّة على الحكم الأول، وسؤال أبي بردة عن حكم العناق دال على الحكم الثاني.

مثل قوله تعالى (وما نقموا منهم إلاَّ أن يؤمنوا) أي: الإيمان المتقدّم منهم. انتهى والمعتمد في صحّة ما تأوّلناه رواية محمّد بن طلحة عن زبيدٍ عن الشعبي عند البخاري في هذا الحديث بعينه بلفظ: خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أضحى إلى البقيع فصلَّى ركعتين، ثمّ أقبل علينا بوجهه , وقال: إنّ أوّل نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصّلاة ثمّ نرجع فننحر. الحديث. فتبيّن أنّ ذلك الكلام وقع منه بعد الصّلاة , لأنّه عقّب الخروج إليها بالفاء. ورواية الباب صريحة فيه. فيتعيّن التّأويل الذي قدّمناه. والله أعلم. ووقع في بعض الرّوايات " في يومنا هذا نُصلِّي " بحذف " أن ". وعليها شرح الكرمانيّ , فقال: هو مثل " تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه " وهو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، والمراد بالسّنّة هنا في الحديثين معاً الطّريقة لا السّنّة بالاصطلاح التي تقابل الوجوب، والطّريقة أعمّ من أن تكون للوجوب أو للنّدب، فإذا لَم يقم دليل على الوجوب بقي النّدب. قوله: (ونَسك نُسكنا فقد أصاب النُّسك , ومن نَسك قبل الصّلاة فلا نُسك له) في رواية لهما " من ضحَّى قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين ". والنّسك يطلق ويراد به الذّبيحة , ويستعمل في نوع خاصّ من الدّماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة وهو أعمّ , يقال فلان ناسك.

أي: عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثّالث وبالمعنى الأوّل أيضاً في قوله " من نسك قبل الصّلاة فلا نسك له ". أي: من ذبح قبل الصّلاة فلا ذبح له. أي: لا يقع عن الأضحيّة. قوله: (فقال أبو بُرْدة بن نيار) وهو بكسر النّون وتخفيف الياء المثنّاة من تحت وآخره راء. واسمه هانئ , واسم جدّه عمرو بن عبيد وهو بلويّ من حلفاء الأنصار، وقد قيل: إنّ اسمه الحارث بن عمرو , وقيل: مالك بن هبيرة. والأوّل هو الأصحّ. وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفيّ عن الشّعبيّ عن البراء قال: كان اسم خالي قليلاً فسمّاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، وقال: يا كثير إنّما نسكنا بعد صلاتنا. ثمّ ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف. وأبو بُرْدة ممّن شهد العقبة وبدراً والمشاهد , وعاش إلى سنة اثنتين , وقيل: خمس وأربعين، وله في البخاريّ حديث في الحدود. (¬1) قوله: (وعرفت أنّ اليومَ يومُ أكلٍ وشربٍ) فيه أنّ أبا بُرْدة أكل قبل الصّلاة يوم النّحر، فبيّن له - صلى الله عليه وسلم - أنّ التي ذبحها لا تجزئ عن الأضحيّة. وأقرّه على الأكل منها. وأمّا ما ورد في التّرمذيّ والحاكم من حديث بريدة , قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتّى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتّى يُصلِّي , ونحوه عند البزّار عن جابر بن سمرة. وروى الطّبرانيّ والدارقطنيّ من حديث ابن عبّاسٍ قال: من السّنّة ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله في الحدود برقم (360).

أن لا يخرج يوم الفطر حتّى يخرج الصّدقة , ويطعم شيئاً قبل أن يخرج. وفي كلٍّ من الأسانيد الثّلاثة مقالٌ، وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلَّت عليه. قال الزين بن المنير: وقع أكله - صلى الله عليه وسلم - في كلٍّ من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصّة بهما. فإخراج صدقة الفطر قبل الغدوّ إلى المصلى. وإخراج صدقة الأضحيّة بعد ذبحها. فاجتمعا من جهةٍ , وافترقا من جهةٍ أخرى. واختار بعضهم تفصيلاً آخر فقال: من كان له ذبحٌ استحبّ له أن يبدأ بالأكل يوم النّحر منه، ومن لَم يكن له ذبحٌ تخيّر. قوله: (فقال: شاتك شاة لحمٍ) أي: ليست أضحيّة بل هو لحم ينتفع به كما وقع في رواية زبيد " فإنّما هو لحم يقدّمه لأهله " , وفي رواية فراس عن الشعبي عن البراء عند مسلم , قال: ذاك شيء عجّلته لأهلك. وقد استشكلت الإضافة في قوله " شاة لحم "، وذلك أنّ الإضافة قسمان: معنويّة ولفظيّة. فالمعنويّة: إمّا مقدّرة بمن. كخاتم حديد أو باللام. كغلام زيد أو بفي. كضرب اليوم معناه ضرب في اليوم. وأمّا اللفظيّة: فهي صفة مضافة إلى معمولها. كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصحّ شيء من الأقسام الخمسة في شاة لحم.

قال الفاكهيّ: والذي يظهر لي أنّ أبا بُرْدة لَمّا اعتقد أنّ شاته شاة أضحيّة , أوقع - صلى الله عليه وسلم - في الجواب قوله " شاة لحم " موقع قوله شاة غير أضحيّة. قوله: (فإنّ عندنا عناقاً لنا جذعةً) ولمسلم " عناق لبن " , وللبخاري " إنّ عندي داجناً جذعاً من المعز " , والدّاجن التي تألف البيوت وتستأنس. وليس لها سنّ معيّن، ولَمّا صار هذا الاسم علماً على ما يألف البيوت اضمحلَّ الوصف عنه. فاستوى فيه المذكّر والمؤنّث. والجذعة. بفتح الجيم والذّال المعجمة , هو وصف لسنٍّ معيّن من بهيمة الأنعام، فمن الضّأن ما أكمل السّنة وهو قول الجمهور. وقيل: دونها. ثمّ اختلف في تقديره. فقيل: ابن ستّة أشهر , وقيل: ثمانية , وقيل: عشرة، وحكى التّرمذيّ عن وكيع , أنّه ابن ستّة أشهر أو سبعة أشهر. وعن ابن الأعرابيّ , أنّ ابن الشّابّين يجذع لستّة أشهر إلى سبعة , وابن الهرمين يجذع لثمانيةٍ إلى عشرة، قال: والضّأن أسرع إجذاعاً من المعز، وأمّا الجذع من المعز فهو ما دخل في السّنة الثّانية , ومن البقر ما أكمل الثّالثة , ومن الإبل ما دخل في الخامسة، وقد بيّن في هذه الرّواية أنّها من المعز. والعناق. بفتح العين وتخفيف النّون الأنثى من ولد المعز عند أهل

اللّغة، ولَم يصب الدّاوديّ في زعمه أنّ العناق هي التي استحقّت أن تحمل , وأنّها تطلق على الذّكر والأنثى. وأنّه بيّن بقوله " لبن " أنّها أنثى. قال ابن التّين: غلط في نقل اللّغة وفي تأويل الحديث، فإنّ معنى " عناق لبن " أنّها صغيرة سنّ ترضع أمّها. ووقع عند الطّبرانيّ من طريق سهل بن أبي حثمة , أنّ أبا بُرْدة ذبح ذبيحته بسحرٍ، فذكر ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّما الأضحيّة ما ذبح بعد الصّلاة، اذهب فضحّ، فقال: ما عنديّ إلاَّ جذعة من المعز. الحديث. قوله: (هي أحبّ إليّ من شاتين) في رواية لمسلمٍ " من شاتي لحم ". والمعنى: أنّها أطيب لحماً وأنفع للآكلين لسمنها ونفاستها. وقد استشكل هذا بما ذُكر أنّ عتق نفسين أفضل من عتق نفس واحدة ولو كانت أنفس منهما. وأجيب: بالفرق بين الأضحيّة والعتق. أنّ الأضحيّة يطلب فيها كثرة اللحم , فتكون الواحدة السّمينة أولى من الهزيلتين. والعتق يطلب فيه التّقرّب إلى الله بفكّ الرّقبة , فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة. نعم. إن عرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره - كالعلم وأنواع الفضل المتعدّي - فقد جزم بعض المحقّقين بأنّه أولى. لعموم نفعه للمسلمين.

ووقع في الرّواية الأخرى في البخاري وهي " خير من مسنّة ". وحكى ابن التّين عن الدّاوديّ: أنّ المسنّة التي سقطت أسنانها للبدل، وقال أهل اللّغة: المسنّ الثّنيّ الذي يلقي سنّه، ويكون في ذات الخفّ في السّنة السّادسة , وفي ذات الظّلف والحافر في السّنة الثّالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشّاة في الثّالثة. فهو ثنيّ ومسنّ. قوله: (قال: نعم , ولن تجزي عن أحدٍ بعدك) في رواية لهما " قال: اذبحها , ولا تصلح لغيرك " ولمسلم " أعد نسكاً , فقال: إن عندي عناقَ لبن هي خير من شاتَي لحم. قال: هي خير نسيكتيك. ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك. في رواية فراس عند البخاري " أأذبحها؟ قال: نعم، ثمّ لا تجزي عن أحد بعدك " وله أيضاً " اجعلها مكانها , ولن تجزي عن أحد بعدك " , وفي حديث سهل بن أبي حثمة " وليست فيها رخصة لأحدٍ بعدك " , وللبخاري " ولن تجزي أو توفي ". شكٌّ من الرّاوي. ومعنى تُوفي. أي: تكمل الثّواب , وعند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه " ولن تفي " بغير واو ولا شكٍّ، يقال: وفى إذا أنجز فهو بمعنى تجزي بفتح أوّله. وقوله " تجزي " بفتح أوّله غير مهموز , أي: تقضي، يقال جزا عنّي فلان كذا أي: قضى، ومنه (لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً) أي: لا تقضي عنها. قال ابن برّيّ: الفقهاء يقولون: لا تجزئ بالضّمّ والهمز في موضع

لا تقضي , والصّواب بالفتح وترك الهمز، قال: لكن يجوز الضّمّ والهمز بمعنى الكفاية، يقال أجزأ عنك. وقال صاحب " الأساس ": بنو تميم يقولون: البدنة تجزي عن سبعة بضمّ أوّله، وأهل الحجاز تجزي بفتح أوّله، وبهما قرئ (لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً) وفي هذا تعقّب على من نقل الاتّفاق على منع ضمّ أوّله. وفي هذا الحديث تخصيص أبي بُرْدة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحيّة، لكن وقع في عدّة أحاديث التّصريح بنظير ذلك لغير أبي بُرْدة، ففي حديث عقبة بن عامر , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ضح أنت به " (¬1) , زاد البيهقيّ " ولا رخصة فيها لأحدٍ بعدك ". قال البيهقيّ: إن كانت هذه الزّيادة محفوظة. كان هذا رخصة لعقبة كما رخّص لأبي بُرْدة. قلت: وفي هذا الجمع نظرٌ، لأنّ في كلّ منهما صيغة عموم، فأيّهما تقدّم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثّاني. وأقرب ما يقال فيه: إنّ ذلك صدر لكلٍّ منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصيّة الأوّل نسخت بثبوت الخصوصيّة للثّاني، ولا مانع من ذلك , لأنّه لَم يقع في السّياق استمرار المنع لغيره صريحاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2300) ومسلم (1965) من طريق الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبي الخير عن عقبة به.

وقد انفصل ابن التّين - وتبعه القرطبيّ - عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون العتود كان كبير السّنّ بحيث يجزي، لكنّه قال ذلك بناء على أنّ الزّيادة التي في آخره لَم تقع له. ولا يتمّ مراده مع وجودها مع مصادمته لقول أهل اللّغة في العتود. وتمسّك بعض المتأخّرين بكلام ابن التّين فضعّف الزّيادة، وليس بجيّدٍ، فإنّها خارجة من مخرج الصّحيح، فإنّها عند البيهقيّ من طريق عبد الله البوشنجيّ - أحد الأئمّة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم - رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسّند الذي ساقه البخاريّ. ولكنّي رأيت الحديث في " المتّفق للجوزقيّ " من طريق عبيد بن عبد الواحد , ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان كلاهما عن يحيى بن بكير. وليست الزّيادة فيه، فهذا هو السّرّ في قول البيهقيّ: إن كانت محفوظة، فكأنّه لَمّا رأى التّفرّد خشي أن يكون دخل على راويها حديث في حديث. وقد وقع في كلام بعضهم. أنّ الذين ثبتت لهم الرّخصة أربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكلٍ، فإنّ الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التّصريح بالنّفي إلاَّ في قصّة أبي بُرْدة في الصّحيحين , وفي قصّة عقبة بن عامر في البيهقيّ. وأمّا عدا ذلك. فقد أخرج أبو داود وأحمد. وصحّحه ابن حبّان من حديث زيد بن خالد , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عتوداً جذعاً , فقال: ضحّ

به، فقلت: إنّه جذع أفأضحّي به؟ قال: نعم. ضحّ به، فضحّيت به. لفظ أحمد. وفي صحيح ابن حبّان وابن ماجه من طريق عبّاد بن تميم عن عويمر بن أشقر , أنّه ذبح أضحيّته قبل أن يغدو يوم الأضحى، فأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد أضحيّة أخرى. وفي الطّبرانيّ " الأوسط " من حديث ابن عبّاس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطى سعد بن أبي وقّاص جذعاً من المعز , فأمره أن يضحّي به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة. وفي سنده ضعف ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة , أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله. هذا جذع من الضّأن مهزول , وهذا جذع من المعز سمين وهو خيرهما. أفأضحّي به؟ قال: ضحّ به فإنّ لله الخير. وفي سنده ضعف. والحقّ أنّه لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بُرْدة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ثمّ قرّر الشّرع بأنّ الجذع من المعز لا يجزي، واختصّ أبو بُرْدة وعقبة بالرّخصة في ذلك. وإنّما قلتُ ذلك , لأنّ بعض النّاس زعم أنّ هؤلاء شاركوا عقبة وأبا بُرْدة في ذلك، والمشاركة إنّما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير. ومنهم: من زاد فيهم عويمر بن أشقر , وليس في حديثه إلاَّ مطلق الإعادة لكونه ذبح قبل الصّلاة.

وأمّا ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاريّ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلٍ من الأنصار: اذبحها. ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك. فهذا يُحمل على أنّه أبو بُرْدة بن نيار فإنّه من الأنصار، وكذا ما أخرجه أبو يعلى والطّبرانيّ من حديث أبي جحيفة , أنّ رجلاً ذبح قبل الصّلاة , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجزي عنك، قال: إنّ عندي جذعة، فقال: تجزي عنك , ولا تجزي بعد. فلم يثبت الإجزاء لأحدٍ ونفيه عن الغير إلاَّ لأبي بُرْدة وعقبة، وإن تعذّر الجمع الذي قدّمته. فحديث أبي بُرْدة أصحّ مخرجاً. والله أعلم. قال الفاكهيّ: ينبغي النّظر في اختصاص أبي بُرْدة بهذا الحكم وكشف السّرّ فيه، وأجيب بأنّ الماورديّ قال: إنّ فيه وجهين. أحدهما: أنّ ذلك كان قبل استقرار الشّرع فاستثني. والثّاني: أنّه علم من طاعته وخلوص نيّته ما ميّزه عمّن سواه. قلت: وفي الأوّل نظرٌ، لأنّه لو كان سابقاً لامتنع وقوع ذلك لغيره بعد التّصريح بعدم الإجزاء لغيره، والفرض ثبوت الإجزاء لعددٍ غيره كما تقدّم. وفي الحديث. وهو القول الأول: أنّ الجذع من المعز لا يجزي. وهو قول الجمهور. القول الثاني: عن عطاء وصاحبه الأوزاعيّ يجوز مطلقاً، وهو

وجه لبعض الشّافعيّة حكاه الرّافعيّ. وقال النّوويّ: وهو شاذّ أو غلط. وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل: والإجزاء مصادم للنّصّ. ولكن يحتمل أن يكون قائله قيّد ذلك بمن لَم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولاً على من وجد. وأمّا الجَذَعُ من الضّأن. فقال التّرمذيّ: إنّ العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزّهريّ: أنّ الجذع لا يجزي مطلقاً. سواء كان من الضّأن أم من غيره. وممّن حكاه عن ابن عمر ابنُ المنذر في " الأشراف " , وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعةٍ من السّلف , وأطنب في الرّدّ على من أجازه. ويحتمل: أن يكون ذلك أيضاً مقيّداً بمن لَم يجد. وقد صحّ فيه حديث جابر رفعه: لا تذبحوا إلاَّ مسنّة إلاَّ أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضّأن. أخرجه مسلم وأبو داود والنّسائيّ وغيرهم. لكن نقل النّوويّ عن الجمهور. أنّهم حملوه على الأفضل، والتّقدير يستحبّ لكم أن لا تذبحوا إلاَّ مسنّة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضّأن. قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضّأن وأنّها لا تجزي، قال: وقد أجمعت الأمّة على أنّ الحديث ليس على ظاهره، لأنّ

الجمهور يجوّزون الجذع من الضّأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزّهريّ. يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعيّن تأويله. قلت: ويدلّ للجمهور الأحاديث الماضية قريباً. وكذا حديث أمّ هلال بنت هلال عن أبيها رفعه: يجوز الجذع من الضّأن أضحيّة. أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل من بني سليمٍ يقال له مجاشع , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّ الجذع يوفّي ما يوفّي منه الثّنيّ. أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه النّسائيّ من وجه آخر، لكن لَم يسمّ الصّحابيّ، بل وقع عنده أنّه رجل من مزينة. وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن عقبة بن عامر: ضحّينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجذعٍ من الضّأن. أخرجه النّسائيّ بسندٍ قويّ، وحديث أبي هريرة رفعه: نعمت الأضحيّة الجذعة من الضّأن. أخرجه التّرمذيّ. وفي سنده ضعف. واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضّأن - وهم الجمهور - في سنِّه على آراء. أحدها: أنّه ما أكمل سنة ودخل في الثّانية. وهو الأصحّ عند الشّافعيّة , وهو الأشهر عند أهل اللّغة. ثانيها: نصف قول الحنفيّة والحنابلة. ثالثها: سبعة أشهر. وحكاه صاحب " الهداية " من الحنفيّة عن الزّعفرانيّ. رابعها: ستّة أو سبعة حكاه التّرمذيّ عن وكيع.

خامسها: التّفرقة بين ما تولد بين شابّين. فيكون له نصف سنة , أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية. سادسها: ابن عشر. سابعها: لا يجزي حتّى يكون عظيماً. حكاه ابن العربيّ , وقال: إنّه مذهب باطل. كذا قال، وقد قال صاحب " الهداية ": إنّه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثّنيّات اشتبهت على النّاظر من بعيدٍ. أجزأت. وقال العبّاديّ من الشّافعيّة: لو أجذع قبل السّنة , أي: سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمّت السّنة قبل أن يجذع , ويكون ذلك كالبلوغ إمّا بالسّنّ وإمّا بالاحتلام. وهكذا قال البغويّ: الجذع ما استكمل السّنة أو جذع قبلها، والله أعلم. واستدل بالحديث على وجوب الأضحيّة على من التزم الأضحيّة فأفسد ما يضحّي به. وردّه الطّحاويّ: بأنّه لو كان كذلك لتعرّض إلى قيمة الأولى ليلزم بمثلها، فلمّا لَم يعتبر ذلك دلَّ على أنّ الأمر بالإعادة كان على جهة النّدب , وفيه بيان ما يجري في الأضحيّة لا على وجوب الإعادة. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. أنّ المرجع في الأحكام إنّما هو إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنّه قد يخصّ بعض أمّته بحكمٍ ويمنع غيره منه ولو كان بغير عذر.

وفيه أنّ خطابه للواحد يعمّ جميع المكلفين حتّى يظهر دليل الخصوصيّة، لأنّ السّياق يشعر بأنّ قوله لأبي بُرْدة ضحّ به. أي: بالجذع، ولو كان يفهم منه تخصيصه بذلك لَمَا احتاج إلى أن يقول له " ولن تجزي عن أحد بعدك ". ويحتمل: أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور. لا أنّ ذلك مأخوذ من مجرّد اللفظ , وهو قويّ. واستدل بقوله " اذبح مكانها أخرى " وفي لفظ " أعد نسكاً " وفي لفظ " ضحّ بها " وغير ذلك من الألفاظ المصرّحة بالأمر بالأضحيّة على وجوب الأضحيّة. قال القرطبيّ في " المفهم ": ولا حجّة في شيء من ذلك، وإنّما المقصود بيان كيفيّة مشروعيّة الأضحيّة لمن أراد أن يفعلها , أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلاً، فبيّن له وجه تدارك ما فرّط منه، وهذا معنى قوله " لا تجزي عن أحد بعدك " أي: لا يحصل له مقصود القربة ولا الثّواب، كما يقال في صلاة النّفل: لا تجزي إلاَّ بطهارةٍ وستر عورة. قال: وقد استدل بعضهم للوجوب بأنّ الأضحيّة من شريعة إبراهيم الخليل وقد أمرنا باتّباعه، ولا حجّة فيه لأنّا نقول بموجبه، ويلزمهم الدّليل على أنّها كانت في شريعة إبراهيم واجبة ولا سبيل إلى علم ذلك، ولا دلالة في قصّة الذّبيح للخصوصيّة التي فيها، والله أعلم.

وفيه أنّ الإمام يعلم النّاس في خطبة العيد أحكام النّحر. وفي الحديث: وهو القول الأول: جواز الاكتفاء في الأضحيّة بالشّاة الواحدة عن الرّجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور. القول الثاني: عن أبي حنيفة والثّوريّ: يكره. وقال الخطّابيّ: لا يجوز أن يضحّى بشاةٍ واحدة عن اثنين، وادّعى نسخ ما دلَّ عليه حديث عائشة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحّى عن نساءه بالبقر , متفق عليه. وتعقّب: بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال. قال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة: وفيه أنّ العمل - وإن وافق نيّة حسنة - لَم يصحّ إلاَّ إذا وقع على وفق الشّرع. وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد من غير لحم الأضحيّة لقوله " إنّما هو لحم قدّمه لأهله ". وفيه كرم الرّبّ سبحانه وتعالى لكونه شرع لعبيده الأضحيّة مع ما لهم فيها من الشّهوة بالأكل والادّخار. ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذّبح، ثمّ من تصدّق أثيب وإلا لَم يأثم وفي قوله " أول ما نبدأ به .. الحديث , دليل على أنّه لا ينبغي الاشتغال في يوم العيد بشيءٍ غير التّأهّب للصّلاة والخروج إليها، ومن لازمه أن لا يُفعل قبلها شيءٌ غيرها. فاقتضى ذلك التّبكير إليها. وروى أحمد من طريق يزيد بن خميرٍ - وهو بالمعجمة مصغّرٌ - قال

: خرج عبد الله بن بسرٍ - صاحب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع النّاس يوم عيدٍ فطرٍ أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام , وقال: إنْ كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وقد فرغنا ساعتنا هذه , وذلك حين التّسبيح. وكذا رواه أبو داود عن أحمد والحاكم من طريق أحمد أيضاً وصحّحه. وقوله " وذلك حين التّسبيح " أي: وقت صلاة السّبحة وهي النّافلة، وذلك إذا مضى وقت الكراهة. وفي روايةٍ صحيحةٍ للطبرانيّ " وذلك حين تسبيح الضّحى ". قال ابن بطّالٍ: أجمع الفقهاء على أنّ العيد لا تُصلَّى قبل طلوع الشّمس ولا عند طلوعها، وإنّما تجوز عند جواز النّافلة. ويعكّر عليه: إطلاق من أطلق أنّ أوّل وقتها عند طلوع الشّمس، واختلفوا هل يمتدّ وقتها إلى الزّوال أو لا؟. واستدل ابن بطّالٍ على المنع بحديث عبد الله بن بسرٍ هذا، وليس دلالته على ذلك بظاهرةٍ. ومن الفوائد: تأكيد أمر الأضحيّة، وأنّ المقصود منها طيّب اللحم وإيثار الجار على غيره. وأنّ المفتي إذا ظهرت له من المستفتي أمارة الصّدق كان له أن يسهّل عليه، حتّى لو استفتاه اثنان في قضيّةٍ واحدةٍ جاز أن يفتي كلاًّ منهما بما يناسب حاله. وجواز إخبار المرء عن نفسه بما يستحقّ الثّناء به عليه بقدر الحاجة. تمسّك الشّافعيّة بقوله " فلا يذبح حتى ينصرف " في أنّ أوّل وقت

الأضحيّة قدر فراغ الصّلاة والخطبة. وإنّما شرطوا فراغ الخطيب , لأنّ الخطبتين مقصودتان مع الصّلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصّلاة والخطبتين على أخفّ ما يجزي بعد طلوع الشّمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذّبح عن الأضحيّة، سواء صلَّى العيد أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيّته أم لا. ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي. ونقل الطّحاويّ عن مالك والأوزاعيّ والشّافعيّ: لا تجوز أضحيّة قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك والأوزاعيّ. لا الشّافعيّ. قال القرطبيّ: ظواهر الأحاديث تدلّ على تعليق الذّبح بالصّلاة، لكن لَمّا رأى الشّافعيّ أنّ من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتّضحية حمل الصّلاة على وقتها. وقال أبو حنيفة والليث: لا ذبح قبل الصّلاة، ويجوز بعدها ولو لَم يذبح الإمام، وهو خاصٌ بأهل المصر. فأمّا أهل القرى والبوادي. فيدخل وقت الأضحيّة في حقّهم إذا طلع الفجر الثّاني. وقال مالك: يذبحون إذا نحر أقرب أئمّة القرى إليهم، فإن نحروا قبل أجزأهم. وقال عطاء وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشّمس. وقال أحمد وإسحاق: إذا فرغ الإمام من الصّلاة جازت الأضحيّة، وهو وجه للشّافعيّة قويّ من حيث الدّليل. وإن ضعّفه بعضهم.

ومثله قول الثّوريّ: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها. ويحتمل: أن يكون قوله " حتّى ينصرف " أي: من الصّلاة، كما في الرّوايات الأخر. وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه رفعه " إنّما الذّبح بعد الصّلاة " , ووقع في حديث جندب عند مسلم " من ذبح قبل أن يُصلِّي فليذبح مكانها أخرى ". قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصّلاة من حديث البراء، أي: حيث جاء فيه " من ذبح قبل الصّلاة " قال: لكن إن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزئ الأضحيّة في حقّ من لَم يصلِّ العيد، فإن ذهب إليه أحدٌ فهو أسعد النّاس بظاهر هذا الحديث، وإلاَّ وجب الخروج عن الظّاهر في هذه الصّورة , ويبقى ما عداها في محلّ البحث. وتعقّب: بأنّه قد وقع في صحيح مسلم في رواية أخرى " قبل أن يُصلِّي أو نُصلِّي " بالشّكّ. قال النّوويّ: الأولى بالياء والثّانية بالنّون، وهو شكٌّ من الرّاوي، فعلى هذا إذا كان بلفظ " يُصلِّي " ساوى لفظ حديث البراء في تعليق الحكم بفعل الصّلاة. قلت: وقد وقع عند البخاريّ في حديث جندب في الذّبائح بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب العمدة، فإنّه ساقه على لفظ مسلم، وهو ظاهر في اعتبار فعل الصّلاة، فإنّ إطلاق لفظ

الصّلاة وإرادة وقتها خلاف الظّاهر، وأظهر من ذلك قوله " قبل أن نُصلِّي " بالنّون، وكذا قوله " قبل أن ننصرف " سواء قلنا من الصّلاة أم من الخطبة. وادّعى بعض الشّافعيّة: أنّ معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ذبح قبل أن يُصلِّي فليذبح مكانها أخرى " أي: بعد أن يتوجّه من مكان هذا القول، لأنّه خاطب بذلك من حضره فكأنّه قال: من ذبح قبل فعل هذا من الصّلاة والخطبة فليذبح أخرى، أي: لا يعتدّ بما ذبحه , ولا يخفى ما فيه. وأورد الطّحاويّ ما أخرجه مسلم من حديث ابن جريجٍ عن أبي الزّبير عن جابر بلفظ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يوم النّحر بالمدينة، فتقدّم رجالٌ فنحروا , وظنّوا أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد نحر فأمرهم أن يعيدوا. قال: ورواه حمّاد بن سلمة عن أبي الزّبير عن جابر بلفظ: أنّ رجلاً ذبح قبل أن يُصلِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى أن يذبح أحدٌ قبل الصّلاة. وصحّحه ابن حبّان. ويشهد لذلك قوله في حديث البراء " إنّ أوّل ما نصنع أن نبدأ بالصّلاة، ثمّ نرجع فننحر ". فإنّه دالٌّ على أنّ وقت الذّبح يدخل بعد فعل الصّلاة، ولا يشترط التّأخير إلى نحر الإمام. ويؤيّده من طريق النّظر: أنّ الإمام لو لَم ينحر لَم يكن ذلك مسقطاً عن النّاس مشروعيّة النّحر، ولو أنّ الإمام نحر قبل أن يُصلِّي لَم يجزئه نحره، فدلَّ على أنّه هو والنّاس في وقت الأضحيّة سواء.

وقال المُهلَّب: إنّما كره الذّبح قبل الإمام لئلا يشتغل النّاس بالذّبح عن الصّلاة. تنبيه: وقع في البخاري في " الأيمان والنذور " من طريق ابن عون عن الشعبي قال: قال البراء بن عازب: وكان عندهم ضيف لهم، فأمر أهله أن يذبحوا قبل أن يرجع، ليأكل ضيفهم، فذبحوا قبل الصلاة، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يعيد الذبح , فقال: يا رسولَ الله، عندي عناق جذع، عناق لبن، هي خير من شاتَي لحم. قوله (فقال: يا رسولَ الله) في رواية الإسماعيليّ " قال البراء: يا رسولَ الله " وهذا صريح في أنّ القصّة وقعت للبراء، فلولا اتّحاد المخرج لأمكن التّعدّد، لكنّ القصّة متّحدةٌ والسّند متّحدٌ من رواية الشّعبيّ عن البراء. والاختلاف من الرّواة عن الشّعبيّ، فكأنّه وقع في هذه الرّواية اختصار وحذف. ويحتمل: أن يكون البراء شارك خاله في سؤال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن القصّة , فنسبت كلّها إليه تجوّزاً. قال الكرمانيّ: كان البراء وخاله أبو بُرْدة أهل بيتٍ واحدٍ , فنسب القصّة تارة لخاله وتارة لنفسه. انتهى. والمتكلم في القصّة الواحدة أحدهما فتكون نسبة القول للآخر مجازيّة. والله أعلم

الحديث التاسع والتسعون

الحديث التاسع والتسعون 148 - عن جندب بن عبد الله البجليّ - رضي الله عنه - , قال: صلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم النّحر , ثمّ خطب , ثمّ ذبح , وقال: من ذبح قبل أن يُصلِّي فليذبح أخرى مكانها , ومن لَم يذبح فليذبح باسم الله. (¬1) قوله: (عن جندب بن عبد الله البجليّ - رضي الله عنه -) هو جندب بن عبد الله بن سفيان العلقي البجلي نُسب إلى جده. الصحابي المشهور. وهو من صغار الصحابة. وكان من أهل الكوفة ثم تحوَّل إلى البصرة. قاله الكلاباذي. (¬2) قوله: (وقال: من ذبح) هو من جملة الخطبة , وليس معطوفاً على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (942 , 5181 , 5242 , 6297 , 6956) ومسلم (1960) من طرق عن الأسود بن قيس عن جندي - رضي الله عنه - بزيادة في أوله: ضحَّينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضحاة ذات يوم، فإذا أناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة، فلمَّا انصرف رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة، فقال: من ذبح قبل الصلاة. الحديث. واللفظ للبخاري (¬2) أبو عبد اللَّه , قال ابن السكن: وأهل البصرة يقولون: جندب بن عبد اللَّه، وأهل الكوفة يقولون جندب بن سفيان غير شريك وحده , ويقال له جندب الخير. وأنكره ابن الكلبيّ. وقال البغويّ: يقال له جندب الخير، وجندب الفاروق، وجندب ابن أم جندب. وفي الطّبرانيّ من طريق أبي عمران الجوني، قال: قال لي جندب: كنت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماًحزوّراً. وفي صحيح مسلم من طريق صفوان بن محرز , أنَّ جندب بن عبد اللَّه البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزّبير، قال: اجمع لي نفراً من إخوانك. وفي الطّبرانيّ من طريق الحسن، قال: جلست إلى جندب في إمارة المصعب- يعني ابن الزبير. قاله في الإصابة.

قوله " ثمّ ذبح " لئلا يلزم تخلّل الذّبح بين الخطبة وهذا القول، وليس الواقع ذلك على ما بيّنه حديث البراء الذي قبله. قوله: (ومن لَم يذبح فليذبح باسم الله) أي: فليذبح قائلاً بسم الله أو مسمّياً، والمجرور متعلق بمحذوفٍ، وهو حال من الضّمير في قوله " فليذبح " وهذا أولى ما حمل عليه الحديث. وصحّحه النّوويّ. ويؤيّده ما في حديث أنس " وسَمّى وكبّر " (¬1) , وفي رواية للبخاري " ومن كان لَم يذبح حتّى صلّينا فليذبح على اسم الله ". وقال عياض: يحتمل: أن يكون معناه فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، ويحتمل: أن يكون معناه بتسمية الله، ويحتمل: أن يكون معناه متبرّكاً باسمه كما يقال: سر على بركة الله، ويحتمل: أن يكون معناه فليذبح بسنّة الله. قال: وأمّا كراهة بعضهم. افعل كذا على اسم الله , لأنّه اسمه على كلّ شيء. فضعيفٌ. قلت: ويحتمل وجهاً خامساً: أن يكون معنى قوله " بسم الله " مطلق الإذن في الذّبيحة حينئذٍ، لأنّ السّياق يقتضي المنع قبل ذلك والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن بسم الله , أي: ادخل. وقد استدل بهذا الأمر في قوله " فليذبح مكانها أخرى " مَن قال بوجوب الأضحيّة. قال ابن دقيق العيد: صيغة " من " في قوله " من ذبح " صيغة ¬

_ (¬1) حديث أنس متفق عليه. وسيأتي إن شاء الله شرحه في كتاب الأضاحي.

عموم في حقّ كلّ من ذبح قبل أن يُصلِّي، وقد جاءت لتأسيس قاعدة، وتنزيل صيغة العموم إذا وردت لذلك على الصّورة النّادرة يستنكر، فإذا بعُد تخصيصه بمن نذر أضحيّة معيّنة. بقي التّردّد. هل الأولى حمله على من سبقت له أضحيّة معيّنة , أو حمله على ابتداء أضحيّة من غير سبق تعيين؟. فعلى الأولى: يكون حجّة لِمَن قال بالوجوب على من اشترى الأضحيّة كالمالكيّة، فإنّ الأضحيّة عندهم تجب بالتزام اللسان وبنيّة الشّراء وبنيّة الذّبح. وعلى الثّاني: يكون لا حجّة لمن أوجب الضّحيّة مطلقاً، لكن حصل الانفصال ممّن لَم يقل بالوجوب بالأدلة الدّالة على عدم الوجوب فيكون الأمر للنّدب. واستَدلَّ به من اشترط تقدُّم الذّبح من الإمام بعد صلاته وخطبته، لأنّ قوله " من ذبح قبل أن يُصلِّي فليذبح مكانها أخرى " إنّما صدر منه بعد صلاته وخطبته وذبحه فكأنّه قال: من ذبح قبل فعل هذه الأمور فليعد، أي: فلا يعتدّ بما ذبحه. قال ابن دقيق العيد: وهذا استدلال غير مستقيم، لمخالفته التّقييد بلفظ الصّلاة والتّعقيب بالفاء. قال نعيم بن حمّاد في " الرّدّ على الجهميّة ": دلَّت الأحاديث يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته، والسّؤال بها مثل حديث الباب، وحديث عائشة، وأبي سعيد " بسم الله أرقيك " وكلاهما عند

مسلم. وفي الباب عن عبادة وميمونة وأبي هريرة وغيرهم عند النّسائيّ وغيره بأسانيد جياد، على أنّ القرآن غير مخلوق. إذ لو كان مخلوقاً لَم يستعذ بها. إذ لا يستعاذ بمخلوقٍ، قال الله تعالى (فاستعذ بالله) وقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وإذا استعذت فاستعذ بالله ". (¬1) وقال الإمام أحمد في " كتاب السّنّة " قالت الجهميّة لِمَن قال: إنّ الله لَم يزل بأسمائه وصفاته، قلتم بقول النّصارى حيث جعلوا معه غيره، فأجابوا: بأنّا نقول إنّه واحد بأسمائه وصفاته، فلا نصِف إلاَّ واحداً بصفاته كما قال تعالى (ذرني ومن خلقت وحيداً) وصفه بالوحدة مع أنّه كان له لسان وعينان وأذنان وسمع وبصر , ولَم يخرج بهذه الصّفات عن كونه واحداً. ولله المثل الأعلى. ¬

_ (¬1) لم أره بهذا اللفظ. والمشهور حديث ابن عباس في وصيّةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له: واذا ستعنتَ فاستعن بالله. أخرجه الإمام أحمد وغيره.

الحديث المائة

الحديث المائة 149 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - , قال: شهدت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد. فبدأ بالصّلاة قبل الخطبة , بلا أذانٍ ولا إقامةٍ. ثمّ قام متوكّئاً على بلالٍ , فأمر بتقوى الله تعالى , وحثّ على طاعته , ووعظ النّاس وذكّرهم , ثمّ مضى حتّى أتى النّساء فوعظهنّ وذكّرهنّ , وقال: يا معشر النّساء , تصدّقن. فإنّكنّ أكثر حطب جهنّم , فقامت امرأةٌ من سِطَة النّساء , سفعاء الخدّين , فقالت: لِمَ يا رسولَ الله؟ فقال: لأنّكنّ تكثرن الشّكاة , وتكفرن العشير. قال: فجعلن يتصدّقن من حليّهنّ. يلقين في ثوب بلالٍ من أقرطتهنَّ وخواتيمهنّ. (¬1) قوله: (فبدأ بالصّلاة قبل الخطبة) تقدّم الكلام عليه , وللبخاري " فبدأ بالصلاة ثمّ خطب، فلمّا فرغ نزل فأتى النساء ". فيه إشعارٌ بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب على مكانٍ مرتفعٍ لِمَا يقتضيه قوله " نزل " , وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب في المصلَّى على الأرض (¬2). فلعل الرّاوي ضمّن النّزول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (915 , 918 , 935) ومسلم (885) من طريق ابن جريج مختصراً. ومسلم (885) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان (واللفظ له) كلاهما عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه - به. (¬2) روى البخاري في الصحيح (956) من طريق زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلَّى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أنْ يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزلِ الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان - وهو أمير المدينة - في أضحى أو فطر، فلمَّا أتينا المصلَّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يُصلِّي، فجبذت بثوبه .. الحديث " وبوَّب عليه البخاري (باب الخروج إلى المصلى بغير منبر) قال الحافظ في " الفتح " (2:579): قول البخاري: (باب الخروج إلى المصلى بغير منبر) يشير إلى ما ورد في بعض طرق حديث أبي سعيد الذي ساقه في هذا الباب، وهو ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من طريق الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: أخرج مروانُ المنبر يوم عيد. وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام إليه رجل فقال: يا مروان خالفتَ السنة. الحديث. قوله: (ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس) في رواية ابن حبان من طريق داود بن قيس عن عياض " فينصرف إلى الناس قائماً في مصلاه " ولابن خزيمة في رواية مختصرة " خطب يوم عيد على رجليه " وهذا مشعر بأنه لَم يكن بالْمُصلى في زمانه - صلى الله عليه وسلم - منبر. ويدلُّ على ذلك قول أبي سعيد " فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان " ومقتضى ذلك أنَّ أول من اتخذه مروان، وقد وقع في المدونة لمالك. ورواه عمر بن شبة عن أبي غسان عنه قال: أول من خطب الناس في المصلَّى على المنبر عثمان بن عفان , كلَّمهم على منبرٍ من طين , بناه كثير بن الصلت. وهذا مُعضل، وما في الصحيحين أصحُّ , فقد رواه مسلم من طريق داود بن قيس عن عياض نحو رواية البخاري. ويحتمل: أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان , ولَم يطلع على ذلك أبو سعيد - رضي الله عنه -. انتهى كلامه.

معنى الانتقال. وزعم عياضٌ. أنّ وعظه للنّساء كان في أثناء الخطبة , وأنّ ذلك كان في أوّل الإسلام , وأنّه خاصٌّ به - صلى الله عليه وسلم -. وتعقّبه النّوويّ: بهذه المصرّحة بأنّ ذلك كان بعد الخطبة , وهو قوله " فلمّا فرغ نزل فأتى النّساء " والخصائص لا تثبت بالاحتمال. قوله: (بلا أذانٍ ولا إقامةٍ) وللبخاري عن عطاء عن ابن عباس وجابر قالا: لَم يكن يُؤذَّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. بفتح الذّال

على البناء للمجهول , والضّمير ضمير الشّأن. ولمسلم من طريق عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ عن جابرٍ قال: لا أذان للصّلاة يوم العيد ولا إقامة ولا شيء. وفي رواية يحيى القطّان عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ , أنّ ابن عبّاسٍ قال لابن الزّبير: لا تؤذّن لها ولا تقم. أخرجه ابن أبي شيبة عنه. (¬1) ولأبي داود من طريق طاوسٍ عن ابن عبّاسٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى العيد بلا أذانٍ ولا إقامةٍ. إسناده صحيحٌ. وفي الحديث عن جابر بن سمرة عند مسلمٍ , وعن سعد بن أبي وقّاصٍ عند البزّار , وعن البراء عند الطّبرانيّ في " الأوسط ". وقال مالكٌ في " الموطّأ ": سمعت غير واحدٍ من علمائنا يقول: لَم يكن في الفطر ولا في الأضحى نداءٌ ولا إقامةٌ منذ زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم , وتلك السّنّة التي لا اختلاف فيها عندنا. واستدل بقول جابرٍ " ولا إقامة ولا شيء " على أنّه لا يقال أمام صلاتها شيءٌ من الكلام، لكن روى الشّافعيّ عن الثّقة عن الزّهريّ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذّن في العيدين أن يقول: الصّلاة جامعةٌ. ¬

_ (¬1) وأصله في البخاري (916) ومسلم (886) من طريقين عن ابن جريج أخبرني عطاء، أنَّ ابن عباس، أرسل إلى ابن الزبير أول ما بويع له: أنه لم يكن يُؤذَّن للصلاة يوم الفطر، فلا تؤذن لها، قال: فلم يؤذِّن لها ابن الزبير يومه، وأرسل إليه مع ذلك: إنما الخطبة بعد الصلاة، وإنِّ ذلك قد كان يُفعل، قال: فصلَّى ابن الزبير قبل الخطبة. واللفظ لمسلم.

وهذا مرسلٌ يعضده القياس (¬1) على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها كما سيأتي. قال الشّافعيّ: أحبّ أن يقول: الصّلاة، أو الصّلاة جامعةٌ، فإن قال: هلمّوا إلى الصّلاة لَم أكرهه، فإن قال: حيّ على الصّلاة أو غيرها من ألفاظ الأذان أو غيرها كرهت له ذلك. واختلف في أوّل من أحدث الأذان فيها أيضاً. فروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عن سعيد بن المسيّب , أنّه معاوية، وروى الشّافعيّ عن الثّقة عن الزّهريّ مثله , وزاد: فأخذ به الحجّاج حين أمّر على المدينة. وروى ابن المنذر عن حصين بن عبد الرّحمَن قال: أوّل من أحدثه زيادٌ بالبصرة. وقال الدّاوديّ: أوّل من أحدثه مروان. وكلّ هذا لا ينافي أنّ معاوية أحدثه كما تقدّم في البداءة بالخطبة. (¬2) وقال ابن حبيبٍ: أوّل من أحدثه هشامٌ. وروى ابن المنذر عن أبي قلابة قال: أوّل من أحدثه عبد الله بن الزّبير. وقد وقع في البخاري , أنّ ابن عبّاسٍ أخبره أنّه لَم يكن يؤذّن لها ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 583): مراسيل الزهري ضعيفة عند أهل العلم , والقياس لا يصحُّ اعتباره مع وجود النصِّ الثابتِ الدالِّ على أنه لَم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العيد أذان ولا إقامة ولا شيء , ومن هنا يُعلم أنَّ النداء للعيد بدعة بأيِّ لفظٍ كان. والله أعلم. (¬2) انظر حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - رقم (146)

، لكن في رواية يحيى القطّان , أنّه لَمّا ساء ما بينهما أذّن - يعني ابن الزّبير - وأقام. قوله: (حتّى أتى النّساء فوعظهنّ وذكّرهنّ) في رواية لهما , قال ابن جريج: قلت لعطاء: أحقاً على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: إِيْ، لعمري إنِّ ذلك لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون ذلك؟. ظاهره أنّ عطاءً كان يرى وجوب ذلك، ولهذا قال عياضٌ: لَم يقل بذلك غيره. وأمّا النّوويّ فحمله على الاستحباب. وقال: لا مانع من القول به، إذا لَم يترتّب على ذلك مفسدةٌ. قوله: (ووعظ النّاس وذكّرهم , ثمّ مضى) وللبخاري عن ابن عباس " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إليه حين يُجلِّس بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال. وقوله " حين يُجلِّس " بتشديد اللام المكسورة، وحذف مفعوله، وهو ثابتٌ في رواية مسلمٍ بلفظ " يُجلِّس الرّجال بيده " وكأنّهم لَمّا انتقل عن مكان خطبته أرادوا الانصراف فأمرهم بالجلوس حتّى يفرغ من حاجته ثمّ ينصرفوا جميعاً، أو لعلهم أرادوا أن يتبعوه فمنعهم. قوله: (سفعاء الخدين) السَّفعة بفتح المهملة ويجوز ضمّها وسكون الفاء بعدها عينٌ مهملةٌ. وحكى عياضٌ: ضمّ أوّله. قال إبراهيم الحربيّ: هو سوادٌ في الوجه , ومنه سفعة الفرس سواد

ناصيته , وعن الأصمعيّ: حمرةٌ يعلوها سوادٌ , وقيل: صفرةٌ , وقيل: سوادٌ مع لونٍ آخر. وقال بن قتيبة: لونٌ يخالف لون الوجه. وكلّها متقاربةٌ. وحاصلها أنّ بوجهها موضعاً على غير لونه الأصليّ , وكأنّ الاختلاف بحسب اللون الأصليّ , فإن كان أحمر فالسّفعة سوادٌ صرفٌ , وإن كان أبيض فالسّفعة صفرةٌ , وإن كان أسمر فالسّفعة حمرةٌ يعلوها سوادٌ. وذكر صاحب البارع في اللّغة (¬1): أنّ السّفع سواد الخدّين من المرأة الشّاحبة , والشّحوب بمعجمةٍ ثمّ مهملةٍ تغيّر اللون بهزالٍ أو غيره. ومنه سفعاء الخدّين , وتطلق السّفعة على العلامة. ومنه بوجهها سفعة غضبٍ , وهو راجعٌ إلى تغيّر اللون , وأصل السّفع الأخذ بقهرٍ ومنه قوله تعالى (لنسفعاً بالنّاصية). ويقال: إنّ أصل السّفع الأخذ بالنّاصية , ثمّ استعمل في غيرها , وقيل: في تفسيرها لنعلمنّه بعلامة أهل النّار من سواد الوجه ونحوه. قوله: (وقال: يا معشر النّساء , تصدّقن ... الخ) في رواية لهما " فقال (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) الآية، ثم قال حين فرغ منها: آنتن على ذلك؟ قالت امرأة واحدة منهن، لَم يجبه غيرها: نعم. زاد مسلمٌ: يا نبيّ الله. ¬

_ (¬1) هو أبو علي القالي. إسماعيل بن القاسم بن هارون بن عيذون البغدادي اللغوي. ولد بقليقلا من ديار بكر سنة 280. وتوفي بقرطبة سنة 356.

وفيه دلالةٌ على الاكتفاء في الجواب بنعم. وتنزيلها منزلة الإقرار، وأنّ جواب الواحد عن الجماعة كافٍ إذا لَم ينكروا , ولَم يمنع مانعٌ من إنكارهم. ولَم أقف على تسمية هذه المرأة، إلاَّ أنّه يختلج في خاطري , أنّها أسماء بنت يزيد بن السّكن التي تُعرف بخطيبة النّساء، فإنّها روت أصل هذه القصّة في حديثٍ أخرجه البيهقيّ والطّبرانيّ وغيرهما من طريق شهر بن حوشبٍ عن أسماء بنت يزيد , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى النّساء وأنا معهنّ , فقال: يا معشر النّساء إنّكنّ أكثر حطب جهنّم. فناديت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنتُ عليه جريئةً -: لِمَ يا رسولَ الله؟ قال: لأنّكنّ تكثرن اللعن، وتكفرن العشير. الحديث. فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته أوّلاً بنعم، فإنّ القصّة واحدةٌ، فلعلَّ بعض الرّواة ذكر ما لَم يذكره الآخر كما في نظائره. والله أعلم. وقد روى الطّبرانيّ من وجهٍ آخر عن أمّ سلمة الأنصاريّة - وهي أسماء المذكورة - أنّها كانت في النّسوة اللاتي أخذ عليهنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخذ الحديث، ولابن سعدٍ من حديثها: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق. الحديث. قوله: (تصدَّقنَ) هو فعل أمرٍ لهنّ بالصّدقة , ومناسبته للآية من قوله (ولا يعصينك في معروفٍ) , فإنّ ذلك من جملة المعروف الذي أمرن به. قوله: (وتُكثرنَ الشكاة) أي: الذم والعيب.

قوله: (وتَكفرنَ) أي: يجحدن إحسانه فالمراد كفر النّعمة. وظاهر اللفظ غير مراد , وإنّما ورد على سبيل التّغليظ والزّجر لفاعل ذلك، أو المراد بإطلاق الكفر أنّ فاعله فعل فعلاً شبيهاً بفعل أهل الكفر , خلافاً للخوارج الذين يكفّرون بالذّنوب. ونصُّ القرآن يردّ عليهم , وهو قوله تعالى (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فصيّر ما دون الشّرك تحت إمكان المغفرة , والمراد بالشّرك في هذه الآية الكفر , لأنّ من جحد نبوّة محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مثلاً كان كافراً , ولو لَم يجعل مع الله إلهاً آخر , والمغفرة منتفيةٌ عنه بلا خلافٍ , وقد يرِدُ الشّركُ ويراد به ما هو أخصّ من الكفر كما في قوله تعالى (لَم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) قوله: (العشير) (¬1) العشير الزّوج , قيل له: عشيرٌ بمعنى معاشرٍ , مثل أكيلٍ بمعنى مؤاكل. وهو مأخوذ من المعاشرة , وكل معاشر عشير , وعشيرة الرجل بنو أبيه الأدنين. قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: فيه أنّ الطّاعات كما تسمّى إيماناً كذلك المعاصي تسمّى كفراً , لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (1052) ومسلم (2147) من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف. وفيه " ورأيت النار. فلم أر كاليوم منظراً قطُّ، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بِمَ يا رسولَ الله؟ قال: بكفرهن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: بكفر العشير، وبكفر الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدهر، ثم رأتْ منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط ".

قال: وخصَّ كفران العشير من بين أنواع الذّنوب لدقيقةٍ بديعةٍ , وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: لو أمرت أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " (¬1) فقَرَن حقّ الزّوج على الزّوجة بحقّ الله , فإذا كفرت المرأة حقّ زوجها , وقد بلغ من حقّه عليها هذه الغاية , كان ذلك دليلاً على تهاونها بحقّ الله , فلذلك يطلق عليها الكفر. لكنّه كفرٌ لا يخرج عن الملة. انتهى. قوله: (فجعلنَ يتصدّقنَ من حليّهنَّ يُلقين في ثوب بلالٍ ...) وللبخاري " فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلمّ، لكنَّ فدا أبي وأمي , فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال ". القائل هو بلالٌ. و" هلمّ " على اللّغة الفصحى في التّعبير بها للمفرد والجمع. قوله " لكُنَّ " بضمّ الكاف وتشديد النّون، وقوله " فدا " بكسر الفاء والقصر. والفتخ بفتح الالفاء والمثناة من فوق وبالخاء والمعجمة. قال عبد الرّزّاق: الفتخ الخواتيم العظام كانت في الجاهليّة. انتهى. لَم يذكر عبد الرّزّاق في أيّ شيءٍ كانت تُلبس، وقد ذكر ثعلبٌ , ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1159) وابن حبان في " صحيحه " (4162) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 291) وابن أبي الدنيا في " العيال " (534) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال. فذكره. وزادو إلا الترمذي: لِما عظَّم الله من حقه عليها. قال الترمذي: وفي الباب عن معاذ بن جبل وسراقة بن مالك بن جعشم وعائشة وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفي وطلق بن علي وأم سلمة وأنس وابن عمر. وحديث أبي هريرة حديث حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. انتهى

أنّهنّ يلبسنها في أصابع الأرجل. انتهى. ولهذا عطف عليها الخواتيم , لأنّها عند الإطلاق تنصرف إلى ما يلبس في الأيدي، وقد وقع في بعض طرقه عند مسلمٍ هنا ذكر الخلاخيل. وحكي: عن الأصمعيّ , أنّ الفتخ الخواتيم التي لا فصوص لها، فعلى هذا هو من عطف الأعمّ على الأخصّ. قوله: (أقرطَتهنَّ) جمع قرط - بضمّ القاف وسكون الرّاء بعدها طاء مهملة -: ما يُحلَّى به الأذن ذهباً كان أو فضّة , صِرفاً أو مع لؤلؤ وغيره , ويعلّق غالباً على شحمتها. وللبخاري عن ابن عبّاس قال: أمرهنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالصّدقة، فرأيتهنّ يهوين إلى آذانهنّ وحلوقهنّ " , ومعنى الإهواء: الإيماء باليد إلى الشّيء ليؤخذ، وقد ظهر أنّه في الآذان إشارة إلى الحلق، وأمّا في الحلوق. فالذي يظهر أنّ المراد القلائد فإنّها توضع في العنق وإن كان محلّها إذا تدلت الصّدر. واستدل به على جواز ثقب أذن المرأة لتجعل فيها القرط وغيره. ممّا يجوز لهنّ التّزيّن به. وفيه نظرٌ , لأنّه لَم يتعيّن وضع القرط في ثقبة الأذن، بل يجوز أن يشبك في الرّأس بسلسلةٍ لطيفة حتّى تحاذي الأذن وتنزل عنها، سلّمنا , لكن إنّما يؤخذ من ترك إنكاره عليهنّ. ويجوز أن تكون آذانهنّ ثُقبت قبل مجيء الشّرع. فيغتفر في الدّوام ما

لا يغتفر في الابتداء، ونحوه قول أمّ زرع " أناسَ مِن حُليٍّ أُذُنَيَّ " (¬1) ولا حجّة فيه لِمَا ذكرنا. وقال ابن القيّم: كره الجمهور ثقب أذن الصّبيّ , ورخّص بعضهم في الأنثى. قلت: وجاء الجواز في الأنثى عن أحمد للزّينة، والكراهة للصّبيّ. قال الغزاليّ في " الإحياء ": يحرم ثقب أذن المرأة , ويحرم الاستئجار عليه إلاَّ إن ثبت فيه شيء من جهة الشّرع. قلت: جاء عن ابن عبّاس فيما أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط ": سبعة في الصّبيّ من السّنّة. فذكر السّابع منها. وثقب أذنه. وهو يَستدرك على قول بعض الشّارحين: لا مستند لأصحابنا في قولهم: إنّه سنّة. قوله: (وخواتيمهنّ) تقدّم قبل قليل. وفي هذا الحديث من الفوائد. استحباب وعظ النّساء وتعليمهنّ أحكام الإسلام وتذكيرهنّ بما يجب عليهنّ، ويستحبّ حثّهنّ على الصّدقة وتخصيصهنّ بذلك في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4893) ومسلم (2448) من حديث عائشة ضمن حديث طويل مشهور. قال النووي في " شرح مسلم " (15/ 217): قولها (أَنَاسَ من حُليٍّ أذنيَّ) هو بتشديد الياء من أذني على التثنية , والْحُلي بضم الحاء وكسرها لغتان مشهورتان , والنوس بالنون والسين المهملة الحركة من كل شئ متدلٍّ يقال منه ناس ينوس نوساً وأناسه غيره أناسة. ومعناه حلاَّني قرطة وشنوفاً فهي تنوس. أي: تتحرك لكثرتها. انتهى

مجلسٍ منفردٍ، ومحلّ ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة. وفيه أنّ الأدب في مخاطبة النّساء في الموعظة أو الحكم. أن لا يحضر من الرّجال إلاَّ من تدعو الحاجة إليه من شاهدٍ ونحوه، لأنّ بلالاً كان خادم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومتولي قبض الصّدقة. وفيه خروج النّساء إلى المصلى كما سيأتي في الحديث الذي بعده. وفيه جواز التّفدية بالأب والأمّ، وملاطفة العامل على الصّدقة بمن يدفعها إليه. واستدل به. وهو القول الأول: على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقّفٍ على إذن زوجها , أو على مقدارٍ معيّنٍ من مالها كالثّلث. وبهذا الحكم قال الجمهور. ووجه الدّلالة من القصّة ترك الاستفصال عن ذلك كله. وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة. القول الثاني: خالف طاوس , فمنع مطلقاً. القول الثالث: عن مالك: لا يجوز لها أن تعطي بغير إذن زوجها , ولو كانت رشيدة إلاَّ من الثلث. القول الرابع: عن الليث: لا يجوز مطلقا إلاَّ في الشيء التافه. واحتج لطاوس بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: لا تجوز عطية امرأة في مالها إلاَّ بإذن زوجها. أخرجه أبو داود والنسائي.

وقال ابن بطال: وأحاديث الباب أصح (¬1). وحملها مالك على الشيء اليسير , وجعل حده الثلث فما دونه. قال القرطبيّ: ولا يقال في هذا: إنّ أزواجهنّ كانوا حضوراً , لأنّ ذلك لَم ينقل , ولو نُقل فليس فيه تسليم أزواجهنّ لهنّ ذلك , لأنّ من ثبت له الحقّ فالأصل بقاؤه حتّى يصرّح بإسقاطه , ولَم ينقل أنّ القوم صرّحوا بذلك. انتهى. وأمّا كونه من الثّلث فما دونه. فإن ثبت أنّهنّ لا يجوز لهنّ التّصرّف فيما زاد على الثّلث لَم يكن في هذه القصّة ما يدلّ على جواز الزّيادة. وفيه أنّ الصّدقة من دوافع العذاب لأنّه أمرهنّ بالصّدقة ثمّ علل بأنّهنّ أكثر أهل النّار لِمَا يقع منهنّ من كفران النّعم وغير ذلك كما في حديث أبي سعيد. ووقع نحوه عند مسلمٍ من وجهٍ آخر في حديث جابرٍ، وعند البيهقيّ من حديث أسماء بنت يزيد كما تقدّمت الإشارة إليه. ¬

_ (¬1) قال البخاري في " صحيحه " (باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها، إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لَم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لَم يجز) قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}. ثم روى البخاري الأدلة على الجواز. منها عن أسماء قالت: قلت: يا رسولَ الله. ما لي مال إلاَّ ما أدخل عليَّ الزبير، فأتصدق؟ قال: تصدقي، ولا توعي فيوعى عليك " وفي رواية " أنفقي، ولا تحصي، فيحصي الله عليك، ولا توعي، فيوعي الله عليك. وحديث ميمونة , أنها أعتقت وليدة , ولَم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسولَ الله أني أعتقت وليدتي، قال: أوفعلت؟، قالت: نعم، قال: أما إنكِ لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ". وكذا حديث هبة سودة يومها لعائشة - رضي الله عنهم -.

وفيه بذل النّصيحة والإغلاظ بها لمن احتيج في حقّه إلى ذلك، والعناية بذكر ما يحتاج إليه لتلاوة آية الممتحنة لكونها خاصّةٌ بالنّساء. وفيه جواز طلب الصّدقة من الأغنياء للمحتاجين , ولو كان الطّالب غير محتاجٍ. وأخذ منه الصّوفيّة جواز ما اصطلحوا عليه من الطّلب. ولا يخفى ما يشترط فيه من أنّ المطلوب له أيكون غير قادرٍ على التّكسّب مطلقاً , أو لِمَا لا بدّ له منه.؟ وفي مبادرة تلك النّسوة إلى الصّدقة بما يعزّ عليهنّ من حليّهنّ مع ضيق الحال في ذلك الوقت. دلالةٌ على رفيع مقامهنّ في الدّين وحرصهنّ على امتثال أمر الرّسول - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهنّ.

الحديث المائة وواحد

الحديث المائة وواحد 150 - عن أمّ عطيّة نسيبة الأنصاريّة , قالت: أمرنا - تعني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في العيدين العواتقَ وذواتِ الْخُدور , وأمر الْحُيّض أن يَعتزلن مُصلَّى المسلمين. (¬1) وفي لفظٍ: كنّا نُؤمر أن نخرج يوم العيد , حتّى نُخرج البِكْر من خِدرها , حتّى نخرج الحيّض , فيَكُنّ خلف النّاس , فيكبّرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم , يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. (¬2) قوله: (عن أمّ عطيّة نسيبة الأنصاريّة) بنت الحارث الأنصارية. ونُسيبة بنونٍ ومهملة وموحّدة. والمشهور فيها التّصغير. وقيل: بفتح أوّله. وقع ذلك في رواية أبي ذرّ (¬3) عن السّرخسيّ , وكذا ضَبَطَه الأَصيليّ عن يحيى بن معين , وطاهرُ بن عبد العزيز في " السّيرة الهشاميّة ". قوله: (أَمَرَنا. تعني النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري " أمرنا نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - " قوله: (العواتق) جمع عاتق. وهي من بلغت الحلم , أو قاربت، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (344 , 931 , 938) ومسلم (890) من طريق محمد بن سيرين عن أم عطية به. وأخرجه البخاري (318 , 928 , 931 , 937 , 1569) ومسلم (890) من طرق عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية. (¬2) أخرجه البخاري (928) ومسلم (890) من طريق عاصم الأحول عن حفصة عن أم عطية به. واللفظ للبخاري. (¬3) هو عبد بن أحمد الهروي , سبق ترجمته (1/ 114)

أو استحقّت التّزويج، أو هي الكريمة على أهلها، أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة. وكأنّهم كانوا يمنعون العواتق من الخروج (¬1) لِمَا حدث بعد العصر الأوّل من الفساد، ولَم تلاحظ الصّحابة ذلك , بل رأت استمرار الحكم على ما كان عليه في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (وذوات الخدور) بضمّ الخاء المعجمة والدّال المهملة. جمع خدر بكسرها وسكون الدّال، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه. وللبخاري من رواية أيوب عن حفصة " العواتق ذوات الخدور أو قال: العواتق وذوات الخدور. شك أيوب " يعني: هل هو بواو العطف أو لا. والأكثر على أنه صفته (¬2). ووقع في رواية منصور بن زاذان عن ابن سيرين عند الترمذي " تخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور ". وبين العاتق والبكر عمومٌ ¬

_ (¬1) روى البخاري (318) عن حفصة بنت سيرين قالت: كنا نمنع عواتقنا أنْ يخرجن في العيدين، فقدِمتْ امرأة فنزلت قصر بني خلف، فحدَّثت عن أختها، وكان زوج أختها غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثنتي عشرة غزوة، وكانت أختي معه في ست غزوات، قالت: كنا نداوي الكلمى، ونقوم على المرضى، فسألت أختي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها , ولتشهد الخير ودعوة المسلمين، فلما قدمت أم عطية، سألتها. أسمعتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بأبي، نعم، وكانت لا تذكره إلا قالت: بأبي، سمعته يقول: يخرج العواتق. الحديث. (¬2) أي: أنَّ ذوات الخدور صفةٌ للعواتق. وليست صفةً مستقلّة. وقد وقع الشك أيضاً من عبد الله بن عون عن ابن سيرين عند البخاري (938) فشكَّ كما شكَّ أيوب.

وخصوصٌ وجهيٌّ. قوله: (وأمر الحُيّض أن يعتزلن مُصلى المسلمين) في رواية للبخاري " ويعتزلن الحيّض المصلى " وهو نحو أكلوني البراغيث. وحمل الجمهور الأمر المذكور على النّدب؛ لأنّ الْمُصلَّى ليس بمسجدٍ فيمتنع الحيّض من دخوله. وأغرب الكرمانيّ فقال: الاعتزال واجب، والخروج والشّهود مندوب، مع كونه نقل عن النّوويّ تصويب عدم وجوبه. وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهنّ. أنّ في وقوفهنّ وهنّ لا يصلين مع المُصلِّيات إظهار استهانة بالحال. فاستحبّ لهنّ اجتناب ذلك. قوله: (البكر من خدرها) بكسر المعجمة , أي: سترها، وفي رواية الكشميهنيّ " من خدرتها " بالتّأنيث قوله: (فيكبّرن بتكبيرهم) لأنّ ذلك في يوم العيد وهو من أيّام منىً، ويلتحق به بقيّة الأيّام لجامع ما بينهما من كونهنّ أيّاماً معدوداتٍ , وقد ورد الأمر بالذّكر فيهنّ. قال الخطّابيّ: حكمة التّكبير في هذه الأيّام. أنّ الجاهليّة كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها , فشرع التّكبير فيها إشارةً إلى تخصيص الذّبح له. وعلى اسمه عزّ وجل. انتهى وفيه اختلافٌ بين العلماء في مواضع: فمنهم: من قصر التّكبير على أعقاب الصّلوات.

ومنهم من خصّ ذلك بالمكتوبات دون النّوافل. ومنهم من خصّه بالرّجال دون النّساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤدّاة دون المقضيّة، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية. وظاهر اختيار البخاريّ شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده (¬1). فأخرج سعيد بن منصورٍ من رواية عبيد بن عميرٍ , قال: كان عمر يكبّر في قبّته بمنىً. ويكبّر أهل المسجد ويكبّر أهل السّوق، حتّى ترتجّ منىً تكبيراً. وقوله " ترتج " بتثقيل الجيم. أي: تضطرب وتتحرك، وهي مبالغة في اجتماع رفع الأصوات. وأخرج ابن المنذر والفاكهيّ في " أخبار مكّة " من طريق ابن جريجٍ أخبرني نافعٌ , أنّ ابن عمر كان يُكبِّر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات , وعلى فراشه , وفي فسطاطه ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعاً. وأخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب العيدين " , أنَّ النساء كنّ يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال ¬

_ (¬1) قال البخاري في صحيحه " باب التكبير أيام منى , وإذا غدا إلى عرفة " ثم ذكر هذه الآثار معلّقةً التي ذكرناها في الشرح. زيادة على ذلك ذِكر ميمونة رضي الله عنها. لكن قال ابن حجر: ولم أقف على أثرها هذا موصولا.

في المسجد. وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال , وللعلماء اختلافٌ أيضاً في ابتدائه وانتهائه. فقيل: من صبح يوم عرفة، وقيل: من ظهره، وقيل: من عصره، وقيل: من صبح يوم النّحر، وقيل: من ظهره. وقيل: في الانتهاء إلى ظهر يوم النّحر، وقيل: إلى عصره، وقيل: إلى ظهر ثانيه، وقيل: إلى صبح آخر أيّام التّشريق، وقيل: إلى ظهره، وقيل: إلى عصره. حكى هذه الأقوال كلها النّوويّ. إلاَّ الثّاني من الانتهاء. وقد رواه البيهقيّ عن أصحاب ابن مسعودٍ. ولَم يثبت في شيءٍ من ذلك عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ. وأصحّ ما ورد فيه عن الصّحابة قول عليٍّ وابن مسعودٍ , أنّه من صبح يوم عرفة آخر أيّام منىً. أخرجه ابن المنذر وغيره. والله أعلم. وأمّا صيغة التّكبير. فأصحّ ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرّزّاق بسندٍ صحيحٍ عن سلمان قال: كبّروا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً , ونُقل عن سعيد بن جبيرٍ ومجاهدٍ وعبد الرّحمن بن أبي ليلى. أخرجه جعفرٌ الفريابيّ في " كتاب العيدين " من طريق يزيد بن أبي زيادٍ عنهم. وهو قول الشّافعيّ , وزاد " ولله الحمد ". وقيل: يكبّر ثلاثاً , ويزيد " لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له إلخ ".

وقيل: يكبّر ثنتين , بعدهما " لا إله إلاَّ الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد " جاء ذلك عن عمر، وعن ابن مسعودٍ نحوه , وبه قال أحمد وإسحاق. وقد أُحدث في هذا الزّمان زيادةٌ في ذلك لا أصل لها. قوله: (ويدعون) كذا لأكثر الرواة. أي يطلبن. وللكشميهني " يدعين " بياء تحتانية بدل الواو. وللبخاري " فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ". قوله: (وطهرته) بضمّ الطّاء المهملة وسكون الهاء. لغةٌ في الطّهارة، والمراد بها التّطهّر من الذّنوب. وفي هذا الحديث من الفوائد. أنّ من شأن العواتق والمخدّرات عدم البروز , إلاَّ فيما أذن لهنّ فيه. واستدل به على وجوب صلاة العيد. وفيه نظرٌ , لأنّ من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلفٍ، فظهر أنّ القصد منه إظهار شعار الإسلام بالمبالغة في الاجتماع ولتعمّ الجميع البركة، والله أعلم. وفيه استحباب خروج النّساء إلى شهود العيدين. سواءٌ كنّ شوابّ أم لا وذوات هيئاتٍ أم لا، وقد اختلف فيه السّلف. ونقل عياضٌ وجوبه عن أبي بكرٍ وعليٍّ وابن عمر، والذي وقع لنا عن أبي بكرٍ وعليٍّ ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنهما. قالا: حقٌّ على كل ذات نطاقٍ الخروج إلى العيدين , وقد ورد هذا مرفوعاً بإسنادٍ لا

بأس به. أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن المنذر من طريق امرأةٍ من عبد القيس عن أخت عبد الله بن رواحة به. والمرأة لَم تُسمّ، والأخت اسمها عمرة صحابيّةٌ. وقوله " حقٌّ " يحتمل: الوجوب. ويحتمل: تأكّد الاستحباب، روى ابن أبي شيبة أيضاً عن ابن عمر , أنّه كان يخرج إلى العيدين من استطاع من أهله، وهذا ليس صريحاً في الوجوب أيضاً، بل قد روي عن ابن عمر المنع. فيحتمل: أن يحمل على حالين. ومنهم من حمله على النّدب. وجزم بذلك الجرجانيّ من الشّافعيّة وابن حامدٍ من الحنابلة، ولكنّ نصّ الشّافعيّ في " الأمّ " يقتضي استثناء ذوات الهيئات , قال: وأحبّ شهود العجائز وغير ذوات الهيئة الصّلاة، وإنّا لشهودهنّ الأعياد أشدّ استحباباً. وقد سقطت واو العطف من رواية المزنيّ في المختصر , فصارت غير ذوات الهيئة صفةً للعجائز. فمشى على ذلك صاحب النّهاية ومن تبعه. وفيه ما فيه. بل قد روى البيهقيّ في المعرفة عن الرّبيع قال: قال الشّافعيّ: قد روي حديثٌ فيه أنّ النّساء يُتْرَكن إلى العيدين، فإن كان ثابتاً قلت به. قال البيهقيّ: قد ثبت. وأخرجه الشّيخان - يعني حديث أمّ عطيّة هذا - فيلزم الشّافعيّة القول به، ونقله ابن الرّفعة عن البندنيجيّ , وقال: إنّه ظاهر كلام التّنبيه، وقد ادّعى بعضهم النّسخ فيه.

قال الطّحاويّ: وأمره - صلى الله عليه وسلم - بخروج الحيّض وذوات الخدور إلى العيد , يحتمل أن يكون في أوّل الإسلام , والمسلمون قليلٌ , فأريد التّكثير بحضورهنّ إرهاباً للعدوّ، وأمّا اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. وتعقّب: بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال. قال الكرمانيّ: تاريخ الوقت لا يعرف. قلت: بل هو معروفٌ بدلالة حديث ابن عبّاسٍ , أنّه شهده وهو صغيرٌ , وكان ذلك بعد فتح مكّة فلم يتمّ مراد الطّحاويّ. وقد صرّح في حديث أمّ عطيّة بعلّة الحكم , وهو شهودهنّ الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أمّ عطيّة بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمدّةٍ كما في هذا الحديث , ولَم يثبت عن أحدٍ من الصّحابة مخالفتها في ذلك. وأمّا قول عائشة: لو رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النّساء لمنعهنّ المساجد. (¬1) فلا يعارض ذلك لندوره , إنْ سلّمنا أنّ فيه دلالةً على أنّها أفتت بخلافه، مع أنّ الدّلالة منه. بأنّ عائشة أفتت بالمنع ليست صريحةً. وفي قوله " إرهاباً للعدوّ " نظرٌ , لأنّ الاستنصار بالنّساء والتّكثّر بهنّ في الحرب دالٌّ على الضّعف، والأولى أن يخصّ ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة , ولا يترتّب على حضورها محذورٌ , ولا تزاحم الرّجال في الطّرق ولا في المجامع. ¬

_ (¬1) متفق عليه. وقد تقدّم ذكره في كتاب الحيض. وانظر حديث ابن عمر رقم (65).

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف الكسوف لغة التّغيّر إلى سواد , ومنه كسف وجهه وحاله، وكسفت الشّمس اسودّت وذهب شعاعها. واختلف في الكسوف والخسوف هل هما مترادفان أو لا؟ كما سيأتي قريباً. ومشروعيّتها أمر متّفق عليه. لكن اختلف في الْحُكم وفي الصّفة. القول الأول: الجمهور على أنّها سنّة مؤكّدة. القول الثاني: صرّح أبو عوانة في " صحيحه " بوجوبها، ولَم أره لغيره , إلاَّ ما حكي عن مالك أنّه أجراها مجرى الجمعة. ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنّه أوجبها، وكذا نقل بعض مصنّفي الحنفيّة , أنّها واجبة.

الحديث المائة واثنان

الحديث المائة واثنان 151 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ الشّمس خسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث مُنادياً ينادي: الصّلاةَ جامعةً. فاجتمعوا. وتقدّم فكبّر , وصلَّى أربع ركعاتٍ في ركعتين , وأربع سجداتٍ. (¬1) قوله: (أنّ الشّمس خسفت) روى ابن عيينة عن الزّهريّ عن عروة قال: لا تقولوا: كسفت الشّمس , ولكن قولوا: خسفت. وهذا موقوف صحيح. رواه سعيد بن منصور عنه , وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه , لكنّ الأحاديث الصّحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشّمس من طرق كثيرة. والمشهور في استعمال الفقهاء. أنّ الكسوف للشّمس والخسوف للقمر. واختاره ثعلب، وذكر الجوهريّ أنّه أفصح. وقيل: يتعيّن ذلك. وحكى عياض عن بعضهم عكسه , وغلَّطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن، كما قال تعالى " وخسف القمر ". وقيل: يقال بهما في كلّ منهما وبه جاءت الأحاديث. ولا شكّ أنّ مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف , لأنّ الكسوف التّغيّر إلى السّواد، والخسوف النّقصان أو الذّلّ، فإذا قيل في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1016) ومسلم (901) من طريق الأوزاعي وعبد الرحمن بن نمر عن الزهري عن عروة عن عائشة به. لفظ الأوزاعي. وسيأتي من طريق أخرى عن عائشة مطوّلاً.

الشّمس كسفت أو خسفت لأنّها تتغيّر ويلحقها النّقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أنّ الكسوف والخسوف مترادفان. وقيل: بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء. وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضّوء وبالخاء لبعضه. وقيل: بالخاء لذهاب كلّ لون وبالكاف لتغيّره. وفي إيراد البخاري لهذه الآية (وخسف القمر) في الترجمة احتمالان. أحدهما: أن يكون أراد أن يقال: خسف القمر كما جاء في القرآن ولا يقال كسف، وإذا اختصّ القمر بالخسوف أشعر باختصاص الشّمس بالكسوف. والثّاني: أن يكون أراد أنّ الذي يتّفق للشّمس كالذي يتّفق للقمر، وقد سُمِّي في القرآن بالخاء في القمر , فليكن الذي للشّمس كذلك. ثمّ ساق البخاري حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة بلفظ " خسفت الشّمس " وهذا موافق لِمَا قال عروة، لكن روايات غيره بلفظ " كسفت " كثيرة جدّاً. قوله: (فبعث منادياً ينادي) وللبخاري عن عبد الله بن عمرو " نودي أنِ الصلاة جامعة " بفتح الهمزة وتخفيف النون وهي المفسرة، وروي بتشديد النون. والخبر محذوف تقديره أنَّ الصلاة ذاتُ جماعة حاضرة. ويروى برفع جامعة على أنه الخبر قوله: (الصّلاةَ جامعةً) بالنّصب فيهما , ونصب الصّلاة في الأصل على الإغراء , وجامعة على الحال , أي: احضروا الصّلاة في حال

كونها جامعةً. وقيل: برفعهما على أنّ الصّلاة مبتدأٌ وجامعة خبرُه , ومعناه ذات جماعةٍ. وقيل: جامعةٌ صفةٌ والخبر محذوفٌ تقديره فاحضروها. وعن بعض العلماء: يجوز في الصّلاة جامعة النّصب فيهما والرّفع فيهما , ويجوز رفع الأوّل ونصب الثّاني , وبالعكس. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجّة لمن استحبّ ذلك، وقد اتّفقوا على أنّه لا يؤذّن لها ولا يقام. قوله: (وتقدّم , فكبّر وصلَّى .. الحديث) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله بعد حديث. تكميلٌ: زاد الشيخان من رواية الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن نمر عن الزهري عن عروة عن عائشة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الخسوف بقراءته .. الحديث. استدل به. وهو القول الأول. على الجهر فيها بالنهار , وحملَه جماعةٌ ممن لم ير بذلك على كسوف القمر , وليس بجيد , لأنَّ الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ: كسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث. وكذا رواية الأوزاعي صريحة في الشمس. (¬1) ¬

_ (¬1) أي: رواية العمدة هنا.

وقد ورد الجهر فيها عن عليٍ مرفوعاً وموقوفاً. أخرجه ابن خزيمة وغيره. وقال به صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدّثي الشّافعيّة وابن العربيّ من المالكيّة. القول الثاني: قال الطّبريّ: يخيّر بين الجهر والإسرار. القول الثالث: قال الأئمّة الثّلاثة: يسرّ في الشّمس , ويجهر في القمر. واحتجّ الشّافعيّ بقول ابن عبّاس " قرأ نحواً من سورة البقرة " (¬1) , لأنّه لو جهر لَم يحتج إلى تقدير. وتعقّب: باحتمال أن يكون بعيداً منه، لكن ذكر الشّافعيّ تعليقاً عن ابن عبّاس , أنّه صلَّى بجنب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف , فلم يسمع منه حرفاً، ووصله البيهقيّ من ثلاثة طرق أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحّتها فمُثبت الجهر معه قدر زائدة فالأخذ به أولى، وإن ثبت العدد. فيكون فعل ذلك لبيان الجواز. وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند ابن خزيمة والتّرمذيّ " لَم يسمع له صوتاً " وأنّه إن ثبت لا يدلّ على نفي الجهر. قال ابن العربيّ: الجهر عندي أولى , لأنّها صلاة جامعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5197) قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم ركع. الحديث.

الحديث المائة وثلاثة

الحديث المائة وثلاثة 152 - عن أبي مسعودٍ - عقبة بن عمرٍو الأنصاريّ البدريّ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله , يخوّف الله بهما عباده , وإنّهما لا ينخسفان لموت أحدٍ من النّاس ولا لحياته , فإذا رأيتم منها شيئاً فصلّوا , وادعوا حتّى ينكشف ما بكم. (¬1) قوله: (آيتان) أي: علامتان قوله: (من آيات الله) أي: الدّالة على وحدانيّة الله وعظيم قدرته , أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيّده قوله تعالى (وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً). قوله: (يخوّف الله بهما عباده) فيه ردّ على من يزعم من أهل الهيئة أنّ الكسوف أمر عاديّ لا يتأخّر ولا يتقدّم، إذ لو كان كما يقولون لَم يكن في ذلك تخويف ويصير بمنزلة الجزر والمدّ في البحر. وقد ردّ ذلك عليهم ابن العربيّ وغير واحد من أهل العلم. بما في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: فقام فَزِعاً يخشى أن تكون السّاعة ". قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لَم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لَم يكن للأمر بالعتق والصّدقة والصّلاة والذّكر معنىً، فإنّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (994 , 1008 , 3032) ومسلم (911) من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود - رضي الله عنه -.

ظاهر الأحاديث أنّ ذلك يفيد التّخويف، وأنّ كلّ ما ذكر من أنواع الطّاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف. وممّا نقضَ ابن العربيّ وغيره: أنّهم يزعمون أنّ الشّمس لا تنكسف على الحقيقة، وإنّما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين. فقال: هم يزعمون أنّ الشّمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الصّغير الكبير إذا قابله، أم كيف يظلم الكثير بالقليل، ولا سيّما وهو من جنسه؟. وكيف تحجب الأرض نور الشّمس وهي في زاوية منها؟ , لأنّهم يزعمون أنّ الشّمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفاً. وقد وقع في حديث النّعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة , وهو ما أخرجه أحمد والنّسائيّ وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة والحاكم بلفظ " إنّ الشّمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته , ولكنّهما آيتان من آيات الله، وإنّ الله إذا تجلَّى لشيءٍ من خلقه خشع له ". وقد استشكل الغزاليّ هذه الزّيادة. وقال: إنّها لَم تثبت فيجب تكذيب ناقلها. قال: ولو صحّت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعيّة لا تصادم أصلاً من أصول الشّريعة. قال ابن بزيزة: هذا عجبٌ منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة , ويزعم أنّها لا تصادم الشّريعة مع أنّها مبنيّة على أنّ العالَم كرويّ

الشّكل , وظاهر الشّرع يعطي خلاف ذلك , والثّابت من قواعد الشّريعة أنّ الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النّور متى شاء والظّلمة متى شاء من غير توقّف على سبب أو ربط باقترابٍ. والحديث الذي ردّه الغزاليّ قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضاً، لأنّ النّوريّة والإضاءة من عالم الجمال الحسّيّ، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته. ويؤيّده قوله تعالى (فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكّاً). انتهى. ويؤيّد هذا الحديث ما رويناه عن طاوسٍ , أنّه نظر إلى الشّمس - وقد انكسفت - فبكى حتّى كاد أن يموت , وقال: هي أخوف لله منّا. وقال ابن دقيق العيد: ربّما يعتقد بعضهم. أنّ الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله " يخوّف الله بهما عباده " وليس بشيءٍ , لأنّ لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كلّ سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسبّبات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوّة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة , وأنّه يفعل ما يشاء. إذا وقع شيءٌ غريبٌ حدث عندهم الخوف لقوّة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله أنّ الذي يذكره أهل الحساب حقّاً في نفس الأمر لا ينافي

كون ذلك مخوّفاً لعباد الله تعالى. قوله: (وإنّهما لا ينكسفان لموت أحدٍ من النّاس. ولا لحياته) في حديث أبي بكرة عند البخاري بيان سبب هذا القول. ولفظه " وذلك أنّ ابناً للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقال له إبراهيم مات , فقال النّاس في ذلك ". وفي رواية ابن حبّان " فقال النّاس: إنّما كسفت الشّمس لموت إبراهيم ". ولأحمد والنّسائيّ وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان من رواية أبي قلابة عن النّعمان بن بشير قال: انكسفت الشّمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فزعاً يجرّ ثوبه حتّى أتى المسجد، فلم يزل يُصلِّي حتّى انجلت، فلمّا انجلت قال: إنّ النّاس يزعمون أنّ الشّمس والقمر لا ينكسفان إلاَّ لموت عظيم من العظماء، وليس كذلك " الحديث. وفي الباب (¬1) عن جابر عند مسلم , وعن عبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير وقبيصة وأبي هريرة كلها عند النسائي وغيره , وعن ابن مسعود وسمرة بن جندب ومحمود بن لبيد كلها عند أحمد وغيره , وعن عقبة بن عامر وبلال عند الطبراني وغيره. فهذه عدّة طرق غالبها على شرط الصّحّة، وهي تفيد القطع عند من اطّلع عليها من أهل الحديث بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قاله، فيجب تكذيب من زعم أنّ الكسوف علامة على موت أحد أو حياة أحد. ¬

_ (¬1) سوى الأحاديث التي في الباب مما اتفق الشيخان عليها. وقد رواه أيضاً أبو بكرة والمغيرة وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم. وكلها في الصحيح.

وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهليّة يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الاستسقاء " يقولون مطرنا بنوء كذا ". قال الخطّابيّ: كانوا في الجاهليّة يعتقدون أنّ الكسوف يوجب حدوث تغيّر في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه اعتقاد باطل، وأنّ الشّمس والقمر خلقان مسخّران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدّفع عن أنفسهما. وفيه ما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه من الشّفقة على أمّته , وشدّة الخوف من ربّه. قوله: (فإذا رأيتم منها شيئاً) وللبخاري " فإذا رأيتموها " أي: الآية، وله أيضاً " رأيتموهما " بالتّثنية، وكذا في رواية الإسماعيليّ , والمعنى إذا رأيتم كسوف كلّ منهما لاستحالة وقوع ذلك فيهما معاً في حالة واحدة عادة , وإن كان ذلك جائزاً في القدرة الإلهيّة. واستدل به على مشروعيّة الصّلاة في كسوف القمر، ووقع في رواية ابن المنذر " حتّى ينجلي كسوف أيّهما انكسف ". وهو أصرح في المراد. وفي ذلك ردّ على مَن قال: لا تندب الجماعة في كسوف القمر، وفرّق بوجود المشقّة في الليل غالباً دون النّهار. ووقع عند ابن حبّان من وجه آخر , أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في كسوف القمر , ولفظه من طريق النّضر بن شميلٍ عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة

في هذا الحديث (¬1) " صلَّى في كسوف الشّمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم ". وأخرجه الدّارقطنيّ أيضاً. وفي هذا ردّ على من أطلق كابن رشيد , أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يصلِّ فيه، ومنهم من أوّل قوله " صلَّى " أي: أمر بالصّلاة، جمعاً بين الرّوايتين. وقال صاحب الهدي: لَم يُنقل أنّه صلَّى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبّان في " السّيرة " له , أنّ القمر خسف في السّنة الخامسة فصلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الكسوف , وكانت أوّل صلاة كسوف في الإسلام. وهذا - إن ثبت - انتفى التّأويل المذكور، وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة. وتبعه شيخنا في نظمها. وأفاد أبو عوانة , أنّ في بعض الطّرق , أنّ ذلك كان يوم مات إبراهيم، وهو كذلك في مسند الشّافعيّ، وهو يؤيّد ما قدّمناه من اتّحاد القصّة. قوله: (فصلوا وادعوا الله) وللبخاري " فقوموا فصلّوا ". استدل به على أنّه لا وقت لصلاة الكسوف معيّن، لأنّ الصّلاة عُلّقت برؤيته، وهي ممكنة في كلّ وقت من النّهار، وبهذا قال ¬

_ (¬1) أي: حديث أبي بكرة. الذي أخرجه البخاري في " صحيحه " (1040 - 1048 وغيرها) من طرق عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانكسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجرُّ رداءه حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلَّى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ، فإذا رأيتموهما، فصلّوا، وادعوا حتى يكشف ما بكم.

الشّافعيّ ومن تبعه. واستثنى الحنفيّة أوقات الكراهة. وهو مشهور مذهب أحمد. وعن المالكيّة. وقتها من وقت حلّ النّافلة إلى الزّوال، وفي رواية. إلى صلاة العصر. ورَجَحَ الأوّل. بأنّ المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء. وقد اتّفقوا على أنّها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود. ولَم أقف في شيء من الطّرق مع كثرتها على أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلاّها إلاَّ ضُحى (¬1) , لكنّ ذلك وقع اتّفاقاً. ولا يدلّ على منع ما عداه. واتّفقت الطّرق على أنّه بادر إليها. ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع (الأضحى) ولعلَّ الصواب ما أثبتُّه. وسيأتي في الحديث بعده التصريح في كون الصلاة وقعت ضُحى. كما في البخاري.

الحديث المائة وأربعة

الحديث المائة وأربعة 153 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّها قالت: خسفت الشّمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنّاس , فأطال القيام , ثمّ ركع , فأطال الرّكوع , ثمّ قام , فأطال القيام - وهو دون القيام الأوّل - ثمّ ركع , فأطال الرّكوع - وهو دون الرّكوع الأوّل - ثمّ سجد , فأطال السّجود , ثمّ فعل في الرّكعة الأخرى مثل ما فعل في الرّكعة الأولى , ثمّ انصرف , وقد تجلَّت الشّمس , فخطب النّاس , فحمد الله وأثنى عليه , ثمّ قال: إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله , لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته , فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبّروا , وصلّوا وتصدّقوا , ثمّ قال: يا أمّة محمّدٍ , والله ما من أحدٍ أغيرَ مِن الله أنْ يزني عبدُه , أو تزني أمتُه , يا أمّةَ محمّدٍ , والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً , ولبكيتم كثيراً. وفي لفظٍ: فاستكمل أربع ركعاتٍ وأربع سجداتٍ. (¬1) قوله: (خسفت الشّمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى) استدل به على أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ على الوضوء. فلهذا لَم يحتج إلى الوضوء في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (997 , 999 , 1000 , 1002 , 1007 , 1009 , 1015 , 1016 , 1154 , 1306 , 3031 , 4348 , 4923 , 6005) ومسلم (901) من طرق عن عائشة. مطوَّلاً ومختصراً.

تلك الحال. وفيه نظرٌ , لأنّ في السّياق حذفاً , ففي رواية ابن شهاب عن عروة عن عنها , خسفت الشّمس فخرج إلى المسجد فصفّ النّاس وراءه. متفق عليه , وفي رواية عمرة عند البخاري: فخسفت فرجع ضحىً فمرّ بين الحجر , ثمّ قام يُصلِّي. وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون حذف أيضاً , فتوضّأ ثمّ قام يُصلِّي , فلا يكون نصّاً في أنّه كان على وضوء. قوله: (فأطال القيام) في رواية ابن شهاب " فاقترأ قراءة طويلة " ومن وجه آخر عنه " فقرأ بسورةٍ طويلة " وفي حديث ابن عبّاس عند البخاري " فقرأ نحواً من سورة البقرة في الرّكعة الأولى ". ونحوه لأبي داود من طريق سليمان بن يسار عن عروة , وزاد فيه أنّه " قرأ في القيام الأوّل من الرّكعة الثّانية نحواً من آل عمران ". قوله: (ثمّ قام فأطال القيام) في رواية ابن شهاب " ثمّ قال: سمع الله لمن حمده. ربّنا ولك الحمد ". واستدل به على استحباب الذّكر المشروع في الاعتدال في أوّل القيام الثّاني من الرّكعة الأولى. واستشكله بعض متأخّري الشّافعيّة من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال , بدليل اتّفاق العلماء ممَن قال بزيادة الرّكوع في كلّ ركعة على قراءة الفاتحة فيه. وإن كان محمّد بن مسلمة المالكيّ خالف فيه. والجواب: أنّ صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة. فلا

مدخل للقياس فيها، بل كلّ ما ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - فعله فيها كان مشروعاً , لأنّها أصل برأسه، وبهذا المعنى ردّ الجمهور على من قاسها على صلاة النّافلة حتّى منع من زيادة الرّكوع فيها. وقد أشار الطّحاويّ: إلى أنّ قول أصحابه جرى على القياس في صلاة النّوافل، لكن اعترض بأنّ القياس مع وجود النّصّ يضمحلّ، وبأنّ صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد ونحوها ممّا يجمع فيه من مطلق النّوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الرّكوع والسّجود، وصلاة العيدين بزيادة التّكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، فكذلك اختصّت صلاة الكسوف بزيادة الرّكوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنّصّ والقياس بخلاف من لَم يعمل به. قوله: (فأطال الرّكوع) لَم أر في شيء من الطّرق بيان ما قال فيه، إلاَّ أنّ العلماء اتّفقوا على أنّه لا قراءة فيه، وإنّما فيه الذّكر من تسبيح وتكبير ونحوهما. ولَم يقع في هذه الرّواية ذكر تطويل الاعتدال الذي يقع فيه السّجود بعده، ولا تطويل الجلوس بين السّجدتين، ووقع في حديث جابر عند مسلم تطويل الاعتدال الذي يليه السّجود , ولفظه " ثمّ ركع فأطال، ثمّ سجد ". وقال النّوويّ: هي رواية شاذّة مخالفة , فلا يُعمل بها , أو المراد زيادة الطّمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الرّكوع.

وتعقّب: بما رواه النّسائيّ وابن خزيمة وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو أيضاً ففيه " ثمّ ركع فأطال حتّى قيل لا يرفع، ثمّ رفع فأطال حتّى قيل لا يسجد، ثمّ سجد فأطال حتّى قيل لا يرفع، ثمّ رفع فجلس فأطال الجلوس حتّى قيل لا يسجد، ثمّ سجد " لفظ ابن خزيمة من طريق الثّوريّ عن عطاء بن السّائب عن أبيه عنه. والثّوريّ سمع من عطاء قبل الاختلاط. فالحديث صحيح. ولَم أقف في شيء من الطّرق على تطويل الجلوس بين السّجدتين إلاَّ في هذا، وقد نقل الغزاليّ الاتّفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتّفاق المذهبيّ فلا كلام، وإلا فهو محجوج بهذه الرّواية. قوله: (وهو دون القيام) وللبخاري " أربع ركعات في سجدتين , الأولى أطول " وقد رواه الإسماعيليّ بلفظ " الأولى فالأولى أطول ". وفيه دليل لِمَن قال: إنّ القيام الأوّل من الرّكعة الثّانية يكون دون القيام الثّاني من الرّكعة الأولى. وقد قال ابن بطّال: إنّه لا خلاف أنّ الرّكعة الأولى بقيامها وركوعيها تكون أطول من الرّكعة الثّانية بقيامها وركوعيها. وقال النّوويّ: اتّفقوا على أنّ القيام الثّاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأوّل وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأوّل من الثّانية وركوعه. هل هما أقصر من القيام الثّاني من الأولى وركوعه. أو يكونان سواء؟. قيل: وسبب هذا الخلاف فَهْمُ معنى قوله " وهو دون القيام الأوّل

" هل المراد به الأوّل من الثّانية , أو يرجع إلى الجميع فيكون كلّ قيام دون الذي قبله؟ ورواية الإسماعيليّ تعيّن هذا الثّاني. ويرجّحه أيضاً: أنّه لو كان المراد من قوله " القيام الأوّل " أوّل قيام من الأولى فقط , لكان القيام الثّاني والثّالث مسكوتاً عن مقدارهما، فالأوّل أكثر فائدة، والله أعلم. قوله: (ثمّ سجد , فأطال السّجود) فيه الرّدّ على من أنكره. واستدل بعض المالكيّة على ترك إطالته: بأنّ الذي شرع فيه التّطويل شرع تكراره كالقيام والرّكوع , ولَم تشرع الزّيادة في السّجود فلا يشرع تطويله. وهو قياس في مقابلة النّصّ كما سيأتي بيانه. فهو فاسد الاعتبار. وأبدى بعضهم في مناسبة التّطويل في القيام والرّكوع دون السّجود. أنّ القائم والرّاكع يمكنه رؤية الانجلاء بخلاف السّاجد , فإنّ الآية علويّة فناسب طول القيام لها بخلاف السّجود. ولأنّ في تطويل السّجود استرخاء الأعضاء فقد يفضي إلى النّوم. وكلّ هذا مردود بثبوت الأحاديث الصّحيحة في تطويله. ففي الصحيحين عن عائشة قالت: ما سجدت سجوداً قطّ كان أطول منه. أي: من السّجود المذكور، زاد مسلم فيه " ولا ركعتُ ركوعاً قطّ كان أطول منه ".

وللنّسائيّ من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بلفظ " ثمّ رفع رأسه فسجد. وأطال السّجود " , ونحوه عنده عن أبي هريرة. وللشّيخين من حديث أبي موسى " بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قطّ " , ولأبي داود والنّسائيّ من حديث سمرة " كأطول ما سجد بنا في صلاة قطّ ". وكلّ هذه الأحاديث ظاهرة في أنّ السّجود في الكسوف يطوَّل كما يطوَّل القيام والرّكوع. وأبدى بعض المالكيّة فيه بحثاً , فقال: لا يلزم من كونه أطال أن يكون بلغ به حدّ الإطالة في الرّكوع. وكأنّه غفل عمّا رواه مسلم في حديث جابر بلفظ " وسجوده نحو من ركوعه " وهذا مذهب أحمد وإسحاق وأحد قولي الشّافعيّ , وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه. واختاره ابن سريج ثمّ النّوويّ. وتعقّبه صاحب " المهذّب " بأنّه لَم ينقل في خبر , ولَم يقل به الشّافعيّ. انتهى. وردّ عليه في الأمرين معاً , فإنّ الشّافعيّ نصّ عليه في البويطيّ. ولفظه " ثمّ يسجد سجدتين طويلتين يُقيم في كلّ سجدة نحواً ممّا قام في ركوعه ". قوله: (ثمّ فعل في الرّكعة الأخرى مثل ما فعله في الركعة الأولى) وقع ذلك مفسّراً في رواية عمرة. ولفظه " ثم قام فصلَّى , وقام الناس

وراءه، فقام قياماً طويلاً، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع، فقام قياماً طويلاً. وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً. وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، فسجد سجوداً طويلاً، ثم قام، فقام قياماً طويلاً. وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً. وهو دون الركوع الأول، ثم قام قياماً طويلاً. وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً. وهو دون الركوع الأول، ثم سجد وهو دون السجود الأول، ثم انصرف .. الحديث. متفق عليه قوله: (ثمّ انصرف) أي: من الصّلاة قوله: (وقد تجلَّتْ الشّمس) في رواية ابن شهاب " انجلت الشّمس قبل أن ينصرف " , وللنّسائيّ " ثمّ تشهّد وسلم ". قوله: (فخطب النّاس) فيه مشروعيّة الخطبة للكسوف. القول الأول: استحبّها الشّافعيّ وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث. قال ابن قدامة: لَم يبلغنا عن أحمد ذلك (¬1). القول الثاني: قال صاحب الهداية من الحنفيّة: ليس في الكسوف خطبة , لأنّه لَم ينقل. وتعقّب: بأنّ الأحاديث ثبتت فيه , وهي ذات كثرة. والمشهور عند المالكيّة أن لا خطبة لها، مع أنّ مالكاً روى الحديث، ¬

_ (¬1) قال المرداوي في " الإنصاف " (2/ 448): وأطلق جماعةٌ من الأصحاب في استحباب الخطبة روايتين , ولَم يذكر القاضي وغيره نصاً عن أحمد: أنه لا يخطب. إنما أخذوه من نصّه " لا خطبة في الاستسقاء " وقال أيضاً: لَم يذكر لها أحمدُ خطبة. انتهى

وفيه ذكر الخطبة. ولَم يقل به أصحابه. وأجاب بعضهم: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يقصد لها خطبة بخصوصها، وإنّما أراد أن يبيّن لهم الرّدّ على من يعتقد أنّ الكسوف لموت بعض النّاس. وتعقّب: بما في الأحاديث الصّحيحة من التّصريح بالخطبة , وحكاية شرائطها من الحمد والثّناء والموعظة وغير ذلك ممّا تضمّنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعيّة الاتّباع، والخصائص لا تثبت إلاَّ بدليلٍ. وقد استضعف ابن دقيق العيد التّأويل المذكور , وقال: إنّ الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معيّن، بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثّناء والموعظة، وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف، فينبغي التّأسّي بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف. نعم. نازع ابن قدامة في كون خطبة الكسوف كخطبتي الجمعة والعيدين، إذ ليس في الأحاديث المذكورة ما يقتضي ذلك. وإلى ذلك نحا ابن المنير في حاشيته , وردّ على من أنكر أصل الخطبة لثبوت ذلك صريحاً في الأحاديث , وذكر أنّ بعض أصحابهم احتجّ على ترك الخطبة , بأنّه لَم ينقل في الحديث أنّه صعد المنبر، ثمّ زيّفه بأنّ المنبر ليس شرطاً، ثمّ لا يلزم من أنّه لَم يذكر أنّه لَم يقع. واستدل به على أنّ الانجلاء لا يُسقط الخطبة، بخلاف ما لو انجلت قبل أن يشرع في الصّلاة فإنّه يسقط الصّلاة والخطبة، فلو

انجلت في أثناء الصّلاة أتمّها على الهيئة المذكورة عند مَن قال بها. وعن أصبغ: يتمّها على هيئة النّوافل المعتادة. قوله: (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النّسائيّ في حديث سمرة " وشهد أنّه عبد الله ورسوله ". قوله: (فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا) في رواية لهما " فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة " بفتح الزّاي. أي: التجئوا وتوجّهوا. وفيه إشارة إلى المبادرة إلى المأمور به، وأنّ الالتجاء إلى الله عند المخاوف بالدّعاء , والاستغفار سبب لمحو ما فرّط من العصيان يرجى به زوال المخاوف. وأنّ الذّنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة، نسأل الله تعالى رحمته وعفوه وغفرانه. قوله: (وصلّوا) أي: المعهودة الخاصّة، وهي التي تقدّم فعلها منه - صلى الله عليه وسلم - قبل الخطبة. ولَم يصب من استدل به على مطلق الصّلاة. ويُستنبط منه أنّ الجماعة ليست شرطاً في صحّتها , لأنّ فيه إشعاراً بالمبادرة إلى الصّلاة والمسارعة إليها، وانتظار الجماعة قد يؤدّي إلى فواتها وإلى إخلاء بعض الوقت من الصّلاة. قوله: (يا أمّة محمّد) فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الوالد ولده إذا أشفق عليه بقوله " يا بنيّ ". كذا قيل، وكان قضيّة ذلك أن يقول: يا أمّتي. لكن لعدوله عن

المضمر إلى المظهر حكمة، وكأنّها بسبب كون المقام مقام تحذير وتخويف لِمَا في الإضافة إلى الضّمير من الإشعار بالتّكريم، ومثله " يا فاطمة بنت محمّد لا أغني عنكِ من الله شيئاً " الحديث. (¬1) ويؤخذ من قوله " يا أمّة محمّد " أنّ الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلامٍ فيه تفخيم لنفسه، بل يبالغ في التّواضع , لأنّه أقرب إلى انتفاع من يسمعه. قوله: (واللهِ ما مِن أَحدٍ) فيه القسم لتأكيد الخبر , وإن كان السّامع غير شاكّ فيه. وصدّر - صلى الله عليه وسلم - كلامه باليمين لإرادة التّأكيد للخبر , وإن كان لا يرتاب في صدقه. ولعل تخصيص العبد والأَمَة بالذّكر رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزّهه عن الزّوجة والأهل ممّن يتعلق بهم الغيرة غالباً. قوله: (ما من أحد أغير) بالنّصب على أنّه الخبر , وعلى أنّ " مِن " زائدة، ويجوز فيه الرّفع على لغة تميم، أو " أغير " مخفوض صفة لأحدٍ، والخبر محذوف تقديره موجود. قوله: (أغير) أفعل تفضيل من الغيرة بفتح الغين المعجمة , وهي في اللّغة تغيّر يحصل من الحميّة والأنفة، وأصلها في الزّوجين والأهلين , وكلّ ذلك محال على الله تعالى (¬2) , لأنّه منزّه عن كلّ تغيّر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3336) ومسلم (205) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 684): المحال عليه سبحانه وتعالى وصفه بالغَيْرة المشابهة لغَيْرة المخلوق , وأمَّا الغَيرة اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى فلا يستحيل وصفه بها كما دلَّ عليه هذا الحديث وما جاء في معناه , فهو سبحانه يوصف بالغيرة عند أهل السنة على وجه لا يماثل فيه صفة المخلوقين. ولا يعلم كنهها وكيفيتها إلاَّ هو سبحانه , كالقول في الاستواء والنزول والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته سبحانه.

ونقص فيتعيّن حمله على المجاز. فقيل: لَمّا كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم، أطلق عليه ذلك لكونه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعّده، فهو من باب تسمية الشّيء بما يترتّب عليه. وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجراً عن الفواحش من الله. وقال: غيرة الله ما يغير من حال العاصي بانتقامه منه في الدّنيا والآخرة أو في إحداهما، ومنه قوله تعالى (إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم). وقال ابن دقيق العيد: أهل التّنزيه في مثل هذا على قولين، إمّا ساكت، وإمّا مؤوّل على أنّ المراد بالغيرة شدّة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة. وقال الطّيبيّ وغيره: وجه اتّصال هذا المعنى بما قبله من قوله " فاذكروا الله إلخ " من جهة أنّهم لَمّا أمروا باستدفاع البلاء بالذّكر والدّعاء والصّلاة والصّدقة. ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخصّ منها الزّنا لأنّه أعظمها في ذلك. وقيل: لَمَّاكانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدّها تأثيراً في إثارة النّفوس وغلبة الغضب , ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة ربّ الغيرة وخالقها سبحانه وتعالى.

قوله: (لو تعلمون ما أعلم) أي: من عظيم قدرة الله وانتقامه من أهل الإجرام. وقيل: معناه لو دام علمكم كما دام علمي، لأنّ علمه متواصل بخلاف غيره. وقيل: معناه لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك. قوله: (لضحكتم قليلاً) قيل: معنى القلة هنا العدم، والتّقدير لتركتم الضّحك ولَم يقع منكم إلاَّ نادراً لغلبة الخوف , واستيلاء الحزن. وحكى ابن بطّال عن المُهلَّب: أنّ سبب ذلك ما كان عليه الأنصار من محبّة اللهو والغناء. وأطال في تقرير ذلك بما لا طائل فيه , ولا دليل عليه. ومن أين له أنّ المخاطب بذلك الأنصار دون غيرهم؟ , والقصّة كانت في أواخر زمنه - صلى الله عليه وسلم - حيث امتلأت المدينة بأهل مكّة ووفود العرب. وقد بالغ الزين بن المنير في الرّدّ عليه والتّشنيع بما يستغنى عن حكايته. وفي الحديث ترجيح التّخويف في الخطبة على التّوسّع في التّرخيص لِمَا في ذكر الرّخص من ملاءمة النّفوس لِمَا جبلت عليه من الشّهوة، والطّبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادّها لا بما يزيدها. واستدل به على أنّ لصلاة الكسوف هيئةً تخصّها من التّطويل الزّائد

على العادة في القيام وغيره، ومن زيادة ركوع في كلّ ركعة. وقد وافق عائشةَ على رواية ذلك عبدُ الله بن عبّاس وعبدُ الله بن عمرو متّفق عليهما، ومثله عن أسماء بنت أبي بكر، وعن جابر عند مسلم، وعن عليّ عند أحمد، وعن أبي هريرة عند النّسائيّ، وعن ابن عمر عند البزّار، وعن أمّ سفيان عند الطّبرانيّ. وفي رواياتهم زيادة رواها الحفّاظ الثّقات , فالأخذ بها أولى من إلغائها. وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا. وقد وردت الزّيادة في ذلك من طرق أخرى. فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر , أنّ في كلّ ركعة ثلاث ركوعات. وعنده من وجه آخر عن ابن عبّاس , أنّ في كلّ ركعة أربع ركوعات. ولأبي داود من حديث أبيّ بن كعب، والبزّار من حديث عليّ , أنّ في كلّ ركعة خمس ركوعات. ولا يخلو إسناد منها عن عِلَّة. وقد أوضح ذلك البيهقيّ وابن عبد البرّ. ونقل صاحب الهدى: عن الشّافعيّ وأحمد والبخاريّ , أنّهم كانوا يعدّون الزّيادة على الرّكوعين في كلّ ركعة غلطاً من بعض الرّواة، فإنّ أكثر طرق الحديث يمكن ردّ بعضها إلى بعض، ويجمعها أنّ ذلك يوم مات إبراهيم عليه السّلام , وإذا اتّحدت تعيّن الأخذ بالرّاجح.

وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث. بتعدّد الواقعة، وأنّ الكسوف وقع مراراً، فيكون كلّ من هذه الأوجه جائزاً، وإلى ذلك نحا إسحاق , لكن لَم تثبت عنده الزّيادة على أربع ركوعات. وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطّابيّ وغيرهم من الشّافعيّة: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقوّاه النّوويّ في شرح مسلم. وأبدى بعضهم: أنّ حكمة الزّيادة في الرّكوع والنّقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أوّل ركوع اقتصر على مثل النّافلة، وحين أبطأ زاد ركوعاً، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثاً , وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك. وتعقّبه النّوويّ وغيره: بأنّ إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أوّل الحال ولا في الرّكعة الأولى، وقد اتّفقت الرّوايات على أنّ عدد الرّكوع في الرّكعتين سواء، وهذا يدلّ على أنّه مقصود في نفسه منويّ من أوّل الحال. وأجيب: باحتمال أن يكون الاعتماد على الرّكعة الأولى، وأمّا الثّانية فهي تبع لها , فمهما اتّفق وقوعه في الأولى بسبب بطء الانجلاء يقع مثله في الثّانية ليساوي بينهما. ومن ثَمَّ قال أصبغ: إذا وقع الانجلاء في أثنائها يُصلِّي الثّانية كالعادة. وعلى هذا فيدخل المُصلِّي فيها على نيّة مطلق الصّلاة، ويزيد في الرّكوع بحسب الكسوف، ولا مانع من ذلك.

وأجاب بعض الحنفيّة عن زيادة الرّكوع: بحمله على رفع الرّأس لرؤية الشّمس هل انجلت أم لا؟ فإذا لَم يرها انجلت رجع إلى ركوعه , ففعل ذلك مرّة أو مراراً. فظنّ بعض من رآه يفعل ذلك ركوعاً زائداً. وتعقّب: بالأحاديث الصّحيحة الصّريحة في أنّه أطال القيام بين الرّكوعين , ولو كان الرّفع لرؤية الشّمس فقط لَم يحتج إلى تطويل، ولا سيّما الأخبار الصّريحة بأنّه ذكر ذلك الاعتدال ثمّ شرع في القراءة فكلّ ذلك يردّ هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرّسول - صلى الله عليه وسلم - عن العبادة المشروعة , أو لزم منه إثبات هيئة في الصّلاة لا عهد بها , وهو ما فرّ منه. وفي حديث عائشة من الفوائد غير ما تقدّم. المبادرة بالصّلاة وسائر ما ذكر عند الكسوف، والزّجر عن كثرة الضّحك، والحثّ على كثرة البكاء، والتّحقّق بما سيصير إليه المرء من الموت والفناء والاعتبار بآيات الله. وفيه الرّدّ على من زعم أنّ للكواكب تأثيراً في الأرض لانتفاء ذلك عن الشّمس والقمر فكيف بما دونهما. وفيه تقديم الإمام في الموقف، وتعديل الصّفوف، والتّكبير بعد الوقوف في موضع الصّلاة، وبيان ما يخشى اعتقاده على غير الصّواب، واهتمام الصّحابة بنقل أفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليقتدى به فيها. ومن حكمة وقوع الكسوف تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة،

وصورة عقاب من لَم يذنب، والتّنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرّجاء لوقوع الكسوف بالكوكب ثمّ كشف ذلك عنه ليكون المؤمن من ربّه على خوف ورجاء. وفي الكسوف إشارة إلى تقبيح رأي من يعبد الشّمس أو القمر، وحمل بعضهم الأمر في قوله تعالى (لا تسجدوا للشّمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهنّ) على صلاة الكسوف , لأنّه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتهما لِمَا يظهر فيهما من التّغيير والنّقص المنزّه عنه المعبود جلَّ وعلا سبحانه وتعالى.

الحديث المائة وخمسة

الحديث المائة وخمسة 154 - عن أبي موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - , قال: خسفت الشّمس على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقام فَزِعاً , يخشى أن تكون السّاعة , حتّى أتى المسجد. فقام , فصلَّى بأطول قيامٍ وسجودٍ , ما رأيته يفعله في صلاته قطّ , ثمّ قال: إنّ هذه الآيات التي يرسلها الله عزّ وجل: لا تكون لموت أحدٍ ولا لحياته. ولكنّ الله يرسلها يخوّف بها عباده , فإذا رأيتم منها شيئاً فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره. (¬1) قوله: (فقام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فزعاً) بكسر الزّاي صفة مشبّهة، ويجوز الفتح على أنّه مصدر بمعنى الصّفة. قوله: (يخشى أن تكون السّاعة) بالضّمّ على أنّ كان تامّة , أي: يخشى أن تحضر السّاعة، أو ناقصة والسّاعة اسمها والخبر محذوف، أو العكس. قيل: وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظّنّ من شاهد الحال، لأنّ سبب الفزع يخفى عن المشاهد لصورة الفزع , فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر. فعلى هذا فيشكل هذا الحديث من حيث إنّ للسّاعة مقدّمات كثيرة لَم تكن وقعت كفتح البلاد , واستخلاف الخلفاء , وخروج الخوارج. ثمّ الأشراط كطلوع الشّمس من مغربها والدّابّة والدّجّال والدّخان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1010) ومسلم (912) من طريق بُريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى - رضي الله عنه -.

وغير ذلك. ويجاب عن هذا: الاحتمال الأول: أن تكون قصّة الكسوف وقعت قبل إعلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بهذه العلامات. الثاني: لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدّمات. الثالث: أنّ الرّاوي ظنّ أنّ الخشية لذلك , وكانت لغيره كعقوبةٍ تحدث كما كان يخشى عند هبوب الرّيح. هذا حاصل ما ذكره النّوويّ تبعاً لغيره. الرابع: زاد بعضهم أنّ المراد بالسّاعة غير يوم القيامة، أي: السّاعة التي جعلت علامة على أمر من الأمور، كموته - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك. وفي الأوّل نظرٌ , لأنّ قصّة الكسوف متأخّرة جدّاً، فإنّ موت إبراهيم كان في العاشرة كما اتّفق عليه أهل الأخبار (¬1) وقد أخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بكثيرٍ من الأشراط والحوادث قبل ذلك. وأمّا الثّالث , فتحسين الظّنّ بالصّحابيّ يقتضي أنّه لا يجزم بذلك إلاَّ بتوقيفٍ. وأمّا الرّابع , فلا يخفى بعده. ¬

_ (¬1) فائدة. قال الشارح في " الفتح " (7/ 137): جميع أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من خديجة إلاَّ إبراهيم فإنه كان من جاريته مارية , والْمُتفق عليه من أولاده منها القاسم. وبه كان يكنى مات صغيراً قبل المبعث أو بعده , وبناته الأربع زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة , وقيل كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة , وعبد الله ولد بعد المبعث. فكان يقال له الطاهر والطيب , ويقال هما اخوان له , وماتت الذكور صغاراً باتفاق. انتهى

وأقربها الثّاني , فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدّمة لبعض الأشراط كطلوع الشّمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف والطّلوع المذكور أشياء ممّا ذكر , وتقع متتالية بعضها إثر بعض مع استحضار قوله تعالى (وما أمر السّاعة إلاَّ كلمح البصر أو هو أقرب). ثمّ ظهر لي , أنّه يحتمل أن يُخرَّج على مسألة دخول النّسخ في الأخبار , فإذا قيل بجواز ذلك زال الإشكال. وقيل: لعله قدّر وقوع الممكن لولا ما أعلمه الله تعالى بأنّه لا يقع قبل الأشراط تعظيماً منه لأمر الكسوف. ليتبيّن لمن يقع له من أمّته ذلك كيف يخشى ويفزع , لا سيّما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثرها. وقيل: لعل حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدّم من الشّروط لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرطٍ لَم يتقدّم ذكره فيقع المخوف بغير أشراط لفقد الشّرط، والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله: (إنَّ هذه الآيات التي يرسل الله .. ولكن الله يرسلها يخوّف بها عباده) موافق لقوله تعالى (وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً). واستدل بذلك على أنّ الأمر بالمبادرة إلى الذّكر والدّعاء والاستغفار وغير ذلك , لا يختصّ بالكسوفين , لأنّ الآيات أعمّ من ذلك، وهل يُصلِّي عند وجودها؟.

حكى ابن المنذر فيه الاختلاف، وبه قال أحمد وإسحاق وجماعة. وعلَّق الشّافعيّ القول به على صحّة الحديث عن عليّ. وصحّ ذلك عن ابن عبّاس. أخرجه عبد الرّزّاق وغيره. وروى ابن حبّان في " صحيحه " من طريق عبيد بن عمير عن عائشة مرفوعاً: صلاة الآيات ستّ ركعات وأربع سجدات. ولَم يقع في هذه الرّواية ذكر الصّلاة، فلا حجّة فيه لمن استحبّها عند كلّ آية. قوله: (إلى ذكر الله) في رواية الكشميهنيّ " إلى ذكره " والضّمير يعود على الله في قوله " يخوّف الله بها عباده "، وفيه النّدب إلى الاستغفار عند الكسوف وغيره لأنّه ممّا يدفع به البلاء. (¬1). قوله: (ودعاءه واستغفاره) ولهما عن المغيرة " فادعوا الله وصلّوا " ووقع الأمر فيه بالدعاء من حديث عائشة وأبي بكرة وغيره. ومنهم من حمل الذكر والدعاء على الصلاة لكونهما من أجزائها. والأول أولى , لأنه جمع بينهما في حديث أبي بكرة. حيث قال (فصلوا وادعوا) (¬2) ووقع في حديث بن عباس عند سعيد بن منصور " فاذكروا الله وكبروه وسبّحوه وهللوه " وهو من عطف الخاص على العام. ¬

_ (¬1) وأخرج البخاري (1045) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في كسوف الشمس. (¬2) حديث أبي بكرة. أخرجه البخاري كما تقدّم ذكره. وقد وقع الجمع بينهما أيضاً في حديث أبي مسعود عقبة بن الحارث. المتقدّم برقم (152).

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء الاستسقاء لغة طلب سقي الماء من الغير للنّفس أو الغير. وشرعاً طلبه من الله عند حصول الجدب على وجه مخصوص. وقد اتّفق فقهاء الأمصار على مشروعيّة صلاة الاستسقاء , وأنّها ركعتان إلاَّ ما روي عن أبي حنيفة , أنّه قال: يبرزون للدّعاء والتّضرّع، وإن خطب لهم فحسن. ولَم يَعرفِ الصّلاة، هذا هو المشهور عنه. ونقل أبو بكر الرّازيّ عنه التّخيير بين الفعل والتّرك. وحكى ابن عبد البرّ الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء، والبروز إلى ظاهر المصر. لكن حكى القرطبيّ عن أبي حنيفة أيضاً أنّه لا يستحبّ الخروج، وكأنّه اشتبه عليه بقوله في الصّلاة.

الحديث المائة وستة

الحديث المائة وستة 155 - عن عبد الله بن زيد بن عاصمٍ المازنيّ - رضي الله عنه - , قال: خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستسقي , فتوجّه إلى القبلة يدعو , وحوّل رداءه , ثمّ صلَّى ركعتين , جهر فيهما بالقراءة. وفي لفظٍ: إلى المصلى. (¬1) قوله: (المازنيّ) مازن الأنصار , ورائي الأذان عبد الله بن زيد بن عبد ربّه، وقد اتّفقا في الاسم واسم الأب والنّسبة إلى الأنصاريّ , ثمّ إلى الخزرج والصّحبة والرّواية، وافترقا في الجدّ والبطن الذي من الخزرج , لأنّ حفيدَ عاصم من مازن , وحفيدَ عبد ربّه من بلحارث ابن الخزرج، والله أعلم. قوله: (خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستسقي) في رواية الزهري عن عبَّاد بن تميم عند البخاري " فخرج بالناس يستسقي ". ولَم أقف في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك , ولا صفته - صلى الله عليه وسلم - حال الذّهاب إلى المُصلّى وعلى وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبّان قالت: شَكَا النّاس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحط المطر، فأمر بمنبرٍ فوضع له بالمصلَّى، ووعد النّاس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشّمس فقعد على المنبر " الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (960 , 965، 966، 977 - 982، 5983) ومسلم (894) من طرق عن عباد بن تميم عن عمّه عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -.

وفي حديث ابن عبّاس عند أحمد وأصحاب السّنن: خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - متبذّلاً متواضعاً متضرّعاً حتّى أتى المصلى فرقى المنبر , وفي حديث أبي الدّرداء عند البزّار والطّبرانيّ: قحط المطر، فسألنا نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستسقي لنا، فغدا نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث. وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها. والرّاجح أنّه لا وقت لها معيّن، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنّها تخالفه بأنّها لا تختصّ بيومٍ معيّن، وهل تصنع بالليل؟. استنبط بعضهم من كونه - صلى الله عليه وسلم - جهر بالقراءة فيها بالنّهار أنّها نهاريّة كالعيد، وإلا فلو كانت تُصلَّى بالليل لأسرّ فيها بالنّهار. وجهر بالليل كمطلق النّوافل. ونقل ابن قدامة الإجماع على أنّها لا تُصلَّى في وقت الكراهة. وأفاد ابن حبّان: أنّ خروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ستٍّ من الهجرة. قوله: (فتوجّه إلى القبلة يدعو) في رواية للشيخين " فحوّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حوَّل رداءه ثم صلَّى ركعتين ". لَم يتبيّن من الخبر كون التحويل من ناحية اليمين أو اليسار، لكن المستفاد من خارج أنّه التفت بجانبه الأيمن. لِمَا ثبت أنّه كان يعجبه التّيمّن في شأنه كلّه. ثمّ إنّ محلّ هذا التّحويل بعد فراغ الموعظة وإرادة الدّعاء. وقوله " ثمّ حوَّل رداءه " ظاهره أنّ الاستقبال وقع سابقاً لتحويل

الرّداء، وهو ظاهر كلام الشّافعيّ، ووقع في كلام كثير من الشّافعيّة , أنّه يحوّله حال الاستقبال. والفرق بين تحويل الظّهر والاستقبال , أنّه في ابتداء التّحويل وأوسطه يكون منحرفاً حتّى يبلغ الانحراف غايته فيصير مستقبلاً. والجمع بينه وبين حديث أنس (¬1) من جهة أنّ الخطيب من شأنه أن يستدبر القبلة، وأنّه لَم ينقل أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا دعا في المرّتين استدار. أنّ القصّة التي في حديث أنس كانت في خطبة الجمعة بالمسجد. والقصّة التي في حديث عبد الله بن زيد كانت بالمصلى. وقد ورد في استقبال القبلة في الدّعاء من فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عدّة أحاديث: منها حديث عمر , كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدويّ النّحل، فأنزل الله عليه يوماً، ثمّ سُرِّي عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا. الحديث. أخرجه التّرمذيّ واللفظ له , والنّسائيّ والحاكم. ولمسلمٍ والتّرمذيّ من حديث ابن عبّاس عن عمر: لَمّا كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين فاستقبل القبلة ثمّ مدّ يديه , فجعل يهتف بربّه. الحديث. وفي حديث ابن مسعود: استقبل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فدعا على نفر من قريش .. الحديث " متّفق عليه، وفي حديث عبد الرّحمن بن طارق ¬

_ (¬1) أي: حديث أنس الآتي بعد هذا في العمدة.

عن أبيه , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جاز مكاناً من دار يعلى استقبل القبلة فدعا. أخرجه أبو داود والنّسائيّ واللفظ له. وفي حديث ابن مسعود: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبر عبد الله ذي النّجادين. الحديث. وفيه , فلمّا فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعاً يديه. أخرجه أبو عوانة في " صحيحه ". تكميلٌ: في روايةٍ للبخاري " فقام فدعا الله قائماً ". قال ابن بطّال: الحكمة فيه كونه حالَ خشوعٍ وإنابةٍ فيناسبه القيام. وقال غيره: القيام شعار الاعتناء والاهتمام، والدّعاء أهمّ أعمال الاستسقاء فناسبه القيام، ويحتمل: أن يكون قام ليراه النّاس فيقتدوا بما يصنع. قوله: (وحوّل رداءه) في رواية لهما " وقلب رداءه ". ذكر الواقديّ , أنّ طول ردائه - صلى الله عليه وسلم - كان ستّة أذرع في ثلاثة أذرع , وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر، كان يلبسهما في الجمعة والعيدين. ووقع في " شرح الأحكام " لابن بزيزة: ذرع الرّداء كالذي ذكره الواقديّ في فرع الإزار، والأوّل أولى. قال الزين بن المنير: ترجم البخاري بلفظ التّحويل (¬1)، والذي وقع ¬

_ (¬1) قال (باب تحويل الرداء في الاستسقاء). ثم روى (1011) من طريق شعبة عن محمد بن أبي بكر عن عبَّاد. وفيه " فقلب رداءه ". ثم رواه (1012) من طريق سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عبّاد به. وفيه: وقلب رداءه. وظاهر كلام ابن حجر. أنَّ رواة البخاري لَم يختلفوا في الطريق الأول بلفظ " القلب " , أمَّا الطريق الثاني فاختلفوا فيه. أمَّا الذي أورده البخاري في أول كتاب الاستسقاء (1005) فهو بلفظ. التحويل.

في الطّريقين اللذين ساقهما لفظ القلب، وكأنّه أراد أنّهما بمعنىً واحد. انتهى. ولَم تتّفق الرّواة في الطّريق الثّانية على لفظ القلب، فإنّ رواية أبي ذرّ " حوّل " وكذا هو في أوّل حديث في الاستسقاء، وكذلك أخرجه مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد عن عمه. وقد وقع بيان المراد من ذلك عند البخاري. فقال: قال: سفيان عن المسعوديّ عن أبي بكر بن محمّد، ولفظه " قلب رداءه جعل اليمين على الشّمال " , وزاد فيه ابن ماجه وابن خزيمة من هذا الوجه " والشّمال على اليمين " , والمسعوديّ ليس من شرط الكتاب , وإنّما ذكر زيادته استطراداً، وهو متصل بالإسناد الأول. ووهم من زعم أنّه معلَّق كالمزّيّ , حيث علَّم على المسعوديّ في التّهذيب علامة التّعليق. وزعم ابن القطّان أيضاً: أنّه لا يدري عمّن أخذ أبو بكر هذه الزّيادة. انتهى وقد بيّن ذلك ما أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة من طريق سفيان بن عيينة. وفيه بيان كون أبي بكر رواها عن عبّاد بن تميم عن عمّه، وكذا أخرجه الحميديّ في " مسنده " عن سفيان بن عيينة مبيّناً. وله شاهد أخرجه أبو داود من طريق الزّبيديّ عن الزّهريّ عن

عبّاد بلفظ " فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ". وله من طريق عمارة بن غزيّة عن عبّاد " استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلمّا ثقُلتْ عليه قلبها على عاتقه ". القول الأول: استحبّ الشّافعيّ في الجديد فعل ما همّ به - صلى الله عليه وسلم - من تنكيس الرّداء مع التّحويل الموصوف. وزعم القرطبيّ كغيره , أنّ الشّافعيّ اختار في الجديد تنكيس الرّداء لا تحويله، والذي في " الأمّ " ما ذكرته. القول الثاني: الجمهور على استحباب التّحويل فقط. ولا ريب أنّ الذي استحبّه الشّافعيّ أحوط. القول الثالث: عن أبي حنيفة وبعض المالكيّة: لا يستحبّ شيء من ذلك. واستحبَّ الجمهور أيضاً: أن يحوّل النّاس بتحويل الإمام. ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عبّاد في هذا الحديث بلفظ " وحوّل النّاس معه ". وقال الليث وأبو يوسف: يحوّل الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النّساء , فقال: لا يستحبّ في حقّهنّ. ثمّ إنّ ظاهر قوله " فقلب رداءه " أنّ التّحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء، وليس كذلك، بل المعنى فقلب رداءه في أثناء

الاستسقاء. وقد بيّنه مالك في روايته المذكورة ولفظه " حوّل رداءه حين استقبل القبلة ". ولمسلمٍ من رواية يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمّد " وإنّه لَمّا أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوّل رداءه ". وأصله للبخاري. وللبخاري من رواية الزّهريّ عن عبّاد " فقام فدعا الله قائماً، ثمّ توجّه قبل القبلة وحوّل رداءه فسُقُوا "، فعرف بذلك أنّ التّحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدّعاء. واختلف في حكمة هذا التّحويل: فجزم المُهلَّب: بأنّه للتّفاؤل بتحويل الحال عمّا هي عليه. وتعقّبه ابن العربيّ: بأنّ من شرط الفأل أن لا يقصد إليه. قال: وإنّما التّحويل أمارة بينه وبين ربّه، قيل له حوّل رداءك ليتحوّل حالك. وتعقّب: بأنّ الذي جزم به يحتاج إلى نقل، والذي ردّه ورد فيه حديث رجاله ثقات. أخرجه الدّارقطنيّ والحاكم من طريق جعفر بن محمّد بن عليّ عن أبيه عن جابر، ورجّح الدّارقطنيّ إرساله. وعلى كلّ حالٍ فهو أولى من القول بالظّنّ. وقال بعضهم: إنّما حوّل رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدّعاء , فلا يكون سنّة في كلّ حال. وأجيب: بأنّ التّحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثّبوت على العاتق، فالحمل على المعنى الأوّل أولى، فإنّ الاتّباع أولى من تركه

لمجرّد احتمال الخصوص، والله أعلم قوله: (ثمّ صلَّى ركعتين) في رواية لهما " خرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلَّى ركعتين " , وفي رواية يحيى بن سعيد عند ابن خزيمة " وصلَّى بالنّاس ركعتين ". واستدل به على أنّ الخطبة في الاستسقاء قبل الصّلاة، وهو مقتضى حديث عائشة وابن عبّاس المذكورين، لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التّصريح بأنّه بدأ بالصّلاة قبل الخطبة , وكذا في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه حيث قال " فصلَّى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة ". (¬1) ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (2/ 644): أخرج أحمد حديث أبي هريرة المذكور بإسناد حسن. وصرّح فيه بأنه " خطب بعد الصلاة " ويُجمع بين الحديثين بجواز الأمرين. والله أعلم. قلت: أخرجه أحمد (14/ 73) ابن ماجه (1268)، وابن خزيمة (1409 - 1422)، وابن المنذر في " الأوسط " (2219)، والطحاوي في " شرح المعاني " (1/ 325) والبيهقي (3/ 347) من طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة , قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فاستسقى، فصلَّى بنا ركعتين، بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله، وحوَّل وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن. قال ابن خزيمة: في القلب من النعمان بن راشد , فإن في حديثه عن الزهري تخليطاً كثيراً. قال ابن الملقن في " البدر المنير " (5/ 161): قال البيهقي في " خلافياته ": رواة هذا الحديث كلهم ثقات. وقال في " سننه ": تفرَّد به النعمان بن راشد عن الزهري. قلت: وهو من فرسان مسلم وتعاليق البخاري، وقال: صدوقٌ في حديثه وهمٌ كثيرٌ. وذكره ابن حبان في " ثقاته "، وضعَّفه يحيى القطان وابن معين. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال النسائي: كثير الغلط. انتهى

والمرجّح عند الشّافعيّة والمالكيّة الثّاني، وعن أحمد رواية كذلك، ورواية: يُخيّر. (¬1) ولَم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصّلاة المذكورة , ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدّارقطنيّ من حديث ابن عبّاس , أنّه يكبّر فيهما سبعاً وخمساً كالعيد، وأنّه يقرأ فيهما بسبّح وهل أتاك. وفي إسناده مقال، لكن أصله في السّنن بلفظ " ثمّ صلَّى ركعتين كما يُصلِّي في العيد ". فأخذ بظاهره الشّافعيّ , فقال: يكبّر فيهما. ونقل الفاكهيّ - شيخ شيوخنا - عن الشّافعيّ استحباب التّكبير حال الخروج إليها كما في العيد، وهو غلط منه عليه. ويمكن الجمع بين ما اختلف من الرّوايات في ذلك بأنّه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدّعاء ثمّ صلَّى ركعتين ثمّ خطب، فاقتصر بعض الرّواة على شيء , وبعضهم على شيء، وعبّر بعضهم عن الدّعاء بالخطبة. فلذلك وقع الاختلاف. وأمّا قول ابن بطّال: إنّ رواية أبي بكر بن محمّد (¬2) دالّةٌ على تقديم الصّلاة على الخطبة , وهو أضبط من ولَدَيه عبد الله ومحمّد. فليس ¬

_ (¬1) قال الشارح في موضع آخر: الجمهور ذهبوا إلى تقديم الصلاة، وممن اختار تقديم الخطبة ابن المنذر، وصرَّح الشيخ أبو حامد وغيره بأنَّ هذا الخلاف في الاستحباب لا في الجواز. (¬2) رواية أبي بكر بن محمد عند الشيخين " أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المصلَّى يستسقي، وأنه لَمَّا أراد أن يدعو، استقبل القبلة، وحول رداءه. وهو كما الشارح ليست بالبينة في تقديم إحداهما على الأخرى. ولعلَّ أجود ما في الباب رواية الزهري المذكورة في الشرح. وهي عند البخاري. والله تعالى أعلم

ذلك بالبيّن من سياق البخاريّ ولا مسلم. والله أعلم. وقال القرطبيّ: يعتضد القول بتقديم الصّلاة على الخطبة لمشابهتها بالعيد، وكذا ما تقرّر من تقديم الصّلاة أمام الحاجة. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث أيضاً " الدّعاء في الاستسقاء قائماً , واستقبال القبلة فيه ". وحمله ابن العربيّ على حال الصّلاة , ثمّ قال: يحتمل أن يكون ذلك خاصّاً بدعاء الاستسقاء. ولا يخفى ما فيه، وقد ترجم له البخاري في الدّعوات بالدّعاء مستقبل القبلة من غير قيدٍ بالاستسقاء، وكأنّه ألحقه به، لأنّ الأصل عدم الاختصاص: وترجم أيضاً لكونها ركعتين. وهو إجماع عند مَن قال بها، ولكونها في المصلى. وقد استثنى الخفّاف من الشّافعيّة مسجد مكّة كالعيد، وبالجهر بالقراءة في الاستسقاء، وبتحويل الظّهر إلى النّاس عند الدّعاء , وهو من لازم استقبال القبلة. قوله: (جهر فيهما بالقراءة) نقل ابن بطّال الإجماع عليه. تكميل: قال ابن بطال: أجمعوا على أن لا أذان ولا إقامة للاستسقاء. والله أعلم.

الحديث المائة وسبعة

الحديث المائة وسبعة 156 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نحو دار القضاء , ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ يخطب , فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً , ثمّ قال: يا رسولَ الله , هلكت الأموال , وانقطعت السّبل فادع الله تعالى يغيثنا , قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه , ثمّ قال: اللهمّ أغثنا , اللهمّ أغثنا , اللهمّ أغثنا , قال أنسٌ: فلا والله ما نرى في السّماء من سحابٍ ولا قزعةٍ , وما بيننا وبين سلعٍ من بيتٍ ولا دارٍ , قال: فطلعت من ورائِه سحابةٌ مثل التُّرس. فلمّا توسّطت السّماء انتشرت ثمّ أمطرت , قال: فلا والله ما رأينا الشّمس سبتاً , قال: ثمّ دخل رجلٌ من ذلك الباب في الجمعة المقبلة , ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ يخطب النّاس , فاستقبله قائماً , فقال: يا رسولَ الله , هلكتِ الأموال , وانقطعتِ السّبل , فادع الله أن يُمسكها عنّا , قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثمّ قال: اللهمّ حوالينا ولا علينا , اللهمّ على الآكامِ والظّرابِ وبطونِ الأودية ومنابتِ الشّجر , قال: فأقلعت , وخرجنا نمشي في الشّمس. قال شريكٌ: فسألت أنس بن مالكٍ: أهو الرّجل الأوّل؟ قال: لا أدري. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (967 , 968 , 970 , 971 , 973) ومسلم (897) من طرق عن شريك بن أبي نمر عن أنس به. بلفظه. وأخرجه البخاري (891 , 869 , 872 , 975 , 983 , 986 , 3389 , 5742 , 5982) ومسلم (897) من طرق أخرى عن أنس به نحوه. مختصراً ومطوّلاً.

قال المصنف: الظراب. الجبال الصغار , والآكام. جمع أكمة. وهي أعلى من الرابية ودون الهضبة , ودار القضاء. دار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سميت بذلك , لأنها بيعت في قضاء دينه. قوله: (أنّ رجلاً) لَم أقف على تسميته في حديث أنس. وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مرّة ما يمكن أن يفسّر هذا المبهم بأنّه كعب المذكور , وسأذكر بعض سياقه بعد قليل. وروى البيهقيّ في " الدّلائل " من طريق مرسلةٍ ما يمكن أن يفسّر بأنّه خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاريّ، ولكن رواه ابن ماجه من طريق شرحبيل بن السّمط , أنّه قال لكعب بن مرّة: يا كعب حدِّثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحذر، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: يا رسولَ الله استسق الله عزّ وجل، فرفع يديه. فقال: اللهمّ اسقنا " الحديث. ففي هذا أنّه غير كعب. وللبخاري في هذه القصّة " فأتاه أبو سفيان " , ومن ثَمَّ زعم بعضهم أنّه أبو سفيان بن حرب، وهو وهمٌ , لأنّه جاء في واقعة أخرى (¬1). ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري في صحيحه (1020) من طريق سفيان عن منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: أتيت ابن مسعود، فقال: إن قريشاً أبطئوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان، فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم. وإن قومك هلكوا، فادع الله، فقرأ: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10] ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 16] يوم بدر. قال البخاري: وزاد أسباط عن منصور , فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسقُوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا الناس كثرة المطر، قال: اللهم حوالينا ولا علينا , فانحدرت السَّحَابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم. قال ابن حجر في " الفتح " (2/ 511): وصله الجوزقي والبيهقي من رواية علي بن ثابت عن أسباط بن نصر عن منصور - وهو ابن المعتمر - .. "

وقد روى البخاري من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس: أصاب النّاس سَنَةٌ. أي: جدب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قام أعرابيّ , وله من رواية يحيى بن سعيد عن أنس: أتى رجلٌ أعرابيّ من أهل البدو. وأمّا قوله في رواية ثابت عن أنس في الصحيحين " فقام النّاس فصاحوا " , فلا يعارض ذلك، لأنّه يحتمل: أن يكونوا سألوه بعد أن سأل. ويحتمل: أنّه نسب ذلك إليهم لموافقة سؤال السّائل ما كانوا يريدونه من طلب دعاء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهم. وقد وقع في رواية ثابت أيضاً عند أحمد " إذ قال بعض أهل المسجد " , وهي ترجّح الاحتمال الأوّل. قوله: (من بابٍ كان نحو دار القضاء) وللبخاري " من بابٍ كان وِجاه المنبر " بكسر واو وجاه. ويجوز ضمّها. أي: مواجهه. ووقع في شرح ابن التّين أنّ معناه مستدبر القبلة، وهو وهْمٌ، وكأنّه ظنّ أنّ الباب المذكور كان مقابل ظهر المنبر، وليس الأمر كذلك.

وفسّر بعضهم دار القضاء بأنّها دار الإمارة، وليس كذلك , وإنّما هي دار عمر بن الخطّاب، وسمّيت دار القضاء , لأنّها بيعت في قضاء دينه. فكان يقال لها دار قضاء دين عمر، ثمّ طال ذلك فقيل لها دار القضاء. ذكره الزّبير بن بكّار بسنده إلى ابن عمر وذكر عمر بن شبّة في " أخبار المدينة " عن أبي غسّان المدنيّ: سمعت ابن أبي فديك عن عمّه كانت دار القضاء لعمر، فأمر عبد الله وحفصة أن يبيعاها عند وفاته في دَين كان عليه، فباعوها من معاوية، وكانت تسمّى دار القضاء. قال ابن أبي فديك سمعت عمّي يقول: إن كانت لتسمّى دار قضاء الدّين. قال: وأخبرني عمّي أنّ الخوخة الشّارعة في دار القضاء غربيّ المسجد هي خوخة أبو بكر الصّدّيق , التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبقى في المسجد خوخة إلاَّ خوخة أبي بكر. وقد صارت بعد ذلك إلى مروان وهو أمير المدينة، فلعلها شبهة مَن قال: إنّها دار الإمارة فلا يكون غلطاً كما قال صاحب المطالع وغيره. وجاء في تسميتها دار القضاء قول آخر. رواه عمر بن شبّة في " أخبار المدينة " عن أبي غسّان المدنيّ أيضاً عن عبد العزيز بن عمران عن راشد بن حفص عن أمّ الحكم بنت عبد الله عن عمّتها سهلة بنت عاصم. قالت: كانت دار القضاء لعبد الرّحمن بن عوف , وإنّما سُمّيت دار القضاء , لأنّ عبد الرّحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشّورى حتّى قضي الأمر فيها , فباعها بنو عبد الرّحمن من معاوية بن

أبي سفيان. قال عبد العزيز: فكانت فيها الدّواوين وبيت المال، ثمّ صيّرها السّفّاح رحبةً للمسجد. وزاد أحمد في رواية ثابت عن أنس " إنّي لقائم عند المنبر " فأفاد بذلك قوّة ضبطه للقصّة لقربه، ومن ثَمَّ لَم يرد هذا الحديث بهذا السّياق كلّه إلاَّ من روايته. قوله: (قائم يخطب) زاد في رواية قتادة عن أنس في البخاري " بالمدينة " قوله: (فقال: يا رسولَ الله) هذا يدلّ على أنّ السّائل كان مسلماً , فانتفى أن يكون أبا سفيان , فإنّه حين سؤاله لذلك كان لَم يسلم كما في حديث عبد الله بن مسعود (¬1) قوله: (هلكت الأموال) في رواية للبخاري " المواشي " وهو المراد بالأموال هنا لا الصّامت، وفي رواية له بلفظ " هلك الكراع " وهو بضمّ الكاف يطلق على الخيل وغيرها. وفي رواية يحيى بن سعيد أيضاً " هلكت الماشية، هلك العيال، هلك النّاس " , وهو من ذكر العامّ بعد الخاصّ. والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. قوله: (وانقطعت السّبل) في رواية للبخاري " وتقطّعت " بمثنّاةٍ ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق , والدليل عليه قول أبي سفيان: (يا محمد) إذ لو كان مسلماً لقال يارسول الله.

وتشديد الطّاء، والمراد بذلك أنّ الإبل ضعفت لقلّة القوت عن السّفر، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها. وقيل: المراد نفاد ما عند النّاس من الطّعام أو قلته فلا يجدون ما يحملونه يجلبونه إلى الأسواق. ووقع في رواية قتادة عن أنس " قحط المطر " أي: قلَّ، وهو بفتح القاف والطّاء , وحكي: بضمٍّ ثمّ كسر. وزاد في رواية ثابت عن أنس " واحمرّت الشّجر " واحمرارها كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء، أو لانتثاره فتصير الشّجر أعواداً بغير ورق. ووقع لأحمد في رواية قتادة " وأمحلت الأرض " وهذه الألفاظ. يحتمل: أن يكون الرّجل قال كلّها. ويحتمل: أن يكون بعض الرّواة روى شيئاً ممّا قاله بالمعنى , لأنّها متقاربة فلا تكون غلطاً. كما قال صاحب المطالع وغيره. قوله: (فادع الله يغيثنا) أي: فهو يغيثنا، وهذه رواية الأكثر، ولأبي ذرّ " أن يغيثنا " , وفي رواية إسماعيل بن جعفر عن شريك في الصحيحين " يُغثْنا " بالجزم، ويجوز الضّمّ في يغيثنا على أنّه من الإغاثة. وبالفتح على أنّه من الغيث. ويرجّح الأوّل قوله " فقال: اللهمّ أغثنا ". ووقع في رواية قتادة عند البخاري " فادع الله أن يسقينا " وله في الأدب " فاستسق ربّك ". قال قاسم بن ثابت: رواه لنا موسى بن هارون " اللهمّ أغثنا "

وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث، والمعروف في كلام العرب غثنا لأنّه من الغوث. وقال ابن القطّاع: غاث الله عباده غيثاً وغياثاً سقاهم المطر، وأغاثهم أجاب دعاءهم، ويقال: غاث وأغاث بمعنىً، والرّباعيّ أعلى. وقال ابن دريد: الأصل غاثه الله يغوثه غوثاً فأغيث، واستعمل أغاثه، ومن فتح أوّله فمن الغيث , ويحتمل: أن يكون معنى أغثنا: أعطنا غوثاً وغيثاً. قوله: (فرفع يديه) زاد النّسائيّ (¬1) في رواية سعيد عن يحيى بن سعيد عن أنس " ورفع النّاس أيديهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعون " , وزاد في رواية شريك " حذاء وجهه ".ولابن خزيمة من رواية حميدٍ عن أنس " حتّى رأيت بياض إبطيه ". (¬2). ¬

_ (¬1) وهذه الزيادة معلّقة في صحيح البخاري (1029). قال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد به. قال ابن حجر في " الفتح " (2/ 666): قوله (وقال أيوب بن سليمان) أي: ابن بلال. وهو من شيوخ البخاري. إلاَّ أنه ذكر هذه الطريق عنه بصيغة التعليق , وقد وصَلَها الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي من طريق أبي إسماعيل الترمذي عن أيوب. (¬2) قال البخاري في صحيحه كتاب الدعوات باب (23) رفع الأيدي في الدعاء. وقال الأويسي: حدثني محمد بن جعفر عن يحيى بن سعيد وشريك: سمعا أنساً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه. قال الشارح (11/ 170): وصله أبو نعيم من رواية أبي زرعة الرازي قال: حدثنا الأويسي به. وأورد البخاري قصة الاستسقاء مطولةً من رواية شريك بن أبي نمر وحده عن أنس من طرق في بعضها " ورفع يديه " وليس في شيء منها " حتى رأيت بياض إبطيه " إلاَّ هذا. انتهى.

وللبخاري في الجمعة بلفظ " فمدّ يديه ودعا " , زاد في رواية قتادة في الأدب " فنظر إلى السّماء " قوله: (اللهمّ أغثنا , اللهمّ أغثنا , اللهمّ أغثنا) وللبخاري فقال " اللهمّ اسقنا. أعاده ثلاثاً، ووقع في رواية ثابت عن أنس عند البخاري " اللهمّ اسقنا " مرّتين. والأخذ بالزّيادة أولى، ويرجّحها ما أخرجه مسلم عن أنس , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا دعا ثلاثاً. قوله: (فلا والله) وفي رواية ثابت المذكورة " وأيم الله ". قوله: (من سحاب) أي: مجتمِع قوله: (ولا قزعة) بفتح القاف والزّاي بعدها مهملة , أي: سحاب متفرّق. قال ابن سيده: القزع قطع من السّحاب رقاق، زاد أبو عبيد: وأكثر ما يجيء في الخريف. وللبخاري " ولا قزعة ولا شيئاً " بالنّصب عطفاً على موضع الجارّ والمجرور. أي ما نرى شيئاً، والمراد نفي علامات المطر من ريح وغيره. قوله: (وما بيننا وبين سلع) بفتح المهملة وسكون اللام جبل معروف بالمدينة، وقد حكي: أنّه بفتح اللام. قوله: (من بيت ولا دار) أي: يحجبنا عن رؤيته، وأشار بذلك إلى أنّ السّحاب كان مفقوداً لا مستتراً ببيتٍ ولا غيره.

ووقع في رواية ثابت عند البخاري قال: قال أنس: وإنّ السّماء لفي مثل الزّجاجة. أي: لشدّة صفائها، وذلك مشعر بعدم السّحاب أيضاً. قوله: (فطلعت) أي: ظهرت. قوله: (من ورائه) أي: سلعٍ، وكأنّها نشأت من جهة البحر , لأنّ وضع سلعٍ يقتضي ذلك. قوله: (مثل التّرس) أي: مستديرة، ولَم يرد أنّها مثله في القدر , لأنّ في رواية حفص بن عبيد الله عن أنس عند أبي عوانة " فنشأتْ سحابة مثل رجل الطّائر , وأنا أنظر إليها " فهذا يشعر بأنّها كانت صغيرة. وفي رواية ثابت المذكورة " فهاجت ريح أنشأت سحاباً ثمّ اجتمع " , وفي رواية قتادة في البخاري " فنشأ السّحاب بعضه إلى بعض ". وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس عند البخاري " حتّى ثار السّحاب أمثال الجبال " أي: لكثرته، وفيه " ثمّ لَم ينزل عن منبره حتّى رأينا المطر يتحادر على لحيته ". وهذا يدلّ على أنّ السّقف وَكَفَ لكونه كان من جريد النّخل. قوله: (فلمّا توسّطت السّماء انتشرت) هذا يشعر بأنّها استمرّت مستديرة حتّى انتهت إلى الأفق فانبسطت حينئذٍ، وكأنّ فائدته تعميم الأرض بالمطر. قوله: (ما رأينا الشّمس سبتاً) كناية عن استمرار الغيم الماطر،

وهذا في الغالب، وإلا فقد يستمرّ المطر والشّمس بادية، وقد تحجب الشّمس بغير مطر. وأصرح من ذلك رواية إسحاق عند البخاري بلفظ " فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه , حتّى الجمعة الأخرى ". قوله: (سبتاً) وقع للأكثر بلفظ السّبت - يعني أحد الأيّام - والمراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشّيء باسم بعضه , كما يقال جمعة. قاله صاحب النّهاية. قال: ويقال أراد قطعة من الزّمان. وقال الزين بن المنير: قوله " سبتاً " أي: من السّبت إلى السّبت، أي: جمعة. وقال المحبّ الطّبريّ مثله , وزاد: أنّ فيه تجوّزاً , لأنّ السّبت لَم يكن مبدأ ولا الثّاني منتهى، وإنّما عبّر أنس بذلك لأنّه كان من الأنصار , وكانوا قد جاوروا اليهود فأخذوا بكثيرٍ من اصطلاحهم، وإنّما سمّوا الأسبوع سبتاً , لأنّه أعظم الأيّام عند اليهود، كما أنّ الجمعة عند المسلمين كذلك. وحكى النّوويّ تبعاً لغيره كثابتٍ في " الدّلائل ": أنّ المراد بقوله " سبتاً " قطعة من الزّمان، ولفظ ثابت: النّاس يقولون معناه من سبت إلى سبت , وإنّما السّبت قطعة من الزّمان. وأنّ الدّاوديّ رواه بلفظ " ستّاً " وهو تصحيف. وتعقّب: بأنّ الدّاوديّ لَم ينفرد بذلك , فقد وقع في رواية الحمويّ والمستملي هنا ستّاً، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الدّراورديّ عن

شريك (¬1)، ووافقه أحمد من رواية ثابت عن أنس. وكأنّ من ادّعى أنّه تصحيف استبعد اجتماع قوله " ستّاً " مع قوله في رواية إسماعيل بن جعفر عند البخاري " سبعاً ". وليس بمستبعدٍ , لأنّ مَن قال " ستّاً " أراد ستّة أيّام تامّة، ومَن قال " سبعاً " أضاف أيضاً يوماً ملفّقاً من الجمعتين. وقد وقع في رواية مالك عن شريك " فمطرنا من جمعة إلى جمعة ". وفي رواية للنّسفيّ " فدامت جمعة " وفي رواية عبدوسٍ والقابسيّ فيما حكاه عياض " سبتنا " كما يقال جمعتنا، ووهم من عزا هذه الرّواية لأبي ذرّ. وفي رواية قتادة عند البخاري " فمطرنا فما كِدْنا نصل إلى منازلنا " أي: من كثرة المطر، وللبخاري من وجه آخر بلفظ " فخرجنا نخوض الماء حتّى أتينا منازلنا ". ولمسلمٍ في رواية ثابت " فأمطرنا حتّى رأيت الرّجل تهمّه نفسه أن يأتي أهله " , ولابن خزيمة في رواية حميدٍ " حتّى أهمّ الشّابَّ القريب الدّار الرّجوع إلى أهله ". وللبخاري في الأدب من طريق قتادة " حتّى سالت مثاعب المدينة " , ومثاعب جمع مثعب - بالمثلثة وآخره موحّدة - مسيل الماء. قوله: (ثمّ دخل رجلٌ من ذلك الباب في الجمعة المقبلة) ظاهره أنّه غير الأوّل، لأنّ النّكرة إذا تكرّرت دلت على التّعدّد، وقد قال ¬

_ (¬1) أي: شريك بن أبي نمر عن أنس. وقد أخرجه الشيخان من طريقه كما تقدَّم.

شريك في آخر هذا الحديث هنا: سألت أنساً: أهو الرّجل الأوّل؟ قال: لا أدري. وهذا يقتضي أنّه لَم يجزم بالتّغاير، فالظّاهر أنّ القاعدة المذكورة محمولة على الغالب , لأنّ أنساً من أهل اللسان وقد تعدّدت. وللبخاري من رواية إسحاق عن أنس " فقام ذلك الرّجل أو غيره " , وكذا لقتادة في البخاري، وللبخاري في الجمعة من وجه آخر كذلك، وهذا يقتضي أنّه كان يشكّ فيه. وله من رواية يحيى بن سعيد " فأتى الرّجل فقال: يا رسولَ الله " ومثله لأبي عوانة من طريق حفص عن أنس بلفظ " فما زلنا نمطر حتّى جاء ذلك الأعرابيّ في الجمعة الأخرى ". وأصله في مسلم. وهذا يقتضي الجزم بكونه واحداً، فلعل أنساً تذكّره بعد أن نسيه، أو نسيه بعد أن كان تذكّره. ويؤيّد ذلك رواية البيهقيّ في " الدّلائل " من طريق يزيد , أنّ عبيداً السّلميّ قال: لَمّا قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك , أتاه وفدُ بني فزارة , وفيه خارجة بن حصن أخو عيينة قدموا على إبل عجاف فقالوا: يا رسولَ الله ادع لنا ربّك أن يغيثنا. فذكر الحديث. وفيه. فقال: اللهمّ اسق بلدك وبهيمك، وانشر بركتك. اللهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً طبقاً واسعاً عاجلاً غير آجل نافعاً غير ضارٍ، اللهمّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب، اللهمّ اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء. وفيه. قال: فلا والله ما نرى في السّماء من قزعة ولا

سحاب، وما بين المسجد وسلعٍ من بناء. فذكر نحو حديث أنس بتمامه. وفيه: قال الرّجل - يعني الذي سأله أن يستسقي لهم - هلكت الأموال. الحديث. كذا في الأصل. والظّاهر. أنّ السّائل هو خارجة المذكور لكونه كان كبير الوفد , ولذلك سُمِّي من بينهم. والله أعلم. وأفادت هذه الرّواية صفة الدّعاء المذكور، والوقت الذي وقع فيه. قوله: (هلكت الأموال وانقطعت السّبل) أي: بسبب غير السّبب الأوّل، والمراد أنّ كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم الرّعي. أو لعدم ما يكنّها من المطر، ويدلّ على ذلك قوله في رواية سعيد عن شريك عند النّسائيّ " من كثرة الماء ". وأمّا انقطاع السّبل , فلتعذّر سلوك الطّرق من كثرة الماء. وفي رواية حميدٍ عند ابن خزيمة " واحتبس الرّكبان " , وفي رواية مالك عن شريك " تهدّمت البيوت ". وفي رواية إسحاق عند البخاري " هدم البناء وغرق المال ". وفي رواية يحيى بن سعيد عند البخاري " بشق المسافر ومنع الطريق ". وفي " المنضّد " لكُراعٍ (¬1): بشق: بفتح الموحّدة تأخّر ولَم يتقدّم، ¬

_ (¬1) كراع. هو علي بن الحسن بن الحسين الهنائى الدوسى أبو الحسن المصرى النّحويّ , المعروف بكراع النّمل - بضم الكاف – توفي بعد سنة 307 سبع وثلاثمائة. قال ياقوت: هو من أهل مصر أخذ عن البصريين , وكان نحوياً كوفياً كتب المنضد في لغة المجرد.

فعلى هذا فمعنى بشق هنا ضعف عن السّفر وعجز عنه كضعف الباشق وعجزه عن الصّيد , لأنّه ينفّر الصّيد ولا يصيد. وقال أبو موسى في " ذيل الغريبين ": الباشق طائر معروف، فلو اشتقّ منه فعل فقيل بشق لَمَا امتنع، قال: ويقال بشق الثّوب وبشكه قطعه في خفّة، فعلى هذا يكون معنى بشق , أي: قطع به من السّير، انتهى كلامه. قوله: (فادع الله يمسكها) يجوز في يمسكها الضّمّ والسّكون، وللكشميهنيّ هنا " أن يمسكها " والضّمير يعود على الأمطار أو على السّحاب أو على السّماء، والعرب تطلق على المطر سماء. ووقع في رواية سعيد عن شريك " أن يمسك عنّا الماء " , وفي رواية أحمد من طريق ثابت " أن يرفعها عنّا ". وفي رواية قتادة عند البخاري " فادع ربّك أن يحبسها عنّا فضحك " , وفي رواية ثابت " فتبسّم " , زاد في رواية حميدٍ " لسرعة ملال ابن آدم ". قوله: (اللهمّ حوالينا) بفتح اللام , وفيه حذف تقديره. اجعل أو أمطر، والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدّور. قوله: (ولا علينا) فيه بيان للمراد بقوله " حوالينا " , لأنّها تشمل الطّرق التي حولهم , فأراد إخراجها بقوله " ولا علينا ". قال الطّيبيّ: في إدخال الواو هنا معنىً لطيف، وذلك أنّه لو أسقطها لكان مستسقياً للآكام وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي

أنّ طلب المطر على المذكورات ليس مقصوداً لعينه , ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو مخلصة للعطف , ولكنّها للتّعليل، وهو كقولهم تجوع الحرّة , ولا تأكل بثدييها، فإنّ الجوع ليس مقصوداً لعينه , ولكن لكونه مانعاً عن الرّضاع بأجرةٍ إذ كانوا يكرهون ذلك أنفاً. انتهى. قوله: (اللهمّ على الآكام) فيه بيان المراد بقوله " حوالينا " والإكام - بكسر الهمزة وقد تفتح وتمدّ -: جمع أَكَمَة بفتحاتٍ. قال ابن البرقيّ: هو التّراب المجتمع. وقال الدّاوديّ: هي أكبر من الكدية. وقال القزّاز: هي التي من حجر واحد وهو قول الخليل. وقال الخطّابيّ: هي الهضبة الضّخمة، وقيل: الجبل الصّغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض، وقال الثّعالبيّ: الأكمة أعلى من الرّابية , وقيل: دونها. قوله: (والظّراب) بكسر المعجمة وآخره موحّدة , جمع ظرِب بكسر الرّاء. وقد تسكن. وقال القزّاز: هو الجبل المنبسط ليس بالعالي، وقال الجوهريّ: الرّابية الصّغيرة. قوله: (وبطون الأودية) والمراد بها ما يتحصّل فيه الماء لينتفع به، قالوا: ولَم تسمع أفعلة جمع فاعل إلاَّ الأودية جمع وادٍ , وفيه نظرٌ. وزاد مالك في روايته " ورءوس الجبال ".

قوله: (فأقلعت) وللبخاري " فانقطعت " أي: السّماء أو السّحابة الماطرة، والمعنى أنّها أمسكت عن المطر على المدينة. وفي رواية مالك " فانجابت عن المدينة انجياب الثّوب " , أي: خرجت عنها كما يخرج الثّوب عن لابسه. وفي رواية سعيد عن شريك " فما هو إلاَّ أن تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك تمزّق السّحاب حتّى ما نرى منه شيئاً " والمراد بقوله " ما نرى منه شيئاً " أي: في المدينة. ولمسلمٍ في رواية حفص " فلقد رأيت السّحاب يتمزّق كأنّه الْمُلاء حين تطوى " , والملاء: بضمّ الميم والقصر وقد يمدّ , جمع ملاءة وهو ثوب معروف. وفي رواية قتادة عند البخاري " فلقد رأيت السّحاب ينقطع يميناً وشمالاً يمطرون - أي أهل النّواحي - ولا يمطر أهل المدينة " , وله في الأدب " فجعل السّحاب يتصدّع عن المدينة. وزاد فيه. يريهم الله كرامة نبيّه وإجابة دعوته " وللبخاري في رواية ثابت عن أنس " فتكشّطت - أي تكشّفت - فجعلت تمطر حول المدينة ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنّها لمثل الإكليل " ولأحمد من هذا الوجه " فتقوّر ما فوق رءوسنا من السّحاب حتّى كأنّا في إكليل ". والإكليل: بكسر الهمزة وسكون الكاف كلّ شيء دار من جوانبه، واشتهر لِمَا يوضع على الرّأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك

كالتّاج. وفي رواية إسحاق عن أنس " فما يشير بيده إلى ناحية من السّحاب إلاَّ تفرّجت حتّى صارت المدينة في مثل الْجَوبة " , والجوبة: بفتح الجيم ثمّ الموحّدة. وهي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفرجة في السّحاب. وقال الخطّابيّ: المراد بالجوبة هنا التّرس، وضبطها الزين بن المنير تبعاً لغيره بنونٍ بدل الموحّدة، ثمّ فسّره بالشّمس إذ ظهرت في خلال السّحاب. لكن جزم عياض بأنّ مَن قاله بالنّون فقد صحّف. وفي رواية إسحاق من الزّيادة أيضاً " وسال الوادي - وادي قناة - شهراً "، وقناة بفتح القاف والنّون الخفيفة عَلَمٌ على أرض ذات مزارع بناحية أحد، وواديها أحد أودية المدينة المشهورة. قاله الحازميّ. وذكر محمّد بن الحسن المخزوميّ في " أخبار المدينة " بإسنادٍ له , أنّ أوّل من سمّاه وادي قناة تبّع اليمانيّ لَمّا قدم يثرب قبل الإسلام. وفي رواية له: أنّ تبّعاً بعث رائداً ينظر إلى مزارع المدينة , فقال: نظرتُ. فإذا قناة حبّ ولا تبن، والجرف حبّ وتبن، والحرار - يعني جمع حرّة بمهملتين - لا حبّ ولا تبن. انتهى. وللبخاري من رواية إسحاق عن أنس " وسال الوادي قناة " وأعرب بالضّمّ على البدل على أنّ قناة اسم الوادي , ولعله من تسمية

الشّيء باسم ما جاوره. وقرأت بخطّ الرّضيّ الشّاطبيّ , قال: الفقهاء تقوله بالنّصب والتّنوين , يتوهّمونه قناة من القنوات، وليس كذلك. انتهى. وهذا الذي ذكره قد جزم به بعض الشّرّاح , وقال: هو على التّشبيه. أي: سال مثل القناة. وقوله في الرّواية المذكورة " إلاَّ حدّث بالجود " هو بفتح الجيم المطر الغزير. وهذا يدلّ على أنّ المطر استمرّ فيما سوى المدينة، فقد يشكل بأنّه يستلزم أنّ قول السّائل " هلكت الأموال وانقطعت السّبل " لَم يرتفع الإهلاك ولا القطع. وهو خلاف مطلوبه. ويمكن الجواب: بأنّ المراد أنّ المطر استمرّ حول المدينة من الإكام والظّراب وبطون الأودية لا في الطّرق المسلوكة، ووقوع المطر في بقعة دون بقعة كثير ولو كانت تجاورها، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد للماشية أماكن تكنّها وترعى فيها بحيث لا يضرّها المطر. فيزول الإشكال. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة، وفيه القيام في الخطبة , وأنّها لا تنقطع بالكلام ولا تنقطع بالمطر. وفيه قيام الواحد بأمر الجماعة، وإنّما لَم يباشر ذلك بعض أكابر الصّحابة لأنّهم كانوا يسلكون الأدب بالتّسليم وترك الابتداء بالسّؤال، ومنه قول أنس: كان يعجبنا أن يجيء الرّجل من البادية

فيسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وسؤال الدّعاء من أهل الخير. ومن يرجى منه القبول. وإجابتهم لذلك، ومن أدبه بثّ الحال لهم قبل الطّلب لتحصيل الرّقّة المقتضية لصحّة التّوجّه فترجى الإجابة عنده. وفيه تكرار الدّعاء ثلاثاً، وإدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدّعاء به على المنبر ولا تحويل فيه ولا استقبال، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء، وليس في السّياق ما يدلّ على أنّه نواها مع الجمعة. وفيه علم من أعلام النّبوّة في إجابة الله دعاء نبيّه عليه الصّلاة والسّلام عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء , وامتثال السّحاب أمره بمجرّد الإشارة. وفيه الأدب في الدّعاء حيث لَم يدع برفع المطر مطلقاً لاحتمال الاحتياج إلى استمراره. فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضّرر , وبقاء النّفع. ويستنبط منه أنّ من أنعم الله عليه بنعمةٍ لا ينبغي له أن يتسخّطها لعارضٍ يعرض فيها، بل يسأل الله رفع ذلك العارض , وإبقاء النّعمة. وفيه أنّ الدّعاء برفع الضّرر لا ينافي التّوكّل - وإن كان مقام الأفضل التّفويض - لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بما وقع لهم من الجدب، وأخّر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (12).

السّؤال في ذلك تفويضاً لربّه، ثمّ أجابهم إلى الدّعاء لَمّا سألوه في ذلك بياناً للجواز , وتقرير السّنّة في هذه العبادة الخاصّة، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة نفع الله به. وفيه جواز تبسّم الخطيب على المنبر تعجّباً من أحوال النّاس، وجواز الصّياح في المسجد بسبب الحاجة المقتضية لذلك. وفيه اليمين لتأكيد الكلام، ويحتمل: أن يكون ذلك جرى على لسان أنس بغير قصد اليمين. واستدل به على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أنّ الاستسقاء لا تشرع فيه صلاة. فأمّا الأوّل. فقال به الشّافعيّ , وكرهه سفيان الثّوريّ. وأمّا الثّاني. فقال به أبو حنيفة كما تقدّم. وتعقّب: بأنّ الذي وقع في هذه القصّة مجرّد دعاء لا ينافي مشروعيّة الصّلاة لها، وقد بيّنت في واقعة أخرى كما تقدّم. واستدل به على الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء. قاله ابن بطّال. وتعقّب: بما في رواية يحيى بن سعيد " ورفع النّاس أيديهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعون " وقد استدل به البخاري في الدّعوات. على رفع اليدين في كلّ دعاء. وفي الباب عدّة أحاديث (¬1) جمعها المنذريّ في جزء مفرد , وأورد منها ¬

_ (¬1) تقدّم ذكر بعضها في كلام الشارح رحمه الله

النّوويّ في صفة الصّلاة في شرح المهذّب قدر ثلاثين حديثاً. ووجه الجمع بينها وبين قول أنس: كان لا يرفع يديه إلاَّ في الاستسقاء , وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه. متفق عليه. فذهب بعضهم: إلى أنّ العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره. وذهب آخرون: إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع , بأن يحمل النّفي على صفة مخصوصة , إمّا الرّفع البليغ فيدلّ عليه قوله " حتّى يرى بياض إبطيه ". ويؤيّده أنّ غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدّعاء إنّما المراد به مدّ اليدين وبسطهما عند الدّعاء، وكأنّه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتّى حاذتاه , وبه حينئذٍ يُرى بياض إبطيه. وأمّا صفة اليدين في ذلك , فلِما رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفّيه إلى السّماء , ولأبي داود من حديث أنس أيضاً: كان يستسقي هكذا ومدّ يديه - وجعل بطونهما ممّا يلي الأرض - حتّى رأيت بياض إبطيه. قال النّوويّ: قال العلماء: السّنّة في كلّ دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفّيه إلى السّماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفّيه إلى السّماء. انتهى. وقال غيره: الحكمة في الإشارة بظهور الكفّين في الاستسقاء دون

غيره للتّفاؤل بتقلّب الحال ظهراً لبطنٍ كما قيل في تحويل الرّداء، أو هو إشارة إلى صفة المسئول وهو نزول السّحاب إلى الأرض. وفيه جواز الدّعاء بالاستصحاء للحاجة، وقد ترجم له البخاريّ " باب الدعاء إذا تقطّعت السبل من كثرة المطر ". ومراده بقوله " من كثرة المطر " أي: وسائر ما ذكر في الحديث ممّا يشرع الاستصحاء عند وجوده. ظاهره أنّ الدّعاء بذلك متوقّف على سبق السّقيا، وكلام الشّافعيّ في " الأمّ " يوافقه وزاد: أنّه لا يسنّ الخروج للاستصحاء ولا الصّلاة ولا تحويل الرّداء، بل يُدعى بذلك في خطبة الجمعة أو في أعقاب الصّلاة. وفي هذا تعقّب على مَن قال من الشّافعيّة: إنّه ليس قول الدّعاء المذكور في أثناء خطبة الاستسقاء , لأنّه لَم ترد به السّنّة.

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف قال اللَّهِ تَعَالَى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً .. الآية. سورة النساء الآيتان اشتملتا على مشروعية القصر في صلاة الخوف وعلى كيفيتها. ومعنى قوله تعالى (وإذا ضربتم). أي سافرتم، ومفهومه أنَّ القصر مختصٌ بالسفر وهو كذلك. وأما قوله: (إن خفتم). فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضاً. وقد سأل يعلى بن أمية الصحابي عمر بن الخطاب عن ذلك فذكر أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. أخرجه مسلم، فثبت القصر في الأمن ببيان السنة. واختلف في صلاة الخوف في الحضر. فمنعه ابن الماجشون أخذاً بالمفهوم أيضاً. وأجازه الباقون. وأما قوله: (وإذا كنت فيهم) فقد أخذ بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه والحسن بن زياد اللؤلؤي من أصحابه وإبراهيم

بن علية، وحكي عن المزني صاحب الشافعي. واحتج عليهم بإجماع الصحابة على فعل ذلك بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - , وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: صلّوا كما رأيتموني أصلي. فعموم منطوقه مقدم على ذلك المفهوم. وقال ابن العربي وغيره: شرْط كونه - صلى الله عليه وسلم - فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول. ثم إن الأصل أنَّ كل عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفية وردت لبيان الحذر من العدو، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم. وقال الزين المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف في قوله تعالى (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم). وقال الطحاوي: كان أبو يوسف قد قال مرة: لا تُصلّى صلاة الخوف بعد رسول - صلى الله عليه وسلم - وزعم أنَّ الناس إنما صلوها معه لفضل الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم -. قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء، وقد كان محمد بن شجاع يَعيبه ويقول: إنَّ الصلاة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعاً إلا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره. انتهى وسيأتي سبب النزول , وبيان أول صلاة صُلّيت. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر حديث جابر - رضي الله عنه - الآتي برقم (159).

الحديث المائة وثمانية

الحديث المائة وثمانية 157 - عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في بعض أيّامه , فقامت طائفةٌ معه , وطائفةٌ بإزاء العدوّ , فصلَّى بالذين معه ركعةً , ثمّ ذهبوا , وجاء الآخرون , فصلَّى بهم ركعةً , وقضت الطّائفتان ركعةً , ركعةً. (¬1) قوله: (صلاة الخوف في بعض أيّامه) وللبخاري " غزوت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نجدٍ " بكسر القاف وفتح الموحّدة. أي: جهة نجدٍ، ونجدٌ كلّ ما ارتفع من بلاد العرب. وسيأتي بيان هذه الغزوة في الكلام على غزوة ذات الرّقاع (¬2) قوله: (وطائفةٌ بإزاء العدوّ) بالزّاي، قال صاحب الصّحاح: يقال آزيت، يعني بهمزةٍ ممدودةٍ لا بالواو. والذي يظهر أنّ أصله الهمزة فقلبت واواً. وللبخاري: فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي لنا، فقامت طائفة معه تصلي , وأقبلت طائفة على العدو. قوله: (فوازينا) بالزاي. أي قابلنا , وقوله " فصلَّى لنا ". أي لأجلنا أو بنا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (900 , 3903 , 3904) ومسلم (839) من طرق عن الزهري عن سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري (901) ومسلم (839) من طريق موسى بن عقبة , والبخاري (4261) من طريق مالك كلاهما عن نافع عن ابن عمر. نحوه. (¬2) انظر حديث سهل بن أبي حثمة الذي بعده

قوله: (فصلَّى بالذين معه ركعةً) وللبخاري " وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه وسجد سجدتين ". قوله: (ثم ذهبوا) وللبخاري " ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لَم تصل " أي: فقاموا في مكانهم، وصرّح به في رواية بقيّة عن شعيب عن الزهري. رواه النسائي. ولمالكٍ في " الموطّأ " عن نافعٍ عن ابن عمر " ثمّ استأخروا مكان الذين لَم يصّلوا ولا يسلمون ". وهو عند البخاري أيضاً. قوله: (وجاء الآخرون , فصلَّى بهم ركعةً) وللبخاري " فجاءوا، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعة وسجد سجدتين " , زاد عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن الزّهريّ " مثل نصف صلاة الصّبح " , وفي قوله " مثل نصف صلاة الصّبح ". إشارة إلى أنّ الصّلاة المذكورة كانت غير الصّبح، فعلى هذا فهي رباعيّة، وجاء ما يدلّ على أنّها كانت العصر. وفيه دليلٌ على أنّ الرّكعة المقضيّة لا بدّ فيها من القراءة لكلٍّ من الطّائفتين خلافاً لمن أجاز للثّانية ترك القراءة. قوله: (وقضت الطّائفتان ركعةً , ركعةً) وللبخاري " فقام كلّ واحدٍ منهم فركع لنفسه " ولفظ القضاء فيها على معنى الأداء لا على معنى القضاء الاصطلاحيّ. ولَم تختلف الطّرق عن ابن عمر في هذا. وظاهره أنّهم أتمّوا لأنفسهم في حالةٍ واحدةٍ. ويحتمل: أنّهم أتمّوا على التّعاقب. وهو الرّاجح من حيث المعنى.

وإلاَّ فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده. ويرجّحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود. ولفظه " ثمّ سلَّم , فقام هؤلاء. أي: الطّائفة الثّانية. فقضوا لأنفسهم ركعة ثمّ سلَّموا، ثمّ ذهبوا , ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعةً , ثمّ سلموا ". وظاهره أنّ الطّائفة الثّانية وَالَتْ بين ركعتيها , ثمّ أتمّت الطّائفة الأولى بعدها. ووقع في الرّافعيّ تبعاً لغيره من كتب الفقه , أنّ في حديث ابن عمر هذا أنّ الطّائفة الثّانية تأخّرت ,وجاءت الطّائفة الأولى فأتمّوا ركعة، ثمّ تأخّروا وعادت الطّائفة الثّانية فأتمّوا، ولَم نقف على ذلك في شيءٍ من الطّرق، وبهذه الكيفيّة أخذ الحنفيّة. واختار الكيفيّة التي في حديث ابن مسعود. أشهب والأوزاعيّ، وهي الموافقة لحديث سهل بن أبي حثمة من رواية مالك عن يحيى بن سعيد. واستدل بقوله " طائفة " على أنّه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بدّ أن تكون التي تحرس يحصل الثّقة بها في ذلك، والطّائفة تطلق على الكثير والقليل حتّى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يُصلِّي بواحد. ويحرس واحدٌ ثمّ يُصلِّي الآخر، وهو أقلّ ما يتصوّر في صلاة الخوف جماعة على القول بأقل الجماعة مطلقاً.

لكن قال الشّافعيّ: أكره أن تكون كلّ طائفةٍ أقل من ثلاثةٍ , لأنّه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله (أسلحتهم). ذكره النّوويّ في شرح مسلم وغيره واستدل به على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها لارتكاب أمورٍ كثيرةٍ لا تغتفر في غيرها، ولو صلَّى كلّ امرئ منفرداً لَم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك. وقد ورد في كيفيّة صلاة الخوف صفات كثيرة. ورجّح ابن عبد البرّ هذه الكيفيّة الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوّة الإسناد ولموافقة الأصول. في أنّ المأموم لا يتمّ صلاته قبل سلام إمامه. وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستّة أحاديث أو سبعة أيّها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة الآتي، وكذا رجّحه الشّافعيّ. ولَم يختر إسحاق شيئاً على شيء، وبه قال الطّبريّ وغير واحدٍ. منهم ابن المنذر , وسَرَدَ ثمانية أوجهٍ، وكذا ابن حبّان في " صحيحه ". وزاد تاسعاً. وقال ابن حزم: صحّ فيها أربعة عشر وجهاً، وبيّنها في جزءٍ مفردٍ. وقال ابن العربيّ في " القبس ": جاء فيها روايات كثيرة أصحّها ستّة عشر رواية مختلفة، ولَم يبيّنها. وقال النّوويّ نحوه في شرح مسلمٍ. ولَم يبيّنها أيضاً.

وقد بيّنها شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح التّرمذيّ , وزاد وجهاً آخر فصارت سبعة عشر وجهاً، لكن يمكن أن تتداخل. قال صاحب الهدي: أُصولها ستّ صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرّواة في قصّةٍ جعلوا ذلك وجهاً من فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنّما هو من اختلاف الرّواة. انتهى. وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا بقوله: يمكن تداخلها. وحكى ابن القصّار المالكيّ: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلاَّها عشر مرّات. وقال ابن العربيّ: صلاها أربعاً وعشرين مرّة. وقال الخطّابيّ: صلاّها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أيّامٍ مختلفةٍ بأشكالٍ متباينةٍ يتحرّى فيها ما هو الأحوط للصّلاة والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متّفقة المعنى. انتهى. وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرةٌ وفروعٌ لا يتحمّل هذا الشّرح بسطها. والله المستعان. فائدةٌ: لَم يقع في شيءٍ من الأحاديث المرويّة في صلاة الخوف تعرّض لكيفيّة صلاة المغرب، وقد أجمعوا على أنّه لا يدخلها قصر. واختلفوا هل الأولى أن يُصلِّي بالأولى ثنتين والثّانية واحدة أو العكس؟.

الحديث المائة وتسعة

الحديث المائة وتسعة 158 - عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوّات بن جبيرٍ عمّن صلَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ذات الرّقاع , صلاة الخوف: أنّ طائفةً صفّت معه , وطائفةً وجاه العدوّ , فصلَّى بالذين معه ركعةً , ثمّ ثبت قائماً , وأتمّوا لأنفسهم , ثمّ انصرفوا , فصفّوا وجاه العدوّ , وجاءت الطّائفة الأخرى , فصلَّى بهم الرّكعة التي بقيت , ثمّ ثبت جالساً , وأتمّوا لأنفسهم , ثمّ سلَّم بهم. (¬1) قال المصنِّف: الرجل الذي صلَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , هو سهل بن أبي حثمة. قوله: (عن يزيد بن رومان) بضم الراء. قوله: (عن صالح بن خوّاتٍ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو وآخره مثنّاة. أي: ابن جبير بن النّعمان الأنصاريّ. وصالح تابعيّ ثقة ليس له في البخاريّ إلاَّ هذا الحديث الواحد. وأبوه أخرج له البخاريّ في الأدب المفرد، وهو صحابيّ جليل أوّل مشاهده أحدٌ , ومات بالمدينة سنة أربعين. قوله: (صلاة ذات الرّقاع) هذه الغزوة اختلف فيها متى كانت؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3900) عن قتيبة بن سعيد , مسلم (842) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن يزيد بن رومان به. وأخرجه البخاري (3902) ومسلم (842) من طرق عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوَّات عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه -.

، واختلف في سبب تسميتها بذلك. وقد جنح البخاريّ: إلى أنّها كانت بعد خيبر، واستدلَّ لذلك بحديث أبي موسى: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسمِّيت غزوة ذات الرقاع، لِمَا كنا نعصب من الخرق على أرجلنا. متفق عليه. وهو استدلال صحيح، والدّليل عليه أنّ أبا موسى إنّما قدم من الحبشة بعد فتح خيبر. ففي البخاري في حديث طويل " قال أبو موسى: فوافقنا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر " وإذا كان كذلك. ثبت أنّ أبا موسى شهد غزوة ذات الرّقاع. ومع ذلك فذكرها البخاري قبْل خيبر , فلا أدري هل تعمّد ذلك تسليماً لأصحاب المغازي أنّها كانت قبلها؟. أو أنّ ذلك من الرّواة عنه؟. أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرّقاع اسماً لغزوتين مختلفتين. كما أشار إليه البيهقيّ.؟ على أنّ أصحاب المغازي - مع جزمهم بأنّها كانت قبل خيبر - مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق. أنّها بعد بني النّضير وقبل الخندق سنة أربع. قال ابن إسحاق: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة بني النّضير شهر ربيع وبعض جمادى - يعني من سنته - وغزا نجداً يريد بني محارب

وبني ثعلبة من غطفان، حتّى نزل نخلاً وهي غزوة ذات الرّقاع. وعند ابن سعد وابن حبّان. أنّها كانت في المحرّم سنة خمس. وأمّا أبو معشر. فجزم بأنّها كانت بعد بني قريظة والخندق، وهو موافق لصنيع البخاري، وقد ذكرنا أنّ غزوة قريظة كانت في ذي القعدة سنة خمس فتكون ذات الرّقاع في آخر السّنة وأوّل التي تليها. وأمّا موسى بن عقبة. فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرّقاع، لكن تردّد في وقتها , فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها. وهذا التّردّد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنّها بعد غزوه بني قريظة، لأنّ صلاة الخوف في غزوة الخندق لَم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرّقاع فدلَّ على تأخّرها بعد الخندق. وقد قيل إنّ الغزوة التي شهدها أبو موسى - وسمّيت ذات الرّقاع - غير غزوة ذات الرّقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف، لأنّ أبا موسى قال في روايته " إنّهم كانوا ستّة أنفس " والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف كان المسلمون فيها أضعاف ذلك. والجواب عن ذلك: أنّ العدد الذي ذكره أبو موسى محمولٌ على من كان موافقاً له من الرّماة. لا أنّه أراد جميع من كان مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، واستدل على التّعدّد أيضاً بقول أبي موسى إنّها سُمّيت ذات الرّقاع " لِمَا لفّوا في أرجلهم من الخرق ".

وأهل المغازي ذكروا في تسميتها بذلك أموراً غير هذا. قال ابن هشام وغيره: سُمّيت بذلك لأنّهم رقّعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجرٍ بذلك الموضع يقال له ذات الرّقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرّقاع، وقيل: لأنّ خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبّان. وقال الواقديّ: سُمّيت بجبلٍ هناك فيه بقعٌ، وهذا لعله مستند ابن حبّان , ويكون قد تصحّف جبلٌ بخيلٍ. وبالجملة. فقد اتّفقوا على غير السّبب الذي ذكره أبو موسى، لكن ليس ذلك مانعاً من اتّحاد الواقعة ولازماً للتّعدّد، وقد رجّح السّهيليّ السّبب الذي ذكره أبو موسى، وكذلك النّوويّ , ثمّ قال: ويحتمل أن تكون سُمّيت بالمجموع. وأغرب الدّاوديّ , فقال: سُمّيت ذات الرّقاع لوقوع صلاة الخوف فيها. فسمّيت بذلك لترقيع الصّلاة فيها. وممّا يدلّ على التّعدّد. أنّه لَم يتعرّض أبو موسى في حديثه إلى أنّهم صلوا صلاة الخوف ولا أنّهم لقوا عدوّاً، ولكنّ عدم الذّكر لا يدلّ على عدم الوقوع، فإنّ أبا هريرة في ذلك نظير أبي موسى , لأنّه إنّما جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأسلم , والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، ومع ذلك فقد ذكر في حديثه , أنّه صلَّى مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في غزوة نجد. وكذلك عبد الله بن عمر ذكر أنّه صلَّى مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بنجدٍ، وقد تقدّم أنّ أوّل مشاهده الخندق , فتكون ذات الرّقاع بعد

الخندق. قوله: (عمّن صلَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري " عمّن شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " , قيل: إنّ اسم هذا المُبهم سهل بن أبي حثمة، لأنّ القاسم بن محمّد روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوّاتٍ عن سهل بن أبي حثمة، وهذا هو الظّاهر من رواية البخاريّ. ولكنّ الرّاجح أنّه أبوه خوّات بن جبير، لأنّ أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان - شيخ مالك فيه- فقال: عن صالح بن خوّاتٍ عن أبيه. أخرجه ابن منده في " معرفة الصّحابة " من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقيّ من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمّد عن صالح بن خوّاتٍ عن أبيه. وجزم النّوويّ في تهذيبه. بأنّه خوّات بن جبير. وقال: إنّه محقّق من رواية مسلم وغيره. قلت: وسبقه لذلك الغزّاليّ , فقال: إنّ صلاة ذات الرّقاع في رواية خوّات بن جبير. وقال الرّافعيّ في شرح الوجيز: اشتهر هذا في كتب الفقه، والمنقول في كتب الحديث رواية صالح بن خوّات عن سهل بن أبي حثمة وعمّن صلَّى مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: فلعل المبهم هو خوّات والد صالح. قلت: وكأنّه لَم يقف على رواية خوّات التي ذكرتها. وبالله التّوفيق. ويحتمل: أنّ صالحاً سمعه من أبيه ومن سهل بن أبي حثمة. فلذلك

يُبهمه تارة ويُعيّنه أخرى، إلاَّ أنّ تعيين كونها كانت ذات الرّقاع إنّما هو في روايته عن أبيه , وليس في رواية صالح عن سهل أنّه صلَّاها مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وينفع هذا من استبعاد أن يكون سهل بن أبي حثمة كان في سنّ من يخرج في تلك الغزاة، فإنّه لا يلزم من ذلك أن لا يرويها فتكون روايته إيّاها مرسل صحابيّ، فبهذا يقوى تفسير الذي صلَّى مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخوّاتٍ. والله أعلم. قوله: (وطائفة وجاه العدوّ) وجاه بكسر الواو وبضمّها , أي: مقابل. قوله: (فصلَّى بالتي معه ركعة , ثمّ ثبت قائماً وأتمّوا لأنفسهم) هذه الكيفيّة تخالف الكيفيّة التي في حديث جابرٍ في عدد الرّكعات (¬1)، وتوافق الكيفيّة التي في حديث ابن عبّاس (¬2) في ذلك، لكن تخالفها في كونه - صلى الله عليه وسلم - ثبت قائماً حتّى أتمّت الطّائفة لأنفسها ركعة أخرى، وفي أنّ الجميع استمرّوا في الصّلاة حتّى سلَّموا بسلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة صلاة الخوف كيفيّات. حملها بعض العلماء على اختلاف الأحوال. وحملها آخرون على التّوسّع والتّخيير. ¬

_ (¬1) حديث جابر هو الآتي بعد هذا إن شاء الله. (¬2) حديث ابن عباس. أخرجه البخاري في صحيحه (944) قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقام الناس معه، فكبَّر وكبَّروا معه , وركع وركع ناسٌ منهم معه، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية، فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم , وأتت الطائفة الأخرى، فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً.

وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفيّة , وافقه الشّافعيّ وأحمد وداود على ترجيحها. لسلامتها من كثرة المخالفة , ولكونها أحوط لأمر الحرب، مع تجويزهم الكيفيّة التي في حديث ابن عمر. ونُقل عن الشّافعيّ: أنّ الكيفيّة التي في حديث ابن عمر منسوخة , ولَم يثبت ذلك عنه. وظاهر كلام المالكيّة عدم إجازة الكيفيّة التي في حديث ابن عمر. واختلفوا في كيفيّة رواية سهل بن أبي حثمة في موضعٍ واحدٍ. وهو أنّ الإمام. هل يسلم قبل أن تأتي الطّائفة الثّانية بالرّكعة الثّانية؟ أو ينتظرها في التّشهّد ليسلّموا معه؟. فبالأوّل قال المالكيّة، وزعم ابن حزمٍ , أنّه لَم يرد عن أحدٍ من السّلف القول بذلك. والله أعلم. ولَم تفرّق المالكيّة والحنفيّة. حيث أخذوا بالكيفيّة التي في هذا الحديث بين أن يكون العدوّ في جهة القبلة أم لا. وفرّق الشّافعيّ والجمهور. فحملوا حديث سهلٍ على أنّ العدوّ كان في غير جهة القبلة. فلذلك صلَّى بكل طائفةٍ وحدها جميع الرّكعة. وأمّا إذا كان العدوّ في جهة القبلة فعلى ما في حديث ابن عبّاسٍ , أنّ الإمام يُحرم بالجميع ويركع بهم، فإذا سجد سجد معه صفٌّ وحرس صفٌّ. إلخ. ووقع عند مسلمٍ من حديث جابرٍ " صفّنا صفّين والمشركون بيننا وبين القبلة ".

وقال السّهيليّ: اختلف العلماء في التّرجيح. فقالت طائفةٌ: يعمل منها بما كان أشبه بظاهر القرآن. وقالت طائفةٌ: يجتهد في طلب الأخير منها فإنّه النّاسخ لِمَا قبله. وقالت طائفة: يؤخذ بأصحّها نقلاً وأعلاها رواة. وقالت طائفة: يؤخذ بجميعها على حساب اختلاف أحوال الخوف، فإذا أشتدّ الخوف أخذ بأيسرها مؤنةً، والله أعلم. قوله: (الرجل الذي صلَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سهل بن أبي حثمة) بفتح المهملة وسكون المثنّاة. واسمه عبد الله , وقيل: عامر , وقيل: اسم أبيه عبد الله وأبو حثمة جدّه. واسمه عامر بن ساعدة، وهو أنصاريّ من بني الحارث بن الخزرج. اتّفق أهل العلم بالأخبار على أنّه كان صغيراً في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , إلاَّ ما ذكر ابن أبي حاتم عن رجلٍ من ولد سهلٍ , أنّه حدّثه أنّه بايع تحت الشّجرة , وشهد المشاهد إلاَّ بدراً , وكان الدّليل ليلة أحدٍ. وقد تعقّبَ هذا جماعةٌ من أهل المعرفة , وقالوا: إنّ هذه الصّفة لأبيه، وأمّا هو فمات النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، وممّن جزم بذلك الطّبريّ وابن حبّان وابن السّكن وغير واحد. وعلى هذا فتكون روايته لقصّة صلاة الخوف مرسلة , ويتعيّن أن يكون مراد صالح بن خوّاتٍ ممّن شهد مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف غيره، والذي يظهر أنّه أبوه كما تقدّم. والله أعلم.

الحديث المائة وعشرة

الحديث المائة وعشرة 159 - عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ - رضي الله عنه - , قال: شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوف فصففنا صفّين خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والعدوّ بيننا وبين القبلة , وكبّر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وكبّرنا جميعاً , ثمّ ركع وركعنا جميعاً , ثمّ رفع رأسه من الرّكوع ورفعنا جميعاً , ثمّ انحدر بالسّجود والصّفّ الذي يليه , وقام الصّفّ المؤخّر في نحر العدوّ , فلمّا قضى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - السّجود , وقام الصّفّ الذي يليه: انحدر الصّفّ المؤخّر بالسّجود , وقاموا , ثمّ تقدّم الصّفّ المؤخّر, وتأخّر الصّفّ المقدّم , ثمّ ركع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعاً , ثمّ رفع رأسه من الرّكوع ورفعنا جميعاً , ثمّ انحدر بالسّجود , والصّفّ الذي يليه - الذي كان مؤخّراً في الرّكعة الأولى - فقام الصّفّ المؤخّر في نحر العدوّ , فلمّا قضى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - السّجود والصّفّ الذي يليه , انحدر الصّفّ المؤخّر بالسّجود فسجدوا , ثمّ سلَّم - صلى الله عليه وسلم - وسلَّمنا جميعاً. قال جابرٌ: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم. وذكره مسلمٌ بتمامه. (¬1) وذكر البخاريّ طرفاً منه: وأنّه صلَّى صلاة الخوف مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة السّابعة , غزوة ذات الرّقاع. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (840) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر به. ورواه أيضاً (840) من طريق أبي الزبير عن جابر. وسيذكره الشارح.

قوله: (وذكر البخاريّ طرفاً منه) قال البخاري: وقال لي عبد الله بن رجاء، أخبرنا عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .. الحديث " كذا لأبي ذرّ، ولغيره " قال عبد الله بن رجاء " ليس فيه " لي ". وعبد الله بن رجاء هذا هو الغدانيّ البصري. قد سمع منه البخاريّ، وأمّا عبد الله بن رجاء المكّيّ فلم يُدركه. وقد وصله أبو العبّاس السّرّاج في " مسنده " المبوّب فقال: حدّثنا جعفر بن هاشم حدّثنا عبد الله بن رجاء. فذكره. وعمران القطّان بصريٌّ لَم يخرج له البخاريّ إلاَّ استشهاداً. قوله: (صلَّى صلاة الخوف) زاد السّرّاج " أربع ركعاتٍ، صلَّى بهم ركعتين ثمّ ذهبوا ثمّ جاء أولئك فصلَّى بهم ركعتين ". وللبخاري من وجهٍ آخر عن يحيى بن أبي كثيرٍ بسنده هذا. بزيادةٍ فيه (¬1). وذلك كلّه في غزوة ذات الرّقاع. ولجابرٍ حديثٌ آخر فيه ذكر صلاة الخوف على صفةٍ أخرى. ¬

_ (¬1) أورده البخاري في " صحيحه " معلَّقاً (4136) وقال أبان: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجلٌ من المشركين. وسيف النبي - صلى الله عليه وسلم - معلق بالشجرة، فاخترطه، فقال: تخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله. فتهدَّده أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقيمت الصلاة، فصلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع، وللقوم ركعتان. ووَصَله مسلم (843) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن أبان به. ومقصود الشارح بالزيادة. قصة الرجل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قوله: (في الغزوة السّابعة) هي من إضافة الشّيء إلى نفسه على رأيٍ، أو فيه حذفٌ تقديره غزوة السّفرة السّابعة. وقال الكرمانيّ وغيره: غزوة السّنة السّابعة. أي: من الهجرة. قلت: وفي هذا التّقدير نظرٌ، إذ لو كان مراداً لكان هذا نصّاً في أنّ غزوة ذات الرّقاع تأخّرت بعد خيبر، ولَم يحتج البخاري إلى تكلّف الاستدلال لذلك بقصّة أبي موسى. نعم. في التّنصيص على أنّها سابع غزوة من غزوات النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. تأييد لِمَا ذهب إليه البخاريّ من أنّها بعد خيبر، فإنّه إن كان المراد الغزوات التي خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها بنفسه مطلقاً وإن لَم يقاتل. فإنّ السّابعة منها تقع قبل أحد، ولَم يذهب أحدٌ إلى أنّ ذات الرّقاع قبل أحدٍ. إلاَّ ما كان من تردّد موسى بن عقبة. وفيه نظرٌ. لأنّهم متّفقون على أنّ صلاة الخوف متأخّرة عن غزوة الخندق، فتعيّن أن تكون ذات الرّقاع بعد بني قريظة , فتعيّن أنّ المراد الغزوات التي وقع فيها القتال، والأولى منها بدر والثّانية أحدٌ والثّالثة الخندق والرّابعة قريظة والخامسة المريسيع والسّادسة خيبر، فيلزم من هذا أن تكون ذات الرّقاع بعد خيبر للتّنصيص على أنّها السّابعة، فالمراد تاريخ الوقعة لا عدد المغازي. وهذه العبارة أقرب إلى إرادة السّنة من العبارة التي وقعت عند أحمد بلفظ " وكانت صلاة الخوف في السّابعة " فإنّه يصحّ أن يكون التّقدير في الغزوة السّابعة. كما يصحّ في غزوة السّنة السّابعة.

تكميلٌ: قال البخاري: وقال معاذ (¬1): حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بنخل، فذكر صلاة الخوف ". أورده مختصراً معلَّقاً , لأنَّ غرضه الإشارة إلى أنَّ روايات جابر متفقة على أنَّ الغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة ذات الرقاع. لكن فيه نظرٌ , لأنَّ سياق رواية هشام عن أبي الزبير هذه تدلُّ على أنه حديث آخر في غزوة أخرى , وبيان ذلك أنَّ في هذا الحديث عند الطيالسي وغيره " أنَّ المشركين , قالوا: دعوهم فإنَّ لهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم , قال: فنزل جبريل فأخبره , فصلَّى بأصحابه العصر. وصفهم صفين " فذكر صفة صلاة الخوف , وهذه القصة إنما هي في غزوة عسفان. وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير بلفظٍ يدل على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع , ولفظه عن جابر قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوماً من جهينة , فقاتلونا قتالاً شديداً , فلمَّا أنْ صلينا الظهر قال: المشركون لو مِلنا عليهم ميلة ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في " الفتح " (7/ 528): قوله (وقال معاذ حدثنا هشام) كذا للأكثر. وعند النسفي , وقال: معاذ بن هشام حدثنا هشام , وفيه ردٌّ على أبي نعيم ومَن تبِعه في الجزم بأنَّ معاذاً هذا هو ابن فضالة شيخ البخاري , ومعاذ بن هشام ثقة صاحب غرائب , وقد تابعه ابنُ علية عن أبيه هشام. وهو الدستوائي. أخرجه الطبري في " تفسيره " , وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في " مسنده " عن هشام عن أبي الزبير. ولمعاذ بن هشام عن أبيه فيه إسناد آخر. أخرجه الطبري عن بُندار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر. انتهى

واحدة لأفظعناهم , فأَخبر جبريلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك , قال: وقالوا: ستأتيهم صلاة هي أحبُّ إليهم من الأولاد. فذكر الحديث. وروى أحمد والترمذي وصحَّحه والنسائي من طريق عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بين ضجنان وعسفان , فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم " فذكر الحديث في نزول جبريل لصلاة الخوف. وروى أحمد وأصحاب السنن وصحَّحه ابن حبان من حديث أبي عياش الزرقي قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان فصلَّى بنا الظهر , وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد , فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة , ثم قال: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم. فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر , فصلَّى بنا العصر. ففرقنا فرقتين الحديث " وسياقه نحو رواية زهير عن أبي الزبير عن جابر , وهو ظاهر في اتحاد القصة. وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: لَمَّا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية لقيته بعسفان , فوقفت بإزائه وتعرضت له , فصلَّى بأصحابه الظهر فهممنا أن نغير عليهم فلم يعزم لنا , فأطلع الله نبيه على ذلك , فصلَّى بأصحابه العصر صلاة الخوف. الحديث " وهو ظاهر فيما قررته أنَّ صلاة الخوف بعسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع , وأنَّ جابراً روى القصتين معاً. فأما رواية أبي الزبير عنه ففي قصة عسفان , وأما رواية أبي سلمة

ووهب بن كيسان وأبي موسى المصري عنه. ففي غزوة ذات الرقاع. وهي غزوة محارب وثعلبة. وإذا تقرَّر أنَّ أول ما صُلّيت صلاة الخوف في عسفان , وكانت في عمرة الحديبية - وهي بعد الخندق وقريظة - وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع - وهي بعد عسفان - فتعيَّن تأخُّرها عن الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضاً , فيقوى القولُ بأنها بعد خيبر , لأنَّ غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية. وأما قول الغزالي: إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات. فهو غلط واضح. وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره. وقال بعض من انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صُلّيت فيها صلاة الخوف. وهذا انتصار مردودٌ أيضاً. لِمَا أخرجه أبو داود والنسائي وصححه بن حبان من حديث أبي بكرة , أنه صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف. وإنما أسلم أبو بكرة في غزوة الطائف باتفاق , وذلك بعد غزوة ذات الرقاع قطعاً , وإنما ذكرت هذا استطراداً لتكمل الفائدة.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز الجنائز: بفتح الجيم لا غير. جمع جنازة بالفتح والكسر لغتان. قال ابن قتيبة وجماعة: الكسر أفصح , وقيل: بالكسر للنعش وبالفتح للميت , وقالوا: لا يقال نعشٌ إلا إذا كان عليه الميت. تنبيه: أورد البخاري وغيره كتاب الجنائز بين الصلاة والزكاة لتعلّقها بهما. ولأنَّ الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمّه الصلاة عليه لِما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب , ولا سيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه.

الحديث الأول

الحديث الأول 160 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: نَعَى النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النّجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه , وخرج بهم إلى الْمُصلَّى , فصفَّ بهم , وكبّر أربعاً. (¬1) قوله: (نعى النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -) ترجم عليه البخاري " الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه ". قال ابن رشيد: وفائدة هذه التّرجمة الإشارة إلى أنّ النّعي ليس ممنوعاً كلّه، وإنّما نهي عمّا كان أهل الجاهليّة يصنعونه , فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميّت على أبواب الدّور والأسواق. وقال ابن المرابط: مراده أنّ النّعي الذي هو إعلام النّاس بموت قريبهم مباح وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمّة لِمَا يترتّب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصّلاة عليه والدّعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه , وما يترتّب على ذلك من الأحكام. وأمّا نعي الجاهليّة , فقال سعيد بن منصور: أخبرنا ابن عُليّة عن ابن عون قال: قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون النّعي؟ قال: نعم. قال ابن عون: كانوا إذا توفّي الرّجل ركب رجلٌ دابّة ثمّ صاح في النّاس: أنعي فلاناً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1188 , 1255 , 1263 , 1268 , 3667 , 3668) ومسلم (951) من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وبه إلى ابن عون قال: قال ابن سيرين: لا أعلم بأساً أن يُؤذِن الرّجل صديقه وحميمه. وحاصله. أنّ محض الإعلام بذلك لا يُكره، فإن زاد على ذلك فلا. وقد كان بعض السّلف يشدّد في ذلك حتّى كان حذيفة إذا مات له الميّت , يقول: لا تؤذنوا به أحداً، إنّي أخاف أن يكون نعياً، إنّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذنيَّ هاتين , ينهى عن النّعي. أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه بإسنادٍ حسن. قال ابن العربيّ: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى: إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصّلاح , فهذا سنّة. الثّانية: دعوة الحفل للمفاخرة , فهذه تكره. الثّالثة: الإعلام بنوعٍ آخر كالنّياحة ونحو ذلك , فهذا يحرم. قال الزّين بن المنير: وجه دخول قصّة النّجاشيّ كونه كان غريباً في ديار قومه فكان للمسلمين من حيث الإسلام أخاً , فكانوا أخصّ به من قرابته. قلت: ويحتمل. أن يكون بعض أقرباء النّجاشيّ كان بالمدينة حينئذٍ ممّن قدم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة كذي مخمر ابن أخي النّجاشيّ. قوله: (النّجاشيّ) (¬1) زاد الشيخان " صاحب الحبشة " وهو بفتح النّون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثمّ ياء ثقيلة كياء ¬

_ (¬1) سيأتي في حديث جابر بعده إن شاء الله التصريح باسمه.

النّسب. وقيل: بالتّخفيف ورجّحه الصّغانيّ، وأفاد ابن التّين , أنّه بسكون الياء. يعني: أنّها أصليّة لا ياء النّسب، وحكى ابن دحية كسر نونه. وهو لقب مَن مَلَكَ الحبشة، وحكى المطرّزيّ تشديد الجيم عن بعضهم , وخطّأه. قوله: (في اليوم الذي مات فيه) وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكّة كما ذكره البيهقيّ في " دلائل النّبوّة ". قوله: (وخرج بهم إلى الْمُصلّى) زاد ابن ماجه من طريق عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة " فخرج وأصحابه إلى البقيع , فصفّنا خلفه ". والمراد بالبقيع بقيع بطحان , أو يكون المراد بالمصلى موضعاً معدّاً للجنائز ببقيع الغرقد غير مُصلّى العيدين , والأوّل أظهر. وحكى ابن بطّال عن ابن حبيب: أنّ مُصلّى الجنائز بالمدينة كان لاصقاً بمسجد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ناحية جهة المشرق. انتهى قال ابن بطّال: أومأ البخاري (¬1) إلى الرّدّ على عطاء حيث ذهب إلى أنّه لا يشرع فيها تسوية الصّفوف، يعني كما رواه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ قال: قلت لعطاءٍ: أحقّ على النّاس أن يسوّوا صفوفهم على الجنائز كما يسوّونها في الصّلاة؟ قال: لا، إنّما يكبّرون ويستغفرون. ¬

_ (¬1) بوَّب البخاري على حديث الباب. فقال (باب الصفوف على الجنازة).

وأشار البخاري بصيغة الجمع إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعاً: من صلَّى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب. حسّنه التّرمذيّ. وصحّحه الحاكم (¬1) , وفي رواية له " إلاَّ غفر له ". قال الطّبريّ: ينبغي لأهل الميّت إذا لَم يخشوا عليه التّغيّر أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث. انتهى. وتعقّبَ بعضهم التّرجمة: بأنّ أحاديث الباب ليس فيها صلاة على جنازة، وإنّما فيها الصّلاة على الغائب أو على من في القبر. وأجيب: بأنّ الاصطفاف إذا شرع والجنازة غائبة , ففي الحاضرة أولى. وأجاب الكرمانيّ: بأنّ المراد بالجنازة في التّرجمة الميّت , سواء كان مدفوناً أو غير مدفون، فلا منافاة بين التّرجمة والحديث. قوله: (فكبّر أربعاً) في رواية لهما " وكبَّر عليه أربع تكبيرات ". واختلف السّلف في ذلك. فروى مسلم عن زيد بن أرقم , أنّه يكبّر خمساً , ورفع ذلك إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى ابن المنذر عن ابن مسعود , أنّه صلَّى على جنازة رجل من بني أسد , فكبّر خمساً. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (3/ 238): لكن في إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلّس , وقد رواه بالعنعنة , وهي عِلَّة مؤثرة في حق المدلِّس , وعليه لا تقوم بهذا الحديث حجة حتى يوجد ما يشهد له بالصحة. والله أعلم

وروى ابن المنذر وغيره عن عليّ , أنّه كان يكبّر على أهل بدر ستّاً , وعلى الصّحابة خمساً , وعلى سائر النّاس أربعاً. وروى أيضاً بإسنادٍ صحيح عن أبي معبد , قال: صليت خلف ابن عبّاس على جنازة , فكبّر ثلاثاً. واختلف على أنس في ذلك. فروى عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة عن أنس , أنّه كبّر على جنازة ثلاثاً , ثمّ انصرف ناسياً، فقالوا: يا أبا حمزة إنّك كبّرت ثلاثاً , فقال: صُفّوا فصفّوا، فكبّر الرّابعة. وروي عن أنس الاقتصار على ثلاث. قال ابن أبي شيبة: حدّثنا معاذ بن معاذ عن عمران بن حدير قال: صلّيت مع أنس بن مالك على جنازة , فكبّر عليها ثلاثاً لَم يزد عليها. وروى ابن المنذر من طريق حمّاد بن سلمة عن يحيى بن أبي إسحاق قال: قيل لأنسٍ: إنّ فلاناً كبّر ثلاثاً , فقال: وهل التّكبير إلاَّ ثلاثاً؟ انتهى. قال مغلطاي: إحدى الرّوايتين وهْمٌ. قلت: بل يمكن الجمع بين ما اختلف فيه على أنس. إمّا بأنّه كان يرى الثّلاث مجزئة والأربع أكمل منها. وإمّا بأنّ من أطلق عنه الثّلاث لَم يذكر الأولى لأنّها افتتاح الصّلاة , كما روى سعيد بن منصور من طريق ابن عليّة عن يحيى بن أبي إسحاق , أنّ أنساً قال: أو ليس التّكبير ثلاثاً؟ فقيل له: يا أبا حمزة

التّكبير أربعاً. قال: أجل، غير أنّ واحدة هي افتتاح الصّلاة. وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال: يزيد في التّكبير على أربع إلاَّ ابن أبي ليلى. انتهى. وفي المبسوط للحنفيّة قيل: إنّ أبا يوسف قال: يكبّر خمساً. وسيأتي القول عن أحمد في ذلك. ثمّ أورد البخاري حديث أبي هريرة في الصّلاة على النّجاشيّ، وقد تقدّم الجواب عن إيراد من تعقّبه بأنّ الصّلاة على النّجاشيّ صلاة على غائب لا على جنازة. ومحصّل الجواب: أنّ ذلك بطريق الأولى. وقد روى ابن أبي داود في " الأفراد " من طريق الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على جنازة فكبّر أربعاً. وقال: لَم أر في شيء من الأحاديث الصّحيحة أنّه كبّر على جنازة أربعاً إلاَّ في هذا. قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أنّ التّكبير أربع، وفيه أقوال أخر، فذكر ما تقدّم. قال: وذهب بكر بن عبد الله المزنيّ إلى أنّه لا ينقص من ثلاث ولا يزاد على سبع. وقال أحمد مثله , لكن قال: لا ينقص من أربع. وقال ابن مسعود: كبِّر ما كبَّر الإمام. قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثمّ ساق بإسنادٍ صحيح إلى سعيد بن المسيّب قال: كان التّكبير أربعاً وخمساً، فجمع عمر النّاس

على أربع. وروى البيهقيّ بإسنادٍ حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبّرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً وستّاً وخمساً وأربعاً، فجمع عمر النّاس على أربع كأطول الصّلاة. تكميل: روى البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال: صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنه - على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب قال: لتعلموا أنها سنة. ليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة , وقد وقع التصريح به في حديث جابر. أخرجه الشافعي بلفظ " وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى " أفاده شيخنا في شرح الترمذي , وقال: إنَّ سنده ضعيف. وروى عبد الرزاق والنسائي عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف. قال: السُّنة في الصلاة على الجنازة أنْ يكبر ثم يقرأ بأم القرآن ثم يُصلِّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - , ثم يُخلص الدعاء للميت , ولا يقرأ إلاَّ في الأولى. إسناده صحيح وروى الحاكم أيضا من طريق شرحبيل بن سعد عن ابن عباس , أنه صلَّى على جنازة بالأبواء فكبَّر , ثم قرأ الفاتحة رافعاً صوته , ثم صلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهمَّ عبدك وابن عبدك أصبح فقيراً إلى رحمتك , وأنت غنيٌ عن عذابه. إن كان زاكياً فزكِّه , وإنْ كان مخطئاً فاغفر له , اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده , ثم كبَّر ثلاث تكبيرات ثم انصرف. فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ عليها. أي جهراً ,

إلاَّ لتعلموا أَنَّها سُنة. قال الحاكم: شرحبيل لم يحتجّ به الشيخان , وإنَّما أخرجته , لأنه مفسِّر للطرق المتقدمة. انتهى. وشرحبيل مختلف في توثيقه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 161 - عن جابر - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على النّجاشيّ , فكنت في الصّفّ الثّاني , أو الثّالث. (¬1) قوله: (صلَّى على النّجاشيّ) وللبخاري من رواية هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء: قد توفي اليوم رجلٌ صالح من الحبش - بفتح المهملة والموحّدة بعدها معجمة - وفي رواية مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن ابن جريجٍ " مات اليوم عبدٌ لله صالح أصحمة ". وللبخاري من طريق ابن عيينة عن ابن جريجٍ " فقوموا فصلّوا على أخيكم أصْحَمة " بمهملتين. وزن أربعة وللبخاري عن محمد بن سنان عن سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر: صلَّى على أصْحَمة النجاشي. قال البخاري عَقِبه: وقال يزيد بن هارون وعبد الصمد عن سليم " أصحمة " وتابعه عبد الصمد. انتهى ووقع في رواية المستملي: وقال يزيد عن سليمٍ " أصحمة " وتابعه عبد الصّمد. أمّا رواية يزيد. فوصلها البخاري ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1254 , 1257 , 3664 , 3665) ومسلم (952) من طرق عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه -. واللفظ للبخاري. وأخرجه البخاري (1269 , 3666) ومسلم (952) من طريق سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء، عن جابر. ولمسلم (952) من رواية أبي الزبير عن جابر نحوه.

عنه، وأمّا رواية عبد الصّمد. فوصلها الإسماعيليّ من طريق أحمد بن سعيد عنه. تنْبيه: وقع في جميع الطّرق التي اتّصلت لنا من البخاريّ " أصحمة " بمهملتين بوزن أفعلة. مفتوح العين في المسند والمعلَّق معاً. وفيه نظرٌ , لأنّ إيراد البخاري يشعر بأن يزيد خالف محمّد بن سنان، وأنّ عبد الصّمد تابع يزيد، ووقع في مصنّف ابن أبي شيبة عن يزيد " صحمة " بفتح الصّاد وسكون الحاء فهذا متّجه. ويتحصّل منه. أنّ الرّواة اختلفوا في إثبات الألف وحذفها. وحكى الإسماعيليّ , أنّ في رواية عبد الصّمد " أصخمة " بخاءٍ معجمة وإثبات الألف، قال: وهو غلط , فيحتمل أن يكون هذا محلّ الاختلاف الذي أشار إليه البخاريّ. وحكى كثيرٌ من الشّرّاح , أنّ رواية يزيد ورفيقه " صحمة " بالمهملة بغير ألف. وحكى الكرمانيّ , أنّ في بعض النّسخ في رواية محمّد بن سنان " أصحبة " بموحّدةٍ بدل الميم. قوله: (فكنت في الصّفّ الثّاني , أو الثّالث) ولمسلم من طريق أيّوب عن أبي الزّبير عن جابر قصّة الصّلاة على النّجاشيّ , فقال: فقمنا فصفّنا صفّين. فعُرِف بهذا أنّ من روى عنه كنت في الصّفّ الثّاني أو الثّالث شكّ. هل كان هنالك صفّ ثالث أم لا؟.

وللبخاري عن قتادة عن عطاء عن جابر بزيادة " فصفّنا وراءه " وله أيضاً " فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه , ونحن صفوف " ووقع في حديث أبي هريرة الماضي بلفظ " فصفّوا خلفه ". وفي الحديث دلالة على أنّ للصّفوف على الجنازة تأثيراً - ولو كان الجمع كثيراً - لأنّ الظّاهر أنّ الذين خرجوا معه - صلى الله عليه وسلم - كانوا عدداً كثيراً، وكان الْمُصلَّى فضاء ولا يضيق بهم لو صفّوا فيه صفّاً واحداً، ومع ذلك فقد صفّهم. وهذا هو الذي فهمه مالك بن هبيرة الصّحابيّ الْمُقدَّم ذكره , فكان يصفّ من يحضر الصّلاة على الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلّوا أو كثروا، ويبقى النّظر فيما إذا تعدّدت الصّفوف والعدد قليل، أو كان الصّفّ واحداً والعدد كثيراً. أيّهما أفضل؟. وفي قصّة النّجاشيّ عَلَمٌ من أعلام النّبوّة، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم بموته في اليوم الذي مات فيه، مع بُعد ما بين أرض الحبشة والمدينة. واستدل به على منع الصّلاة على الميّت في المسجد , وهو قول الحنفيّة والمالكيّة. لكن قال أبو يوسف: إن أُعدّ مسجد للصّلاة على الموتى لَم يكن في الصّلاة فيه عليهم بأس. قال النّوويّ: ولا حجّة فيه، لأنّ الممتنع عند الحنفيّة إدخال الميّت المسجد لا مجرّد الصّلاة عليه، حتّى لو كان الميّت خارج المسجد جازت الصّلاة عليه لمن هو داخله.

وقال ابن بزيزة وغيره: استدل به بعض المالكيّة وهو باطلٌ , لأنّه ليس فيه صيغة نهي، ولاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلَّى لأمرٍ غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على سهيل بن بيضاء في المسجد (¬1)، فكيف يترك هذا الصّريح لأمرٍ محتمل؟. بل الظّاهر أنّه إنّما خرج بالمسلمين إلى الْمُصلَّى لقصد تكثير الجمع الذين يصلّون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض النّاس لَم يدْرِ كونه أسلم. فقد روى ابن أبي حاتم في " التّفسير " من طريق ثابت , والدّارقطنيّ في " الأفراد " والبزّار من طريق حميدٍ كلاهما عن أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا صلَّى على النّجاشيّ , قال بعض أصحابه: صلَّى على عِلْج من الحبشة، فنزلت (وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل إليكم) الآية. وله شاهد في معجم الطّبرانيّ " الكبير " من حديث وحشيّ بن حرب , وآخر عنده في " الأوسط " من حديث أبي سعيد , وزاد فيه. أنّ الذي طعن بذلك فيه كان منافقاً. واستدل به. وهو القول الأول: على مشروعيّة الصّلاة على الميّت الغائب عن البلد. بذلك قال الشّافعيّ وأحمد وجمهور السّلف، حتّى قال ابن حزم: لَم يأت عن أحدٍ من الصّحابة منعه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (2297) من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال الشّافعيّ: الصّلاة على الميّت دعاء له، وهو إذا كان ملفّفاً يُصلِّي عليه. فكيف لا يُدعى له وهو غائب , أو في القبر بذلك الوجه الذي يُدعى له به وهو ملفّف؟. القول الثاني: عن الحنفيّة والمالكيّة. لا يُشرع ذلك. القول الثالث: عن بعض أهل العلم. إنّما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميّت , أو ما قرب منه , لا ما إذا طالت المدّة. حكاه ابن عبد البرّ. القول الرابع: قال ابن حبّان: إنّما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، فلو كان بلد الميّت مستدبر القبلة مثلاً لَم يجز. قال المحبّ الطّبريّ: لَم أر ذلك لغيره , وحجّته حجّة الذي قبله: الجمود على قصّة النّجاشيّ. وستأتي حكاية مشاركة الخطّابيّ لهم في هذا الجمود. وقد اعتذر من لَم يقل بالصّلاة على الغائب عن قصّة النّجاشيّ بأمورٍ: الأول: أنّه كان بأرضٍ لَم يصلِّ عليه بها أحدٌ، فتعيّنت الصّلاة عليه لذلك. ومن ثَمَّ قال الخطّابيّ: لا يُصلَّى على الغائب إلاَّ إذا وقع موته بأرضٍ ليس بها من يُصلِّي عليه. واستحسنه الرّويانيّ من الشّافعيّة. وبه ترجم أبو داود في السّنن " الصّلاة على المسلم يليه أهل الشّرك ببلدٍ آخر ".

وهذا محتمل. إلاَّ أنّني لَم أقف في شيء من الأخبار على أنّه لَم يُصلَّ عليه في بلده أحدٌ. الثاني: قول بعضهم: كشف له - صلى الله عليه وسلم - عنه حتّى رآه، فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميّت رآه ولَم يره المأمومون , ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال. وتعقّبه بعض الحنفيّة: بأنّ الاحتمال كافٍ في مثل هذا من جهة المانع. وكأنّ مستند قائل ذلك ما ذكره الواقديّ في " أسبابه " بغير إسناد عن ابن عبّاس قال: كشف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن سرير النّجاشيّ حتّى رآه. وصلَّى عليه. ولابن حبّان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفّوا خلفه , وهم لا يظنّون إلاَّ أنّ جنازته بين يديه. أخرجه من طريق الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المُهلَّب عنه. ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره عن يحيى " فصلَّينا خلفه. ونحن لا نرى إلاَّ أنّ الجنازة قدّامنا ". الثالث: من الاعتذارات أيضاً. أنّ ذلك خاصّ بالنّجاشيّ , لأنّه لَم يثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على ميّت غائب غيره. قال المُهلَّب: وكأنّه لَم يثبت عنده قصّة معاوية الليثيّ. وقد ذكرتُ في ترجمته في الصّحابة أنّ خبره قويّ بالنّظر إلى مجموع

طرقه. (¬1) ¬

_ (¬1) قال الشارح في " الإصابة " (6/ 159): معاوية بن معاوية المزني: ويقال: الليثي. ذكره البغوي وجماعة. وقالوا: مات على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وردت قصته من حديث أبي أمامة وأنس مسندة. ومن طريق سعيد بن المسيب والحسن البصري مرسلة. فأخرج الطبراني ومحمد بن أيوب بن الضريس في " فضائل القرآن " وسمويه في " فوائده " وابن منده والبيهقي في " الدلائل " كلهم من طريق محبوب بن هلال عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال: نزَلَ جبرائيل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد مات معاوية بن معاوية المزني. أتحب أن تُصلي عليه؟ قال: نعم. فضرب بجناحيه فلم يبق أَكَمَةٌ ولا شجرةٌ إلاَّ قد تضعضعت فرفع سريره حتى نظر إليه. فصلّى عليه وخلفه صفان من الملائكة كل صف سبعون ألف ملك , فقال: يا جبرائيل بِمَ نال معاوية هذه المنزلة؟ قال: بحب (قل هو الله أحد) وقراءته إياها جائياً وذاهباً وقائماً وقاعداً وعلى كل حال. وأول حديث بن الضريس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشام. ومحبوب. قال أبو حاتم: ليس بالمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرجه ابن سنجر في " مسنده " وابن الأعرابي وابن عبد البر. ورويناه بعلو في " فوائد حاجب الطوسي " كلهم من طريق يزيد بن هارون أنبأنا العلاء أبو محمد الثقفي سمعت أنس بن مالك يقول: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك فطلعت الشمس يوماً بنور وشعاع وضياء لَم نره قبل ذلك فتعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من شأنها إذ أتاه جبريل فقال: مات معاوية بن معاوية الليثي. فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه. قال: بِمَ ذاك؟ قال: بكثرة تلاوته (قل هو الله أحد) ... فذكر نحوه. وفيه: فهل لك أن تصلّي عليه فأقبض لك الأرض؟ قال: نعم. فصلى عليه. والعلاء أبو محمد. هو ابن زيد الثقفي واه. وأخطأ في قوله الليثي. وله طريق ثالثة عن أنس. ذكرها ابن منده من رواية أبي عتاب في " الدلائل " عن يحيى بن أبي محمد عنه. قال: ورواه نوح بن عمرو عن بقية عن محمد بن زياد عن أبي أمامة نحوه. قلت: وأخرجه أبو أحمد الحاكم في " فوائده " والطبراني في " مسند الشاميين " والخلال في " فضائل قل هو الله أحد " وابن عبد البر جميعاً من طريق نوح. فذكر نحوه. وفيه: فوضع جبرائيل جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت حتى نظرنا إلى المدينة. قال ابن حبان في ترجمة العلاء الثقفي من " الضعفاء ". بعد أنْ ذكر له هذا الحديث: سرقَهَ شيخٌ من أهل الشام فرواه عن بقية. فذكره. قلت: فما أدري عَنَى نوحاً أو غيره. فإنه لَم يذكر نوحاً في الضعفاء. وأما طريق سعيد بن المسيب المرسلة. فرويناها في " فضائل القرآن " لابن الضريس من طريق علي بن زيد بن جدعان عنه. وأما طريق الحسن البصري. فأخرجها البغوي وابن منده من طريق صدقة بن أبي سهل عن يونس بن عبيد عن الحسن عن معاوية بن معاوية المزني , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان غازياً بتبوك فأتاه جبريل. فقال: يا محمد هل لك في جنازة معاوية بن معاوية المزني؟ فذكر الحديث. وهذا مرسل. وليس المراد بقوله: " عن " أداة الرواية. وإنما تقدَّم الكلام أنَّ الحسن أخبر عن قصة معاوية المزني. قال ابن عبد البر: أسانيد هذا الحديث ليست بالقوية , ولو أنها في الأحكام لَم يكن في شيء منها حجة. ومعاوية بن مقرن المزني معروف هو وإخوته. وأما معاوية بن معاوية فلا أعرفه. قلت: قد يحتج به من يجيز الصلاة على الغائب , ويدفعه ما ورد أنه رُفعت الحجب حتى شهد جنازته فهذا يتعلق بالأحكام. والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.

واستند مَن قال بتخصيص النّجاشيّ لذلك إلى ما تقدّم من إرادة إشاعة أنّه مات مسلماً , أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته. قال النّوويّ: لو فتح باب هذا الخصوص لانسدّ كثير من ظواهر الشّرع، مع أنّه لو كان شيء ممّا ذكروه لتوفّرت الدّواعي على نقله. وقال ابن العربيّ المالكيّ: قال المالكيّة: ليس ذلك إلاَّ لمحمّدٍ، قلنا: وما عمل به محمّد تعمل به أمّته، يعني لأنّ الأصل عدم الخصوصيّة. قالوا: طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إنّ ربّنا عليه لقادر , وإنّ نبيّنا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلاَّ ما روّيتم، ولا تخترعوا حديثاً من عند أنفسكم، ولا تحدّثوا إلاَّ بالثّابتات ودعوا

الضّعاف، فإنّها سبيل تلافٍ، إلى ما ليس له تلافٍ. وقال الكرمانيّ: قولهم رفع الحجاب عنه ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائباً عن الصّحابة الذين صلوا عليه مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وسبق إلى ذلك الشّيخ أبو حامد في تعليقه، ويؤيّده حديث مجمّع بن جارية - بالجيم والتّحتانيّة - في قصّة الصّلاة على النّجاشيّ , قال: فصففنا خلفه صفّين , وما نرى شيئاً. أخرجه الطّبرانيّ، وأصله في ابن ماجه. لكن أجاب بعض الحنفيّة عن ذلك: من أنّه يصير كالميّت الذي يُصلِّي عليه الإمام وهو يراه ولا يراه المأمومون , فإنّه جائز اتّفاقاً. فائدةٌ: أجمع كلّ من أجاز الصّلاة على الغائب أنّ ذلك يُسقِط فرض الكفاية، إلاَّ ما حكي عن ابن القطّان أحد أصحاب الوجوه من الشّافعيّة. أنّه قال: يجوز ذلك ولا يسقط الفرض.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 162 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على قبرٍ , بعد ما دفن , فكبّر عليه أربعاً. (¬1) قوله: (صلَّى على قبرٍ) وللبخاري من رواية أبي معاوية عن الشيباني " مات إنسانٌ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده فمات بالليل، فدفنوه ليلاً، فلما أصبح أخبروه , فقال: ما منعكم أن تُعلموني؟ قالوا: كان الليل فكرهنا - وكانت ظلمة - أن نشق عليك , فأتى قبره فصلَّى عليه ". وقع في شرح الشّيخ سراج الدّين عمر بن الملقّن , أنّه الميّت المذكور في حديث أبي هريرة الذي كان يقمّ المسجد. (¬2) وهو وهمٌ منه لتغاير القصّتين، فالصّحيح في الأوّل أنّها امرأة , وأنّها أمّ محجن. وأمّا هذا فهو رجل. واسمه طلحة بن البراء بن عمير البلويّ حليف الأنصار , روى حديثه أبو داود مختصراً , والطّبرانيّ من طريق عروة بن سعيد الأنصاريّ عن أبيه عن حسين بن وحوحٍ الأنصاريّ - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (819 , 1190 , 1256 , 1258 , 1259 , 1262 , 1271 , 1275) ومسلم (954) من طرق عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس - رضي الله عنه - ورواه مسلم (954) من طريقين آخرين الشعبي به. (¬2) أخرجه الشيخان , وسيأتي لفظه قريبا إن شاء الله. في التعليق الآتي.

وهو بمهملتين بوزن جعفر - أنّ طلحة بن البراء مرض فأتاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعوده , فقال. إنّي لا أرى طلحة إلاَّ قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجّلوا , فلم يبلغ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بني سالم بن عوف حتّى توفّي، وكان قال لأهله لَمّا دخل الليل: إذا متّ فادفنوني , ولا تدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنّي أخاف عليه يهود أن يصاب بسببي، فأخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح فجاء حتّى وقف على قبره فصفّ النّاس معه، ثمّ رفع يديه , فقال: اللهمّ الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه. قوله: (بعد ما دفن) زاد البخاري من رواية جرير عن الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجلٍ بعد ما دُفن بليلةٍ ". وله أيضاً من طريق زائدة عن الشيباني " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبراً فقالوا: هذا دفن أو دفنت البارحة .. ". ووقع في " الأوسط " للطّبرانيّ من طريق محمّد بن الصّبّاح الدّولابيّ عن إسماعيل بن زكريّا عن الشّيبانيّ " أنّه صلَّى عليه بعد دفنه بليلتين ". وقال: إنّ إسماعيل تفرّد بذلك. ورواه الدّارقطنيّ من طريق هريم بن سفيان عن الشّيبانيّ فقال " بعد موته بثلاثٍ " ومن طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثّوريّ عن الشّيبانيّ , فقال " بعد شهر ". وهذه روايات شاذّة، وسياق الطّرق الصّحيحة يدلّ على أنّه صلَّى عليه في صبيحة دفنه.

وفي الحديث الصّلاة على القبر بعدما يدفن , وهي من المسائل المختلف فيها. قال ابن المنذر: قال بمشروعيّته الجمهور، ومنعه النّخعيّ ومالك وأبو حنيفة، وعنهم: إن دُفن قبل أن يُصلَّى عليه شرع , وإلاّ فلا. وأشار ابن حبان إلى أنّ بعض المخالفين احتجّ بهذه الزّيادة من حديث أبي هريرة " إنّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإنّ الله ينوّرها عليهم بصلاتي " (¬1) على أنّ ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. ثمّ ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت نحو هذه القصّة وفيها " ثمّ أتى القبر فصففنا خلفه , وكبّر عليه أربعاً ". قال ابن حبّان: في ترك إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من صلَّى معه على القبر بيان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (438) ومسلم (1588) من طريق حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة، أنَّ امرأة سوداء كانت تقم المسجد - أو شاباً - ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عنها أو عنه؟ فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره. فقال: دلُّوني على قبره. فدلّوه، فصلَّى عليها. زاد مسلم عن أبي كامل عن حماد. ثم قال: إن هذه القبور مملوءةٌ ظُلمة على أهلها، وإنَّ الله عز وجل ينوّرها لهم بصلاتي عليهم. قال الشارح في " الفتح " (1/ 553): وإنما لَم يخرِّج البخاري هذه الزيادة , لأنها مدرجة في هذا الإسناد , وهي من مراسيل ثابت. بيَّن ذلك غيرُ واحد من أصحاب حماد بن زيد , وقد أوضحتُ ذلك بدلائله في كتاب " بيان المدرج ". قال البيهقي: يغلب على الظن أنَّ هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد بن عبدة. أو من رواية ثابت عن أنس. يعني: كما رواه ابن منده , ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد وأبي عامر الخزاز كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة. وزاد بعدها , فقال رجلٌ من الأنصار: إن أبي أو أخي مات أو دفن فصلِّ عليه. قال: فانطلق معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انتهى

جواز ذلك لغيره، وأنّه ليس من خصائصه. وتعقّب: بأنّ الذي يقع بالتّبعيّة لا ينهض دليلاً للأصالة. واستُدلَّ بخبر الباب على ردّ التّفصيل بين من صُلِّي عليه فلا يُصلَّى عليه , بأنّ القصّة وردت فيمن صلي عليه. وأجيب: بأنّ الخصوصيّة تنسحب على ذلك. واختلَفَ مَن قال بشرع الصّلاة لمن لَم يصل. فقيل: يؤخّر دفنه ليصلي عليها من كان لَم يصل. وقيل: يبادر بدفنها ويصلي الذي فاتته على القبر. وكذا اختلف في أمد ذلك: فعند بعضهم: إلى شهر، وقيل: ما لَم يَبْلَ الجسد. وقيل: يختصّ بمن كان من أهل الصّلاة عليه حين موته , وهو الرّاجح عند الشّافعيّة، وقيل: يجوز أبداً وفي الحديث الرد على من منع الدفن بالليل , محتجّاً بحديث جابر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - زجر أن يقبر الرّجل ليلاً إلاَّ أن يضطرّ إلى ذلك. أخرجه ابن حبّان. لكن بيّن مسلم في روايته السّبب في ذلك. ولفظه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً , فذكر رجلاً من أصحابه قبض وكفّن في كفن غير طائل وقبر ليلاً، فزجر أن يقبر الرّجل بالليل حتّى يُصلِّي عليه، إلاَّ أن يضطرّ إنسان إلى ذلك. وقال: إذا ولِي أحدكم أخاه فليُحسن كفنه. فدلَّ على أنّ النّهي بسبب تحسين الكفن.

وقوله " حتّى يُصلِّي عليه " مضبوط بكسر اللام. أي: النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فهذا سبب آخر يقتضي أنّه إن رجي بتأخير الميّت إلى الصّباح صلاة من ترجى بركته عليه استحبّ تأخيره، وإلا فلا، وبه جزم الطّحاويّ. واستدل البخاري للجواز بما ذكره من حديث ابن عبّاس , ولَم ينكر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دفنهم إيّاه بالليل، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره , وأيّد ذلك بما صنع الصّحابة بأبي بكر، أخرجه البخاري من حديث عائشة وفيه " ودفن أبو بكر قبل أن يصبح ". ولابن أبي شيبة من حديث القاسم بن محمّد قال: دفن أبو بكر ليلاً. ومن حديث عبيد بن السّبّاق , أنّ عمر دفن أبا بكر بعد العشاء الآخرة , وصحّ أنّ عليّاً دَفَنَ فاطمة ليلاً , وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز. قوله: (فكبّر عليه أربعاً) تقدم الكلام عليه في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. زاد البخاري " فصففنا خلفه , ثم صلَّى عليه ".

الحديث الرابع

الحديث الرابع 163 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفِّّن في ثلاثة أثوابٍ يمانيةٍ بيضٍ سحوليّة , ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ. (¬1) قوله: (كُفِّن في ثلاثة أثوابٍ) في طبقات ابن سعد عن الشّعبيّ (¬2) " إزار ورداء ولفافة ". وحكى بعض من صنّف في الخلاف عن الحنفيّة , أنّ المستحبّ عندهم أن يكون في أحدها ثوب حبرة. وكأنّهم أخذوا بما روي , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كفّن في ثوبين وبرد حبرة. أخرجه أبو داود من حديث جابر. وإسناده حسن، لكن روى مسلم والتّرمذيّ من حديث عائشه , أنّهم نزعوها عنه. (¬3) قال التّرمذيّ: وتكفينه في ثلاثة أثواب بيض. أصحّ ما ورد في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1205 , 1212 , 1213 , 1214 , 1321) ومسلم (941) من طرق عن هشام بن عروة عن عائشة. زاد مسلم: أمَّا الحلة فإنما شُبِّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها فتركت الحلة , وكُفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية. فأخذها عبدالله بن أبي بكر فقال: لأحبسنَّها حتى أُكفن فيها نفسي , ثم قال: لو رضيها الله عز وجلَّ لنبيه لكفَّنه فيها فباعها وتصدَّق بثمنها. وفي رواية له: أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه. الحديث. ولمسلم (941) عن أبي سلمة عن عائشة مختصراً. (¬2) أي: مرسلاً , فأخرجه ابن سعد في " الطبقات " (2/ 285) أخبرنا عبد الله بن نمير والفضل بن دكين عن زكرياء عن عامر، قال: كُفِّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب برود يمانية غلاظ. إزار ورداء ولفافة. (¬3) تقدَّم لفظه في تخريج حديث الباب.

كفنه. وقال عبد الرّزّاق عن معمر عن هشام بن عروة: لُفّ في برد حبرة جفّف فيه , ثمّ نزع عنه. يمكن أن يستدلّ لهم بعموم حديث أنس , كان أحبّ اللباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحبرة. أخرجه الشّيخان. والحِبَرة: بكسر الحاء المهملة وفتح الموحّدة ما كان من البرود مخطّطاً. قوله: (بيض) بوّب عليه البخاري " الثياب البيض للكفن " وتقرير الاستدلال به أنّ الله لَم يكن ليختار لنبيّه إلاَّ الأفضل. وكأنّ البخاري لَم يثبت على شرطه الحديث الصّريح في الباب , وهو ما رواه أصحاب السّنن من حديث ابن عبّاس بلفظ: البسوا ثياب البياض فإنّها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم. صحّحه التّرمذيّ والحاكم. وله شاهد من حديث سمرة بن جندب. أخرجوه. وإسناده صحيح أيضاً. قوله: (سحوليّة) وللبخاري " سحول كرسف " ولمسلم " سحوليةٌ من كرسف " وسُحُول بضمّ المهملتين وآخره لام. أي: بيض، وهو جمع سحل، والثّوب الأبيض النّقيّ لا يكون إلاَّ من قطن. وعن ابن وهب: السّحول القطن، وفيه نظر. وهو بضمّ أوّله , ويُروى بفتحه نسبة إلى سحول قرية باليمن.

وقال الأزهريّ: بالفتح المدينة، وبالضّمّ الثّياب. وقيل: النّسب إلى القرية بالضّمّ، وأمّا بالفتح فنسبة إلى القصّار لأنّه يسحل الثّياب. أي: ينقّيها. والكُرسف: بضمّ الكاف والمهملة بينهما راء ساكنة هو القطن، ووقع في رواية للبيهقيّ " سحوليّة جدد " قوله: (ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ) الخلاف في هذه المسألة بين الحنفيّة وغيرهم في الاستحباب وعدمه، والثّاني عن الجمهور. وعن بعض الحنفيّة. يستحبّ القميص دون العمامة. وأجاب بعض من خالف: بأنّ قولها " ليس فيها قميص ولا عمامة ". يحتمل: نفي وجودهما جملة. ويحتمل: أن يكون المراد نفي المعدود. أي: الثّلاثة خارجة عن القميص والعمامة. والأوّل أظهر. وقال بعض الحنفيّة: معناه. ليس فيها قميص. أي: جديد. وقيل: ليس فيها القميص الذي غسّل فيه، أو ليس فيها قميص مكفوف الأطراف (¬1). ¬

_ (¬1) عقد البخاري في " صحيحه " باباً فقال (باب الكفن في القميص الذي يُكَفُّ أو لا يُكَفُّ، ومن كُفن بغير قميص) ثم روى حديث ابن عمر في إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه لابن سلول لتكفينه فيه , وأيضاً حديث جابر - رضي الله عنه -: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله بن أُبَي بعد ما دفن، فأخرجه، فنفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه. قال ابن حجر بعد أن أورد خلاف الشُّراح بمراد البخاري. (3/ 193): وأما قول =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن رشيد: إن المكفوف الأطراف لا أثر له. فغير مسلَّم , بل المتبادر إلى الذهن أنه مراد البخاري كما فهمه ابن التين. والمعنى أنَّ التكفين في القميص ليس ممتنعاً سواء كان مكفوف الأطراف أو غير مكفوف , أو المراد بالكف تزريره دفعاً لقول من يدّعي أنَّ القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة , أو كان غير مزرّر ليشبه الرداء. وأشار بذلك إلى الردِّ على من خالف في ذلك , وإلى أنَّ التكفين في غير قميص مستحب ولا يكره التكفين في القميص , وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون , قال: كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكفَّفا مزرَّراً.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 164 - عن أمّ عطيّة الأنصاريّة , قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفّيت ابنته , فقال: اغسلنها ثلاثاً , أو خمساً , أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ ذلك بماءٍ وسدرٍ , واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافورٍ , فإذا فرغتنّ فآذنّني. فلمّا فرغنا آذنّاه , فأعطانا حقوه , وقال: أشعرنها به. تعني إزاره. وفي روايةٍ: أو سبعاً , وقال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها , وإنّ أمّ عطيّة , قالت: وجعلنا رأسها ثلاثة قرونٍ. (¬1) قوله: (عن أمّ عطيّة الأنصاريّة) (¬2) مدار حديث أمّ عطيّة على محمّد وحفصة ابني سيرين، وحَفِظتْ منه حفصة ما لَم يحفظه محمّد. كما سيأتي مبيّناً. قال ابن المنذر: ليس في أحاديث الغسل للميّت أعلى من حديث أمّ عطيّة , وعليه عوّل الأئمّة. انتهى قوله: (حين توفّيت ابنته) في رواية الثّقفيّ عن أيّوب عن ابن سيرين في البخاري , وكذا في رواية ابن جريجٍ " دخل علينا ونحن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (165 , 1195 , 1196 , 1197 , 1198 , 1199 , 2000 , 2001 , 2002 , 2003 , 1204) ومسلم (939) من طريق محمد بن سيرين وحفصة بنت سيرين أم الهذيل عن أم عطية. مطوَّلاً ومختصراً. (¬2) تقدّمت ترجمتها في حديث رقم (150).

نغسّل بنته " (¬1). ويجمع بينهما: بأنّ المراد أنّه دخل حين شرع النّسوة في الغسل، وعند النّسائيّ , أنّ مجيئهنّ إليها كان بأمره، ولفظه من رواية هشام بن حسّان عن حفصة " ماتت إحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إلينا , فقال: اغسلنها ". قوله: (ابنته زينب) (¬2) لَم تقع في شيء من رواية البخاريّ مسمّاة، والمشهور أنّها زينب زوج أبي العاص بن الرّبيع والدة أُمامة التي تقدّم ذكرها في الصّلاة (¬3)، وهي أكبر بنات النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وكانت وفاتها فيما حكاه الطّبريّ في " الذّيل " في أوّل سنة ثمان، وقد وردتْ مسمّاة في هذا عند مسلم من طريق عاصم الأحول عن حفصة عن أمّ عطيّة قالت: لَمّا ماتت زينبُ بنتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - , قال رسول الله: اغسلنها. فذكر الحديث. ولَم أرها في شيء من الطّرق عن حفصة ولا عن محمّد مسمّاة إلاَّ في رواية عاصم هذه، وقد خولف في ذلك , فحكى ابن التّين عن الدّاوديّ الشّارح , أنّه جزم بأنّ البنت المذكورة أمّ كلثوم زوج عثمان ,ولَم يذكر مستنده. ¬

_ (¬1) وكذا أخرجه مسلم في " الصحيح " (939) من طريق يزيد بن زريع عن أيوب , ولمسلم أيضاً عن يزيد بن هارون بلفظ " أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل إحدى بناته " (¬2) التصريح في تسميتها في صحيح مسلم , ولَم تأت مسماة في البخاري كما ذكر الشارح. (¬3) انظر حديث رقم (98)

وتعقّبه المنذريّ: بأنّ أمّ كلثوم توفّيت. والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ببدرٍ فلم يشهدها. وهو غلطٌ منه فإنّ التي توفّيت حينئذٍ رقيّة، وعزاه النّوويّ تبعاً لعياضٍ لبعض أهل السّير. وهو قصور شديد , فقد أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الوهّاب الثّقفيّ عن أيّوب ولفظه " دخل علينا ونحن نغسّل ابنته أمّ كلثوم " وهذا الإسناد على شرط الشّيخين، وفيه نظر (¬1). وكذا وقع في " المبهمات " لابن بشكوال من طريق الأوزاعيّ عن محمّد بن سيرين عن أمّ عطيّة قالت: كنت فيمن غسّل أمّ كلثوم " الحديث. وقرأت بخطّ مغلطاي: زعم التّرمذيّ. أنّها أمّ كلثوم , وفيه نظرٌ. كذا قال، ولَم أر في التّرمذيّ شيئاً من ذلك. وقد روى الدّولابيّ في " الذّرّيّة الطّاهرة " من طريق أبي الرّجال عن عمرة , أنّ أمّ عطيّة كانت ممّن غسّل أمّ كلثوم ابنة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحديث. فيمكن دعوى ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعدّدة. ويمكن الجمع: بأن تكون حضرتهما جميعاً، فقد جزم ابن عبد البرّ رحمه الله في ترجمتها بأنّها كانت غاسلة الميّتات. ووقع لي من تسمية النّسوة اللاتي حضرن معها ثلاث غيرها، ففي ¬

_ (¬1) نظَّره الشارح , لأنَّ الحديث رواه البخاري (1261) من طريق ابن جريج , أنَّ أيوب أخبره عن ابن سيرين. وفي آخره قال: لا أدري أيَّ بناته. وسيأتي قريباً.

" الذّرّيّة الطّاهرة " أيضاً من طريق أسماء بنت عميس أنّها كانت ممّن غسّلها , قالت: ومعنا صفيّة بنت عبد المطّلب. ولأبي داود من حديث ليلى بنت قانف - بقافٍ ونون وفاء - الثّقفيّة قالت: كنت فيمن غسّلها , وروى الطّبرانيّ من حديث أمّ سليمٍ شيئاً يومئ إلى أنّها حضرت ذلك أيضاً. وللبخاري قال ابن سيرين (¬1): ولا أدري أيَّ بناته. وهذا يدلّ على أنّ تسميتها في رواية ابن ماجه وغيره ممّن دون ابن سيرين. والله أعلم. قوله: (اغسلنها) قال ابن بزيزة: استدل به على وجوب غسل الميّت، وهو مبنيّ على أنّ قوله فيما بعد " إن رأيتنّ ذلك " هل يرجع إلى الغسل أو العدد؟ والثّاني أرجح، فثبت المدّعى. قال ابن دقيق العيد: لكن قوله " ثلاثاً " ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقّف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظٍ واحد , لأنّ قوله " ثلاثاً " غير مستقلّ بنفسه فلا بدّ أن يكون داخلاً تحت صيغة الأمر. فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنّسبة إلى أصل الغسل، والنّدب بالنّسبة إلى الإيتار. انتهى. وقواعد الشّافعيّة لا تأبى ذلك. ¬

_ (¬1) كذا قال الشارح رحمه الله. أنَّ القائل ابن سيرين. أما في " باب كيف الإشعار للميت " حيث رواه البخاري (1261) فيه , فجزم الشارح بأن القائل هو أيوب. ثم قال: وفيه دليل على أنه لَم يسمع تسميتها. اهـ

ومن ثَمَّ ذهب الكوفيّون وأهل الظّاهر والمزنيّ إلى إيجاب الثّلاث. وقالوا: إن خرج منه شيء بعد ذلك يغسل موضعه ولا يعاد غسل الميّت، وهو مخالف لظاهر الحديث. وجاء عن الحسن مثله , أخرجه عبد الرّزّاق عن هشام بن حسّان عن ابن سيرين قال: يغسّل ثلاثاً , فإن خرج منه شيء بعد فخمساً، فإن خرج منه شيء غسّل سبعاً , قال هشام: وقال الحسن: يغسّل ثلاثاً، فإن خرج منه شيء غسل ما خرج. ولَم يزد على الثّلاث. وقد نقل النّوويّ الإجماع على أنّ غسل الميّت فرض كفاية. وهو ذهول شديد، فإنّ الخلاف مشهور عند المالكيّة. حتّى إنّ القرطبيّ رجّح في شرح مسلم أنّه سنّة، ولكنّ الجمهور على وجوبه. وقد ردّ ابن العربيّ على من لَم يقل بذلك، وقد توارد به القول والعمل، وغُسّل الطّاهر المطهّر فكيف بمن سواه؟. قوله: (ثلاثاً أو خمساً) وفي رواية لهما من رواية هشام بن حسّان عن حفصة " اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً " و " أو " هنا للتّرتيب لا للتّخيير. قال النّوويّ: المراد اغسلنها وتراً وليكن ثلاثاً فإن احتجن إلى زيادة فخمساً، وحاصله أنّ الإيتار مطلوب والثّلاث مستحبّة، فإن حصل الإنقاء بها لَم يشرع ما فوقها وإلا زيد وتراً حتّى يحصل الإنقاء، والواجب من ذلك مرّة واحدة عامّة للبدن. انتهى. وقد سبق بحث ابن دقيق العيد في ذلك.

وقال ابن العربيّ: في قوله " أو خمساً " إشارة إلى أنّ المشروع هو الإيتار , لأنّه نقلهنّ من الثّلاث إلى الخمس , وسكت عن الأربع. وقوله فيه " وتراً ثلاثاً أو خمساً " استدل به على أنّ أقلّ الوتر ثلاث، ولا دلالة فيه لأنّه سيق مساق البيان للمراد , إذ لو أطلق لتناول الواحدة فما فوقها. قوله: (أو أكثر من ذلك) بكسر الكاف لأنّه خطاب للمؤنّث، ولهما في رواية أيّوب عن حفصة " ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً ". ولَم أر في شيء من الرّوايات بعد قوله " سبعاً " التّعبير بأكثر من ذلك إلاَّ في رواية لأبي داود، وأمّا ما سواها فإمّا " أو سبعاً " وإمّا " أو أكثر من ذلك ". فيحتمل تفسير قوله " أو أكثر من ذلك " بالسّبع، وبه قال أحمد، فكره الزّيادة على السّبع. وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحداً قال بمجاوزة السّبع، وساق من طريق قتادة , أنّ ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أمّ عطيّة ثلاثاً وإلَّا فخمساً وإلَّا فأكثر. قال: فرأينا أنّ أكثر من ذلك سبع. وقال الماورديّ: الزّيادة على السّبع سرف. وقال ابن المنذر: بلغني أنّ جسد الميّت يسترخي بالماء , فلا أحبّ الزّيادة على ذلك. قوله: (إن رأيتنّ ذلك) معناه التّفويض إلى اجتهادهنّ بحسب الحاجة لا التّشهّي.

وقال ابن المنذر: إنّما فوّض الرّأي إليهنّ بالشّرط المذكور وهو الإيتار. وحكى ابن التّين عن بعضهم قال: يحتمل قوله " إن رأيتنّ " أن يرجع إلى الأعداد المذكورة. ويحتمل: أن يكون معناه , إن رأيتنّ أن تفعلن ذلك. وإلا فالإنقاء يكفي. قوله. (بماءٍ وسدر) قال ابن العربيّ: هذا أصل في جواز التّطهّر بالماء المضاف إذا لَم يسلب الماء الإطلاق. انتهى. وهو مبنيّ على الصّحيح أنّ غسل الميّت للتّطهير كما سيأتي. قال الزّين بن المنير: جعلهما البخاري (¬1) معاً آلة لغسل الميّت، وهو مطابق لحديث الباب، لأنّ قوله " بماءٍ وسدر " يتعلق بقوله " اغسلنها " وظاهره أنّ السّدر يخلط في كلّ مرّة من مرّات الغسل، وهو مشعر بأنّ غسل الميّت للتّنظيف لا للتّطهير، لأنّ الماء المضاف لا يتطهّر به. انتهى. وقد يمنع لزوم كون الماء يصير مضافاً بذلك (¬2)، لاحتمال أن لا يغيّر السّدر وصف الماء بأن يُمعك بالسّدر ثمّ يغسل بالماء في كلّ مرّة. فإنّ لفظ الخبر لا يأبى ذلك. ¬

_ (¬1) أي: لَمَّا ترجم للحديث بقوله (باب غسل الميت ووضوءه بالماء والسدر) (¬2) قال الشيخ ابن باز رحمه الله: الصواب أنَّ يقال: إنَّ في هذا الحديث دلالةً على أنَّ الماء المضاف إليه طهورٌ ما دام اسم الماء ثابتاً له إذا كان المضاف إليه طاهراً كالسدر ونحوه. وقد اختار ذلك أبو العباس بن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله كما قال ابن العربي.

وقال القرطبيّ: يجعل السّدر في ماء ويخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسده , ثمّ يُصبّ عليه الماء القراح، فهذه غسلة. وحكى ابن المنذر: أنّ قوماً قالوا: تطرح ورقات السّدر في الماء. أي: لئلا يمازج الماء فيتغيّر وصفه المطلق. وحكي عن أحمد أنّه أنكر ذلك , وقال: يغسل في كلّ مرّة بالماء والسّدر. وأعلى ما ورد في ذلك , ما رواه أبو داود من طريق قتادة عن ابن سيرين , أنّه كان يأخذ الغسل عن أمّ عطيّة. فيغسل بالماء والسّدر مرّتين والثّالثة بالماء والكافور. قال ابن عبد البرّ: كان يقال: كان ابن سيرين من أعلم التّابعين بذلك. وقال ابن العربيّ: مَن قال الأولى بالماء القراح , والثّانية بالماء والسّدر أو العكس , والثّالثة بالماء والكافور , فليس هو في لفظ الحديث. انتهى. وكأنّ قائله أراد أن تقع إحدى الغسلات بالماء الصّرف المطلق , لأنّه المطهّر في الحقيقة، وأمّا المضاف فلا. القول الأول: تمسّك بظاهر الحديث ابن شعبان وابن الفرضيّ وغيرهما من المالكيّة , فقالوا: غسل الميّت إنّما هو للتّنظيف فيجزئ بالماء المضاف كماء الورد ونحوه، قالوا: وإنّما يكره من جهة السّرف. القول الثاني: المشهور عند الجمهور أنّه غسل تعبّديّ يشترط فيه ما

يشترط في بقيّة الأغسال الواجبة والمندوبة. القول الثالث: قيل: شرع احتياطاً لاحتمال أن يكون عليه جنابة. وفيه نظرٌ. لأنّ لازمه أن لا يشرع غسل من هو دون البلوغ وهو خلاف الإجماع. قوله: (واجعلن في الآخرة كافوراً) هو الطِّيْب المعروف (¬1) , ويطلق على الوعاء , قال بعضهم: وعاءُ كلِ شيءٍ كافوره وكفراه , ويقال للعنب إذا خرج كافور وكفري. قوله: (أو شيئاً من كافور) هو شكّ من الرّاوي أي اللفظتين قال , والأوّل محمول على الثّاني لأنّه نكرة في سياق الإثبات فيصدق بكل شيء منه. وجزم في رواية أيوب عن ابن سيرين بالشّقّ الأوّل، وكذا في رواية ابن جريجٍ، وظاهره جعل الكافور في الماء. وبه قال الجمهور. وقال النّخعيّ والكوفيّون: إنّما يجعل في الحنوط , أي: بعد إنهاء الغسل والتّجفيف. وقد ورد في رواية النسائي بلفظ " واجعلن في آخر ذلك كافوراً ". قيل: الحكمة في الكافور - مع كونه يطيّب رائحة الموضع - لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم , أنّ فيه تجفيفاً وتبريداً وقوّةَ نفوذ. وخاصّيّة في تصليب بدن الميّت وطرد الهوامّ عنه , وردع ما يتحلل من ¬

_ (¬1) قال الليث: الكافور. نباتٌ له نورٌ أبيض كنور الأقحوان، والكافور: من أخلاط الطيب، والكافور: وعاء الطلع. تهذيب اللغة (10/ 115).

الفضلات , ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الأراييح الطّيّبة في ذلك، وهذا هو السّرّ في جعله في الأخيرة. إذ لو كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء. وهل يقوم المسك مثلاً مقام الكافور؟ إن نُظر إلى مجرّد التّطيّب فنعم، وإلا فلا، وقد يقال: إذا عُدم الكافور قام غيره مقامه ولو بخاصّيّةٍ واحدة مثلاً. قوله: (فإذا فرغتنّ فآذنّني) أي: أعلمنني. قوله: (فلمّا فرغنا) كذا للأكثر بصيغة الخطاب من الحاضر، وللأصيليّ " فلمّا فرغن " بصيغة الغائب. قوله: (حقوه) بفتح المهملة ويجوز كسرها - وهي لغة هذيل - بعدها قاف ساكنة، والمراد به هنا الإزار كما وقع مفسّراً في آخر هذه الرّواية. والحقو في الأصل معقد الإزار، وأطلق على الإزار مجازاً، وللبخاري من رواية ابن عون عن محمّد بن سيرين بلفظ " فنزع من حقوه إزاره " والحقو في هذا على حقيقته. قوله: (أشعرنها إيّاه) أي: اجعلنه شعارها. أي الثّوب الذي يلي جسدها، زاد البخاري " وزعم أنَّ الإشعار الففنها فيه " وفيه اختصار والتّقدير , وزعم أنّ معنى قوله أشعرنها إيّاها الففنها، وهو ظاهر اللفظ، لأنّ الشّعار ما يلي الجسد من الثّياب. والقائل في هذه الرّواية " وزعم " هو أيّوب. وذكر ابن بطّال: أنّه

ابن سيرين. والأوّل أولى، وقد بيّنه عبد الرّزّاق في روايته عن ابن جريجٍ قال: قلت لأيّوب قوله أشعرنها. تؤزر به؟ قال: ما أراه إلاَّ قال: الففنها فيه. قيل: الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل ولَم يناولهنّ إيّاه أوّلاً , ليكون قريب العهد من جسده الكريم , حتّى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التّبرّك بآثار الصّالحين (¬1). وفيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرّجل , وبوّب عليه البخاري " هل تكفّن المرأة في إزار الرجل؟ " وشاهِد التّرجمة قوله فيه " فأعطاها إزاره ". قال ابن رشيد: أشار بقوله " هل " إلى تردّد عنده في المسألة، فكأنّه أومأ إلى احتمال اختصاص ذلك بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , لأنّ المعنى الموجود فيه من البركة ونحوها قد لا يكون في غيره ولا سيّما مع قرب عهده بعرقه الكريم، ولكنّ الأظهر الجواز، وقد نقل ابن بطّال الاتّفاق على ذلك، لكن لا يلزم من ذلك التّعقّب على البخاريّ , لأنّه إنّما ترجم بالنّظر إلى سياق الحديث وهو قابل للاحتمال. وقال الزّين بن المنير نحوه , وزاد احتمال الاختصاص بالمحرم , أم بمن يكون في مثل إزار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وجسده من تحقّق النّظافة وعدم نفرة ¬

_ (¬1) سبق التنبيه عليه. وأنه خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

الزّوج وغيرته أن تلبس زوجته لباس غيره. قوله: (ابدأْنَ) هو الوجه , لأنّه خطاب للنّسوة. وللبخاري " ابدؤوا " قوله: (بميامنها ومواضع الوضوء منها) استدل به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الميّت خلافاً للحنفيّة، بل قالوا: لا يستحبّ وضوءه أصلاً. وإذا قلنا باستحبابه , فهل يكون وضوءاً حقيقيّاً بحيث يعاد غسل تلك الأعضاء في الغسل , أو جزءاً من الغسل بدئت به هذه الأعضاء تشريفاً؟. الثّاني أظهر من سياق الحديث. والبداءة بالميامن وبمواضع الوضوء ممّا زادته حفصة في روايتها عن أمّ عطيّة على أخيها محمّد، وكذا المشط والضّفر كما سيأتي قوله: (وجعلنا رأسها ثلاثة قرونٍ) أي: ضفائر , قال سفيان " ناصيتها وقرنيها ": والقرنان الجانبان , زاد البخاري " وألقيناه خلفها ". وللبخاري من رواية حفصة عن أم عطية " أنهن جعلن رأس بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة قرون نقضنه، ثم غسلنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون ". وفائدة النّقض تبليغ الماء البشرة وتنظيف الشّعر من الأوساخ. ولمسلمٍ من رواية أيّوب عن حفصة عن أمّ عطيّة " مشطناها ثلاثة

قرون " وهو بتخفيف المعجمة. أي: سرّحناها بالمشط. وفيه حجّة للشّافعيّ ومن وافقه على استحباب تسريح الشّعر. وذهب مَن منعه إلى أنّه قد يفضي إلى انتتاف شعره. وأجاب من أثبته: بأنّه يضمّ إلى ما انتثر منه. والرّفق يؤمن معه ذلك. وكذا الرّجل إذا كان له شعر يُنقض لأجل التّنظيف وليبلغ الماء البشرة. واستدل به على ضفر شعر الميّت خلافاً لمن منعه. فقال ابن القاسم: لا أعرف الضّفر بل يكفّ , وعن الأوزاعيّ والحنفيّة: يرسل شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرّقاً. قال القرطبيّ: وكأنّ سبب الخلاف أنّ الذي فعلته أمّ عطيّة. هل استندت فيه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيكون مرفوعاً، أو هو شيء رأته ففعلته استحساناً؟. كلا الأمرين محتمل، لكن الأصل أن لا يُفعل في الميّت شيءٌ من جنس القرب , إلاَّ بإذنٍ من الشّرع محقّق. ولَم يرد ذلك مرفوعاً. كذا قال. وقال النّوويّ: الظّاهر اطّلاع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتقريره له. قلت: وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر من رواية هشام عن حفصة عن أمّ عطيّة قالت: قال لنا رسول الله: اغسلنها وتراً واجعلن شعرها ضفائر. وقال ابن حبّان في " صحيحه ": ذِكر البيان بأنّ أمّ عطيّة إنّما مشّطت

ابنة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأمره لا من تلقاء نفسها , ثمّ أخرج من طريق حمّاد عن أيّوب قال: قالت حفصة عن أمّ عطيّة: اغسلنها ثلاثة أو خمساً أو سبعاً واجعلن لها ثلاثة قرون. في هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. تعليم الإمام من لا علم له بالأمر الذي يقع فيه، وتفويضه إليه إذا كان أهلاً لذلك بعد أن ينبّهه على عِلَّة الحكم. واستدل به على أنّ الغسل من غسل الميّت ليس بواجبٍ , لأنّه موضع تعليم ولَم يأمر به. وفيه نظرٌ. لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الواقعة. وقال الخطّابيّ: لا أعلم أحداً قال بوجوبه. وكأنّه ما درى أنّ الشّافعيّ علَّق القول به على صحّة الحديث، والخلاف فيه ثابت عند المالكيّة , وصار إليه بعض الشّافعيّة أيضاً. وقال ابن بزيزة: الظّاهر أنّه مستحبّ، والحكمة فيه تتعلق بالميّت، لأنّ الغاسل إذا علم أنّه سيغتسل لَم يتحفّظ من شيء يصيبه من أثر الغسل فيبالغ في تنظيف الميّت وهو مطمئنّ. ويحتمل: أن يتعلق بالغاسل ليكون عند فراغه على يقين من طهارة جسده ممّا لعله أن يكون أصابه من رشاش ونحوه. انتهى واستدل به بعض الحنفيّة على أنّ الزّوج لا يتولى غسل زوجته، لأنّ زوج ابنة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً. وأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - النّسوة بغسل ابنته دون الزّوج.

وتعقّب: بأنّه يتوقّف على صحّة دعوى أنّه كان حاضراً، وعلى تقدير تسليمه فيحتاج إلى ثبوت أنّه لَم يكن به مانع من ذلك ولا آثر النّسوة على نفسه. وعلى تسليمه فغاية ما فيه أن يستدلّ به على أنّ النّسوة أولى منه لا على منعه من ذلك لو أراده. والله أعلم بالصّواب.

الحديث السادس

الحديث السادس 165 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: بينما رجلٌ واقفٌ بعرفة , إذ وقع عن راحلته , فوقصته. أو قال: فأوقصته , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماءٍ وسدرٍ , وكفّنوه في ثوبين. ولا تُحنّطوه , ولا تُخمّروا رأسه. فإنّه يبعث يوم القيامة مُلبّياً. (¬1) وفي روايةٍ: ولا تُخمّروا وجهه ولا رأسه. (¬2) قال المصنِّف: الوقص: كسر العنق. قوله: (بينما رجلٌ) وللبخاري " كان رجلٌ واقفٌ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فوقع عن راحلته ". قوله " واقف " صفة لرجلٍ، وكان تامّة. أي: حصل رجل واقف. ولَم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية الْمُحرِم المذكور. وقد وهِمَ بعض المتأخّرين , فزعم أنّ اسمه واقد بن عبد الله , وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب " المغازي ". وسبب الوهم. أنّ ابن قتيبة لَمّا ذكر ترجمة عمر , ذكر أولاده ومنهم عبد الله بن عمر، ثمّ ذكر أولاد عبد الله بن عمر , فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر , فقال: وقع عن بعيره وهو محرِم فهلك، فظنّ هذا المتأخّر أنّ لواقد بن عبد الله بن عمر صحبةً , وأنّه صاحب القصّة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1206 , 1207 , 1208 , 1209 , 1742 , 1751 , 1753) ومسلم (1206) من طرقٍ عدّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. (¬2) أخرجه مسلم (1206) من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

التي وقعت في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وليس كما ظنّ , فإنّ واقداً المذكور لا صحبة له , فإنّ أمّه صفيّة بنت أبي عبيد إنّما تزوّجها أبوه في خلافة أبيه عمر. واختلف في صحبتها، وذكرها العجليّ وغيره في التّابعين. ووجدت في الصّحابة واقد بن عبد الله آخر , لكن لَم أر في شيء من الأخبار أنّه وقع عن بعيره فهلك، بل ذكر غير واحد منهم ابن سعد , أنّه مات في خلافة عمر، فبطل تفسير المبهم بأنّه واقد بن عبد الله من كلّ وجه. قوله: (واقف) استدل به على إطلاق لفظ الواقف على الرّاكب. وكان وقوع المحرم المذكور عند الصّخرات من عرفة. قوله: (بعرفة) وللبخاري من وجه آخر " ونحن مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (فوقصته، أو قال فأوقصته) وللبخاري " فأقصعته " شكّ من الرّاوي، والمعروف عند أهل اللّغة الأوّل , والذي بالهمز شاذّ. والوقص كسر العنق، ويحتمل: أن يكون فاعل وقصته الوقعة , أو الرّاحلة بأن تكون أصابته بعد أن وقع والأوّل أظهر. وقال الكرمانيّ: فوقصته. أي: راحلته فإن كان الكسر حصل بسبب الوقوع فهو مجاز، وإن حصل من الرّاحلة بعد الوقوع فحقيقة. وقوله " فأقصعته " أي هشّمته , يقال: أقصع القملة إذا هشّمها، وقيل: هو خاصّ بكسر العظم، ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرّقبة. وفي رواية مسلم بتقديم العين على الصّاد، والقعص القتل في الحال , ومنه قعاص الغنم وهو موتها.

قوله: (اغسلوه بماءٍ وسدر) تقدم الكلام عليه مستوفي في الحديث قبله. قوله: (وكفّنوه في ثوبين) أشار البخاري إلى أنّ الثّلاث في حديث عائشة ليست شرطاً في الصّحّة، وإنّما هو مستحبّ. وهو قول الجمهور. واختلف فيما إذا شحّ بعض الورثة بالثّاني أو الثّالث، والمرجّح أنّه لا يلتفت إليه. وأمّا الواحد السّاتر لجميع البدن فلا بدّ منه بالاتّفاق. واستدل به على إبدال ثياب المحرم , وليس بشيءٍ ففي الصحيحين بلفظ " في ثوبيه " وللنّسائيّ من طريق يونس بن نافع عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس " في ثوبيه اللذين أحرم فيهما ". وقال المحبّ الطّبريّ: إنّما لَم يزده ثوباً ثالثاً تكرمة له كما في الشّهيد حيث قال " زمّلوهم بدمائهم ". واستدل به على أنّ الإحرام لا ينقطع بالموت كما سيأتي، وعلى ترك النّيابة في الحجّ , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يأمر أحداً أن يكمل عن هذا المحرم أفعال الحجّ (¬1). وفيه نظرٌ لا يخفى. وقال ابن بطّال: وفيه أنّ من شرع في عمل طاعة ثمّ حال بينه وبين ¬

_ (¬1) ممن استدل به البخاري في " صحيحه ". فقال في كتاب جزاء الصيد " باب المحرم يموت بعرفة , ولَم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُؤدَّى عنه بقية الحج " ثم أورد حديث ابن عبّاس هذا , ولَم يتكلَّم عليه الشارح بشي , بل أحاله على شرحه في الجنائز. وغفل عنه أيضاً في الجنائز.

إتمامه الموت رجي له أنّ الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل. قوله: (ولا تحنّطوه) وهو من الحنوط بالمهملة والنون , وهو الطيب الذي يصنع للميت , وفي رواية لهما " ولا تمسوه بطيب " بضم أوله وكسر الميم من أمسّ , ثمّ علَّل بأنّه يبعث ملبّياً، فدلَّ على أنّ سبب النّهي أنّه كان محرماً، فإذا انتفت العلة انتفى النّهي. وكأنّ الحنوط للميّت كان مقرّراً عندهم. وكذا قوله " لا تخمّروا رأسه " أي: لا تغطّوه. قال البيهقيّ: فيه دليل على أنّ غير المحرم يحنّط كما يخمّر رأسه، وأنّ النّهي إنّما وقع لأجل الإحرام خلافاً لمَن قال من المالكيّة وغيرهم: إنّ الإحرام ينقطع بالموت فيصنع بالميّت ما يصنع بالحيّ. قال ابن دقيق العيد: وهو مقتضى القياس، لكنّ الحديث بعد أن ثبت يقدّم على القياس. وقد قال بعض المالكيّة: إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنّها واقعة حال يتطرّق الاحتمال إلى منطوقها فلا يستدلّ بمفهومها. وقال بعض الحنفيّة: هذا الحديث ليس عامّاً بلفظه , لأنّه في شخص معيّن، ولا بمعناه , لأنّه لَم يقل يبعث ملبّياً , لأنّه محرم فلا يتعدّى حكمه إلى غيره إلاَّ بدليلٍ منفصل. وقال ابن بزيزة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث. بأنّ هذا مخصوص بذلك الرّجل لأنّ إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنّه يبعث ملبّياً شهادة بأنّ

حجّه قُبل، وذلك غير محقّق لغيره. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ هذه العلة إنّما ثبتت لأجل الإحرام فتعمّ كلّ محرم، وأمّا القبول وعدمه فأمر مغيّب. واعتلَّ بعضهم: بقوله تعالى (وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى) وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاَّ من ثلاث (¬1). وليس هذا منها فينبغي أن ينقطع عمله بالموت. وأجيب: بأنّ تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحيّ بعده كغسله والصّلاة عليه فلا معنى لِمَا ذكروه. وقال ابن المنير في الحاشية: وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الشّهداء: زمّلوهم بدمائهم. مع قوله: والله أعلم بمن يُكلَم في سبيله. فعمّم الحكم في الظّاهر بناء على ظاهر السّبب فينبغي أن يعمّم الحكم في كلّ محرم، وبين الْمُجاهد والْمُحرم جامع , لأنّ كلاً منهما في سبيل الله. وقد اعتذر الدّاوديّ عن مالك , فقال: لَم يبلغه هذا الحديث. وأورد بعضهم: أنّه لو كان إحرامه باقياً لوجب أن يكمل به المناسك. ولا قائل به. وأجيب: بأنّ ذلك ورد على خلافه الأصل فيقتصر به على مورد النّصّ , ولا سيّما وقد وضح أنّ الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشّهيد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (4310) من حديث أبي هريرة. وتمامه " من صدقةٍ جاريةٍ , أو علمٍ ينتفع به , أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.

قوله: (فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً) أي: على هيئته التي مات عليها , ولمسلم " ملبداً " بدالٍ بدل التّحتانيّة، والتّلبيد جمع الشّعر بصمغٍ أو غيره ليخف شعثه، وكانت عادتهم في الإحرام أن يصنعوا ذلك. وقد أنكر عياض هذه الرّواية , وقال: ليس للتّلبيد معنًى. وللبخاري بلفظ " فإنه يبعث يهلّ " ورواه النّسائيّ بلفظ " فإنّه يبعث يوم القيامة محرماً " لكن ليس قوله ملبّداً فاسد المعنى , بل توجيهه ظاهر. واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافاً للمالكيّة والحنفيّة. وقد تمسّكوا من هذا الحديث بلفظةٍ اختلف في ثبوتها وهي قوله " ولا تخمّروا وجهه " فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه، مع أنّهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرماً. وأمّا الجمهور. فأخذوا بظاهر الحديث , وقالوا: إنّ في ثبوت ذكر الوجه مقالاً، وتردّد ابن المنذر في صحّته. وقال البيهقيّ: ذِكْر الوجه غريبٌ , وهو وهم من بعض رواته. وفي كلّ ذلك نظرٌ. فإنّ الحديث ظاهره الصّحّة , ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزّبير كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس فذكر الحديث. قال منصور: " ولا تغطّوا وجهه " , وقال أبو الزّبير: " ولا تكشفوا وجهه ". وأخرجه النّسائيّ من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير

بلفظ " ولا تخمّروا وجهه ولا رأسه ". وأخرجه مسلم أيضاً من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا يمسّ طيباً خارج رأسه " قال شعبة: ثمّ حدّثني به بعد ذلك , فقال " خارج رأسه ووجهه " انتهى. وهذه الرّواية تتعلق بالتّطيّب لا بالكشف والتّغطية، وشعبة أحفظ من كلّ من روى هذا الحديث، فلعل بعض رواته انتقل ذهنه من التّطيّب إلى التّغطية. وقال أهل الظّاهر: يجوز للمحرم الحيّ تغطية وجهه , ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملاً بالظّاهر في الموضعين. وقال آخرون: هي واقعة عين لا عموم فيها , لأنّه علَّل ذلك بقوله " لأنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً " وهذا الأمر لا يتحقّق وجوده في غيره فيكون خاصّاً بذلك الرّجل؛ ولو استمرّ بقاؤه على إحرامه لأَمر بقضاء مناسكه. وقد ترجم البخاري بنفي ذلك. (¬1) وقال أبو الحسن بن القصّار: لو أريد تعميم الحكم في كلّ محرم لقال " فإنّ المحرم " كما جاء " أنّ الشّهيد يبعث وجرحه يثعب دماً ". وأجيب: بأنّ الحديث ظاهر في أنّ العلة في الأمر المذكور كونه كان في النّسك وهي عامّة في كلّ محرم، والأصل أنّ كلّ ما ثبت لواحدٍ في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثبت لغيره حتّى يتّضح التّخصيص. واختلف في الصّائم يموت. هل يبطل صومه بالموت حتّى يجب ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق.

قضاء صوم ذلك اليوم عنه أو لا يبطل؟. وقال النّوويّ: يتأوّل هذا الحديث على أنّ النّهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز تغطية وجهه بل هو صيانة للرّأس، فإنّهم لو غطّوا وجهه لَم يؤمن أن يغطّي رأسه. انتهى. وروى سعيد بن منصور من طريق عطاء قال: يغطّي المحرم من وجهه ما دون الحاجبين. أي من أعلى. وفي رواية: ما دون عينيه. وكأنّه أراد مزيد الاحتياط لكشف الرّأس. والله أعلم. قال ابن المنذر: في حديث ابن عبّاس. إباحة غسل المحرم الحيّ بالسّدر خلافاً لمن كرهه له، وأنّ الوتر في الكفن ليس بشرطٍ في الصّحّة، وأنّ الكفن من رأس المال لأمره - صلى الله عليه وسلم - بتكفينه في ثوبيه , ولَم يستفصل هل عليه دين يستغرق أم لا؟. وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأنّ إحرامه باقٍ، وأنّه لا يكفّن في المخيط. وفيه التّعليل بالفاء لقوله فإنّه. وفيه التّكفين في الثّياب الملبوسة، وفيه استحباب دوام التّلبية إلى أن ينتهي الإحرام وأنّها لا تنقطع بالتّوجّه لعرفة، وأنّ الإحرام يتعلق بالرّأس لا بالوجه. وتقدّم الكلام على ما وقع في مسلم بلفظ " ولا تخمّروا وجهه ". وأغرب القرطبيّ. فحكى عن الشّافعيّ: أنّ المحرم لا يُصلَّى عليه، وليس ذلك بمعروفٍ عنه.، وفيه جواز غسل المحرم بالسّدر ونحوه ممّا لا يعدّ طيباً.

وحكى المزنيّ عن الشّافعيّ. أنّه استدل على جواز قطع سدر الحرم بهذا الحديث لقوله فيه " واغسلوه بماءٍ وسدر " والله أعلم. فائدةٌ: يحتمل: اقتصاره له على التّكفين في ثوبيه لكونه مات فيهما , وهو متلبّس بتلك العبادة الفاضلة. ويحتمل: أنّه لَم يجد له غيرهما.

الحديث السابع

الحديث السابع 166 - عن أمّ عطيّة الأنصاريّة رضي الله عنها , قالت: نُهينا عن اتّباع الجنائز , ولَم يعزم علينا. (¬1) قوله: (نُهينا) في رواية لهما " كنّا نُنهى عن اتّباع الجنائز ". ورواه يزيد بن أبي حكيم عن الثّوريّ بإسناد البخاري (¬2) بلفظ " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الإسماعيليّ بإسناد صحيح. وفيه ردٌّ على مَن قال: لا حجّة في هذا الحديث , لأنّه لَم يُسمّ النّاهي فيه لِمَا رواه الشّيخان وغيرهما , أنّ كلّ ما ورد بهذه الصّيغة كان مرفوعاً , وهو الأصحّ عند غيرهما من المحدّثين. ويؤيّد رواية الإسماعيليّ. ما رواه الطّبرانيّ من طريق إسماعيل بن عبد الرّحمن بن عطيّة عن جدّته أمّ عطيّة. قالت: لَمّا دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جَمَع النّساء في بيت , ثمّ بعث إلينا عمر فقال: إنّي رسولُ رسولِ الله إليكنّ، بعثني إليكنّ. لأُبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئاً. الحديث، وفي آخره " وأمرنا أن نخرج في العيد العواتق، ونهانا أن نخرج في جنازة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (307 , 1219) ومسلم (938) من طرق عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية به. وأخرجه مسلم (938) من رواية أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية: كنا نُنهى .. (¬2) أخرجه البخاري (1219) عن قبيصة بن عقبة عن سفيان عن خالد عن أم الهذيل حفصة بنت سيرين عن أم عطية.

وهذا يدلّ على أنّ رواية أمّ عطيّة الأولى من مرسل الصّحابة. قوله: (ولَم يُعزم علينا) أي: ولَم يؤكّد علينا في المنع كما أكّد علينا في غيره من المنهيّات، فكأنّها قالت: كره لنا اتّباع الجنائز من غير تحريم. وقال القرطبيّ: ظاهر سياق أمّ عطيّة أنّ النّهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم. ومال مالك إلى الجواز , وهو قول أهل المدينة. ويدلّ على الجواز. ما رواه ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في جنازة , فرأى عمر امرأة فصاح بها , فقال: دعها يا عمر. الحديث. وأخرجه ابن ماجه والنّسائيّ من هذا الوجه، ومن طريق أخرى عن محمّد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة. ورجاله ثقات. وقال المُهلَّب: في حديث أمّ عطيّة دلالة على أنّ النّهي من الشّارع على درجات. وقال الدّاوديّ: قولها " نهينا عن اتّباع الجنائز " أي: إلى أن نصل إلى القبور، وقوله " ولَم يعزم علينا " أي: أن لا نأتي أهل الميّت فنعزّيهم ونترحّم على ميّتهم من غير أن نتّبع جنازته. انتهى. وفي أخْذِ هذا التّفصيل من هذا السّياق. نظرٌ. نعم: هو في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأى فاطمة مقبلة فقال: مِن أين جئتِ؟ فقالت: رحّمت على أهل هذا الميّت ميّتهم. فقال: لعلك بلغت معهم الكُدى؟ قالت: لا. الحديث.

أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما. فأنكر عليها بلوغ الكدى، وهو بالضّمّ وتخفيف الدّال المقصورة. وهي المقابر، ولَم ينكر عليها التّعزية. وقال المحبّ الطّبريّ: يحتمل أن يكون المراد بقولها " ولَم يعزم علينا " أي: كما عزم على الرّجال بترغيبهم في اتّباعها بحصول القيراط ونحو ذلك. والأوّل أظهر. والله أعلم. تكميل: أخرج مسلم من حديث بريدة , وفيه نسخ النهي عن زيارة القبور. ولفظه " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها " , وزاد أبو داود والنسائي من حديث أنس " فإنها تذكر الآخرة ". وللحاكم من حديثه فيه " وترق القلب وتدمع العين، فلا تقولوا هُجْرا " أي: كلاماً فاحشاً، وهو بضم الهاء وسكون الجيم. وله من حديث ابن مسعود " فإنها تزهد في الدنيا " , ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: زوروا القبور فإنها تذكر الموت. قال النووي تبعاً للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أنَّ زيارة القبور للرجال جائزة. كذا أطلقوا، وفيه نظرٌ , لأنَّ ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقاً , حتى قال الشعبي: لولا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لزرت قبر ابنتي. فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقرَّ عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لَم يبلغهم الناسخ. والله

أعلم. ومقابل هذا قول ابن حزم: إنَّ زيارة القبور واجبةٌ. ولو مرة واحدة في العمر , لورود الأمر به. واختلف في النساء. فقيل: دخلن في عموم الإذن وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة. ويؤيد الجواز حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال: اتقي الله واصبري. (¬1) ، وموضع الدلالة منه أنه - صلى الله عليه وسلم - لَم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة. وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة. فروى الحاكم من طريق ابن أبي مُلَيْكة , أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن , فقيل لها: أليس قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها. وقيل: الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ". واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدم. وبحديث " لعن الله زوَّارات القبور " أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث حسان بن ثابت. واختلف مَن قال بالكراهة في حقهنَّ. هل هي كراهة تحريم أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1283) ومواضع أخرى. ومسلم (629)

تنزيه؟. قال القرطبي: هذا اللعن. إنما هو للمكثرات من الزيارة لِمَا تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج , وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن , لأنَّ تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. قال الزين بن المنير: فصَلَ البخاريُّ بين هذه الترجمة (باب اتباع النساء الجنازة) وبين (فضل اتباع الجنائز) بتراجِم كثيرة تُشعر بالتفرقة بين النساء والرجال، وأن الفضل الثابت في ذلك يختص بالرجال دون النساء , لأنَّ النهي يقتضي التحريم أو الكراهة، والفضل يدل على الاستحباب، ولا يجتمعان. وأطلق الحكم هنا لِما يتطرق إليه من الاحتمال، ومن ثم اختلف العلماء في ذلك. ولا يخفى أنَّ محلَّ النزاع إنما هو حيث تؤمن المفسدة.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 167 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: أسرعوا بالجنازة فإنّها إنْ تك صالِحةً , فخيرٌ تقدّمونها إليه. وإن تك سوى ذلك , فشرٌّ تضعونه عن رقابكم. (¬1) قوله: (أسرعوا) نقل ابن قدامة. أنّ الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء. وشذّ ابن حزم. فقال بوجوبه. والمراد بالإسراع شدّة المشي , وعلى ذلك حمله بعض السّلف وهو قول الحنفيّة. قال صاحب الهداية: ويمشون بها مسرعين دون الخبب. وفي المبسوط: ليس فيه شيء مؤقّت، غير أنّ العجلة أحبّ إلى أبي حنيفة، وعن الشّافعيّ والجمهور المراد بالإسراع ما فوق سجيّة المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشّديد. ومال عياض إلى نفي الخلاف , فقال: من استحبّه أراد الزّيادة على المشي المعتاد، ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرّمل. والحاصل أنّه يستحبّ الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدّة يخاف معها حدوث مفسدة بالميّت أو مشقّة على الحامل أو المشيّع , لئلا ينافي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1252) ومسلم (944) من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (944) من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبي هريرة مثله.

المقصود من النّظافة وإدخال المشقّة على المسلم. قال القرطبيّ: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميّت عن الدّفن، ولأنّ التّباطؤ ربّما أدّى إلى التّباهي والاختيال. قوله: (بالجنازة) أي: بحملها إلى قبرها، وقيل: المعنى بتجهيزها، فهو أعمّ من الأوّل. قال القرطبيّ: والأوّل أظهر. وقال النّوويّ: الثّاني باطل مردود بقوله في الحديث " تضعونه عن رقابكم ". وتعقّبه الفاكهيّ: بأنّ الحمل على الرّقاب قد يعبّر به عن المعاني , كما تقول: حمل فلان على رقبته ذنوباً، فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه، قال: ويؤيّده أنّ الكلّ لا يحملونه. انتهى. ويؤيّده حديث ابن عمر , سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره. أخرجه الطّبرانيّ بإسنادٍ حسن. ولأبي داود من حديث حصين بن وحوح مرفوعاً: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله. الحديث قوله: (فإن تك صالحة) أي: الجثّة المحمولة. قال الطّيبيّ: جعلت الجنازة عين الميّت، وجعلت الجنازة التي هي مكان الميّت مقدّمة إلى الخير الذي كنّي به عن عمله الصّالح. قوله: (فخير) هو خبر مبتدأ محذوف أي فهو خير، أو مبتدأ خبره محذوف أي: فلها خير، أو فهناك خير، ويؤيّده رواية مسلم بلفظ

" قرّبتموها إلى الخير ". ويأتي في قوله بعد ذلك " فشرّ " نظير ذلك. قوله: (تقدّمونها إليه) الضّمير راجع إلى الخير باعتبار الثّواب. قال ابن مالك: روي " تقدّمونه إليها " فأنّث الضّمير على تأويل الخير بالرّحمة أو الحسنى. قوله: (تضعونه عن رقابكم) استدل به على أنّ حمل الجنازة يختصّ بالرّجال للإتيان فيه بضمير المذكّر , ولا يخفى ما فيه. وفيه استحباب المبادرة إلى دفن الميّت، لكن بعد أن يتحقّق أنّه مات، أمّا مثل المطعون والمفلوج والمسبوت فينبغي أن لا يسرع بدفنهم حتّى يمضي يوم وليلة ليتحقّق موتهم، نبّه على ذلك ابن بزيزة. ويؤخذ من الحديث ترك صحبة أهل البطالة وغير الصّالحين. تكملة: اختلف في المشي مع الجنازة. القول الأول: التخيير. وهو قول الثّوريّ , وبه قال ابن حزم. لكن قيّده بالماشي اتّباعاً , لِمَا أخرج أصحاب السّنن وصحّحه ابن حبّان والحاكم من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعاً: الرّاكب خلف الجنازة , والماشي حيث شاء منها. القول الثاني: عن النّخعيّ. أنّه إن كان في الجنازة نساء مشى أمامها وإلا فخلفها. وفي المسألة مذهبان آخران مشهوران: فالجمهور على أنّ المشي أمامها أفضل، وفيه حديث لابن عمر

أخرجه أصحاب السّنن. ورجاله رجال الصّحيح , إلاَّ أنّه اختلف في وصله وإرساله (¬1). ويعارضه ما رواه سعيد بن منصور وغيره من طريق عبد الرّحمن بن أبزى عن عليّ قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ. إسناده حسن، وهو موقوف له حكم المرفوع، لكن حكى الأثرم عن أحمد أنّه تكلم في إسناده، وهو قول الأوزاعيّ وأبي حنيفة ومن تبعهما. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (82) وأبو داود (3179) والترمذي (1007 - 1008) والنسائي (564) وابن ماجه (1482) وابن حبان (766) والبيهقي (4/ 23 و 24) وغيرهم عن ابن عمر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة " زاد النسائي " وعثمان ". وذكر الحافظ في " التلخيص " (2/ 111) اختلافَ الحفَّاظ فيه , ومال إلى ترجيح الإرسال. فانظره.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 168 - عن سمرة بن جندبٍ - رضي الله عنه - , قال: صليتُ وراء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ ماتت في نفاسها , فقام في وسَطها. (¬1) قوله: (عن سمرة بن جندبٍ - رضي الله عنه -) الفزاري. (¬2) قوله: (على امرأةٍ) هي أمّ كعب , سَمّاها مسلم في روايته من طريق عبد الوارث عن حسين المعلم، وذكر أبو نعيمٍ في الصّحابة , أنّها أنصاريّة. قوله: (ماتت في نفاسها) أي في مدّة نفاسها. أو بسبب نفاسها. والأوّل: أعمّ من جهة أنّه يدخل فيه من ماتت منه أو من غيره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (325 , 1266 , 1267) ومسلم (964) من طرق عن حسين بن ذكوان المعلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. (¬2) ابن هلال بن حريج بن مرّة , يكنّى أبا سليمان. قال ابن إسحاق: كان من حلفاء الأنصار، قدِمَتْ به أمّه بعد موت أبيه، فتزوجها رجلٌ من الأنصار، وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يعرض غلمان الأنصار، فمرّ به غلام، فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة فردّه، فقال: لقد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته، قال: فدونكه فصارعه، فصرعه سمرة فأجازه. وعن عبد اللَّه بن بريدة، عن سمرة: كنت غلاماً على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أحفظ عنه. ونزل سمرة البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها إذا سار إلى الكوفة، وكان شديداً على الخوارج، فكانوا يطعنون عليه، وكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه. ومات سمرة قبل سنة ستين. قال ابن عبد البرّ: سقط في قدر مملوءٍ ماء حاراً، فكان ذلك تصديقاً لقول رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - له ولأبي هريرة ولأبي محذورة: آخركم موتاً في النّار. قيل: مات سنة ثمان، وقيل سنة تسع وخمسين، وقيل في أول سنة ستين. قاله في الإصابة بتجوز.

والثّاني: أليق بخبر الباب , فإنّ في بعض طرقه أنّها ماتت حاملاً , ففي رواية للبخاري " مات في بطنٍ " (¬1) أي: بسبب بطنٍ. يعني: الحمل، وهو نظير قوله " عذّبت امرأة في هرّة " قوله: (فقام في وسطها) بفتح السّين في روايتنا، وكذا ضبطه ابن التّين، وضبطه غيره بالسّكون، وللكشميهنيّ " فقام عند وسطها ". وفيه مشروعيّة الصّلاة على المرأة، فإنّ كونها نفساء وصف غير معتبر. وأمّا كونها امرأة. فيحتمل: أن يكون معتبراً , فإنّ القيام عليها عند وسطها لسترها، وذلك مطلوب في حقّها؛ بخلاف الرّجل. ويحتمل: أن لا يكون معتبراً , وأنّ ذلك كان قبل اتّخاذ النّعش للنّساء، فأمّا بعد اتّخاذه فقد حصل السّتر المطلوب , ولهذا أورد البخاري التّرجمة مورد السّؤال (¬2). وأراد عدم التّفرقة بين الرّجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والتّرمذيّ من طريق أبي غالب عن أنس بن مالك , أنّه صلَّى على رجلٍ فقام عند رأسه، وصلَّى على امرأة فقام عند عجيزتها، فقال ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح ": قال ابن التيمي: قيل: وهم البخاري في هذه الترجمة (باب الصلاة على النفساء وسنتها). فظن أنَّ قوله " ماتت في بطن " ماتت في الولادة، قال: ومعنى ماتت في بطن ماتت مبطونة. قلت: بل الموهم له هو الواهم، فإنَّ عند البخاري في هذا الحديث من كتاب الجنائز " ماتت في نفاسها " وكذا لمسلم. انتهى. (¬2) فقال " باب أين يقوم من المرأة والرجل "؟

له العلاء بن زياد: أهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل؟ قال: نعم. (¬1) وحكى ابن رشيد عن ابن المرابط , أنّه أبدى لكونها نفساء عِلَّة مناسبة , وهي استقبال جنينها ليناله من بركة الدّعاء. وتعقّب: بأنّ الجنين كعضوٍ منها، ثمّ هو لا يُصلَّى عليه إذا انفرد وكان سقطاً (¬2) فأحرى إذا كان باقياً في بطنها أن لا يقصد. والله أعلم. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3194) والترمذي (1034). ورواه الإمام أحمد (12180) والطيالسي (2149)، وابن ماجه (1494) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/ 491) والبيهقي (4/ 33) والضياء في " المختارة " (7/ 241) من طرق عن أبي غالب به. وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الضياء: إسناده صحيح. قال ابن الملقن في " البدر المنير " (5/ 257): قال الرافعي: ورأيت أبا علي الطبري حكى عن أنس في هذا الرجل " أنه وقف عند صدره ". قلت: هذه الرواية غريبة، لا أعلم من خرجها. وقال النووي في " شرح المهذب ": إن هذا غلَطٌ صَرِيحٌ. قال: والصواب الموجود في كتب الحديث " أنه وقف عند رأسه ". انتهى كلامه (¬2) قال الشيخ ابن باز (3/ 257): القول بعدم الصلاة على السقط ضعيف , والصواب شرعية الصلاة عليه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه , وكان محكوماً بإسلامه , لأنه ميت مسلم فشُرعت الصلاة عليه كسائر المسلمين , ولِما روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن المغيرة بن شعبة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والسقط يُصلَّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة. وإسناده حسن. والله أعلم. انتهى قلت: هذا الحديث الذي ذكره الشيخ ابن باز رحمه الله لم يغب عن ابن حجر رحمه الله , فقد أورده في " التلخيص " (2/ 231) وذكر أنَّ الدارقطني والطبراني أعلاَّه بالوقف , وذكر أيضاً حديث جابر - رضي الله عنه - نحوه. وأعلّه بالوقف أيضاً كما سيأتي في كلامه وقال في " الفتح " (11/ 489): في شرح حديث ابن مسعود رفعه " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح .. الحديث. واستدل به على أنَّ السقط بعد الأربعة أشهر يُصلَّى عليه , لأَنَّه وقت نفخ الروح فيه , وهو منقول عن القديم للشافعي والمشهور عن أحمد وإسحاق. وعن أحمد: إذا بلغ أربعة أشهر وعشراً ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويُصلَّى عليه والراجح عند الشافعية , أنه لا بدَّ من وجود الروح. وهو الجديد. وقد قالوا: فإذا بكى أو اختلج أو تنفَّس ثم بطل ذلك صُلِّي عليه , وإلاَّ فلا. والأصل في ذلك. ما أخرجه النسائي وصحَّحه ابن حبان والحاكم عن جابر رفعه: إذا استهلَّ الصبي ورث وصلِّي عليه. وقد ضعَّفه النووي في شرح المهذب. والصواب أَنَّه صحيح الإسناد , لكنَّ الْمُرجَّح عند الحفاظ وقفه. وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك , لأنَّ الحكم للرفع لزيادته. قالوا: وإذا بلغ مائة وعشرين يوماً غُسِّل وكُفِّن ودُفن بغير صلاة. وما قبل ذلك لا يُشرع له غسل ولا غيره. انتهى

تنْبيه: روى حمّاد بن زيد عن عطاء بن السّائب , أنّ عبد الله بن معقل بن مقرّن أتي بجنازة رجلٍ وامرأةٍ , فصلَّى على الرّجل , ثمّ صلَّى على المرأة. أخرجه ابن شاهين في الجنائز له، وهو مقطوع. فإنّ عبد الله تابعيّ. تكميل: قال ابن عبد البر: لم يقل أحدٌ أنه لا يُصلَّى على ولد الزنا إلا قتادة وحده , واختلف في الصلاة على الصبي. فقال سعيد بن جبير: لا يُصلَّى عليه حتى يبلغ. وقيل: حتى يُصلِّي. وقال الجمهور: يُصلَّى عليه حتى السقط إذا استهل.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 169 - عن أبي موسى عبد الله بن قيسٍ - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَرِيءٌ من الصّالقة والحالقة والشّاقّة. (¬1) قال المصنِّف: الصالقة التي ترفع صوتها عند الْمُصيبة. قوله: (عن أبي موسى عبد الله بن قيسٍ) ولمسلم عن أبي بردة بن أبي موسى قال: وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلمَّا أفاق , قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَرئَ من الصالقة، والحالقة، والشاقة. ولمسلم من وجه آخر من طريق أبي صخرة عن أبي بردة وغيره , قالوا: أُغمي على أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة. الحديث. وللنّسائيّ من طريق يزيد بن أوس عن أمّ عبد الله امرأة أبي موسى عن أبي موسى. فذكر الحديث دون القصّة، ولأبي نعيم في " المستخرج " على مسلم من طريق ربعيّ قال: أغمي على أبي موسى , ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " الصحيح " (104) حدثنا الحكم بن موسى القنطري، حدثنا يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , أنَّ القاسم بن مخيمرة حدثه قال: حدثني أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه به. وعلّقه البخاري في " الصحيح " (1234) وقال الحكم بن موسى به. وأخرجه مسلم (104) من طريق أبي صخرة جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة عن أبي موسى نحوه.

فصاحت امرأته بنت أبي دومة. فحصَّلنا على أنّها أمّ عبد الله بنت أبي دومة. وأفاد عمر بن شبّة في " تاريخ البصرة " , أنّ اسمها صفيّة بنت دمون , وأنّها والدة أبي بردة بن أبي موسى , وأنّ ذلك وقع حيث كان أبو موسى أميراً على البصرة من قِبَل عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قوله: (الصّالقة) بالصّاد المهملة والقاف , أي: التي ترفع صوتها بالبكاء، ويقال فيه بالسّين المهملة بدل الصّاد , ومنه قوله تعالى (سلقوكم بألسنةٍ حداد). وعن ابن الأعرابيّ: الصّلق ضرب الوجه حكاه صاحب المحكم. والأوّل أشهر. قوله: (الحالقة) التي تحلق رأسها عند المصيبة. قوله: (الشّاقّة) التي تشقّ ثوبها، وفي لفظ لمسلم " أنا بريء ممّن حلق وسلق وخرق " أي: حلق شعره وسلق صوته - أي رفعه - وخرق ثوبه. وسيأتي الكلام على المراد بهذه البراءة في حديث ابن مسعود. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر الحديث الآتي برقم (172)

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 170 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لَمّا اشتكى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض نسائه كنيسةً رأينها بأرض الحبشة , يقال لها: مارية - وكانت أمّ سلمة وأمّ حبيبة أتتا أرض الحبشة - فذكرتا من حُسنها وتصاوير فيها , فرفع رأسه - صلى الله عليه وسلم - , وقال: أولئك إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجداً , ثمّ صوّروا فيه تلك الصّور , أولئك شرار الخلق عند الله. (¬1) قوله: (لَمّا اشتكى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري من طريق هلال عن عروة عنها قالت: قال في مرضه الذي مات فيه. (¬2) ولمسلمٍ من حديث جندب , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال نحو ذلك قبل أن يتوفّى بخمسٍ , وزاد فيه " فلا تتّخذوا القبور مساجد , فإنّي أنهاكم عن ذلك ". وفائدة التّنصيص على زمن النّهي , الإشارة إلى أنّه من الأمر المحكم الذي لَم ينسخ لكونه صدر في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (رأينها) أي: هما ومن كان مهعما قوله: (مارية) بكسر الراء وتخفيف الياء التحتانيّة. قوله: (وكانت أمّ سلمة) أي: رملة بنت أبي سفيان الأمويّة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (417 , 424 , 1276 , 3660) ومسلم (528) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. واللفظ لمسلم. (¬2) وهو حديث عائشة الآتي بعده في العمدة.

قوله: (وأمّ حبيبة) أي: هند بنت أبي أُميَّة المخزوميّة , وهما من أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وكانتا ممّن هاجر إلى الحبشة. قوله: (أتتا أرض الحبشة) كانت أمّ سلمة قد هاجرت في الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد. وهاجرت أمّ حبيبة وهي بنت أبي سفيان في الهجرة الثّانية مع زوجها عبيد الله بن جحش فمات هناك، ويقال: إنّه قد تنصّر، وتزوّجها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعده. وذكر أهل السّير. أنّ الأُولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأنّ أوّل من هاجر منهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وقيل: وامرأتان، وقيل: كانوا اثني عشر رجلاً وقيل: عشرة، وأنّهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار. وذكر ابن إسحاق. أنّ السّبب في ذلك أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه لَمّا رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفّهم عنهم: إنّ بالحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ، فلو خرجتم إليه حتّى يجعل الله لكم فرجاً، فكان أوّل من خرج منهم عثمان بن عفّان ومعه زوجته رقيّة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج يعقوب بن سفيان بسندٍ موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرهما، فقدِمت امرأة , فقالت له: لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: صحبهما الله، إنّ عثمان لأوّل من هاجر بأهله بعد لوط.

وذكر ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل السّير , أنّ المسلمين بلغهم , وهم بأرض الحبشة أنّ أهل مكّة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكّة فلم يجدوا ما أخبروا به من ذلك صحيحاً، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثّانية. وسرد ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثّانية , وهم زيادة على ثمانين رجلاً. وقال ابن جرير الطّبريّ: كانوا اثنين وثمانين رجلاً سوى نسائهم وأبنائهم، وشكّ في عمّار بن ياسر هل كان فيهم , وبه تتكمّل العدّة ثلاثة وثمانين، وقيل: إنّ عدّة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة. قوله: (إنّ أولئك) بكسر الكاف , ويجوز فتحها. قوله: (فمات) عطف على قوله " كان " وقوله " بنوا " جواب " إذا ". قوله: (بنوا على قبره مسجداً) فيه إشارة إلى نهي المسلم عن أن يُصلِّي في الكنيسة فيتّخذها بصلاته مسجداً. والله أعلم. قوله: (ثم صوّروا فيه تلك الصّور) الصور بضم المهملة وفتح الواو جمع صورة، وحكي: سكون الواو في الجمع أيضا. وللبخاري " تيك الصّور " بالياء التّحتانيّة بدل اللام، وفي الكاف. فيها وفي أولئك , ما في أولئك الماضية. وإنّما فعل ذلك أوائلهم ليتأنّسوا برؤية تلك الصّور , ويتذكّروا

أحوالهم الصّالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثمّ خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم , ووسوس لهم الشّيطان أنّ أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصّور ويعظّمونها فعبدوها، فحذّر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك سدّاً للذّريعة المؤدّية إلى ذلك. وفي الحديث دليل على تحريم التّصوير، وحمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزّمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأمّا الآن فلا. وقد أطنب ابن دقيق العيد في ردّ ذلك (¬1) وقال البيضاويّ: لَمّا كانت اليهود والنّصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم , ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصّلاة نحوها واتّخذوها أوثاناً , لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأمّا من اتّخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التّبرّك بالقرب منه لا التّعظيم له ولا التّوجّه نحوه. فلا يدخل في ذلك الوعيد (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن دقيق في كتابه " إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام " (1/ 377): وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور. ولقد أبعد غاية البعد مَن قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان. وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده - لا يساويه في هذا المعنى. فلا يساويه في هذا التشديد - هذا أو معناه - وهذا القول عندنا باطل قطعاً. لأنه قد ورد في الأحاديث: الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصوّرين. وأنهم يقال لهم " أحيوا ما خلقتم " وهذه عِلَّة مخالفة لِمَا قاله هذا القائل , وقد صرَّح بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - المشبهون بخلق الله , وهذه عِلَّة عامة مستقلة مناسبة. لا تخصُّ زماناً دون زمان. وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد، مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره. وهو التشبه بخلق الله. انتهى. (¬2) قال الشيخ ابن باز (1/ 680): هذا غلط واضح , والصواب تحريم ذلك , ودخوله تحت الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد. فانتبه واحذر. والله الموفق.

وقد يقول بالمنع مطلقاً من يرى سدّ الذّريعة , وهو هنا متّجه قويّ (¬1). وفي الحديث جواز حكاية ما يشاهده المؤمن من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وذمّ فاعل المحرّمات، وأنّ الاعتبار في الأحكام بالشّرع لا بالعقل. وفيه كراهية الصّلاة في المقابر سواء كانت بجنب القبر أو عليه أو إليه، وفي ذلك حديثٌ رواه مسلم من طريق أبي مرثد الغنويّ مرفوعاً " لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها أو عليها " قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله) يشعر بأنه لو كان ذلك جائزاً في ذلك الشرع ما أطلق عليه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الذي فعله شر الخلق , فدلَّ على أنَّ فعل صور الحيوان (¬2) فعل محدث أحدثه عباد الصور. والله أعلم ¬

_ (¬1) قال الشيخ (3/ 266): هذا هو الحق لعموم الأحاديث الواردة بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد , ولَعْنُ من فعل ذلك , ولأنّ بناء المساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك بالمقبورين فيها. والله أعلم (¬2) قوله " الحيوان ". يدخل في عمومه كلُّ ما فيه حياة كالآدمي والبهائم.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 171 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لَم يقم منه: لعن الله اليهود والنّصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: ولولا ذلك أبرز قبره , غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً. (¬1) قوله: (في مرضه الذي لَم يقم منه) وللبخاري " في مرضه الذي مات فيه " ولهما من رواية عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس: لَمَّا نُزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله .. ". قوله " فقال وهو كذلك " أي: في تلك الحال، ويحتمل: أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرتْ فيه أمّ سلمة وأمّ حبيبة أمرَ الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة، وكأنّه - صلى الله عليه وسلم - علم أنّه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يُعظّم قبره كما فعل من مضى , فلعن اليهود والنّصارى. إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم. قوله: (لعن الله) الوعيد على ذلك يتناول من اتّخذ قبورهم مساجد تعظيماً ومغالاةً كما صنع أهل الجاهليّة وجرّهم ذلك إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1265 , 1324 , 4177) ومسلم (529) من طرق عن حميد بن أبي هلال الوزان عن عائشة به. وأخرج البخاري (425 , 3267 , 4179 , 5478) ومسلم (531) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس نحوه. دون قوله (ولولا ذلك لأبرز .. الخ.

عبادتهم، ويتناول من اتّخذ أمكنة قبورهم مساجد بأن تنبش وترمى عظامهم، فهذا يختصّ بالأنبياء ويلتحق بهم أتباعهم. وأمّا الكفرة. فإنّه لا حرج في نبش قبورهم، إذ لا حرج في إهانتهم. ولا يلزم من اتّخاذ المساجد في أمكنتها تعظيم، فعرف بذلك أن لا تعارض بين فعله - صلى الله عليه وسلم - في نبش قبور المشركين واتّخاذ مسجده مكانها (¬1) , وبين لعنه - صلى الله عليه وسلم - من اتّخذ قبور الأنبياء مساجد لِمَا تبيّن من الفرق. تكميل: قال ابن بطال: لَم أجد في نبش قبور المشركين لتُتخذ مسجداً نصاً عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا. هل تُنبش بطلب المال؟. فأجازه الجمهور. ومنعه الأوزاعي، وهذا الحديث حجة للجواز، لأنَّ المشرك لا حرمة له حيا ولا ميتاً. قوله: (اليهود والنصارى) وقد استُشكل ذكر النّصارى فيه؛ لأنّ اليهود لهم أنبياء بخلاف النّصارى. فليس بين عيسى وبين نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - نبيّ غيره. وليس له قبر. الجواب الأول: أنّه كان فيهم أنبياء أيضاً , لكنّهم غير مرسلين كالحواريّين ومريم في قولٍ. ¬

_ (¬1) أي: حديث أنس. أخرجه البخاري (428) ومواضع أخرى , ومسلم (1201) في قصة قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وشراء أرض المسجد من الأنصار. وفيه " وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ من بنى النجار فقال: يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم هذا. قالوا: لا والله. لا نطلب ثمنه إلاَّ إلى الله. فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم، قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنُبشت، ثم بالخرب فسُويت، وبالنخل فقُطع، فصفّوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر .. الحديث "

الجواب الثاني: الجمع في قوله " أنبيائهم " بإزاء المجموع من اليهود والنّصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم فاكتفى بذكر الأنبياء. ويؤيّده قوله في رواية مسلم من طريق جندب " كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " , ولهذا لَمّا أفرد النّصارى في الحديث الذي قبله قال " إذا مات فيهم الرّجل الصّالح " ولَمَّا أفرد اليهود في الحديث الذي بعده قال " قبور أنبيائهم ". الجواب الثالث: المراد بالاتّخاذ: أعمّ من أن يكون ابتداعاً أو اتّباعاً، فاليهود ابتدعت والنّصارى اتّبعت، ولا ريب أنّ النّصارى تعظّم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظّمهم اليهود. وقوله: (اتّخذوا) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنّه قيل ما سبب لعنهم؟. فأجيب بقوله " اتّخذوا " قوله: (لأُبرز قبره) أي لكشف قبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولَم يُتّخذ عليه الحائل، والمراد الدّفن خارج بيته. وهذا قالته عائشة قبل أن يوسّع المسجد النّبويّ، ولهذا لَمّا وسّع المسجد جُعلت حجرتُها مثلثة الشّكل محدّدة حتّى لا يتأتّى لأحدٍ أن يُصلِّي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة. (¬1) ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام في " فتاوى " (27/ 323): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مات دفن في حجرة عائشة , وكانت هي وحُجَر نسائه في شرقي المسجد , وقبليه لم يكن شيء من ذلك داخلاً في المسجد , واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة. ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسَّع المسجد , وأدخلت فيه الحجرة للضرورة: فإنَّ الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهنَّ كنَّ قد توفين كلهنَّ رضي الله عنهنَّ فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد. فهدمها وأدخلها في المسجد وبقيت حجرة عائشة على حالها , وكانت مغلقة لا يُمكَّن أحدٌ من الدخول إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك. إلى حين كانت عائشة في الحياة , وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة. فإنها توفيت في خلافة معاوية. ثم ولي ابنه يزيد ثم ابن الزبير في الفتنة ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد , وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة. وقد مات عامة الصحابة , قيل إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - فإنه آخر من مات بها في سنة 78 قبل إدخال الحجرة بعشر سنين. ففي حياة عائشة - رضي الله عنها - كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث ولاستفتائها وزيارتها من غير أن يكون إذا دخلَ أحدٌ يذهب إلى القبر المكرَّم لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك - بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهنَّ , وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفةٌ مبطوحة ببطحاء العرصة. انتهى

قوله: (غير أنّه خشي) بالضّمّ لا غير , وللبخاري " غير أنّه خشي أو خشي " على الشّكّ. هل هو بفتح الخاء المعجمة أو ضمّها؟. وللبخاري " غير أنّي أخشى " فهذه الرواية تقتضي أنّها هي التي امتنعت من إبرازه، ورواية الضّمّ مبهمة يمكن أن تفسّر بهذه، والهاء ضمير الشّأن , وكأنّها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وذلك يقتضي أنّهم فعلوه باجتهادٍ، بخلاف رواية الفتح فإنّها تقتضي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمرهم بذلك. قال الكرمانيّ: مفاد الحديث منع اتّخاذ القبر مسجداً، ومدلول التّرجمة (¬1) اتّخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنّهما ¬

_ (¬1) أي: جمة البخاري على الحديث (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور)

الحديث الثالث عشر

متلازمان وإن تغاير المفهوم. الحديث الثالث عشر 172 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه قال: ليس منّا من ضرب الخدود , وشقّ الجيوب , ودعا بدعوى الجاهليّة. (¬1) قوله: (ليس منّا) أي: من أهل سنّتتا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدّين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ , المبالغة في الرّدع عن الوقوع في مثل ذلك , كما يقول الرّجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست منّي، أي: ما أنت على طريقتي. وقال الزّين بن المنير ما ملخّصه: التّأويل الأوّل يستلزم أن يكون الخبر إنّما ورد عن أمر وجوديّ، وهذا يصان كلام الشّارع عن الحمل عليه. والأولى أن يقال: المراد أنّ الواقع في ذلك يكون قد تعرّض لأن يهجر ويعرض عنه. فلا يختلط بجماعة السّنّة تأديباً له على استصحابه حاله الجاهليّة التي قبّحها الإسلام، فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود. وحكي عن سفيان , أنّه كان يكره الخوض في تأويله , ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النّفوس وأبلغ في الزّجر. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي: أنّه خرج من فرع من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1235 , 1236 , 3331) ومسلم (103) من طريق عبد الله بن مرة , والبخاري (1232) من طريق إبراهيم كلاهما عن مسروق عن ابن مسعود به.

فروع الدّين , وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربيّ. ويظهر لي أنّ هذا النّفي يفسّره التّبرّي المتقدّم في حديث أبي موسى (¬1) حيث قال: برئ منه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وأصل البراءة الانفصال من الشّيء، وكأنّه توعّده بأن لا يدخله في شفاعته مثلاً. وقال المُهلَّب: قوله " أنا بريء " أي: من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل، ولَم يرد نفيه عن الإسلام. قلت: بينهما واسطة تعرف ممّا تقدّم أوّل الكلام، وهذا يدلّ على تحريم ما ذكر من شقّ الجيب وغيره. وكأنّ السّبب في ذلك ما تضمنّه ذلك من عدم الرّضا بالقضاء. فإن وقع التّصريح بالاستحلال مع العلم بالتّحريم أو التّسخّط مثلاً بما وقع , فلا مانع من حمل النّفي على الإخراج من الدّين. قوله: (ضرب الخدود) وللبخاري " لطم الخدود " خصّ الخدّ بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقيّة الوجه داخل في ذلك. قوله: (وشقّ الجيوب) جمع جيب بالجيم الموحّدة وهو ما يفتح من الثّوب ليدخل فيه الرّأس، والمراد بشقّه إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات التّسخّط. قوله: (ودعا بدعوى الجاهليّة) في رواية مسلم " بدعوى أهل الجاهليّة "، أي من النّياحة ونحوها، وكذا النّدبة كقولهم: واجبلاه، ¬

_ (¬1) حديث أبي موسى - رضي الله عنه - تقدّم برقم (169).

وكذا الدّعاء بالويل والثّبور. ففي حديث أبي أُمامة عند ابن ماجه وصحّحه ابن حبّان , إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الخامشة وجهها , والشّاقّة جيبها , والدّاعية بالويل والثّبور. تكميل: قال البخاري: وقال عمر - رضي الله عنه -: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لَم يكن نقع أو لقلقة " (¬1) والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت " انتهى قوله " ما لَم يكن نقع أو لقلقة " بقافين الأولى ساكنة وقد فسره البخاري بأن النقع التراب. أي: وضعه على الرأس , واللقلقة الصوت. أي: المرتفع , وهذا قول الفراء , فأما تفسير اللقلقة فمتفق عليه. كما قال أبو عبيد في غريب الحديث. وأما النقع. فروى سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم , قال: النقع الشق. أي: شق الجيوب وكذا قال وكيع فيما رواه بن سعد عنه. وقال أبو عبيد: الذي رأيت عليه أكثر أهل العلم , أنه رفع الصوت يعني بالبكاء. وقال بعضهم: هو وضع التراب على الرأس , لأنَّ النقع هو الغبار. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في " لفتح " (3/ 206): هذا الأثر وصله البخاري في " التاريخ الأوسط " من طريق الأعمش عن شقيق , قال: لَمَّا مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة , أي: ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم , وهنَّ بنات عم خالد بن الوليد بن المغيرة , يبكين عليه , فقيل لعمر: أرسل إليهن فانْهَهُنَّ. فذكره. وأخرجه ابن سعد عن وكيع وغير واحد عن الأعمش. انتهى

وقيل: هو شق الجيوب. وهو قول شمر. وقيل: هو صوت لطم الخدود. حكاه الأزهري. وقال الإسماعيلي معترضاً على البخاري: النقع لعمري هو الغبار , ولكن ليس هذا موضعه , وإنما هو هنا الصوت العالي , واللقلقة ترديد صوت النواحة. انتهى ولا مانع من حمله على المعنيين بعد أن فسر المراد بكونه وضع التراب على الرأس , لأنَّ ذلك من صنيع أهل المصائب , بل قال ابن الأثير: المرجح أنه وضع التراب على الرأس. وأما من فسَّره بالصوت. فيلزم موافقته للقلقة , فحمل اللفظين على معنيين أولى من حملهما على معنى واحد. وأجيب: بأن بينهما مغايرة من وجه كما تقدم , فلا مانع من إرادة ذلك.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 173 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شهد الجنازة حتّى يُصلِّي عليها فله قيراطٌ. ومن شهدها حتّى تدفن فله قيراطان , قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين. (¬1) ولمسلمٍ: أصغرهما مثل أحدٍ. (¬2) تمهيد: وقع لي حديث الباب من رواية عشرة من الصّحابة غير أبي هريرة وعائشة (¬3): من حديث ثوبان عند مسلم، والبراء وعبد الله بن مغفّل عند النّسائيّ، وأبي سعيد عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عوانة. وأسانيد هؤلاء الخمسة صحاح. ومن حديث أُبيّ بن كعب عند ابن ماجه، وابن عبّاس عند البيهقيّ في " الشّعب "، وأنس عند الطّبرانيّ في " الأوسط "، وواثلة بن الأسقع عند ابن عديّ، وحفصة عند حميد بن زنجويه في " فضائل الأعمال " , وفي كلّ من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف. وسأشير إلى ما فيها من فائدة زائدة في الكلام على الحديث. قوله: (من شهد الجنازة) ولمسلم من وجه آخر " من تبع جنازة فله قيراط من الأجر .. " وقد تمسّك بهذا اللفظ من زعم أنّ المشي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1261) ومسلم (945) من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. وله طرق أخرى عندهما سيوردها الشارح رحمه الله. (¬2) أخرجه مسلم (945) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. (¬3) حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه البخاري (1324) ومسلم (2238).

خلفها أفضل، ولا حجّة فيه , لأنّه يقال تبعه إذا مشى خلفه أو إذا مرّ به فمشى معه، وكذلك اتّبعه بالتّشديد وهو افتعل منه، فإذا هو مقول بالاشتراك. وقد بيّن المرادَ الحديثُ الآخر المصحّح عند ابن حبّان وغيره من حديث ابن عمر في المشي أمامها , (¬1) وأمّا أتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه، ولَم تأت به الرّواية هنا. والاتّباع إنّما هو وسيلة لأحد مقصودين: إمّا الصّلاة وإمّا الدّفن، فإذا تجرّدت الوسيلة عن المقصد لَم يحصل المرتّب على المقصود، وإن كان يرجى أن يحصل لفاعل ذلك فضل ما بحسب نيّته. وروى سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال: اتّباع الجنازة أفضل النّوافل. وفي رواية عبد الرّزّاق عنه: اتّباع الجنازة أفضل من صلاة التّطوّع. قوله: (حتّى يُصلَّى عليها) واللام للأكثر مفتوحة , وللبخاري " حتى يُصلِّي " بكسرها، ورواية الفتح محمولة عليها , فإنّ حصول القيراط متوقّف على وجود الصّلاة من الذي يحصل له كما سيأتي تقريره. ولَم يبيّن في هذه الرّواية ابتداء الحضور، وقد بيّنه في رواية أبي سعيد المقبريّ عن أبي هريرة في البخاري حيث قال: من تبِعها من أهلها حتى يُصلِّي عليها , فله قيراط. وفي رواية خبّاب المدني عن أبي هريرة ¬

_ (¬1) تقدَّم نقل الخلاف في المسألة. انظر الحديث رقم (167).

عند مسلم: من خرج مع جنازة من بيتها. ولأحمد في حديث أبي سعيد الخدريّ " فمشى معها من أهلها " ومقتضاه أنّ القيراط يختصّ بمن حضر من أوّل الأمر إلى انقضاء الصّلاة، وبذلك صرّح المحبّ الطّبريّ وغيره. والذي يظهر لي أنّ القيراط يحصل أيضاً لمن صلَّى فقط , لأنّ كلّ ما قبل الصّلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلَّى فقط دون قيراط من شيّع مثلاً وصلى. ورواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ " أصغرهما مثل أحد " يدلّ على أنّ القراريط تتفاوت. ووقع أيضاً في رواية أبي صالح المذكورة عند مسلم " من صلَّى على جنازة ولَم يتبعها فله قيراط " وفي رواية نافع بن جبير عن أبي هريرة عند أحمد " ومن صلَّى ولَم يتبع فله قيراط " فدلَّ على أنّ الصّلاة تحصّل القيراط وإن لَم يقع اتّباع. ويمكن أن يحمل الاتّباع هنا على ما بعد الصّلاة. وهل يأتي نظير هذا في قيراط الدّفن؟ فيه بحث. قال النّوويّ في " شرح البخاريّ " عند الكلام على طريق محمّد بن سيرين عن أبي هريرة في صحيح البخاري بلفظ " من اتّبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً , وكان معها حتّى يُصلِّي ويفرغ من دفنها , فإنّه يرجع من الأجر بقيراطين. الحديث: ومقتضى هذا أنّ القيراطين إنّما يحصلان لمن كان معها في جميع الطّريق حتّى تدفن، فإن صلَّى مثلاً ,

وذهب إلى القبر وحده فحضر الدّفن لَم يحصل له إلاَّ قيراط واحد. انتهى وليس في الحديث ما يقتضي ذلك إلاَّ من طريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط لشهود الدّفن وحده كان مقدّماً. ويُجمع حينئذٍ بتفاوت القيراط، والذين أبوا ذلك جعلوه من باب المطلق والمقيّد. نعم. مقتضى جميع الأحاديث أنّ من اقتصر على التّشييع فلم يصلِّ , ولَم يشهد الدّفن فلا قيراط له إلاَّ على الطّريقة التي سنذكرها عن ابن عقيل، لكن الحديث عن البراء (¬1) في ذلك ضعيف. وأمّا التّقييد بالإيمان والاحتساب فلا بدّ منه , لأنّ ترتّب الثّواب على العمل يستدعي سبق النّيّة فيه , فيخرج من فعل ذلك على سبيل المكافأة المجرّدة , أو على سبيل المحاباة. والله أعلم. قوله: (فله قيراطٌ) القيراط بكسر القاف. قال الجوهريّ: أصله قرّاط بالتّشديد لأنّ جمعه قراريط فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء قال: والقيراط نصف دانق. وقال قبل ذلك: الدّانق سدس الدّرهم. ¬

_ (¬1) كذا قال الشارح رحمه الله , ولعلَّ الصواب (أبو هريرة) كما سيورده الشارح بعد قليل لتقوية كلام ابن عقيل. مَّا حديث البراء. فأخرجه النسائي (1940) - وقد عزاه الشارح له كما تقدم - من طريق برد أخي يزيد بن أبي زياد عن المسيّب بن رافع، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تبع جنازة حتى يُصلَّى عليها كان له من الأجر قيراط، ومن مشى مع الجنازة حتى تُدفن كان له من الأجر قيراطان، والقيراط مثل أحد. إسناده جيد , وبُرد وثّقه العجلي والنسائي , وذكره ابن حبان في الثقات

فعلى هذا يكون القيراط جزءاً من اثني عشر جزءاً من الدّرهم. وأمّا صاحب النّهاية فقال: القيراط جزء من أجزاء الدّينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وفي الشّام جزء من أربعة وعشرين جزءاً. ونقل ابن الجوزيّ عن ابن عقيل أنّه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم أو نصف عشر دينار. والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميّت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدّفن قيراط. وذكر القيراط تقريباً للفهم لَمّا كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته وعد من جنس ما يعرف , وضرب له المثل بما يعلم. انتهى. وليس الذي قال ببعيدٍ. وقد روى البزّار من طريق عجلان عن أبي هريرة مرفوعاً " من أتى جنازة في أهلها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراط، فإن صلَّى عليها فله قيراط، فإن انتظرها حتّى تدفن فله قيراط " , فهذا يدلّ على أنّ لكل عمل من أعمال الجنازة قيراطاً , وإن اختلفت مقادير القراريط , ولا سيّما بالنّسبة إلى مشقّة ذلك العمل وسهولته. وعلى هذا فيقال: إنّما خصّ قيراطي الصّلاة والدّفن بالذّكر لكونهما المقصودين، بخلاف باقي أحوال الميّت فإنّها وسائل، ولكنّ هذا يخالف ظاهر سياق الحديث الذي في البخاري فإنّ فيه " إنّ لمن تبعها حتّى يُصلَّى عليها ويفرغ من دفنها قيراطين " فقط.

ويجاب عن هذا: بأنّ القيراطين المذكورين لمن شهد، والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميّت فافترقا. وقد ورد لفظ القيراط في عدّة أحاديث: فمنها: ما يحمل على القيراط المتعارف. ومنها: ما يحمل على الجزء في الجملة , وإن لَم تُعرف النّسبة. فمن الأوّل. حديث كعب بن مالك مرفوعاً " إنّكم ستفتحون بلداً يذكر فيها القيراط " (¬1). وحديث أبي هريرة مرفوعاً: كنت أرعى غنماً لأهل مكّة بالقراريط (¬2). قال ابن ماجه عن بعض شيوخه: يعني كلّ شاة بقيراطٍ. وقال غيره: قراريط جبل بمكّة. ومن المحتمل حديث ابن عمر في الذين أوتوا التّوراة " أعطوا قيراطاً قيراطاً " (¬3) وحديث الباب، وحديث أبي هريرة: من اقتنى ¬

_ (¬1) كذا قال الشارح عن كعب , والحديث المذكور أخرجه مسلم (6658) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - فذكره. وتمامه " فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمةً ورحماً .. الحديث. أمَّا حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -. فأخرجه الطبراني في " الكبير " (19/ 61) والبيهقي في " الدلائل " (2576) والطبري في " تاريخه " (1/ 173) بلفظ " إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً. فإن لهم ذمة ورحماً ". ولَم أره باللفظ الذي ذكره الشارح رحمه الله من حديث كعب. (¬2) أخرجه البخاري في " صحيحه " (2262) (¬3) أخرجه البخاري في " صحيحه " (557)

كلباً نقص من عمله كلّ يوم قيراط. (¬1) وقد جاء تعيين مقدار القيراط في حديث الباب بأنّه مثل أحد كما سيأتي الكلام عليه، وفي رواية عند أحمد والطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث ابن عمر , قالوا: يا رسولَ الله مثل قراريطنا هذه؟ قال: لا. بل مثل أحد. قال النّوويّ وغيره: لا يلزم من ذِكر القيراط في الحديثين تساويهما , لأنّ عادة الشّارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها. والله أعلم. وقال ابن العربيّ القاضي: الذّرّة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءاً من حبّة , والحبّة ثلث القيراط، فإذا كانت الذّرّة تخرج من النّار. فكيف بالقيراط؟ قال: وهذا قدر قيراط الحسنات، فأمّا قيراط السّيّئات فلا. وقال غيره: القيراط في اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتنى له في ذلك اليوم، وذهب الأكثر: إلى أنّ المراد بالقيراط في حديث الباب جزء من أجزاء معلومة عند الله؛ وقد قرّبها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للفهم بتمثيله القيراط بأحدٍ. قال الطّيبيّ: قوله " مثل أحد " تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط، والمراد منه أنّه يرجع بنصيبٍ كبير من الأجر، وذلك لأنّ لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبيّن الموزون بقوله " من الأجر " وبيّن المقدار المراد منه بقوله " مثل أحد ". ¬

_ (¬1) انظر الحديث الآتي في الصيد (392)

وقال الزّين بن المنير: أراد تعظيم الثّواب فمثّله للعيان بأعظم الجبال خلقاً وأكثرها إلى النّفوس المؤمنة حبّاً، لأنّه الذي قال في حقّه " إنّه جبل يحبّنا ونحبّه " (¬1) انتهى. ولأنّه أيضاً قريب من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته، وخصّ القيراط بالذّكر لأنّه كان أقلّ ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل. واستدل بقوله " من تبع " على أنّ المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، لأنّ ذلك هو حقيقة الاتّباع حسّاً. قال ابن دقيق العيد: الذين رجّحوا المشي أمامها حملوا الاتّباع هنا على الاتّباع المعنويّ. أي: المصاحبة، وهو أعمّ من أن يكون أمامها أو خلفها أو غير ذلك، وهذا مجاز يحتاج إلى أن يكون الدّليل الدّالّ على استحباب التّقدّم راجحاً. انتهى. وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك , وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك بما يغني عن إعادته (¬2). قوله: (ومن شهدها) وللبخاري " ومن شهد " بحذف المفعول. قوله: (حتّى تدفن) ظاهره أنّ حصول القيراط متوقّف على فراغ الدّفن، وهو أصحّ الأوجه عند الشّافعيّة وغيرهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1481) ومسلم (3437) من حديث أبي حميد - رضي الله عنه - وأخرجاه أيضاً من حديث أنس وغيره (¬2) انظر حديث أبي هريرة المتقدِّم برقم (167)

وقيل: يحصل بمجرّد الوضع في اللحد. وقيل: عند انتهاء الدّفن قبل إهالة التّراب. وقد وردت الأخبار بكل ذلك. ويترجّح الأوّل للزّيادة، فعند مسلم من طريق معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة في إحدى الرّوايتين عنه " حتّى يفرغ منها " , وفي الأخرى " حتّى توضع في اللحد " , وكذا عنده في رواية أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ " حتّى توضع في القبر ". وفي رواية ابن سيرين والشّعبيّ " حتّى يفرغ منها " , وفي رواية أبي مزاحم عند أحمد " حتّى يقضى قضاؤها " , وفي رواية أبي سلمة عند التّرمذيّ " حتّى يقضى دفنها ". وفي رواية ابن عياض عند أبي عوانة " حتّى يسوّى عليها " أي: التّراب، وهي أصرح الرّوايات في ذلك. ويحتمل: حصول القيراط بكلٍّ من ذلك، لكن يتفاوت القيراط كما تقدّم. قوله: (فله قيراطان) ظاهره أنّهما غير قيراط الصّلاة، وهو ظاهر سياق أكثر الرّوايات، وبذلك جزم بعض المتقدّمين. وحكاه ابن التّين عن القاضي أبي الوليد. لكن سياق رواية ابن سيرين يأبى ذلك , وهي صريحة في أنّ الحاصل من الصّلاة ومن الدّفن قيراطان فقط، وكذلك رواية خبّاب - صاحب المقصورة -عند مسلم بلفظ " من خرج مع جنازة من بيتها

ثمّ تبعها حتّى تدفن كان له قيراطان من أجر، كلّ قيراط مثل أحد، ومن صلَّى عليها ثمّ رجع كان له قيراط " , وكذلك رواية الشّعبيّ عن أبي هريرة عند النّسائيّ بمعناه، ونحوه رواية نافع بن جبير. قال النّوويّ: رواية ابن سيرين صريحة في أنّ المجموع قيراطان، ومعنى رواية الأعرج على هذا كان له قيراطان. أي: بالأوّل، وهذا مثل حديث " من صلَّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف الليل، ومن صلَّى الفجر في جماعة فكأنّما قام الليل كلّه " (¬1) أي: بانضمام صلاة العشاء. قوله: (قيل: وما القيراطان) لَم يعيّن في هذه الرّواية القائل , ولا المقول له. وقد بيّن الثّاني مسلم في رواية الأعرج هذه , فقال: قيل: وما القيراطان يا رسولَ الله؟ " وعنده في حديث ثوبان " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القيراط ". وبيّن القائل أبو عوانة من طريق أبي مزاحم عن أبي هريرة. ولفظه " قلت: وما القيراط يا رسولَ الله؟ "، ووقع عند مسلم , أنّ أبا حازم أيضاً سأل أبا هريرة عن ذلك. قوله: (مثل الجبلين العظيمين) سبق أنّ في رواية ابن سيرين وغيره " مثل أحد " وفي رواية الوليد بن عبد الرّحمن عند ابن أبي شيبة " القيراط مثل جبل أحد " وكذا في حديث ثوبان عند مسلم , والبراء ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (1523) من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -

عند النّسائيّ , وأبي سعيد عند أحمد. ووقع عند النّسائيّ من طريق الشّعبيّ " فله قيراطان من الأجر كلّ واحد منهما أعظم من أحد ". وتقدّم أنّ في رواية أبي صالح عند مسلم " أصغرهما مثل أحد " وفي رواية أبيّ بن كعب عند ابن ماجه " القيراط أعظم من أحد هذا " كأنّه أشار إلى الجبل عند ذكر الحديث. وفي حديث واثلة عند ابن عديّ " كُتب له قيراطان من أجر أخفّهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد " , فأفادت هذه الرّواية بيان وجه التّمثيل بجبل أحد , وأنّ المراد به زنة الثّواب المرتّب على ذلك العمل. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدّم. التّرغيب في شهود الميّت، والقيام بأمره، والحضّ على الاجتماع له، والتّنبيه على عظيم فضل الله وتكريمه للمسلم في تكثير الثّواب لمن يتولى أمره بعد موته، وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان إمّا تقريباً للأفهام وإمّا على حقيقته. والله أعلم. فائدةٌ: أخرج عبد الرّزّاق من طريق عمرو بن شعيب عن أبي هريرة قال: أميران وليسا بأميرين: الرّجل يكون مع الجنازة يُصلِّي عليها فليس له أن يرجع حتّى يستأذن وليّها " الحديث، وهذا منقطع موقوف. وروى عبد الرّزّاق مثله من قول إبراهيم، وأخرجه ابن أبي شيبة عن المسور من فعله أيضاً.

وقد ورد مثله مرفوعاً من حديث جابر. أخرجه البزّار بإسنادٍ فيه مقال، وأخرجه العقيليّ في " الضّعفاء " من حديث أبي هريرة مرفوعاً بإسنادٍ ضعيف. وروى أحمد من طريق عبد الله بن هرمز عن أبي هريرة مرفوعاً: من تبع جنازة فحمل من علوها , وحثا في قبرها , وقعد حتّى يؤذن له رجع بقيراطين. وإسناده ضعيف. والذي عليه معظم أئمّة الفتوى , قول حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذناً , ولكن من صلَّى ثمّ رجع فله قيراط. وحكي عن مالك , أنّه لا ينصرف حتّى يستأذن.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة الزّكاة في اللّغة النّماء، يقال: زكا الزّرع إذا نما، وترد أيضاً في المال، وترِد أيضاً بمعنى التّطهير. وشرعاً بالاعتبارين معاً: أمّا بالأوّل. فلأنّ إخراجها سببٌ للنّماء في المال، أو بمعنى أنّ الأجر بسببها يكثر، أو بمعنى أنّ متعلقها الأموال ذات النّماء كالتّجارة والزّراعة. ودليل الأوّل " ما نقص مال من صدقة " (¬1) ولأنّها يضاعف ثوابها كما جاء " إنّ الله يربّي الصّدقة " (¬2). وأمّا بالثّاني. فلأنّها طهرة للنّفس من رذيلة البخل، وتطهير من الذّنوب. وهي الرّكن الثّالث من الأركان التي بني الإسلام عليها. وقال ابن العربيّ: تطلق الزّكاة على الصّدقة الواجبة والمندوبة والنّفقة والحقّ والعفو. وتعريفها في الشّرع. إعطاء جزء من النّصاب الحوليّ إلى فقير ونحوه غير هاشميّ ولا مطّلبيٍّ. ثمّ لها ركن وهو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (6757) من حديث أبي هريرة مرفوعاً " ما نقصتْ صدقةٌ من مال , وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلاَّ عزاً , وما تواضع أحدٌ لله إلاَّ رفعَه الله. (¬2) أخرجه البخاري (1410) ومسلم (2389) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تصدًّق بعدل تمرةٍ من كسب طيَّب - ولا يقبل الله إلاَّ الطيب - وإنَّ الله يتقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبه كما يربِّي أحدكم فلوَّه حتى تكون مثل الجبل.

الإخلاص، وشرط هو السّبب وهو ملك النّصاب الحوليّ، وشرط من تجب عليه وهو العقل والبلوغ والحرّيّة. ولها حِكمٌ , وهو سقوط الواجب في الدّنيا وحصول الثّواب في الأخرى. وحكمةٌ , وهي التّطهير من الأدناس ورفع الدّرجة واسترقاق الأحرار. انتهى. وهو جيّد , لكن في شرط من تجب عليه اختلاف. والزّكاة أمر مقطوع به في الشّرع يستغنى عن تكلّف الاحتجاج له، وإنّما وقع الاختلاف في فروعه. وأمّا أصل فرضيّة الزّكاة فمن جحدها كفر. فائدة: اختلف في أول وقتِ فرْضِ الزكاة. فذهب الأكثر. إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان. أشار إليه النووي (¬1) في باب السير من الروضة. وجزم ابن الأثير في " التاريخ ": بأن ذلك كان في التاسعة. وفيه نظر. ففي البخاري في حديث ضمام بن ثعلبة , وفي حديث وفد عبد القيس , وفي عدة أحاديث ذِكر الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل. وكانت في أول السابعة , وقال فيهما " يأمرنا بالزكاة ". لكن يمكن تأويل كل ذلك. كما سيأتي في آخر الكلام. وقوَّى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير. بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطوَّلة ففيها " لَمَّا أنزلت آية الصدقة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً فقال: ما هذه إلاَّ جزية أو أخت الجزية ". والجزية إنما وجبت في التاسعة فتكون الزكاة في التاسعة، لكنه ¬

_ (¬1) يحيى بن شرف , سبق ترجمته (1/ 22)

حديث ضعيف لا يحتج به. (¬1) وادَّعى ابن خزيمة في " صحيحه " , أنَّ فرضها كان قبل الهجرة. واحتجَّ بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة. وفيها أنَّ جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى. وفي استدلاله بذلك نظرٌ، لأنَّ الصلوات الخمس لم تكن فُرضت بعد، ولا صيام رمضان. فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مُدَّةٍ قد وقع فيها ما ذكر من قصة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفراً فقال: يأمرنا. بمعنى يأمر به أمته، وهو بعيد جداً. وأولى ما حُمل عليه حديث أم سلمة هذا - إنْ سلم من قدح في إسناده - أنَّ المراد بقوله " يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " أي: في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام رمضان ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول. والله أعلم. ومما يدلُّ على أنَّ فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس في ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في " تفسيره " (14/ 370) والبيهقي في " الشعب " (4187) والبغوي في " التفسير " (4/ 76) وغيرهم من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - مطولاً. وهو في البخاري مختصراً. كما سيأتي.

قصة ضمام بن ثعلبة. وقوله " أنشدك الله. الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا " (¬1). وكان قدوم ضمام سنة خمس. (¬2) وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العُمَّال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعي تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك. ومما يدلُّ على أنَّ فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أنَّ صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة، لأنَّ الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف. وثبت عند أحمد وابن خزيمة أيضاً والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلتْ فريضة الزكاة فلم يأمرنا , ولم ينهنا. ونحن نفعله. إسناده صحيح , ورجاله رجال الصحيح إلاَّ أبا عمار الراوي له عن قيس بن سعد , وهو كوفي اسمه عريب - بالمهملة المفتوحة - ابن حميد. وقد وثقه أحمد وابن معين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (61) من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك، يقول: بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، دخل رجلٌ على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك .. الحديث. (¬2) كذا جزم الشارح في الزكاة بأنَّ قدومه سنة خمس. وسيأتي نقل كلام الشارح في ضعْف هذا القول من عدة أوجه. وأنه في السنة التاسعة. انظر أول كتاب الحج.

وهو دالٌّ على أنَّ فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان , وذلك بعد الهجرة. وهو المطلوب. ووقع في " تاريخ الإسلام ": في السنة الأولى فرضت الزكاة. وقد أخرج البيهقي في " الدلائل " حديث أم سلمة المذكور من طريق " المغازي " لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه. وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من حديث ابن إسحاق , لكن من طريق سلمة بن الفضل عنه، وفي سلمة مقالٌ. والله أعلم.

الحديث الأول

الحديث الأول 174 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبلٍ - حين بعثه إلى اليمن -: إنّك ستأتي قوماً أهل كتابٍ , فإذا جئتهم , فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله , وأنّ محمّداً رسول الله. فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم: أنّ الله قد فرضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ , فإنْ هم أطاعوا لك بذلك , فأخبرهم: أنّ الله قد فرضَ عليهم صدقةً , تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم. فإنْ هم أطاعوا لك بذلك , فإيّاك وكرائمَ أموالهم , واتّق دعوة المظلوم. فإنّه ليس بينها وبين الله حجابٌ. (¬1) قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبلٍ حين بعثه) كذا في جميع الطّرق، إلاَّ ما أخرجه مسلمٌ عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريبٍ وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيعٍ عن زكرياء بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عبد الله. فقال فيه: عن ابن عبّاسٍ عن معاذ بن جبلٍ قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعلى هذا فهو من مسند معاذٍ، وظاهر سياق مسلمٍ أنّ اللفظ مدرجٌ، لكن لَم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة. وسائر الرّوايات أنّه من مسند ابن عبّاسٍ , فقد أخرجه التّرمذيّ عن أبي كريبٍ عن وكيعٍ فقال فيه: عن ابن عبّاسٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1331 , 1389، 1425، 2316، 4090، 6937) ومسلم (13) من طريق يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس به.

بعث معاذاً. وكذا هو في مسند إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه - قال: حدّثنا وكيعٌ به , وكذا رواه عن وكيعٍ أحمد في " مسنده " أخرجه أبو داود عن أحمد، وللبخاري عن يحيى بن موسى عن وكيعٍ كذلك. وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " عن محمّد بن عبد الله المخرميّ وجعفر بن محمّدٍ الثّعلبيّ، والإسماعيليّ من طريق أبي خيثمة وموسى بن السّدّيّ , والدّارقطنيّ من طريق يعقوب بن إبراهيم الدّورقيّ وإسحاق بن إبراهيم البغويّ كلهم عن وكيعٍ كذلك. فإنْ ثبتت رواية أبي بكرٍ فهو من مرسل ابن عبّاسٍ، لكن ليس حضور ابن عبّاسٍ لذلك ببعيدٍ , لأنّه كان في أواخر حياة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهو إذ ذاك مع أبويه بالمدينة. قوله: (لمعاذ بن جبل) أي ابن عمرو بن أوس، من بني أسد بن شاردة بن يزيد - بفتح المثناة الفوقانية - ابن جشم بن الخزرج الخزرجي. يكنى أبا عبد الرحمن، شهد بدراً والعقبة، وكان أميراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، ورجع بعده إلى المدينة، ثم خرج إلى الشام مجاهداً فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. وللبخاري من حديث عبد الله بن عمرو: استقرئوا القرآن. فذكرَه وقد أخرج ابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة رفعه " نعم الرجل معاذ بن جبل " كان عقبياً بدرياً من فقهاء الصحابة. وقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن أنس رفعه " أرحم أمتي أبو

بكر - وفيه - وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ " ورجاله ثقات. وصحَّ عن عمر أنه قال: من أراد الفقه فليأت معاذاً. وعاش معاذ ثلاثاً وثلاثين سنة على الصحيح. قوله: (حين بعثه إلى اليمن) كان بعثُ معاذٍ إلى اليمن سنة عشرٍ قبل حجّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -.كما ذكره البخاري في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسعٍ عند منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من تبوك. رواه الواقديّ بإسناده إلى كعب بن مالكٍ، وأخرجه ابن سعدٍ في " الطّبقات " عنه، ثمّ حكى ابن سعدٍ , أنّه كان في ربيعٍ الآخر سنة عشرٍ. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمانٍ. واتّفقوا على أنّه لَم يزل على اليمن إلى أنْ قدم في عهد أبي بكرٍ , ثمّ توجّه إلى الشّام فمات بها. واختلف هل كان معاذٌ والياً أو قاضياً؟. فجزم ابن عبد البرّ بالثّاني , والغسّانيّ بالأوّل. قوله: (إلى اليمن) قال البخاري: سُمِّيت اليمن لأنها عن يمين الكعبة. هو قول أبي عبيدة. قاله في تفسير الواقعة. وروي عن قطرب , قال: إنما سمي اليمن يمناً ليُمنه والشام شأما لشُؤمه. وقال الهمداني في الأنساب: لما ظعنت العرب العاربة أقبل بنو قطن بن عامر فتيامنوا. فقالت العرب: تيامنت بنو قطن. فسمُّوا اليمن , وتشاءم الآخرون فسُمُّوا شاما.

وقيل: إنما سُميت اليمن بيمن بن قحطان. وسُميت الشام بسام بن نوح. وأصله شام بالمعجمة ثم عرب بالمهملة. قوله: (ستأتي قوماً أهل كتابٍ) هي كالتّوطئة للوصيّة لتستجمع همّته عليها. لكون أهل الكتاب أهل علمٍ في الجملة , فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهّال من عبدة الأوثان، وليس فيه أنّ جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب , بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنّما خصّهم بالذّكر تفضيلاً لهم على غيرهم. قوله: (فإذا جئتهم) قيل: عبّر بلفظ إذا تفاؤلاً بحصول الوصول إليهم. قوله: (فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأنّ محمّداً رسول الله) كذا للأكثر، وفي روايةٍ لهما بلفظ " وأنّي رسول الله " كذا في رواية زكريّا بن إسحاق لَم يختلف عليه فيها. وأمّا إسماعيل بن أُميَّة. ففي رواية روح بن القاسم عنه " فأوّل ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله " وفي رواية الفضل بن العلاء عنه " إلى أن يوحّدوا الله، فإذا عرفوا ذلك ". (¬1) ويجمع بينها: بأنّ المراد بعبادة الله توحيده وبتوحيده الشّهادة له بذلك ولنبيّه بالرّسالة , ووقعت البداءة بهما لأنّهما أصل الدّين الذي لا يصحّ شيءٌ غيرهما إلاَّ بهما , فمن كان منهم غير موحّدٍ فالمطالبة ¬

_ (¬1) رواية روح عن إسماعيل. أخرجه البخاري (1389) ومسلم (19) , أمّا رواية الفضل بن العلاء عنه. فأخرجها البخاري (6937).

متوجّهةٌ إليه بكل واحدةٍ من الشّهادتين على التّعيين، ومن كان موحّداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانيّة والإقرار بالرّسالة، وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه , كمن يقول ببنوّة عزيرٍ أو يعتقد التّشبيه فتكون مطالبتهم بالتّوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم. واستدل به مَن قال من العلماء: إنّه لا يشترط التّبرّي من كل دينٍ يخالف دين الإسلام خلافاً لمَن قال: إنّ من كان كافراً بشيءٍ وهو مؤمنٌ بغيره لَم يدخل في الإسلام إلاَّ بترك اعتقاد ما كفر به. والجواب: أنّ اعتقاد الشّهادتين يستلزم ترك اعتقاد التّشبيه , ودعوى بنوّة عزيرٍ وغيره فيكتفى بذلك. واستدل به على أنّه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلاَّ الله حتّى يضيف إليها الشّهادة لمحمّدٍ بالرّسالة. وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: يصير بالأولى مُسلماً , ويطالب بالثّانية. وفائدة الخلاف تظهر بالحكم بالرّدّة. تنبيهان: أحدهما: كان أصل دخول اليهوديّة في اليمن في زمن أسعد أبي كرب - وهو تُبَّع الأصغر - كما حكاه ابن إسحاق في أوائل " السّيرة النّبويّة ". ثانيهما: قال ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ ": تبرّأتِ اليهود في هذه

الأزمان من القول بأنّ العُزير ابن الله , وهذا لا يمنع كونه كان موجوداً في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , لأنّ ذلك نزل في زمنه واليهود معه بالمدينة وغيرها , فلم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه ردّ ذلك ولا تعقّبه. والظّاهر أنّ القائل بذلك طائفةٌ منهم لا جميعهم , بدليل أنّ القائل من النّصارى إنّ المسيح ابن الله طائفةٌ منهم لا جميعهم , فيجوز أن تكون تلك الطّائفة انقرضت في هذه الأزمان , كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التّشبيه إلى التّعطيل , وتحوّل معتقد النّصارى في الابن والأب إلى أنّه من الأمور المعنويّة لا الحسّيّة، فسبحان مقلب القلوب. قوله: (فإنْ هم أطاعوا لك بذلك) أي: شهدوا وانقادوا، وفي رواية ابن خزيمة " فإن هم أجابوا لذلك ". وفي رواية الفضل بن العلاء كما في البخاري " فإذا عرفوا ذلك " وعدّى أطاع باللام - وإن كان يتعدّى بنفسه - لتضمّنه معنى انقاد. واستدل به على أنّ أهل الكتاب ليسوا بعارفين , وإن كانوا يعبدون الله ويظهرون معرفته , لكن قال حذّاق المتكلمين: ما عرف الله من شبّهه بخلقه أو أضاف إليه اليد أو أضاف إليه الولد (¬1) فمعبودهم ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (3/ 452): لا شك أنّ من شبّه الله بخلقه أو أضاف إليه الولد جاهلٌ به سبحانه ولَم يقدره حق قدره , لأنه سبحانه لا شبيه له , ولَم يتخذ صاحبة ولا ولداً , وأمّا إضافة اليد إليه سبحانه فمحل تفصيل. فمن أضافها إليه سبحانه على أنها من جنس أيدي المخلوقين فهو مُشبّه ضال , وأمّا من أضافها إليه على الوجه الذي يليق بجلاله من غير أن يشابه خلقه في ذلك فهو حق , وإثباتها لله على هذا الوجه واجب كما نطق به القرآن وصحّت به السنة. وهو مذهب أهل السنة , فتنبّه. والله الموفق.

الذي عبدوه ليس هو الله. وإن سمّوه به. واستدل به على أنّ الكفّار غير مخاطبين بالفروع. حيث دعوا أوّلاً إلى الإيمان فقط، ثمّ دعوا إلى العمل، ورتّب ذلك عليها بالفاء. وأيضاً فإنّ قوله " فإن هم أطاعوا فأخبرهم " يفهم منه أنّهم لو لَم يطيعوا لا يجب عليهم شيءٌ. وفيه نظرٌ , لأنّ مفهوم الشّرط مختلفٌ في الاحتجاج به. وأجاب بعضهم عن الأوّل: بأنّه استدلالٌ ضعيفٌ، لأنّ التّرتيب في الدّعوة لا يستلزم التّرتيب في الوجوب، كما أنّ الصّلاة والزّكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدّمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتّبت الأخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصّلاة إسقاط الزّكاة. وقيل: الحكمة في ترتيب الزّكاة على الصّلاة: أنّ الذي يقرّ بالتّوحيد , ويجحد الصّلاة يكفر بذلك فيصير ماله فيئاً فلا تنفعه الزّكاة. وأمّا قول الخطّابيّ (¬1): إنّ ذكر الصّدقة أخّر عن ذكر الصّلاة , لأنّها إنّما تجب على قومٍ دون قومٍ , وأنّها لا تكرّر تكرار الصّلاة , فهو حسنٌ، وتمامه أن يقال: بدأ بالأهمّ فالأهمّ، وذلك من التّلطّف في الخطاب ¬

_ (¬1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

, لأنّه لو طالبهم بالجميع في أوّل مرّةٍ لَم يأمن النّفرة. قوله: (خمسُ صلواتٍ) استدل به على أنّ الوتر ليس بفرضٍ. وقد تقدّم البحث فيه في موضعه. قوله: (فإنْ هم أطاعوا لك بذلك) والذي وقع في حديث معاذ " فإن هم أطاعوا " وعند بعض رواته كما ذكره ابن التّين (¬1) " فإن هم طاعوا " بغير ألف. وقد قرأ الحسن البصريّ وطائفة معه " فطاوعت له نفسه ". قال ابن التّين: إذا امتثل أمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاوعه. قال الأزهريّ. الطّوع نقيض الكره، وطاع له انقاد، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه. وقال يعقوب بن السّكّيت: طاع وأطاع بمعنى. وقال الأزهريّ أيضاً: منهم من يقول: طاع له يطوّع طوعاً فهو طائع بمعنى أطاع. والحاصل أنّ طاع وأطاع استعمل كلّ منهما لازماً ومتعدّياً. إمّا بمعنى واحد مثل (بدأ الله الخلق) وأبدأه، أو دخلت الهمزة للتّعدية وفي اللازم للصّيرورة. أو ضمّن المتعدّي بالهمزة معنى فعل آخر لازم , لأنّ كثيراً من أهل العلم باللّغة فسرّوا أطاع بمعنى لانَ وانقاد. وهو اللائق في حديث معاذ هنا، وإن كان الغالب في الرّباعيّ التّعدّي وفي الثّلاثيّ اللّزوم. ¬

_ (¬1) عبدالواحد بن التين , سبق ترجمته (1/ 151)

وهذا أولى من دعوى فعل وأفعل بمعنى واحد لكونه قليلاً، وأولى من دعوى أنّ اللام في قوله: " فإن هم أطاعوا لك " زائدة. وقول البخاري بعد الحديث: " طُعت طِعت وأطعت ": الأوّل بالضّمّ والثّانية بالكسر والثّالثة بالفتح بزيادة ألف في أوّله. قال ابن دقيق العيد (¬1): يحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها عليهم والتزامهم لها. الثّاني: أن يكون المراد الطّاعة بالفعل، وقد يرجّح الأوّل بأنّ المذكور هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة بذلك إليها. ويترجّح الثّاني بأنّهم لو أخبروا بالفريضة فبادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى ولَم يشترط التّلفّظ بخلاف الشّهادتين، فالشّرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب. انتهى والذي يظهر أنّ المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى، وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصّلاة " فإذا صلوا " وبعد ذكر الزّكاة " فإذا أقرّوا بذلك فخذ منهم ". قوله: (صدقةً) زاد في رواية أبي عاصمٍ عن زكريّا " في أموالهم " كما في البخاري، وفي رواية الفضل بن العلاء " افترض عليهم زكاةً في أموالهم تؤخذ من غنيّهم فتردّ على فقيرهم ". قوله: (تؤخذ من أغنيائهم) استدل به على أنّ الإمام هو الذي ¬

_ (¬1) همحمد بن علي , سبق ترجمته (1/ 12)

يتولى قبض الزّكاة وصرفها , إمّا بنفسه وإمّا بنائبه، فمن امتنع منها أخذت منه قهراً. قوله: (على فقرائهم) استدل به لقول مالكٍ وغيره إنّه يكفي إخراج الزّكاة في صنفٍ واحدٍ. وفيه بحثٌ كما قال ابن دقيق العيد , لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء. وقال الخطّابيّ: وقد يستدلّ به من لا يرى على المديون زكاة ما في يده إذا لَم يفضل من الدّين الذي عليه قدر نصابٍ , لأنّه ليس بغنيٍّ إذا كان إخراج ماله مستحقّاً لغرمائه. قال الإسماعيليّ: ظاهر الحديث أنّ الصّدقة تردّ على فقراء مَن أُخذت من أغنيائهم. وقال ابن المنيّر (¬1): اختار البخاريّ (¬2) جوازَ نقل الزّكاة من بلد المال لعموم قوله " فتردّ في فقرائهم " لأنّ الضّمير يعود على المسلمين، فأيّ فقيرٍ منهم ردّت فيه الصّدقة في أيّ جهةٍ كان فقد وافق عموم الحديث. انتهى. والذي يتبادر إلى الذّهن من هذا الحديث عدم النّقل، وأنّ الضّمير يعود على المخاطبين فيختصّ بذلك فقراؤهم. لكن رجّح ابن دقيق العيد الأوّل , وقال: إنّه وإن لَم يكن الأظهر , ¬

_ (¬1) علي بن محمد الاسكندراني , سبق ترجمته (2/ 378) (¬2) ترجم عليه البخاري " باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا "

إلاَّ أنّه يقوّيه أنّ أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشّرع الكليّة لا تعتبر، فلا تعتبر في الزّكاة كما لا تعتبر في الصّلاة , فلا يختصّ بهم الحكم وإن اختصّ بهم خطاب المواجهة. انتهى وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: القول الأول: أجاز النّقلَ الليثُ وأبو حنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشّافعيّ واختاره. القول الثاني: الأصحّ عند الشّافعيّة والمالكيّة والجمهور ترك النّقل. فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكيّة على الأصحّ، ولَم يجزئ عند الشّافعيّة على الأصحّ إلاَّ إذا فقد المستحقّون لها، ولا يبعد أنّه اختيار البخاريّ , لأنّ قوله في الترجمة " حيث كانوا " يشعر بأنّه لا ينقلها عن بلدٍ وفيه من هو متّصفٌ بصفة الاستحقاق. قوله: (فإيّاك وكرائم أموالهم) وفي روايةٍ لهما " وتوقّ كرائم " بغير تقييدٍ بالصّدقة، وأموال النّاس يستوي التّوقّي لها بين الكرائم وغيرها , وقيّدها البخاري في التّرجمة بالصّدقة. وهو بيّنٌ من سياق الحديث , لأنّه ورد في شأن الصّدقة. قوله: (كرائم) منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ لا يجوز إظهاره. قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف الواو. والكرائم جمع كريمةٍ. أي: نفيسةٍ، يقال ناقة كريمة. أي: غزيرة اللبن، والمراد نفائس الأموال من أيّ صنفٍ كان. وقيل له نفيس , لأنّ نفس صاحبه تتعلق به وأصل الكريمة كثيرة

الخير. وقيل للمال النّفيس كريم , لكثرة منفعته ففيه ترك أخذ خيار المال. والنّكتة فيه. أنّ الزّكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلاَّ إن رضوا بذلك. قوله: (واتّق دعوة المظلوم) أي: تجنّب الظّلم لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه تنبيهٌ على المنع من جميع أنواع الظّلم، والنّكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أنّ أخذها ظلمٌ. وقال بعضهم: عطف " واتّق " على عامل إيّاك المحذوف وجوباً، فالتّقدير اتّق نفسك أن تتعرّض للكرائم. وأشار بالعطف إلى أنّ أخذ الكرائم ظلمٌ، ولكنّه عمّم إشارةً إلى التّحرّز عن الظّلم مطلقاً قوله: (فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ) أي: ليس لها صارفٌ يصرفها ولا مانعٌ، والمراد أنّها مقبولةٌ وإن كان عاصياً. كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً: دعوة المظلوم مستجابةٌ، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه. وإسناده حسنٌ، وليس المراد أنّ لله تعالى حجاباً يحجبه عن النّاس. وقال الطّيبيّ (¬1): قوله " اتّق دعوة المظلوم " تذييلٌ لاشتماله على الظّلم الخاصّ من أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله " فإنّه ليس بينها وبين الله حجابٌ " تعليلٌ للاتّقاء وتمثيلٌ للدّعاء، كمن يقصد دار السّلطان متظلماً فلا يحجب. ¬

_ (¬1) هو الحسن بن محمد , سبق ترجمته (1/ 23)

قال ابن العربيّ: إلاَّ أنّه وإن كان مطلقاً فهو مقيّدٌ بالحديث (¬1) الآخر , أنّ الدّاعي على ثلاث مراتب: إمّا أن يعجّل له ما طلب، وإمّا أن يدّخر له أفضل منه، وإمّا أن يدفع عنه من السّوء مثله. وهذا كما قيّد مطلق قوله تعالى (أم من يجيب المضطرّ إذا دعاه) بقوله تعالى (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء). وفي الحديث أيضاً الدّعاء إلى التّوحيد قبل القتال، وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وغيرها، وفيه بعث السّعاة لأخذ الزّكاة، وقبول خبر الواحد ووجوب العمل به. وإيجاب الزّكاة في مال الصّبيّ والمجنون لعموم قوله " من أغنيائهم ". قاله عياضٌ (¬2). وفيه بحثٌ. وأنّ الزّكاة لا تدفع إلى الكافر لعود الضّمير في فقرائهم إلى المسلمين سواءٌ قلنا بخصوص البلد أو العموم، وأنّ الفقير لا زكاة عليه. وأنّ من ملك نصاباً لا يعطى من الزّكاة من حيث إنّه جعل المأخوذ منه غنيّاً وقابله بالفقير، ومن ملك النّصاب فالزّكاة مأخوذةٌ منه , فهو ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه الإمام أحمد (11133) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث , إما أنْ تعجَّل له دعوته، وإما أنْ يدّخرها له في الآخرة، وإمَّا أنْ يصرفَ عنه من السوء مثلها. قالوا: إذا نكثر؟ قال: الله أكثر " وإسناده حسن. وصحَّحه الحاكم. وللترمذي (3573) من حديث عبادة - رضي الله عنه - نحوه. دون الادخار. قال الحافظ في الفتح (11/ 96): حديثٌ صحيحٌ. (¬2) هو القاضي عياض بن موسى اليحصبي , سبق ترجمته (1/ 103)

غنيٌّ والغنى مانعٌ من إعطاء الزّكاة إلاَّ من استثني. قال ابن دقيق العيد: وليس هذا البحث بالشّديد القوّة، وقد تقدّم أنّه قول الحنفيّة. وقال البغويّ: فيه أنّ المال إذا تلف قبل التّمكّن من الأداء سقطت الزّكاة , لإضافة الصّدقة إلى المال. وفيه نظرٌ أيضاً. تكميلٌ: لَم يقع في هذا الحديث ذكر الصّوم والحجّ مع أنّ بعث معاذٍ كما تقدّم كان في آخر الأمر. وأجاب ابن الصّلاح. بأنّ ذلك تقصيرٌ من بعض الرّواة. وتعقّب: بأنّه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثيرٍ من الأحاديث النّبويّة لاحتمال الزّيادة والنّقصان. وأجاب الكرمانيّ (¬1): بأنّ اهتمام الشّارع بالصّلاة والزّكاة أكثر، ولهذا كرّرا في القرآن فمن ثمّ لَم يذكر الصّوم والحجّ في هذا الحديث مع أنّهما من أركان الإسلام، والسّرّ في ذلك أنّ الصّلاة والزّكاة إذا وجبا على المكلف لا يسقطان عنه أصلاً بخلاف الصّوم فإنّه قد يسقط بالفدية، والحجّ فإنّ الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب، ويحتمل: أنّه حينئذٍ لَم يكن شرع. انتهى وقال شيخنا شيخ الإسلام: إذا كان الكلام في بيان الأركان لَم يخل الشّارع منه بشيءٍ كحديث ابن عمر " بني الإسلام على خمسٍ " فإذا كان في الدّعاء إلى الإسلام اكتفي بالأركان الثّلاثة الشّهادة والصّلاة ¬

_ (¬1) محمد بن يوسف , سبق ترجمته (1/ 18)

والزّكاة , ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحجّ كقوله تعالى (فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة) في موضعين من براءةٌ , مع أنّ نزولها بعد فرض الصّوم والحجّ قطعاً. وحديث ابن عمر أيضاً " أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة " وغير ذلك من الأحاديث. قال: والحكمة في ذلك أنّ الأركان الخمسة: اعتقاديٌّ وهو الشّهادة، وبدنيٌّ وهو الصّلاة، وماليٌّ وهو الزّكاة. اقتصر في الدّعاء إلى الإسلام عليها لتفرّع الرّكنين الأخيرين عليها، فإنّ الصّوم بدنيٌّ محضٌ والحجّ بدنيٌّ ماليٌّ. وأيضاً فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقّةٌ على الكفّار والصّلوات شاقّةٌ لتكرّرها , والزّكاة شاقّةٌ لِمَا في جبلة الإنسان من حبّ المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثّلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنّسبة إليها. والله أعلم. ومن فوائده الاقتصار في الحكم بإسلام الكافر إذا أقرّ بالشّهادتين، فإنّ من لازم الإيمان بالله ورسوله التّصديق بكل ما ثبت عنهما والتزام ذلك، فيحصل ذلك لمن صدّق بالشّهادتين. وأمّا ما وقع من بعض المبتدعة من إنكار شيء من ذلك فلا يقدح في صحّة الحكم الظّاهر؛ لأنّه إن كان مع تأويل فظاهر، وإن كان عناداً قدح في صحّة الإسلام، فيعامل بما يترتّب عليه من ذلك كإجراء أحكام المرتدّ وغير ذلك.

وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به. وتعقّب: بأنّ مثل خبر معاذ حفّته قرينة أنّه في زمن نزول الوحي فلا يستوي مع سائر أخبار الآحاد. وفيه أنّ الكافر إذا صدّق بشيءٍ من أركان الإسلام كالصّلاة مثلاً يصير بذلك مسلماً، وبالغ مَن قال: كلّ شيء يكفّر به المسلم إذا جحده يصير الكافر به مسلماً إذا اعتقده. والأوّل أرجح كما جزم به الجمهور. وهذا في الاعتقاد , أمّا الفعل لو صلَّى فلا يحكم بإسلامه وهو أولى بالمنع؛ لأنّ الفعل لا عموم له، فيدخله احتمال العبث والاستهزاء. وفيه وجوب أخذ الزّكاة ممّن وجبت عليه، وقهر الممتنع على بذلها ولو لَم يكن جاحداً، فإن كان مع امتناعه ذا شوكة قوتل، وإلَّا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عزّر بما يليق به. وقد ورد عن تعزيره بالمال حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه مرفوعاً ولفظه " ومن منعها - يعني الزّكاة - فإنّا آخذوها وشطر ماله. عزمة من عزمات ربّنا " الحديث. أخرجه أبو داود والنّسائيّ وصحَّحه ابن خزيمة والحاكم. وأمّا ابن حبّان فقال في ترجمة بهز بن حكيم: لولا هذا الحديث لأدخلته في " كتاب الثّقات ". وأجاب من صحَّحه ولَم يعمل به: بأنّ الحكم الذي دلَّ عليه منسوخ , وأنّ الأمر كان أوّلاً كذلك , ثمّ نسخ.

وضعّف النّوويّ هذا الجواب , من جهة أنّ العقوبة بالمال لا تعرف أوّلاً حتّى يتمّ دعوى النّسخ , ولأنّ النّسخ لا يثبت إلاَّ بشرطه كمعرفة التّاريخ ولا يعرف ذلك. واعتمد النّوويّ ما أشار إليه ابن حبّان من تضعيف بهز , وليس بجيّدٍ؛ لأنّه موثّق عند الجمهور حتّى قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه صحيح إذا كان دون بهز ثقة. وقال التّرمذيّ: تكلَّم فيه شعبة. وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد حسّن له التّرمذيّ عدّة أحاديث، واحتجّ به أحمد وإسحاق والبخاريّ خارج الصّحيح , وعلَّق له في الصّحيح. وقال أبو عبيدة الآجرّيّ عن أبي داود: وهو عندي حجّة لا عند الشّافعيّ فإنِ اعتمد من قلَّد الشّافعيّ على هذا كفاه. ويؤيّده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به فدلَّ على أنّ له معارضاً راجحاً، وقول مَن قال بمقتضاه يعدّ في ندرة المخالف. وقد دلَّ خبر الباب أيضاً على أنّ الذي يقبض الزّكاة الإمام أو من أقامه لذلك، وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أنّ لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج. وشذّ مَن قال بوجوب الدّفع إلى الإمام. وهو رواية عن مالك، وفي القديم للشّافعيّ نحوه على تفصيل عنهما فيه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 175 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقةٌ , ولا فيما دون خمس ذودٍ صدقةٌ , ولا فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ. (¬1) قوله: (عن أبي سعيد) حكى ابن عبد البرّ عن بعض أهل العلم , أنّ حديث الباب لَم يأت إلاَّ من حديث أبي سعيد الخدريّ. قال: وهذا هو الأغلب، إلاَّ أنّني وجدته من رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ومن طريق محمّد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن جابر. انتهى. ورواية سهيل في " الأموال " لأبي عبيد , ورواية ابن مسلمٍ في " المستدرك ". وقد أخرجه مسلم من وجهٍ آخر عن جابر، وجاء أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وأبي رافع ومحمّد بن عبد الله بن جحش. أخرج أحاديث الأربعة الدّارقطنيّ، ومن حديث ابن عمر. أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد أيضاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1340 , 1379) ومسلم (979) من طرق عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد - رضي الله عنه - به. ورواه مسلم (979) من طرق أخرى عن يحيى المازني عن أبي سعيد به. وأخرجه البخاري (1390 , 1413) من طريق مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد مثله.

قوله: (خمس أواقٍ) زاد مالك عن محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد عند البخاري " خمس أواقٍ من الورق صدقة ". و" أواقٍ " بالتّنوين وبإثبات التّحتانيّة مشدّداً ومخفّفاً. جمع أوقيّةٍ - بضمّ الهمزة وتشديد التّحتانيّة - وحكى اللحيانيّ " وقيّة " بحذف الألف وفتح الواو. ومقدار الأوقيّة في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتّفاق، والمراد بالدّرهم الخالص من الفضّة سواء كان مضروباً أو غير مضروب. قال عياض: قال أبو عبيد: إنّ الدّرهم لَم يكن معلوم القدر حتّى جاء عبد الملك بن مروان فجمع العلماء. فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. قال (¬1): وهذا يلزم منه أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أحال بنصاب الزّكاة على أمرٍ مجهولٍ وهو مشكل، والصّواب أنّ معنى ما نقل من ذلك أنّه لَم يكن شيءٌ منها من ضرب الإسلام وكانت مختلفة في الوزن بالنّسبة إلى العدد، فعشرة مثلاً وزن عشرة وعشرة وزن ثمانية، فاتّفق الرّأي على أن تنقش بكتابةٍ عربيّةٍ ويصير وزنها وزناً واحداً. وقال غيره: لَم يتغيّر المثقال في جاهليّة ولا إسلام، وأمّا الدّرهم فأجمعوا على أنّ كلّ سبعة مثاقيل عشرة دراهم. ولَم يخالف في أنّ نصاب الزّكاة مائتا درهمٍ يبلغ مائة وأربعين مثقالاً ¬

_ (¬1) القائل هو القاضي عياض يستدرك على أبي عبيد.

من الفضّة الخالصة إلاَّ ابن حبيب الأندلسيّ فإنّه انفرد بقوله: إنّ كل أهل بلدٍ يتعاملون بدراهمهم. وذكر ابن عبد البرّ اختلافاً في الوزن بالنّسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، وكذا خَرَقَ المريسيُّ الإجماعَ فاعتبر النّصاب بالعدد لا الوزن. وانفرد السّرخسيّ من الشّافعيّة بحكاية وجه في المذهب , أنّ الدّراهم المغشوشة إذا بلغت قدراً لو ضمّ إليه قيمة الغشّ من نحاسٍ مثلاً لبلغ نصاباً فإنّ الزّكاة تجب فيه كما نقل عن أبي حنيفة. واستُدل بهذا الحديث. على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النّصاب ولو حبّة واحدة، خلافاً لمن سامح بنقصٍ يسيرٍ كما نقل عن بعض المالكيّة. تكميل: قال البخاري " باب ما أُدّي زكاته فليس بكنزٍ، لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة. قال ابن بطّال (¬1) وغيره: وجه استدلال البخاريّ بهذا الحديث للتّرجمة. أنّ الكنز المنفيّ هو المتوعّد عليه الموجب لصاحبه النّار لا مطلق الكنز الذي هو أعمّ من ذلك، وإذا تقرّر ذلك فحديث " لا صدقة فيما دون خمس أواقٍ " مفهومه أنّ ما زاد على الخمس ففيه الصّدقة، ومقتضاه أنّ كلّ مال أخرجت منه الصّدقة فلا وعيد على صاحبه فلا يسمّى ما يفضل بعد إخراجه الصّدقة كنزاً. ¬

_ (¬1) ((هو علي بن خلف , سبق ترجمته (1/ 34)

وقال ابن رشيد: وجه التّمسّك به أنّ ما دون الخمس وهو الذي لا تجب فيه الزّكاة قد عفي عن الحقّ فيه فليس بكنزٍ قطعاً، والله قد أثنى على فاعل الزّكاة، ومن أثني عليه في واجب حقّ المال لَم يلحقه ذمّ من جهة ما أثني عليه فيه وهو المال. انتهى. ويتلخّص أن يقال: ما لَم تجب فيه الصّدقة لا يسمّى كنزاً لأنّه معفوّ عنه، فليكن ما أخرجت منه الزّكاة كذلك لأنّه عفي عنه بإخراج ما وجب عنه فلا يسمّى كنزاً. ثمّ إنّ لفظ التّرجمة لفظ حديث روي مرفوعاً وموقوفاً عن ابن عمر , أخرجه مالك عن عبد الله بن دينار عنه موقوفاً، وكذا أخرجه الشّافعيّ عنه، ووصله البيهقيّ والطّبرانيّ من طريق الثّوريّ عن عبد الله بن دينار , وقال: إنّه ليس بمحفوظٍ. وأخرجه البيهقيّ أيضاً من رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ: كلّ ما أدّيت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنزٍ، وكلّ ما لا تؤدّى زكاته فهو كنز. وإن كان ظاهراً على وجه الأرض. أورده مرفوعاً ثمّ قال: ليس بمحفوظٍ، والمشهور وقفه. وهذا يؤيّد ما تقدّم من أنّ المراد بالكنز معناه الشّرعيّ. وفي الباب عن جابر. أخرجه الحاكم بلفظ: إذا أدّيتَ زكاة مالك فقد أذهبت عنك شرّه. ورجّح أبو زرعة والبيهقيّ وغيرهما وقفه كما عند البزّار.

وعن أبي هريرة أخرجه التّرمذيّ بلفظ: إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك. وقال: حسنٌ غريبٌ، وصحَّحه الحاكم، وهو على شرط ابن حبّان. وعن أمّ سلمة عند الحاكم وصحَّحه ابن القطّان أيضاً وأخرجه أبو داود. وقال ابن عبد البرّ: في سنده مقال. وذكر شيخنا (¬1) في " شرح التّرمذيّ " أنّ سنده جيّد. وعن ابن عبّاس أخرجه ابن أبي شيبة موقوفاً بلفظ التّرجمة، وأخرجه أبو داود مرفوعاً بلفظ: إنّ الله لَم يفرض الزّكاة إلاَّ ليطيّب ما بقي من أموالكم. وفيه قصّة. قال ابن عبد البرّ: والجمهور على أنّ الكنز المذموم ما لَم تؤدّ زكاته. ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك. فذكر بعض ما تقدّم من الطّرق. ثمّ قال: ولَم يخالف في ذلك إلاَّ طائفة من أهل الزّهد كأبي ذرّ - رضي الله عنه - قوله: (خمس ذودٍ) وللبخاري " خمس ذود من الإبل صدقة " الذّود بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة. قال الزّين بن المنيّر: أضاف خمس إلى ذودٍ وهو مذكّرٌ لأنّه يقع على المذكّر والمؤنّث، وأضافه إلى الجمع لأنّه يقع على المفرد والجمع. وأمّا قول ابن قتيبة إنّه يقع على الواحد فقط فلا يدفع ما نقله غيره أنّه يقع ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (3/ 344): هو الحافظ العراقي. ولفظه عند أبي داود " عن أم سلمة أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب. فقالت: يا رسول الله , أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن تُؤدَّى زكاته فزكي فليس بكنز. وسنده جيّد كما قال العراقي. وهو حجة ظاهرة على أنَّ الكنز المتوعّد عليه بالعذاب. هو المال التي لا تؤدى زكاته. والله أعلم

على الجمع. انتهى. والأكثر: على أنّ الذّود من الثّلاثة إلى العشرة , وأنّه لا واحد له من لفظه. وقال أبو عبيد: من الثّنتين إلى العشرة. قال: وهو يختصّ بالإناث. وقال سيبويه: تقول ثلاث ذود , لأنّ الذّود مؤنّث. وليس باسم كسر عليه مذكّر. وقال القرطبيّ (¬1): أصله ذاد يذود إذا دفع شيئاً فهو مصدر، وكأنّ من كان عنده دفع عن نفسه معرّة الفقر وشدّة الفاقة والحاجة. وقوله " من الإبل " بيان للذّود. وأنكر ابن قتيبة أن يراد بالذّود الجمع , وقال: لا يصحّ أن يقال خمس ذودٍ كما لا يصحّ أن يقال خمس ثوب. وغلَّطه العلماء في ذلك، لكن قال أبو حاتم السّجستانيّ: تركوا القياس في الجمع. فقالوا خمس ذودٍ لخمسٍ من الإبل. كما قالوا ثلاثمائة على غير قياس. قال القرطبيّ: وهذا صريح في أنّ الذّود واحد في لفظه، والأشهر ما قاله المتقدّمون إنّه لا يقصر على الواحد. قوله: (أوسقٍ) جمع وسقٍ بفتح الواو ويجوز كسرها كما حكاه صاحب " المحكم " وجمعه حينئذٍ أوساقٌ كحملٍ وأحمالٍ، وقد وقع كذلك في روايةٍ لمسلم. ¬

_ (¬1) هو صاحب المفهم أحمد بن عمر , سبق ترجمته (1/ 26)

وهو ستّون صاعاً بالاتّفاق، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق أبي البختريّ عن أبي سعيد نحو هذا الحديث. وفيه " والوسق ستّون صاعاً "، وأخرجها أبو داود أيضاً لكن قال " ستّون مختوماً " والدّارقطنيّ من حديث عائشة أيضاً , والوسق ستّون صاعاً. ولَم يقع في الحديث بيان المكيل بالأوسق , لكن في رواية مسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حبٍّ صدقة " وفي روايةٍ له " ليس في حبٍّ ولا تمر صدقة حتّى يبلغ خمسة أوسق ". ولفظ " دون " في المواضع الثّلاثة بمعنى أقلَّ , لا أنّه نفى عن غير الخمس الصّدقة. كما زعم بعض من لا يعتدّ بقوله. واستدل بهذا الحديث على وجوب الزّكاة في الأمور الثّلاثة. واستُدل به. وهو القول الأول: على أنّ الزّروع لا زكاة فيها حتّى تبلغ خمسة أوسق. القول الثاني: عن أبي حنيفة , تجب في قليله وكثيره. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فيما سقت السّماء العشر. (¬1). وأجيب: بأن الخاصّ يقضي على العامّ , لأنّ " فيما سقت " عامٌّ يشمل النّصاب ودونه، و " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " خاصٌّ بقدر النّصاب. ¬

_ (¬1) أحرجه البخاري في الصحيح (1483) من حديث ابن عمر , أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فيما سقت السماء والعيون , أو كان عثريا العشر، وما سُقي بالنضح نصف العشر "

وأجاب بعض الحنفيّة: بأنّ محلّ ذلك ما إذا كان البيان وفق المبين لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، أمّا إذا انتفى شيء من أفراد العامّ مثلاً فيمكن التّمسّك به كحديث أبي سعيد هذا. فإنّه دلَّ على النّصاب فيما يقبل التّوسيق، وسكت عمّا لا يقبل التّوسيق فيمكن التّمسّك بعموم قوله " فيما سقت السّماء العشر " أي: ممّا لا يمكن التّوسيق فيه عملاً بالدّليلين. وأجاب الجمهور: بما روي مرفوعاً: لا زكاة في الخضراوات. رواه الدّارقطنيّ من طريق عليّ وطلحة ومعاذ مرفوعاً. وقال التّرمذيّ: لا يصحّ فيه شيءٌ إلاَّ مرسل موسى بن طلحة عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وهو دالٌّ على أنّ الزّكاة إنّما هي فيما يكال ممّا يدّخر للاقتيات في حال الاختيار. وهذا قول مالك والشّافعيّ. وعن أحمد , يخرج من جميع ذلك. ولو كان لا يقتات. وهو قول محمّد وأبي يوسف. وحكى ابن المنذر الإجماع على أنّ الزّكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق ممّا أخرجت الأرض، إلاَّ أنّ أبا حنيفة قال: تجب في جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلاَّ الحطب والقصب والحشيش والشّجر الذي ليس له ثمر. انتهى. وحكى عياض عن داود , أنّ كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النّصاب، وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليله وكثيره الزّكاة، وهو نوعٌ من الجمع بين الحديثين المذكورين. والله أعلم.

وقال ابن العربيّ: أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين قول أبي حنيفة، وهو التّمسّك بالعموم , قال: وقد زعم الجوينيّ أنّ الحديث إنّما جاء لتفصيل ما تقلّ ممّا تكثر مئونته قال ابن العربيّ: لا مانع أن يكون الحديث يقتضي الوجهين. والله أعلم. ولَم يتعرّض الحديث للقدر الزّائد على المحدود، وقد أجمعوا في الأوساق على أنّه لا وقص فيها، وأمّا الفضّة. فقال الجمهور: هو كذلك. وعن أبي حنيفة. لا شيء فيما زاد على مائتي درهمٍ حتّى يبلغ النّصاب وهو أربعون , فجعل لها وقصاً كالماشية. واحتجّ عليه الطّبري (¬1) بالقياس على الثّمار والحبوب، والجامع كون الذّهب والفضّة مستخرجين من الأرض بكلفةٍ ومئونةٍ، وقد أجمعوا على ذلك في خمسة أوسق فما زاد. فائدةٌ: أجمع العلماء على اشتراط الحول في الماشية والنّقد دون المعشّرات. والله أعلم ¬

_ (¬1) في المطبوع (الطبراني) وهو خطأ. والصواب ما أثبتُّه.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 176 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقةٌ. (¬1) وفي لفظٍ: إلاَّ زكاة الفطر في الرّقيق. (¬2) قوله: (في عبده ولا فرسه صدقةٌ) وللبخاري " غلامه ". قال ابن رشيد: أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرّف والفرس المعدّ للرّكوب، ولا خلاف أيضاً أنّها لا تؤخذ من الرّقاب، وإنّما قال بعض الكوفيّين: يؤخذ منها بالقيمة. وفي حديث عليٍّ مرفوعاً: قد عفوت عن الخيل والرّقيق فهاتوا صدقة الرّقة .. الحديث. أخرجه أبو داود وغيره. وإسناده حسن. والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذكراناً وإناثاً. نظراً إلى النّسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثمّ عنده أنّ المالك يتخيّر بين أن يخرج عن كل فرس ديناراً , أو يقوّم ويخرج ربع العشر، واستدل عليه بهذا الحديث. (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1394 , 1395) ومسلم (982) من طرق عن عراك بن مالك عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (982) من طريق مخرمة عن أبيه عن عراك عن أبي هريرة ولفظه (ليس في العبد صدقة إلاَّ صدقة الفطر) وليس هذا الاستثناء عند البخاري. واللفظ الذي ذكره المصنّف رحمه الله لفظ أبي داود في " السنن " (1594) (¬3) أخرج البخاري (2242) ومسلم (987) عن أبي هريرة رفعه: الخيل لثلاثة. لرجل أجر , ولرجل ستر , وعلى رجل وزر. الحديث. وفيه: ورجلٌ ربطها تغنّياً وستراً وتعففاً لم ينس حق الله في رقابها وظهورها فهي له كذلك ستر. قال الشارح في الفتح (6/ 46): وقوله " تغنيا " بفتح المثناة والمعجمة ثم نون ثقيلة مكسورة وتحتانية. أي: استغناء عن الناس , وقوله " تعففاً " أي: عن السؤال , والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما يحصل من أجرتها ممن يركبها أو نحو ذلك الغنى عن الناس والتعفف عن مسألتهم , ووقع في رواية سهيل عن أبيه عند مسلم " وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففاً وتكرماً وتجمَّلاً. وقوله " ولم ينس حق الله في رقابها ". قيل: المراد حسن ملكها وتعهد شبعها وريها والشفقة عليها في الركوب , وإنما خص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيراً في الحقوق اللازمة , ومنه قوله تعالى (فتحرير رقبة). وهذا جواب من لم يوجب الزكاة في الخيل. وهو قول الجمهور. وقيل: المراد بالحق إطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله , وهو قول الحسن والشعبي ومجاهد. وقيل: المراد بالحق الزكاة. وهو قول حماد وأبي حنيفة , وخالفه صاحباه وفقهاء الأمصار. قال أبو عمر: لا أعلم أحداً سبقه إلى ذلك. انتهى

وأجيب: بحمل النّفي فيه على الرّقبة لا على القيمة. واستدل به مَن قال من أهل الظّاهر بعدم وجوب الزّكاة فيهما مطلقاً , ولو كانا للتّجارة. وأجيبوا: بأنّ زكاة التّجارة ثابتة بالإجماع. كما نقله ابن المنذر وغيره , فيخصّ به عموم هذا الحديث. والله أعلم. قوله: (إلاَّ زكاة الفطر في الرّقيق) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله مستوفي في باب صدقة الفطر.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 177 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العجماء جبارٌ , والبئر جبارٌ , والمعدن جبارٌ , وفي الرّكاز الخمس. (¬1) قال المصنِّف: الجبار. الهدر الذي لا شيء فيه. والعجماء: الدابة. قوله: (العجماء) بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمدّ. تأنيث أعجم وهي البهيمة، ويقال أيضاً لكل حيوان غير الإنسان. ويقال لمن لا يفصح. والمراد هنا الأوّل. قوله: (جُبار) وللبخاري " عقلها جبار " وفي رواية لهما " جرحها جبار " وكذا في حديث كثير بن عبد الله المزنيّ عند ابن ماجه، وفي حديث عبادة بن الصّامت عنده. وقوله " جُبار " بضمّ الجيم وتخفيف الموحّدة , هو الهدر الذي لا شيء فيه، كذا أسنده ابن وهب عن ابن شهاب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1428) 6514) ومسلم (1710) من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (6515) ومسلم (1710) من طريق شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة به. وللبخاري (2228) عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة به. مثله. وأخرجه مسلم من وجوه أخرى. سيأتي ذكرها في الشرح.

وعن مالك. ما لا دية فيه. أخرجه التّرمذيّ، وأصله أنّ العرب تسمّي السّيل جباراً , أي: لا شيء فيه. وقال التّرمذيّ: فسّر بعض أهل العلم قالوا: العجماء الدّابّة المنفلتة من صاحبها , فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها. وقال أبو داود بعد تخريجه: العجماء التي تكون منفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنّهار ولا تكون بالليل. ووقع عند ابن ماجه في آخر حديث عبادة بن الصّامت " والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر الذي لا يغرم " كذا وقع التّفسير مدرجاً , وكأنّه من رواية موسى بن عقبة. وذكر ابن العربيّ , أنّ بناء (ج ب ر) للرّفع والإهدار من باب السّلب وهو كثير، يأتي اسم الفعل والفاعل لسلب معناه , كما يأتي لإثبات معناه. وتعقّبه شيخنا في شرح التّرمذيّ: بأنّه للرّفع على بابه , لأنّ إتلافات الآدميّ مضمونة مقهورٌ متلفها على ضمانها، وهذا إتلاف قد ارتفع عن أن يؤخذ به أحد. قال شيخنا في شرح التّرمذيّ: وليس ذكر الجرح قيداً , وإنّما المراد به إتلافها بأيّ وجه كان سواء كان بجرحٍ أو غيره، والمراد بالعقل الدّية أي لا دية فيما تتلفه. وقد استدل بهذا الإطلاق مَن قال: لا ضمان فيما أتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد. سواء كان راكبها أو سائقها أو

قائدها، وهو قول الظّاهريّة. واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوباً إليه بأنْ حملَها على ذلك الفعل إذا كان راكباً , كأن يلوي عنانها فتتلف شيئاً برجلها مثلاً , أو يطعنها أو يزجرها حين يسوقها , أو يقودها حتّى تتلف ما مرّت عليه، وأمّا ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه. وقال الشّافعيّة: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنّه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال. سواء كان سائقاً أو راكباً أو قائداً. سواء كان مالكاً أو أجيراً أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها، وسواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً. والحجّة في ذلك. أنّ الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها , فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا. وعن مالك كذلك , إلاَّ إن رَمَحَت بغير أن يفعل بها أحدٌ شيئاً ترمحُ بسببه، وحكاه ابن عبد البرّ عن الجمهور. وقد وقع في رواية جابر عند أحمد والبزّار بلفظ " السّائمة جبار " وفيه إشعار بأنّ المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى لا كلّ بهيمة، لكنّ المراد بالسّائمة هنا التي ليس معها أحد لأنّه الغالب على السّائمة، وليس المراد بها التي لا تعلف كما في الزّكاة فإنّه ليس مقصوداً هنا. واستُدل به. وهو القول الأول: على أنّه لا فرق في إتلاف البهيمة للزّروع

وغيرها في الليل والنّهار. وهو قول الحنفيّة والظّاهريّة. القول الثاني: قال الجمهور: إنّما يسقط الضّمان إذا كان ذلك نهاراً، وأمّا بالليل فإنّ عليه حفظها، فإذا أتلفت بتقصيرٍ منه وجب عليه ضمان ما أتلفت. ودليل هذا التّخصيص ما أخرجه الشّافعيّ وأبو داود والنّسائيّ وابن ماجه كلّهم من رواية الأوزاعيّ، والنّسائيّ أيضاً وابن ماجه من رواية عبد الله بن عيسى، والنّسائيّ أيضاً من رواية محمّد بن ميسرة وإسماعيل بن أُميَّة كلّهم عن الزّهريّ عن حرام بن محيّصة الأنصاريّ عن البراء بن عازب قال: كانت له ناقة ضارية , فدخلت حائطاً فأفسدت فيه. فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها , وأنّ حفظ الماشية بالليل على أهلها , وأنّ على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل. وأخرج ابن ماجه أيضاً من رواية الليث عن الزّهريّ عن ابن محيّصة , أنّ ناقةً للبراء ولَم يسمّ حراماً، وأخرج أبو داود من رواية معمر عن الزّهريّ. فزاد فيه رجلاً قال: عن حرام بن محيّصة عن أبيه. وكذا أخرجه مالك والشّافعيّ عنه عن الزّهريّ عن حرام بن سعيد بن محيّصة " أنّ ناقة .. ". وأخرجه الشّافعيّ في رواية المزنيّ في المختصر عنه عن سفيان عن الزّهريّ , فزاد مع حرام سعيد بن المسيّب قالا: إنّ ناقةً للبراء. وفيه اختلاف آخر. أخرجه البيهقيّ من رواية ابن جريجٍ عن

الزّهريّ عن أبي أُمامة بن سهل. فاختلف فيه على الزّهريّ على ألوان , والمسند منها طريق حرام عن البراء. وحرام بمهملتين. اختلف هل هو ابن محيّصة نفسه أو ابن سعد بن محيّصة؟. قال ابن حزم: وهو مع ذلك مجهول , لَم يرو عنه إلاَّ الزّهريّ ولَم يوثّقه. قلت: وقد وثّقه ابن سعد وابن حبّان , لكن قال: إنّه لَم يسمع من البراء. وعلى هذا فيحتمل أن يكون قول مَن قال فيه عن البراء , أي: عن قصّة ناقة البراء فتجتمع الرّوايات، ولا يمتنع أن يكون للزّهريّ فيه ثلاثة أشياخ. وقد قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث. وإن كان مرسلاً فهو مشهور , حدّث به الثّقات , وتلقّاه فقهاء الحجاز بالقبول. وأمّا إشارة الطّحاويّ إلى أنّه منسوخ بحديث الباب , فقد تعقّبوه بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتّاريخ. وأقوى من ذلك قول الشّافعيّ: أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله , ولا يخالفه حديث " العجماء جبار " لأنّه من العامّ المراد به الخاصّ، فلمّا قال " العجماء جبار " وقضى فيما أفسدت العجماء بشيءٍ في حال دون حال دلَّ ذلك على أنّ ما أصابت العجماء

من جرح وغيره في حالٍ جبارٌ , وفي حالٍ غير جبار. ثمّ نقض على الحنفيّة. أنّهم لَم يستمرّوا على الأخذ بعمومه في تضمين الرّاكب , متمسّكين بحديث " الرِّجل جبار " مع ضعف راويه كما سيأتي. وتعقّب بعضهم على الشّافعيّة قولهم: إنّه لو جرت عادة قومٍ إرسال المواشي ليلاً وحبسها نهاراً. انعكس الحكم على الأصحّ. وأجابوا: بأنّهم اتّبعوا المعنى في ذلك، ونظيره القسم الواجب للمرأة , لو كان يكتسب ليلاً ويأوي إلى أهله نهاراً لانعكس الحكم في حقّه. مع أنّ عماد القسم الليل. نعم. لو اضطربت العادة في بعض البلاد فكان بعضهم يرسلها ليلاً , وبعضهم يرسلها نهاراً. فالظّاهر أنّه يُقضى بما دلَّ عليه الحديث. قال ابن بطّال: فرّق الحنفيّة فيما أصابت الدّابّة بيدها أو رجلها , فقالوا: لا يضمن ما أصابت برجلها وذنبها ولو كانت بسببٍ، ويضمن ما أصابت بيدها وفمها، فأشار البخاريّ إلى الرّدّ بما نقله عن أئمّة أهل الكوفة ممّا يخالف ذلك. (¬1) ¬

_ (¬1) ذكر هذا البخاري في صحيحه قبل ذِكْر حديث الباب. فقال: (باب العجماء جبار) وقال ابن سيرين: كانوا لا يُضمِّنون من النفحة , ويُضمِّنون من رد العنان. وقال حماد: لا تُضمن النفحة إلاَّ أن ينخس إنسان الدابة. وقال شريح: لا تَضمن ما عاقبتْ أنْ يضربَها فتضرب برجلها. وقال الحكم وحماد: إذا ساق الْمُكاري حماراً عليه امرأة فتخر، لا شيء عليه. وقال الشعبي: إذا ساق دابةً فأتعبها فهو ضامن لِمَا أصابت، وإن كان خلفها مترسلاً لَم يضمن. انتهى

وقد احتجّ لهم الطّحاويّ. بأنّه لا يمكن التّحفّظ من الرّجل والذّنب بخلاف اليد والفم , واحتجّ برواية سفيان بن حسين " الرّجل جبار " وقد غلَّطه الحفّاظ، ولو صحّ فاليد أيضاً جبار بالقياس على الرّجل. وكلّ منهما مقيّد بما إذا لَم يكن لمن هي معه مباشرة ولا تسبّب. ويحتمل: أن يقال حديث " الرّجل جبار " مختصر من حديث " العجماء جبار " لأنّها فرد من أفراد العجماء، وهم لا يقولون بتخصيص العموم بالمفهوم فلا حجّة لهم فيه. وقد وقع في حديث الباب (¬1) زيادة " والرّجل جبار " أخرجه الدّارقطنيّ من طريق آدم عن شعبة، وقال: تفرّد آدم عن شعبة بهذه الزّيادة. وهي وهْمٌ. وعند الحنفيّة خلاف , فقال أكثرهم: لا يضمن الرّاكب والقائد في الرّجل والذّنب إلاَّ إن أوقفها في الطّريق. وأمّا السّائق , فقيل: ضامن لِمَا أصابت بيدها أو رجلها لأنّ النّفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها. ¬

_ (¬1) حديث الباب أخرجه الشيخان من طرق عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة به كما تقدّم تخريجه. وليس فيه هذه الزيادة التي تفرَّد به آدم , وهي وهْمٌ. كما قال البيهقي في " السنن " (2/ 238). ونقله الشارح عن الدارقطني. وأخرجه الشيخان أيضاً من طريق الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة به. دون الزيادة. وقد زاد سفيان بن حسين عن الزهري فيه " الرجل جبار " أخرجه أبو داود (4592) والنسائي في " الكبرى " (3/ 412). ونقل الشارحُ اتفاقَ الحفاظِ على تغليط سفيان كما سيأتي.

والرّاجح عندهم لا يضمن النّفحة وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التّحرّز عنه، بخلاف الفم فإنّه يمنعها باللجام , وكذا قال الحنابلة. قوله: (والبئر جبار) في رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند مسلم " والبئر جرحها جبار ". أمّا البئر: فهي بكسر الموحّدة ثمّ ياء ساكنة مهموزة ويجوز تسهيلها , وهي مؤنّثة , وقد تذكّر على معنى القليب والطّوى , والجمع أبؤرٌ وآبارٌ بالمدّ والتّخفيف وبهمزتين بينهما موحّدة ساكنة. قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يُعلم لها مالكٌ. تكون في البادية فيقع فيها إنسانٌ أو دابّةٌ فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئراً في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف فلا ضمان إذا لَم يكن منه تسبّب إلى ذلك ولا تغرير. وكذا لو استأجر إنساناً ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان، وأمّا من حفر بئراً في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن. فتلف بها إنسان فإنّه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفّارة في ماله، وإن تلف بها غير آدميّ وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كلّ حفرة على التّفصيل المذكور. وإلى التّفرقة بين الحفر في ملكه وغيره. ذهب الجمهور، وخالف الكوفيّون. والمراد بـ جَرحها: وهي بفتح الجيم لا غير كما نقله في النّهاية عن

الأزهريّ. ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة , وليست الجراحة مخصوصة بذلك , بل كلّ الإتلافات ملحقة بها. قال عياض وجماعة: إنّما عبّر بالجرح لأنّه الأغلب , أو هو مثال نبّه به على ما عداه , والحكم في جميع الإتلافات بها سواء كان على نفس أو مال، ورواية الأكثر تتناول ذلك على بعض الآراء، ولكنّ الرّاجح الذي يحتاج لتقديرٍ لا عموم فيه. قال ابن بطّال: وخالف الحنفيّة في ذلك فضمّنوا حافر البئر مطلقاً قياساً على راكب الدّابّة، ولا قياس مع النّصّ. قال ابن العربيّ: اتّفقت الرّوايات المشهورة على التّلفّظ بالبئر، وجاءت رواية شاذّة بلفظ " النّار جبار " بنونٍ وألف ساكنة قبل الرّاء. ومعناه عندهم أنّ من استوقد ناراً ممّا يجوز له فتعدّت حتّى أتلفت شيئاً فلا ضمان عليه. قال: وقال بعضهم: صحّفها بعضهم , لأنّ أهل اليمن يكتبون النّار بالياء لا بالألف. فظنّ بعضهم البئر الموحّدة النّار بالنّون فرواها كذلك. قلت: هذا التّأويل نقله ابن عبد البرّ وغيره عن يحيى بن معين. وجزم بأنّ معمراً صحّفه حيث رواه عن همّام عن أبي هريرة. قال ابن عبد البرّ: ولَم يأتِ ابن معين على قوله بدليلٍ، وليس بهذا تردّ أحاديث الثّقات. قلت: ولا يعترض على الحفّاظ الثّقات بالاحتمالات. ويؤيّد ما قاله

ابن معين. اتّفاقُ الحفّاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النّار. وقد ذكر مسلمٌ أنّ علامة المنكر في حديث المحدّث أن يعمد إلى مشهور بكثرة الحديث والأصحاب فيأتي عنه بما ليس عندهم. وهذا من ذاك. ويؤيّده أيضاً. أنّه وقع عند أحمد من حديث جابر بلفظ " والجبّ جبارٌ " بجيمٍ مضمومة وموحّدة ثقيلة وهي البئر. وقد اتّفق الحفّاظ على تغليط سفيان بن حسين حيث روى عن الزّهريّ في حديث الباب " الرّجل جبار " بكسر الرّاء وسكون الجيم، وما ذاك إلاَّ أنّ الزّهريّ مكثر من الحديث والأصحاب , فتفرّد سفيان عنه بهذا اللفظ. فعُدَّ منكراً. وقال الشّافعيّ: لا يصحّ هذا. وقال الدّارقطنيّ: رواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيّب وأبو سلمة وعبيد الله بن عبد الله والأعرج وأبو صالح ومحمّد بن زياد ومحمّد بن سيرين فلم يذكروها، وكذلك رواه أصحاب الزّهريّ , وهو المعروف. نعم. الحكم الذي نقله ابن العربيّ صحيح. ويمكن أن يتلقّى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء , ويلتحق به كلّ جماد، فلو أنّ شخصاً عثر فوقع رأسه في جدارٍ فمات أو انكسر لَم يجب على صاحب الجدار شيء.

قوله: (والمعدن جبار) أي: هَدرٌ. وليس المراد أنه لا زكاة فيه , ووقع في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم " والمعدن جرحها جبار " والحكم فيه ما تقدّم في البئر , لكنّ البئر مؤنّثة , والمعدن مذكّر , فكأنّه ذكره بالتّأنيث للمؤاخاة أو لملاحظة أرض المعدن. فلو حفر معدناً في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص فمات فدمه هدر، وكذا لو استأجر أجيراً يعمل له فانهار عليه فمات. ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كلّ أجير على عمل. كمن استؤجر على صعود نخلة فسقط منها فمات. قال ابن بطّالٍ: ذهب أبو حنيفة والثّوريّ وغيرهما إلى أنّ المعدن كالرّكاز، واحتجّ لهم بقول العرب: أركز الرّجل إذا أصاب ركازاً، وهي قطعٌ من الذّهب تخرج من المعادن. والحجّة للجمهور. تفرقة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين المعدن والرّكاز بواو العطف , فصحّ أنّه غيره. قال: وما ألزم به البخاريّ (¬1) القائل المذكور بقوله " قد يقال لمن وهب له الشّيء أو ربح ربحاً كثيراً أو كثر ثمره: أركزت " حجّةٌ بالغةٌ، لأنّه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى، إلاَّ إن أوجب ذلك من يجب التّسليم له، وقد أجمعوا على أنّ المال الموهوب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز , فكذلك المعدن. ¬

_ (¬1) ذكر هذا البخاري في صحيحه " باب في الركاز الخمس " فقال: وقال بعض الناس: المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية لأنه يقال أركز المعدن. إذا خرج منه شيء. قيل له: قد يقال لمن وهب له شيء، أو ربح ربحاً كثيراً، أو كثر ثمره أركزت. ثم ناقض , وقال: لا بأس أن يكتمه فلا يؤدّي الخمس.

وأمّا قوله " ثم ناقض وقال: لا بأس أن يكتمه فلا يؤدي الخمس " فليس كما قال، وإنّما أجاز له أبو حنيفة أن يكتمه إذا كان محتاجاً، بمعنى أنّه يتأوّل أنّ له حقّاً في بيت المال ونصيباً في الفيء , فأجاز له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضاً عن ذلك. لا أنّه أسقط الخمس عن المعدن. انتهى. وقد نقل الطّحاويّ المسألة التي ذكرها ابن بطّالٍ , ونقل أيضاً أنّه لو وجد في داره معدناً فليس عليه شيءٌ، وبهذا يتّجه اعتراض البخاريّ. والفرق بين المعدن والرّكاز في الوجوب وعدمه , أنّ المعدن يحتاج إلى عملٍ ومئونةٍ ومعالجةٍ لاستخراجه بخلاف الرّكاز، وقد جرت عادة الشّرع أنّ ما غلظت مئونته خفّف عنه في قدر الزّكاة وما خفّت زيد فيه. وقيل: إنّما جعل في الرّكاز الخمس , لأنّه مال كافرٍ فنزّل من وجده منزلة الغنائم فكان له أربعة أخماسه. وقال الزّين بن المنيّر: كأنّ الرّكاز مأخوذٌ من أركزته في الأرض إذا غرزته فيها، وأمّا المعدن فإنّه ينبت في الأرض بغير وضع واضعٍ. هذه حقيقتهما، فإذا افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما. قوله: (وفي الرّكاز الخمس) الرّكاز بكسر الرّاء وتخفيف الكاف وآخره زايٌ. المال المدفون , مأخوذٌ من الرّكز بفتح الرّاء يقال: ركزه يركزه ركزاً إذا دفنه فهو مركوزٌ، وهذا متّفقٌ عليه

وهو من دفن الجاهليّة , بكسر الدّال وسكون الفاء. الشّيء المدفون كذبحٍ بمعنى مذبوحٍ، وأمّا بالفتح فهو المصدر ولا يراد هنا. وذهب الجمهور: إلى أنّه المال المدفون. لكن حصره الشّافعيّة. فيما يوجد في الموات، بخلاف ما إذا وجده في طريقٍ مسلوكٍ أو مسجدٍ فهو لقطةٌ، وإذا وجده في أرضٍ مملوكةٍ فإن كان المالك الذي وجده فهو له، وإن كان غيره فإن ادّعاه المالك فهو له وإلاَّ فهو لمن تلقّاه عنه إلى أن ينتهي الحال إلى من أحيا تلك الأرض. قال الشّيخ تقيّ الدّين بن دقيق العيد: مَن قال من الفقهاء بأنّ في الرّكاز الخمس إمّا مطلقاً أو في أكثر الصّور فهو أقرب إلى الحديث، وخصّه الشّافعيّ أيضاً بالذّهب والفضّة، وقال الجمهور: لا يختصّ، واختاره ابن المنذر. واختلفوا في مصرفه. القول الأول: قال مالكٌ وأبو حنيفة والجمهور: مصرفه مصرف خمس الفيء، وهو اختيار المزنيّ. القول الثاني: قال الشّافعيّ في أصحّ قوليه: مصرفه مصرف الزّكاة. وعن أحمد روايتان. وينبني على ذلك ما إذا وجده ذمّيٌّ , فعند الجمهور يخرج منه الخمس , وعند الشّافعيّ لا يؤخذ منه شيءٌ. واتّفقوا على أنّه لا يشترط فيه الحول , بل يجب إخراج الخمس في

الحال. وأغرب ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ " فحكى عن الشّافعيّ الاشتراط، ولا يعرف ذلك في شيءٍ من كتبه , ولا من كتب أصحابه. وقال الشافعي: في قليله وكثيره الخمس وهو قوله في القديم كما نقله ابن المنذر واختاره. وأمّا الجديد , فقال: لا يجب فيه الخمس حتّى يبلغ نصاب الزّكاة. والأوّل قول الجمهور. كما نقله ابن المنذر أيضاً , وهو مقتضى ظاهر الحديث. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عاصمٍ الأحول عن الحسن قال: إذا وجد الكنز في أرض العدوّ ففيه الخمس، وإذا وجد في أرض العرب ففيه الزّكاة " قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً فرّق هذه التّفرقة غير الحسن.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 178 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عمرَ - رضي الله عنه - على الصّدقة , فقيل: منع ابن جميلٍ وخالد بن الوليد والعبّاس - عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ينقم ابن جميلٍ , إلاَّ أن كان فقيراً فأغناه الله؟ وأمّا خالدٌ: فإنّكم تظلمون خالداً. وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله. وأمّا العبّاس: فهي عليّ ومثلها. ثمّ قال: يا عمر , أَمَا شعرت أنّ عمّ الرّجل صنو أبيه؟. (¬1) قوله: (عن أبي هريرة) في رواية النّسائيّ من طريق عليّ بن عيّاش عن شعيب ممّا حدّثه عبد الرّحمن الأعرج ممّا ذكر أنّه سمع أبا هريرة يقول: قال عمر. فذكره، صرّح بالتّحديث في الإسناد. وزاد فيه عمر، والمحفوظ أنّه من مسند أبي هريرة , وإنّما جرى لعمر فيه ذكر فقط. قوله: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصّدقة) في رواية مسلم من طريق ورقاء عن أبي الزناد: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر ساعياً على الصدقة. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1399) من طريق شعيب , ومسلم (983) من طريق ورقاء كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) لَم أرَ لفظة " ساعياً " في صحيح مسلم ولا في النسخ الموجودة عندي من العمدة. مع أن لفظ العمدة هنا هو سياق مسلم في الصحيح. لكنها ثابتة عند ابن خزيمة في " صحيحه " (2330) وأبي عوانة في " مستخرجه " (2618) والدارقطني (2007) من طرق عن ورقاء به

وللبخاري " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصّدقة فقيل منع .. الحديث " وهو مشعرٌ بأنّها صدقة الفرض، لأنّ صدقة التّطوّع لا يبعث عليها السّعاة. وقال ابن القصّار المالكيّ: الأليق أنّها صدقة التّطوّع , لأنّه لا يظنّ بهؤلاء الصّحابة أنّهم منعوا الفرض. وتعقّب: بأنّهم ما منعوه كلّهم جحداً ولا عناداً، أمّا ابن جميل فقد قيل: إنّه كان منافقاً ثمّ تاب بعد ذلك، كذا حكاه المُهلَّب. (¬1) وجزم القاضي حسين في تعليقه , أنّ فيه نزلت (ومنهم من عاهد الله) الآية. انتهى. والمشهور أنّها نزلت في ثعلبة (¬2)، وأمّا خالدٌ فكان متأوّلاً بإجزاء ما حبسه عن الزّكاة، وكذلك العبّاس لاعتقاده ما سيأتي التّصريح به، ولهذا عَذرَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خالداً والعبّاس , ولَم يعذر ابن جميل. قوله: (فقيل منع ابن جميل) قائل ذلك عمر كما سيأتي في حديث ¬

_ (¬1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12). (¬2) أي ابن حاطب الأنصاري - رضي الله عنه - , وقد أخرج قصَّته مطولةً. الطبراني في " الكبير " (7873) والبيهقي في " الدلائل " (5/ 375) وغيرهما من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - , أنَّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري. قال: يا رسول الله. أدع الله أن يرزقني مالاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فذكر الحديث بطوله في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له وكثرة ماله ومنعه الصدقة ونزول قوله تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية. وفيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ولم يقبض منه الصدقة , ولا أبو بكر , ولا عمر , وأنه مات في خلافة عثمان. وروي بأسانيد أخرى , وكلها ضعيفة. قال الشارح في " الإصابة " (1/ 400): إن صحَّ الخبر , ولا أظنه يصح.

ابن عبّاس في الكلام على قصّة العبّاس، ووقع في رواية ابن أبي الزّناد عن أبيه عند أبي عبيد " فقال بعض من يلمز " أي: يعيب. وابن جميل لَم أقف على اسمه في كتب الحديث. لكن وقع في تعليق القاضي الحسين المروزيّ الشّافعيّ , وتبعه الرّويانيّ , أنّ اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشّيخ سراج الدّين بن الملقّن , أنّ ابن بزيزة سمّاه حميداً. ولَم أر ذلك في كتاب ابن بزيزة. ووقع في رواية ابن جريجٍ " أبو جهم بن حذيفة " بدل ابن جميل، وهو خطأٌ لإطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنّه كان أنصاريّاً، وأمّا أبو جهم بن حذيفة فهو قرشيّ فافترقا. وذكر بعض المتأخّرين. أنّ أبا عبيد البكريّ ذكر في " شرح الأمثال " له: أنّه أبو جهم بن جميل. قوله: (والعبّاس عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) زاد ابن أبي الزّناد عن أبيه عند أبي عبيد " أن يعطوا الصّدقة. قال: فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذبَّ عن اثنين العبّاس وخالد ". وكان العباس أسنَّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين أو بثلاث. وكان إسلامه على المشهور قبل فتح مكة، قيل: قبل ذلك، وليس ببعيد، فإن في حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط ما يؤيد ذلك. وكنية العباس أبو الفضل. ومات العباس في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين , وله بضع

وثمانون سنة. قوله: (ما ينقم) بكسر القاف أي: ما ينكر أو يكره، قوله: (فأغناه الله) وللبخاري " فأغناه الله ورسوله " إنّما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه , لأنّه كان سبباً لدخوله في الإسلام , فأصبح غنيّاً بعد فقره بما أفاء الله على رسوله , وأباح لأمّته من الغنائم. وهذا السّياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ , لأنّه إذا لَم يكن له عذرٌ إلاَّ ما ذكر من أنّ الله أغناه فلا عذر له، وفيه التّعريض بكفران النّعم وتقريعٌ بسوء الصّنيع في مقابلة الإحسان. قوله: (احتبس) أي: حبس. قوله: (وأعتاده) وهو جمع , وللبخاري " وأعتده " جمع أيضاٍ بضمّ المثنّاة عتدٍ بفتحتين. قيل: هو ما يعدّه الرّجل من الدّوابّ والسّلاح. وقيل: الخيل خاصّة، يقال فرس عتيد. أي: صلب أو معدٌّ للرّكوب أو سريع الوثوب أقوال. وقيل: إنّ لبعض رواة البخاريّ " وأعبده " بالموحّدة جمع عبدٍ حكاه عياض، والأوّل هو المشهور. قوله: (فهي عليّ ومثلها).كذا لمسلم. وللبخاري من رواية شعيب عن أبي الزناد " فهي عليه صدقة ومثلها معها "، ولَم يقل ورقاء ولا موسى بن عقبة (¬1) " صدقة ". ¬

_ (¬1) رواية ورقاء. أخرجها مسلم في " صحيحه " (983) كما تقدم , أمّا رواية موسى بن عقبة. فسيذكرها الشارح بعد قليل.

فعلى رواية شعيب يكون - صلى الله عليه وسلم - ألزمه بتضعيف صدقته (¬1) ليكون أرفع لقدره وأنْبَه لذكره وأنفى للذّمّ عنه، فالمعنى. فهو صدقةٌ ثابتةٌ عليه سيصّدّق بها , ويضيف إليها مثلها كرماً. ودلَّت رواية مسلمٍ على أنّه - صلى الله عليه وسلم - التزم بإخراج ذلك عنه لقوله " فهي عليّ " وفيه تنبيهٌ على سبب ذلك وهو قوله " إنّ العمّ صنو الأب " تفضيلاً له وتشريفاً. ويحتمل: أن يكون تحمَّل عنه بها. فيستفاد منه أنّ الزّكاة تتعلق بالذّمّة كما هو أحد قولي الشّافعيّ. وجمع بعضهم بين رواية " عليّ " ورواية " عليه " بأنّ الأصل رواية " عليّ " ورواية " عليه " مثلها إلاَّ أنّ فيها زيادة هاء السّكت , حكاه ابن الجوزيّ عن ابن ناصر. وقيل: معنى قوله " عليّ " أي: هي عندي قرض , لأنّني استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه التّرمذيّ وغيره من حديثٍ عليٍّ. وفي إسناده مقال. وفي الدّارقطنيّ من طريق موسى بن طلحة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: إنّا كنّا احتجنا فتعجّلنا من العبّاس صدقة ماله سنتين " وهذا مرسل، وروى الدّارقطنيّ أيضاً موصولاً بذكر طلحة فيه. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (3/ 420): هذا فيه نظرٌ , وظاهر الحديث يدلُّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - تركها له , وتحمّلها عنه , وسمّى ذلك صدقة تجوّزاً وتسامحاً في اللفظ , ويدلُّ على ذلك رواية مسلم " فهي عليّ ومثلها " فتأمّل.

وإسناد المرسل أصحّ. وفي الدّارقطنيّ أيضاً من حديث ابن عبّاس " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر ساعياً، فأتى العبّاس فأغلظ له، فأخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّ العبّاس قد أسلفنا زكاة ماله العام، والعام المقبل " وفي إسناده ضعف. وأخرجه أيضاً هو والطّبرانيّ من حديث أبي رافع نحو هذا. وإسناده ضعيف أيضاً، ومن حديث ابن مسعود , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تعجّل من العبّاس صدقته سنتين. وفي إسناده محمّد بن ذكوان وهو ضعيف. ولو ثبت لكان رافعاً للإشكال , ولرجح به سياق رواية مسلمٍ على بقيّة الرّوايات. وفيه ردٌّ لقول مَن قال: إنّ قصّة التّعجيل إنّما وردت في وقتٍ غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصّدقة، وليس ثبوت هذه القصّة في تعجيل صدقة العبّاس ببعيدٍ في النّظر بمجموع هذه الطّرق. والله أعلم. وقيل: المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين؛ فأمر أن يقاصّ به من ذلك , واستبعد ذلك بأنّه لو كان وقع لكان - صلى الله عليه وسلم - أعلم عمر بأنّه لا يطالب العبّاس، وليس ببعيد. ومعنى " عليه " على التّأويل الأوّل. أي: لازمة له , وليس معناه أنّه يقبضها , لأنّ الصّدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم. ومنهم: من حمل رواية شعيب على ظاهرها فقال: كان ذلك قبل

تحريم الصّدقة على بني هاشم، ويؤيّده رواية موسى بن عقبة عن أبي الزّناد عند ابن خزيمة بلفظ " فهي له " بدل " عليه ". وقال البيهقيّ: اللام هنا بمعنى على لتتّفق الرّوايات، وهذا أولى ,لأنّ المخرج واحد، وإليه مال ابن حبّان. وقيل: معناها فهي له. أي: القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه , لأنّني التزمت عنه بإخراجه. وقيل: إنّه أخّرها عنه ذلك العام إلى عامٍ قابلٍ , فيكون عليه صدقة عامين. قاله أبو عبيد. وقيل: إنّه كان استدان حين فادى عقيلاً وغيره. فصار من جملة الغارمين , فساغ له أخذ الزّكاة بهذا الاعتبار. وأبعد الأقوال كلّها قول مَن قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التّأديب بالمال، فألزم العبّاس بامتناعه من أداء الزّكاة بأن يؤدّي ضعف ما وجب عليه لعظمة قدره وجلالته. كما في قوله تعالى في نساء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (يُضاعف لها العذاب ضعفين) الآية، وقد تقدّم بعضه في أوّل الكلام. واستدل بقصّة خالدٍ على جواز إخراج مال الزّكاة في شراء السّلاح وغيره من آلات الحرب والإعانة بها في سبيل الله، بناءً على أنّه - صلى الله عليه وسلم - أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه كما سبق، وهي طريقة البخاريّ. وأجاب الجمهور بأجوبة:

أحدها: أنّ المعنى. أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يقبل إخبار من أخبره بمنع خالد , حملاً على أنّه لَم يصرّح بالمنع، وإنّما نقلوه عنه بناءً على ما فهموه، ويكون قوله " تظلمونه " أي: بنسبتكم إيّاه إلى المنع وهو لا يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوّع بتحبيس سلاحه وخيله؟ ثانيها: أنّهم ظنّوا أنّها للتّجارة. فطالبوه بزكاة قيمتها , فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - بأنّه لا زكاة عليه فيما حبس. وهذا يحتاج لنقلٍ خاصٍّ فيكون فيه حجّةٌ لمن أسقط الزّكاة عن الأموال المحبّسة، ولمن أوجبها في عروض التّجارة. ثالثها: أنّه كان نوى بإخراجها عن ملكه الزّكاة عن ماله , لأنّ أحد الأصناف سبيل الله وهم المجاهدون. وهذا يقوله من يجيز إخراج القيم في الزّكاة كالحنفيّة. ومن يجيز التّعجيل كالشّافعيّة. وقد استدل البخاريّ به على إخراج العروض في الزّكاة. وعلى مشروعيّة تحبيس الحيوان والسّلاح، وأنّ الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه، وعلى صرف الزّكاة إلى صنفٍ واحدٍ من الثّمانية. وتعقّب ابن دقيق العيد جميع ذلك: بأنّ القصّة واقعة عينٍ. محتملةٌ لِمَا ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شيءٍ ممّا ذكر. قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصاداً وعدم تصرّف، ولا يبعد أن يطلق على ذلك التّحبيس فلا يتعيّن الاستدلال بذلك لِمَا ذكر. وفي الحديث بعث الإمام العمّال لجباية الزّكاة، وتنبيه الغافل على ما

أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحقّ الله عليه، والعتب على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمّل الإمام عن بعض رعيّته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرّعيّة بما يسوغ الاعتذار به. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب.

الحديث السادس

الحديث السادس 179 - عن عبد الله بن زيد بن عاصمٍ - رضي الله عنه - , قال: لَمّا أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنينٍ: قسم في النّاس , وفي المؤلفة قلوبهم , ولَم يُعطِ الأنصار شيئاً. فكأنّهم وجدوا في أنفسهم , إذ لَم يصبهم ما أصاب النّاس. فخطبهم , فقال: يا معشر الأنصار , أَلَم أجدكم ضلاّلاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرّقين فألفكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟. كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟ قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال: لو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا. إلاَّ ترضون أن يذهب النّاس بالشّاة والبعير , وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك النّاس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها. الأنصار شعارٌ , والنّاس دثارٌ. إنّكم ستلقون بعدي أثرةً، فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض. (¬1) قوله: (لَمّا أفاء الله على رسوله يوم حنينٍ) أي: أعطاه غنائم الذين قاتلهم يوم حنينٍ، وأصل الفيء الرّدّ والرّجوع، ومنه سُمِّي الظّلّ بعد الزّوال فيئاً , لأنّه رجع من جانب إلى جانب، فكأنّ أموال الكفّار سُمِّيت فيئاً , لأنّها كانت في الأصل للمؤمنين , إذ الإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه، فإذا غلب الكفّار على شيء من المال فهو بطريق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4075 , 6818) ومسلم (1061) من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -.

التّعدّي , فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنّه رجع إليهم ما كان لهم. وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بحبس الغنائم بالجعرّانة، فلمّا رجع من الطّائف وصل إلى الجعرّانة في خامس ذي القعدة. وكان السّبب في تأخير القسمة ما في حديث المسور رجاء أن يسلموا، وكانوا ستّة آلاف نفس من النّساء والأطفال , وكانت الإبل أربعة وعشرين ألفاً والغنم أربعين ألف شاة. قوله: (قسم في النّاس) حذف المفعول والمراد به الغنائم، ووقع في رواية الزّهريّ عن أنس عند البخاري " يعطي رجالاً المائة من الإبل ". وقوله: (في المؤلفة قلوبهم) بدل بعض من كلّ، والمراد بالمؤلفة ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاماً ضعيفاً. وقيل: كان فيهم من لَم يسلم بعد كصفوان بن أُميَّة. وقد اختلف في المراد بالمؤلفة قلوبهم الذين هم أحد المستحقّين للزّكاة فقيل: كفّار يعطون ترغيباً في الإسلام. وقيل: مسلمون لهم أتباع كفّار ليتألفوهم. وقيل: مسلمون أوّل ما دخلوا في الإسلام ليتمكّن الإسلام من قلوبهم. وأمّا المراد بالمؤلفة هنا فهذا الأخير لقوله في رواية الزّهريّ في الصحيحين " فإنّي أعطي رجالاً حديثي عهد بكفرٍ أتألفهم " والمراد

بهم من فتحت مكّة وهم فيها. وفي رواية له " فأعطى الطّلقاء والمهاجرين ". والمراد بالطّلقاء جمع طليق: من حصل من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المنّ عليه يوم فتح مكّة من قريش وأتباعهم، والمراد بالمهاجرين من أسلم قبل فتح مكّة وهاجر إلى المدينة. وقد سرد أبو الفضل بن طاهر في " المبهمات " له أسماء المؤلفة وهم (س) أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزّى، (س) وحكيم بن حزام، وأبو السّنابل بن بعكك، وصفوان بن أُميَّة، وعبد الرّحمن بن يربوع وهؤلاء من قريش، وعيينة بن حصين الفزاريّ والأقرع بن حابس التّميميّ وعمرو بن الأيهم التّميميّ، (س) والعبّاس بن مرداس السّلميّ، (س) ومالك بن عوف النّضري، والعلاء بن حارثة الثّقفيّ , وفي ذكر الأخيرين نظّر: فقيل: إنّهما جاءا طائعين من الطّائف إلى الجعرانة، وذكر الواقدي في المؤلفة (س) معاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وأسيد بن حارثة، ومخرّمة بن نوفل، (س) وسعيد بن يربوع، (س) وقيس بن عدّي (س) وعمرو بن وهب، (س) وهشام بن عمرو. وذكر ابن إسحاق من ذكرت عليه علامة سين , وزاد: النّضر بن الحارث، والحارث بن هشام، وجبّير بن مطعم. وممّن ذكره. فمنهم أبو عمر سفيان بن عبد الأسد، والسّائب بن أبي السّائب، ومطيع بن الأسود وأبو جهم بن حذيفة.

وذكر ابن الجوزيّ فيهم زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، وحكيم بن طلق بن سفيان بن أُميَّة وخالد بن قيس السّهميّ، وعمير بن مرداس. وذكر غيرهم فيهم قيس بن مخرمة، وأحيحة بن أُميَّة بن خلف، وابن أبي شريق، وحرملة بن هوذة، وخالد بن هوذة، وعكرمة بن عامر العبدريّ، وشيبة بن عمارة، وعمرو بن ورقة، ولبيد بن ربيعة، والمغيرة بن الحارث، وهشام بن الوليد المخزوميّ. فهؤلاء زيادة على أربعين نفساً. قوله: (الأنصار) هو اسم إسلامي، سَمَّى به النبي - صلى الله عليه وسلم - الأوسَ والخزرجَ وحلفاءهم كما في حديث أنس. عند البخاري والأوس يُنسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج ينسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قَيْلة، وهو اسم أمِّهم , وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر الذي يجتمع إليه أنساب الأزد. قوله: (ولم يُعطِ الأنصار شيئاً) ظاهرٌ في أنّ العطيّة المذكورة كانت من جميع الغنيمة. وقال القرطبيّ في " المفهم ": الإجراء على أصول الشّريعة أنّ العطاء المذكور كان من الخمس، ومنه كان أكثر عطاياه، وقد قال في هذه الغزوة للأعرابيّ: ما لي ممّا أفاء الله عليكم إلاَّ الخمس، والخمس مردود فيكم. أخرجه أبو داود والنّسائيّ من حديث عبد الله بن عمرو. وعلى الأوّل. فيكون ذلك مخصوصاً بهذه الواقعة. وقد ذكر السّبب

في ذلك في رواية قتادة عن أنس في الصحيحين حيث قال: إنّ قريشاً حديث عهد بجاهليّةٍ ومصيبة، وإنّي أردت أن أجيرهم وأتألفهم. قلت: الأوّل هو المعتمد، وسيأتي ما يؤكّده. والذي رجّحه القرطبيّ جزم به الواقديّ، ولكنّه ليس بحجّةٍ إذا انفرد فكيف إذا خالف؟!. وقيل: إنّما كان تصرّف في الغنيمة , لأنّ الأنصار كانوا انهزموا فلم يرجعوا حتّى وقعت الهزيمة على الكفّار , فردّ الله أمر الغنيمة لنبيّه. وهذا معنى القول السّابق بأنّه خاصّ بهذه الواقعة، واختار أبو عبيد أنّه كان من الخمس. وقال ابن القيّم: اقتضت حكمة الله أنّ فتح مكّة كان سبباً لدخول كثير من قبائل العرب في الإسلام وكانوا يقولون: دعوه وقومه، فإن غلبهم دخلنا في دينه، وإن غلبوه كفونا أمره. فلمّا فتح الله عليه استمرّ بعضهم على ضلاله فجمعوا له وتأهّبوا لحربه , وكان من الحكمة في ذلك أنّ يظهر أنّ الله نصر رسوله لا بكثرة من دخل في دينه من القبائل ولا بانكفاف قومه عن قتاله. ثمّ لَمّا قدّر الله عليه من غلبته إيّاهم قدّر وقوع هزيمة المسلمين مع كثرة عددهم وقوّة عددهم ليتبيّن لهم أنّ النّصر الحقّ إنّما هو من عنده لا بقوّتهم، ولو قدّر أن لا يغلبوا الكفّار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرّأس متعاظماً، فقدّر هزيمتهم ثمّ أعقبهم النّصر ليدخلوا مكّة كما دخلها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح متواضعاً متخشّعاً.

واقتضت حكمته أيضاً أنّ غنائم الكفّار لَمّا حصلت ثمّ قسّمت على من لَم يتمكّن الإيمان من قلبه لِمَا بقي فيه من الطّبع البشريّ في محبّة المال فقسمه فيهم لتطمئنّ قلوبهم وتجتمع على محبّته، لأنّها جبلت على حبّ من أحسن إليها. ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها لأنّه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصوراً عليهم، بخلاف قسمته على المؤلفة , لأنّ فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلمّا كان ذلك العطاء سبباً لدخولهم في الإسلام ولتقوية قلب من دخل فيه قبل تبعهم من دونهم في الدّخول، فكان في ذلك عظيم المصلحة. ولذلك لَم يقسم فيهم من أموال أهل مكّة عند فتحها قليلاً ولا كثيراً مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يعينهم على ما هم فيه، فحرّك الله قلوب المشركين لغزوهم، فرأى كثيرهم أن يخرجوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم فكانوا غنيمة للمسلمين، ولو لَم يقذف الله في قلب رئيسهم أنّ سوقه معه هو الصّواب لكان الرّأي ما أشار إليه دريد فخالفه فكان ذلك سبباً لتصييرهم غنيمة للمسلمين. ثمّ اقتضت تلك الحكمة أن تُقسم تلك الغنائم في المؤلفة ويُوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه. ثمّ كان من تمام التّأليف ردّ من سبي منهم إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام فدخلوا طائعين راغبين، وجبر ذلك قلوب أهل مكّة بما نالهم من النّصر والغنيمة عمّا حصل لهم من الكسر والرّعب فصرف عنهم شرّ من كان يجاورهم من أشدّ

العرب من هوازن وثقيف بما وقع بهم من الكسرة وبما قيّض لهم من الدّخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكّة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدّتها وكثرتها. وأمّا قصّة الأنصار وقول مَن قال منهم فقد اعتذر رؤساؤهم بأنّ ذلك كان من بعض أتباعهم، ولمَّا شرح لهم - صلى الله عليه وسلم - ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين ورأوا أنّ الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله إلى بلادهم، فسلوا عن الشّاة والبعير، والسّبايا من الأنثى والصّغير، بما حازوه من الفوز العظيم، ومجاورة النّبيّ الكريم لهم حيّاً وميّتاً. وهذا دأب الحكيم يعطي كلّ أحد ما يناسبه، انتهى ملخّصاً. قوله: (فكأنّهم وجدوا إذ لَم يصبهم ما أصاب النّاس) كذا للأكثر مرّة واحدة، وفي رواية أبي ذرّ " فكأنّهم وجدٌ إذ لَم يصبهم ما أصاب النّاس، أو كأنّهم وجدوا إذ لَم يصبهم ما أصاب النّاس " أورده على الشّكّ هل قال: " وجد " بضمّتين جمع واجد أو " وجدوا " على أنّه فعل ماضٍ. ووقع له عن الكشميهنيّ (¬1) وجده " وجدوا " في الموضعين فصار تكراراً بغير فائدة، وكذا رأيته في أصل النّسفيّ. ووقع في رواية مسلم كذلك. قال عياض: وقع في نسخة في الثّاني " أن لَم يصبهم " يعني بفتح ¬

_ (¬1) هو أبو الهيثم محمد بن مكي , سبق ترجمته (1/ 32)

الهمزة وبالنّون قال: وعلى هذا تظهر فائدة التّكرار. وجوّز الكرمانيّ. أن يكون الأوّل من الغضب , والثّاني من الحزن والمعنى أنّهم غضبوا، والموجدة الغضب يقال وجد في نفسه إذا غضب، ويقال أيضاً وجد إذا حزن، ووجد ضدّ فقد، ووجد إذا استفاد مالاً، ويظهر الفرق بينهما بمصادرهما: ففي الغضب موجدة، وفي الحزن وجدا بالفتح، وفي ضدّ الفقد وجداناً، وفي المال وجداً بالضّمّ، وقد يقع الاشتراك في بعض هذه المصادر، وموضع بسط ذلك غير هذا الموضع. وفي " مغازي سليمان التّيميّ " أنّ سبب حزنهم أنّهم خافوا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الإقامة بمكّة. والأصحّ ما في الصّحيح حيث قال: " إذ لَم يصبهم ما أصاب النّاس " على أنّه لا يمتنع الجمع وهذا أولى. ووقع في رواية الزّهريّ عن أنس " فقالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم " وفي رواية هشام بن زيد عن أنس في البخاري " إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا ". وهذا ظاهر في أنّ العطاء كان من صلب الغنيمة بخلاف ما رجّحه القرطبيّ. قوله: (فخطبهم) زاد مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد " فحمد الله

وأثنى عليه " وفي رواية الزّهريّ " فحدّث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبّة من أدم، فلم يدع معهم غيرهم، فلمّا أجتمعوا قام فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار: أمّا رؤساؤنا فلم يقولوا شيئاً، وأمّا ناس منّا حديثة أسنانهم فقالوا ". وفي رواية هشام بن زيد " فجمعهم في قبّة من أدم فقال: يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني؟ فسكتوا ". ويُحمل على أنَّ بعضهم سكت وبعضهم أجاب، وفي رواية أبي التّيّاح عن أنس عند الإسماعيليّ فجمعهم فقال: " ما الذي بلغني عنكم؟ قالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون " (¬1). ولأحمد من طريق ثابت عن أنس " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو في آخرين يوم حنينٍ، فقالت الأنصار: سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم " فذكر الحديث. وفيه " ثمّ قال: أقلتم كذا وكذا؟ قالوا: نعم " وإسناده على شرط مسلم. وكذا ذكر ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدريّ , أنّ الذي أخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمقالتهم سعد بن عبادة ولفظه " لَمّا أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولَم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم حتّى ¬

_ (¬1) هذه الرواية أخرجها مسلم أيضاً (1059)

كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بن عبادة فذكر له ذلك، فقال له: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلاَّ من قومي. قال: فاجمع لي قومك. فخرج فجمعهم " الحديث، وأخرجه أحمد من هذا الوجه. وهذا يعكّر على الرّواية التي فيها " أمّا رؤساؤنا فلم يقولوا شيئاً " لأنّ سعد بن عبادة من رؤساء الأنصار بلا ريب، إلاَّ أن يحمل على الأغلب الأكثر، وأنّ الذي خاطبه بذلك سعد بن عبادة ولَم يرد إدخال نفسه في النّفي. أو أنّه لَم يقل لفظاً. وإن كان رضي بالقول المذكور فقال: ما أنا إلاَّ من قومي، وهذا أوجه، والله أعلم. قوله: (أَلَم أجدكم ضلالاً) بالضّمّ والتّشديد. جمع ضالّ. والمراد هنا ضلالة الشّرك، وبالهداية الإيمان. وقد رتّب - صلى الله عليه وسلم - ما منّ الله عليهم على يده من النّعم ترتيباً بالغاً فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازيها شيء من أمر الدّنيا، وثنّى بنعمة الألفة , وهي أعظم من نعمة المال , لأنّ الأموال تبذل في تحصيلها وقد لا تحصّل. وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التّنافر والتّقاطع لِمَا وقع بينهم من حرب بُعاث وغيرها، فزال ذلك كلّه بالإسلام كما قال الله تعالى: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكنّ الله ألف بينهم). قوله: (عالة) بالمهملة. أي: فقراء لا مال لهم، والعيلة الفقر.

قوله: (كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ) بفتح الهمزة والميم والتّشديد: أفعل تفضيل من المنّ، وفي حديث أبي سعيد " قالوا: ماذا نجيبك يا رسولَ الله , ولله ولرسوله المنّ والفضل " قوله: (قال: لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا) في رواية إسماعيل بن جعفر " لو شئتم أن تقولوا جئتنا كذا وكذا , وكان من الأمر كذا وكذا. لأشياء زعم عمرو بن أبي يحيى المازنيّ - راوي الحديث - أنّه لا يحفظها. وفي هذا ردّ على مَن قال. إنّ الرّاوي كنّى عن ذلك عمداً على طريق التّأدّب، وقد جوّز بعضهم أن يكون المراد. جئتنا ونحن على ضلالة فهدينا بك. وما أشبه ذلك. وفيه بُعد، فقد فسّر ذلك في حديث أبي سعيد ولفظه " فقال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذّباً فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك " ونحوه في " مغازي أبي الأسود " عن عروة مرسلاً , وابن عائذ من حديث ابن عبّاس موصولاً. وفي " مغازي سليمان التّيميّ " , أنّهم قالوا في جواب ذلك " رضينا عن الله ورسوله " وكذا ذكر موسى بن عقبة في " مغازيه " بغير إسناد، وأخرجه أحمد عن ابن أبي عديّ عن حميدٍ عن أنس بلفظ " أفلا تقولون جئتنا خائفاً فآمناك، وطريداً فآويناك، ومخذولاً فنصرناك. فقالوا: بل المنّ علينا لله ولرسوله " وإسناده صحيح.

وروى أحمد من وجه آخر عن أبي سعيد قال: قال رجلٌ من الأنصار لأصحابه: لقد كنت أحدّثكم أن لو استقامت الأمور لقد آثر عليكم، قال فردّوا عليه ردّاً عنيفاً، فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وإنّما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك تواضعاً منه وإنصافاً، وإلاَّ ففي الحقيقة الحجّة البالغة والمنّة الظّاهرة في جميع ذلك له عليهم فإنّه لولا هجرته إليهم وسكناه عندهم لَمَا كان بينهم وبين غيرهم فرق، وقد نبّه على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - " إلاَّ ترضون إلخ " فنبّههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصّوا به منه بالنّسبة إلى ما حصل عليه غيرهم من عرض الدّنيا الفانية. قوله: (بالشّاة والبعير) اسم جنس فيهما، والشّاة تقع على الذّكر والأنثى وكذا البعير، وفي رواية الزّهريّ " أن يذهب النّاس بالأموال " وفي رواية أبي التّيّاح وقتادة في الصحيحين " بالدّنيا " قوله: (إلى رحالكم) بالحاء المهملة أي بيوتكم وهي رواية قتادة، زاد في رواية الزّهريّ عن أنس " فوالله لَمَا تنقلبون به خير ممّا ينقلبون به " وزاد فيه أيضاً " قالوا: يا رسولَ الله قد رضينا " , وفي رواية قتادة " قالوا بلى ". وذكر الواقديّ: أنّه حينئذٍ دعاهم ليكتب لهم بالبحرين تكون لهم خاصّة بعده دون النّاس، وهي يومئذٍ أفضل ما فتح عليه من الأرض، فأبوا وقالوا: لا حاجة لنا بالدّنيا قوله: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار) قال الخطّابيّ: أراد

بهذا الكلام تألّف الأنصار واستطابة نفوسهم والثّناء عليهم في دينهم حتّى رضي أن يكون واحداً منهم , لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه: منها الولادة، والبلاديّة، والاعتقاديّة، والصّناعيّة. ولا شكّ أنّه لَم يرد الانتقال عن نسب آبائه لأنّه ممتنع قطعاً. وأمّا الاعتقاديّ فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبق إلاَّ القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمراً واجباً، أي: لولا أنّ النّسبة الهجريّة لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. قال: ويحتمل أنّه لَمّا كانوا أخواله لكون أمّ عبد المطّلب منهم. أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة لولا مانع الهجرة. وقال ابن الجوزيّ: لَم يرد - صلى الله عليه وسلم - تغيّر نسبه ولا محو هجرته، وإنّما أراد أنّه لولا ما سبق من كونه هاجر لانتسب إلى المدينة وإلى نصرة الدّين، فالتّقدير لولا أنّ النّسبة إلى الهجرة نسبة دينيّة لا يسع تركها لانتسبت إلى داركم. وقال القرطبيّ: معناه. لتسمّيت باسمكم وانتسبت إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصيّة الهجرة وتربيتها سبقت فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف فلا تتبدّل بغيرها. وقيل: معناه لكنت من الأنصار في الأحكام والعداد. وقيل: التّقدير. لولا أنّ ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار، ولَم يرد ظاهر النّسب أصلاً.

وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة. ومنها ترك الإقامة بمكّة فوق ثلاث , لاخترت أن يكون من الأنصار فيباح لي ذلك. قوله: (وادي الأنصار) هو المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء، والمراد هنا بلدهم. قوله: (وشعبها) بكسر الشّين المعجمة وهو اسم لِمَا انفرج بين جبلين. وقيل: الطّريق في الجبل. وأراد - صلى الله عليه وسلم - بهذا وبما بعده التّنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النّصرة والقناعة بالله ورسوله عن الدّنيا. ومَن هذا وصفه فحقّه أن يسلك طريقه ويتّبع حاله. قال الخطّابيّ: لَمّا كانت العادة أنّ المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشّعاب، فإذا تفرّقت في السّفر الطّرق سلك كلّ قوم منهم وادياً وشعباً. فأراد أنّه مع الأنصار. قال: ويحتمل: أن يريد بالوادي المذهب كما يقال فلان في وادٍ وأنا في وادٍ. قوله: (الأنصار شعار والنّاس دثار) الشّعار بكسر المعجمة بعدها مهملة خفيفة: الثّوب الذي يلي الجلد من الجسد. والدّثار بكسر المهملة ومثلثة خفيفة الذي فوقه. وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه. وأراد أيضاً أنّهم بطانته وخاصّته وأنّهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم. زاد في حديث أبي سعيد " اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار

وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظّاً ". قوله: (إنّكم ستلقون بعدي أثرة) بضمّ الهمزة وسكون المثلثة وبفتحتين، ويجوز كسر أوّله مع الإسكان، أي الانفراد بالشّيء المشترك دون من يشركه فيه. وفي رواية الزّهريّ " أثرة شديدة " والمعنى أنّه يستأثر عليهم بما لهم فيه اشتراك في الاستحقاق. وقال أبو عبيد: معناه يفضّل نفسه عليكم في الفيء. وقيل: المراد بالأثرة الشّدّة. ويردّه سياق الحديث وسببه. قوله: (فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض) أي: يوم القيامة. وفي رواية الزّهريّ " حتّى تلقوا الله ورسوله فإنّي على الحوض " أي: اصبروا حتّى تموتوا، فإنّكم ستجدونني عند الحوض، فيحصل لكم الانتصاف ممّن ظلمكم والثّواب الجزيل على الصّبر. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم إقامة الحجّة على الخصم وإفحامه بالحقّ عند الحاجة إليه، وحسن أدب الأنصار في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء، وبيان أنّ الذي نقل عنهم إنّما كان عن شبّانهم لا عن شيوخهم وكهولهم. وفيه مناقب عظيمة لهم لِمَا اشتمل من ثناء الرّسول البالغ عليهم، وأنّ الكبير ينبّه الصّغير على ما يغفل عنه، ويوضّح له وجه الشّبهة ليرجع إلى الحقّ.

وفيه المعاتبة واستعطاف المعاتب وإعتابه عن عتبه بإقامة حجّة من عتب عليه، والاعتذار والاعتراف. وفيه علم من أعلام النّبوّة لقوله: " ستلقون بعدي أثرة " فكان كما قال. وقد قال الزّهريّ في روايته عن أنس في آخر الحديث " قال أنس: فلم يصبروا ". وفيه أنّ للإمام تفضيل بعض النّاس على بعض في مصارف الفيء، وأنّ له أن يعطي الغنيّ منه للمصلحة. وأنّ من طلب حقّه من الدّنيا لا عتب عليه في ذلك. ومشروعيّة الخطبة عند الأمر الذي يحدث سواء كان خاصّاً أم عامّاً. وفيه جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة. وفيه تسلية من فاته شيء من الدّنيا ممّا حصل له من ثواب الآخرة، والحضّ على طلب الهداية والألفة والغنى، وأنّ المنّة لله ورسوله على الإطلاق، وتقديم جانب الآخرة على الدّنيا، والصّبر عمّا فات منها ليدّخر ذلك لصاحبه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى.

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر الحديث السابع 180 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر أو قال: رمضان , على الذّكر والأنثى والحرّ والمملوك , صاعاً من تمرٍ , أو صاعاً من شعيرٍ. قال: فعدل النّاس به نصف صاعٍ من برٍّ , على الصّغير والكبير. (¬1) وفي لفظٍ: أن تؤدّى قبل خروج النّاس إلى الصّلاة. (¬2) قوله: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على فرضيّتها، لكنّ الحنفيّة يقولون بالوجوب دون الفرض على قاعدتهم في التّفرقة. وفي نقل الإجماع مع ذلك نظرٌ , لأنّ إبراهيم بن عليّة وأبا بكر بن كيسان الأصمّ قالا إنّ وجوبها نسخ. واستدل لهما بما روى النّسائيّ وغيره عن قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزّكاة، فلمّا نزلت الزّكاة لَم يأمرنا ولَم ينهنا , ونحن نفعله. وتعقّب: بأنّ في إسناده راوياً مجهولاً، وعلى تقدير الصّحّة فلا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1433 , 1436 , 1438 , 1440 , 1441) ومسلم (984) من طرق عدّة عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - (¬2) أخرجه البخاري (1432) من طريق عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به.

دليل فيه على النّسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأوّل، لأنّ نزول فرضٍ لا يوجب سقوط فرضٍ آخر. ونقل المالكيّة. عن أشهب: أنّها سنّةٌ مؤكّدةٌ، وهو قول بعض أهل الظّاهر وابن اللبّان من الشّافعيّة، وأوّلوا قوله " فرض " في الحديث بمعنى قدّر. قال ابن دقيق العيد: هو أصله في اللّغة، لكن نقل في عرف الشّرع إلى الوجوب فالحمل عليه أولى انتهى. ويؤيّده تسميتها زكاةً، وقوله في الحديث " على كل حرٍّ وعبدٍ " والتّصريح بالأمر بها في حديث قيس بن سعدٍ وغيره، ولدخولها في عموم قوله تعالى (وآتوا الزّكاة) فبيّن - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل ذلك ومن جملتها زكاة الفطر، وقال الله تعالى (قد أفلح من تزكّى) وثبت أنّها نزلت في زكاة الفطر، وثبت في الصّحيحين إثبات حقيقة الفلاح لمن اقتصر على الواجبات. قيل: وفيه نظرٌ , لأنّ في الآية (وذكر اسم ربّه فصلى) فيلزم وجوب صلاة العيد. ويجاب: بأنّه خرج بدليل عموم " هنّ خمسٌ لا يبدّل القول لديّ ". قوله: (صدقة الفطر) أضيفت الصّدقة للفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان. وقال ابن قتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النّفوس، مأخوذةٌ من الفطرة التي هي أصل الخلقة. والأوّل أظهر. ويؤيّده قوله في بعض طرق الحديث كما في صحيح

مسلم من رواية مالك عن نافع " زكاة الفطر من رمضان " واستدل به. وهو القول الأول: على أنّ وقت وجوبها غروب الشّمس ليلة الفطر , لأنّه وقت الفطر من رمضان. وهو قول الثّوريّ وأحمد وإسحاق والشّافعيّ في الجديد , وإحدى الرّوايتين عن مالكٍ. القول الثاني: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد , لأنّ الليل ليس محلاً للصّوم، وإنّما يتبيّن الفطر الحقيقيّ بالأكل بعد طلوع الفجر، وهو قول أبي حنيفة والليث والشّافعيّ في القديم , والرّواية الثّانية عن مالكٍ. ويقوّيه قوله في حديث الباب " وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج النّاس إلى الصّلاة " قال المازريّ: قيل: إنّ الخلاف ينبني على أنّ قوله " الفطر من رمضان " الفطر المعتاد في سائر الشّهر فيكون الوجوب بالغروب، أو الفطر الطّارئ بعد فيكون بطلوع الفجر. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيفٌ , لأنّ الإضافة إلى الفطر لا تدلّ على وقت الوجوب بل تقتضي إضافة هذه الزّكاة إلى الفطر من رمضان، وأمّا وقت الوجوب فيطلب من أمرٍ آخر. قوله: (على الذّكر والأنثى) ظاهره وجوبها على المرأة. سواءٌ كان لها زوجٌ أم لا , وبه قال الثّوريّ وأبو حنيفة وابن المنذر. وهو القول

الأول. القول الثاني: قال مالكٌ والشّافعيّ والليث وأحمد وإسحاق: تجب على زوجها إلحاقاً بالنّفقة. وفيه نظرٌ. لأنّهم قالوا: إن أعسر وكانت الزّوجة أمةً , وجبت فطرتها على السّيّد بخلاف النّفقة. فافترقا. واتّفقوا على أنّ المسلم لا يُخرج عن زوجته الكافرة مع أنّ نفقتها تلزمه. وإنّما احتجّ الشّافعيّ بما رواه من طريق محمّد بن عليٍّ الباقر مرسلاً نحو حديث ابن عمر. وزاد فيه " ممّن تمونون " وأخرجه البيهقيّ من هذا الوجه , فزاد في إسناده ذكر عليٍّ. وهو منقطعٌ أيضاً. وأخرجه من حديث ابن عمر. وإسناده ضعيفٌ أيضاً. قوله: (والحرّ والمملوك) ظاهره إخراج العبد عن نفسه. ولَم يقل به إلاَّ داود فقال: يجب على السّيّد أن يمكّن العبد من الاكتساب لها كما يجب عليه أن يمكّنه من الصّلاة. وخالفه أصحابه والنّاس. واحتجّوا بحديث أبي هريرة مرفوعاً " ليس في العبد صدقةٌ إلاَّ صدقة الفطر " أخرجه مسلمٌ، وفي روايةٍ له " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة الفطر إلاَّ صدقة في الرّقيق ". وقد تقدّم عند البخاريّ قريباً بغير الاستثناء (¬1)، ومقتضاه أنّها على ¬

_ (¬1) يعني حديث أبي هريرة المتقّدم برقم (176).

السّيّد. وهل تجب عليه ابتداءً أو تجب على العبد ثمّ يتحمّلها السّيّد؟ وجهان للشّافعيّة. وإلى الثّاني نحا البخاريّ. حيث إنّه يرى أنّها تجب على العبد , وإن كان سيّده يتحمّلها عنه. ويؤيّده عطف الصّغير عليه , فإنّها تجب عليه , وإن كان الذي يخرجها غيره. وقال الزهريّ في المملوكين للتجارة: يزكّي في التجارة ويزكّى في الفطر " نقله البخاري. وهو قول الجمهور. وقال النّخعيّ والثّوريّ والحنفيّة: لا يلزم السّيّد زكاة الفطر عن عبيد التّجارة , لأنّ عليه فيهم الزّكاة، ولا تجب في مالٍ واحدٍ زكاتان. قوله: (صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ) انتصب " صاعاً " على التّمييز أو أنّه مفعولٌ ثانٍ. ولَم تختلف الطّرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذين الشّيئين إلاَّ ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ وغيرهما من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافعٍ. فزاد فيه السّلت والزّبيب. فأمّا السُّلت. فهو بضمّ المهملة وسكون اللام بعدها مثنّاةٌ: نوعٌ من الشّعير، وأمّا الزّبيب فسيأتي ذكره في حديث أبي سعيدٍ (¬1). ¬

_ (¬1) أي: الآتي بعد حديث ابن عمر هذا.

وأمّا حديث ابن عمر. فقد حكَمَ مسلمٌ في " كتاب التّمييز " على عبد العزيز فيه بالوهم. وسنذكر البحث في ذلك في الكلام على حديث أبي سعيدٍ. قوله: (فعدل النّاس به نصف صاعٍ من برٍّ) وفي رواية لهما " قال عبد الله: فجعل الناس عدله مدّين من حنطة " أي نصف صاعٍ، وعدله بكسر المهملة. أي: نظيره. وأشار ابن عمر بقوله " النّاس " إلى معاوية ومن تبعه، وقد وقع ذلك صريحاً في حديث أيّوب عن نافعٍ. أخرجه الحميديّ في " مسنده " عن سفيان بن عيينة حدّثنا أيّوب , ولفظه " صدقة الفطر صاعٌ من شعيرٍ أو صاعٌ من تمرٍ، قال ابن عمر: فلمّا كان معاوية عدل النّاس نصف صاع برٍّ بصاعٍ من شعيرٍ ". وهكذا أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " من وجهٍ آخر عن سفيان، وهو المعتمد , وهو موافقٌ لقول أبي سعيدٍ الآتي بعده. وهو أصرح منه. أمّا ما وقع عند أبي داود من طريق عبد العزيز بن أبي روّادٍ عن نافعٍ قال فيه " فلمّا كان عمر كثرت الحنطة، فجعل عمر نصف صاع حنطةٍ مكان صاعٍ من تلك الأشياء " فقد حكم مسلمٌ في " كتاب التّمييز " على عبد العزيز فيه بالوهم. وأوضح الرّدّ عليه. وقال ابن عبد البرّ: قول ابن عيينة عندي أولى. وزعم الطّحاويّ: أنّ الذي عدل عن ذلك عمر ثمّ عثمان وغيرهما

فأخرج عن يسار بن نميرٍ , أنّ عمر قال له: إنّي أحلف لا أعطي قوماً ثمّ يبدو لي فأفعل، فإذا رأيتني فعلت ذلك فأطعم عنّي عشرة مساكين لكل مسكينٍ نصف صاعٍ من حنطةٍ أو صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ. ومن طريق أبي الأشعث قال: خطبنا عثمان فقال: أدّوا زكاة الفطر مدّين من حنطةٍ. وسيأتي بقيّة الكلام على ذلك في حديث أبي سعيد قوله: (على الصّغير والكبير) ظاهره وجوبها على الصّغير، لكنّ المخاطب عنه وليّه فوجوبها على هذا في مال الصّغير وإلَّا فعلى من تلزمه نفقته. وهذا قول الجمهور. وهذا القول الأول. القول الثاني: قال محمّد بن الحسن: هي على الأب مطلقاً. فإن لَم يكن له أبٌ فلا شيء عليه. القول الثالث: عن سعيد بن المسيّب والحسن البصريّ: لا تجب إلاَّ على من صام. واستدل لهما بحديث ابن عبّاسٍ مرفوعاً " صدقة الفطر طهرةٌ للصّائم من اللغو والرّفث " أخرجه أبو داود. وأجيب: بأنّ ذكر التّطهير خرج على الغالب , كما أنّها تجب على من لَم يذنب كمتحقّق الصّلاح , أو من أسلم قبل غروب الشّمس بلحظةٍ. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنّها لا تجب على الجنين , قال: وكان أحمد يستحبّه , ولا يوجبه. ونقل بعض الحنابلة روايةً عنه بالإيجاب، وبه قال ابن حزمٍ , لكن

قيّده بمائةٍ وعشرين يوماً من يوم حمل أمّه به. وتعقّب: بأنّ الحمل غير محقّقٍ , وبأنّه لا يُسمّى صغيراً لغةً ولا عرفاً. واستُدلَّ بقوله في حديث ابن عبّاسٍ " طهرةٌ للصّائم " على أنّها تجب على الفقير كما تجب على الغنيّ، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة عند أحمد , وفي حديث ثعلبة بن أبي صعيرٍ عند الدّارقطنيّ. وعن الحنفيّة: لا تجب إلاَّ على من ملك نصاباً، ومقتضاه أنّها لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغنيّ والفقير. واستدل لهم بحديث أبي هريرة المتفق عليه " لا صدقة إلاَّ عن ظهر غنًى ". واشترط الشّافعيّ ومن تبعه. أن يكون ذلك فاضلاً عن قوت يومه , ومن تلزمه نفقته. وقال ابن بزيزة: لَم يدل دليلٌ على اعتبار النّصاب فيها , لأنّها زكاةٌ بدنيّةٌ لا ماليّةٌ. قوله: (وأمر أن تؤدّى قبل خروج النّاس إلى الصّلاة) قال ابن التّين: أي قبل خروج النّاس إلى صلاة العيد، وبعد صلاة الفجر. وقال ابن عيينة في " تفسيره ": عن عمرو بن دينارٍ عن عكرمة , قال: يقدّم الرّجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته، فإنّ الله يقول (قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلى). ولابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جدّه , أنّ

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية , فقال: نزلت في زكاة الفطر. ودلَّ حديث ابن عمر على أنّ المراد بقوله " يوم الفطر " (¬1) أي: أوّله، وهو ما بين صلاة الصّبح إلى صلاة العيد. واستدل به على كراهة تأخيرها عن ذلك، وحمله ابن حزمٍ على التّحريم. وحمل الشّافعيّ التّقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب. لصدق اليوم على جميع النّهار، وقد رواه أبو معشرٍ عن نافعٍ عن ابن عمر بلفظ " كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نُصلِّي، فإذا انصرف قسمه بينهم , وقال: أغنوهم عن الطّلب. أخرجه سعيد بن منصورٍ، ولكن أبو معشرٍ ضعيفٌ. ووهم ابن العربيّ في عزو هذه الزّيادة لمسلمٍ. وللبخاري: وكان ابن عمر يعطيها للذين يقبلونها , وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. أي: الذي ينصّبه الإمام لقبضها، به جزم ابن بطّالٍ. وقال ابن التّيميّ: معناه مَن قال أنا فقيرٌ. والأوّل أظهر. ويؤيّده ما وقع في نسخة الصّغانيّ عقب الحديث " قال أبو عبد الله هو البخاري: كانوا يعطون للجمع لا للفقراء ". وقد وقع في رواية ابن خزيمة من طريق عبد الوارث عن أيّوب قلت: متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل. قلت: متى ¬

_ (¬1) هذه الرواية (يوم الفطر) ليست في حديث ابن عمر , وإنما هي من حديث أبي سعيد في الصحيحن. كما ذكرها البخاري في الباب. وهذا قصد الشارح رحمه الله.

يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيومٍ أو يومين. ولمالكٍ في " الموطّأ " عن نافعٍ , أنّ ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثةٍ ". وأخرجه الشّافعيّ عنه , وقال: هذا حسنٌ، وأنا أستحبّه - يعني تعجيلها قبل يوم الفطر - انتهى. ويدلّ على ذلك أيضاً ما أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة قال: وكّلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان. الحديث (¬1). وفيه أنّه أمسك الشّيطان ثلاث ليالٍ وهو يأخذ من التّمر، فدلَّ على أنّهم كانوا يعجّلونها. وعكسه الجوزقيّ. فاستدل به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر , وهو محتملٌ للأمرين. تكميل: زاد الشيخان في آخره " من المسلمين " واستدل بهذه الزّيادة على اشتراط الإسلام في وجوب زكاة الفطر , ومقتضاه أنّها لا تجب على الكافر عن نفسه. وهو أمرٌ متّفقٌ عليه. وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة مثلاً؟. ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه معلَّقاً (2311) وقال عثمان بن الهيثم أبو عمرو، حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: وكَّلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان .. الحديث " فذكره قال الحافظ في " الفتح " (4/ 488): وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق إلى عثمان المذكور , وله طريق أخرى عند النسائي. أخرجها من رواية أبي المتوكل الناجي عن أبي هريرة , ووقع مثل ذلك لمعاذ بن جبل. أخرجه الطبراني وأبو بكر الروياني. انتهى باختصار

نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجهٌ للشّافعيّة وروايةٌ عن أحمد. وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟. قال الجمهور: لا، خلافاً لعطاءٍ والنّخعيّ والثّوريّ والحنفيّة وإسحاق. واستدلّوا بعموم قوله " ليس على المسلم في عبده صدقةٌ إلاَّ صدقة الفطر " وقد تقدّم. وأجاب الآخرون: بأنّ الخاصّ يقضي على العامّ، فعموم قوله " في عبده " مخصوصٌ بقوله " من المسلمين " وقال الطّحاويّ: قوله " من المسلمين " صفةٌ للمخرجين لا للمخرج عنهم. انتهى وظاهر الحديث يأباه , لأنّ فيه العبد , وكذا الصّغير في رواية عمر بن نافعٍ وهما ممّن يخرج عنه، فدلَّ على أنّ صفة الإسلام لا تختصّ بالمخرجين، ويؤيّده رواية الضّحّاك عند مسلمٍ بلفظ " على كل نفسٍ من المسلمين حرٍّ أو عبدٍ " الحديث وقال القرطبيّ: ظاهر الحديث أنّه قصد بيان مقدار الصّدقة ومن تجب عليه , ولَم يقصد فيه بيان من يخرجها عن نفسه ممّن يخرجها عن غيره , بل شمل الجميع. ويؤيّده حديث أبي سعيدٍ الآتي. فإنّه دالٌّ على أنّهم كانوا يخرجون عن أنفسهم وعن غيرهم , لقوله فيه " عن كل صغيرٍ وكبيرٍ " لكن لا

بدّ من أن يكون بين المخرج وبين الغير ملابسةٌ كما بين الصّغير ووليّه والعبد وسيّده والمرأة وزوجها. وقال الطّيبيّ: قوله " من المسلمين " حالٌ من العبد وما عطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة أنّها جاءت مزدوجةً على التّضادّ للاستيعاب لا للتّخصيص، فيكون المعنى فرض على جميع النّاس من المسلمين، وأمّا كونها فيم وجبت وعلى من وجبت؟ فيُعلم من نصوصٍ أخرى. انتهى. ونقل ابن المنذر: أنّ بعضهم احتجّ بما أخرجه من حديث ابن إسحاق حدّثني نافعٌ , أنّ ابن عمر كان يُخرج عن أهل بيته حرّهم وعبدهم صغيرهم وكبيرهم مسلمهم وكافرهم من الرّقيق. قال: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث. وتعقّب: بأنّه لو صحّ حُمل على أنّه كان يخرج عنهم تطوّعاً , ولا مانع منه. واستدل بعموم قوله " من المسلمين " على تناولها لأهل البادية. خلافاً للزّهريّ وربيعة والليث في قولهم: إنّ زكاة الفطر تختصّ بالحاضرة.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 181 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , قال: كنّا نعطيها في زمن - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعامٍ , أو صاعاً من شعيرٍ , أو صاعاً من أقطٍ , أو صاعاً من زبيبٍ. فلمّا جاء معاوية , وجاءت السّمراء , قال: أرى مدّاً من هذه يعدل مدّين. قال أبو سعيدٍ: أمّا أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (كنّا نعطيها) أي زكاة الفطر. قوله: (في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) هذا حكمه الرّفع. لإضافته إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم - , ففيه إشعارٌ باطّلاعه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وتقريره له , ولا سيّما في هذه الصّورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره , وهو الآمر بقبضها وتفرقتها. قوله: (صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من تمر .... زبيب) هذا يقتضي المغايرة بين الطّعام وبين ما ذكر بعده. وقد حكى الخطّابيّ: أنّ المراد بالطّعام هنا الحنطة وأنّه اسمٌ خاصٌّ به , قال: ويدلّ على ذلك ذكر الشّعير وغيره من الأقوات. والحنطة أعلاها , فلولا أنّه أرادها بذلك لكان ذكرها عند التّفصيل كغيرها من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1434 , 1435 , 1437 , 1439) ومسلم (985) من طرق عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد به. وأخرجه مسلم (985) من طرق أخرى عن عياض عن أبي سعيد. وفيه قول أبي سعيد: فلا أزال أخرجه. كما سيذكره الشارح رحمه الله.

الأقوات , ولا سيّما حيث عطفت عليها بحرف " أو " الفاصلة. وقال هو وغيره: وقد كانت لفظة " الطّعام " تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتّى إذا قيل اذهب إلى سوق الطّعام فهم منه سوق القمح، وإذا غلب العُرف نزّل اللفظ عليه، لأنّ ما غلب استعمال اللفظ فيه كان خطوره عند الإطلاق أقرب. انتهى وقد ردّ ذلك ابن المنذر , وقال: ظنّ بعض أصحابنا أنّ قوله في حديث أبي سعيدٍ " صاعاً من طعامٍ " حجّةٌ لمَن قال صاعاً من حنطةٍ، وهذا غلطٌ منه، وذلك أنّ أبا سعيدٍ أجمل الطّعام ثمّ فسّره. ثمّ أورد طريق حفص بن ميسرة عن زيدٍ عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد. وهو عند البخاري , وهي ظاهرةٌ فيما قال. ولفظه " كنّا نخرج صاعاً من طعامٍ، وكان طعامنا الشّعير والزّبيب والأقط والتّمر " وأخرج الطّحاويّ نحوه من طريقٍ أخرى عن عياضٍ. وقال فيه " ولا يخرج غيره ". قال: وفي قوله " فلمّا جاء معاوية وجاءت السّمراء " دليلٌ على أنّها لَم تكن قوتاً لهم قبل هذا، فدلَّ على أنّها لَم تكن كثيرةً ولا قوتاً. فكيف يتوهّم أنّهم أخرجوا ما لَم يكن موجوداً؟. انتهى كلامه. وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيمٍ عن عياض بن عبد الله قال: قال أبو سعيدٍ - وذكروا عنده صدقة رمضان - فقال: لا أخرج إلاَّ ما كنت أخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صاع تمرٍ أو صاع حنطةٍ أو

صاع شعيرٍ أو صاع أقطٍ، فقال له رجلٌ من القوم: أو مدّين من قمحٍ، فقال: لا. تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها. قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيدٍ غير محفوظٍ ولا أدري ممّن الوهم، وقوله " فقال رجلٌ إلخ " دالٌّ على أنّ ذكر الحنطة في أوّل القصّة خطأٌ. إذ لو كان أبو سعيدٍ أخبر أنّهم كانوا يخرجون منها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً لَمَا كان الرّجل يقول له: أو مدّين من قمحٍ. وقد أشار أبو داود إلى رواية ابن إسحاق هذه , وقال: إنّ ذكر الحنطة فيه غير محفوظٍ، وذكر أنّ معاوية بن هشامٍ روى في هذا الحديث عن سفيان " نصف صاعٍ من برٍّ " وهو وهمٌ , وأنّ ابن عيينة حدّث به عن ابن عجلان عن عياضٍ. فزاد فيه " أو صاعاً من دقيقٍ " , وأنّهم أنكروا عليه فتركه. قال أبو داود: وذِكر الدّقيق وهْمٌ من ابن عيينة. وأخرج ابن خزيمة أيضاً من طريق فضيل بن غزوان عن نافعٍ عن ابن عمر قال: لَم تكن الصّدقة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ التّمر والزّبيب والشّعير ولَم تكن الحنطة ". ولمسلمٍ من وجهٍ آخر عن عياضٍ عن أبي سعيدٍ: كنّا نخرج من ثلاثة أصنافٍ: صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من أقطٍ، أو صاعاً من شعيرٍ. وكأنّه سكت عن الزّبيب في هذه الرّواية لقلته بالنّسبة إلى الثّلاثة المذكورة.

وهذه الطّرق كلّها تدلّ على أنّ المراد بالطّعام في حديث أبي سعيدٍ غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذّرة. فإنّه المعروف عند أهل الحجاز الآن , وهي قوتٌ غالبٌ لهم. وقد روى الجوزقيّ من طريق ابن عجلان عن عياضٍ في حديث أبي سعيدٍ " صاعاً من تمرٍ، صاعاً من سلتٍ أو ذرةٍ " وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون قوله " صاعاً من شعيرٍ إلخ " بعد قوله " صاعاً من طعامٍ " من باب عطف الخاصّ على العامّ، لكنّ محل العطف أن يكون الخاصّ أشرف، وليس الأمر هنا كذلك. وقال ابن المنذر أيضاً: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعتمد عليه، ولَم يكن البرُّ بالمدينة ذلك الوقت إلاَّ الشّيء اليسير منه، فلمّا كثر في زمن الصّحابة رأوا أنّ نصف صاعٍ منه يقوم مقام صاعٍ من شعيرٍ، وهم الأئمّة، فغير جائزٍ أن يعدل عن قولهم إلاَّ إلى قول مثلهم. ثمّ أسند عن عثمان وعليٍّ وأبي هريرة وجابرٍ وابن عبّاسٍ وابن الزّبير وأمِّه أسماء بنت أبي بكرٍ بأسانيد صحيحةٍ , أنّهم رأوا أنّ في زكاة الفطر نصف صاعٍ من قمحٍ. انتهى. وهذا مصيرٌ منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفيّة، لكنّ حديث أبي سعيدٍ دالٌّ على أنّه لَم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة. خلافاً للطّحاويّ. وكأنّ الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيدٍ لَمّا كانت

متساويةً في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة. دلَّ على أنّ المراد إخراج هذا المقدار من أيّ جنسٍ كان، فلا فرق بين الحنطة وغيرها. هذه حجّة الشّافعيّ ومن تبعه. وأمّا من جعله نصف صاعٍ منها بدل صاعٍ من شعيرٍ. فقد فعل ذلك بالاجتهاد بناءً منه على أنّ قيم ما عدا الحنطة متساويةٌ، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثّمن، لكن يلزم على قولهم أن تعتبر القيمة في كل زمانٍ فيختلف الحال ولا ينضبط، وربّما لزم في بعض الأحيان إخراج آصعٍ من حنطةٍ. ويدلّ على أنّهم لحظوا ذلك. ما روى جعفرٌ الفريابيّ في " كتاب صدقة الفطر " , أنّ ابن عبّاسٍ لَمّا كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر وبيّن لهم أنّها صاعٌ من تمرٍ، إلى أن قال: أو نصف صاعٍ من برٍّ. قال: فلمّا جاء عليٌّ , ورأى رُخص أسعارهم , قال: اجعلوها صاعاً من كلٍّ ". فدلَّ على أنّه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبو سعيدٍ إلى الكيل كما سيأتي. ومن عجيب تأويله قوله: أنّ أبا سعيدٍ ما كان يعرف القمح في الفطرة، وإنّ الخبر الذي جاء فيه. أنّه كان يخرج صاعاً أنّه كان يخرج النّصف الثّاني تطوّعاً، وأنّ قوله في حديث ابن عمر " فجعل النّاس عدله مدّين من حنطةٍ " أنّ المراد بالنّاس الصّحابة، فيكون إجماعاً. وكذا قوله في حديث سعيدٍ عند أبي داود " فأخذ النّاس بذلك ". وأمّا قول الطّحاويّ: إنّ أبا سعيدٍ كان يخرج النّصف الآخر

تطوّعاً. فلا يخفى تكلّفه. والله أعلم. قوله: (فلمّا جاء معاوية) زاد مسلمٌ في روايته " فلم نزل نخرجه حتّى قدم معاوية حاجّاً أو معتمراً. فكلم النّاس على المنبر " وزاد ابن خزيمة " وهو يومئذٍ خليفةٌ ". قوله: (وجاءت السّمراء) أي: القمح الشّاميّ. قوله: (يعدل مدّين) في رواية مسلمٍ " أرى مدّين من سمراء الشّام تعدل صاعاً من تمرٍ " وزاد " قال أبو سعيدٍ: أمّا أنا لا أزال أخرجه أبداً ما عشت ". وله من طريق ابن عجلان عن عياضٍ " فأنكر ذلك أبو سعيدٍ , وقال: لا أخرج إلاَّ ما كنت أخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ولأبي داود من هذا الوجه " لا أخرج أبداً إلاَّ صاعاً " وللدّارقطنيّ وابن خزيمة والحاكم " فقال له رجلٌ: مدّين من قمحٍ، فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها " وقد تقدّم ذكر هذه الرّواية وما فيها. ولابن خزيمة " وكان ذلك أوّل ما ذكر النّاس المدّين " وهذا يدلّ على وهن ما تقدّم عن عمر وعثمان إلاَّ أن يُحمل على أنّه كان لَم يطّلع على ذلك من قصّتهما. قال النّوويّ: تمسّك بقول معاوية مَن قال بالمدّين من الحنطة، وفيه نظرٌ، لأنّه فعل صحابيٍّ قد خالفه فيه أبو سعيدٍ وغيره من الصّحابة ممّن هو أطول صحبةً منه , وأعلم بحال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد صرّح معاوية

بأنّه رأيٌ رآه. لا أنّه سمعه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث أبي سعيدٍ ما كان عليه من شدّة الاتّباع والتّمسّك بالآثار وتركٍ للعدول إلى الاجتهاد مع وجود النّصّ، وفي صنيع معاوية وموافقة النّاس له دلالةٌ على جواز الاجتهاد وهو محمودٌ. لكنّه مع وجود النّصّ فاسد الاعتبار.

كتاب الصيام

كتاب الصيام الصّوم والصّيام في اللّغة الإمساك، وفي الشّرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة. وقال صاحب " المحكم ": الصّوم ترك الطّعام والشّراب والنّكاح والكلام، يقال صام صوماً وصياماً ورجل صائم وصوم. وقال الرّاغب: الصّوم في الأصل الإمساك عن الفعل، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السّير صائم، وفي الشّرع إمساك المُكلّف بالنّيّة عن تناول المطعم والمشرب والاستمناء والاستقاء من الفجر إلى المغرب. قال الله تعالى: (باب يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). قوله: (كتب) فمعناه فرض، والمراد بالمكتوب فيه اللوح المحفوظ. وأما قوله: (كما) فاختلف في التشبيه الذي دلَّت عليه الكاف. هل هو على الحقيقة , فيكون صيام رمضان قد كتب على الذين من قبلنا؟ أو المراد مطلق الصيام دون وقته وقدره؟ فيه قولان. القول الأول: ورد في أوّل حديثٍ مرفوعٍ عن عمر. أورده ابن أبي حاتم بإسناد فيه مجهول ولفظه " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم " وبهذا قال الحسن البصري والسدي , وله شاهد آخر. أخرجه الترمذي في طريق معقل النسَّابة - وهو من المخضرمين - ولم

يثبت له صحبة، ونحوه عن الشعبي وقتادة. والقول الثاني: أن التشبيه واقع على نفس الصوم. وهو قول الجمهور، وأسنده ابن أبي حاتم والطبري عن معاذ وابن مسعود وغيرهما في الصحابة والتابعين، وزاد الضحاك " ولم يزل الصوم مشروعا من زمن نوح ". وفي قوله: (لعلكم تتقون) إشارة إلى أنَّ من قبلنا كان فرض الصوم عليهم من قبيل الآصار والأثقال التي كُلفوا بها، وأما هذه الأمة فتكليفها بالصوم ليكون سبباً لاتقاء المعاصي وحائلاً بينهم وبينها، فعلى هذا المفعول المحذوف يقدر بالمعاصي أو بالمنهيات. فائدة: أشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات , فقال: حسبك بكون الصيام جُنَّة من النار فضلاً. وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة قال: قلت يا رسول الله. مُرني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له. وفي رواية " لا عدل له ". والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.

الحديث الأول

الحديث الأول 182 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقدّموا رمضان بصوم يومٍ , أو يومين إلاَّ رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه (¬1). قوله: (ولا تقدموا رمضان بصوم) وللبخاري " لا يتقدّمن أحدكم رمضان بصوم " وفي رواية خالد بن الحارث عن هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند الإسماعيلي " لا تقدّموا بين يدي رمضان بصوم ". ولأحمد عن روحٍ عن هشام " لا تقدموا قبل رمضان بصوم " , وللتّرمذيّ من طريق عليّ بن المبارك عن يحيى " لا تقدّموا شهر رمضان بصيامٍ قبله ". تكميل: قال البخاري: باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان , ومن رأى كله واسعاً , وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من صام رمضان، وقال: لا تقدَّموا رمضان. وقوله: ومن رأى كله واسعاً. أي: جائزاً بالإضافة وبغير الإضافة، وللكشميهني " ومن رآه " بزيادة الضمير. وأشار البخاري بهذه الترجمة إلى حديثٍ ضعيفٍ رواه أبو معشر نجيح المدني عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً " لا تقولوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1815) ومسلم (1082) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

رمضان، فإن رمضان اسمٌ من أسماء الله، ولكن قولوا شهر رمضان " أخرجه ابن عدي في الكامل. وضعَّفه بأبي معشر. قال البيهقي: قد روي عن أبي معشر عن محمد بن كعب وهو أشبه، وروي عن مجاهد والحسن من طريقين ضعيفين، وقد احتج البخاري لجواز ذلك بعدة أحاديث. انتهى. وقد ترجم النسائي لذلك أيضا فقال " باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان رمضان " ثم أورد حديث أبي بكرة مرفوعاً " لا يقولنَّ أحدكم صُمت رمضان ولا قمتُه كله " وحديث ابن عباس " عمرة في رمضان تعدل حجة " (¬1). وقد يتمسك للتقييد بالشهر بورود القرآن به حيث قال (شهر رمضان) مع احتمال أن يكون حذف لفظ شهر من الأحاديث من تصرُّف الرواة , وكأن هذا هو السر في عدم جزم البخاري بالحكم. ونُقل عن أصحاب مالك الكراهية، وعن ابن الباقلاني منهم وكثير من الشافعية إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يُكره، والجمهور على الجواز. واختلف في تسمية هذا الشهر رمضان. فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب، أي تحرق , لأنَّ الرمضاء شدة الحر، وقيل: وافق ابتداء الصوم فيه زمناً حارَّاً، والله أعلم فائدة: ذكر أبو الخير الطالقاني في كتابه " حظائر القدس " لرمضان ¬

_ (¬1) حديث أبي بكرة وابن عباس رضي الله عنهما. أخرجهما الشيخان.

ستين اسماً. وذكر بعض الصوفية: أنَّ آدم عليه السلام لَمَّا أكل من الشجرة ثم تاب تأخر قبول توبته مما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوماً، فلمَّا صفا جسده منها تيب عليه ففرض على ذريته صيام ثلاثين يوماً. وهذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يقبل قوله في ذلك، وهيهات وجدان ذلك قوله: (إلاَّ رجلاً كان يصوم) وللبخاري " إلاَّ أن يكون رجلٌ " كان تامّة، أي: إلاَّ أن يوجد رجل. قوله: (يصوم صوماً) في رواية الكشميهنيّ " صومه فليصم ذلك اليوم " وفي رواية معمرٍ عن يحيى عند أحمد " إلاَّ رجل كان يصوم صياماً فيأتي على صيامه " , ونحوه لأبي عوانة من طريق أيّوب عن يحيى، وفي رواية أحمد عن روحٍ " إلاَّ رجلٌ كان يصوم صياماً فليصله به " , وللتّرمذيّ وأحمد من طريق محمّد بن عمرو عن أبي سلمة " إلاَّ أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم " قال العلماء: معنى الحديث. لا تستقبلوا رمضان بصيامٍ على نيّة الاحتياط لرمضان. قال التّرمذيّ لَمّا أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجّل الرّجل بصيامٍ قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. اهـ والحكمة فيه: التّقوّي بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوّة ونشاط. وهذا فيه نظر , لأنّ مقتضى الحديث أنّه لو تقدّمه بصيام ثلاثة أيّامٍ

أو أربعة جاز، وسنذكر ما فيه قريباً. وقيل: الحكمة فيه خشية اختلاط النّفل بالفرض، وفيه نظرٌ أيضاً لأنّه يجوز لمن له عادةٌ كما في الحديث. وقيل: لأنّ الحكم علق بالرّؤية فمن تقدّمه بيومٍ أو يومين فقد حاول الطّعن في ذلك الحكم وهذا هو المعتمد، ومعنى الاستثناء. أنّ من كان له ورد فقد أذن له فيه , لأنّه اعتاده وألفه وترك المألوف شديد. وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء والنّذر لوجوبهما. قال بعض العلماء: يستثنى القضاء والنّذر بالأدلة القطعيّة على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعيّ بالظّنّ. وفي الحديث ردٌّ على من يرى تقديم الصّوم على الرّؤية كالرّافضة، وردٌّ على مَن قال بجواز صوم النّفل المطلق. وأبعد مَن قال: المراد بالنّهي التّقدّم بنيّة رمضان، واستدل بلفظ التّقدّم , لأنّ التّقدّم على الشّيء بالشّيء إنّما يتحقّق إذا كان من جنسه، فعلى هذا يجوز الصّيام بنية النّفل المطلق، لكنّ السّياق يأبى هذا التّأويل ويدفعه. وفيه بيانٌ لمعنى قوله في الحديث الماضي " صوموا لرؤيته " فإنّ اللام فيه للتّأقيت لا للتّعليل. قال ابن دقيق العيد: ومع كونها محمولةً على التّأقيت فلا بدّ من ارتكاب مجاز لأنّ وقت الرّؤية - وهو الليل - لا يكون محلّ الصّوم.

وتعقّبه الفاكهيّ: بأنّ المراد بقوله " صوموا " انووا الصّيام، والليل كلّه ظرف للنّيّة. قلت: فوقع في المجاز الذي فرّ منه، لأنّ النّاوي ليس صائماً حقيقةً بدليلٍ أنّه يجوز له الأكل والشّرب بعد النّيّة إلى أن يطلع الفجر. وفيه منع إنشاء الصّوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط، فإن زاد على ذلك فمفهومه الجواز. وقيل: يمتدّ المنع لِمَا قبل ذلك. وبه قطع كثيرٍ من الشّافعيّة، وأجابوا عن الحديث: بأنّ المراد منه التّقديم بالصّوم فحيث وجد منع، وإنّما اقتصر على يومٍ أو يومين لأنّه الغالب ممّن يقصد ذلك. وقالوا: أمد المنع من أوّل السّادس عشر من شعبان لحديث العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " أخرجه أصحاب السّنن وصحَّحه ابن حبّان وغيره. وقال الرّويانيّ من الشّافعيّة: يحرم التّقدّم بيومٍ أو يومين لحديث الباب. ويكره التّقدّم من نصف شعبان للحديث الآخر. وقال جمهور العلماء: يجوز الصّوم تطوّعاً بعد النّصف من شعبان , وضعّفوا الحديث الوارد فيه. وقال أحمد وابن معينٍ: إنّه منكر. وقد استدلَّ البيهقيّ بحديث الباب على ضعفه فقال: الرّخصة في ذلك بما هو أصحّ من حديث العلاء، وكذا صنع قبله الطّحاويّ. واستظهر بحديث ثابتٍ عن أنس مرفوعاً " أفضل الصّيام بعد رمضان شعبان " لكنّ إسناده ضعيف.

واستظهر أيضاً بحديث عمران بن حصينٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: هل صمتَ من سرر شعبان شيئاً؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين. (¬1) ثمّ جمع بين الحديثين: بأنّ حديث العلاء محمول على من يضعفه الصّوم، وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان، وهو جمعٌ حسنٌ، والله أعلم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1882) ومسلم (1161) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -. انظر تفسير السرر ص 259.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 183 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا له. (¬1) قوله: (إذا رأيتموه فصوموا) ولهما من رواية نافع عن ابن عمر " لا تصوموا حتّى تروا الهلال " ظاهره إيجاب الصّوم حين الرّؤية متى وجدت ليلاً أو نهاراً لكنّه محمولٌ على صوم اليوم المستقبل. وبعض العلماء فرّق بين ما قبل الزّوال أو بعد. وخالف الشّيعةُ الإجماعَ. فأوجبوه مطلقاً. وهو ظاهرٌ في النّهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسّك به، لكنّ اللفظ الذي رواه أكثر الرّواة أوقع للمخالف شبهة. وهو قوله " فإن غمّ عليكم فاقدروا له ". فاحتمل. أن يكون المراد التّفرقة بين حكم الصّحو والغيم، فيكون التّعليق على الرّؤية متعلقاً بالصّحو، وأمّا الغيم فله حكمٌ آخر. ويحتمل: أن لا تفرقة , ويكون الثّاني مؤكّداً للأوّل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1801) ومسلم (1080) من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه به. وأخرجه البخاري (1807) ومسلم (1080) من طرق (منهم مالك) عن نافع عن ابن عمر به نحوه. وأخرجاه من طرق أخرى عن ابن عمر نحوه.

وإلى الأوّل: ذهب أكثر الحنابلة. وإلى الثّاني: ذهب الجمهور , فقالوا: المراد بقوله " فاقدروا له " أي: انظروا في أوّل الشّهر. واحسبوا تمام الثّلاثين. ويرجّح هذا التّأويل. الرّوايات الأُخر المصرّحة بالمراد , وهي قوله " فأكملوا العدّة ثلاثين " ونحوها، وأولى ما فسّر الحديث بالحديث. وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزّيادة أيضاً , فرواها البخاريّ عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ " فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين " وهذا أصرح ما ورد في ذلك. وقد قيل: إن آدم شيخه انفرد بذلك , فإنّ أكثر الرّواة عن شعبة قالوا فيه " فعدّوا ثلاثين " أشار إلى ذلك الإسماعيليّ , وهو عند مسلم وغيره. قال: فيجوز أن يكون آدم أورده على ما وقع عنده من تفسير الخبر. قلت: الذي ظنّه الإسماعيليّ صحيحٌ، فقد رواه البيهقيّ من طريق إبراهيم بن يزيد عن آدم بلفظ " فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوماً " يعني عدّوا شعبان ثلاثين، فوقع للبخاريّ إدراج التّفسير في نفس الخبر. ويؤيّده رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " لا تقدّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين "، فإنّه يشعر بأنّ المأمور بعدده هو شعبان، وقد رواه مسلم من طريق الرّبيع بن مسلم عن محمّد بن زياد بلفظ " فأكملوا العدد " وهو يتناول كلّ شهرٍ فدخل فيه شعبان.

وروى الدّارقطنيّ وصحَّحه وابن خزيمة في " صحيحه " من حديث عائشة " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفّظ من غيره ثمّ يصوم لرؤية رمضان، فإن غمّ عليه عدّ ثلاثين يوماً ثمّ صام " وأخرجه أبو داود وغيره أيضاً. وروى أبو داود والنّسائيّ وابن خزيمة من طريق ربعيٍّ عن حذيفة مرفوعاً " لا تقدّموا الشّهر حتّى تروا الهلال أو تكملوا العدّة، ثمّ صوموا حتّى تروا الهلال أو تكملوا العدّة " وقيل: الصّواب فيه عن ربعيٍّ عن رجلٍ من الصّحابة. مُبهم، ولا يقدح ذلك في صحّته. قال ابن الجوزيّ في " التّحقيق ": لأحمد في هذه المسألة - وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيمٌ أو قترٌ ليلة الثّلاثين من شعبان - ثلاثة أقوال: أحدها: يجب صومه على أنّه من رمضان. ثانيها: لا يجوز فرضاً ولا نفلاً مطلقاً، بل قضاء وكفّارةً ونذراً ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشّافعيّ. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز عن فرض رمضان , ويجوز عمّا سوى ذلك. ثالثها: المرجع إلى رأي الإمام في الصّوم والفطر. واحتجّ الأوّل: بأنّه موافقٌ لرأي الصّحابيّ راوي الحديث. قال أحمد: حدّثنا إسماعيل حدّثنا أيّوب عن نافعٍ عن ابن عمر فذكر الحديث بلفظ " فاقدروا له " قال نافع: فكان ابن عمر إذا مضى من

شعبان تسعٌ وعشرون يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لَم ير ولَم يحلْ دون منظره سحاب ولا قترٌ أصبح مفطراً، وإن حال أصبح صائماً. وأمّا ما روى الثّوريّ في " جامعه " عن عبد العزيز بن حكيم سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السّنة كلّها لأفطرت اليوم الذي يشكّ فيه. فالجمع بينهما: أنّه في الصّورة التي أوجب فيها الصّوم لا يسمّى يوم شكٍّ، وهذا هو المشهور عن أحمد أنّه خصّ يوم الشّكّ بما إذا تقاعد النّاس عن رؤية الهلال , أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته. فأمّا إذا حال دون منظره شيء فلا يُسمّى شكّاً. واختار كثير من المحقّقين من أصحابه الثّاني. قال ابن عبد الهادي في تنقيحه: الذي دلَّت عليه الأحاديث - وهو مقتضى القواعد - أنّه. أيّ شهر غمّ أكمل ثلاثين سواءٌ في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما، فعلى هذا قوله " فأكملوا العدّة " يرجع إلى الجملتين وهو قوله " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة " أي: غمّ عليكم في صومكم أو فطركم، وبقيّة الأحاديث تدلّ عليه. فاللام في قوله " فأكملوا العدّة " للشّهر. أي: عدّة الشّهر، ولَم يخصّ - صلى الله عليه وسلم - شهراً دون شهرٍ بالإكمال إذا غمّ، فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك، إذ لو كان شعبان غير مرادٍ بهذا الإكمال

لبيّنه , فلا تكون رواية من روى " فأكملوا عدّة شعبان " مخالفةً لمَن قال " فأكملوا العدّة " بل مبيّنةً لها. ويؤيّد ذلك قوله في الرّواية الأخرى: فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدّة ثلاثين , ولا تستقبلوا الشّهر استقبالاً. أخرجه أحمد وأصحاب السّنن وابن خزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عبّاسٍ هكذا، ورواه الطّيالسيّ من هذا الوجه بلفظ " ولا تستقبلوا رمضان بصوم يومٍ من شعبان ". وروى النّسائيّ من طريق محمّد بن حنين عن ابن عبّاسٍ بلفظ " فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين " تكميل: قوله " لا تصوموا حتّى تروه " ليس المراد تعليق الصّوم بالرّؤية في حقّ كلّ أحد، بل المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك، إمّا واحد على رأي الجمهور , أو اثنان على رأي آخرين. ووافق الحنفيّة على الأوّل , إلاَّ أنّهم خصّوا ذلك بما إذا كان في السّماء عِلَّة من غيم وغيره، وإلا متى كان صحواً لَم يقبل إلاَّ من جمعٍ كثيرٍ يقع العلم بخبرهم. وقد تمسّك بتعليق الصّوم بالرّؤية. مَن ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها. ومن لَم يذهب إلى ذلك قال لأنّ قوله " حتّى تروه " خطاب لأناسٍ مخصوصين فلا يلزم غيرهم، ولكنّه مصروفٌ عن ظاهره فلا يتوقّف الحال على رؤية كلٍّ واحدٍ فلا يتقيّد بالبلد. وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

القول الأول: لأهل كل بلد رؤيتهم، وفي صحيحٍ مسلمٍ من حديث ابن عبّاس ما يشهد له (¬1)، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه التّرمذيّ عن أهل العلم. ولَم يحك سواه، وحكاه الماورديّ وجهاً للشّافعيّة. القول الثاني: مقابله إذا رؤي ببلدةٍ لزم أهل البلاد كلّها، وهو المشهور عند المالكيّة، لكن حكى ابن عبد البرّ الإجماع على خلافه، وقال: أجمعوا على أنّه لا تراعى الرّؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس. القول الثالث: قال القرطبيّ: قد قال شيوخنا: إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضعٍ , ثمّ نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصّوم. القول الرابع: قال ابن الماجشون: لا يلزمهم بالشّهادة إلاَّ لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشّهادة , إلاَّ أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم النّاس كلهم , لأنّ البلاد في حقّه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1087) عن كريب، أنَّ أم الفضل بنت الحارث، بعثتْه إلى معاوية بالشام، قال: فقدِمتُ الشام، فقضيت حاجتها، واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -، ثم ذكر الهلال , فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية؟ فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "

القول الخامس: قال بعض الشّافعيّة: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً وإن تباعدت فوجهان: لا يجب عند الأكثر. واختار أبو الطّيّب وطائفة الوجوب وحكاه البغويّ عن الشّافعيّ. وفي ضبط البُعد أوجه: أحدها: اختلاف المطالع قطع به العراقيّون والصّيدلانيّ. وصحَّحه النّوويّ في " الرّوضة " و " شرح المهذّب ". ثانيها: مسافة القصر. قطع به الإمام والبغويّ , وصحَّحه الرّافعيّ في " الصّغير " والنّوويّ في شرح مسلم ". ثالثها: اختلاف الأقاليم. رابعها: حكاه السّرخسيّ فقال: يلزم كلّ بلدٍ لا يتصوّر خفاؤه عنها بلا عارضٍ دون غيرهم. خامسها: قول ابن الماجشون المتقدّم. واستدل به على وجوب الصّوم والفطر على من رأى الهلال وحده , وإن لَم يثبت بقوله، وهو قول الأئمّة الأربعة في الصّوم. واختلفوا في الفطر. القول الأول: فقال الشّافعيّ: يفطر ويخفيه. القول الثاني: قال الأكثر: يستمرّ صائماً احتياطاً. قوله: (فإن غم عليكم) بضمّ المعجمة وتشديد الميم. أي: حالٍ بينكم وبينه غيم، يقال غممت الشّيء إذا غطّيته، ووقع في حديث أبي هريرة عند البخاري من طريق المستملي " فإن غمّ " ومن طريق

الكشميهنيّ " أغمى " ومن رواية السّرخسيّ " غبى " بفتح الغين المعجمة وتخفيف الموحّدة. وأغمى وغمّ وغمّى بتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم، الكلّ بمعنى. وأمّا غبى. فمأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة. وهي استعارةٌ لخفاء الهلال، ونقل ابن العربيّ أنّه روى " عمى " بالعين المهملة من العمى. قال: وهو بمعناه , لأنّه ذهاب البصر عن المشاهدات , أو ذهاب البصيرة عن المعقولات قوله: (فاقدروا له) اتّفق الرّواة عن مالكٍ عن نافعٍ عن ابن عمر فيه على قوله " فاقدروا له " وجاء من وجهٍ آخر عن نافعٍ بلفظ " فاقدروا ثلاثين " كذلك أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وهكذا أخرجه عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن أيّوب عن نافع. قال عبد الرّزّاق: وأخبرنا عبد العزيز بن أبي روّاد عن نافعٍ به وقال " فعدّوا ثلاثين ". واتّفق الرّواة عن مالكٍ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. أيضاً فيه على قوله " فاقدروا له " (¬1) وكذلك رواه الزّعفرانيّ وغيره عن الشّافعيّ، وكذا رواه إسحاق الحربيّ وغيره في " الموطّأ " عن القعنبيّ. وأخرجه الرّبيع بن سليمان والمزنيّ عن الشّافعيّ فقال فيه كما قاله ¬

_ (¬1) وأخرجه مسلم أيضاً (1080) من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار. بهذا اللفظ.

البخاريّ عن القعنبيّ عن مالك " فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين " قال البيهقيّ في " المعرفة " إن كانت رواية الشّافعيّ والقعنبيّ من هذين الوجهين محفوظة فيكون مالك قد رواه على الوجهين. قلت: ومع غرابة هذا اللفظ من هذا الوجه فله متابعات. منها: ما رواه الشّافعيّ أيضاً من طريقٍ سالمٍ عن ابن عمر بتعيين الثّلاثين. ومنها: ما رواه ابن خزيمة من طريق عاصم بن محمّد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر بلفظ " فإن غمّ عليكم فكمّلوا ثلاثين ". وله شواهد من حديث حذيفة عند ابن خزيمة، وأبي هريرة وابن عبّاس عند أبي داود والنّسائيّ وغيرهما، وعن أبي بكرة وطلق بن عليّ عند البيهقيّ، وأخرجه من طرقٍ أخرى عنهم وعن غيرهم. وقد تقدّم أنّ للعلماء في قوله (فاقدروا له) تأويلين. وذهب آخرون إلى تأويلٍ ثالثٍ، قالوا: معناه فاقدروه بحساب المنازل. قاله أبو العبّاس بن سريج من الشّافعيّة ومطرّف بن عبد الله من التّابعين وابن قتيبة من المحدّثين. قال ابن عبد البرّ: لا يصح عن مطرّف، وأمّا ابن قتيبة. فليس هو ممّن يعرّج عليه في مثل هذا. قال: ونقل ابن خويز مندادٍ عن الشّافعيّ مسألة ابن سريج , والمعروف عن الشّافعيّ ما عليه الجمهور. ونقل ابن العربيّ عن ابن سريجٍ أنّ قوله " فاقدروا له ": خطاب

لمن خصّه الله بهذا العلم، وأنّ قوله " فأكملوا العدّة " خطاب للعامّة. قال ابن العربيّ: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قومٍ بحساب الشّمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النّبلاء. وقال ابن الصّلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأمّا معرفة الحساب فأمر دقيق يختصّ بمعرفته الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمرٍ محسوسٍ يدركه من يراقب النّجوم، وهذا هو الذي أراده ابن سريجٍ وقال به في حقّ العارف بها في خاصّةٍ نفسه. ونقل الرّويانيّ عنه: أنّه لَم يقل بوجوبٍ ذلك عليه , وإنّما قال بجوازه، وهو اختيار القفّال وأبي الطّيّب. وأمّا أبو إسحاق في " المهذّب " فنقل عن ابن سريج لزوم الصّوم في هذه الصّورة فتعدّدت الآراء في هذه المسألة بالنّسبة إلى خصوص النّظر في الحساب والمنازل: أحدها: الجواز ولا يجزئ عن الفرض. ثانيها: يجوز ويجزئ. ثالثها: يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجّم. رابعها: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجّم. خامسها: يجوز لهما ولغيرهما مطلقاً. وقال ابن الصّبّاغ أمّا بالحساب فلا يلزمه بلا خلافٍ بين أصحابنا. قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك. فقال في الإشراف: صوم يوم الثّلاثين من شعبان إذا لَم ير الهلال مع الصّحو لا يجب

بإجماع الأمّة، وقد صحّ عن أكثر الصّحابة والتّابعين كراهته. هكذا أطلق ولَم يفصّل بين حاسبٍ وغيره، فمن فرّق بينهم كان محجوجاً بالإجماع قبله. تكميل: أخرج الشيخان عن ابن عمر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّا أمّةٌ أُميَّة، لا نكتب ولا نحسب، الشّهر هكذا وهكذا وهكذا " وعقد الإبهام في الثّالثة والشّهر هكذا، وهكذا، وهكذا يعني. تمام ثلاثين " والمراد بالحساب هنا حساب النّجوم وتسييرها , ولَم يكونوا يعرفون من ذلك إلاَّ النّزر اليسير , فعلّق الحكم بالصّوم وغيره بالرّؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التّسيير , واستمرّ الحكم في الصّوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السّياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً. ويوضّحه قوله في الحديث الماضي " فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين " ولَم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلّفون فيرتفع الاختلاف والنّزاع عنهم. وقد ذهب قومٌ إلى الرّجوع إلى أهل التّسيير في ذلك وهم الرّوافض. ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجيّ: وإجماع السّلف الصّالح حجّة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهبٌ باطلٌ فقد نهت الشّريعة عن الخوض في علم النّجوم , لأنّها حدسٌ وتخمينٌ ليس فيها قطعٌ ولا ظنٌّ غالبٌ , مع أنّه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلاَّ القليل.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 184 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسحّروا فإنّ في السّحور بركةً (¬1). قوله: (تسحّروا) نقل ابن المنذر الإجماع على ندبيّة السّحور. بدليل حديث أبي هريرة في الصحيحين , أنّه - صلى الله عليه وسلم - واصل بهم يوماً ثمّ يوماً، ثمّ رأوا الهلال , فقال: لو تأخّر لزدتكم " فدلَّ ذلك على أنّ السّحور ليس بحتمٍ، إذ لو كان حتماً ما واصل بهم فإنّ الوصال يستلزم ترك السّحور. سواءٌ قلنا الوصال حرامٌ أو لا. قوله: (فإنّ في السّحور بركةً) هو بفتح السّين وبضمّها، لأنّ المراد بالبركة الأجر والثّواب فيناسب الضّمّ , لأنّه مصدرٌ بمعنى التّسحّر، أو البركة لكونه يقوّي على الصّوم , وينشّط له , ويخفّف المشقّة فيه فيناسب الفتح , لأنّه ما يتسحّر به. وقيل: البركة ما يتضمّن من الاستيقاظ والدّعاء في السّحر. والأولى أنّ البركة في السّحور تحصل بجهاتٍ متعدّدةٍ، وهي اتّباع السّنّة، ومخالفة أهل الكتاب، والتّقوّي به على العبادة، والزّيادة في النّشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتّسبّب بالصّدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتّسبّب للذّكر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1823) ومسلم (1095) من طرق عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس - رضي الله عنه - به.

والدّعاء وقت مظنّة الإجابة، وتدارك نيّة الصّوم لمن أغفلها قبل أن ينام. قال ابن دقيق العيد: هذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخرويّة. فإنّ إقامة السّنّة يوجب الأجر وزيادته، ويحتمل: أن تعود إلى الأمور الدّنيويّة كقوّة البدن على الصّوم وتيسيره من غير إضرارٍ بالصّائم. قال: وممّا يعلل به استحباب السّحور المخالفة لأهل الكتاب لأنّه ممتنعٌ عندهم، وهذا أحد الوجوه المقتضية للزّيادة في الأجور الأخرويّة. وقال أيضاً: وقع للمتصوّفة في مسألة السّحور كلامٌ من جهة اعتبار حكم الصّوم وهي كسر شهوة البطن والفرج، والسّحور قد يباين ذلك. قال: والصّواب أن يقال ما زاد في المقدار حتّى تنعدم هذه الحكمة بالكليّة فليس بمستحبٍّ كالذي صنعه المترفون من التّأنّق في المآكل وكثرة الاستعداد لها، وما عدا ذلك تختلف مراتبه. تكميلٌ: يحصل السّحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكولٍ ومشروبٍ. وقد أخرج هذا الحديث أحمد من حديث أبي سعيدٍ الخدريّ بلفظ " السّحور بركةٌ فلا تدعوه , ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماءٍ، فإنّ الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين " ولسعيد بن منصورٍ من طريقٍ أخرى مرسلةٍ " تسحّروا ولو بلقمةٍ ".

الحديث الرابع

الحديث الرابع 185 - عن أنس بن مالكٍ عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله عنهم - , قال: تسحّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثمّ قام إلى الصّلاة. قال أنسٌ: قلت لزيدٍ: كم كان بين الأذان والسّحور؟ قال: قدر خمسين آيةً. (¬1) قوله: (عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -) رواه همّامٍ عن قتادة عن أنسٍ , أنّ زيد بن ثابت حدّثه، فجعله من مسند زيد بن ثابت، ووافقه هشامٌ عن قتادة كما في البخاري , ورواه سعيد - وهو ابن أبي عروبة - عن قتادة في البخاري أيضاً عن أنس , أنّ نبيّ الله وزيد بن ثابتٍ تسحّرا. وفي رواية السّرخسيّ والمستمليّ " تسحّروا " فجعله من مسند أنس. وأمّا قوله: " تسحّروا " بصيغة الجمع فشاذّةٌ , وترجّح عند مسلم رواية همّامٍ. فإنّه أخرجها وأعرض عن رواية سعيد. (¬2) ويدلّ على رجحانها أيضاً , أنّ الإسماعيليّ أخرج رواية سعيد من طريق خالد بن الحارث عن سعيد فقال: عن أنس عن زيد بن ثابت. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (550 , 551 , 1820 ,1820) ومسلم (1097) من طرق عن قتادة عن أنس. (¬2) بخلاف البخاري فإنه أخرج رواية همام وسعيد.

والذي يظهر لي في الجمع بين الرّوايتين: أنّ أنساً حضر ذلك. لكنّه لَم يتسحّر معهما، ولأجل هذا سأل زيداً عن مقدار وقت السّحور كما سيأتي بعد. ثمّ وجدت ذلك صريحاً في رواية النّسائيّ وابن حبّان ولفظهما عن أنس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنس إنّي أريد الصّيام، أطعمني شيئاً. فجئته بتمرٍ وإناءٍ فيه ماء، وذلك بعدما أذّن بلال. قال: يا أنس انظر رجلاً يأكل معي، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء فتسحّر معه، ثمّ قام فصلى ركعتين، ثمّ خرج إلى الصّلاة. فعلى هذا فالمراد بقوله " كم كان بين الأذان والسّحور " أي: أذان ابن أمّ مكتومٍ، لأنّ بلالاً كان يؤذّن قبل الفجر. والآخر يؤذّن إذا طلع. قوله: (زيد بن ثابت) أي ابن الضحاك بن زيد بن لوذان، من بني مالك بن النجار، كاتب الوحي , وأحد فقهاء الصحابة، مات سنة خمس وأربعين. قوله: (قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟) وقع عند الإسماعيليّ من رواية عفّان عن همّامٍ " قلنا لزيدٍ " ومن رواية خالد بن الحارث عن سعيد قال خالد: أنسٌ القائل كم كان بينهما. ورواه أحمد أيضاً عن يزيد بن هارون عن همّامٍ. وفيه " أنّ أنساً قال: قلت لزيدٍ " ووقع عند البخاري من رواية رَوحٍ عن سعيد: قلت لأنسٍ، فهو مقول قتادة.

قال الإسماعيليّ: والرّوايتان صحيحتان بأن يكون أنس سأل زيداً، وقتادة سأل أنساً. والله أعلم. واستدلَّ البخاري به على أنّ أوّل وقت الصّبح طلوع الفجر , لأنّه الوقت الذي يحرم فيه الطّعام والشّراب، والمدّة التي بين الفراغ من السّحور والدّخول في الصّلاة - وهي قراءة الخمسين آيةً أو نحوها - قدر ثلث خمس ساعةٍ، ولعلها مقدار ما يتوضّأ. فأشعر ذلك بأنّ أوّل وقت الصّبح أوّل ما يطلع الفجر. قوله: (قال: قدر خمسين آيةً) أي: متوسّطةً لا طويلةً ولا قصيرةً لا سريعةً ولا بطيئةً، وقدر بالرّفع على أنّه خبر المبتدأ، ويجوز النّصب على أنّه خبر كان المقدّرة في جواب زيدٍ لا في سؤال أنسٍ. لئلا تصير كان واسمها من قائلٍ والخبر من آخر. قال المُهلَّب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدّر الأوقات بالأعمال كقوله: قدر حلب شاةٍ، وقدر نحر جزورٍ. فعدل زيد بن ثابتٍ عن ذلك إلى التّقدير بالقراءة إشارةً إلى أنّ ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتّلاوة، ولو كانوا يقدّرون بغير العمل لقال مثلاً قدر درجةٍ أو ثلث خمس ساعةٍ. وقال ابن أبي جمرة: فيه إشارةٌ إلى أنّ أوقاتهم كانت مستغرقةً بالعبادة. وفيه تأخير السّحور لكونه أبلغ في المقصود. قال ابن أبي جمرة: كان - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما هو الأرفق بأمّته فيفعله لأنّه لو

لَم يتسحّر لاتّبعوه فيشقّ على بعضهم، ولو تسحّر في جوف الليل لشقّ أيضاً على بعضهم ممّن يغلب عليه النّوم فقد يفضي إلى ترك الصّبح , أو يحتاج إلى المجاهدة بالسّهر. وقال: فيه أيضاً تقويةٌ على الصّيام لعموم الاحتياج إلى الطّعام ولو ترك لشقّ على بعضهم , ولا سيّما من كان صفراويّاً فقد يغشى عليه فيفضي إلى الإفطار في رمضان. قال: وفي الحديث تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة، وجواز المشي بالليل للحاجة، لأنّ زيد بن ثابتٍ ما كان يبيت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفيه الاجتماع على السّحور. وفيه حسن الأدب في العبارة لقوله " تسحّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولَم يقل نحن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا يشعر لفظ المعيّة بالتّبعيّة. وقال القرطبيّ: فيه دلالةٌ على أنّ الفراغ من السّحور كان قبل طلوع الفجر (¬1)، فهو معارضٌ لقول حذيفة: هو النّهار إلاَّ أنّ الشّمس لَم تطلع. انتهى. والجواب: أن لا معارضة بل تحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحدٍ منهما ما يشعر بالمواظبة، فتكون قصّة حذيفة سابقةً. (¬2) ¬

_ (¬1) تقدَّم الكلام على هذه المسألة. انظر حديث عائشة برقم (70). وفيه الكلام على حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬2) قال الشارح (4/ 136). في شرحه لحديث سهل وعديٍ رضي الله عنهما في قصة العقالَين ونزول قوله تعالى (من الفجر). قال: قال النووي تبعاً لعياض: وإنما حمَلَ الخيطَ الأبيضَ والأسودَ على ظاهرهما بعضُ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مَن لا فقه عنده من الأعراب كالرجال الذين حكى عنهم سهل , وبعض من لم يكن في لغته استعمال الخيط في الصبح كعدي. وادعى الطحاوي والداودي: أنه من باب النسخ , وأن الحكم كان أولا على ظاهره المفهوم من الخيطين. واستدلَّ على ذلك بما نُقل عن حذيفة وغيره من جواز الأكل إلى الإسفار. قال: ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى (من الفجر). قلت: ويؤيد ما قاله ما رواه عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات , أن بلالا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتسحر. فقال: الصلاة يا رسول الله. قد والله أصبحت , فقال: يرحم الله بلالاً لولا بلال لرجونا أن يُرخّصَ لنا حتى تطلع الشمس. انتهى

الحديث الخامس

الحديث الخامس 186 - عن عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر وهو جنبٌ من أهله , ثمّ يغتسل ويصوم. (¬1) قوله: (كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله , ثمّ يغتسل ويصوم) وللشيخين من رواية مالك عن سمي عن أبي بكر بن عبد الرحمن عنهما " كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام " , ولهما في رواية يونس عن ابن شهاب عن عروة وأبي بكر بن عبد الرّحمن عن عائشة " كان يدركه الفجر في رمضان جنباً من غير حلم ". وللنّسائيّ من طريق عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرّحمن عن أبيه عنهما " كان يصبح جنباً من غير احتلام ثمّ يصوم ذلك اليوم " وله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1825 , 1830) ومسلم (1109) من طرق عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة وأمّ سلمة فذكر الحديث. وفيه. وقال مروان، لعبد الرحمن بن الحارث: أقسم بالله لتقرعنَّ بها أبا هريرة، ومروان يومئذ على المدينة. فقال أبو بكر: فكره ذلك عبد الرحمن (والد أبي بكر)، ثم قُدِّر لنا أن نجتمع بذي الحليفة، وكانت لأبي هريرة هنالك أرض، فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكرٌ لك أمراً ولولا مروان أقسم عليَّ فيه لم أذكره لك، فذكر قول عائشة وأم سلمة , فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس وهنَّ أعلم. واللفظ للبخاري. زاد مسلم: فرجع أبو هريرة عمَّا كان يقول في ذلك. قال البخاري: وقال همام، وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر: والأول أسند. انتهى. قلت: وسيذكر الشارح رحمه الله مَن وصل هذين الطريقين. والكلام عليهما.

من طريق يحيى بن عبد الرّحمن بن حاطب قال: قال مروان لعبد الرّحمن بن الحارث: اذهب إلى أمّ سلمة فسلها، فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً منّي , فيصوم ويأمرني بالصّيام ". قال القرطبيّ: في هذا فائدتان. إحداهما: أنّه كان يجامع في رمضان , ويؤخّر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بياناً للجواز. الثّاني: أنّ ذلك كان من جماع لا من احتلام , لأنّه كان لا يحتلم. إذ الاحتلام من الشّيطان , وهو معصوم منه. وقال غيره: في قولها " من غير احتلام " إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لَمَا كان للاستثناء معنًى، وردّ بأنّ الاحتلام من الشّيطان وهو معصوم منه. وأجيب: بأنّ الاحتلام يطلق على الإنزال. وقد وقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام، وأرادت بالتّقييد بالجماع المبالغة في الرّدّ على من زعم أنّ فاعل ذلك عمداً يفطر، وإذا كان فاعل ذلك عمداً لا يفطر فالذي ينسى الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك. قال ابن دقيق العيد: لَمّا كان الاحتلام يأتي للمرء على غير اختياره فقد يتمسّك به من يرخّص لغير المتعمّد الجماع، فبيّن في هذا الحديث أنّ ذلك كان من جماع لإزالة هذا الاحتمال. قوله: (ثمّ يغتسل) فيه جواز اغتسال الصائم. قال الزّين بن المنيّر: الاغتسال يشمل الأغسال المسنونة والواجبة والمباحة. انتهى

وروي عن عليٍّ من النّهي عن دخول الصّائم الحمّام أخرجه عبد الرّزّاق. وفي إسناده ضعفٌ، واعتمده الحنفيّة فكرهوا الاغتسال للصّائم. قوله: (ويصوم) في ذلك خلاف للسّلف هل يصحّ صومه أو لا؟ وهل يفرّق بين العامد والنّاسي أو بين الفرض والتّطوّع؟. والجمهور على الجواز مطلقاً، والله أعلم. وأخرج أحمد وابن حبّان من طريق معمرٍ عن همام عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا نودي للصّلاة - صلاة الصّبح - وأحدكم جنبٌ فلا يصم حينئذٍ. ورواه عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن ابن شهابٍ عن ابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة به. وقد اختلف على الزّهريّ في اسمه , فقال عنه شعيبٌ عنه أخبرني عبد الله بن عمر , قال لي أبو هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرّجل جنباً " أخرجه النّسائيّ والطّبرانيّ في " مسند الشّاميّين "، وقال عقيلٌ عنه: عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر به. فاختلف على الزّهريّ. هل هو عبد الله مكبّراً أو عبيد الله مصغّراً؟. قال البخاري في " صحيحه ": الأوّل أسند. انتهى ومراده. أنّ حديث عائشة وأم سلمة أقوى إسناداً، وهي من حيث الرّجحان كذلك , لأنّ حديث عائشة وأمّ سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جدّاً بمعنًى واحد. حتّى قال ابن عبد البرّ: إنّه صحّ

وتواتر. وأمّا أبو هريرة. فأكثر الرّوايات عنه أنّه كان يفتي به، وجاء عنه من طريق هذين , أنّه كان يرفعه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك وقع في رواية معمرٍ عن الزّهريّ عن أبي بكر بن عبد الرّحمن سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فذكره، أخرجه عبد الرّزّاق. وللنّسائيّ من طريق عكرمة بن خالد عن أبي بكر بن عبد الرّحمَن قال: بلغ مروان أنّ أبا هريرة يحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكره، وله من طريق المقبريّ قال: بعثت عائشة إلى أبي هريرة: لا تحدّث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القاري سمعت أبا هريرة يقول: وربّ هذا البيت. ما أنا قلت من أدرك الصّبح وهو جنبٌ فلا يصم، محمّدٌ وربّ الكعبة قاله. لكن بيّن أبو هريرة أنّه لَم يسمع ذلك من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وإنّما سمعه بواسطة الفضل وأسامة، فأخرج النّسائيّ من طريق عكرمة بن خالد ويعلى بن عقبة وعراك بن مالك كلّهم عن أبي بكر بن عبد الرّحمن , أنّ أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عبّاس (¬1)، لكن عنده من طريق عمر بن أبي بكر عن أبيه , أنّ أبا هريرة قال في هذه القصّة: إنّما كان أسامة بن زيد حدّثني. فيحمل على أنّه كان عنده عن كلٍّ منهما. ويؤيّده روايةٌ أخرى عند ¬

_ (¬1) سماعه من الفضل صرَّح به في الصحيحين كما تقدّم في تخريج الحديث.

النّسائيّ من طريقٍ أخرى عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه , قال فيها: إنّما حدّثني فلانٌ وفلانٌ. وفي رواية مالك في " الموطأ ": أخبرنيه مخبرٌ. والظّاهر أنّ هذا من تصرّف الرّواة. منهم من أبهم الرّجلين , ومنهم من اقتصر على أحدهما تارة مبهماً وتارة مفسّراً، ومنهم من لَم يذكر عن أبي هريرة أحداً، وهو عند النّسائيّ أيضاً من طريق أبي قلابة عن عبد الرّحمن بن الحارث ففي آخره., فقال أبو هريرة: هكذا كنت أحسب. وكأنّه كان لشدّة وثوقه بخبرهما يحلف على ذلك. وأمّا ما أخرجه ابن عبد البرّ من رواية عطاء بن ميناء عن أبي هريرة أنّه قال: كنت حدّثتكم من أصبح جنباً فقد أفطر، وأنّ ذلك من كيس أبي هريرة. فلا يصحّ ذلك عن أبي هريرة , لأنّه من رواية عمر بن قيسٍ وهو متروكٌ. نعم قد رجع أبو هريرة عن الفتوى بذلك (¬1). إمّا لرجحان رواية أمّي المؤمنين في جواز ذلك صريحاً على رواية غيرهما مع ما في رواية غيرهما من الاحتمال، إذ يمكن أن يحمل الأمر بذلك على الاستحباب في غير الفرض، وكذا النّهي عن صوم ذلك اليوم. وإمّا لاعتقاده أن يكون خبر أُمَّيْ المؤمنين ناسخاً لخبر غيرهما. ¬

_ (¬1) تقدّم في تخريج الحديث تصريح أبي هريرة في الرجوع. فانظره.

وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض التّابعين كما نقله التّرمذيّ، ثمّ ارتفع ذلك الخلاف واستقرّ الإجماع على خلافه كما جزم به النّوويّ. وأمّا ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعاً أو كالإجماع. لكن من الآخذين بحديث أبي هريرة من فرّق بين من تعمّد الجنابة , وبين من احتلم. كما أخرجه عبد الرّزّاق عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه , وكذا حكاه ابن المنذر عن طاوسٍ أيضاً. قال ابن بطّالٍ: وهو أحد قولي أبي هريرة. قلت: ولَم يصحّ عنه، فقد أخرج ذلك ابن المنذر من طريق أبي المهزّم. وهو ضعيف عن أبي هريرة. ومنهم مَن قال: يتمّ صومه ذلك اليوم ويقضيه. حكاه ابن المنذر عن الحسن البصريّ وسالم بن عبد الله بن عمر. قلت: وأخرج عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ , أنّه سأل عطاءً عن ذلك , فقال: اختلف أبو هريرة وعائشة فأرى أن يتمّ صومه ويقضي. وكأنّه لَم يثبت عنده رجوع أبي هريرة عن ذلك، وليس ما ذكره صريحاً في إيجاب القضاء. ونقل بعض المتأخّرين عن الحسن بن صالح بن حيّ إيجاب القضاء أيضاً، والذي نقله الطّحاويّ عنه استحبابه. ونقل ابن عبد البرّ. عنه وعن النّخعيّ. إيجاب القضاء في الفرض , والإجزاء في التّطوّع.

ووقع لابن بطّالٍ وابن التّين والنّوويّ والفاكهيّ وغير واحد في نقل هذه المذاهب مغايرات في نسبتها لقائلها. والمعتمد ما حرّرته. ونقل الماورديّ: أنّ هذا الاختلاف كلّه إنّما هو في حقّ الجنب، وأمّا المحتلم فأجمعوا على أنّه يجزئه. وهذا النّقل مُعترَضٌ بما رواه النّسائيّ بإسنادٍ صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر , أنّه احتلم ليلاً في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر , ثمّ نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتّى أصبح , قال: فاستفتيت أبا هريرة فقال: أفطر. وله من طريق محمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان أنّه سمع أبا هريرة , يقول: من احتلم من الليل أو واقع أهله , ثمّ أدركه الفجر ولَم يغتسل. فلا يصم. وهذا صريحٌ في عدم التّفرقة. وحمل القائلون بفساد صيام الجنب حديث عائشة على أنّه من الخصائص النّبويّة، أشار إلى ذلك الطّحاويّ بقوله: وقال آخرون: يكون حكم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرت عائشة. وحكم النّاس على ما حكى أبو هريرة. وأجاب الجمهور: بأنّ الخصائص لا تثبت إلاَّ بدليلٍ، وبأنّه قد ورد صريحاً ما يدلّ على عدمها، وترجم بذلك ابن حبّان في صحيحة حيث قال " ذكر البيان بأنّ هذا الفعل لَم يكن المصطفى مخصوصاً به ". ثمّ أورد ما أخرجه هو ومسلم والنّسائيّ وابن خزيمة وغيرهم من

طريق أبي يونس مولى عائشة عن عائشة , أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسولَ الله تدركني الصّلاة - أي صلاة الصّبح - وأنا جنبٌ، أفأصوم؟ فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصّلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسولَ الله قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر. فقال: والله إنّي لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى. وذكر ابن خزيمة: أنّ بعض العلماء توهّم أنّ أبا هريرة غلِط في هذا الحديث , ثمّ ردّ عليه بأنّه لَم يغلط , بل أحال على رواية صادقٍ، إلاَّ أنّ الخبر منسوخ، لأنّ الله تعالى عند ابتداء فرض الصّيام كان منع في ليل الصّوم من الأكل والشّرب والجماع بعد النّوم. قال: فيحتمل أن يكون خبر الفضل كان حينئذٍ , ثمّ أباح الله ذلك كلّه إلى طلوع الفجر فكان للمجامع أن يستمرّ إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدلَّ على أنّ حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل ولَم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة النّاسخ فاستمرّ أبو هريرة على الفتيا به، ثمّ رجع عنه بعد ذلك لَمّا بلغه. قلت: ويقوّيه أنّ في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأنّ ذلك كان بعد الحديبية لقوله فيها " قد غفر الله لك ما تقدّم وما تأخّر " وأشار إلى آية الفتح وهي إنّما نزلت عام الحديبية سنة ستّ، وابتداء فرض الصّيام كان في السّنة الثّانية. وإلى دعوى النّسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطّابيّ وغير واحد.

وقرّره ابن دقيق العيد: بأنّ قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم) يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصّوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه , ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنباً ولا يفسد صومه , فإنّ إباحة التّسبّب للشّيء إباحةٌ لذلك الشّيء. قلت: وهذا أولى من سلوك التّرجيح بين الخبرين كما قال البخاريّ: والأوّل أسند. وكذا قال بعضهم: إنّ حديث عائشة أرجح لموافقة أمّ سلمة لها على ذلك، ورواية اثنين تقدّم على رواية واحد، ولا سيّما وهما زوجتان ,وهما أعلم بذلك من الرّجال. ولأنّ روايتهما توافق المنقولَ - وهو ما تقدّم من مدلول الآية - والمعقولَ , وهو أنّ الغسل شيءٌ وجب بالإنزال، وليس في فعله شيءٌ يحرم على صائم، فقد يحتلم بالنّهار فيجب عليه الغسل ولا يحرم عليه بل يتمّ صومه إجماعاً، فكذلك إذا احتلم ليلاً بل هو من باب الأولى، وإنّما يمنع الصّائم من تعمّد الجماع نهاراً. وهو شبيهٌ بمن يمنع من التّطيّب وهو محرم , لكن لو تطيّب وهو حلال ثمّ أحرم فبقي عليه لونه أو ريحه لَم يحرم عليه. وجمع بعضهم بين الحدثين. أنّ الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشادٍ إلى الأفضل، فإنّ الأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز، ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز , ونقل النّوويّ هذا عن أصحاب الشّافعيّ، وفيه نظرٌ.

فإنّ الذي نقله البيهقيّ وغيره عن نصّ الشّافعيّ سلوك التّرجيح , وعن ابن المنذر وغيره سلوك النّسخ. ويعكّر على حمله على الإرشاد التّصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر وبالنّهي عن الصّيام , فكيف يصحّ الحمل المذكور إذا وقع ذلك في رمضان؟ وقيل: هو محمولٌ على من أدركه مجامعاً فاستدام بعد طلوعه عالماً بذلك. ويعكّر عليه ما رواه النّسائيّ من طريق أبي حازم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرّحمن عن أبيه " أنّ أبا هريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولَم يغتسل حتّى أصبح فلا يصوم ". وحكى ابن التّين عن بعضهم أنّه سقط " لا " من حديث الفضل، وكان في الأصل " من أصبح جنباً في رمضان فلا يفطر " فلمّا سقط " لا " صار فليفطر. وهذا بعيدٌ بل باطلٌ، لأنّه يستلزم عدم الوثوق بكثير من الأحاديث وأنّها يطرقها مثل هذا الاحتمال، وكأنّ قائله ما وقف على شيء من طرق هذا الحديث إلاَّ على اللفظ المذكور. تكميلٌ: في معنى الجنب. الحائض والنّفساء إذا انقطع دمها ليلاً , ثمّ طلع الفجر قبل اغتسالها. قال النّوويّ في شرح مسلم: مذهب العلماء كافّةً صحّة صومها , إلاَّ ما حكي عن بعض السّلف ممّا لا يعلم صحّ عنه أو لا.

وكأنّه أشار بذلك إلى ما حكاه في شرح المهذّب عن الأوزاعيّ، لكن حكاه ابن عبد البرّ عن الحسن بن صالح أيضاً. وحكى ابن دقيق العيد: أنّ في المسألة في مذهب مالك قولين، وحكاه القرطبيّ عن محمّد بن مسلمة من أصحابهم. ووصف قوله بالشّذوذ. وحكى ابن عبد البرّ عن عبد الملك بن الماجشون: أنّها إذا أخّرت غسلها حتّى طلع الفجر فيومها يوم فطر لأنّها في بعضه غير طاهرةٍ. قال: وليس كالذي يصبح جنباً , لأنّ الاحتلام لا ينقض الصّوم والحيض ينقضه.

الحديث السادس

الحديث السادس 187 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: من نسي وهو صائمٌ. فأكل أو شرب , فليتمّ صومه. فإنّما أطعمه الله وسقاه. (¬1) قوله: (من نسي وهو صائم) وللبخاري " إذا نسي فأكل " وله أيضاً من طريق عوف عن ابن سيرين " من أكل ناسياً وهو صائم " , ولأبي داود من طريق حبيب بن الشّهيد وأيّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة " جاء رجل فقال: يا رسولَ الله إنّي أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم " وهذا الرّجل هو أبو هريرة راوي الحديث. أخرجه الدّارقطنيّ بإسنادٍ ضعيفٍ. قوله: (فليتمّ صومه) في رواية التّرمذيّ من طريق قتادة عن ابن سيرين " فلا يفطر ". وهل يجب عليه القضاء أو لا؟ وهي مسألة خلافٍ مشهورةٌ. القول الأول: ذهب الجمهور إلى عدم الوجوب. القول الثاني: عن مالك يبطل صومه ويجب عليه القضاء. قال عياضٌ: هذا هو المشهور عنه , وهو قول شيخه ربيعٍ وجميع أصحاب مالك، لكن فرّقوا بين الفرض والنّفل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1831) من طريق يزيد بن زريع , ومسلم (1155) من طريق إسماعيل بن إبراهيم كلاهما عن هشام القردوسي عن ابن سيرين عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (6292) من طريق عوف عن خلاس ومحمد عن أبي هريرة.

وقال الدّاوديّ (¬1): لعل مالكاً لَم يبلغه الحديث، أو أوّله على رفع الإثم. قوله: (فإنّما أطعمه الله وسقاه) في رواية التّرمذيّ " فإنّما هو رزق رزقه الله " وللدّارقطنيّ من طريق ابن عليّة عن هشامٍ " فإنّما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ". قال ابن العربيّ: تمسّك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث، وتطلع مالكٌ إلى المسألة من طريقها فأشرف عليه، لأنّ الفطر ضدّ الصّوم والإمساك ركن الصّوم فأشبه ما لو نسي ركعةً من الصّلاة. قال: وقد روى الدّارقطنيّ فيه " لا قضاء عليك " فتأوّله علماؤنا على أنّ معناه لا قضاء عليك الآن. وهذا تعسّفٌ، وإنّما أقول ليته صحّ فنتّبعه ونقول به، إلاَّ على أصل مالكٍ في أنّ خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لَم يعمل به، فلمّا جاء الحديث الأوّل الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأمّا الثّاني فلا يوافقها فلم نعمل به. وقال القرطبيّ: احتجّ به من أسقط القضاء، وأجيب: بأنّه لَم يتعرّض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة، لأنّ المطلوب صيام يوم لا خرم فيه، لكن روى الدّارقطنيّ فيه سقوط القضاء وهو نصٌّ لا يقبل الاحتمال، لكنّ الشّأن في صحّته، فإن صحّ وجب الأخذ به وسقط القضاء. انتهى. وأجاب بعض المالكيّة: بحمل الحديث على صوم التّطوّع كما حكاه ¬

_ (¬1) هو أحمد بن نصر , سبق ترجمته (1/ 312)

ابن التّين عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصّار، واعتلَّ بأنّه لَم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التّطوّع. وقال المُهلَّب وغيره: لَم يذكر في الحديث إثباتاً لقضاءٍ فيحمل على سقوط الكفّارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيّته التي بيّتها. انتهى. والجواب عن ذلك كلّه: بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والدّارقطنيّ من طريق محمّد بن عبد الله الأنصاريّ عن محمّد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفّارة " فعيّن رمضان , وصرّح بإسقاط القضاء. قال الدّارقطنيّ: تفرّد به محمّد بن مرزوقٍ عن الأنصاريّ. وتعقّب: بأنّ ابن خزيمة أخرجه أيضاً عن إبراهيم ابن محمّدٍ الباهليّ , وبأنّ الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرّازيّ كلاهما عن الأنصاريّ. فهو المنفرد به كما قال البيهقيّ , وهو ثقةٌ. والمراد أنّه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان، فإنّ النّسائيّ أخرج الحديث من طريق عليّ بن بكّار عن محمّد بن عمرو ولفظه " في الرّجل يأكل في شهر رمضان ناسياً فقال: الله أطعمه وسقاه ". وقد ورد إسقاط القضاء من وجهٍ آخر عن أبي هريرة. أخرجه الدّارقطنيّ من رواية محمّد بن عيسى ابن الطّبّاع عن ابن عليّة عن هشامٍ عن ابن سيرين ولفظه: فإنّما هو رزق ساقه الله إليه ,

ولا قضاء عليه. وقال بعد تخريجه: هذا إسناد صحيحٌ وكلّهم ثقاتٌ. قلت: لكنّ الحديث عند مسلمٍ وغيره من طريق ابن عليّة. وليس فيه هذه الزّيادة. وروى الدّارقطنيّ أيضاً إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبريّ والوليد بن عبد الرّحمن وعطاء بن يسارٍ كلّهم عن أبي هريرة. وأخرج أيضاً من حديث أبي سعيد رفعه " من أكل في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه " وإسناده - وإن كان ضعيفاً - لكنّه صالحٌ للمتابعة. فأقلّ درجات الحديث بهذه الزّيادة أن يكون حسناً فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوّة. ويعتضد أيضاً بأنّه قد أفتى به جماعةٌ من الصّحابة من غير مخالفةٍ لهم منهم - كما قاله ابن المنذر وابن حزمٍ وغيرهما - عليّ بن أبي طالبٍ وزيد بن ثابتٍ وأبو هريرة وابن عمر. ثمّ هو موافق لقوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) فالنّسيان ليس من كسب القلب، وموافقٌ للقياس في إبطال الصّلاة بعمد الأكل لا بنسيانه. فكذلك الصّيام. وأمّا القياس الذي ذكره ابن العربيّ. فهو في مقابلة النّصّ فلا يقبل. وردّه للحديث مع صحّته بكونه خبر واحدٍ خالف القاعدة ليس بمسلمٍ، لأنّه قاعدةٌ مستقلةٌ بالصّيام فمن عارضه بالقياس على

الصّلاة أدخل قاعدةً في قاعدةٍ، ولو فتح باب ردّ الأحاديث الصّحيحة بمثل هذا لِمَا بقي من الحديث إلاَّ القليل. وفي الحديث لطف الله بعباده والتّيسير عليهم ورفع المشقّة والحرج عنهما. وقد روى أحمد لهذا الحديث سبباً فأخرج من طريق أمّ حكيمٍ بنت دينارٍ عن مولاتها أمّ إسحاق أنّها " كانت عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتي بقصعةٍ من ثريد فأكلت معه، ثمّ تذكّرت أنّها كانت صائمةً، فقال لها ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال لها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أتمّي صومك فإنّما هو رزق ساقه الله إليك. وفي هذا ردٌّ على من فرّق بين قليل الأكل وكثيره. ومن المستظرفات. ما رواه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عمرو بن دينارٍ: أنّ إنساناً جاء إلى أبي هريرة , فقال: أصبحتُ صائماً فنسيت فطعمت، قال: لا بأس. قال: ثمّ دخلت على إنسانٍ فنسيت وطعمت وشربت، قال: لا بأس. الله أطعمك وسقاك. ثمّ قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسانٌ لَم تتعوّد الصّيام. واختلفوا فيمن جامع ناسياً. القول الأول. أخرج عبد الرّزّاق قال: أخبرنا ابن جريجٍ عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قال: لو وطئ رجلٌ امرأته وهو صائم ناسياً في رمضان لَم يكن عليه فيه شيءٌ.

وعن الثّوريّ عن رجلٍ عن الحسن قال: هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسياً " وروي أيضاً عن ابن جريجٍ أنّه سأل عطاءً عن رجلٍ أصاب امرأته ناسياً في رمضان، قال: لا ينسى، هذا كلّه عليه القضاء. وتابع عطاءً على ذلك , الأوزاعيّ والليث ومالكٌ وأحمد , وهو أحد الوجهين للشّافعيّة. وفرّق هؤلاء كلّهم بين الأكل والجماع. القول الثاني: عن أحمد في المشهور عنه: تجب عليه الكفّارة أيضاً، وحجّتهم قصور حالة المُجامع ناسياً عن حالة الآكل. وألحق به بعض الشّافعيّة من أكل كثيراً لندور نسيان ذلك. قال ابن دقيق العيد: ذهب مالكٌ إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسياً وهو القياس، فإنّ الصّوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات، والقاعدة أنّ النّسيان لا يؤثّر في المأمورات. قال: وعمدة من لَم يوجب القضاء حديث أبي هريرة , لأنّه أمر بالإتمام، وسمّى الذي يتمّ صوماً، وظاهره حمله على الحقيقة الشّرعيّة فيتمسّك به حتّى يدل دليلٌ على أنّ المراد بالصّوم هنا حقيقته اللّغويّة. وكأنّه يشير بهذا إلى قول ابن القصّار: إنّ معنى قوله " فليتمّ صومه " أي: الذي كان دخل فيه , وليس فيه نفي القضاء. قال وقوله " فإنّما أطعمه الله وسقاه " ممّا يستدلّ به على صحّة الصّوم لإشعاره بأنّ الفعل الصّادر منه مسلوب الإضافة إليه فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه.

قال: وتعليق الحكم بالأكل والشّرب للغالب لأنّ نسيان الجماع نادرٌ بالنّسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوماً، وقد اختلف فيه القائلون بأنّ أكل النّاسي لا يوجب قضاءً. واختلف القائلون بالإفساد. هل يوجب مع القضاء الكفّارة أو لا؟ مع اتّفاقهم على أنّ أكل النّاسي لا يوجبها. ومدار كل ذلك على قصور حالة المُجامع ناسياً عن حالة الآكل، ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه. فإنّما طريقه القياس , والقياس مع وجود الفارق متعذّرٌ، إلاَّ إن بيّن القائس أنّ الوصف الفارق ملغًى. انتهى. وأجاب بعض الشّافعيّة: بأنّ عدم وجوب القضاء عن المُجامع مأخوذ من عموم قوله في بعض طرق الحديث " من أفطر في شهر رمضان " لأنّ الفطر أعمّ من أن يكون بأكلٍ أو شربٍ أو جماعٍ، وإنّما خصّ الأكل والشّرب بالذّكر في الطّريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعاً ولعدم الاستغناء عنهما غالباً. تكميل: أورد البخاريُّ الحديثَ في كتاب الأيمان باب " إذا حنث ناسياً " أي: هل تجب عليه الكفّارة أو لا؟. وقد اختلف السّلف في ذلك على مذاهب. ثالثها: التّفرقة بين الطّلاق والعتاق فتجب فيه الكفّارة مع الجهل والنّسيان. بخلاف غيرهما من الأيمان فلا تجب، وهذا قول عن الإمام الشّافعيّ. ورواية عن أحمد.

والرّاجح عند الشّافعيّة. التّسوية بين الجميع في عدم الوجوب، وعن الحنابلة عكسه , وهو قول المالكيّة والحنفيّة. وقال ابن المنذر: كان أحمد يُوقع الحنث في النّسيان في الطّلاق حسب , ويقف عمّا سوى ذلك. وقال ابن المنير في الحاشية: أوجب مالك الحنث على النّاسي. ولَم يخالف ذلك في ظاهر الأمر إلاَّ في مسألةٍ واحدةٍ , وهي من حلف بالطّلاق لَيصومنَّ غداً فأكل ناسياً بعد أن بيّت الصّيام من الليل، فقال مالك: لا شيء عليه، فاختلف عنه. فقيل: لا قضاء عليه , وقيل: لا حنث ولا قضاء وهو الرّاجح. أمّا عدم القضاء فلأنّه لَم يتعمّد إبطال العبادة، وأمّا عدم الحنث فهو على تقدير صحّة الصّوم؛ لأنّه المحلوف: عليه، وقد صحّح الشّارع صومه، فإذا صحّ صومه لَم يقع عليه حنثٌ.

الحديث السابع

الحديث السابع 188 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: بينما نحن جلوسٌ عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجلٌ. فقال: يا رسولَ الله , هلكت. قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي , وأنا صائمٌ - وفي روايةٍ: أصبت أهلي في رمضان - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فبينا نحن على ذلك أتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعرقٍ فيه تمرٌ – والعرق: المكتل – قال: أين السّائل؟ قال: أنا. قال: خذ هذا , فتصدّق به. فقال الرّجل: على أفقر منّي: يا رسولَ الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى بدت أنيابه. ثمّ قال: أطعمه أهلك. (¬1) قال المصنِّف: الحَرَّة: الأرض تركبها حجارة سود. قوله: (عن أبي هريرة - رضي الله عنه -) الحديث رواه عن أبي هريرة حميد بن عبد الرّحمن بن عوف، هكذا توارد عليه أصحاب الزّهريّ , وقد جمعت منهم في جزءٍ مفردٍ لطرق هذا الحديث أكثر من أربعين نفساً. منهم: ابن عيينة والليث ومعمرٌ ومنصور عند الشّيخين، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1834 , 1835، 2460، 5053، 5737، 5812، 6331، 6333، 6435) ومسلم (1111) من عدّة طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والأوزاعيّ وشعيبٌ وإبراهيم بن سعدٍ عند البخاريّ ومالك، وابن جريجٍ عند مسلم، ويحيى بن سعيد وعراك بن مالك عند النّسائيّ، وعبد الجبّار بن عمر عند أبي عوانة، والجوزقيّ وعبد الرّحمن بن مسافرٍ عند الطّحاويّ، وعقيلٌ عند ابن خزيمة، وابن أبي حفصة عند أحمد، ويونس وحجّاج بن أرطاة وصالح بن أبي الأخضر عند الدّارقطنيّ، ومحمّد بن إسحاق عند البزّار. وسأذكر ما عند كلٍّ منهم من زيادة فائدةٍ إن شاء الله تعالى. وخالفهم هشام بن سعد فرواه عن الزّهريّ عن أبي سلمة عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود وغيره. قال البزّار وابن خزيمة وأبو عوانة: أخطأ فيه هشام بن سعد. قلت: وقد تابعه عبد الوهّاب بن عطاء عن محمّد بن أبي حفصة، فرواه عن الزّهريّ أخرجه الدّارقطنيّ في " العلل " والمحفوظ عن ابن أبي حفصة كالجماعة. كذلك أخرجه أحمد وغيره من طريق روح بن عبادة عنه، ويحتمل: أن يكون الحديث عند الزّهريّ عنهما، فقد جمعهما عنه صالح بن أبي الأخضر، أخرجه الدّارقطنيّ في " العلل " من طريقه. وسيأتي حكاية خلاف آخر فيه على منصور وكذلك حكاية خلافٍ فيه على سفيان بن عيينة إن شاء الله تعالى. قوله: (أنّ أبا هريرة قال) في رواية ابن جريجٍ عند مسلمٍ , وعقيلٍ عند ابن خزيمة , وابن أبي أويسٍ عند الدّارقطنيّ التّصريح بالتّحديث

بين حميدٍ وأبي هريرة. قوله: (بينما نحن جلوس) أصلها. بين , وقد ترد بغير " ما " فتشبع الفتحة، ومن خاصّة " بينما " أنّها تتلقّى بإذ وبإذا حيث تجيء للمفاجأة، بخلاف بينا فلا تتلقّى بواحدةٍ منهما، وقد وردا في هذا الحديث كذلك. قوله: (عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) فيه حسن الأدب في التّعبير لِمَا تشعر العنديّة بالتّعظيم، بخلاف ما لو قال مع، لكن في رواية الكشميهنيّ " مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (إذ جاءه رجل) لَم أقف على تسميته، إلاَّ أنّ عبد الغنيّ في المبهمات - وتبعه ابن بشكوال - جزما بأنّه سليمان أو سلمة بن صخر البياضيّ، واستند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سليمان بن يسارٍ عن سلمة بن صخر أنّه ظاهر من امرأته في رمضان , وأنّه وطئها فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: حرّر رقبةً، قلت: ما أملك رقبةً غيرها وضرب صفحة رقبته. قال: فصم شهرين متتابعين. قال: وهل أصبت الذي أصبت إلاَّ من الصّيام؟ قال: فأطعم ستّين مسكينا. قال: والذي بعثك بالحقّ ما لنا طعام. قال: فانطلِق إلى صاحب صدقة بني زريقٍ. فليدفعها إليك. والظّاهر أنّهما واقعتان , فإنّ في قصّة المُجامع في حديث الباب أنّه كان صائماً كما سيأتي، وفي قصّة سلمة بن صخر أنّ ذلك كان ليلاً فافترقا.

ولا يلزم من اجتماعهما - في كونهما من بني بياضة , وفي صفة الكفّارة , وكونها مرتّبة , وفي كون كلٍّ منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها - اتّحاد القصّتين. وسنذكر أيضاً ما يؤيّد المغايرة بينهما. وأخرج ابن عبد البرّ في ترجمة عطاءٍ الخراسانيّ من " التّمهيد " من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيّب , أنّ الرّجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. هو سليمان بن صخر. قال ابن عبد البرّ: أظنّ هذا وهماً، لأنّ المحفوظ أنّه ظاهر من امرأته , ووقع عليها في الليل لا أنّ ذلك كان منه بالنّهار. انتهى. ويحتمل: أن يكون قوله في الرّواية المذكورة " وقع على امرأته في رمصان " أي: ليلاً بعد أن ظاهر. فلا يكون وهماً , ولا يلزم الاتّحاد. ووقع في مباحث العامّ من " شرح ابن الحاجب " ما يوهم أنّ هذا الرّجل هو أبو بردة بن يسارٍ. وهو وهمٌ يظهر من تأمّل بقيّة كلامه. قوله: (فقال: يا رسولَ الله) زاد عبد الجبّار بن عمر عن الزّهريّ " جاء رجل وهو ينتف شعره ويدقّ صدره ويقول: هلك الأبعد " ولمحمّد بن أبي حفصة " يلطم وجهه " ولحجّاج بن أرطاة " يدعو ويله " , وفي مرسل ابن المسيّب عند الدّارقطنيّ " ويحثي على رأسه التّراب "

واستدل بهذا على جواز هذا الفعل والقول من وقعت له معصيةٌ، ويفرّق بذلك بين مصيبة الدّين والدّنيا. فيجوز في مصيبة الدّين لِمَا يشعر به الحال من شدّة النّدم وصحّة الإقلاع. ويحتمل: أن تكون هذه الواقعة قبل النّهي عن لطم الخدود وحلق الشّعر عند المصيبة. (¬1) قوله: (هلكت) في رواية منصور في البخاري " فقال: إنّ الأَخِرَ هلك " والأخر بهمزةٍ مفتوحةٍ وخاءٍ معجمةٍ مكسورة بغير مدٍّ هو الأبعد، وقيل: الغائب، وقيل: الأرذل. وفي حديث عائشة في الصحيحين " احترقت " وفي رواية ابن أبي حفصة " ما أراني إلاَّ قد هلكت " واستدل به على أنّه كان عامداً , لأنّ الهلاك والاحتراق مجازٌ عن العصيان المؤدّي إلى ذلك، فكأنّه جعل المتوقّع كالواقع، وبالغ فعبّر عنه بلفظ الماضي. وإذا تقرّر ذلك فليس فيه حجّةٌ على وجوب الكفّارة على النّاسي , وهو مشهور قول مالك والجمهور. وهو القول الأول. القول الثاني: عن أحمد وبعض المالكيّة: يجب على النّاسي. وتمسّكوا بترك استفساره عن جِماعه , هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزّل منزلة العموم في القول كما اشتهر. والجواب: أنّه قد تبيّن حاله بقوله هلكت واحترقت. فدلَّ على أنّه ¬

_ (¬1) انطر حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الماضي في الجنائز (172).

كان عامداً عارفاً بالتّحريم، وأيضاً فدخول النّسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد. واستدل بهذا على أنّ من ارتكب معصيةً لا حدّ فيها وجاء مستفتياً أنّه لا يعزّر، لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، وقد ترجم لذلك البخاريّ في الحدود , وأشار إلى هذه القصّة. (¬1) وتوجُّهُه أنّ مجيئه مستفتياً يقتضي النّدم والتّوبة، والتّعزير إنّما جعل للاستصلاح ولا استصلاح من الصّلاح. وأيضاً فلو عوقب المستفتي لكان سبباً لترك الاستفتاء , وهي مفسدةٌ. فاقتضى ذلك أن لا يعاقب، هكذا قرّره الشّيخ تقيّ الدّين. لكن وقع في " شرح السّنّة للبغوىّ ": أنّ من جامع متعمّداً في رمضان فسد صومه , وعليه القضاء والكفّارة , ويعزّر على سوء صنيعه، وهو محمولٌ على من لَم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصّة من النّدم والتّوبة، وبناه بعض المالكيّة على الخلاف في تعزير ¬

_ (¬1) باب: من أصاب ذنبا دون الحد، فأخبر الإمام، فلا عقوبة عليه بعد التوبة، إذا جاء مستفتياً , قال عطاء: لم يعاقبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن جريج: ولم يعاقب الذي جامع في رمضان. ولم يعاقب عمر، صاحب الظبي , وفيه عن أبي عثمان، عن أبي مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم أورد حديث الباب. قال ابن حجر: والتقييد بدون الحد يقتضي أن من كان ذنبه يوجب الحد أنَّ عليه العقوبة ولو تاب , وأما التقييد الأخير فلا مفهوم له , بل الذي يظهر أنه ذكر لدلالته على توبته قوله (قال عطاء) لم يعاقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذي أخبر أنه وقع في معصية بلا مهلة حتى صلَّى معه فأخبره بأنَّ صلاته كفرت ذنبه. قوله (وقال بن جريج ولم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جامع في رمضان) ليس في شيء من طرقه أنه عاقبه .. إلخ.

شاهد الزّور. قوله: (قال: ما لَكَ؟) بفتح اللام استفهامٌ عن حاله، وفي رواية عقيلٍ " ويحك ما شأنك؟ " , ولابن أبي حفصة " وما الذي أهْلَكَك؟ " ولعمرو " ما ذاك؟ ". وفي رواية الأوزاعيّ " ويحك ما صنعت؟ " أخرجه البخاري في الأدب. وترجم " بابٌ ما جاء في قول الرّجل ويلك ويحك " ثمّ قال عقبه: تابعه يونس عن الزّهريّ يعني في قوله " ويحك " وقال عبد الرّحمن بن خالد عن الزّهريّ: " ويلك ". قلت: رواية يونس. وصلها البيهقي من طريق عنبسة بن خالد عنه به , ورواية عبد الرحمن بن خالد. وصلها الطحاوي من طريق الليث عنه به , وقد تابع ابنَ خالدٍ في قوله " ويلك " صالحُ بن أبي الأخضر. وتابع الأوزاعيَّ في قوله " ويحك " عقيلٌ وابن إسحاق وحجّاج بن أرطاة. فهو أرجح وهو اللائق بالمقام، فإنّ ويح كلمة رحمةٍ , وويل كلمة عذاب. والمقام يقتضي الأوّل. قوله: (وقعت على امرأتي) وفي رواية ابن إسحاق " أصبت أهلي " وفي حديث عائشة " وطئت امرأتي ". ووقع في رواية مالك وابن جريجٍ وغيرهما - كما سيأتي بيانه بعد قليل في الكلام على التّرتيب والتّخيير - في أوّل الحديث " أنّ رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " الحديث واستدل به.

وهو القول الأول: على إيجاب الكفّارة على من أفسد صيامه مطلقاً بأيّ شيء كان , وهو قول المالكيّة. القول الثاني: الجمهور حملوا قوله " أفطر " هنا على المقيّد في الرّواية الأخرى , وهو قوله " وقعت على أهلي " وكأنّه قال أفطر بجماعٍ، وهو أولى من دعوى القرطبيّ وغيره تعدّد القصّة. واحتجّ من أوجب الكفّارة مطلقاً: بقياس الآكل على المُجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصّوم، وبأنّ من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما. وسيأتي بيان التّرجيح بين الرّوايتين في الكلام على التّرتيب. وقد وقع في حديث عائشة نظير ما وقع في حديث أبي هريرة فمعظم الرّوايات فيها " وطئت " ونحو ذلك، وفي روايةٍ ساق مسلم إسنادها , وساق أبو عوانة في " مستخرجه " متنها , أنّه قال " أفطرت في رمضان ". والقصّة واحدةٌ ومخرجها متّحدٌ. فيحمل على أنّه أراد أفطرت في رمضان بجماعٍ، وقد وقع في مرسل ابن المسيّب عند سعيد بن منصور " أصبتُ امرأتي ظهراً في رمضان ". وتعيين رمضان معمولٌ بمفهومه، وللفرق في وجوب كفّارة المُجامع في الصّوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنّذر، وفي كلام أبي عوانة في " صحيحه " إشارة إلى وجوب ذلك على من وقع منه في رمضان نهاراً. سواء كان الصّوم واجباً عليه أو غير واجب.

قوله: (وأنا صائم) جملة حاليّة من قوله " وقعت " فيؤخذ منه أنّه لا يشترط في إطلاق اسم المشتقّ بقاء المعنى المشتقّ منه حقيقةً. لاستحالة كونه صائماً مجامعاً في حالةٍ واحدةٍ. فعلى هذا قوله " وطئت " أي: شرعت في الوطء , أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم، ووقع في رواية عبد الجبّار بن عمر " وقعت على أهلي اليوم وذلك في رمضان ". قوله: (هل تجد رقبة تعتقها؟) في رواية منصور " أتجد ما تحرّر رقبةً؟ " بالنصب على البدل من لفظ " ما " وهي مفعول تجد , وفي رواية ابن أبي حفصة " أتستطيع أن تعتق رقبةً؟ " وفي رواية إبراهيم بن سعد والأوزاعيّ فقال " أعتق رقبة " زاد في رواية مجاهدٍ عن أبي هريرة فقال " بئسما صنعت أعتق رقبة ". قوله: (قال: لا) في رواية ابن مسافر " فقال: لا والله يا رسولَ الله " وفي رواية ابن إسحاق " ليس عندي " وفي حديث ابن عمر " فقال: والذي بعثك بالحقّ ما ملكت رقبةً قطّ ". واستدل بإطلاق الرّقبة على جواز إخراج الرّقبة الكافرة كقول الحنفيّة، وهو ينبني على أنّ السّبب إذا اختلف واتّحد الحكم. هل يقيّد المطلق أو لا؟ وهل تقييده بالقيام أو لا؟. والأقرب أنّه بالقياس، ويؤيّده التّقييد في مواضع أخرى. قوله: (قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا) في رواية إبراهيم عن سعد " قال: فصم شهرين متتابعين " , وفي

حديث سعد " قال: لا أقدر " , وفي رواية ابن إسحاق " وهل لقيت ما لقيت إلاَّ من الصّيام؟ ". قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصّوم إلى الإطعام، لكنّ رواية ابن إسحاق هذه اقتضت أنّ عدم استطاعته لشدّة شبقه وعدم صبره عن الوقاع. فنشأ للشّافعيّة نظرٌ: هل يكون ذلك عذراً - أي شدّة الشّبق - حتّى يعدّ صاحبه غير مستطيع للصّوم أو لا؟. والصّحيح عندهم اعتبار ذلك، ويلتحق به من يجد رقبة لا غنى به عنها فإنّه يسوغ له الانتقال إلى الصّوم مع وجودها. لكونه في حكم غير الواجد. وأمّا ما رواه الدّارقطنيّ من طريق شريك عن إبراهيم بن عامر عن سعيد بن المسيّب في هذه القصّة مرسلاً , أنّه قال في جواب قوله هل تستطيع أن تصوم " إنّي لأدع الطّعام ساعةً فما أطيق ذلك " ففي إسناده مقالٌ، وعلى تقدير صحّته فلعله اعتل بالأمرين. قوله: (فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً؟ قال: لا) زاد ابن مسافر " يا رسولَ الله ". ووقع في رواية سفيان " فهل تستطيع إطعام؟ " , وفي رواية إبراهيم بن سعد وعراك بن مالك " فتطعم ستّين مسكيناً؟ قال: لا أجد " وفي رواية ابن أبي حفصة " أفتستطيع أن تطعم ستّين مسكيناً؟ قال: لا. وذكر الحاجة. وفي حديث ابن عمر " قال: والذي بعثك بالحقّ. ما أشبع أهلي " قال ابن دقيق العيد: أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى

ستّين. فلا يكون ذلك موجوداً في حقّ من أطعم ستّة مساكين عشرة أيّام مثلاً، ومن أجاز ذلك فكأنّه استنبط من النّصّ معنًى يعود عليه بالإبطال، والمشهور عن الحنفيّة الإجزاء حتّى لو أطعم الجميع مسكيناً واحداً في ستّين يوماً كفى، والمراد بالإطعام الإعطاء لا اشتراط حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في الفم. بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف. وفي إطلاق الإطعام ما يدلّ على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة، بخلاف زكاة الفرض فإنّ فيها النّصّ على الإيتاء وصدقة الفطر فإنّ فيها النّصّ على الأداء، وفي ذكر الإطعام ما يدلّ على وجود طاعمين فيخرج الطّفل الذي لَم يطعم كقول الحنفيّة، ونظر الشّافعيّ إلى النّوع فقال: يسلم لوليّه، وذكر السّتّين ليفهم أنّه لا يجب ما زاد عليها، ومن لَم يقل بالمفهوم تمسّك بالإجماع على ذلك. وذكر في حكمة هذه الخصال من المناسبة أنّ من انتهك حرمة الصّوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبةً فيفدي نفسه، وقد صحّ أنّ من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النّار. وأمّا الصّيام فمناسبته ظاهرةٌ , لأنّه كالمقاصّة بجنس الجناية، وأمّا كونه شهرين فلأنّه لَمّا أمر بمصابرة النّفس في حفظ كلّ يوم من شهر رمضان على الولاء فلمّا أفسد منه يوماً كان كمن أفسد الشّهر كلّه من حيث إنّه عبادةٌ واحدةٌ بالنّوع , فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل

المقابلة لنقيض قصده. وأمّا الإطعام. فمناسبته ظاهرةٌ لأنّه مقابلة كلّ يوم بإطعام مسكين. ثمّ أنّ هذه الخصال جامعة لاشتمالها على حقّ الله وهو الصّوم، وحقّ الأحرار بالإطعام، وحقّ الأرقّاء بالإعتاق، وحقّ الجاني بثواب الامتثال. وفيه دليلٌ على إيجاب الكفّارة بالجماع خلافاً لمن شذّ , فقال: لا تجب مستنداً إلى أنّه لو كان واجباً لَمَا سقط بالإعسار. وتعقّب: بمنع الإسقاط كما سيأتي البحث فيه. واختلفوا أيضاً. هل يلحق الوطء في الدّبر بالوطء في القبل؟، وهل يشترط في إيجاب الكفّارة كلّ وطء في أيّ فرج كان؟ وفيه دليل على جريان الخصال الثّلاث المذكورة في الكفّارة. ووقع في " المدوّنة " ولا يعرف مالكٌ غير الإطعام ولا يأخذ بعتقٍ ولا صيامٍ. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يُهتدى إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثّابت، غير أنّ بعض المحقّقين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوّله على الاستحباب في تقديم الطّعام على غيره من الخصال. ووجّهوا ترجيح الطّعام على غيره بأنّ الله ذكره في القرآن رخصةً للقادر ثمّ نسخ هذا الحكم، ولا يلزم منه نسخ الفضيلة فيترجّح الإطعام أيضاً لاختيار الله له في حقّ المفطر بالعذر، وكذا أخبر بأنّه في

حقّ من أخّر قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر، ولمناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصّيام الذي هو إمساك عن الطّعام، ولشمول نفعه للمساكين. وكلّ هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصّيام ثمّ الإطعام , سواء قلنا الكفّارة على التّرتيب أو التّخيير , فإنّ هذه البداءة إن لَم تقتض وجوب التّرتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه. واحتجّوا أيضاً: بما رواه الشيخان من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة: أنَّ رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه احترق، قال: ما لك؟، قال: أصبت أهلي في رمضان، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكتل يدعى العرق، فقال: أين المحترق قال: أنا، قال: تصدق بهذ. ولَم يقع فيه سوى الإطعام. والجواب عن ذلك: بأنّه ورد فيه من وجه آخر ذكر العتق أيضاً , فقد رواه عبد الرّحمن بن الحارث عن محمّد بن جعفر بن الزّبير بهذا الإسناد مفسّراً. ولفظه " كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جالساً في ظلّ فارعٍ - يعني بالفاء والمهملة - فجاءه رجل من بني بياضة فقال: احترقت، وقعت بامرأتي في رمضان. قال: أعتق رقبة، قال: لا أجدها، قال: أطعم ستّين مسكينا، قال: ليس عندي " فذكر الحديث. أخرجه أبو داود , ولَم يسق لفظه، وساقه ابن خزيمة في

" صحيحه " والبخاريّ في " تاريخه ". ومن طريقه البيهقيّ. ولَم يقع في هذه الرّواية أيضاً ذكر صيام شهرين، ومن حفظ حجّةٌ على من لَم يحفظ. ومن المالكيّة من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم مَن قال: إنّ الكفّارة تختلف باختلاف الأوقات: ففي وقت الشّدّة يكون بالإطعام وفي غيرها يكون بالعتق أو الصّوم. ونقلوه عن محقّقي المتأخّرين. ومنهم مَن قال: الإفطار بالجماع يكفّر بالخصال الثّلاث، وبغيره لا يكفّر إلاَّ بالإطعام. وهو قول أبي مصعب. وقال ابن جريرٍ الطّبريّ: هو مخيّر بين العتق والصّوم , ولا يطعم إلاَّ عند العجز عنهما وفي الحديث أنّه لا مدخل لغير هذه الخصال الثّلاث في الكفّارة. وجاء عن بعض المتقدّمين إهداء البدنة عند تعذّر الرّقبة، وربّما أيّده بعضهم بإلحاق إفساد الصّيام بإفساد الحجّ. وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيّب عند مالك في " الموطّأ " عن عطاء الخراسانيّ عنه، وهو مع إرساله قد ردّه سعيد بن المسيّب وكذَّبَ مَن نقَلَه عنه. كما روى سعيد بن منصور عن ابن عليّة عن خالد الحذّاء عن القاسم بن عاصم , قلت لسعيد بن المسيّب: ما حديث حدّثناه عطاءٌ الخراسانيّ عنك. في الذي وقع على امرأته في رمضان أنّه يعتق رقبة أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب. فذكر الحديث، وهكذا رواه الليث عن عمرو بن الحارث عن أيّوب عن القاسم بن

عاصم، وتابعه همّام عن قتادة عن سعيد. وذكر ابن عبد البرّ: أنّ عطاء لَم ينفرد بذلك. فقد ورد من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولاً، ثمّ ساقه بإسناده , لكنّه من رواية ليث بن أبي سليمٍ عن مجاهد، وليثٌ ضعيف. وقد اضطرب في روايته سنداً ومتناً. فلا حجّة فيه. وفي الحديث أيضاً أنّ الكفّارة بالخصال الثّلاث على التّرتيب المذكور. قال ابن العربيّ: لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نقله من أمرٍ بعد عدمه لأمرٍ آخر وليس هذا شأن التّخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة التّرتيب في السّؤال عن ذلك فقال: إنّ مثل هذا السّؤال قد يستعمل فيما هو على التّخيير. وقرّره ابن المنيّر في الحاشية: بأنّ شخصاً لو حنث فاستفتى , فقال له المفتي: أعتق رقبةً فقال: لا أجد، فقال: صم ثلاثة أيّام .. إلخ، لَم يكن مخالفاً لحقيقه التّخيير، بل يحمل على أنّ إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفّارة. وقال البيضاويّ (¬1): ترتيب الثّاني بالفاء على فقد الأوّل , ثمّ الثّالث بالفاء على فقد الثّاني , يدلّ على عدم التّخيير مع كونها في معرض البيان وجواب السّؤال فينزّل منزلة الشّرط للحكم. ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي , سبق ترجمته (1/ 191)

وسلك الجمهور في ذلك مسلك التّرجيح: بأنّ الذين رووا التّرتيب عن الزّهريّ أكثر ممّن روى التّخيير. وتعقّبه ابن التّين: بأنّ الذين رووا التّرتيب. ابن عيينة ومعمرٌ والأوزاعيّ، والذين رووا التّخيير. مالك وابن جريجٍ وفليح بن سليمان وعمرو بن عثمان المخزوميّ. وهو كما قال في الثّاني دون الأوّل، فالذين رووا التّرتيب في البخاريّ الذي أيضاً إبراهيم بن سعد والليث بن سعد وشعيب بن أبي حمزة ومنصور، ورواية هذين في هذا الباب الذي نشرحه وفي الذي يليه، فكيف غفل ابن التّين عن ذلك. وهو ينظر فيه؟. بل روى التّرتيب عن الزّهريّ كذلك تمام ثلاثين نفساً أو أزيد. ورجَح التّرتيب أيضاً بأنَّ راويه حكى لفظ القصّة على وجهها , فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التّخيير حكى لفظ راوي الحديث. فدلَّ على أنّه من تصرّف بعض الرّواة. إمّا لقصد الاختصار أو لغير ذلك. ويترجّح التّرتيب أيضاً: بأنّه أحوط , لأنّ الأخذ به مجزئٌ سواءٌ قلنا بالتّخيير أو لا بخلاف العكس. وجمع بعضهم بين الرّوايتين كالمُهلَّب والقرطبيّ: بالحمل على التّعدّد. وهو بعيدٌ , لأنّ القصّة واحدة والمخرج متّحدٌ , والأصل عدم التّعدّد. وبعضهم: حمل التّرتيب على الأولويّة والتّخيير على الجواز.

وعكسه بعضهم فقال: " أو " في الرّواية الأخرى ليست للتّخيير وإنّما هي للتّفسير والتّقدير، أمر رجلاً أن يعتق رقبة أو يصوم إن عَجَزَ عن العتق , أو يطعم إن عجَز عنهما. وذكر الطّحاويّ: أنّ سبب إتيان بعض الرّواة بالتّخيير أنّ الزّهريّ راوي الحديث قال في آخر حديثه " فصارت الكفّارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو الإطعام ". قال: فرواه بعضهم مختصراً مقتصراً على ما ذكر الزّهريّ أنّه آل إليه الأمر. قال: وقد قصّ عبد الرّحمن بن خالد بن مسافر عن الزّهريّ القصّة على وجهها , ثمّ ساقه من طريقه مثل حديث الباب إلى قوله " أطعمه أهلك " قال: فصارت الكفّارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستّين مسكيناً. قلت: وكذلك رواه الدّارقطنيّ في " العلل " من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزّهريّ. وقال في آخره " فصارت سنّة عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستّين مسكيناً ". قوله: (فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -) كذا رواه أبو نعيم في " المستخرج " من وجهين عن أبي اليمان " فسكت " بالمهملة والكاف المفتوحة والمثنّاة، وكذا ابن مسافر وابن أبي الأخضر. وفي رواية ابن عيينة " فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اجلس. فجلس ". وللبخاري " فمكث عند النبي - صلى الله عليه وسلم - " بالميم والكاف المفتوحة، ويجوز ضمّها والثّاء المثلثة.

قوله: (فبينا نحن على ذلك) في رواية ابن عيينة " فبينما هو جالس كذلك ". قال بعضهم: يحتمل: أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحى إليه في حقّه، ويحتمل: أنّه كان عرف أنّه سيؤتى بشيءٍ يعينه به، ويحتمل: أن يكون أسقط عنه الكفّارة بالعجز. وهذا الثّالث ليس بقويٍّ , لأنّها لو سقطت ما عادت عليه حيث أمره بها بعد إعطائه إيّاه المكتل. قوله: (أُتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) كذا للأكثر بضمّ أوّله على البناء للمجهول وهو جواب " بينا " في هذه الرّواية. وأمّا رواية ابن عيينة المشار إليها فقال فيها " إذ أتي " , لأنّه قال فيها " فبينما هو جالس " وقد تقدّم تقرير ذلك. والآتي المذكور لَم يُسمّ , لكن وقع في رواية معمر عند البخاري " فجاء رجلٌ من الأنصار " وعند الدّارقطنيّ من طريق داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيّب مرسلاً " فأتى رجلٌ من ثقيف " فإن لَم يحمل على أنّه كان حليفاً للأنصار , أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعمّ. وإلَّا فرواية الصّحيح أصحّ. ووقع في رواية ابن إسحاق " فجاء رجلٌ بصدقته يحملها " وفي مرسل الحسن عند سعيد بن منصور " بتمرٍ من تمر الصّدقة ". قوله: (بعَرَقٍ) بفتح المهملة والرّاء بعدها قافٌ. قال ابن التّين: كذا لأكثر الرّواة، وفي رواية أبي الحسن يعني

القابسيّ بإسكان الرّاء. قال عياض: والصّواب الفتح. وقال ابن التّين: أنكر بعضهم الإسكان , لأنّ الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم. قلت: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم فلينكر الفتح , لأنّه يشترك مع الماء الذي يتحلب من الجسد. نعم. الرّاجح من حيث الرّواية الفتح ومن حيث اللّغة أيضاً، إلاَّ أنّ الإسكان ليس بمنكرٍ , بل أثبته بعض أهل اللّغة كالقزّاز. قوله: (والعرق المِكتل) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثنّاة بعدها لام، زاد ابن عيينة عند الإسماعيليّ وابن خزيمة: المكتل الضّخم. قال الأخفش: سُمِّي المكتل عَرْقاً , لأنّه يضفّر عرقةً عرقةً جمع. فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقةٍ، والعرقة الضّفيرة من الخوص. وقوله " والعرق المكتل " تفسير من أحد رواته، وظاهر هذه الرّواية أنّه الصّحابيّ، لكن في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنّه الزّهريّ، وفي رواية منصور في البخاري " فأتي بعرقٍ فيه تمر وهو الزّبيل ". وفي رواية ابن أبي حفصة " فأتي بزبيل وهو المكتل ". والزّبيل بفتح الزّاي وتخفيف الموحّدة بعدها تحتانيّة ساكنة ثمّ لام بوزن رغيف. هو المكتل. قال ابن دريدٍ: يسمّى زبيلاً لحمل الزّبل فيه، وفيه لغة أخرى زنبيل بكسر الزّاي أوّله وزيادة نونٍ ساكنة , وقد تدغم النّون فتشدّد

الباء مع بقاء وزنه، وجمعه على اللّغات الثّلاث زنابيل. ووقع في بعض طرق عائشة عند مسلمٍ " فجاءه عرقان " والمشهور في غيرها عرق. ورجّحه البيهقيّ. وجمع غيره بينهما بتعدّد الواقعة. وهو جمعٌ لا نرضاه لاتّحاد مخرج الحديث , والأصل عدم التّعدّد. والذي يظهر أنّ التّمر كان قدر عرق , لكنّه كان في عرقين في حال التّحميل على الدّابّة ليكون أسهل في الحمل. فيحتمل أنّ الآتي به لَمّا وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمَن قال عرقان أراد ابتداء الحال , ومَن قال عرق أراد ما آل إليه، والله أعلم. قوله: (أين السّائل؟) زاد ابن مسافر " آنفاً " أطلق عليه ذلك , لأنّ كلامه متضمّن للسّؤال. فإنّ مراده هلكت فما ينجيني وما يخلصني مثلاً؟، وفي حديث عائشة " أين المحترق آنفاً "؟. وقد تقدّم توجيهه. ولَم يعيّن في هذه الرّواية مقدار ما في المكتل من التّمر , بل ولا في شيء من طرق الصّحيحين في حديث أبي هريرة. ووقع في رواية ابن أبي حفصة " فيه خمسة عشر صاعاً " , وفي رواية مؤمّلٍ عن سفيان " فيه خمسة عشر أو نحو ذلك " , وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثّوريّ عن ابن خزيمة " فيه خمسة عشر أو عشرون " وكذا هو عند مالك وعبد الرّزّاق في مرسل سعيد بن المسيّب. وفي مرسله عند الدّارقطنيّ الجزم بعشرين صاعاً. ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيمة " فأتي بعرقٍ فيه عشرون صاعاً ".

قال البيهقيّ: قوله " عشرون صاعاً " بلاغٌ بلغ محمّد بن جعفر. يعني بعض رواته، وقد بيّن ذلك محمّد بن إسحاق عنه فذكر الحديث. وقال في آخره: قال محمّد بن جعفر: فحدّثت بعد أنّه كان عشرين صاعاً من تمر. قلت: ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدّد " فأمر له ببعضه ". وهذا يجمع الرّوايات، فمَن قال: إنّه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومَن قال: خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفّارة. ويبيّن ذلك حديث عليٍّ عند الدّارقطنيّ " تطعم ستّين مسكيناً لكل مسكينٍ مدٌّ " وفيه " فأتي بخمسة عشر صاعاً , فقال: أطعمه ستّين مسكيناً " وكذا في رواية حجّاج عن الزّهريّ عند الدّارقطنيّ في حديث أبي هريرة. وفيه ردٌّ على الكوفيّين في قولهم: إنّ واجبه من القمح ثلاثون صاعاً ومن غيره ستّون صاعاً، ولقول عطاء: إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعاً، وعلى أشهب في قوله: لو غدّاهم أو عشّاهم كفي تصدّق الإطعام، ولقول الحسن: يطعم أربعين مسكيناً عشرين صاعاً أو بالجماع أطعم خمسة عشر. وفيه ردٌّ على الجوهريّ حيث قال في الصّحاح: المكتل يشبه الزّبيل يسع خمسة عشر صاعاً لأنّه لا حصر في ذلك، وروي عن مالك أنّه قال: يسع خمسة عشر أو عشرين , ولعله قال ذلك في هذه القصّة

الخاصّة فيوافق رواية مهران , وإلا فالظّاهر أنّه لا حصر في ذلك. والله أعلم. وأمّا ما وقع في رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة عند الطّبرانيّ في " الأوسط " , أنّه أتي بمكتل فيه عشرون صاعاً فقال: تصدّق بهذا. وقال قبل ذلك: تصدّق بعشرين صاعاً أو بتسع عشرة أو بإحدى وعشرين. فلا حجّة فيه لِمَا فيه من الشّكّ، ولأنّه من رواية ليث بن أبي سليمٍ وهو ضعيف , وقد اضطرب فيه، وفي الإسناد إليه مع ذلك من لا يحتجّ به. ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم " فجاءه عرقان فيهما طعام " ووجهه - إن كان محفوظاً - ما تقدّم قريباً. والله أعلم قوله: (خذ هذا فتصدّق به) كذا للأكثر. ومنهم من ذكره بمعناه. وزاد ابن إسحاق " فتصدّق به عن نفسك " , ويؤيّده رواية منصور في البخاري بلفظ " أطعم هذا عنك " ونحوه في مرسل سعيد بن المسيّب من رواية داود بن أبي هند عنه عند الدّارقطنيّ، وعنده من طريق ليث عن مجاهد عن أبي هريرة " نحن نتصدّق به عنك " القول الأول. استدل بإفراده بذلك على أنّ الكفّارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة " هل تستطيع " و " هل تجد " وغير ذلك، وهو الأصحّ من قولي الشّافعيّة , وبه قال الأوزاعيّ. القول الثاني: قال الجمهور وأبو ثور وابن المنذر: تجب الكفّارة على

المرأة أيضاً , على اختلافٍ وتفاصيل لهم في الحرّة والأمة والمطاوعة والمكرهة , وهل هي عليها أو على الرّجل عنها؟. واستدل الشّافعيّة بسكوته - صلى الله عليه وسلم - عن إعلام المرأة. بوجوب الكفّارة مع الحاجة. وأجيب: بمنع وجود الحاجة إذ ذاك , لأنّها لَم تعترف , ولَم تسأل. واعتراف الزّوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لَم تعترف، وبأنّها قضيّة حالٍ فالسّكوت عنها لا يدلّ على الحكم. لاحتمال أن تكون المرأة لَم تكن صائمة لعذرٍ من الأعذار. ثمّ إنّ بيان الحكم للرّجل بيان في حقّها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصّوم كما لَم يأمره بالغسل. والتّنصيص على الحكم في حقّ بعض المكلفين كافٍ عن ذكره في حقّ الباقين. ويحتمل: أن يكون سبب السّكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنّها لا قدرة لها على شيء. وقال القرطبيّ: اختلفوا في الكفّارة. هل هي على الرّجل وحده على نفسه فقط , أو عليه وعليها , أو عليه كفّارتان عنه وعنها , أو عليه عن نفسه وعليها عنها؟. وليس في الحديث ما يدلّ على شيء من ذلك , لأنّه ساكت عن المرأة فيؤخذ حكمها من دليل آخر. مع احتمال أن يكون سبب السّكوت أنّها كانت غير صائمة. واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث " هلكتُ

وأهلكتُ " وهي زيادة فيها مقال. فقال ابن الجوزيّ: في قوله " وأهلكت " تنبيهٌ على أنّه أكرهها ولولا ذلك لَم يكن مهلكاً لها. قلت: ولا يلزم من ذلك تعدّد الكفّارة بل لا يلزم من قوله " وأهلكت " إيجاب الكفّارة عليها، بل يحتمل أن يريد بقوله " هلكت " أثمت " وأهلكت " أي: كنت سبباً في تأثيم من طاوعتني فواقعها. إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوِعة , ولا يلزم من ذلك إثبات الكفّارة ولا نفيها. أو المعنى " هلكت " أي: حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفّارته، " وأهلكت " أي: نفسي بفعلي الذي جرّ عليّ الإثم. وهذا كلّه بعد ثبوت الزّيادة المذكورة، وقد ذكر البيهقيّ: أنّ للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء. ومحصّل القول فيها , أنّها وردت من طريق الأوزاعيّ , ومن طريق ابن عيينة. أمّا الأوزاعيّ: فتفرّد بها محمّد بن المسيّب عن عبد السّلام بن عبد الحميد عن عمر بن عبد الواحد والوليد بن مسلم وعن محمّد بن عقبة بن (¬1) علقمة عن أبيه ثلاثتهم عن الأوزاعيّ. قال البيهقيّ: رواه جميع أصحاب الأوزاعيّ بدونها , وكذلك جميع الرّواة عن الوليد وعقبة وعمر، ومحمّد بن المسيّب كان حافظاً مكثراً. ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع (عن علقمة) وهي تصحيف.

إلاَّ أنّه كان في آخر أمره عمي فلعلَّ هذه اللفظة أدخلت عليه، وقد رواه أبو عليٍّ النّيسابوريّ عنه بدونها. ويدلّ على بطلانها ما رواه العبّاس بن الوليد عن أبيه قال: سئل الأوزاعيّ عن رجل جامع امرأته في رمضان قال: عليهما كفّارة واحدة إلاَّ الصّيام، قيل له: فإن استكرهها؟ قال: " عليه الصّيام وحده ". وأمّا ابن عيينة: فتفرّد بها أبو ثور عن معلى بن منصور عنه. قال الخطّابيّ: المعلَّى ليس بذاك الحافظ. وتعقّبه ابن الجوزيّ: بأنّه لا يعرِف أحداً طعن في المعلى. وغفل عن قول الإمام أحمد , إنّه كان يخطئ كل يومٍ في حديثين أو ثلاثةٍ، فلعله حدّث من حفظه بهذا فوهم، وقد قال الحاكم: وقفت على " كتاب الصّيام للمعلى " بخطٍّ موثوقٍ به , وليست هذه اللفظة فيه. وزعم ابن الجوزيّ: أنّ الدّارقطنيّ أخرجه من طريق عقيلٍ أيضاً. وهو غلطٌ منه. فإنّ الدّارقطنيّ لَم يخرج طريق عقيلٍ في " السّنن " وقد ساقه في " العلل " بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزيّ بدونها. تنْبيه: القائل بوجوب كفّارةٍ واحدةٍ على الزّوج عنه وعن موطوءته , يقول: يعتبر حالهما. فإن كانا من أهل العتق أجزأت رقبة، وإن كانا من أهل الإطعام أطعم ما سبق، وإن كانا من أهل الصّيام صاما جميعاً، فإن اختلف حالهما ففيه تفريعٌ محلّه كتب الفروع.

قوله: (فقال الرّجل: على أفقر منّي) أي: أتصدّق به على شخصٍ أفقر منّي؟ وهذا يشعر بأنّه فهم الإذن له في التّصدّق على من يتّصف بالفقر، وقد بيّن ابن عمر في حديثه ذلك. فزاد فيه " إلى من أدفعه؟ قال: إلى أفقر من تعلم " أخرجه البزّار والطّبرانيّ في " الأوسط ". وفي رواية إبراهيم بن سعد " أعلى أفقر من أهلي "؟ ولابن مسافر " أعلى أهل بيت أفقر منّي "؟ , وللأوزاعيّ " أعلى غير أهلي "؟ ولمنصورٍ " أعلى أحوج منّا " , ولابن إسحاق " وهل الصّدقة إلاَّ لي وعليّ "؟ قوله: (فوالله ما بين لابتيها) تثنية لابةٍ بتخفيف الموحدة. وهي الحرة وهي الحجارة السود , والضّمير للمدينة , لأنها بين لابتين شرقية وغربية , ولها لابتان أيضاً من الجانبين الآخرين إلاَّ أنهما يرجعان إلى الأولين لاتصالهما بهما. قوله: (يريد الحرّتين) من كلام بعض رواته، زاد في رواية ابن عيينة ومعمرٍ " والذي بعثك بالحقّ " , ووقع في حديث ابن عمر المذكور " ما بين حرّتيها ". وفي رواية الأوزاعيّ عند البخاري " والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة " تثنية طنب - وهو بضمّ الطّاء المهملة بعدها نون - والطّنب أحد أطناب الخيمة فاستعاره للطّرف. قوله: (أهل بيت أفقر من أهل بيتي) زاد يونس " منّي ومن أهل بيتي " وفي رواية إبراهيم بن سعد " أفقر منّا ". وأفقر بالنّصب على

أنّها خبر ما النّافية، ويجوز الرّفع على لغة تميم. وفي رواية عقيل " ما أحدٌ أحقّ به من أهلي، ما أحدٌ أحوج إليه منّي " وفي أحقّ وأحوج ما في أفقر. وفي مرسل سعيد من رواية داود عنه " والله ما لعيالي من طعام " , وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة " ما لنا عشاء ليلةٍ " قوله: (فضحك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتّى بدت أنيابه) في رواية ابن إسحاق " حتّى بدت نواجذه " (¬1) ولأبي قرّة في " السّنن " عن ابن جريجٍ " حتّى بدت ثناياه " ولعلها تصحيف من أنيابه. فإنّ الثّنايا تبين بالتّبسّم غالباً , وظاهر السّياق إرادة الزّيادة على التّبسّم. ويُحمل ما ورد في صفته - صلى الله عليه وسلم - أنّ ضحكه كان تبسّماً على غالب أحواله، وقيل: كان لا يضحك إلاَّ في أمرٍ يتعلق بالآخرة. فإن كان في أمر الدّنيا لَم يزد على التّبسّم. قيل: وهذه القضيّة تعكّر عليه , وليس كذلك. فقد قيل: إنّ سبب ضحكه - صلى الله عليه وسلم - كان من تباين حال الرّجل حيث جاء خائفاً على نفسه راغباً في فدائها مهما أمكنه، فلمّا وجد الرّخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفّارة. وقيل: ضحك من حال الرّجل في مقاطع كلامه وحسن تأتّيه وتلطّفه في الخطاب وحسن توسّله في توصّله إلى مقصوده. ¬

_ (¬1) وهذه الرواية أخرجها البخاري أيضاً في صحيحه (6709) من طريق سفيان عن الزهري به.

والذي يظهر من مجموع الأحاديث: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان في معظم أحواله لا يزيد على التّبسّم، وربّما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنّما هو الإكثار منه أو الإفراط فيه , لأنّه يذهب الوقار. قال ابن بطّال: والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله ما واظب عليه من ذلك، فقد روى البخاريّ في " الأدب المفرد " وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة رفعه " لا تكثر الضّحك. فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب ". قوله: (ثمّ قال: أطعمه أهلك) كذا في رواية شعيب , وتابعه معمر وابن أبي حفصة، وفي رواية لابن عيينة في البخاري " أطعمه عيالك " ولإبراهيم بن سعد " فأنتم إذاً " وقدّم على ذلك ذكر الضّحك، ولأبي قرّة عن ابن جريجٍ " ثمّ قال: كله " ونحوه ليحيى بن سعيد وعراك. وجمع بينهما ابن إسحاق ولفظه " خذها وكلها وأنفقها على عيالك " ونحوه في رواية عبد الجبّار وحجّاج وهشام بن سعد كلّهم عن الزّهريّ، ولابن خزيمة في حديث عائشة " عد به عليك وعلى أهلك ". وقال ابن دقيق العيد: تباينت في هذه القصّة المذاهب. فقيل: إنّه دلَّ على سقوط الكفّارة بالإعسار المقارن لوجوبها , لأنّ الكفّارة لا تصرف إلى النّفس ولا إلى العيال، ولَم يبيّن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - استقرارها في ذمّته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشّافعيّة , وجزم به

عيسى بن دينار من المالكيّة. وقال الأوزاعيّ: يستغفر الله , ولا يعود. ويتأيّد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها وهو هلال الفطر، لكنّ الفرق بينهما أنّ صدقة الفطر لها أمدٌ تنتهي إليه، وكفّارة الجماع لا أمد لها فتستقرّ في الذّمّة، وليس في الخبر ما يدلّ على إسقاطها بل فيه ما يدلّ على استمرارها على العاجز. وقال الجمهور: لا تسقط الكفّارة بالإعسار، والذي أذن له في التّصرّف فيه ليس على سبيل الكفّارة. ثمّ اختلفوا: فقال الزّهريّ: هو خاصّ بهذا الرّجل، وإلى هذا نحا إمام الحرمين (¬1)، وردّ بأنّ الأصل عدم الخصوصيّة. وقال بعضهم: هو منسوخ، ولَم يبيّن قائله ناسخه. وقيل: المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وهو قول بعض الشّافعيّة، وضعّف بالرّواية الأخرى التي فيها عيالك، وبالرّواية المصرّحة بالإذن له في الأكل من ذلك. وقيل: لَمّا كان عاجزاً عن نفقة أهله. جاز له أن يصرف الكفّارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الذي حمل أصحاب الأقوال الماضية على ما قالوه بأنّ المرء لا يأكل من كفّارة نفسه. قال الشّيخ تقيّ الدّين: وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على ¬

_ (¬1) هو عبدالملك الجويني , سبق ترجمته (1/ 283)

جهة الكفّارة , بل على جهة التّصدّق عليه وعلى أهله بتلك الصّدقة لِمَا ظهر من حاجتهم، وأمّا الكفّارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمّته مأخوذاً من هذا الحديث. وأمّا ما اعتلّوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه، لأنّ العلم بالوجوب قد تقدّم، ولَم يرد في الحديث ما يدلّ على الإسقاط , لأنّه لَمّا أخبره بعجزه ثمّ أمره بإخراج العرق دلَّ على أن لا سقوط عن العاجز، ولعله أخّر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة. انتهى وقد ورد ما يدلّ على إسقاط الكفّارة أو على إجزائها عنه بإنفاقه إيّاها على عياله وهو قوله في حديث عليٍّ " وكله أنت وعيالك. فقد كفّر الله عنك ". ولكنّه حديثٌ ضعيفٌ لا يحتجّ بما انفرد به. والحقّ أنّه لَمّا قال له - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فتصدّق به. لَم يقبضه , بل اعتذر بأنّه أحوج إليه من غيره فأذن له حينئذٍ في أكله، فلو كان قبضه لملكه ملكاً مشروطاً بصفةٍ وهو إخراجه عنه في كفّارته. فينبني على الخلاف المشهور في التّمليك المقيّد بشرطٍ، لكنّه لَمّا لَم يقبضه لَم يملكه، فلمّا أذن له - صلى الله عليه وسلم - في إطعامه لأهله وأكله منه كان تمليكاً مطلقاً بالنّسبة إليه وإلى أهله وأخذهم إيّاه بصفة الفقر المشروحة. وقد تقدّم أنّه كان من مال الصّدقة، وتصرّف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه تصرّف الإمام في إخراج مال الصّدقة، واحتمل إنّه كان تمليكاً بالشّرط الأوّل. ومن ثَمَّ نشأ الإشكال.

والأوّل أظهر. فلا يكون فيه إسقاط , ولا أكل المرء من كفّارة نفسه , ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفّارة نفسه. وأمّا ترجمة البخاريّ الباب الذي يليه " بابٌ المُجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفّارة إذا كانوا محاويج " فليس فيه تصريح بما تضمنّه حكم التّرجمة. وإنّما أشار إلى الاحتمالين المذكورين بإتيانه بصيغة الاستفهام. والله أعلم. واستدل به على جواز إعطاء الصّدقة جميعها في صنفٍ واحدٍ. وفيه نظرٌ , لأنّه لَم يتعيّن أنّ ذلك القدر هو جميع ما يجب على ذلك الرّجل الذي أحضر التّمر. واستُدل به: وهو القول الأول. على سقوط قضاء اليوم الذي أفسده المُجامع اكتفاءً بالكفّارة، إذ لَم يقع التّصريح في الصّحيحين بقضائه , وهو محكيٌّ في مذهب الشّافعيّ. القول الثاني: عن الأوزاعيّ: يقضي إن كفّر بغير الصّوم , وهو وجهٌ للشّافعيّة أيضاً. قال ابن العربيّ: إسقاط القضاء لا يشبه منصب الشّافعيّ. إذ لا كلام في القضاء لكونه أفسد العبادة , وأمّا الكفّارة فإنّما هي لِمَا اقترف من الإثم، قال: وأمّا كلام الأوزاعيّ فليس بشيء. قلت: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبد الجبّار وهشام بن سعد كلّهم عن الزّهريّ، وأخرجه البيهقيّ

من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزّهريّ، وحديث إبراهيم بن سعد في الصّحيح عن الزّهريّ نفسه بغير هذه الزّيادة، وحديث الليث عن الزّهريّ في الصّحيحين بدونها، ووقعت الزّيادة أيضاً في مرسل سعيد بن المسيّب ونافع بن جبير والحسن ومحمّد بن كعب. وبمجموع هذه الطّرق تعرف أنّ لهذه الزّيادة أصلاً. (¬1) ¬

_ (¬1) قال البخاري في " صحيحه " في كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان , ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه. وبه قال ابن مسعود , وقال سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يوماً مكانه. انتهى قال الشارح رحمه الله: قوله: (باب إذا جامع في رمضان) أي: عامداً عالماً وجبت عليه الكفارة. وقوله: (ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوما من رمضان من غير عذرٍ ولا مرضٍ لم يقضه صيام الدهر وإن صامه) وصله أصحاب السنن الأربعة وصحَّحه ابن خزيمة من طريق سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير عن أبي المطوّس عن أبيه عن أبي هريرة نحوه، وفي رواية شعبة " في غير رخصة رخصها الله تعالى له لم يقض عنه وإن صام الدهر كله ". قال الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس لا أعرف له غير هذا الحديث. وقال البخاري في التاريخ أيضا: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث , ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا. قلت: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب , والجهل بحال أبي المطوس , والشك في سماع أبيه من أبي هريرة. وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء. وذكر ابن حزم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفاً. قال ابن بطال: أشار بهذا الحديث إلى إيجاب الكفارة على من أفطر بأكل أو شرب قياساً على الجماع، والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدا. وقرر ذلك الزين بن المنير بأنه ترجم بالجماع لأنه الذي ورد فيه الحديث المسند، وإنما ذكر آثار الإفطار ليفهم أن الإفطار بالأكل والجماع واحد. انتهى. والذي يظهر لي أنَّ البخاري أشار بالآثار التي ذكرها إلى أن إيجاب القضاء مختلف فيه بين السلف، وأنَّ الفطر بالجماع لا بد فيه من الكفارة. وأشار بحديث أبي هريرة إلى أنه لا يصحّ لكونه لم يجزم به عنه، وعلى تقدير صحته فظاهره يقوِّي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته لأنَّ مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، لكن لا يلزم من عدم القضاء عدم الكفارة فيما ورد فيه الأمر بها وهو الجماع. والفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح القياس المذكور. انتهى.

ويؤخذ من قوله " صم يوماً " عدم اشتراط الفوريّة للتّنكير في قوله " يوماً ". وفي الحديث من الفوائد - غير ما تقدّم - السّؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفاً للشّرع، والتّحدّث بذلك لمصلحة معرفة الحكم. واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه. لقوله " واقعت أو أصبت " على أنّه قد ورد في بعض طرقه - كما تقدّم - وطئت، والذي يظهر أنّه من تصرّف الرّواة. وفيه الرّفق بالمتعلم والتّلطّف في التّعليم والتّألّف على الدّين، والنّدم على المعصية، واستشعار الخوف. وفيه الجلوس في المسجد لغير الصّلاة من المصالح الدّينيّة كنشر العلم، وفيه جواز الضّحك عند وجود سببه، وإخبار الرّجل بما يقع منه مع أهله للحاجة. وفيه الحلف لتأكيد الكلام، وقبول قول المكلف ممّا لا يطّلع عليه إلاَّ من قِبَله. لقوله في جواب قوله أفقر منّا " أطعمه أهلك " ويحتمل

: أن يكون هناك قرينة لصدقه. وفيه التّعاون على العبادة والسّعي في إخلاص المسلم وإعطاء الواحد فوق حاجته الرّاهنة، وإعطاء الكفّارة أهل بيتٍ واحدٍ، وأنّ المضطرّ إلى ما بيده لا يجب عليه أن يعطيه أو بعضه لمضطرٍّ آخر. واستدل به البخاري بأن قبض الهبة جائز وإن لَم يقل قبلت , ونقل فيه ابن بطّال اتّفاق العلماء، وأنّ القبض في الهبة هو غاية القبول، وغفل رحمه الله عن مذهب الشّافعيّ، فإنّ الشّافعيّة يشترطون القبول في الهبة دون الهديّة، إلاَّ إن كانت الهبة ضمنيّة كما لو قال: أعتق عبدك عنّي. فعتقه عنه فإنّه يدخل في ملكه هبة ويعتق عنه , ولا يشترط القبول. ومقابل إطلاق ابن بطّال قول الماورديّ: قال الحسن البصريّ: لا يعتبر القبول في الهبة كالعتق، قال: وهو قول شذّ به عن الجماعة , وخالف فيه الكافّة , إلاَّ أن يريد الهديّة فيحتمل. انتهى. على أنّ في اشتراط القبول في الهديّة وجهاً عند الشّافعيّة. والغرض منه أنّه - صلى الله عليه وسلم - أعطى الرّجل التّمر فقبضه ولَم يقل قبِلت، ثمّ قال له: " اذهب فأطعمه أهلك ". ولمن اشترط القبول أن يجيب عن هذا بأنّها واقعة عين فلا حجّة فيها، ولَم يصرّح فيها بذكر القبول ولا بنفيه، وقد اعترض الإسماعيليّ بأنّه ليس في الحديث أنّ ذلك كان هبة، بل لعله كان من الصّدقة فيكون قاسماً لا واهباً. انتهى

وقد تقدّم التّصريح بأنّ ذلك كان من الصّدقة، وكأنّ البخاري يجنح إلى أنّه لا فرق في ذلك. وفيه أنه كما جاز إعانة المعسر بالكفّارة عن وقاعه في رمضان كذلك تجوز إعانة المعسر بالكفّارة عن يمينه إذا حنث فيه. قال ابن المنير: قوله " أطعمه أهلك " إذا جاز إعطاء الأقرباء. فالبعداء أجوز، وقاس البخاري كفّارة اليمين على كفّارة الجماع في الصّيام في إجازة الصّرف إلى الأقرباء. قلت: وهو على رأي من حمل قوله " أطعمه أهلك " على أنّه في الكفّارة، وأمّا من حمله على أنّه أعطاه التّمر المذكور في الحديث لينفقه عليهم وتستمرّ الكفّارة في ذمّته إلى أن يحصل له يسرةٌ فلا يتّجه الإلحاق، وكذا على قول من يقول تسقط عن المعسر مطلقاً. وقد تقدّم البحث فيه، ومذهب الشّافعيّ جواز إعطاء الأقرباء إلاَّ من تلزمه نفقته. ومن فروع المسألة. القول الأول: اشتراط الإيمان فيمن يعطيه. وهو قول الجمهور. القول الثاني: أجاز أصحاب الرّأي إعطاء أهل الذّمّة منه. ووافقهم أبو ثور. القول الثالث: قال الثّوريّ: يجزئ إن لَم يجد المسلمين، وأخرج ابن أبي شيبة عن النّخعيّ والشّعبيّ مثله , وعن الحكم كالجمهور. وقد اعتنى به بعض المتأخّرين ممّن أدركه شيوخنا. فتكلَّم على

الحديث في مجلدين جمع فيهما ألف فائدةٍ وفائدةٍ، ومحصّله إن شاء الله تعالى فيما لخّصته مع زياداتٍ كثيرةٍ عليه، فلله الحمد على ما أنعم.

باب الصوم في السفر وغيره.

باب الصوم في السّفر وغيره. الحديث الثامن 189 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ حمزة بن عمرٍو الأسلميّ , قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أأصوم في السّفر؟ - وكان كثير الصّيام - فقال: إن شئت فصم , وإن شئت فأفطر. (¬1) قوله: (أنّ حمزة بن عمرو الأسلميّ) هكذا رواه الحفّاظ عن هشامٍ، وقال عبد الرّحيم بن سليمان عند النّسائيّ , والدّراورديّ عند الطّبرانيّ , ويحيى بن عبد الله بن سالمٍ عند الدّارقطنيّ ثلاثتهم: عن هشام عن أبيه عن عائشة عن حمزة بن عمرو. جعلوه من مسند حمزة , والمحفوظ أنّه من مسند عائشة. ويحتمل: أن يكون هؤلاء لَم يقصدوا بقولهم " عن حمزة " الرّواية عنه , وإنّما أرادوا الإخبار عن حكايته , فالتّقدير عن عائشة عن قصّة حمزة , أنّه سأل. لكن قد صحّ مجيء الحديث من رواية حمزة، فأخرجه مسلم من طريق أبي الأسود عن عروة عن أبي مراوح عن حمزة، وكذلك رواه محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن عروة , لكنّه أسقط أبا مراوح , والصّواب إثباته، وهو محمولٌ على أنّ لعروة فيه طريقين: سمعه من عائشة، وسمعه من أبي مراوح عن حمزة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1941) ومسلم (1121) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به.

قوله: (أأصوم في السّفر إلخ) قال ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنّه صوم رمضان فلا يكون فيه حجّة على من منع صيام رمضان في السّفر. قلت: وهو كما قال بالنّسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مراوح التي ذكرتها عند مسلم , أنّه قال: يا رسولَ الله أجد بي قوّةً على الصّيام في السّفر. فهل عليّ جناحٌ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه. وهذا يشعر بأنّه سأل عن صيام الفريضة، وذلك أنّ الرّخصة إنّما تطلق في مقابلة ما هو واجب. وأصرح من ذلك. ما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق محمّد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنّه قال: يا رسولَ الله إنّي صاحب ظهرٍ أعالجه. أسافر عليه وأكريه، وأنّه ربّما صادفني هذا الشّهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوّة، وأجدني أن أصوم أهون عليّ من أن أوخّره فيكون ديناً عليّ، فقال: أيّ ذلك شئت يا حمزة (¬1). قوله: (وكان كثير الصوم) في رواية لهما " أسرد الصّوم " أي: أتابعه. واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدّهر، ولا دلالة فيه لأنّ التّتابع يصدق بدون صوم الدّهر، فإن ثبت النّهي عن صوم الدّهر لَم يعارضه هذا الإذن بالسّرد، بل الجمع بينهما واضحٌ. ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله في شرح حديث جابر رقم (192) كلامُ أهل العلم في حكم الصوم في السفر.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 190 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: كنّا نسافر مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فلم يعب الصّائم على المفطر. ولا المفطر على الصّائم (¬1). قوله: (عن أنس) في رواية أبي خالد عند مسلم عن حميدٍ التّصريح بالإخبار بين حميدٍ وأنسٍ، ولفظه عن حميدٍ: خرجت فصمت , فقالوا لي: أعد، فقلت: إنّ أنساً أخبرني , أنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسافرون فلا يعيب الصّائم على المفطر ولا المفطر على الصّائم، قال حميدٌ: فلقيت ابن أبي مُلَيْكة. فأخبرني عن عائشة مثله. قوله: (كنّا نسافر مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في حديث أبي سعيد عند مسلم " كنّا نغزو مع رسول الله. فلا يجد الصّائم على المفطر ولا المفطر على الصّائم، يرون أنّ من وجد قوّة فصام فإنّ ذلك حسنٌ، ومن وجد ضعفاً فأفطر إنّ ذلك حسن ". وهذا التّفصيل هو المعتمد، وهو نصٌّ رافعٌ للنّزاع كما تقدّم (¬2). والله أعلم تنْبيه: نقل ابن عبد البرّ عن محمّد بن وضّاح , أنّ مالكاً تفرّد بسياق هذا الحديث على هذا اللفظ. وتعقّبه: بأنّ أبا إسحاق الفزاريّ وأبا ضمرة وعبد الوهّاب الثّقفيّ وغيرهم رووه عن حميدٍ مثل مالكٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1845) من طريق مالك , ومسلم (1845) من طريق أبي خيثمة وأبي خالد كلهم عن حميد عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) وسيأتي إن شاء الله نقل اختلاف أهل العلم في هذه المسألة. مع ذكر أدلةِ كلِ فريقٍ. في حديث جابر (192).

الحديث العاشر

الحديث العاشر 191 - عن أبي الدّرداء - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان. في حرٍّ شديدٍ , حتّى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدّة الحرّ. وما فينا صائمٌ إلاَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة. (¬1) قوله: (عن أبي الدّرداء - رضي الله عنه -) الأنصاري. اسمه عويمر. (¬2) قوله: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حرٍّ شديدٍ) كذا لمسلم , وللبخاري " في بعض أسفاره " وبهذا يتمّ الرّدّ على أبي محمّد بن حزمٍ في زعمه. أنّ حديث أبي الدّرداء هذا لا حجّة فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1843) ومسلم (1122) من طريق إسماعيل بن عبيد الله , ومسلم (1122) من طريق عثمان بن حيان كلاهما عن أم الدرداء عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -. (¬2) مشهور بكنيته وباسمه جميعا. واختلف في اسمه، فقيل هو عامر، وعويمر لقب، حكاه عمرو بن الفلاس عن بعض ولده، وبه جزم الأصمعي في رواية الكديمي عنه. واختلف في اسم أبيه، فقيل: عامر، أو مالك، أو ثعلبة، أو عبد اللَّه، أو زيد، وأبوه ابن قيس بن أمية بن الخزرج الأنصاري الخزرجي. قال أبو شهر، عن سعيد بن عبد العزيز: أسلم يوم بدر، وشهد أُحداً وأبلى فيها. قال صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: نعم الفارس عويمر، وقال: هو حكيم أمّتي. وقال الأعمش، عن خيثمة، عنه: كنت تاجراً قبل البعث، ثم حاولت التجارة بعد الإسلام فلم يجتمعا. وقال ابن حبّان: ولاَّه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر. قال أبو شهر، عن سعيد بن عبد العزيز: مات أبو الدرداء وكعب الأحبار لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. وقال الواقدي وجماعة: مات سنة 32. وقال ابن عبد البر: إنه مات بعد صفّين. والأصحُّ عند أصحاب الحديث أنه مات في خلافة عثمان. قاله في الإصابة.

لاحتمال أن يكون ذلك الصّوم تطوّعاً. وقد كنت ظننت أنّ هذه السّفرة غزوة الفتح لَمّا رأيت في " الموطّأ " من طريق أبي بكر بن عبد الرّحمن عن رجل من الصّحابة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج في الحرّ وهو يصبّ على رأسه الماء - وهو صائم - من العطش ومن الحرّ، فلمّا بلغ الكديد أفطر. فإنّه يدلّ على أنّ غزاة الفتح كانت في أيّام شدّة الحرّ. وقد اتّفقت الرّوايتان على أنّ كلاً من السّفرتين كان في رمضان. لكنّني رجعت عن ذلك , وعرفت أنّه ليس بصوابٍ , لأنّ عبد الله بن رواحة استشهد بمؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف. وإن كانتا جميعاً في سنةٍ واحدةٍ، وقد استثناه أبو الدّرداء في هذه السّفرة مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فصحّ أنّها كانت سفرةً أخرى. وأيضاً فإنّ في سياق أحاديث غزوة الفتح أنّ الذين استمرّوا من الصّحابة صياماً كانوا جماعةً، وفي هذا أنّه عبد الله بن رواحة وحده. وأخرج التّرمذيّ من حديث عمر: غزونا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في رمضان يوم بدر ويوم الفتح. الحديث. ولا يصحّ حمله أيضاً على بدر ,لأنّ أبا الدّرداء لَم يكن حينئذٍ أسلم. قوله: (وعبد الله بن رواحة) أي ابن ثعلب بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي أحد شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار , وأحد النقباء بالعقبة , وأحد البدريين. وفي الحديث دليلٌ على أن لا كراهية في الصّوم في السّفر لمن قوي

عليه ولَم يصبه منه مشقّةٌ شديدةٌ. وفيه إفطار أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في السّفر بمحضرٍ منه، ولَم ينكر عليهم فدلَّ على الجواز، وعلى ردّ قول مَن قال: من سافر في شهر رمضان امتنع عليه الفطر.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 192 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ. فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّل عليه , فقال: ما هذا؟ قالوا: صائمٌ. قال: ليس من البرّ الصّيام في السّفر. (¬1) وفي لفظٍ لمسلمٍ: عليكم برخصة الله التي رخّص لكم (¬2). قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) تبيّن من رواية جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر عند مسلم , أنّها غزوة الفتح، ولابن خزيمة من طريق حمّاد بن سلمة عن أبي الزّبير عن جابر " سافرنا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في رمضان " فذكر نحوه. قوله: (ورجلاً قد ظُلِّل عليه) في رواية حمّاد المذكورة " فشقّ على رجل الصّوم. فجعلت راحلته تهيم به تحت الشّجرة، فأخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأمره أن يفطر " الحديث ولَم أقف على اسم هذا الرّجل، ولولا ما قدّمته من أنّ عبد الله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسّر به. لقول أبي الدّرداء: إنّه لَم يكن من الصّحابة في تلك السّفرة صائماً غيره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1844) ومسلم (1115) من طريق شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد عن محمد بن عمرو بن الحسن عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (1115) بالسند المتقدّم. ثم قال: حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، بهذا الإسناد نحوه، وزاد: قال شعبة: وكان يبلغني عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الحديث، وفي هذا الإسناد أنه قال: عليكم برخصة الله الذي رخَّص لكم , قال: فلمَّا سألته، لم يحفظه. وسيتكلم عليه الشارح رحمه الله.

وزعم مغلطاي: أنّه أبو إسرائيل. وعزا ذلك لمبهمات الخطيب، ولَم يقل الخطيب ذلك في هذه القصّة. وإنّما أورد حديث مالك عن حميد بن قيس وغيره , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً قائماً في الشّمس. فقالوا: نذر أن لا يستظل , ولا يتكلم , ولا يجلس ويصوم " الحديث. ثمّ قال: هذا الرّجل هو أبو إسرائيل القرشيّ العامريّ، ثمّ ساق بإسناده إلى أيّوب عن عكرمة عن ابن عبّاس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجلٍ من قريش يقال له أبو إسرائيل , فقالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشّمس. الحديث. فلم يزد الخطيب على هذا. وبين القصّتين مغايرات ظاهرةٌ , أظهرها أنّه كان في الحضر في المسجد. وصاحب القصّة في حديث جابر كان في السّفر تحت ظلال الشّجر. والله أعلم. وفي الحديث استحباب التّمسّك بالرّخصة عند الحاجة إليها، وكراهة تركها على وجه التّشديد والتّنطّع. قوله: (ليس من البرّ الصّيام في السّفر) سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - " ليس من البرّ الصّيام في السّفر " ما ذكره من المشقّة، وأنّ من روى الحديث مجرّداً فقد اختصر القصّة، وبما أشار إليه من اعتبار شدّة المشقّة يجمع بين حديث الباب والذي قبله. فالحاصل: أنّ الصّوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شقّ عليه الصّوم أو أعرض عن قبول الرّخصة أفضل من الصّوم،

وأنّ من لَم يتحقّق المشقّة يخيّر بين الصّوم والفطر. وقد اختلف السّلف في هذه المسألة: القول الأول: قالت طائفة: لا يجزئ الصّوم في السّفر عن الفرض، بل من صام في السّفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى (فعدّةٌ من أيّامٍ أخر) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - " ليس من البرّ الصّيام في السّفر " ومقابلة البرّ الإثم، وإذا كان آثماً بصومه لَم يجزئه. وهذا قول بعض أهل الظّاهر، وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزّهريّ وإبراهيم النّخعيّ وغيرهم. واحتجّوا بقوله تعالى (فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر) قالوا ظاهره فعليه عدّةٌ أو فالواجب عدّة. وتأوّله الجمهور: بأنّ التّقدير فأفطر فعدّة. القول الثاني: مقابل هذا القول. قول مَن قال: إنّ الصّوم في السّفر لا يجوز إلاَّ لمن خاف على نفسه الهلاك. أو المشقّة الشّديدة. حكاه الطّبريّ عن قوم. القول الثالث: ذهب أكثر العلماء. ومنهم مالك والشّافعيّ وأبو حنيفة إلى أنّ الصّوم أفضل لمن قوي عليه , ولَم يشقّ عليه. وقال كثيرٌ منهم (¬1): الفطر أفضل عملاً بالرّخصة. وهو قول الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق. وقال آخرون: هو مخيّر مطلقاً. ¬

_ (¬1) أي: أصحاب. القول الثالث.

وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر) فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقّه، وإن كان الصّيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذٍ ويشقّ عليه قضاؤه بعد ذلك فالصّوم في حقّه أفضل. وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر. والذي يترجّح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتدّ عليه الصّوم وتضرّر به، وكذلك من ظنّ به الإعراض عن قبول الرّخصة كما تقدّم نظيره في المسح على الحفّين، وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار. وقد روى أحمد من طريق أبي طعمة قال: قال رجلٌ لابن عمر: إنى أقوى على الصّوم في السّفر، فقال له ابن عمر: مَن لَم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة. وهذا محمولٌ على من رغب عن الرّخصة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من رغب عن سنّتي فليس منّي. وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرّياء إذا صام في السّفر فقد يكون الفطر أفضل له. وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطّبريّ من طريق مجاهد قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنّك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصّائم، ارفعوا للصّائم، وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتّى يذهب أجرك. ومن طريق مجاهدٍ أيضاً عن جنادة بن أُميَّة عن أبي ذرٍّ نحو ذلك. وسيأتي من طريق مؤرّق عن أنس نحو هذا مرفوعاً حيث قال - صلى الله عليه وسلم -

للمفطرين حيث خدموا الصّيّام: ذهب المفطرون اليوم بالأجر (¬1). واحتجّ من منع الصّوم أيضاً: بما أخرجه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد - وهو ماء بين عسفان وقديد - أفطر وأفطروا، قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآخر فالآخر. وهذه الزّيادة التي في آخره من قول الزّهريّ، وقعت مدرجةً عند مسلم من طريق الليث عن الزّهريّ. ولفظه " حتّى بلغ الكديد أفطر، قال: وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتّبعون الأحدث فالأحدث من أمره ". وأخرجه من طريق سفيان عن الزّهريّ قال مثله، قال سفيان: لا أدري من قول من هو، ثمّ أخرجه من طريق معمرٍ ومن طريق يونس كلاهما عن الزّهريّ. والصواب: أنّه من قول الزّهريّ، وبذلك جزم البخاريّ، وظاهره أنّ الزّهريّ ذهب إلى أنّ الصّوم في السّفر منسوخ , وأنّ ذلك كان آخر الأمرين، وأنّ الصّحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله. وتعقّب: أوّلاً. بما تقدّم من أنّ هذه الزّيادة مدرجةٌ من قول الزّهريّ، وبأنّه استند إلى ظاهر الخبر من أنّه - صلى الله عليه وسلم - أفطر بعد أن صام ¬

_ (¬1) سيأتي شرحه إن شاء الله بعد هذا.

ونسب من صام إلى العصيان. ولا حجّة في شيء من ذلك , لأنّ مسلماً أخرج من حديث أبي سعيد , أنّه - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصّة في السّفر. ولفظه " سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكّة ونحن صيامٌ، فنزلنا منزلاً، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّكم قد دنوتم من عدوّكم. والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت رخصةً فمنّا من صام ومنّا من أفطر، فنزلنا منزلاً , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّكم مصبّحو عدوّكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمةً فأفطرنا. ثمّ لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السّفر. وهذا الحديث نصٌّ في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته - صلى الله عليه وسلم - الصّائمين إلى العصيان , لأنّه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهدٌ لِمَا قلناه من أنّ الفطر أفضل لمن شقّ عليه الصّوم. ويتأكّد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتّقوّي به على لقاء العدوّ. وروى الطّبريّ في " تهذيبه " من طريق خيثمة. سألت أنس بن مالك عن الصّوم في السّفر؟ فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال: فقلت له: فأين هذه الآية (فعدّةٌ من أيّامٍ أخر) فقال: إنّها نزلت ونحن نرتحل جياعاً وننزل على غير شبعٍ، وأمّا اليوم فنرتحل شباعاً وننزل على شبعٍ. فأشار أنس إلى الصِّفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصّوم. وأمّا الحديث المشهور " الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر " فقد أخرجه ابن ماجه مرفوعاً من حديث ابن عمر بسندٍ ضعيف،

وأخرجه الطّبريّ من طريق أبي سلمة عن عائشة مرفوعاً أيضاً. وفيه ابن لهيعة , وهو ضعيف. ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعاً , والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً. كذلك أخرجه النّسائيّ وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع , لأنّ أبا سلمة لَم يسمع من أبيه. وعلى تقدير صحّته فهو محمول على ما تقدّم أوّلاً حيث يكون الفطر أولى من الصّوم. والله أعلم وأمّا الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - " ليس من البرّ الصّيام في السّفر " فسلك المجيزون فيه طرقاً: فقال بعضهم: قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاريّ في ترجمته (¬1). ولذا قال الطّبريّ بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعريّ , ولفظه: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في حرٍّ شديد، فإذا رجلٌ من القوم قد دخل تحت ظلّ شجرة. وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لصاحبكم، أيّ وجع به؟ فقالوا: ليس به وجعٌ، ولكنّه صائم وقد اشتدّ عليه الحرّ، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ: ليس البرّ أن تصوموا في السّفر، عليكم برخصة الله التي رخّص لكم. ¬

_ (¬1) قال البخاري " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن ظلّل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصيام في السفر "

فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال. وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصّة. أنّ كراهة الصّوم في السّفر مختصّة بمن هو في مثل هذه الحالة ممّن يجهده الصّوم ويشقّ عليه , أو يؤدّي به إلى ترك ما هو أولى من الصّوم من وجوه القرب، فينزّل قوله " ليس من البرّ الصّوم في السّفر " على مثل هذه الحالة. قال: والمانعون في السّفر يقولون: إنّ اللفظ عامٌّ، والعبرة بعمومه لا بخصوص السّبب. قال: وينبغي أن يتنبّه للفرق بين دلالة السّبب والسّياق والقرائن على تخصيص العامّ وعلى مراد المتكلم، وبين مجرّد ورود العامّ على سببٍ، فإنّ بين العامَّين فرقاً واضحاً، ومن أجراهما مجرًى واحداً لَم يُصب، فإنّ مجرّد ورود العامّ على سبب لا يقتضي التّخصيص به كنزول آية السّرقة في قصّة سرقة رداء صفوان، وأمّا السّياق والقرائن الدّالة على مراد المتكلم فهي المُرشدة لبيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب. وقال ابن المنيّر في الحاشية: هذه القصّة تشعر بأنّ من اتّفق له مثل ما اتّفق لذلك الرّجل أنّه يساويه في الحكم؛ وأمّا من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصّوم على أصله والله أعلم. وحمل الشّافعيّ نفي البرّ المذكور في الحديث على من أبى قبول الرّخصة فقال: معنى قوله " ليس من البرّ " أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو

صحيح. قال: ويحتمل أن يكون معناه. ليس من البرّ المفروض الذي من خالفه أثم، وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأوّل. وقال الطّحاويّ: المراد بالبرّ هنا. البرّ الكامل الذي هو أعلى مراتب البرّ، وليس المراد به إخراج الصّوم في السّفر عن أن يكون برّاً , لأنّ الإفطار قد يكون أبرّ من الصّوم إذا كان للتّقوّي على لقاء العدوّ مثلاً. قال: وهو نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - " ليس المسكين بالطّوّاف " الحديث، فإنّه لَم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنّما أراد أنّ المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غنًى يغنيه , ويستحيي أن يسأل ولا يفطن له. قوله: (وفي لفظ لمسلم: عليكم برخصة الله التي رخص لكم) أوهم كلام صاحب " العمدة " أنّ قوله - صلى الله عليه وسلم - " عليكم برخصة الله التي رخّص لكم " ممّا أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك. وإنّما هي بقيّة في الحديث لَم يوصل إسنادها كما يأتي (¬1). نعم. وقعت عند النّسائيّ موصولة. فأخرجه من طريق شعيب بن إسحاق عن الأوزاعيّ عن يحيى عن محمّد بن عبد الرّحمن حدّثني جابر بن عبد الله. فذكره. قال النّسائيّ: هذا خطأ، ثمّ ساقه من طريق الفريابيّ عن الأوزاعيّ عن يحيى عن محمّد بن عبد الرّحمن حدّثني من سمع جابراً، ومن ¬

_ (¬1) انظر تخريج حديث الباب أيضاً.

طريق عليّ بن المبارك عن يحيى عن محمّد بن عبد الرّحمن عن رجل عن جابر. ثمّ قال: ذِكْر تسمية هذا الرّجل المُبهم، فساق طريق شعبة , ثمّ قال: هذا هو الصّحيح، يعني إدخال رجلٍ بين محمّد بن عبد الرّحمن وجابر. وتعقّبه المزّيّ فقال: ظنّ النّسائيّ أنّ محمّد بن عبد الرّحمن - شيخ شعبة في هذا الحديث - هو محمّد بن عبد الرّحمن شيخ يحيى بن أبي كثير فيه، وليس كذلك , لأنّ شيخ يحيى هو محمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان , وشيخ شعبة هو ابن عبد الرّحمن بن سعد بن زرارة. انتهى. والذي يترجّح في نظري: أنّ الصّواب مع النّسائيّ، لأنّ مسلماً لَمّا روى الحديث من طريق أبي داود عن شعبة , قال في آخره: قال شعبة: كان بلغني هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير , أنّه كان يزيد في هذا الإسناد في هذا الحديث " عليكم برخصة الله التي رخّص لكم " فلمّا سألته لَم يحفظه. انتهى. والضّمير في سألت. يرجع إلى محمّد بن عبد الرّحمن شيخ يحيى , لأنّ شعبة لَم يلق يحيى , فدلَّ على أنّ شعبة أخبر أنّه كان يبلغه عن يحيى عن محمّد بن عبد الرّحمن عن محمّد بن عمرو عن جابر في هذا الحديث زيادة، ولأنّه لَمّا لقي محمّد بن عبد الرّحمن شيخ يحيى سأله عنها فلم يحفظها. وأمّا ما وقع في رواية الأوزاعيّ عن يحيى أنّه نسب محمّد بن عبد

الرّحمن , فقال فيه ابن ثوبان فهو الذي اعتمده المزّيّ. لكن جزم أبو حاتم كما نقله عنه ابنه في " العلل " بأنّ مَن قال فيه عن محمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان فقد وهِم، وإنّما هو ابن عبد الرّحمن بن سعد. انتهى. وقد اختلف فيه مع ذلك على الأوزاعيّ، وجلّ الرّواة عن يحيى ابن أبي كثير لَم يزيدوا على محمّد بن عبد الرّحمن، لا يذكرون جدّه , ولا جدّ جدّه. والله أعلم. ووقعتْ أيضاً عند الطّبري (¬1) من حديث كعب بن عاصم الأشعريّ. ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع (الطبراني) وهو خطأ , إما من الناسخ أو من الشارح. وقد عزاه الشارح كما تقدم في الشرح للطبري. وهو كذلك في كتابه " تهذيب الآثار " برقم (251). من طريق ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن كعب - رضي الله عنه -. نبَّهني على ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في " الإرواء " (4/ 75). ورواه الطبراني في " الأوسط " (3248) وفي " الكبير " (19/ 171) من وجه آخر عن كعب , لكن مختصراً " ليس من البر الصيام في السفر "

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 193 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في السّفر فمنّا الصّائم , ومنّا المفطر , قال: فنزلنا منزلاً في يومٍ حارٍّ , وأكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء , ومنّا من يتّقي الشّمس بيده , قال: فسقط الصُّوّام , وقام المفطرون فضربوا الأبنية , وسقوا الرّكاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذهب المفطرون اليوم بالأجر. (¬1) قوله: (فسقط الصّوّام) أي: عجزوا عن العمل. قوله: (وأمّا الذين أفطروا فضربوا الأبنية وسقوا الركاب) وللبخاري " فبعثوا الرّكاب " أي: أثاروا الإبل لخدمتها وسقيها وعلفها. قوله: (بالأجر) أي: الوافر , وليس المراد نقص أجر الصّوّام , بل المراد أنّ المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصّوّام لتعاطيهم أشغالهم وأشغال الصّوّام , فلذلك قال: بالأجر كله. لوجود الصّفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. قال ابن أبي صفرة: فيه أنّ أجر الخدمة في الغزو أعظم من أجر الصّيام. قلت: وليس ذلك على العموم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2733) ومسلم (1119) من طريق عاصم الأحول عن مورِّق (بفتح الواو وكسر الراء الثقيلة) العجلي عن أنس - رضي الله عنه -.

وفيه الحضّ على المعاونة في الجهاد , وعلى أنّ الفطر في السّفر أولى من الصّيام. وأنّ الصّيام في السّفر جائز خلافاً لمَن قال: لا ينعقد. وليس في الحديث بيان كونه إذ ذاك كان صوم فرضٍ أو تطوّعٍ. (¬1) ¬

_ (¬1) مما يدل على كونه فرضاً قوله (ومنا المفطر) ففيه إشارة عليه. وقد جاء مصرَّحا به في " فوائد مكرم بن أحمد البزاز " (205) " خرَجْنا مَع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ في رمضانَ. فذكره. وقد سقط من إسناده مورِّق العجلي. وانظر حديث أنس المتقدِّم برقم (190).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 194 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: كان يكون عليّ الصّوم من رمضان , فما أستطيع أن أقضي إلاَّ في شعبان. (¬1) قوله: (فما أستطيع أن أقضيه إلاَّ في شعبان) استدل به على أنّ عائشة كانت لا تتطوّع بشيءٍ من الصّيام لا في عشر ذي الحجّة ولا في عاشوراء ولا غير ذلك. وهو مبنيٌّ على أنّها كانت لا ترى جواز صيام التّطوّع لمن عليه دين من رمضان، ومن أين لقائله ذلك؟. قال سعيد بن المسيّب في صوم العشر: لا يصلح حتّى يبدأ برمضان , ذكره البخاري معلقاً. ووصله ابن أبي شيبة عنه نحوه. ولفظه " لا بأس أن يقضي رمضان في العشر " , وظاهر قوله , جواز التّطوّع بالصّوم لمن عليه دينٌ من رمضان، إلاَّ أنّ الأولى له أن يصوم الدّين أوّلاً لقوله " لا يصلح " فإنّه ظاهرٌ في الإرشاد إلى البداءة بالأهمّ والآكد. وقد روى عبد الرّزّاق عن أبي هريرة , أنّ رجلاً قال له: إنّ عليّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1849) ومسلم (1146) من طريق يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن عائشة به. ولمسلم (1146) من رواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها , أنها قالت: إنْ كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان.

أيّاماً من رمضان أفأصوم العشر تطوّعاً؟ قال: لا، ابدأ بحقّ الله ثمّ تطوّع ما شئت ". وعن عائشة نحوه. وروى ابن المنذر عن عليّ , أنّه نهى عن قضاء رمضان في عشر ذي الحجّة. وإسناده ضعيف، قال: وروي بإسنادٍ صحيحٍ نحوه عن الحسن والزّهريّ. وليس مع أحدٍ منهم حجّةٌ على ذلك. وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عن عمر , أنّه كان يستحبّ ذلك. تكميل: زاد البخاري " قال يحيى بن سعيد: الشّغل من النّبيّ أو بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وهو خبر مبتدأٍ محذوفٍ تقديره: المانع لها الشّغل، أو هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره الشّغل هو المانع لها. وفي قوله " قال يحيى " هذا تفصيلٌ لكلام عائشة من كلام غيرها، ووقع في رواية مسلم مدرجاً لَم يقل فيه: قال يحيى. فصار كأنّه من كلام عائشة أو من روى عنها، وكذا أخرجه أبو عوانة من وجه آخر عن زهير، وأخرجه مسلم من طريق سليمان ابن بلال عن يحيى مدرجاً أيضاً. ولفظه: وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه من طريق ابن جريجٍ عن يحيى. فبيّن إدراجه ولفظه " فظننت أنّ ذلك لمكانها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يحيى يقوله " وأخرجه أبو داود من طريق مالك، والنّسائيّ من طريق يحيى القطّان، وسعيد بن منصور عن ابن شهاب وسفيان، والإسماعيليّ من طريق أبي خالد كلّهم عن يحيى. بدون الزّيادة.

وأخرجه مسلم من طريق محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن أبي سلمة. بدون الزّيادة , لكن فيه ما يشعر بها فإنّه قال فيه ما معناه: فما أستطيع قضاءها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل: أن يكون المراد بالمعيّة الزّمان. أي: إنّ ذلك كان خاصّاً بزمانه. وللتّرمذيّ وابن خزيمة من طريق عبد الله البهيّ عن عائشة " ما قضيت شيئاً ممّا يكون عليّ من رمضان إلاَّ في شعبان حتّى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وممّا يدلّ على ضعف الزّيادة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم لنسائه فيعدل , وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبّل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصّوم، اللهمّ إلاَّ أن يقال: إنّها كانت لا تصوم إلاَّ بإذنه , ولَم يكن يأذن. لاحتمال احتياجه إليها فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يكثر الصّوم في شعبان كما في الصحيحين. فلذلك كانت لا يتهيّأ لها القضاء إلاَّ في شعبان. وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً. سواء كان لعذرٍ أو لغير عذر , لأنّ الزّيادة كما بيّنّاه مدرجةٌ , فلو لَم تكن مرفوعة لكان الجواز مقيّداً بالضّرورة , لأنّ للحديث حكم الرّفع , لأنّ الظّاهر اطّلاع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك مع توفّر دواعي أزواجه على السّؤال منه عن أمر الشّرع. فلولا أنّ ذلك كان جائزاً لَم تواظب عائشة عليه. ويؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان أنّه لا يجوز تأخير القضاء

حتّى يدخل رمضان آخر. وأمّا الإطعام فليس فيه ما يثبته ولا ينفيه. مسألتان: المسألة الأولى: متى تصام الأيام التي تُقضى عن فوات رمضان؟ هل يتعيَّن قضاؤه متتابعاً أو يجوز متفرقاً؟ وهل يتعين على الفور أو يجوز على التراخي؟. قال الزين بن المنير: ظاهر قوله تعالى (فعدةٌ من أيام أُخر) يقتضي التفريق لصدق " أيام أخر " سواء كانت متتابعة أو متفرقة، والقياس يقتضي التتابع إلحاقاً لصفة القضاء بصفة الأداء، وظاهر صنيع عائشة يقتضي إيثار المبادرة إلى القضاء لولا ما منعها من الشغل، فيشعر بأن من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير. قلت: وهو قول الجمهور. ونقل ابن المنذر وغيره عن عليٍ وعائشة وجوب التتابع. وهو قول بعض أهل الظاهر، وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر قال: يقضيه تباعاً. وعن عائشة: نزلت (فعدةٌ من أيام أُخر متتابعات) فسقطت متتابعات. وفي " الموطأ " أنها قراءة أبي بن كعب، وهذا - إن صحَّ - يشعر بعدم وجوب التتابع. فكأنه كان أولا واجباً ثم نسخ. ولا يختلف المجيزون للتفريق أنَّ التتابع أولى. وروى مالك عن الزهري: أنَّ ابن عباس وأبا هريرة اختلفا في قضاء رمضان، فقال أحدهما: يفرَّق , وقال الآخر: لا يفرَّق. هكذا

أخرجه منقطعاً مبهماً. ووصله عبد الرزاق معيناً عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس. فيمن عليه قضاء من رمضان قال: يقضيه مفرقاً، قال الله تعالى (فعدة من أيام أخر). وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن معمر بسنده قال: صُمْه كيف شئت. ورويناه في " فوائد أحمد ابن شبيب " من روايته عن أبيه عن يونس عن الزهري بلفظ: لا يضرك كيف قضيتها إنما هي عدة من أيام أخر فأحصه. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء , أنَّ ابن عباس وأبا هريرة قالا: فرِّقه إذا أحصيته. وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة نحو قول ابن عمر، وكأنه اختلف فيه عن أبي هريرة. وروى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق معاذ بن جبل: إذا أحصى العِدة فليصم كيف شاء. ومن طريق أبي عبيدة بن الجراح ورافع بن خديج نحوه، وروى سعيد بن منصور عن أنس نحوه. المسألة الثانية: إذا فرَّط حتى جاء رمضان آخر. قال البخاري: ولم يذكرِ الله تعالى الإطعام، إنما قال: فعدة من أيام أخر. هذا من كلام البخاري قاله تفقها , لكن إنما يقوى ما احتج به إذا لم

يصحّ في السنة دليل الإطعام. إذ لا يلزم من عدم ذكره في الكتاب أن لا يثبت بالسنة. ولم يثبت فيه شيء مرفوع. وإنما جاء فيه عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة: أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء عن أبي هريرة قال: أيّ إنسان مرض في رمضان ثم صح فلم يقضه حتى أدركه رمضان آخر فليصم الذي حدث. ثم يقض الآخر , ويطعم مع كل يوم مسكينا. قلت لعطاء: كم بلغك يطعم؟ قال: مُدَّاً زعموا. وأخرجه عبد الرزاق أيضاً عن معمر عن أبي إسحاق، عن مجاهد عن أبي هريرة نحوه , وقال فيه " وأطعم عن كل يوم نصف صاع من قمح " وأخرجه الدارقطني من طريق مطرف عن أبي إسحاق نحوه. ومن طريق رقبة وهو ابن مصقلة قال: زعم عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول في المريض يمرض ولا يصوم رمضان ثم يترك حتى يدركه رمضان آخر قال: يصوم الذي حضره ثم يصوم الآخر ويطعم لكل يوم مسكينا " ومن طريق ابن جريج وقيس بن سعد عن عطاء نحوه. ومنهم ابن عباس: فروى سعيد بن منصور عن هشيم والدارقطني من طريق ابن عيينة كلاهما عن يونس عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عباس قال: من فرَّط في صيام رمضان حتى أدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أشركه ثم ليصم ما فاته. ويطعم مع كل يوم

مسكينا. وأخرجه عبد الرزاق من طريق جعفر بن برقان، وسعيد بن منصور من طريق حجاج، والبيهقي من طريق شعبة عن الحكم، كلهم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس نحوه. ومنهم عمر. عند عبد الرزاق. ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال: وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفاً. انتهى. وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك. وممن قال بالإطعام ابن عمر , لكنه بالغ في ذلك فقال: يطعم ولا يصوم. فروى عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما من طرق صحيحة عن نافع عن ابن عمر قال: من تابعه رمضانان - وهو مريض لم يصحّ بينهما - قضى الآخر منها بصيام , وقضى الأول منهما بإطعام مُد من حنطة كل يوم , ولم يصم. لفظ عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع. قال الطحاوي: تفرد ابن عمر بذلك. قلت: لكن عند عبد الرزاق عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد قال: بلغني مثل ذلك عن عمر، لكن المشهور عن عمر خلافه، فروى عبد الرزاق أيضاً من طريق عوف بن مالك سمعت عمر يقول: من صام يوماً من غير رمضان وأطعم مسكيناً فإنهما يعدلان يوماً من

رمضان. ونقله ابن المنذر عن ابن عباس وعن قتادة. وانفرد ابن وهب بقوله: من أفطر يوماً في قضاء رمضان وجب عليه لكل يوم صوم يومين.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 195 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليّه. (¬1) وأخرجه أبو داود , وقال: هذا في النّذر , وهو قول أحمد بن حنبلٍ. قوله: (من مات) عامٌّ في المكلفين لقرينة " وعليه صيام ". قوله: (صام عنه وليّه) خبرٌ بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليّه. وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادّعوا الإجماع على ذلك. وفيه نظرٌ , لأنّ بعض أهل الظّاهر أوجبه. فلعله لَم يعتدّ بخلافهم على قاعدته. وقد اختلف السّلف في هذه المسألة: القول الأول: أجاز الصّيام عن الميّت أصحابُ الحديث، وعلَّق الشّافعيُّ في القديم القولَ به على صحّة الحديث كما نقله البيهقيّ في " المعرفة " , وهو قول أبي ثور وجماعة من محدّثي الشّافعيّة. وقال البيهقيّ في " الخلافيّات ": هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في صحّتها فوجب العمل بها، ثمّ ساق بسنده إلى الشّافعيّ , قال: كلّ ما قلت. وصحّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خلافه , فخذوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1851) من طريق موسى بن أعين , ومسلم (1147) من طريق ابن وهب كلاهما عن عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة.

بالحديث ولا تقلدوني. القول الثاني: قال الشّافعيّ في الجديد ومالك وأبو حنيفة: لا يصام عن الميّت. القول الثالث: قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يصام عنه إلاَّ النّذر حملاً للعموم الذي في حديث عائشة على المقيّد في حديث ابن عبّاس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله. إنَّ أمي ماتت وعليها صوم نذر. أفأقضيه عنها؟. قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى. (¬1). وليس بينهما تعارض حتّى يجمع بينهما. فحديث ابن عبّاس صورةٌ مستقلةٌ سأل عنها من وقعت له. وأمّا حديث عائشة فهو تقرير قاعدةٍ عامّةٍ، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عبّاس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره " فدين الله أحقّ أن يقضى ". وأمّا رمضان فيطعم عنه. فأمّا المالكيّة: فأجابوا عن حديث الباب بدعوى عمل أهل المدينة كعادتهم. وادّعى القرطبيّ تبعاً لعياضٍ: أنّ الحديث مضطربٌ، وهذا لا يتأتّى إلاَّ في حديث ابن عبّاس، وليس الاضطراب فيه مُسلَّماً كما سيأتي (¬2). ¬

_ (¬1) علقه البخاري. ووصله مسلم. كما سيأتي تفصيله إن شاء الله. رقم (15). (¬2) سيأتي إن شاء الله الكلام عليه عقب حديث عائشة هذا.

وأمّا حديث عائشة فلا اضطراب فيه. واحتجّ القرطبيّ: بزيادة ابن لهيعة فقد رواه البزّار من طريق ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر (¬1) فزاد في آخر المتن " إن شاء " , لأنّها تدلّ على عدم الوجوب. وتعقّب: بأنّ معظم المجيزين لَم يوجبوه كما تقدّم , وإنّما قالوا يتخيّر الوليّ بين الصّيام والإطعام. وأجاب الماورديّ عن الجديد: بأنّ المراد بقوله " صام عنه وليّه " أي: فعل عنه وليّه ما يقوم مقام الصّوم وهو الإطعام، قال: وهو نظير قوله " التّراب وضوء المسلم إذا لَم يجد الماء " (¬2) قال: فسمّى البدل باسم المبدل فكذلك هنا. وتعقّب: بأنّه صرفٌ للفظ عن ظاهره بغير دليل. وأمّا الحنفيّة. فاعتلّوا لعدم القول بهذين الحديثين. بما روي عن عائشة , أنّها سئلت عن امرأةٍ ماتت وعليها صوم، قالت: يطعم عنها ". وعن عائشة قالت " لا تصوموا عن موتاكم , وأطعموا عنهم " أخرجه البيهقيّ. ¬

_ (¬1) الحديث في الصحيحين كما تقدّم تخريجه من طريق عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر. وتابع عمراً أخرون. فزيادة ابن لهيعة منكرة. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (21371) وأبو داود (331) والترمذي (124) والنسائي (322) وغيرهم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - مرفوعاً: الصعيد الطيب وضوء المسلم , ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدتَ الماء فأمسّه جلدك , فإن ذلك خير " وقد قوَّى الشارحُ إسنادَه كما تقدَّم في الطهارة. تنبيه: لَم أر عند واحد ممن أخرج الحديث بلفظ " التراب "

وبما روي عن ابن عبّاس , قال في رجل مات وعليه رمضان , قال: يطعم عنه ثلاثون مسكيناً. أخرجه عبد الرّزّاق. وروى النّسائيّ عن ابن عبّاس قال: لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ. قالوا: فلمّا أفتى ابن عبّاس وعائشة بخلاف ما روياه. دلَّ ذلك على أنّ العمل على خلاف ما روياه. وهذه قاعدة لهم معروفة، إلاَّ أنّ الآثار المذكورة عن عائشة , وعن ابن عبّاس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصّيام , إلاَّ الأثر الذي عن عائشة , وهو ضعيف جدّاً. والرّاجح: أنّ المعتبر ما رواه لا ما رآه. لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهادٍ. ومستنده فيه لَم يتحقّق. ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحقّقت صحّة الحديث لَم يترك المحقّق للمظنون، والمسألة مشهورة في الأصول. واختلف المجيزون في المراد بقوله " وليّه ". فقيل: كلّ قريب، وقيل: الوارث خاصّة، وقيل: عصبته. والأوّل أرجح والثّاني قريب. ويردّ الثّالث قصّة المرأة التي سألت عن نذر أمّها (¬1). ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه مسلم (1148) والبخاري معلّقاً (1953) عن ابن عبّاس: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقالت: يا رسول الله. إن أمي ماتت وعليها صوم نذر. أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته. أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم , قال: فصومي عن أمك. وهي إحدى روايات الحديث الذي بعده. كما سيأتي

واختلفوا أيضاً هل يختصّ ذلك بالوليّ؟. لأنّ الأصل عدم النّيابة في العبادة البدنيّة، ولأنّها عبادة لا تدخلها النّيابة في الحياة فكذلك في الموت , إلاَّ ما ورد فيه الدّليل فيقتصر على ما ورد فيه , ويبقى الباقي على الأصل. وهذا هو الرّاجح. وقيل: لا يختصّ بالوليّ. فلو أمر أجنبيّاً بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحجّ. وقيل: يصحّ استقلال الأجنبيّ بذلك. وذِكْرُ الوليّ لكونه الغالب. وظاهر صنيع البخاريّ اختيار هذا الأخير. وبه جزم أبو الطّيّب الطّبريّ , وقوّاه بتشبيهه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالدّين , والدّين لا يختصّ بالقريب.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 196 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله , إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهرٍ. أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمّك دينٌ أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحقّ أن يقضى (¬1) وفي روايةٍ: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقالت: يا رسولَ الله , إنّ أمّي ماتت وعليها صوم نذرٍ. أفأصوم عنها؟ فقال: أرأيت لو كان على أمّك دينٌ فقضيتيه , أكان ذلك يؤدّي عنها؟ فقالت: نعم. قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصحيح (1852) ومسلم (1148) من طريق زائدة عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: جاء .. الحديث. وفيه: قال سليمان (أي الأعمش): فقال الحكم وسلمة - ونحن جميعاً جلوسٌ حين حدث مسلم بهذا الحديث – قالا: سمعنا مجاهداً يَذكر هذا عن ابن عباس. ثم قال البخاري: ويُذكر عن أبي خالد حدثنا الأعمش عن الحكم ومسلم البطين وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد عن ابن عباس: قالت امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أختي ماتت. وقال يحيى وأبو معاوية: حدثنا الأعمش عن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس , قالت: امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي ماتت. ... وقال عبيد الله عن زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قالت امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي ماتت , وعليها صوم نذر. وقال أبو حريز: حدثنا عكرمة عن ابن عباس , قالت امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ماتت أمي. وعليها صوم خمسة عشر يوماً. انتهى كلام البخاري. قلت: ورواية أبي خالد الأحمر عن الأعمش. وصلها مسلم في صحيحه (1148) عن أبي سعيد الأشج عنه به.

فصومي عن أمّك. (¬1) قوله: (جاء رجلٌ) لَم أقف على اسمه. واتّفق الرواة عن الأعمش عن مسلم البطين عن ابن جبير. ما عدا زائدة وعبثر بن القاسم على أنّ السّائل امرأة، وزاد أبو حريزٍ في روايته أنّها خثعميّة. (¬2) وللبخاري من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، أنَّ امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنَّ أمي نذرت أن تحج .. الحديث. ولَم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها، لكن روى ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخراسانيّ عن أبيه , أنّ غايثة أو غاثية أتت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقالت: إنّ أمّي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة، فقال: اقض عنها ". أخرجه ابن منده في حرف الغين المعجمة من الصّحابيّات، وتردّد هل هي بتقديم المثنّاة التّحتانيّة على المثلثة , أو بالعكس؟. وجزم ابن طاهر في المبهمات: بأنّه اسم الجهنيّة المذكورة في الحديث. وقد روى النّسائيّ وابن خزيمة وأحمد من طريق موسى بن سلمة الهذليّ عن ابن عبّاس قال: أمرتْ امرأة سنان بن عبد الله الجهنيّ أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1148) من طريق عبيدالله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة حدثنا الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وتقدّم أن البخاري علّقه. (¬2) رواية أبي حريز علّقها البخاري كما تقدَّم. وقد وصلها ابن خزيمة في " صحيحه " (2053) والبيهقي في " الكبرى " (4/ 256) من طريق الفضيل بن ميسرة عن أبي حريز عن عكرمة عن ابن عباس.

يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمّها توفّيت ولَم تحجّ " الحديث لفظ أحمد. ووقع عند النّسائيّ " سنان بن سلمة ". والأوّل أصحّ، وهذا لا يفسّر به المبهم في حديث ابن عباس. أنّ المرأة سألتْ بنفسها , وفي هذا أنّ زوجها سأل لها. ويمكن الجمع: بأن يكون نسبة السّؤال إليها مجازيّة. وإنّما الذي تولى لها السّؤال زوجها، وغايته أنّه في هذه الرّواية لَم يصرّح بأنّ الحجّة المسئول عنها كانت نذراً. وأمّا ما روى ابن ماجه من طريق محمّد بن كريب عن أبيه عن ابن عبّاس عن سنان بن عبد الله الجهنيّ , أنّ عمّته حدّثته , أنّها أتت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنّ أمّي توفّيت وعليها مشي إلى الكعبة نذراً، الحديث. فإن كان محفوظاً حُمل على واقعتين. الأولى: بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجّة أمّها المفروضة. الثانية: بأن تكون عمّته سألت بنفسها عن حجّة أمّها المنذورة. ويفسّر الحديث بأنّها عمّة سنان , واسمها غايثة كما تقدّم، ولَم تسمّ المرأة ولا العمّة ولا أمّ واحدةٍ منهما. وقوله: إنّ أمّي نذرت أن تحجّ. كذا رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس من رواية أبي عوانة عنه. وللبخاري من طريق شعبة عن أبي بشر بلفظ " أتى رجلٌ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال له: إنّ أختي نذرت أن تحجّ. وأنّها ماتت.

فإن كان محفوظاً احتمل أن يكون كلٌّ من الأخ سأل عن أخته. والبنت سألت عن أمّها. وزعم بعض المخالفين: أنّه اضطراب يعلّ به الحديث. وليس كما قال، فإنّه محمول على أنّ المرأة سألت عن كلّ من الصّوم والحجّ، ويدلّ عليه ما رواه مسلم عن بريدة , أنّ امرأة قالت: يا رسولَ الله إنّي تصدّقت على أمّيّ بجاريةٍ وأنّها ماتت، قال: وجب أجرك وردّها عليك الميراث. قالت: إنّه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت إنّها لَم تحجّ. أفأحجّ عنها؟ قال: حجّي عنها. وللسّؤال عن قصّة الحجّ من حديث ابن عبّاس أصل آخر , أخرجه النّسائيّ من طريق سليمان بن يسار عنه. وله شاهد من حديث أنس. عند البزّار والطّبرانيّ والدّارقطنيّ قوله: (إنّ أمّي) خالف أبو خالد الأحمر جميع من رواه عن الأعمش فقال " إنّ أختي ". واختلف على أبي بشرٍ عن سعيد بن جبير. فقال هشيمٌ عنه " ذات قرابة لها " وقال شعبة عنه " إنّ أختها " أخرجهما أحمد، وقال حمّادٌ عنه " ذات قرابة لها إمّا أختها وإمّا ابنتها " وهذا يشعر بأنّ التّردّد فيه من سعيد بن جبيرٍ. قوله: (وعليها صوم شهر) هكذا في أكثر الرّوايات، وفي رواية أبي حريز " خمسة عشر يوماً " وفي رواية أبي خالد " شهرين متتابعين "

وروايته تقتضي أن لا يكون الذي عليها صوم شهر رمضان بخلاف رواية غيره فإنّها محتملةٌ. إلاَّ رواية زيد بن أبي أنيسة فقال " إنّ عليها صوم نذرٍ " وهذا واضح في أنّه غير رمضان. وبيّن أبو بشرٍ في روايته سبب النّذر , فروى أحمد من طريق شعبة عن أبي بشرٍ " أنّ امرأةً ركبت البحر فنذرت أن تصوم شهراً فماتت قبل أن تصوم، فأتت أختها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " الحديث. ورواه أيضاً عن هشيمٍ عن أبي بشرٍ نحوه، وأخرجه البيهقيّ من حديث حمّاد بن سلمة. وقد ادّعى بعضهم: أنّ هذا الحديث اضطرب فيه الرّواة عن سعيد بن جبير. فمنهم مَن قال: إنّ السّائل امرأة. ومنهم مَن قال: رجلٌ. ومنهم مَن قال: إنّ السّؤال وقع عن نذرٍ، فمنهم من فسّره بالصّوم , ومنهم من فسّره بالحجّ. والذي يظهر أنّهما قصّتان. ويؤيّده أنّ السّائلة في نذر الصّوم خثعميّة كما في رواية أبي حريزٍ المُعلَّقة والسّائلة عن نذر الحح جهنيّة كما تقدّم. وقد قدّمنا أنّ مسلماً روى من حديث بريدة " أنّ امرأة سألت عن الحجّ , وعن الصّوم معاً. وأمّا الاختلاف في كون السّائل رجلاً أو امرأة والمسئول عنه أختاً أو أمّا. فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث , لأنّ الغرض منه مشروعيّة الصّوم أو الحجّ عن الميّت ولا اضطراب في ذلك.

وقد تقدّمت الإشارة إلى كيفيّة الجمع بين مختلف الرّوايات فيه عن الأعمش وغيره. والله أعلم. قوله: (أفرأيت إلخ) فيه مشروعيّة القياس وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السّامع وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتّفق عليه. وفيه أنّه يستحبّ للمفتي التّنبيه على وجه الدّليل إذا ترتّبت على ذلك مصلحة , وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه. وفيه أنّ وفاء الدّين الماليّ عن الميّت كان معلوماً عندهم مقرّراً , ولهذا حسن الإلحاق به. قوله: (فدَيْن الله أحق أن يقضى) فيه دليل على أنّه مقدّم على دين الآدميّ، وهو أحد أقوال الشّافعيّ. وقيل: بالعكس، وقيل: هما سواء. قال الطّيبيّ: في الحديث إشعار بأنّ المسئول عنه خلف مالاً فأخبره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ حقّ الله مقدّم على حقّ العباد. وأوجب عليه الحجّ عنه , والجامع عِلَّة الماليّة. قلت: ولَم يتحتّم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم، لأنّ قوله " أكنت قاضيته " أعمّ من أن يكون المراد ممّا خلفه أو تبرّعاً.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 197 - عن سهل بن سعدٍ السّاعديّ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: لا يزال النّاس بخيرٍ ما عجّلوا الفطر. (¬1) قوله: (لا يزال النّاس بخيرٍ) في حديث أبي هريرة " لا يزال الدّين ظاهراً " وظهور الدّين مستلزمٌ لدوام الخير. قوله: (ما عجّلوا الفطر) زاد أبو ذرٍّ في حديثه " وأخّروا السّحور " أخرجه أحمد، و " ما " ظرفيّة، أي: مدّة فعلهم ذلك امتثالاً للسّنّة واقفين عند حدّها غير متنطّعين بعقولهم ما يغيّر قواعدها. زاد أبو هريرة في حديثه " لأنّ اليهود والنّصارى يؤخّرون " أخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما. وتأخير أهل الكتاب له أمدٌ وهو ظهور النّجم، وقد روى ابن حبّان والحاكم من حديث سهل أيضاً بلفظ " لا تزال أمّتي على سنّتي ما لَم تنتظر بفطرها النّجوم " وفيه بيان العلة في ذلك. قال ابن عبد البرّ: أحاديث تعجيل الإفطار وتأخير السّحور صحاحٌ متواترةٌ. وعند عبد الرّزّاق وغيره بإسنادٍ صحيحٍ عن عمرو بن ميمون الأوديّ قال: كان أصحاب محمّد - صلى الله عليه وسلم - أسرعَ النّاس إفطاراً , وأبطأَهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1856) من طريق مالك , ومسلم (1098) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم كلاهما عن أبي حازم عن سهل به.

سحوراً. وقال المُهلَّب: والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النّهار من الليل، ولأنّه أرفق بالصّائم وأقوى له على العبادة، واتّفق العلماء على أنّ محل ذلك إذا تحقّق غروب الشّمس بالرّؤية أو بإخبار عدلين، وكذا عدلٍ واحد في الأرجح. قال ابن دقيق العيد: في هذا الحديث ردٌّ على الشّيعة في تأخيرهم الفطر إلى ظهور النّجوم، ولعلَّ هذا هو السّبب في وجود الخير بتعجيل الفطر لأنّ الذي يؤخّره يدخل في فعل خلاف السّنّة. انتهى. وما تقدّم من الزّيادة عند أبي داود أولى بأن يكون سبب هذا الحديث، فإنّ الشّيعة لَم يكونوا موجودين عند تحديثه - صلى الله عليه وسلم - بذلك. قال الشّافعيّ في " الأمّ ": تعجيل الفطر مستحبٌّ، ولا يُكره تأخيره إلاَّ لمن تعمّده ورأى الفضل فيه، ومقتضاه أنّ التّأخير لا يكره مطلقاً، وهو كذلك إذ لا يلزم من كون الشّيء مستحبّاً أن يكون نقيضه مكروهاً مطلقاً. واستدل به بعض المالكيّة. على عدم استحباب ستّة شوّال , لئلا يظنّ الجاهل أنّها ملتحقةٌ برمضان، وهو ضعيفٌ. ولا يخفى الفرق. (¬1) ¬

_ (¬1) روى مسلم في صحيحه (1164) عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر " قال الشيخ أبو الحسن المبارك فوري في " مرعاة المفاتيح شرح المصابيح " (7/ 64): وفي الحديث دليل بيّن على استحباب صوم ستة أيام من شوال، وهو مذهب الشافعي وأحمد وداود، وبه قال عامة المتأخرين من الحنفية. وقال مالك وأبوحنيفة: يكره صومها. قال في البحر الزائق: ومن المكروه صوم ستة من شوال عند أبي حنيفة متفرقاً كان أو متتابعاً، وعن أبي يوسف كراهته متتابعاً لا متفرقاً، لكن عامة المتأخرين لم يروا به بأساً. انتهى. وقال ابن الهمام: صوم ست من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشائخ لم يروا به بأساً. انتهى. قال السندي: ولعل القائل بالكراهة يؤول هذا الحديث بأن المراد هو كصوم الدهر في الكراهة، فقد جاء (لا صيام لمن صام الأبد) ونحوه، مما يفيد كراهة صوم الدهر، لكن هذا التأويل مردود بما ورد في صوم ثلاث من كل شهر أنه صوم الدهر ونحوه. والظاهر أن صوم الدهر تحقيقاً مكروه، وما ليس بصوم الدهر إذا ورد فيه أنه صوم الدهر فهو محبوب. انتهى. قلت ... : واستدل للكراهة بأنه ربما ظن وجوبها. قال ابن الهمام: وجه الكراهة أنه قد يفضي إلى اعتقاد لزومها من العوام لكثرة المداومة. انتهى. وأجيب: بأنه لا معنى لهذا التعليل بعد ثبوت النص بذلك وورود السنة الصحيحة الصريحة فيه، وأيضاً يلزم مثل هذا في سائر أنواع الصوم المندوب المرغب فيها. ولا قائل به. قال النووي: قولهم قد يظن وجوبهن تقتضي بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب. واستدل مالك بما قال في " الموطأ ": من أنه لم ير أحداً من أهل العلم يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك. ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة ثابتة لم يكن تركهم دليلاً ترد به السنة. قال النووي: إذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم , وما أحسن ما قاله ابن عبد البر: أنه لم يبلغ مالكاً هذا الحديث. وقيل: لعلّه لم يصحّ هذا الحديث عنده. قال ابن رشد: وهو الأظهر. قلت: الحديث صحيح جداً. انتهى من المرعاة.

تنْبيه: من البدع المنكرة. ما أحدث في هذا الزّمان من إيقاع الأذان الثّاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعةٍ في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامةً لتحريم الأكل والشّرب على من يريد الصّيام. زعماً ممّن

أحدثه أنّه للاحتياط في العبادة ولا يعلم بذلك إلاَّ آحاد النّاس. وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذّنون إلاَّ بعد الغروب بدرجةٍ لتمكين الوقت زعموا , فأخّروا الفطر وعجّلوا السّحور. وخالفوا السّنّة، فلذلك قلَّ عنهم الخير. كثيرٌ فيهم الشّرّ، والله المستعان.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 198 - عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبل الليل من ههنا. وأدبر النّهار من ههنا , فقد أفطر الصّائم. (¬1) قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشامٍ " قال لي ". وللبخاري (¬2) عن مسدد عن عبد الواحد عن الشيباني عن ابن أبي أوفى قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم، فلمَّا غربت الشمس قال: انزل فاجدح لنا، قال: يا رسول الله لو أمسيت .. الحديث " لَم يسمّ المأمور بذلك. وقد أخرجه أبو داود عن مسدّد - شيخ البخاريّ - عن عبد الواحد عن الشيباني عنه فيه. فسمّاه. ولفظه " فقال: يا بلال انزل إلخ " وأخرجه الإسماعيليّ وأبو نعيم من طرق عن عبد الواحد - وهو ابن زياد - شيخ مسدّد فيه. فاتّفقت رواياتهم على قوله " يا فلان " فلعلها تصحّفت، ولعل هذا هو السّرّ في حذف البخاريّ لها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1853) ومسلم (1100) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه - رضي الله عنه - (¬2) ورواه مسلم أيضاً (1101) عن أبي كامل عن عبد الواحد به. وفيه: يا فلان. ورواه أيضاً البخاري (1857 , 4991) ومسلم (1101) من طرق أخرى عن الشيباني به. ففي مسلم: يا فلان. وفي البخاري: قال لرجل. سوى رواية خالد التي ذكرها الشارح.

وقد أخرجه البخاري من رواية خالد من الشّيبانيّ بلفظ " يا فلان ". فيحتمل أن يكون المخاطب بذلك عمر فإنّ الحديث واحد، فلمّا كان عمر هو المقول له " إذا أقبل الليل إلخ " احتمل أن يكون هو المقول له أوّلاً " اجدح ". لكن يؤيّد كونه بلالاً. قوله في رواية شعبة عن الشيباني عند أحمد " فدعا صاحب شرابِه " فإنّ بلالاً هو المعروف بخدمة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (إذا أقبل الليل من هاهنا) أي: من جهة المشرق كما في حديث ابن أبي أوفى قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فلما غابت الشمس , قال لرجل: انزل فاجدح لنا , فقال: يا رسولَ الله. لو أمسيت , قال: انزل فاجدح لنا , قال: إنَّ علينا نهاراً. فنزل فجَدَحَ له فشرب , ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا (وأشار بيده نحو المشرق) فقد أفطر الصائم " متفق عليه. والمراد به وجود الظّلمة حسّاً، وذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور، لأنّها وإن كانت متلازمةً في الأصل لكنّها قد تكون في الظّاهر غير متلازمة، فقد يظنّ إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقةً , بل لوجود أمرٍ يغطّي ضوء الشّمس , وكذلك إدبار النّهار. فمن ثَمّ قيّد بقوله " وغربت الشّمس " إشارةً إلى اشتراط تحقّق الإقبال والإدبار، وأنّهما بواسطة غروب الشّمس لا بسببٍ آخر. ولَم يذكر ذلك في حديث ابن أبي أوفى. فيحتمل أن ينزّل على

حالين: الأولى: أمّا حيث ذكرها. ففي حال الغيم مثلاً. الثانية: أمّا حيث لَم يذكرها. ففي حال الصّحو. ويحتمل: أن يكونا في حالة واحدة , وحفظ أحد الرّاويين ما لَم يحفظ الآخر، وإنّما ذكر الإقبال والإدبار معاً لإمكان وجود أحدهما مع عدم تحقّق الغروب. قاله القاضي عياض. وقال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": الظّاهر الاكتفاء بأحد الثّلاثة , لأنّه يعرف انقضاء النّهار بأحدهما، ويؤيّده الاقتصار في رواية ابن أبي أوفى على إقبال الليل. قوله: (فقد أفطر الصّائم) أي: دخل في وقت الفطر. كما يقال: أنجد. إذا أقام بنجدٍ , وأتهم. إذا أقام بتهامة. ويحتمل: أن يكون معناه. فقد صار مفطراً في الحكم لكون الليل ليس طرفاً للصّيام الشّرعيّ. وقد ردّ ابن خزيمة هذا الاحتمال , وأومأ إلى ترجيح الأوّل فقال: قوله " فقد أفطر الصّائم " لفظ خبرٍ ومعناه الأمر , أي: فليفطر الصّائم، ولو كان المراد فقد صار مفطراً كان فطر جميع الصّوّام واحداً , ولَم يكن للتّرغيب في تعجيل الإفطار معنًى. انتهى. وقد يجاب: بأنّ المراد فعل الإفطار حسّاً ليوافق الأمر الشّرعيّ، ولا شكّ أنّ الأوّل أرجح، ولو كان الثّاني معتمداً لكان من حلف أن لا يفطر فصام فدخل الليل حنث بمجرّد دخوله. ولو لَم يتناول شيئاً.

ويمكن الانفصال عن ذلك: بأنّ الأيمان مبنيّةٌ على العرف، وبذلك أفتى الشّيخ أبو إسحاق الشّيرازيّ في مثل هذه الواقعة بعينها، ومثل هذا لو قال: إن أفطرتِ فأنتِ طالقٌ. فصادف يوم العيد. لَم تطلق حتّى يتناول ما يفطر به، وقد ارتكب بعضهم الشّطط فقال: يحنث. ويرجّح الأوّل أيضاً. رواية شعبة أيضاً بلفظ " فقد حلَّ الإفطار " وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الثّوريّ عن الشّيبانيّ عن ابن أبي أوفى. وفي الحديث أيضاً استحباب تعجيل الفطر، وأنّه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاً، بل متى تحقّق غروب الشّمس حل الفطر. وأخرج سعيد بن منصور وأبو بكر ابن أبي شيبة من طريق عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: دخلنا على أبي سعيد فأفطر , ونحن نرى أنّ الشّمس لَم تغرب. ووجه الدّلالة منه أنّ أبا سعيد لَمّا تحقّق غروب الشّمس لَم يطلب مزيداً على ذلك , ولا التفت إلى موافقة من عنده على ذلك، فلو كان يجب عنده إمساك جزءٍ من الليل لاشتراك الجميع في معرفة ذلك. وفيه إيماء إلى الزّجر عن متابعة أهل الكتاب فإنّهم يؤخّرون الفطر عن الغروب. وفيه أنّ الأمر الشّرعيّ أبلغ من الحسّيّ، وأنّ العقل لا يقضي على الشّرع. وفيه البيان بذكر اللازم والملزوم جميعاً لزيادة الإيضاح.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 199 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال. قالوا: إنّك تواصل , قال: إنّي لست كهيئتكم , إنّي أُطعم وأُسقى. (¬1) ورواه أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. (¬2) الحديث التاسع عشر 200 - ولمسلم (¬3) عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه -: فأيّكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السّحر. قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال) وفي البخاري من طريق جويرية عن نافع ذكر السّبب. ولفظه " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - واصل فواصل النّاس، فشقّ عليهم، فنهاهم " وكذا رواه أبو قرّة عن موسى بن عقبة عن نافع. وأخرجه مسلم من طريق ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع مثله , وزاد " في رمضان " لكن لَم يقل فشقّ عليهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1822 , 1861) ومسلم (1102) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - به. (¬2) سيأتي إن شاء الله تخريج أحاديثهم ضمن كلام الشارح عنها. (¬3) وهِم المصنف رحمه الله في عزوه لمسلم. وإنما هو من أفراد البخاري (1962 - 1967) وزاد " قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: لست كهيئتكم. إني أبيت لي مُطعمٌ يُطعمني، وساق يَسقين.

وللشيخين عن عائشة " نهى عن الوصال رحمة لهم " , وللبخاري عن شعبة عن قتادة عن أنس " لا تواصلوا. قالوا: إنك تواصل , قال: لست كأحدٍ منكم .. الحديث ". ولابن خزيمة من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن شعبة " إياكم والوصال ". قوله: (قالوا: يا رسولَ الله إنك تواصل) كذا في أكثر الأحاديث، وفي رواية أبي هريرة عند البخاري " فقال رجلٌ من المسلمين " , وكأنّ القائل واحدٌ ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به. ولَم أقف على تسمية القائل في شيءٍ من الطّرق. قوله: (إني لست كهيئتكم) في رواية لهما " لست مثلكم " وفي حديث أبي زرعة عن أبي هريرة عند مسلم " لستم في ذلك مثلي " ونحوه في مرسل الحسن عند سعيد بن منصور. وفي حديث أبي هريرة في البخاري " وأيّكم مثلي " وهذا الاستفهام يفيد التّوبيخ المشعر بالاستبعاد، وقوله " مثلي " أي: على صفتي أو منزلتي من ربّي. قوله: (إني أطعم وأسقى) في رواية جويريّة المذكورة " إنّي أظلّ أطعم وأسقى ". وللبخاري من طريق شعبة عن قتادة عن أنس " إنّي أطعم وأسقى، أو إنّي أبيت أطعم وأسقى " هذا الشّكّ من شعبة، وقد رواه أحمد عن بهزٍ عنه بلفظ " إنى أظلّ - أو قال - إنّي أبيت " وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ " إنّ ربّي يطعمني ويسقيني " أخرجه التّرمذيّ.

وللبخاري عن أبي هريرة " إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " كذا في الطريقين عن أبي هريرة. (¬1) وقد رواه ثابتٌ عن أنس كما في الصحيحين " إنّي أظلّ يطعمني ربّى ويسقيني " وبيَّن في روايته سبب الحديث. وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - واصَلَ في آخر الشهر فواصل ناسٌ من أصحابه فبلغه ذلك (¬2). وهي محمولةٌ على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ , لأنّ المتحدّث عنه هو الإمساك ليلاً لا نهاراً. وأكثر الرّوايات إنّما هي " أبيت " وكأنّ بعض الرّواة عبّر عنها بأظلّ نظراً إلى اشتراكهما في مطلق الكون، يقولون كثيراً: أضحى فلان كذا مثلاً. ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضّحى، ومنه قوله تعالى (وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مسودّاً) فإنّ المراد به مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهارٍ دون ليلٍ. وقد رواه أحمد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة كلّهم عن أبي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1864) ومسلم أيضاً (1103) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، فقال رجلٌ من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. فلمَّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال , واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخَّر الهلال لزدتكم. كالمنكِّل لهم حين أبوا أن ينتهوا. ثم رواه البخاري (1865) من طريق معمر عن همام عن أبي هريرة مختصراً. ولم أره في مسلم من هذا الطريق. ورواه مسلم (1104) من طرق أخرى عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. كما سيذكره الشارح. (¬2) أخرجه البخاري (6814) ومسلم (1104) من رواية حميد عن ثابت. وفيه: لو مدَّ لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم.

معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ " إنّي أظلّ عند ربّي فيطعمني ويسقيني " وكذلك رواه أحمد أيضاً عن ابن نمير، وأبو نعيم في " المستخرج " من طريق إبراهيم بن سعيد عن ابن نمير عن الأعمش، وأخرجه أبو عوانة عن عليّ بن حرب عن أبي معاوية كذلك، وأخرجه هو وابن خزيمة من طريق عبيدة بن حميدٍ عن الأعمش كذلك. ووقع لمسلم فيه شيءٌ غريبٌ , فإنّه أخرجه عن ابن نمير عن أبيه فقال بمثل حديث عمارة عن أبي زرعة. ولفظ عمارة المذكور عنده " إنّي أبيت يطعمني ربّي ويسقيني " وقد عرفت أنّ رواية ابن نمير عند أحمد فيها " عند ربّي " وليس ذلك في شيء من الطّرق عن أبي هريرة إلاَّ في رواية أبي صالح. ولَم ينفرد بها الأعمش. فقد أخرجها أحمد أيضاً من طريق عاصم بن أبي النّجود عن أبي صالح، ووقعت في حديث غير أبي هريرة. وأخرجها الإسماعيليّ في حديث عائشة أيضاً عن الحسن بن سفيان عن عثمان بن أبي شيبة عن عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة (¬1) بلفظ " أظلّ عند الله يطعمني ويسقيني ". وعن عمران بن موسى عن عثمان بلفظ " عند ربّي " ووقعت أيضاً ¬

_ (¬1) حديث عائشة. أخرجه البخاري (1863) ومسلم (1105) من طرق عن عبدة به بلفظ " إني يطعمني ربي ويسقيني ". دون قوله (عند الله). ولذا عزا الحافظُ هذه الروايةُ للإسماعيلي وحده.

كذلك عند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن بلفظ " إنّي أبيت عند ربّي ". واختلف في معنى قوله " يطعمني ويسقيني ". فقيل: هو على حقيقته , وأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله. كرامةً له في ليالي صيامه. وتعقّبه ابن بطّال ومن تبعه: بأنّه لو كان كذلك لَم يكن مواصلاً، وبأنّ قوله " يظلّ " يدلّ على وقوع ذلك بالنّهار فلو كان الأكل والشّرب حقيقةً لَم يكن صائماً. وأجيب: بأنّ الرّاجح من الرّوايات لفظ " أبيت " دون أظلّ، وعلى تقدير الثّبوت فليس حمل الطّعام والشّراب على المجاز بأولى له من حمل لفظ " أظلّ " على المجاز. وعلى التّنزّل فلا يضرّ شيءٌ من ذلك , لأنّ ما يؤتى به الرّسول على سبيل الكرامة من طعام الجنّة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه كما غسل صدره - صلى الله عليه وسلم - في طست الذّهب، مع أنّ استعمال أواني الذّهب الدّنيويّة حرامٌ. وقال ابن المنيّر في الحاشية: الذي يفطر شرعاً إنّما هو الطّعام المعتاد، وأمّا الخارق للعادة كالمحضر من الجنّة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال وإنّما هو من جنس الثّواب كأكل أهل الجنّة في الجنّة، والكرامة لا تبطل العبادة. وقال غيره: لا مانع من حمل الطّعام والشّراب على حقيقتهما، ولا

يلزم شيء ممّا تقدّم ذكره، بل الرّواية الصّحيحة " أبيت " وأكله وشربه في الليل ممّا يؤتى به من الجنّة لا يقطع وصاله خصوصيّةً له بذلك، فكأنّه قال لَمّا قيل له: إنّك تواصل، فقال: إنّي لست في ذلك كهيئتكم " أي: على صفتكم في أنّ من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنّما يطعمني ربّي ويسقيني، ولا تنقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورةً ومعنًى. وقال الزّين بن المنيّر: هو محمولٌ على أنّ أكله وشربه في تلك الحالة كحال النّائم الذي يحصل له الشّبع والرّيّ بالأكل والشّرب ويستمرّ له ذلك حتّى يستيقظ , ولا يبطل بذلك صومه , ولا ينقطع وصاله , ولا ينقص أجره. وحاصله أنّه يحمل ذلك على حالة استغراقه - صلى الله عليه وسلم - في أحواله الشّريفة حتّى لا يؤثّر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشريّة. وقال الجمهور: قوله " يطعمني ويسقيني " مجاز عن لازم الطّعام والشّراب وهو القوّة، فكأنّه قال: يعطيني قوّة الآكل والشّارب، ويفيض عليّ ما يسدّ مسد الطّعام والشّراب ويقوى على أنواع الطّاعة من غير ضعف في القوّة ولا كلالٍ في الإحساس. أو المعنى إنّ الله يخلق فيه من الشّبع والرّيّ ما يغنيه عن الطّعام والشّراب فلا يحسّ بجوعٍ ولا عطشٍ. والفرق بينه وبين الأوّل. أنّه على الأوّل , يعطى القوّة من غير شبعٍ ولا ريٍّ مع الجوع

والظّمأ. وعلى الثّاني , يعطى القوّة مع الشّبع والرّيّ. ورجح الأوّل: بأنّ الثّاني ينافي حال الصّائم ويفوّت المقصود من الصّيام والوصال، لأنّ الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبيّ: ويبعده أيضاً النّظر إلى حاله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه كان يجوع أكثر ممّا يشبع , ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. قلت: وتمسّك ابن حبّان بظاهر الحال. فاستدل بهذا الحديث على تضعيف الأحاديث الواردة بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يجوع , ويشدّ الحجر على بطنه من الجوع، قال: لأنّ الله تعالى كان يطعم رسوله ويسقيه إذا واصل , فكيف يتركه جائعاً حتّى يحتاج إلى شدّ الحجر على بطنه؟. ثمّ قال: وماذا يغني الحجر من الجوع؟ ثمّ ادّعى: أنّ ذلك تصحيفٌ ممّن رواه , وإنّما هي الحجز. بالزّاي جمع حجزة. وقد أكثر النّاس من الرّدّ عليه في جميع ذلك، وأبلغ ما يردّ عليه به. أنّه أخرج في " صحيحه " من حديث ابن عبّاس قال: خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة فرأى أبا بكر وعمر فقال: ما أخرجكما؟ قالا: ما أخرجنا إلاَّ الجوع، فقال: وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلاَّ الجوع " الحديث. فهذا الحديث يردّ ما تمسّك به. وأمّا قوله " وما يغني الحجر من الجوع؟. فجوابه: أنّه يقيم الصّلب , لأنّ البطن إذا خلا ربّما ضعف صاحبه عن القيام لانثناء بطنه عليه، فإذا ربط عليه الحجر اشتدّ وقوي

صاحبه على القيام، حتّى قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظنّ الرّجلين يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرّجلين. ويحتمل: أن يكون المراد بقوله " يطعمني ويسقيني " أي: يشغلني بالتّفكّر في عظمته والتّملي بمشاهدته والتّغذّي بمعارفه وقرّة العين بمحبّته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطّعام والشّراب. وإلى هذا جنح ابن القيّم , وقال: قد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوقٍ وتجربةٍ يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والرّوح عن كثير من الغذاء الجسمانيّ , ولا سيّما الفرح المسرور بمطلوبه، الذي قرّت عينه بمحبوبه. واستُدل بمجموع هذه الأحاديث على أنّ الوصال من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أنّ غيره ممنوع منه إلاَّ ما وقع فيه التّرخيص من الإذن فيه إلى السّحر. ثمّ اختلف في المنع المذكور: فقيل: على سبيل التّحريم , وقيل: على سبيل الكراهة، وقيل: يحرم على من شقّ عليه , ويباح لمن لَم يشقّ عليه. وقد اختلف السّلف في ذلك. القول الأول: نُقل التّفصيل عن عبد الله بن الزّبير، وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عنه , أنّه كان يواصل خمسة عشر يوماً. وذهب إليه من الصّحابة أيضاً. أخت أبي سعيد , ومن التّابعين عبد الرّحمن بن أبي نعمٍ وعامر بن عبد الله بن الزّبير وإبراهيم بن زيد

التّيميّ وأبو الجوزاء. كما نقله أبو نعيم في ترجمته في " الحلية " وغيرهم رواه الطّبريّ وغيره. ومن حجّتهم حديث أبي هريرة , نّه - صلى الله عليه وسلم - واصل بأصحابه بعد النّهي. متفق عليه , فلو كان النّهي للتّحريم لَمَا أقرّهم على فعله، فعلم أنّه أراد بالنّهي الرّحمة لهم والتّخفيف عنهم. كما صرّحت به عائشة في حديثها، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم , ولَم ينكر على من بلغه أنّه فعله ممّن لَم يشقّ عليه. ونظير ذلك في صيام الدّهر، فمن لَم يشقّ عليه ولَم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السّنّة في تعجيل الفطر. لَم يمنع من الوصال. القول الثاني: ذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال، وعن الشّافعيّة في ذلك وجهان: التّحريم والكراهة، هكذا اقتصر عليه النّوويّ. وقد نصّ الشّافعيّ في " الأمّ " على أنّه محظورٌ، وأغرب القرطبيّ. فنقل التّحريم عن بعض أهل الظّاهر على شكٍّ منه في ذلك، ولا معنى لشكّه , فقد صرّح ابن حزمٍ بتحريمه , وصحَّحه ابن العربيّ من المالكيّة. القول الثالث: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعةٌ من المالكيّة إلى جواز الوصال إلى السّحر لحديث أبي سعيد المذكور. وهذا الوصال لا يترتّب عليه شيء ممّا يترتّب على غيره , إلاَّ أنّه في

الحقيقة بمنزلة عشائه إلاَّ أنّه يؤخّره , لأنّ الصّائم له في اليوم والليلة أكلةٌ فإذا أكلها السّحرَ كان قد نقلها من أوّل الليل إلى آخره. وكان أخفّ لجسمه في قيام الليل. ولا يخفى أنّ محل ذلك ما لَم يشقّ على الصّائم وإلا فلا يكون قربةً. وانفصل أكثر الشّافعيّة عن ذلك: بأنّ الإمساك إلى السّحر ليس وصالاً , بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النّهار، وإنّما أطلق على الإمساك إلى السّحر وصالاً لمشابهته الوصال في الصّورة، ويحتاج إلى ثبوت الدّعوى بأنّ الوصال إنّما هو حقيقةٌ في إمساك جميع الليل. وقد ورد أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل من سحرٍ إلى سحرٍ. أخرجه أحمد وعبد الرّزّاق من حديث عليٍّ، والطّبرانيّ من حديث جابر، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلاً من طريق ابن أبي نجيحٍ عن أبيه ومن طريق أبي قلابة، وأخرجه عبد الرّزّاق من طريق عطاء. واحتجّوا للتّحريم بقوله في الحديث المتقدّم " إذا أقبل الليل من هاهنا , وأدبر النّهار من هاهنا. فقد أفطر الصّائم " إذ لَم يجعل الليل محلاًّ لسوى الفطر. فالصّوم فيه مخالفةٌ لوضعه كيوم الفطر. وأجابوا أيضاً: بأنّ قوله " رحمةً لهم " لا يمنع التّحريم. فإنّ من رحمته لهم أن حرّمه عليهم. وأمّا مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريراً بل تقريعاً وتنكيلاً، فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النّهي في أكيد زجرهم، لأنّهم إذا

باشروا ظهرت لهم حكمة النّهي , وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم لِمَا يترتّب عليهم من الملل في العبادة والتّقصير فيما هو أهمّ منه وأرجح من وظائف الصّلاة والقراءة وغير ذلك، والجوع الشّديد ينافي ذلك. وقد صرّح بأنّ الوصال يختصّ به لقوله " لست في ذلك مثلكم " وقوله " لست كهيئتكم " هذا مع ما انضمّ إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما تقدّم في بابه (¬1). قلت: ويدلّ على أنّه ليس بمحرّمٍ حديث أبي داود من طريق عبد الرّحمن ابن أبي ليلى عن رجُلٍ من الصّحابة قال: نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة والمواصلة , ولَم يحرّمهما إبقاءً على أصحابه " وإسناده صحيحٌ، فإنّ الصّحابيّ صرّح فيه بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يحرّم الوصال. وروى البزّار والطّبرانيّ من حديث سمرة: نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، وليس بالعزيمة. وأمّا ما رواه الطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث أبي ذرٍّ , أنّ جبريل قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الله قد قَبِلَ وصالك , ولا يحلّ لأحدٍ بعدك. فليس إسناده بصحيحٍ. فلا حجّة فيه. ومن أدلة الجواز. إقدام الصّحابة على الوصال بعد النّهي , فدلَّ على أنّهم فهموا أنّ النّهي للتّنزيه لا للتّحريم , وإلا لَمَا أقدموا عليه. ويؤيّد أنّه ليس بمحرّمٍ أيضاً حديث بشير بن الخصاصية. أخرجه أحمد والطّبرانيّ وسعيد بن منصور وعبد بن حميدٍ وابن أبي حاتم في " ¬

_ (¬1) أي: في حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - الماضي برقم (197).

تفسيرهما " بإسنادٍ صحيحٍ إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصية , قالت: أردتُ أن أصوم يومين مواصلةً فمنعني بشير , وقال: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا , وقال: يفعل ذلك النّصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى، أتمّوا الصّيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا " لفظ ابن أبي حاتم. فإنه - صلى الله عليه وسلم - سوّى في عِلَّة النّهي بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كلٍّ منهما: إنّه فِعْل أهل الكتاب، ولَم يقل أحدٌ بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتدّ به من أهل الظّاهر. ومن حيث المعنى ما فيه من فَطَمَ النّفس وشهواتها وقمعها عن ملذوذاتها فلهذا استمرّ على القول بجوازه مطلقاً أو مقيّداً من تقدّم ذكره. والله أعلم. وفي أحاديث الباب من الفوائد. استواء المكلفين في الأحكام، وأنّ كلّ حكم ثبت في حقّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثبت في حقّ أمّته إلاَّ ما استثني بدليلٍ. وفيه جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولَم يعلم المستفتي بسرّ المخالفة، وفيه الاستكشاف عن حكمة النّهي. وفيه ثبوت خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. وأنّ عموم قوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ) مخصوص. وفيه أنّ الصّحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ويبادرون إلى الائتساء به إلاَّ فيما نهاهم عنه.

وفيه أنّ خصائصه لا يتأسّى به في جميعها، وقد توقّف في ذلك إمام الحرمين. وقال أبو شامة: ليس لأحدٍ التّشبّه به في المباح كالزّيادة على أربع نسوةٍ، ويستحبّ التّنزّه عن المُحرَّم عليه والتّشبّه به في الواجب عليه كالضّحى، وأمّا المستحبّ فلم يتعرّض له، والوصال منه فيحتمل أن يقال: إن لَم ينه عنه لَم يمنع الائتساء به فيه. وفيه بيان قدرة الله تعالى على إيجاد المسبّبات العاديات من غير سببٍ ظاهرٍ كما تقدّم. والله أعلم. قوله في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: (فليواصل إلى السحر) تقدّم أنّه قول أحمد وطائفةٍ من أصحاب الحديث، وتقدّم توجيهه، وأنّ من الشّافعيّة مَن قال: إنّه ليس بوصالٍ حقيقةً. تنْبيه: وقع عند ابن خزيمة في حديث أبي صالح عن أبي هريرة من طريق عبيدة بن حميدٍ عن الأعمش عنه تقييد وصال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنّه إلى السّحر، ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواصل إلى السّحر، ففعل بعض أصحابه ذلك فنهاه، فقال: يا رسولَ الله إنّك تفعل ذلك .. الحديث. وظاهره يعارض حديث أبي سعيد هذا، فإنّ مقتضى حديث أبي صالح النّهي عن الوصال إلى السّحر. وصريح حديث أبي سعيد الإذن بالوصال إلى السّحر. والمحفوظ في حديث أبي صالح إطلاق النّهي عن الوصال بغير

تقييد بالسّحر، ولذلك اتّفق عليه جميع الرّواة عن أبي هريرة، فرواية عبيدة بن حميدٍ هذه شاذّةٌ. وقد خالفه أبو معاوية - وهو أضبط أصحاب الأعمش - فلم يذكر ذلك. أخرجه أحمد وغيره عن أبي معاوية، وتابعه عبد الله بن نمير عن الأعمش كما تقدّم. وعلى تقدير أن تكون رواية عبيدة بن حميدٍ محفوظة. فقد أشار ابن خزيمة إلى الجمع بينهما: بأنّه يحتمل أن يكون نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال أوّلاً مطلقاً سواءٌ جميع الليل أو بعضه. وعلى هذا يُحمل حديث أبي صالح، ثمّ خصّ النّهي بجميع الليل فأباح الوصال إلى السّحر، وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد. أو يُحمل النّهي في حديث أبي صالح على كراهة التّنزيه، والنّهي في حديث أبي سعيد على ما فوق السّحر على كراهة التّحريم. والله أعلم.

باب أفضل الصيام وغيره

باب أفضل الصيام وغيره الحديث العشرون 201 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - , قال: أُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّي أقول: والله لأصومنّ النّهار , ولأقومنّ الليل ما عشت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت الذي قلتَ ذلك؟ فقلتُ له: قد قلتُه , بأبي أنت وأمّي. فقال: فإنّك لا تستطيع ذلك. فصم وأفطر , وقم ونَم. وصم من الشّهر ثلاثة أيّامٍ فإنّ الحسنة بعشر أمثالها. وذلك مثل صيام الدّهر. قلتُ: فإنّي أطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وأفطر يومين. قلتُ: أُطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وأفطر يوماً. فذلك مثل صيام داود. وهو أفضل الصّيام. فقلتُ: إنّي أُطيق أفضل من ذلك. قال: لا أفضل من ذلك. (¬1) وفي روايةٍ: لا صوم فوق صوم أخي داود - شطر الدّهر - صم يوماً وأفطر يوماً. (¬2) قوله: (عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -) ابن وائل السهمي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1875 , 3236) ومسلم (1159) من طريق الزهري عن أبي سلمة وابن المسيب عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري (1102 , 1874 , 1876 , 1877 , 1878 , 4765 , 4767 , 4903 , 5783) ومسلم (1159) من طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - مطوّلاً ومختصراً. وسيذكر الشارح رحمه الله جلّ هذه الطرق. وما فيها من فوائد. (¬2) أخرج هذه الرواية البخاري (1879 , 5921) ومسلم (1159) من طريق أبي قلابة عن أبي المليح عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -.

صحابي ابن صحابي. (¬1) قوله: (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت الذي قلتَ ذلك , فقلتُ له: قد قلتُه) في رواية لهما " أَلَم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ ". زاد مسلم من رواية عكرمة بن عمّار عن يحيى عن أبي سلمة عن ابن عمرو: فقلت: بلى يا نبيّ الله، ولَم أرد بذلك إلاَّ الخير. وللنّسائيّ من طريق محمّد بن إبراهيم عن أبي سلمة قال: قال لي عبد الله بن عمرو: يا ابن أخي إنّي قد كنت أجمعت على أن أجتهد اجتهاداً شديداً، حتّى قلت: لأصومن الدّهر. ولأقرأنَّ القرآن في كلّ ¬

_ (¬1) كنيته أبو محمد عند الأكثر , ويقال أبو عبد الرحمن. حكاه عباس عن ابن معين , وحكى أبو نعيم قولاً أنَّ كنيته أبو نصير. قال أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه ": حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحارث بن جزء , أنهم حضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة فقال له: ما اسمك؟ قال: العاص , وقال لابن عمرو بن العاص: ما اسمك؟ قال: العاص , وقال لابن عمر: ما اسمك؟ قال: العاص. فقال: أنتم عبيد الله فخرجنا وقد غيرت أسماؤنا. قال الطبري: قيل كان طوالاً أحمر عظيم الساقين أبيض الرأس واللحية. وعمي في آخر عمره , وقال ابن سعد: أسلم قبل أبيه , ويقال لم يكن بين مولدهما إلاَّ 12 سنة. أخرجه البخاري عن الشعبي , وجزم ابن يونس: بأنَّ بينهما 20 سنة , وقال الواقدي: أسلم عبد الله قبل أبيه. وروى أحمد والبغوي من طريق واهب المعافري عن عبد الله بن عمرو قال: رأيت فيما يرى النائم كأنَّ في إحدى يدي عسلاً وفي الأخرى سمناً. وأنا ألعقهما فذكرتُ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تقرأ الكتابين التوراة والقرآن , وكان يقرؤهما. وفي سنده ابن لهيعة. قال الواقدي: مات بالشام سنة 65. وهو يومئذ ابن 72 , وقال ابن البرقي: وقيل مات بمكة , وقيل: بالطائف , وقيل: بمصر , ودفن في داره. قاله يحيى بن بكير , وحكى البخاري قولاً آخر إنه مات سنة 69. وبالأول جزم ابن يونس , وقال ابن أبي عاصم: مات بمكة وهو ابن 72. وقيل: مات سنة 68 وقيل 69. قاله في الإصابة.

ليلة. وللبخاري من طريق مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأةً ذات حسبٍ وكان يتعاهدها، فسألها عن بعلها فقالت: نِعْم الرّجل من رجلٍ، لَم يطأ لنا فراشاً , ولَم يفتّش لنا كنفاً منذ أتيناه. فذكر ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: الْقَني، فلقيته بعد. فذكر الحديث. زاد النّسائيّ وابن خزيمة وسعيد بن منصور من طريق أخرى عن مجاهد " فوقع عليّ أَبِي فقال: زوّجتك امرأة فعضلتها وفعلتَ وفعلتَ وفعلتَ، قال: فلم ألتفت إلى ذلك لِمَا كانت لي من القوّة، فذكر ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: القَني به، فأتيته معه " ولأحمد من هذا الوجه " ثمّ انطلق إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فشكاني ". وللبخاري من طريق أبي المليح عن عبد الله بن عمرو قال: ذكر للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صومي، فدخل عليّ، فألقيتُ له وسادة من أدم حشوها ليف فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه " وللبخاري ومسلم من طريق أبي العبّاس عن عبد الله بن عمرو: بلغ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّي أسرد الصّوم وأصلي الليل، فإمّا أرسل لي وإمّا لقيته. ويجمع بينهما: بأن يكون عمرو توجّه بابنه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك، ثمّ أتاه إلى بيته زيادةً في التّأكيد. وفيه أنّ الحكم لا ينبغي إلَّا بعد التّثبّت، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يكتف بما نقل له عن عبد الله حتّى لقيه واستثبته فيه، لاحتمال أن يكون قال ذلك

بغير عزم. أو عقله بشرطٍ لَم يطّلع عليه لناقلٍ ونحو ذلك. قوله: (قال: فإنك لا تستطيع ذلك) في رواية لهما " فلا تفعل. صم وأفطر، وقم ونَم، فإنّ لجسدك عليك حقّاً، وإنّ لعينك عليك حقّاً، وإنّ لزوجك عليك حقّاً، وإنّ لزورك عليك حقّاً ". ولهما أيضاً " فإنّك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك " أي: كلَّت. وزاد في رواية ابن خزيمة من طريق حصينٍ عن مجاهد " إنّ لكل عامل شرّةً - وهو بكسر المعجمة وتشديد الرّاء - ولكل شرّةٍ فترةً فمن كانت فترته إلى سنّتي فقد اهتدى , ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك. وقوله: لا تستطيع. يحتمل: أن يريد به الحالة الرّاهنة لِمَا علمه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أنّه يتكلف ذلك , ويدخل به على نفسه المشقّة ويفوّت به ما هو أهمّ من ذلك. ويحتمل: أن يريد به ما سيأتي بعدُ إذا كبر وعجز كما اتّفق له سواء، وكره أن يوظّف على نفسه شيئاً من العبادة , ثمّ يعجز عنه فيتركه لِمَا تقرّر من ذمّ من فعل ذلك. ففي صحيح مسلم قال: فشدَّدتُ، فشدّد علي. قال: وقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر , قال: فصرت إلى الذي قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كبرت وددت أني كنت قبلتُ رخصةَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. وللبخاري: وكان عبد الله بن عمرو يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبِلْت رخصةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال النّوويّ: معناه أنّه كبر وعجَز عن المحافظة على ما التزمه ووظّفه على نفسه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشقّ عليه فعله لعجزه، ولَم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنّى أن لو قبل الرّخصة فأخذ بالأخفّ. قلت: ومع عجزه وتمنّيه الأخذ بالرّخصة لَم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف. كما في رواية حصينٍ عن مجاهد عن ابن عمرو عند ابن خزيمة " وكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيّام كذلك , يصِل بعضها إلى بعض , ثمّ يفطر بعدد تلك الأيّام فيقوى بذلك، وكان يقول: لأنْ أكون قبلت الرّخصة أحبّ إليّ ممّا عدل به، لكنّي فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره ". تنبيه: قوله: حقاً. للأكثر بالنصب , على أنه اسم إنَّ , وفي رواية كريمة بالرفع على أنه الخبر. والاسم ضمير الشأن. قوله: (فصم وأفطر) أي: فإذا عرفت ذلك فصم تارة وأفطر تارة لتجمع بين المصلحتين. قوله: (وقم ونم) سيأتي الكلام عليه في الحديث الذي بعده إن شاء الله. قوله: (وصم من الشهر ثلاثة أيام) بعد قوله " فصم وأفطر " بيانٌ لِمَا أجمل من ذلك وتقريرٌ له على ظاهره، إذ الإطلاق يقتضي المساواة. وللبخاري ومسلم " فإنّ بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام " وفي رواية أبي المليح " يكفيك من كلّ شهر ثلاثة أيّام، قلت: يا

رسولَ الله، قال: خمساً، قلت: يا رسولَ الله، قال: سبعاً، قلت: يا رسولَ الله، قال: تسعاً، قلت: يا رسولَ الله، قال: إحدى عشرة. واستدل به عياضٌ على تقديم الوتر على جميع الأمور. وفيه نظرٌ. لِمَا في رواية مسلم من طريق أبي عياضٍ عن عبد الله بن عمرو " صم يوماً يعني من كلّ عشرة أيّامٍ ولك أجر ما بقي، قال: إنّي أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ولك أجر ما بقي، قال: إنّي أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيّام. ولك أجر ما بقي، قال: إنّي أطيق أكثر من ذلك , قال: صم أربعة أيّام. ولك أجر ما بقي، قال: إنّي أطيق أكثر من ذلك، قال: صم صوم داود. وهذا يقتضي أنّه أمره بصيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر ثمّ بستّةٍ ثمّ بتسعةٍ ثمّ باثني عشر ثمّ بخمسة عشر، فالظّاهر أنّه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيّام من كلّ شهر , فلمّا قال إنّه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتّدريج إلى أن وصله إلى خمسة عشر يوماً , فذكر بعض الرّواة عنه ما لَم يذكره الآخر. ويدلُّ على ذلك رواية عطاء بن السّائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن أبي داود " فلم يزل يناقصني وأناقصه ". ووقع للنّسائيّ في رواية محمّد بن إبراهيم عن أبي سلمة " صم الاثنين والخميس من كلّ جمعة " وهو فردٌ من أفراد ما تقدّم ذكره. وقد استشكل قوله " صم من كلّ عشرة أيّامٍ يوماً , ولك أجر ما بقي " مع قوله " صم كل عشرة أيّام يومين , ولك أجر ما بقي .. إلخ

" لأنّه يقتضي الزّيادة في العمل والنّقص من الأجر، وبذلك ترجم له النّسائيّ. وأجيب: بأنّ المراد لك أجر ما بقي بالنّسبة إلى التّضعيف. قال عياض: قال بعضهم معنى " صم يوماً ولك أجر ما بقي " أي: من العشرة، وقوله " صم يومين ولك أجر ما بقي " أي: من العشرين، وفي الثّلاثة ما بقي من الشّهر، وحمله على ذلك استبعاد كثرة العمل وقلة الأجر. وتعقّبه عياضٌ: بأنّ الأجر إنّما اتّحد في كلّ ذلك , لأنّه كان نيّته أن يصوم جميع الشّهر , فلمّا منعه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إبقاءً عليه لِمَا ذكر في أجر نيّته على حاله. سواءٌ صام منه قليلاً أو كثيراً. كما تأوّله في حديث " نيّة المؤمن خيرٌ من عمله " أي: إنّ أجره في نيّته أكثر من أجر عمله لامتداد نيّته بما لا يقدر على عمله. انتهى. والحديث المذكور ضعيف، وهو في " مسند الشّهاب ". والتّأويل المذكور لا بأس به. ويحتمل أيضاً: إجراء الحديث على ظاهره، والسّبب فيه أنّه كلَّما ازداد من الصّوم ازداد من المشقّة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوّتها مشقّة الصّوم فينقص الأجر باعتبار ذلك، على أنّ قوله في نفس الخبر " صم أربعة أيّام ولك أجر ما بقي ". يردُّ الحمل الأوّل، فإنّه يلزم منه - على سياق التّأويل المذكور - أن

يكون التّقدير: ولك أجر أربعين، وقد قيّده في نفس الحديث بالشّهر والشّهر لا يكون أربعين، وكذلك قوله في روايةٍ أخرى للنّسائيّ من طريق ابن أبي ربيعة عن عبد الله بن عمرو بلفظ " صم من كلّ عشرة أيّام يوماً , ولك أجر تلك التّسعة " ثمّ قال فيه " من كلّ تسعة أيّام يوماً. ولك أجر تلك الثّمانيّة " ثمّ قال " من كلّ ثمانيّة أيّام يوماً. ولك أجر السّبعة. قال: فلم يزل حتّى قال: صم يوماً وأفطر يوماً. وله من طريق شعيب بن محمّد بن عبد الله بن عمرو عن جدّه بلفظ " صم يوماً ولك أجر عشرةٍ، قلت: زدني، قال: صم يومين ولك أجر تسعة، قل: زدني قال: صم ثلاثة ولك أجر ثمانيّة " فهذا يدفع في صدر ذلك التّأويل الأوّل. والله أعلم. قوله: (مثل صيام الدّهر) يقتضي أنّ المثليّة لا تستلزم التّساوي من كلّ جهة , لأنّ المراد به هنا أصل التّضعيف دون التّضعيف الحاصل من الفعل، ولكن يصدق على فاعل ذلك أنّه صام الدّهر مجازاً. قوله: (فصم يوماً وأفطر يومين) وللبخاري من طريق مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو " صم ثلاثة أيّام في الجمعة، قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: صم يوماً وأفطر يومين، قلت: أطيق أكثر من ذلك ". قال الدّاوديّ. هذا وهْم من الرّاوي , لأنّ ثلاثة أيّام من الجمعة أكثر من فطر يومين وصيام يوم، وهو إنّما يدرجه من الصّيام القليل إلى الصّيام الكثير.

قلت: وهو اعتراض متّجه، فلعله وقع من الرّاوي فيه تقديم وتأخير، وقد سلِمتْ رواية هشيمٍ عن حصين بن عبد الرّحمن، ومغيرة الضّبّيّ عن مجاهدٍ من ذلك. فإنّ لفظه " صم في كلّ شهر ثلاثة أيّام، قلت: إنّي أقوى أكثر من ذلك. فلم يزل يرفعني حتّى قال: صم يوماً وأفطر يوماً ". قوله: (فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود - صلى الله عليه وسلم - , وهو أفصل الصيام) وللبخاري " قال: فصم صيام نبيّ الله داود عليه السّلام، ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبيّ الله داود عليه السّلام؟ قال: نصف الدّهر ". زاد أحمد وغيره من رواية مجاهد " قلت: قد قبلت. قوله: (فقال: لا أفضل من ذلك) ليس فيه نفي المساواة صريحاً، لكنّ قوله في الرّواية الآتية من طريق عمرو بن أوسٍ عن عبد الله بن عمرو " أحبّ الصّيام إلى الله صيام داود " (¬1) يقتضي ثبوت الأفضليّة مطلقاً. ورواه التّرمذيّ من وجهٍ آخر عن أبي العبّاس عن عبد الله بن عمرو بلفظ " أفضل الصّيام صيام داود "، وكذلك رواه مسلمٌ من طريق أبي عياضٍ عن عبد الله، ومقتضاه أن تكون الزّيادة على ذلك من الصّوم مفضّلةً. قوله: (أخي داود عليه السلام) هو داود بن إيشا - بكسر الهمز وسكون التّحتانيّة بعدها معجمة - ابن عوبد - بوزن جعفر بمهملة ¬

_ (¬1) انظر الحديث الذي بعده.

وموحّدة - ابن باعر - بموحّدة ومهملة مفتوحة - ابن سلمون بن يارب - بتحتانيّة وآخره موحّدة - ابن رام بن حضرون - بمهملة ثمّ معجمة - ابن فارص - بفاء وآخره مهملة - ابن يهوذا بن يعقوب. تكميل: زاد الشيخان في آخره " لا صام من صام الأبد مرتين " ولمسلم قالها ثلاثاً. واستدل بهذا. وهو القول الأول. على كراهية صوم الدّهر. قال ابن التّين: استدل على كراهته من هذه القصّة من أوجهٍ. نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الزّيادة، وأمره بأن يصوم ويفطر , وقوله " لا أفضل من ذلك "، ودعاؤه على من صام الأبد. وقيل: معنى قوله " لا صام " النّفي. أي: ما صام كقوله تعالى (فلا صدّق ولا صلَّى) وقوله في حديث أبي قتادة عند مسلم , وقد سئل عن صوم الدّهر: لا صام ولا أفطر , أو ما صام وما أفطر. وفي رواية التّرمذيّ " لَم يصم ولَم يفطر " وهو شكٌّ من أحد رواته. ومقتضاه أنّهما بمعنًى واحدٍ. والمعنى بالنّفي أنّه لَم يحصّل أجر الصّوم لمخالفته، ولَم يفطر , لأنّه أمسك. وإلى كراهة صوم الدّهر مطلقاً ذهب إسحاق وأهل الظّاهر، وهي روايةٌ عن أحمد. القول الثاني: شذّ ابن حزمٍ , فقال: يحرم. وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي عمرو الشّيبانيّ قال:

بلغ عمر أنّ رجلاً يصوم الدّهر، فأتاه فعلاه بالدّرّة , وجعل يقول: كُلْ يا دهريّ. ومن طريق أبي إسحاق , أنّ عبد الرّحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدّهر , فقال عمرو بن ميمون: لو رأى هذا أصحاب محمّدٍ لرجموه. واحتجّوا أيضاً: بحديث أبي موسى رفعه " من صام الدّهر ضيّقت عليه جهنّم، وعقد بيده " أخرجه أحمد والنّسائيّ وابن خزيمة وابن حبّان. وظاهره أنّها تضيق عليه حصراً له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها , ورغبته عن سنّة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - , واعتقاده أنّ غير سنّته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشّديد فيكون حراماً. وإلى الكراهة مطلقاً. ذهب ابن العربيّ من المالكيّة , فقال: قوله " لا صام من صام الأبد " إن كان معناه الدّعاء فيا ويح من أصابه دعاء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معناه الخير فيا ويح من أخبر عنه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه لَم يصم، وإذا لَم يصم شرعاً لَم يكتب له الثّواب لوجوب صدق قوله - صلى الله عليه وسلم - , لأنّه نفى عنه الصّوم، وقد نفى عنه الفضل كما تقدّم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟. القول الثالث: جواز صيام الدّهر. وحملوا أخبار النّهي على من صامه حقيقةً فإنّه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين. وهذا اختيار ابن المنذر وطائفةٍ، وروي عن عائشة نحوه. وفيه نظرٌ , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - قد قال جواباً لمن سأله عن صوم الدّهر " لا

صام ولا أفطر " وهو يؤذن بأنّه ما أجر ولا أثم، ومن صام الأيّام المحرّمة لا يقال فيه ذلك , لأنّه عند من أجاز صوم الدّهر إلاَّ الأيّام المحرّمة يكون قد فعل مستحبّاً وحراماً. وأيضاً فإنّ أيّام التّحريم مستثناةٌ بالشّرع غير قابلةٍ للصّوم شرعاً , فهي بمنزلة الليل وأيّام الحيض فلم تدخل في السّؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله " لا صام ولا أفطر " لمن لَم يعلم تحريمها. القول الرابع: استحباب صيام الدّهر لمن قوي عليه. ولَم يفوّت فيه حقّاً، وإلى ذلك ذهب الجمهور. قال السّبكيّ: أطلق أصحابنا كراهة صوم الدّهر لمن فوّت حقّاً، ولَم يوضّحوا. هل المراد الحقّ الواجب أو المندوب؟ ويتّجه أن يقال: إن علم أنّه يفوّت حقّاً واجباً حرم، وإن علم أنّه يفوّت حقّاً مندوباً أولى من الصّيام كره، وإن كان يقوم مقامه فلا. وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم " ذِكْر العلة التي بها زجر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الدّهر " وساق الحديث الذي فيه " إذا فعلتَ ذلك هجمتْ عينك ونفهتْ نفسك ". ومن حجّتهم حديث حمزة بن عمرو الذي مضى (¬1) فإنّ في بعض طرقه عند مسلم " أنّه قال: يا رسولَ الله إنّي أسرد الصّوم ". فحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو " لا أفضل من ذلك " أي: في ¬

_ (¬1) انظره برقم (189).

حقّك فيلتحق به من في معناه ممّن يدخل فيه على نفسه مشقّةً أو يفوّت حقّاً، ولذلك لَم ينه حمزة بن عمرو عن السّرد. فلو كان السّرد ممتنعاً لبيّنه له , لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قاله النّوويّ. وتعقّب: بأنّ سؤال حمزة إنّما كان عن الصّوم في السّفر لا عن صوم الدّهر، ولا يلزم من سرد الصّيام صوم الدّهر فقد قال أسامة بن زيد: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يسرد الصّوم فيقال: لا يفطر. أخرجه أحمد. ومن المعلوم أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يكن يصوم الدّهر فلا يلزم من ذكر السّرد صيام الدّهر. وأجابوا عن حديث أبي موسى المقدّم ذكره: بأنّ معناه ضيّقت عليه فلا يدخلها، فعلى هذا تكون " على " بمعنى. أي: ضيّقت عنه. وهذا التّأويل حكاه الأثرم عن مسدّد. وحكى ردّه عن أحمد. وقال ابن خزيمة: سألت المزنيّ عن هذا الحديث. فقال: يشبه أن يكون معناه. ضيّقت عنه فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره , لأنّ من ازداد لله عملاً وطاعةً ازداد عند الله رفعةً وعلته كرامةٌ. ورجّح هذا التّأويل جماعةٌ منهم الغزاليّ. فقالوا: له مناسبة من جهة أنّ الصّائم لَمّا ضيّق على نفسه مسالك الشّهوات بالصّوم ضيّق الله عليه النّار. فلا يبقى له فيها مكان , لأنّه ضيّق طرقها بالعبادة. وتعقّب: بأنّه ليس كلّ عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقرّباً. بل ربّ عملٍ صالحٍ إذا ازداد منه ازداد بعداً. كالصّلاة في الأوقات المكروهة.

والأوْلَى إجراء الحديث على ظاهره , وحمله على من فوّت حقّاً واجباً بذلك فإنّه يتوجّه إليه الوعيد، ولا يخالف القاعدة التي أشار إليها المزنيّ. ومن حجّتهم أيضاً: قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق حديث الباب كما تقدّم في الطّريقين الماضيين " فإنّ الحسنة بعشرة أمثالها، وذلك مثل صيام الدّهر ". وقوله فيما رواه مسلم " من صام رمضان وأتبعه ستّاً من شوّال فكأنّما صام الدّهر ". قالوا: فدلَّ ذلك على أنّ صوم الدّهر أفضل ممّا شبه به. وأنّه أمر مطلوب. وتعقّب: بأنّ التّشبيه في الأمر المقدّر لا يقتضي جوازه فضلاً عن استحبابه، وإنّما المراد حصول الثّواب على تقدير مشروعيّة صيام ثلاثمائة وستّين يوماً، ومن المعلوم أنّ المكلف لا يجوز له صيام جميع السّنة فلا يدلّ التّشبيه على أفضليّة المشبّه به من كلّ وجه. واختلف المجيزون لصوم الدّهر بالشّرط المتقدّم. هل هو أفضل , أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل؟. القول الأول: صرّح جماعةٌ من العلماء: بأنّ صوم الدّهر أفضل , لأنّه أكثر عملاً فيكون أكثر أجراً , وما كان أكثر أجراً كان أكثر ثواباً. وبذلك جزم الغزاليّ أوّلاً. وقيّده بشرط أن لا يصوم الأيّام المنهيّ عنها، وأن لا يرغب عن السّنة بأنّ يجعل الصّوم حجراً على نفسه، فإذا أمن من ذلك فالصّوم من أفضل الأعمال، فالاستكثار منه زيادة

في الفضل. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ الأعمال متعارضة المصالح والمفاسد، ومقدار كلّ منها في الحثّ والمنع غير متحقّق، فزيادة الأجر بزيادة العمل في شيء يعارضه اقتضاء العادة التّقصير في حقوق أخرى يعارضها العمل المذكور، ومقدار الفائت من ذلك مع مقدار الحاصل غير متحقّق، فالأولى التّفويض إلى حكم الشّارع , ولِما دلَّ عليه ظاهر قوله " لا أفضل من ذلك " وقوله " إنّه أحبُّ الصّيام إلى الله تعالى ". القول الثاني: ذهب جماعة منهم المتولي من الشّافعيّة. إلى أنّ صيام داود أفضل. وهو ظاهر الحديث بل صريحه، ويترجّح من حيث المعنى أيضاً بأنّ صيام الدّهر قد يفوت بعض الحقوق كما تقدّم. وبأنّ من اعتاده فإنّه لا يكاد يشقّ عليه بل تضعّف شهوته عن الأكل وتقل حاجته إلى الطّعام والشّراب نهاراً , ويألف تناوله في الليل بحيث يتجدّد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنّه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر. وقد نقل التّرمذيّ عن بعض أهل العلم , أنّه أشقّ الصّيام، ويأمن مع ذلك غالباً من تفويت الحقوق كما قال في حقّ داود عليه السّلام " كان يصوم يوماً ويفطر يوماً , ولا يفرّ إذا لاقى " متفق عليه , لأنّ من أسباب الفرار ضعف الجسد , ولا شكّ أنّ سرد الصّوم ينهكه. وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود فيما رواه سعيد بن منصور بإسنادٍ

صحيح عنه أنّه قيل له: إنّك لتُقل الصّيام، فقال: إنّي أخاف أن يضعفني عن القراءة والقراءة أحبّ إليّ من الصّيام. نعم. إن فُرِض أنّ شخصاً لا يفوته شيء من الأعمال الصّالحة بالصّيام أصلاً , ولا يفوّت حقّاً من الحقوق التي خوطب بها لَم يبعد أن يكون في حقّه أرجح. وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم " الدّليل على أنّ صيام داود إنّما كان أعدل الصّيام وأحبّه إلى الله , لأنّ فاعله يؤدّي حقّ نفسه وأهله وزائره أيّام فطره بخلاف من يتابع الصّوم " وهذا يشعر بأنّ من لا يتضرّر في نفسه ولا يفوّت حقّاً أن يكون أرجح. وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال: فمن يقتضي حاله الإكثار من الصّوم أكثر منه، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه، ومن يقتضي حاله المزج فعله، حتّى إنّ الشّخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى ذلك أشار الغزاليّ أخيراً. والله أعلم بالصّواب. وفي قصّة عبد الله بن عمرو هذه من الفوائد. بيان رفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمّته وشفقته عليهم وإرشاده إيّاهم إلى ما يصلحهم وحثّه إيّاهم على ما يطيقون الدّوام عليه، ونهيهم عن التّعمّق في العبادة لِمَا يخشى من إفضائه إلى الملل المفضي إلى التّرك أو ترك البعض، وقد ذمّ الله تعالى قوماً لازموا العبادة ثمّ فرّطوا فيها. وفيه النّدب إلى الدّوام على ما وظّفه الإنسان على نفسه من العبادة.

وفيه جواز الإخبار عن الأعمال الصّالحة والأوراد ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أنّ محل ذلك عند أمن الرّياء. وفيه جواز القسم على التزام العبادة، وفائدته الاستعانة باليمين على النّشاط لها، وأنّ ذلك لا يخلّ بصحّة النّيّة والإخلاص فيها، وأنّ اليمين على ذلك لا يلحقها بالنّذر الذي يجب الوفاء به. وفيه جواز الحلف من غير استحلافٍ، وأنّ النّفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال. وفيه جواز التّفدية بالأب والأمّ، وفيه الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في أنواع العبادات. وفيه أنّ طاعة الوالد لا تجب في ترك العبادة ولهذا احتاج عمرو إلى شكوى ولده عبد الله، ولَم ينكر عليه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ترك طاعته لأبيه. وفيه زيارة الفاضل للمفضول في بيته، وإكرام الضّيف بإلقاء الفرش ونحوها تحته، وتواضع الزّائر بجلوسه دون ما يفرش له، وأن لا حرج عليه في ذلك إذا كان على سبيل التّواضع والإكرام للمزور. وفي الحديث أيضاً جواز تحدّث المرء بما عزم عليه من فعل الخير، وتفقّد الإمام لأمور رعيّته كليّاتها وجزئيّاتها، وتعليمهم ما يصلحهم. وفيه تعليل الحكم لمن فيه أهليّة ذلك، وأنّ الأولى في العبادة تقديم

الواجبات على المندوبات، وأنّ من تكلف الزّيادة على ما طبع عليه يقع له الخلل في الغالب. وفيه الحضّ على ملازمة العبادة لأنّه - صلى الله عليه وسلم - مع كراهته له التّشديد على نفسه حضّه على الاقتصاد كأنّه قال له , ولا يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيّع حقّ العبادة وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما.

الحديث الواحد والعشرون

الحديث الواحد والعشرون 202 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ أحبّ الصّيام إلى الله صيام داود , وأحبّ الصّلاة إلى الله صلاة داود. كان ينام نصف الليل , ويقوم ثلثه , وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً (¬1) قوله: (إنَّ أحب الصيام إلى الله صيام داود - عليه السلام -) تقدّمت مباحثه في الحديث قبله. قوله: (وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود - عليه السلام -) قال المُهلَّب: كان داود عليه السّلام يجمّ نفسه بنومٍ أوّل الليل ثمّ يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه: هل من سائل فأعطيه سؤله، ثمّ يستدرك بالنّوم ما يستريح به من نصب القيام في بقيّة الليل، وهذا هو النّوم عند السّحر كما ترجم به البخاري بقوله " من نام عند السحر ". وإنّما صارت هذه الطّريقة أحبّ من أجل الأخذ بالرّفق للنّفس التي يخشى منها السّآمة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا. (¬2) والله أحبّ أن يديم فضله ويوالي إحسانه، وإنّما كان ذلك أرفق , لأنّ النّوم بعد القيام يريح البدن , ويذهب ضرر السّهر وذبول الجسم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1079 , 3238) ومسلم (1159) من طريق عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (1100) ومسلم (785) من حديث عائشة رضي الله عنها.

بخلاف السّهر إلى الصّباح. وفيه من المصلحة أيضاً استقبال صلاة الصّبح وأذكار النّهار بنشاطٍ وإقبال، وأنّه أقرب إلى عدم الرّياء , لأنّ من نام السّدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى فهو أقرب إلى أن يخفي عمله الماضي على من يراه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد. وحكَى عن قوم: أنّ معنى قوله " أحبّ الصّلاة " هو بالنّسبة إلى من حاله مثل حال المخاطب بذلك وهو من يشقّ عليه قيام أكثر الليل. قال: وعمدة هذا القائل اقتضاء القاعدة زيادة الأجر بسبب زيادة العمل لكي يعارضه هنا اقتضاء العادة والجبلة التّقصير في حقوق يعارضها طول القيام، ومقدار ذلك الفائت مع مقدار الحاصل من القيام غير معلوم لنا. فالأولى أن يجري الحديث على ظاهره وعمومه، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة فمقدار تأثير كلّ واحد منهما في الحثّ أو المنع غير محقّق لنا، فالطّريق أنّنا نفوّض الأمر إلى صاحب الشّرع، ونجري على ما دلَّ عليه اللفظ مع ما ذكرناه من قوّة الظّاهر هنا. والله أعلم. تنْبيه: قال ابن التّين: هذا المذكور إذا أجريناه على ظاهره فهو في حقّ الأمّة، وأمّا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقد أمره الله تعالى بقيام أكثر الليل فقال (يا أيّها المزّمّل قم الليل إلاَّ قليلاً) انتهى. وفيه نظرٌ , لأنّ هذا الأمر قد نسخ، في حديث ابن عبّاس في

الصحيحين " فلمّا كان نصف الليل أو قبله بقليلٍ أو بعده بقليلٍ " وهو نحو المذكور هنا. نعم. تقدّم أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يكن يجري الأمر في ذلك على وتيرة واحدة (¬1). والله أعلم. قوله: (كان ينام نصف الليل .. إلخ) في رواية ابن جريجٍ عن عمرو بن دينار عند مسلم " كان يرقد شطر الليل، ثمّ يقوم ثلث الليل بعد شطره " قال ابن جريجٍ: قلت لعمرو بن دينار: عمرو بن أوس هو الذي يقول يقوم ثلث الليل؟ قال: نعم. انتهى وظاهره أنّ تقدير القيام بالثّلث من تفسير الرّاوي فيكون في الرّواية الأولى إدراج، ويحتمل: أن يكون قوله " عمرو بن أوس ذكره " أي: بسنده فلا يكون مدرجاً. وفي رواية ابن جريجٍ من الفائدة ترتيب ذلك بثمّ، ففيه ردٌّ على من أجاز في حديث الباب أن تحصل السّنّة بنوم السّدس الأوّل مثلاً وقيام الثّلث ونوم النّصف الأخير، والسّبب في ذلك أنّ الواو لا ترتّب. ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث عائشة المتقدّم في باب الوتر. برقم (130) فراجعه.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون 203 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثٍ صيام ثلاثة أيّامٍ من كل شهرٍ , وركعتي الضّحى , وأنْ أوتر قبل أن أنام. (¬1) قوله: (أوصاني خليلي) الخليل الصّديق الخالص الذي تخلَّلت محبّته القلب فصارت في خلاله. أي: في باطنه. واختلف. هل الخلة أرفع من المحبّة أو العكس؟. وقول أبى هريرة هذا. لا يعارضه ما في الصحيحين من قوله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر. لأنّ الممتنع أن يتّخذ هو - صلى الله عليه وسلم - غيره خليلاً لا العكس، ولا يقال إنّ المخاللة لا تتمّ حتّى تكون من الجانبين , لأنّا نقول: إنّما نظر الصّحابيّ إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرّد الصّحبة أو المحبّة. قال أبو محمّد بن أبي جمرة في قول أبي هريرة " أوصاني خليلي " قال: في إفراده بهذه الوصيّة إشارة إلى أنّ القدر الموصى به هو اللائق بحاله، وفي قوله " خليلي " إشارةٌ إلى موافقته له في إيثار الاشتغال بالعبادة على الاشتغال بالدّنيا , لأنّ أبا هريرة صبر على الجوع في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1124 , 1880) ومسلم (721) من طرق عن أبي عثمان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (721) من وجه آخر عن أبي رافع الصائغ عن أبي هريرة مثله.

ملازمته للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما في حديثه حيث قال: أمّا إخواني فكان يشغلهم الصّفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) فشابه حال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في إيثاره الفقر على الغنى والعبوديّة على الملك. قال: ويؤخذ منه الافتخار بصحبة الأكابر إذا كان ذلك على معنى التّحدّث بالنّعمة والشّكر لله، لا على وجه المباهاة. والله أعلم. وهذه الوصيّة لأبي هريرة ورد مثلها لأبي الدّرداء فيما رواه مسلم، ولأبي ذرٍّ فيما رواه النّسائيّ. قوله: (بثلاثٍ) زاد البخاري " لا أدعهنّ حتّى أموت ". يحتمل: أن يكون قوله " لا أدعهنّ إلخ " من جملة الوصيّة، أي: أوصاني أن لا أدعهنّ. ويحتمل: أن يكون من إخبار الصّحابيّ بذلك عن نفسه. قوله: (صيام ثلاثة أيّام) بالخفض بدل من قوله " بثلاث " ويجوز الرّفع على أنّه خبر مبتدإٍ محذوفٍ قوله: (من كل شهر) الذي يظهر أنّ المراد بها البيض، وهي الليالي التي يكون فيها القمر من أوّل الليل إلى آخره، حتّى قال الجواليقيّ: مَن قال الأيّام البيض فجعل البيض صفة الأيّام فقد أخطأ. وفيه نظرٌ , لأنّ الصّوم الكامل هو النّهار بليلته، وليس في الشّهر يومٌ أبيض كلّه إلاَّ هذه الأيّام , لأنّ ليلها أبيض ونهارها أبيض فصحّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (188) ومسلم (2492) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قول " الأيّام البيض " على الوصف. وحكى ابن بزيزة في تسميتها بِيضاً أقوالاً أخر مستندةً إلى أقوالٍ واهيةٍ. قال الإسماعيليّ وابن بطّال وغيرهما: ليس في الحديث الذي أورده البخاريّ في هذا الباب ما يطابق التّرجمة (¬1)، لأنّ الحديث مطلقٌ في ثلاثة أيّام من كلّ شهر والبيض مقيّدة بما ذكر. وأجيب: بأنّ البخاريّ جرى على عادته في الإيماء إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه أحمد والنّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: جاء أعرابيٌّ إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأرنبٍ قد شواها، فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابيّ، فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: إنّي أصوم ثلاثة أيّامٍ من كلّ شهرٍ، قال: إن كنت صائماً فصم الغرّ، أي: البيض. وهذا الحديث اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافاً كثيراً بيّنه الدّارقطنيّ، وفي بعض طرقه عند النّسائيّ " إن كنت صائماً فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ". وجاء تقييدها أيضاً في حديث قتادة بن ملحان - ويقال ابن منهالٍ - عند أصحاب السّنن بلفظ " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كهيئة ¬

_ (¬1) بوّب البخاري على حديث الباب في الصوم " باب صيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة "

الدّهر ". وللنّسائيّ من حديث جرير مرفوعاً: صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر صيام الدّهر: أيّام البيض صبيحة ثلاث عشرة. الحديث. وإسناده صحيح. وأمّا ما رواه أصحاب السّنن وصحَّحه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيّام من غرّة كلّ شهر. وما روى أبو داود والنّسائيّ من حديث حفصة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى. فقد جمع بينهما وما قبلهما البيهقيّ: بما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام ما يبالي من أيّ الشّهر صام. قال: فكلّ من رآه فعل نوعاً ذكَرَه، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت. والذي يظهر أنّ الذي أمر به وحثّ عليه ووصّى به أولى من غيره، وأمّا هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكلّ ذلك في حقّه أفضل. وتترجّح البِيض بكونها وسط الشّهر , ووسط الشّيء أعدله، ولأنّ الكسوف غالباً يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع , فإذا اتّفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائماً فيتهيّأ له أن

يجمع بين أنواع العبادات من الصّيام والصّلاة والصّدقة، بخلاف من لَم يصمها. فإنّه لا يتأتّى له استدراك صيامها، ولا عند من يجوّز صيام التّطوّع بغير نيّة من الليل إلاَّ إن صادف الكسوف من أوّل النّهار. ورجّح بعضهم: صيام الثّلاثة في أوّل الشّهر , لأنّ المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع. وقال بعضهم: يصوم من أوّل كل عشرة أيّام يوماً. وله وجهٌ في النّظر، ونقل ذلك عن أبي الدّرداء، وهو يوافق ما تقدّم في رواية النّسائيّ في حديث عبد الله بن عمرو " صم من كلّ عشرة أيّام يوماً ". وروى التّرمذيّ من طريق خيثمة عن عائشة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم من الشّهر السّبت والأحد والاثنين، ومن الآخر الثّلاثاء والأربعاء والخميس. وروي موقوفاً وهو أشبه، وكأنّ الغرض به أن يستوعب غالب أيّام الأسبوع بالصّيام. واختار إبراهيم النّخعيّ أن يصومها آخر الشّهر ليكون كفّارةً لِمَا مضى، ويؤيّده حديث عمران بن حصينٍ في الأمر بصيام سرار الشّهر. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1882) ومسلم (1161) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له , أو لآخر: أصمتَ من سرَرِ شعبان؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرتَ فصم يومين. قال ابن حجر في الفتح: والسَّرر بفتح السين المهملة , ويجوز كسرها وضمها جمع سرة , ويقال أيضاً سرار بفتح أوله وكسره، ورجَّح الفراء الفتح، وهو من الاستسرار. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال أبو عبيد والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سُميت بذلك لاستسرار القمر فيها , وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. ونقل أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنَّ سرره أوله، ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور. وقيل: السرر وسط الشهر. حكاه أبو داود أيضاً , ورجحه بعضهم، ووجَّهه بأنَّ السرر جمع سرة وسرة الشيء وسطه. ويؤيده الندب إلى صيام البيض. وهي وسط الشهر , وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص. وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان. ورجَّحه النووي بأنَّ مسلماً أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات , وأردف بها الروايات التي فيها الحضُّ على صيام البيض. وهي وسط الشهر. لكن لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره - وهو " سرة " - بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ " سرار " وأخرجه من طرق في بعضها " سرر ". وفي بعضها " سرار "، وهذا يدلُّ على أنَّ المراد آخر الشهر. قال الخطابي: قال بعض أهل العلم: سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين. وتعقّب: بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضاء ذلك. وأجاب الخطابي: باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه فلذلك أمره بالوفاء , وأن يقضي ذلك في شوال. انتهى. وقال ابن المنير في الحاشية: قوله (سؤال إنكار) فيه تكلّف، ويدفع في صدره قول المسئول " لا يا رسول الله " فلو كان سؤال إنكار لكان - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر عليه أنه صام , والفرض أنَّ الرجل لم يصم. فكيف ينكر عليه فعل ما لم يفعله؟. ويحتمل: أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر فلما سمع نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدَّم أحدٌ رمضان بصوم يوم أو يومين , ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك فأمره بقضائها لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة، لأنَّ أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه. وأشار القرطبي إلى أنَّ الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره - وهو آخر الشهر - الفرار من المعارضة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تقدم رمضان بيوم أو يومين. وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك , وحمل الأمر على من له عادة حملاً للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع. انتهى بتجوّز

وقال الرّويانيّ: صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر مستحبٌّ، فإن اتّفقت أيّام البيض كان أحبّ. وفي كلام غير واحد من العلماء أيضاً أنّ استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": حاصل الخلاف في تعيين البيض تسعة أقوالٍ: أحدها: لا تتعيّن , بل يكره تعيينها وهذا عن مالك. الثّاني: أوّل ثلاثة من الشّهر. قاله الحسن البصريّ. الثّالث: أوّلها الثّاني عشر. الرّابع: أوّلها الثّالث عشر. الخامس: أوّلها أوّل سبت من أوّل الشّهر , ثمّ من أوّل الثّلاثاء من الشّهر الذي يليه وهكذا. وهو عن عائشة. السّادس: أوّل خميس ثمّ اثنين ثمّ خميس. السّابع: أوّل اثنين ثمّ خميس ثمّ اثنين. الثّامن: أوّل يوم والعاشر والعشرون. عن أبي الدّرداء. التّاسع: أوّل كلّ عشرٍ. عن ابن شعبان المالكيّ. قلت: بقي قولٌ آخر. وهو آخر ثلاثة من الشّهر عن النّخعيّ. فتمّت عشرةً. قوله: (وصلاة الضّحى) في رواية لهما " وركعتي الضّحى " زاد أحمد في روايته " كلّ يوم ".

قال ابن دقيق العيد: لعلَّه ذكر الأقلّ الذي يوجد التّأكيد بفعله، وفي هذا دلالة على استحباب صلاة الضّحى وأنّ أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على فعلها لا ينافي استحبابها , لأنّه حاصلٌ بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على فعله مرجّح على ما لَم يواظب عليه. تكميل: أخرج الشيخان عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال: ما حدّثنا أحدٌ أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الضّحى غير أمّ هانئٍ فإنّها قالت: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكّة، فاغتسل وصلَّى ثماني ركعاتٍ، فلم أر صلاةً قطّ أخفّ منها، غير أنّه يتمّ الرّكوع والسّجود. واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضّحى. وفيه نظرٌ. لاحتمال أن يكون السّبب فيه التّفرّغ لِمُهمّات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنّه صلَّى الضّحى فطوّل فيها. أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. واستدل بحديث أم هانئ على إثبات سنّة الضّحى. وحكى عياض عن قومٍ. أنّه ليس في حديث أمّ هانئ دلالة على ذلك، قالوا: وإنّما هي سنّة الفتح، وقد صلاَّها خالد بن الوليد في بعض فتوحه كذلك. وقال عياض أيضاً: ليس حديث أمّ هانئ بظاهرٍ في أنّه قصد - صلى الله عليه وسلم - بها سنّة الضّحى , وإنّما فيه أنّها أَخبرت عن وقت صلاته فقط , وقد

قيل: إنّها كانت قضاء عمّا شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيه. وتعقّبه النّوويّ: بأنّ الصّواب صحّة الاستدلال به لِمَا رواه أبو داود وغيره من طريق كريب عن أمّ هانئ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى سبحة الضّحى. ولمسلمٍ في " كتاب الطّهارة " من طريق أبي مرّة عن أمّ هانئ - في قصّة اغتساله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح -: ثمّ صلَّى ثمان ركعات سبحة الضّحى. وروى ابن عبد البرّ في " التّمهيد " من طريق عكرمة بن خالد عن أمّ هانئ , قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة فصلَّى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه؟ قال: هذه صلاة الضّحى. واستدل به على أنّ أكثر صلاة الضّحى ثمان ركعات. واستبعده السّبكيّ ووجّه: بأنّ الأصل في العبادة التّوقّف، وهذا أكثر ما ورد في ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ورد من فعله دون ذلك. كحديث ابن أبي أوفى , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الضّحى ركعتين. أخرجه ابن عديّ. وجاء من حديث عتبان مثله. رواه أحمد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا بصلاته. أخرجه عن عثمان بن عمر عن يونس عنه. وقد أخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس مطولاً , لكن ليس فيه ذكرُ السبحة , وكذلك أخرجه البخاريُّ مطولاً ومختصراً في مواضع.

وحديث عائشة عند مسلم: كان يُصلِّي الضّحى أربعاً. وحديث جابر عند الطّبرانيّ في " الأوسط " ,أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الضّحى ستّ ركعات. وأمّا ما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - ففيه زيادةٌ على ذلك. كحديث أنس مرفوعاً: من صلَّى الضّحى ثنتي عشرة ركعةً بنى الله له قصراً في الجنّة. أخرجه التّرمذيّ واستغربه. وليس في إسناده من أطلق عليه الضّعف. وعند الطّبرانيّ من حديث أبي الدّرداء مرفوعاً: من صلَّى الضّحى ركعتين لَم يكتب من الغافلين، ومن صلَّى أربعاً كتب من التّائبين، ومن صلَّى ستّاً كُفي ذلك اليوم، ومن صلَّى ثمانياً كُتب من العابدين، ومن صلَّى ثنتي عشرة بنى الله له بيتاً في الجنّة. وفي إسناده ضعفٌ أيضاً. وله شاهدٌ من حديث أبي ذرٍّ رواه البزّار. وفي إسناده ضعفٌ أيضاً، ومن ثَمَّ قال الرّويانيّ ومن تبعه: أكثرها ثنتا عشرة. وقال النّوويّ في شرح المهذّب: فيه حديث ضعيف. كأنّه يشير إلى حديث أنس، لكن إذا ضمّ إليه حديث أبي ذرٍّ وأبي الدّرداء قوي وصلح للاحتجاج به. ونقل التّرمذيّ عن أحمد: أنّ أصحّ شيءٍ ورد في الباب حديث أمّ هانئ. وهو كما قال. ولهذا قال النّوويّ في الرّوضة: أفضلها ثمان وأكثرها ثنتا عشرة، ففرّق بين الأكثر والأفضل. ولا يتصوّر ذلك إلاَّ فيمن صلَّى الاثنتي

عشرة بتسليمةٍ واحدة فإنّها تقع نفلاً مطلقاً عند من يقول إنّ أكثر سنّة الضّحى ثمان ركعات. فأمّا من فصّل فإنّه يكون صلَّى الضّحى، وما زاد على الثّمان يكون له نفلاً مطلقاً فتكون صلاته اثنتي عشرة في حقّه أفضل من ثمانٍ لكونه أتى بالأفضل , وزاد. وقد ذهب قوم منهم أبو جعفر الطّبريّ , وبه جزم الحليميّ والرّويانيّ من الشّافعيّة. إلى أنّه لا حدّ لأكثرها. وروى (¬1) من طريق إبراهيم النّخعيّ قال: سأل رجلٌ الأسود بن يزيد. كم أصلّي الضّحى؟ قال: كم شئت. وفي حديث عائشة عند مسلم: كان يُصلِّي الضّحى أربعاً ويزيد ما شاء الله. وهذا الإطلاق قد يحمل على التّقييد فيؤكّد أنّ أكثرها اثنتا عشرة ركعة. والله أعلم. وذهب آخرون: إلى أنّ أفضلها أربع ركعاتٍ. فحكى الحاكم في كتابه المفرد في صلاة الضّحى عن جماعةٍ من أئمّة الحديث , أنّهم كانوا يختارون أن تُصلَّى الضّحى أربعاً لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك كحديث أبي الدّرداء وأبي ذرٍّ عند التّرمذيّ مرفوعاً عن الله تعالى " ابن آدم اركع لي أربع ركعاتٍ من أوّل النّهار أكفك آخره ". وحديث نعيم بن حمّاد عند النّسائيّ، وحديث أبي أُمامة وعبد الله ¬

_ (¬1) أي: الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله.

بن عمرو والنّوّاس بن سمعان كلّهم بنحوه عند الطّبرانيّ، وحديث عقبة بن عامر وأبي مرّة الطّائفيّ كلاهما عند أحمد بنحوه، وحديث عائشة عند مسلم كما تقدّم. وحديث أبي موسى رفعه: من صلَّى الضّحى أربعاً بنى الله له بيتاً في الجنّة. أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط "، وحديث أبي أُمامة مرفوعاً " أتدرون قوله تعالى (وإبراهيم الذي وفّى) قال: وفي عمل يومه بأربع ركعات الضّحى " أخرجه الحاكم. وجمع ابن القيّم في الهدي الأقوال في صلاة الضّحى فبلغت ستّةً: القول الأوّل: مستحبّة. واختلف في عددها. فقيل: أقلّها ركعتان وأكثرها اثنتا عشرة، وقيل: أكثرها ثمان، وقيل: كالأوّل لكن لا تشرع ستّاً ولا عشرة، وقيل: كالثّاني لكن لا تشرع ستّاً، وقيل: ركعتان فقط، وقيل: أربعاً فقط، وقيل: لا حدّ لأكثرها. القول الثّاني: لا تشرع إلاَّ لسببٍ، واحتجّوا بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يفعلها إلاَّ بسببٍ، واتّفق وقوعها وقت الضّحى، وتعدّدت الأسباب: فحديث أمّ هانئٍ في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح , وأنّ سنّةَ الفتحِ أن يُصلِّي ثمان ركعات، ونقله الطّبريّ من فعل خالد بن الوليد لَمّا فتح الحيرة. وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى , أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الضّحى حين بشّر

برأس أبي جهل. (¬1) وهذه صلاة شكرٍ كصلاته يوم الفتح. وصلاته في بيت عتبان إجابةً لسؤاله أن يُصلِّي في بيته مكاناً يتّخذه مُصلًّى , فاتّفق أنّه جاءه وقت الضّحى فاختصره الرّاوي فقال: صلَّى في بيته الضّحى. وكذلك حديث بنحو قصّة عتبان مختصراً , قال أنس: ما رأيته صلَّى الضّحى إلاَّ يومئذٍ. (¬2) وحديث عائشة: لَم يكن يُصلِّي الضّحى إلاَّ أن يجيء من مغيبه. (¬3) لأنّه كان ينهى عن الطّروق ليلاً فيقدم في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في " السنن " (1391) والبزار في " مسنده " (3386) من طريق سلمة بن رجاء قال: حدثتني شعثاء، عن عبد الله بن أبي أوفى به. قال البوصيريُّ في الزوائد: في إسناده شعثاء , ولم أر من تكلَّم فيها لا بجرح ولا بتوثيق , وسلمة بن رجاء ليَّنه ابن معين. وقال ابن عدي: حدَّث بأحاديث لا يُتابع عليها. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ينفرد عن الثقات بأحاديث. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: ما بأحاديثه بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. انتهى. (¬2) أخرجه البخاري في " صحيحه " (639). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (717). وللبخاري (1076) ومسلم (718) عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. ولمسلم (719) عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله. قال الشارح في الفتح: في الأول: تقييد النفي بغير المجيء من مغيبه , وفي الثاني: نفي رؤيتها لذلك مطلقاً , وفي الثالث الإثبات مطلقاً. وقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب ابن عبد البر وجماعة إلى ترجيح ما اتفق الشيخان عليه دون ما انفرد به مسلم , وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع. فيقدم من روي عنه من الصحابة الأثبات. وذهب آخرون إلى الجمع بينهما. قال البيهقي: عندي أنَّ المراد بقولها " ما رأيته سبحها " أي: داوم عليها , وقولها " وإني لأسبحها " أي: أداوم عليها , وكذا قولها: وما أحدث الناس شيئاً. تعني المداومة عليها. قال: وفي بقية الحديث إشارة إلى ذلك حيث قالت: وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. انتهى. وحكى المحب الطبري , أنه جمع بين قولها " ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه " , وقولها " كان يصلي أربعاً ويزيد ما شاء الله " بأنَّ الأول محمول على صلاته إياها في المسجد والثاني على البيت. قال: ويعكّر عليه حديثها الثاني , ويجاب عنه بأن المنفي صفة مخصوصه وأخذ الجمع المذكور من كلام ابن حبان. وقال عياض وغيره: قوله " ما صلاها " معناه ما رأيته يصليها , والجمع بينه وبين قولها " كان يصليها " أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها , وفي الإثبات عن غيرها. وقيل في الجمع أيضاً يحتمل أن تكون نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص , وأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يصلّيها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص ولا بغيره. كما قالت: يصلي أربعاً ويزيد ما شاء الله. انتهى

أوّل النّهار فيبدأ بالمسجد فيصلي وقت الضّحى. القول الثّالث: لا تستحبّ أصلاً، وصحّ عن عبد الرّحمن بن عوف , أنّه لَم يصلها , وكذلك ابن مسعود. القول الرّابع: يستحبّ فعلها تارة وتركها تارةً بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد. والحجّة فيه حديث أبي سعيد: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الضّحى حتّى نقول لا يدعها، ويدعها حتّى نقول لا يصليها. أخرجه الحاكم. وعن عكرمة , كان ابن عبّاس يصليها عشراً ويدعها عشراً. وقال الثّوريّ عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها

كالمكتوبة. وعن سعيد بن جبير: إنّي لأدعها وأنا أحبّها. مخافة أن أراها حتماً عليّ. القول الخامس: تستحبّ صلاتها والمواظبة عليها في البيوت، أي: للأمن من الخشية المذكورة. القول السّادس: أنّها بدعةٌ. صحّ ذلك من رواية عروة عن ابن عمر، وسئل أنس عن صلاة الضّحى فقال: الصّلوات خمس. وعن أبي بكرة , أنّه رأى ناساً يصلّون الضّحى فقال: ما صلَّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولا عامّة أصحابه. والحكمة في الوصيّة على المحافظة على ذلك تمرين النّفس على جنس الصّلاة والصّيام ليدخل في الواجب منهما بانشراحٍ، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص. ومن فوائد ركعتي الضّحى. أنّها تجزئ عن الصّدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يومٍ - وهي ثلاثمائة وستّون مفصلاً - كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذرٍّ , وقال فيه " ويجزئ عن ذلك ركعتا الضّحى ". وحكى شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح التّرمذيّ: أنّه اشتهر بين العوامّ. أنّ من صلَّى الضّحى ثمّ قطعها يَعمى، فصار كثيرٌ من النّاس يتركونها أصلاً لذلك، وليس لِمَا قالوه أصل، بل الظّاهر أنّه ممّا ألقاه الشّيطان على ألسنة العوامّ ليحرمهم الخير الكثير لا سيّما ما وقع في حديث أبي ذرٍّ.

وقد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضّحى في جزءٍ مفردٍ , وذكر لغالب هذه الأقوال مستنداً. وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفساً من الصّحابة. لطيفة: روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُصلِّي الضّحى بسورٍ منها: والشّمس وضحاها، والضّحى. انتهى. ومناسبة ذلك ظاهرة جدّاً قوله: (وأن أوتر قبل أن أنام) وللبخاري " ونوم على وتر ". وفيه استحباب تقديم الوتر على النّوم , وذلك في حقّ من لَم يثق بالاستيقاظ (¬1)، ويتناول من يُصلِّي بين النّومين. تنبيهان: الأوّل: اقتصر في الوصيّة للثّلاثة المذكورين على الثّلاثة المذكورة , لأنّ الصّلاة والصّيام أشرف العبادات البدنيّة، ولَم يكن المذكورون من أصحاب الأموال. وخصّت الصّلاة بشيئين , لأنّها تقع ليلاً ونهاراً بخلاف الصّيام. الثّاني: ليس في حديث أبي هريرة تقييدٌ بسفرٍ ولا حضر. ولكنّ الحديث يتضمّن الحضر , لأنّ إرادة الحضر فيه ظاهرة، وحمله على الحضر والسّفر ممكن، وأمّا حمله على السّفر دون الحضر فبعيد , لأنّ السّفر مظنّة التّخفيف. ¬

_ (¬1) تقدم الكلام عليه في حديث عائشة برقم (130).

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون 204 - عن محمّد بن عبّاد بن جعفرٍ , قال: سألت جابر بن عبد الله. أَنَهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. (¬1) وزاد مسلمٌ: وربّ الكعبة. (¬2) الحديث الرابع والعشرون 205 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصومنَّ أحدُكم يوم الجمعة , إلاَّ أن يصوم يوماً قبله , أو يوماً بعده. (¬3) قوله: (سألت جابراً) في رواية عبد الرّزّاق عن ابن جريج , وكذا في رواية ابن عيينة عن عبد الحميد عند مسلم وأحمد وغيرهما: سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت. وزادوا أيضاً في آخره. قال: نعم. وربّ هذا البيت. وفي رواية النّسائيّ " وربّ الكعبة " وعزاها صاحب العمدة لمسلمٍ فوِهَم. وفيه جواز الحلف من غير استحلافٍ لتأكيد الأمر، وإضافة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1883) ومسلم (1143) من طريق ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر به. (¬2) أخرجه مسلم (1143) من طريق سفيان بن عيينة عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر به. لكن فيه (وربِّ البيت). كما سينبّه عليه الشارح. (¬3) أخرجه البخاري (1188) ومسلم (1144) من طريق حفص بن غياث , ومسلم (1144) من طريق أبي معاوية كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به. واللفظ للبخاري.

الرّبوبيّة إلى المخلوقات المعظّمة تنويها بتعظيمها، وفيه الاكتفاء في الجواب بنعم من غير ذكر الأمر المفسّر بها. قوله: (عن صوم يوم الجمعة) قال البخاري: زاد غير أبي عاصم. يعني أن ينفرد بصومه " وفي رواية الكشميهنيّ " أن ينفرد بصومٍ " والغير المشار إليه جزم البيهقيّ: بأنّه يحيى بن سعيد القطّان. وهو كما قال. لكن لَم يتعيّن، فقد أخرجه النّسائيّ بالزّيادة من طريقه , ومن طريق النّضر بن شميلٍ وحفص بن غياث (¬1). ولفظ يحيى " أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن ينفرد يوم الجمعة بصومٍ؟ قال: إيْ وربّ الكعبة ". ولفظ حفص " نَهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة مفرداً ". ولفظ النّضر " أنّ جابراً سئل عن صوم يوم الجمعة , فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُفرد ". قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (لا يصومنَّ) بلفظ النهي المؤكد , وللبخاري " لا يصوم أحدكم " وهو بلفظ النّفي , والمراد به النّهي. قوله: (إلاَّ أن يصوم يوماً قبله أو بعده) وللبخاري عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه: إلاَّ يوماً قبله أو بعده. ¬

_ (¬1) رواه هؤلاء الثلاثة (يحيى وحفص والنضر) عن ابن جريج عن - ورواية يحيى أخبرني - محمد بن عباد به. بإسقاط عبد الحميد بن جبير بن شيبة. وقد ذكر ابن حجر الخلاف فيه على ابن جريج , ورجّح كونَ ابنِ جريج سمعه منهما جميعاً.

تقديره إلاَّ أن يصوم يوماً قبله , لأنّ يوماً لا يصحّ استثناؤه من يوم الجمعة. وقال الكرمانيّ: يجوز أن يكون منصوباً بنزع الخافض تقديره إلاَّ بيومٍ قبله وتكون الباء للمصاحبة، وفي رواية الإسماعيليّ من طريق محمّد بن أشكاب عن عمر بن حفص - شيخ البخاريّ فيه -: إلاَّ أن تصوموا قبله أو بعده. ولمسلمٍ من طريق أبي معاوية عن الأعمش " لا يصُمْ أحدكم يوم الجمعة إلاَّ أن يصوم يوماً قبله أو يصوم بعده. وللنّسائيّ من هذا الوجه " إلاَّ أن يصوم قبله يوماً أو يصوم بعده يوماً ". ولمسلمٍ من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة: لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، ولا تخصّوا يوم الجمعة بصيامٍ من بين الأيّام، إلاَّ أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم " ورواه أحمد من طريق عوف عن ابن سيرين بلفظ " نهى أن يفرد يوم الجمعة بصومٍ " ولأحمد من طريق أبي الأوبر زيادٍ الحارثيّ , أنّ رجلاً قال لأبي هريرة: أنت الذي تنهى النّاس عن صوم يوم الجمعة؟ قال: ها وربّ الكعبة ثلاثاً، لقد سمعت محمّداً - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصوم أحدكم يوم الجمعة وحده إلاَّ في أيّامٍ معه. وله من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية , أنّه سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تصم يوم الجمعة إلاَّ في أيّامٍ هو أحدها. وهذه الأحاديث تقيّد النّهي المطلق في حديث جابر , وتؤيّد الزّيادة

التي تقدّمت من تقييد الإطلاق بالإفراد. ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده أو اتّفق وقوعه في أيّامٍ له عادةٌ بصومها. كمن يصوم أيّام البيض أو من له عادةٌ بصوم يومٍ معيّنٍ كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة، ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيدٍ مثلاً أو يوم شفاء فلانٍ. واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصّيام. ونقله أبو الطّيّب الطّبريّ عن أحمد وابن المنذر وبعض الشّافعيّة. وكأنّه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النّهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصّوم (¬1) فهذا قد يشعر بأنّه يرى بتحريمه. وقال أبو جعفر الطّبريّ: يفرّق بين العيد والجمعة. بأنّ الإجماع منعقدٌ على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقدٌ على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم. منع صومه عن عليٍّ وأبي هريرة وسلمان وأبي ذرّ، قال ابن حزمٍ: لا نعلم لهم مخالفاً من الصّحابة. وذهب الجمهور: إلى أنّ النّهي فيه للتّنزيه. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في " صحيحه " (1986) من طريق شعبة عن قتادة عن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمتِ أمس؟، قالت: لا. قال: تريدين أنْ تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري، وقال حماد بن الجعد: سمع قتادة حدثني أبو أيوب، أنَّ جويرية حدثته: فأمرها فأفطرتْ.

وعن مالك وأبي حنيفة: لا يكره، قال مالك: لَم أسمع أحداً ممّن يقتدى به ينهى عنه. قال الدّاوديّ: لعل النّهي ما بلغ مالكاً , وزعم عياضٌ أنّ كلام مالك يؤخذ منه النّهي عن إفراده , لأنّه كره أن يخصّ يوم من الأيّام بالعبادة , فيكون له في المسألة روايتان. وعاب ابن العربيّ قولَ عبد الوهّاب منهم: يومٌ لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، لكونه قياساً مع وجود النّصّ. واستدل الحنفيّة بحديث ابن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام، وقلَّما كان يفطر يوم الجمعة " حسّنه التّرمذيّ. وليس فيه حجّةٌ , لأنّه يحتمل أن يريد كان لا يتعمّد فطره إذا وقع في الأيّام التي كان يصومها، ولا يضادّ ذلك كراهة إفراده بالصّوم جمعاً بين الحديثين. ومنهم من عدّه من الخصائص، وليس بجيّدٍ , لأنّها لا تثبت بالاحتمال. والمشهور عند الشّافعيّة وجهان: أحدهما: ونقله المزنيّ عن الشّافعيّ: أنّه لا يكره إلاَّ لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصّلاة والدّعاء والذّكر. الثّاني: وهو الذي صحَّحه المتأخّرون كقول الجمهور واختلف في سبب النّهي عن إفراده على أقوالٍ:

القول الأول: لكونه يوم عيدٍ والعيد لا يصام، واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره. وأجاب ابن القيّم وغيره: بأنّ شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كلّ جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التّحرّي بالصّوم. القول الثاني: لئلا يضعف عن العبادة. وهذا اختاره النّوويّ. وتعقِّب: ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه. وأجاب: أنّه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتورٍ أو تقصيرٍ. وفيه نظرٌ. فإنّ الجبران لا ينحصر في الصّوم , بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيراً كثيراً يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده. كمن أعتق فيه رقبة مثلاً. ولا قائل بذلك. وأيضاً. فكأنّ النّهي يختصّ بمن يخشى عليه الضّعف لا من يتحقّق القوّة. ويمكن الجواب عن هذا: بأنّ المظنّة أقيمت مقام المئنّة كما في جواز الفطر في السّفر لمن لَم يشقّ عليه. القول الثالث: خوف المبالغة في تعظيمه. فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسّبت. وهو منتقضٌ بثبوت تعظيمه بغير الصّيام، وأيضاً فاليهود لا يعظّمون السّبت بالصّيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتّم

صومه , لأنّهما لا يصومونه. وقد روى أبو داود والنّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان من حديث أمّ سلمة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم من الأيّام السّبت والأحد , وكان يقول: إنّهما يوما عيدٍ للمشركين فأحبّ أن أخالفهم. القول الرابع: خوف اعتقاد وجوبه. وهو منتقضٌ بصوم الاثنين والخميس. القول الخامس: خشية أن يفرض عليهم كما خشي - صلى الله عليه وسلم - من قيامهم الليل ذلك. قال المُهلَّب: وهو منتقضٌ بإجازة صومه مع غيره، وبأنّه لو كان كذلك لجاز بعده - صلى الله عليه وسلم - لارتفاع السّبب. لكنّ المُهلَّب حمله على ذلك اعتقاده عدم الكراهة على ظاهر مذهبه. القول السادس: مخالفة النّصارى , لأنّه يجب عليهم صومه , ونحن مأمورون بمخالفتهم نقلها القموليّ. وهو ضعيف. وأقوى الأقوال وأولاها بالصّواب. أوّلها، وورد فيه صريحاً حديثان: أحدهما: رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعاً: يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلاَّ أن تصوموا قبله أو بعده " والثّاني: رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ حسنٍ عن عليٍّ قال: من كان منكم متطوّعاً من الشّهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة

الحديث الخامس والعشرون

فإنّه يوم طعامٍ وشرابٍ وذكرٍ. الحديث الخامس والعشرون 206 - عن أبي عبيدٍ مول ابن أزهر - واسمه سعد بن عبيدٍ - قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - , فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما , يوم فطركم من صيامكم , واليوم الآخر , تأكلون فيه من نسككم. (¬1) قوله: (مولى ابن أزهر) في رواية الكشميهنيّ " مولى بني أزهر " وكذا في رواية مسلمٍ. قال البخاري في " صحيحه ": قال ابن عيينة: مَن قال مولى ابن أزهر فقد أصاب، ومَن قال مولى عبد الرّحمن بن عوف فقد أصاب. انتهى. وكلام ابن عيينة هذا. حكاه عنه عليّ بن المدينيّ في " العلل ". وقد أخرجه ابن أبي شيبة في " مسنده " عن ابن عيينة عن الزّهريّ فقال: عن أبي عبيد مولى ابن أزهر " وأخرجه الحميديّ في " مسنده " عن ابن عيينة حدّثني الزّهريّ سمعت أبا عبيد. فذكر الحديث , ولَم يصفه بشيءٍ. ورواه عبد الرّزّاق في " مصنّفه " عن معمر عن الزّهريّ , فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1889) ومسلم (1137) من طريق مالك , والبخاري (5251) من طريق يونس كلاهما عن الزهري عن أبي عبيد به.

عن أبي عبيد مولى عبد الرّحمن بن عوف. وكذا قال جويرية وسعيدٌ الزّبيريّ ومكّيّ بن إبراهيم عن مالك. حكاه أبو عمر. وذكر أنّ ابن عيينة أيضاً كان يقول فيه كذلك. وقال ابن التّين: وجه كون القولين صواباً ما روي أنّهما اشتركا في ولائه. وقيل: يحمل أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز. وسبب المجاز إمّا بأنّه كان يكثر ملازمة أحدهما إمّا لخدمته أو للأخذ عنه أو لانتقاله من ملك أحدهما إلى ملك الآخر. وجزم الزّبير بن بكّار: بأنّه كان مولى عبد الرّحمن بن عوف، فعلى هذا فنسبته إلى ابن أزهر هي المجازيّة , ولعلَّها بسبب انقطاعه إليه بعد موت عبد الرّحمن بن عوف، واسم ابن أزهر أيضاً عبد الرّحمن. وهو ابن عمّ عبد الرّحمن بن عوف , وقيل: ابن أخيه. قوله: (شهدت العيد) زاد يونس عن الزّهريّ في عند البخاري في الأضاحيّ " يوم الأضحى ". قوله: (هذان) فيه التّغليب، وذلك أنّ الحاضر يشار إليه بهذا , والغائب يشار إليه بذاك , فلمّا أن جمعهما اللفظ قال " هذان " تغليباً للحاضر على الغائب. قوله: (يوم فطركم) برفع يوم إمّا على أنّه خبر مبتدأٍ محذوفٍ تقديره أحدهما، أو على البدل من قوله " يومان " , وفي رواية يونس المذكورة " أمّا أحدهما فيوم فطركم ".

قيل: وفائدة وصف اليومين الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما وهو الفصل من الصّوم وإظهار تمامه وحدّه بفطر ما بعده، والآخر لأجل النّسك المتقرّب بذبحه ليؤكل منه، ولو شرع صومه لَم يكن لمشروعيّة الذّبح فيه معنًى فعبّر عن عِلَّة التّحريم بالأكل من النّسك لأنّه يستلزم النّحر ويزيد فائدة التّنبيه على التّعليل. والمراد بالنّسك هنا الذّبيحة المتقرّب بها قطعاً. قيل: ويستنبط من هذه العلة تعيّن السّلام للفصل من الصّلاة. وفي الحديث تحريم صوم يومي العيد. سواءٌ النّذر والكفّارة والتّطوّع والقضاء والتّمتّع وهو بالإجماع. واختلفوا فيمن فصام يوم عيد: فعن أبي حنيفة ينعقد، وخالفه الجمهور. فلو نذر صوم يوم قدومٍ زيدٍ. فقدم يوم العيد. فالأكثر: لا ينعقد النّذر، وعن الحنفيّة: ينعقد ويلزمه القضاء، وفي روايةٍ يلزمه الإطعام، وعن الأوزاعيّ: يقضي إلاَّ إن نوى استثناء العيد، وعن مالك في رواية: يقضي إن نوى القضاء وإلا فلا. وأخرج البخاري عن ابن عمر , أنّه توقّف في الجواب عن هذه المسألة. فعن زياد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عمر - رضي الله عنه -، فقال: رجل نذر أن يصوم يوماً، قال: أظنه قال: الاثنين، فوافق ذلك يوم عيد، فقال ابن عمر: أمر الله بوفاء النذر , ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذا اليوم.

وأصل الخلاف في هذه المسألة , أنّ النّهي هل يقتضي صحّة المنهيّ عنه؟. القول الأول: قال الأكثر: لا. القول الثاني: عن محمّد بن الحسن نعم. واحتجّ بأنّه لا يقال للأعمى لا يبصر , لأنّه تحصيل الحاصل، فدلَّ على أنّ صوم يوم العيد ممكنٌ، وإذا أمكن ثبت الصّحّة. وأجيب: أنّ الإمكان المذكور عقليٌّ. والنّزاع في الشّرعيّ، والمنهيّ عنه شرعاً غير ممكنٍ فعله شرعاً. ومن حجج المانعين: أنّ النّفل المطلق إذا نهي عن فعله لَم ينعقد , لأنّ المنهيّ مطلوب التّرك سواءٌ كان للتّحريم أو للتّنزيه، والنّفل مطلوب الفعل فلا يجتمع الضّدّان. والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين كالصّلاة في الدّار المغصوبة. أنّ النّهي عن الإقامة في المغصوب ليست لذات الصّلاة , بل للإقامة وطلب الفعل لذات العبادة، بخلاف صوم يوم النّحر مثلاً , فإنّ النّهي فيه لذات الصّوم فافترقا. والله أعلم.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون 207 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يومين: الفطر والنّحر. وعن الصّمّاء , وأن يحتبي الرّجل في الثّوب الواحد , وعن الصّلاة بعد الصّبح والعصر. أخرجه مسلم بتمامه , وأخرج البخاري الصوم فقط (¬1) قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يومين النحر والفطر) تقدّم في الحديث قبله. قوله: (اشتمال الصماء) زاد الإسماعيليّ من طريق خالدٍ الطّحّان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد " لا يواري فرجه بشيءٍ " ومن طريق عبد العزيز بن المختار عن عمرو " ليس بين فرجه وبين السّماء شيءٌ " (¬2). ¬

_ (¬1) كذا قال رحمه الله. ولعله سبق قلم منه. فالحديث أخرجه البخاري بتمامه في كتاب الصوم: باب صوم يوم الفطر رقم (1890) من طريق وهيب عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد - رضي الله عنه -. وأخرج مسلم (1138) من طريق عبد العزيز بن المختار عن عمرو بن يحيى به. جملة الصوم فقط وأخرجه البخاري (1139 , 1765 , 1893) من طريق قزعة مولى زياد عن أبي سعيد. فذكر الصلاة والصوم. ضمن حديث. ورواه مسلم من هذا الوجه (827) فذكر جملة الصلاة فقط. وأخرجه البخاري (360 , 5484) من طريق عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد. فذكر اشتمال الصماء والاحتباء فقط. ولم أرَ عند مسلم عن أبي سعيد - رضي الله عنه - الاحتباء والصماء. (¬2) وقد ثبتت هذه الزيادة أيضاً في حديث أبي هريرة في البخاري (6284)

والصماء: بالصّاد المهملة والمدّ. قال أهل اللّغة: هو أن يُجلِّل (¬1) جسده بالثّوب لا يرفع منه جانباً , ولا يبقي ما يخرج منه يده. قال ابن قتيبة: سُمِّيت صمّاء؛ لأنّه يسدّ المنافذ كلّها فتصير كالصّخرة الصّمّاء التي ليس فيها خرق. وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثّوب ثمّ يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه. فيصير فرجه بادياً إذا لَم يكن عليه ثوب آخر، فإذا خالف بين طرفي الثّوب الذي اشتمل به لَم يكن صمّاء. قال النّوويّ: فعلى تفسير أهل اللّغة يكون مكروهاً , لئلا يعرض له حاجة فيتعسّر عليه إخراج يده فيلحقه الضّرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم. لأجل انكشاف العورة. قلت: ظاهر سياق البخاري من رواية يونس عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبي سعيد في اللباس , أنّ التّفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لِمَا قال الفقهاء. ولفظه: والصّمّاء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقّيه. وعلى تقدير أن يكون موقوفاً فهو حجّة على الصّحيح؛ لأنّه تفسير من الرّاوي لا يخالف ظاهر الخبر. قوله: (وأن يحتبي) الاحتباء أن يقعد على أليتيه وينصب ساقيه ويلفّ عليه ثوباً، ويقال له الحبوة، وكانت من شأن العرب. وفسّرها في رواية يونس المذكورة بنحو ذلك " واللبسة الأخرى: ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع (يخلل) بالخاء. والصواب ما أثبتُّه , وهو الموافق لكتب اللغة.

احتباؤه بثوبه وهو جالس، ليس على فرجه منه شيء " وترجم البخاري على الحديث بقوله: الجلوس حيثما تيسّر. قال المُهلَّب: هذه التّرجمة قائمة من دليل الحديث، وذلك أنّه نهى عن حالتين ففهم منه إباحة غيرهما ممّا تيسّر من الهيئات والملابس إذا ستر العورة. قلت: والذي يظهر لي أنّ المناسبة تؤخذ من جهة العدول عن النّهي عن هيئة الجلوس إلى النّهي عن لبستين يستلزم كلّ منهما انكشاف العورة، فلو كانت الجلسة مكروهة لذاتها لَم يتعرّض لذكر اللّبس، فدلَّ على أنّ النّهي عن جلسة تفضي إلى كشف العورة وما لا يفضي إلى كشف العورة يباح في كلّ صورة. ثمّ ادّعى المُهلَّب: أنّ النّهي عن هاتين اللبستين خاصّ بحالة الصّلاة لكونهما لا يستران العورة في الخفض والرّفع، وأمّا الجالس في غير الصّلاة فإنّه لا يصنع شيئاً ولا يتصرّف بيديه فلا تنكشف عورته فلا حرج عليه، قال: وقد سبق أنّه - صلى الله عليه وسلم - احتبى. (¬1) ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري (6272) في باب (الاحتباء باليد. وهو القرفصاء) من طريق محمد بن فليح عن أبيه عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة محتبياً بيده هكذا. قال الحافظ في " الفتح " (11/ 66): كذا وقع عنده مختصراً. ورويناه في الجزء السادس من " فوائد أبي محمد بن صاعد " من طريق أبي غزية محمد بن موسى الأنصاري نحوه. وزاد " فأرانا فليحٌ موضع يمينه على يساره موضع الرسغ " وأبو غزية ضعَّفه ابن معين وغيره. ووقع عند أبي داود من حديث أبي سعيد , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس احتبى بيديه. زاد البزار: ونصب ركبتيه. وأخرج البزار أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ " جلس عند الكعبة فضمَّ رجليه فأقامهما , واحتبى بيديه ". ويستثنى من الاحتباء باليدين ما إذا كان في المسجد ينتظر الصلاة فاحتبى بيديه , فينبغي أن يمسك إحداهما بالأخرى. كما وقعت الإشارة إليه في هذا الحديث من وضع إحداهما على رسغ الأخرى , ولا يشبّك بين أصابعه في هذه الحالة. فقد ورد النهي عن ذلك عند أحمد من حديث أبي سعيد. بسند لا بأس به. والله أعلم وقال ابن بطال: لا يجوز للمحتبي أن يصنع بيديه شيئاً ويتحرك لصلاة أو غيرها , لأنَّ عورته تبدو إلاَّ إذا كان عليه ثوب يستر عورته فيجوز , وهذا بناءً على أنَّ الاحتباء قد يكون باليدين فقط. وهو المعتمد. وفرَّق الداودي فيما حكاه عنه ابن التين: بين الاحتباء والقرفصاء , فقال: الاحتباء أن يقيم رجليه , ويفرج بين ركبتيه , ويُدير عليه ثوباً ويعقده. فإنْ كان عليه قميصٌ أو غيرُه فلا ينهى عنه , وإن لَم يكن عليه شيء فهو القرفصاء. كذا قال , والمعتمد ما تقدم. انتهى

قلت: وغفل رحمه الله عمّا وقع من التّقييد في نفس الخبر، فإنّ فيه: والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء , والصّمّاء. أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقّيه. وستر العورة مطلوب في كلّ حالة , وإن تأكّد في حالة الصّلاة لكونها قد تبطل بتركه. ونقل ابن بطّال: عن ابن طاوسٍ, أنّه كان يكره التّربّع. ويقول: هي جلسة مُهلكة. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (6139/ 25526) عن ابن إدريس عن ليث عن طاوس. تنبيهان: الأول: وقع هنا في الشرح عن ابن طاوس , والصواب أبيه طاوس. كما في المصنّف , وكذا في شرح ابن بطال الذي نقل عنه الشارح. الثاني: وقع في بعض نسخ الفتح , وكذا في مصنف ابن أبي شيبة (مملكة) بالميم بدل الهاء , والصواب ما أثبتُّه. والله أعلم.

وتعقّب: بما أخرجه مسلم والثّلاثة من حديث جابر بن سمرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الفجر. تربَّع في مجلسه حتّى تطلع الشّمس (¬1). ويمكن الجمع. (¬2) قوله: (وعن الصلاة بعد الصبح والعصر) تقدّم الكلام عليه في أبواب الصلاة. ¬

_ (¬1) لفظ أبي داود (4850). وعند مسلم (670) بلفظ " جلس في مصلاه " (¬2) وذلك بحمل كلام طاوس رحمه الله. على التربع في الصلاة من غير عذر. وقد أورد ابن أبي شيبة في مصنّفه (6139) هذا الأثر عن طاوس. في كتاب الصلاة في باب من كره التربع (أي في الصلاة). وأورد عن ابن عمر وابن سيرين وغيرهما كراهة التربع في الصلاة إلَّا من عذر كوجع وغيره. والتربع: وضع إحدى الساقين على الأخرى. وتمكين الإلية من الأرض.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون 208 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صام يوماً في سبيل الله بعّد الله وجهَه عن النّار سبعين خريفاً. (¬1) قوله: (في سبيل الله) قال ابن الجوزيّ: إذا أطلق ذكر سبيل الله فالمراد به الجهاد. وقال القرطبيّ: سبيل الله طاعة الله , فالمراد من صام قاصداً وجه الله. قلت: ويحتمل أن يكون ما هو أعمّ من ذلك. ثمّ وجدته في " فوائد أبي الطّاهر الذّهليّ " من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثيّ عن المقبريّ عن أبي هريرة بلفظ " ما من مرابطٍ يرابط في سبيل الله فيصوم يوماً في سبيل الله " الحديث. وقال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد. فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين. قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت , والأوّل أقرب. ولا يعارض ذلك أنّ الفطر في الجهاد أولى , لأنّ الصّائم يضعف عن اللقاء والفضل المذكور محمول على من لَم يخش ضعفاً , ولا سيّما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النّسبيّة فمن لَم يضعفه الصّوم عن الجهاد فالصّوم في حقّه أفضل ليجمع بين الفضيلتين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2685) ومسلم (1153) من طريق يحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح، عن النعمان بن أبي عياش الزرقي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

وقد تقدّم مزيد في الكلام على الصّوم في السّفر. قوله: (سبعين خريفاً) الخريف زمان معلوم من السّنة , والمراد به هنا العام وتخصيص الخريف بالذّكر دون بقيّة الفصول الصّيف والشّتاء والرّبيع , لأنّ الخريف أزكى الفصول. لكونه يجنى فيه الثّمار. ونقل الفاكهانيّ: أنّ الخريف يجتمع فيه الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة دون غيره , وردّ بأنّ الرّبيع كذلك. قال القرطبيّ. ورد ذكر السّبعين لإرادة التّكثير كثيراً. انتهى ويؤيّده. أنّ النّسائيّ أخرج الحديث المذكور عن عقبة بن عامر , والطّبرانيّ عن عمرو بن عبسة , وأبو يعلى عن معاذ بن أنس , فقالوا جميعاً في رواياتهم " مائة عام ".

باب ليلة القدر

باب ليلة القدر الحديث الثامن والعشرون 209 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رجالاً من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أُروا ليلة القدر في المنام في السّبع الأواخر. فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أرى رؤياكم قد تواطأت في السّبع الأواخر. فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السّبع الأواخر. (¬1) قوله: (أنّ رجالاً من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) لَم أقف على تسمية أحدٍ من هؤلاء. قوله: (أروا ليلة القدر) أروا بضمّ أوّله على البناء للمجهول. أي: قيل لهم في المنام: إنّها في السّبع الأواخر. والظّاهر أنّ المراد به أواخر الشّهر، وقيل: المراد به السّبع التي أوّلها ليلة الثّاني والعشرين وآخرها ليلة الثّامن والعشرين. فعلى الأوّل: لا تدخل ليلة إحدى وعشرين , ولا ثلاثٍ وعشرين. وعلى الثّاني: تدخل الثّانية فقط , ولا تدخل ليلة التّاسع والعشرين، وقد رواه البخاري من طريق الزّهريّ عن سالمٍ عن أبيه , إنّ ناساً أروا ليلة القدر في السّبع الأواخر، وإنّ ناساً أروا أنّها في العشر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1911) ومسلم (1165) من طريق مالك , والبخاري (1105) من طريق أيوب كلاهما عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وللبخاري (6590) ومسلم (1165) من حديث سالم عن أبيه نحوه.

الأواخر، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: التمسوها في السّبع الأواخر. وكأنّه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى المتّفق عليه من الرّوايتين فأمر به، وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزّهريّ بلفظ: رأى رجلٌ أنّ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها. ورواه أحمد من حديث عليٍّ مرفوعاً: إن غلبتم فلا تغلبوا في السّبع البواقي. ولمسلمٍ عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر بلفظ: من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر. ولمسلمٍ من طريق عقبة بن حريثٍ عن ابن عمر: التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعُف أحدكم أو عجَز فلا يغلبن على السّبع البواقي. وهذا السّياق يرجّح الاحتمال الأوّل من تفسير السّبع. قوله: (ليلة القدر). اختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة. فقيل: المراد به التعظيم كقوله تعالى (وما قدروا الله حق قدره) والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أنَّ الذي يحييها يصير ذا قدر. وقيل: القدر هنا التضييق كقوله تعالى (ومن قُدر عليه رزقه) ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها، أو لأنَّ الأرض تضيق فيها عن الملائكة.

وقيل: القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم). وبه صدر النووي كلامه. فقال: قال العلماء سميت ليلة القدر لِما تَكْتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم) ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم. وقال التوربشتي: إنما جاء القدر بسكون الدال، وإن كان الشائع في القدر الذي هو مؤاخي القضاء فتح الدال ليعلم أنه لَم يرد به ذلك. وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة لتحصيل ما يلقى إليهم فيها مقداراً بمقدار. قوله: (أرى) بفتحتين. أي: أعلم، والمراد أبصر مجازاً. قوله: (رؤياكم) قال عياضٌ: كذا جاء بإفراد الرّؤيا، والمراد مرائيكم , لأنّها لَم تكن رؤيا واحدةً وإنّما أراد الجنس. وقال ابن التّين: كذا روي بتوحيد الرّؤيا، وهو جائزٌ لأنّها مصدرٌ، قال: وأفصح منه رؤاكم جمع رؤيا ليكون جمعاً في مقابلة جمعٍ. قوله: (تواطأت) بالهمزة. أي: توافقت وزناً ومعنًى، أي: توافقُ جماعةٍ على شيء واحد ولو اختلفت عباراتهم. وقال ابن التّين. روي بغير همزٍ والصّواب بالهمز، وأصله أن يطأ الرّجل برجله مكان وطء صاحبه.

وفي هذا الحديث دلالةٌ على عظم قدر الرّؤيا , وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديّة بشرط أن لا يخالف القواعد الشّرعيّة. ويستفاد من الحديث أنّ توافق جماعة على رؤيا واحدة دالٌّ على صدقها وصحّتها , كما تستفاد قوّة الخبر من التّوارد على الإخبار من جماعة.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون 210 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. (¬1) قوله: (تحرَّوا) ولهما من رواية هشام عن أبيه عنها " التمسوا " وللبخاري " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في العشر الأواخر من رمضان. ويقول: تحروا .. الحديث. وأشار البخاري (¬2) إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرةً في رمضان , ثمّ في العشر الأخير منه , ثمّ في أوتاره لا في ليلةٍ منه بعينها. وهذا هو الذي يدلّ عليه مجموع الأخبار الواردة فيها. وقد ورد لليلة القدر علاماتٌ أكثرها لا تظهر. إلاَّ بعد أن تمضي. منها في صحيح مسلم عن أبيّ بن كعبٍ , أنّ الشّمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها. وفي روايةٍ لأحمد من حديثه " مثل الطّست " ونحوه لأحمد من طريق أبي عون عن ابن مسعود وزاد " صافية " ومن حديث ابن عبّاس نحوه. ولابن خزيمة من حديثه مرفوعاً " ليلة القدر طلقةٌ لا حارّةٌ ولا باردةٌ، تصبح الشّمس يومها حمراء ضعيفةٌ ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1913) من طريق أبي سهيل عن أبيه عن عائشة به. بلفظه. وأخرجه البخاري (1915 , 1916) ومسلم (1169) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. نحوه دون قوله (في الوتر). (¬2) أخذاً من ترجمته لحديث الباب (باب تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)

ولأحمد من حديث عبادة بن الصّامت مرفوعاً " إنّها صافيةٌ بلجةٌ كأنّ فيها قمراً ساطعاً، ساكنةٌ صاحيةٌ لا حرّ فيها ولا برد، ولا يحلّ لكوكبٍ يرمى به فيها، ومن أماراتها أنّ الشّمس في صبيحتها تخرج مستويةً ليس لها شعاعٌ مثل القمر ليلة البدر , ولا يحلّ للشّيطان أن يخرج معها يومئذٍ ". ولابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود أيضاً " أنّ الشّمس تطلع كل يومٍ بين قرني شيطان، إلاَّ صبيحة ليلة القدر " وله من حديث جابر بن سمرة مرفوعاً " ليلة القدر ليلة مطر وريح ". ولابن خزيمة من حديث جابر مرفوعاً في ليلة القدر " وهي ليلةٌ طلقةٌ بلجةٌ لا حارّةٌ ولا باردةٌ، تتّضح كواكبها ولا يخرج شيطانها حتّى يضيء فجرها ". ومن طريق قتادة أبي ميمونة عن أبي هريرة مرفوعاً " إنّ الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى ". وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهدٍ " لا يرسل فيها شيطان، ولا يحدث فيها داءٌ " ومن طريق الضّحاك " يقبل الله التّوبة فيها من كلّ تائب، وتفتح فيها أبواب السّماء، وهي من غروب الشّمس إلى طلوعها ". وذكر الطّبرىّ عن قومٍ: أنّ الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض , ثمّ تعود إلى منابتها. وأنّ كلّ شيء يسجد فيها. وروى البيهقيّ في " فضائل الأوقات " من طريق الأوزاعيّ عن

عبدة بن أبي لبابة أنّه سمعه يقول: إنّ المياه المالحة تعذب تلك الليلة " وروى ابن عبد البرّ من طريق زهرة بن معبد نحوه وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً. وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً. كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة (¬1)، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما: القول الأوّل: أنّها رفعت أصلاً ورأساً حكاه المتولي في التّتمّة عن الرّوافض والفاكهانيّ في شرح العمدة عن الحنفيّة. وكأنّه خطأ منه. والذي حكاه السّروجيّ أنّه قول الشّيعة. وقد روى عبد الرّزّاق من طريق داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن يحنس قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذب مَن قال ذلك. ومن طريق عبد الله بن شريك قال: ذكر الحجّاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زرّ بن حبيشٍ أن يحصّبه. فمنعه قومه. القول الثّاني: أنّها خاصّة بسنةٍ واحدة وقعت في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حكاه الفاكهانيّ أيضاً. القول الثّالث: أنّها خاصّة بهذه الأمّة ولَم تكن في الأمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكيّة. ونقله عن الجمهور , وحكاه صاحب " العدّة " من الشّافعيّة ورجّحه. وهو معترضٌ بحديث أبي ذرّ عند النّسائيّ حيث قال فيه , قلت: يا رسولَ الله أتكون مع الأنبياء. فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: لا. بل هي ¬

_ (¬1) تقدم نقل الأقوال في باب الجمعه.

باقية. وعمدتهم قول مالك في " الموطّأ ": بلغني أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر. (¬1) وهذا يحتمل التّأويل. فلا يدفع التّصريح في حديث أبي ذرٍّ. القول الرّابع: أنّها ممكنةٌ في جميع السّنة، وهو قول مشهور عن الحنفيّة حكاه قاضي خان وأبو بكر الرّازيّ منهم، وروي مثله عن ابن مسعود وابن عبّاس وعكرمة وغيرهم. وزيّف المُهلَّب هذا القول , وقال: لعل صاحبه بناه على دوران الزّمان لنقصان الأهلة، وهو فاسد , لأنّ ذلك لَم يعتبر في صيام رمضان فلا يعتبر في غيره حتّى تنقل ليلة القدر عن رمضان. انتهى. ومأخذ ابن مسعود كما ثبت في صحيح مسلم عن أبيّ بن كعب , أنّه أراد أن لا يتّكل النّاس. القول الخامس: أنّها مختصّة برمضان. ممكنةٌ في جميع لياليه، وهو قول ابن عمر رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عنه، وروي مرفوعاً عنه أخرجه أبو داود. وفي " شرح الهداية " الجزم به عن أبي حنيفة , وقال به ابن المنذر ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " (3667) من طريق مالك به. والحديث أحد بلاغات مالك رحمه الله. قال ابن عبد البر في " الاستذكار " (3/ 416): لا أعلم هذا الحديث يُروى مسنداً ولا مرسلاً من وجهٍ من الوجوه إلاَّ ما في " الموطأ " , وهو أحد الأربعة الأحاديث التي لا توجد في غير الموطأ. انتهى

والمحامليّ وبعض الشّافعيّة ورجّحه السّبكيّ في " شرح المنهاج " وحكاه ابن الحاجب روايةً. وقال السّروجيّ في " شرح الهداية ": قول أبي حنيفة إنّها تنتقل في جميع رمضان , وقال صاحباه: إنّها في ليلةٍ معيّنةٍ منه مبهمةٍ، وكذا قال النّسفيّ في " المنظومة ": وليلة القدر بكل الشّهر دائرةٌ وعيّناها فادر. انتهى. وهذا القول حكاه ابن العربيّ عن قوم. وهو القول السّادس. القول السّابع: أنّها أوّل ليلة من رمضان حُكي عن أبي رزين العقيليّ الصّحابيّ. وروى ابن أبي عاصم من حديث أنس قال: ليلة القدر أوّل ليلة من رمضان، قال ابن أبي عاصم: لا نعلم أحداً قال ذلك غيره. القول الثّامن: أنّها ليلة النّصف من رمضان. حكاه شيخنا سراج الدّين ابن الملقّن في " شرح العمدة " , والذي رأيت في " المفهم " للقرطبيّ حكاية قول أنّها ليلة النّصف من شعبان، وكذا نقله السّروجيّ عن صاحب " الطّراز ". فإن كانا محفوظين فهو القول التّاسع، ثمّ رأيت في " شرح السّروجيّ " عن " المحيط " أنّها في النّصف الأخير القول العاشر: أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان. روى ابن أبي شيبة والطّبرانيّ من حديث زيد بن أرقم قال: ما أشكّ ولا أمتري أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن،

وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود أيضاً. القول الحادي عشر: أنّها مبهمة في العشر الأوسط. حكاه النّوويّ , وعزاه الطّبريّ لعثمان بن أبي العاص والحسن البصريّ , وقال به بعض الشّافعيّة. القول الثّاني عشر: أنّها ليلة ثمان عشرة. قرأته بخطّ القطب الحلبيّ في شرحه , وذكره ابن الجوزيّ في مشكله. القول الثّالث عشر: أنّها ليلة تسع عشرة. رواه عبد الرّزّاق عن عليّ، وعزاه الطّبريّ لزيد بن ثابت وابن مسعود، ووصله الطّحاويّ عن ابن مسعود. القول الرّابع عشر: أنّها أوّل ليلة من العشر الأخير. وإليه مال الشّافعيّ , وجزم به جماعة من الشّافعيّة. ولكن قال السّبكيّ: إنّه ليس مجزوماً به عندهم لاتّفاقهم على عدم حنث من علَّق يوم العشرين عتق عبده في ليلة القدر. أنّه لا يعتق تلك الليلة , بل بانقضاء الشّهر على الصّحيح. بناء على أنّها في العشر الأخير. وقيل: بانقضاء السّنة. بناء على أنّها لا تختصّ بالعشر الأخير , بل هي في رمضان القول الخامس عشر: مثل الذي قبله إلاَّ أنّه إن كان الشّهر تامّاً فهي ليلة العشرين , وإن كان ناقصاً فهي ليلة إحدى وعشرين. وهكذا في جميع الشّهر.

وهو قول ابن حزمٍ وزعم: أنّه يجمع بين الإخبار بذلك. ويدلّ له ما رواه أحمد والطّحاويّ من حديث عبد الله بن أنيسٍ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: التمسوها الليلة، قال: وكانت تلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين، فقال رجل: هذه أولى بثمانٍ بقين، قال: بل أولى بسبعٍ بقين فإنّ هذا الشّهر لا يتمّ. القول السّادس عشر: أنّها ليلة اثنين وعشرين وسيأتي حكايته بعد. وروى أحمد من حديث عبد الله بن أنيسٍ , أنّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر وذلك صبيحة إحدى وعشرين , فقال: كم الليلة؟ قلت: ليلة اثنين وعشرين، فقال: هي الليلة أو القابلة. القول السّابع عشر: أنّها ليلة ثلاث وعشرين. رواه مسلم عن عبد الله بن أنيسٍ مرفوعاً " أريت ليلة القدر ثمّ نسّيتها " فذكر مثل حديث أبي سعيد (¬1) لكنّه قال فيه " ليلة ثلاث وعشرين بدل إحدى وعشرين " وعنه قال: قلت: يا رسولَ الله إنَّ لي بادية أكون فيها، فمرني بليلة القدر، قال: انزل ليلة ثلاث وعشرين. وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن معاوية قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين. ورواه إسحاق في " مسنده " من طريق أبي حازم عن رجلٍ من بني بياضة له صحبة مرفوعاً. وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن أيّوب عن نافع عن ابن عمر ¬

_ (¬1) أي: حديث أبي سعيد الآتي إن شاء الله

مرفوعاً " من كان متحرّيها فليتحرّها ليلة سابعة , وكان أيّوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمسّ الطّيب، وعن ابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عبّاس , أنّه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين. وروى عبد الرّزّاق من طريق يونس بن سيف سمع سعيد بن المسيّب يقول: استقام قول القوم على أنّها ليلة ثلاث وعشرين، ومن طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وعن طريق مكحول , أنّه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين. القول الثّامن عشر: أنّها ليلة أربع وعشرين كما في حديث ابن عبّاس (¬1). وروى الطّيالسيّ من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً " ليلة القدر ليلة أربع وعشرين " وروي ذلك عن ابن مسعود , وللشّعبيّ والحسن وقتادة. وحجّتهم حديث واثلة: أنّ القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان , وروى أحمد من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي الخير الصّنابحيّ عن بلال مرفوعاً: التمسوا ليلة القدر ليلة أربع وعشرين. وقد أخطأ ابن لهيعة في رفعه. فقد رواه عمرو بن الحارث عن يزيد بهذا الإسناد موقوفاً بغير لفظه. كما أخرجه البخاري في أواخر المغازي بلفظ " ليلة القدر أوّل السّبع من العشر الأواخر ". القول التّاسع عشر: أنّها ليلة خمس وعشرين. حكاه ابن العربيّ في " ¬

_ (¬1) سيأتي ذكره إن شاء الله في أدلّة القول التاسع والثلاثين.

العارضة " , وعزاه ابن الجوزيّ في " المشكل " لأبي بكرة. القول العشرون: أنّها ليلة ستّ وعشرين , وهو قولٌ لَم أره صريحاً , إلاَّ أنّ عياضاً قال: ما من ليلة من ليالي العشر الأخير إلاَّ وقد قيل إنّها فيه. القول الحادي والعشرون: أنّها ليلة سبع وعشرين. وهو الجادّة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة , وبه جزم أبيّ بن كعب وحلف عليه كما أخرجه مسلم. وروى مسلم أيضاً من طريق أبي حازم عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر فقال - صلى الله عليه وسلم -: أيّكم يذكر حين طلع القمر كأنّه شقّ جفنة؟. قال أبو الحسن الفارسيّ: أي ليلة سبع وعشرين, فإنّ القمر يطلع فيها بتلك الصّفة وروى الطّبرانيّ من حديث ابن مسعود , سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر؟ فقال: أيّكم يذكر ليلة الصّهباوات؟ قلت: أنا، وذلك ليلة سبع وعشرين " ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناسٍ من الصّحابة. وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم: رأى رجل ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. ولأحمد من حديثه مرفوعاً " ليلة القدر ليلة سبع وعشرين " , ولابن المنذر " من كان متحرّيها فليتحرّها ليلة سبع وعشرين " وعن جابر بن سمرة نحوه. أخرجه الطّبرانيّ في أوسطه، وعن معاوية نحوه أخرجه أبو داود.

وحكاه صاحب " الحلية " من الشّافعيّة. عن أكثر العلماء. وقد استنبط ابن عبّاس عند عمر ووافقه. فروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عباس: دعا عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ليلة القدر فاجمعوا على أنها في العشر الأواخر , قال ابن عباس: فقلت لعمر: إني لأعلم أو أظن أيَّ ليلة هي , قال عمر: أيَّ ليلة هي؟ فقلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر , فقال: من أين علمت ذلك؟ قلت: خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين وسبعة أيام , والدهر يدور في سبع , والإنسان خلق من سبع ويأكل من سبع ويسجد على سبع , والطواف والجمار وأشياء ذكرها , فقال عمر: لقد فطنت لأمر ما فطنَّا له. ورواه محمد بن نصر في " قيام الليل " من وجه آخر. وزاد فيه " , وأن الله جعل النسب في سبع والصهر في سبع , ثم تلا (حرمت عليكم امهاتكم) " , وفي رواية الحاكم " إني لأرى القول كما قلت ". وزعم ابن قدامة: أنّ ابن عبّاس استنبط ذلك من عدد كلمات السّورة. وقد وافق قوله فيها هي سابع كلمة بعد العشرين. وهذا نقله ابن حزم عن بعض المالكيّة. وبالغ في إنكاره. نقله ابن عطيّة في " تفسيره " , وقال: إنّه من مُلَح التّفاسير. وليس من متين العلم. واستنبط بعضهم ذلك في جهة أخرى فقال: ليلة القدر تسعة

أحرف. وقد أعيدت في السّورة ثلاث مرّات فذلك سبع وعشرون. وقال صاحب الكافي من الحنفيّة وكذا المحيط: مَن قال لزوجته أنت طالق ليلة القدر طلُقت ليلة سبع وعشرين , لأنّ العامّة تعتقد أنّها ليلة القدر. القول الثّاني والعشرون: أنّها ليلة ثمان وعشرين. وقد تقدّم توجيهه قبل بقولٍ. القول الثّالث والعشرون: أنّها ليلة تسع وعشرين. حكاه ابن العربيّ. القول الرّابع والعشرون: أنّها ليلة ثلاثين. حكاه عياض والسّروجيّ في شرح الهداية , ورواه محمّد بن نصر والطّبريّ عن معاوية , وأحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة. القول الخامس والعشرون: أنّها في أوتار العشر الأخير. وعليه يدلّ حديث عائشة وغيرها في هذا الباب. وهو أرجح الأقوال , وصار إليه أبو ثور والمزنيّ وابن خزيمة وجماعة من علماء المذاهب. القول السّادس والعشرون: مثله بزيادة الليلة الأخيرة. رواه التّرمذيّ من حديث أبي بكرة وأحمد من حديث عبادة بن الصّامت. القول السّابع والعشرون: تنتقل في العشر الأخير كلّه , قاله أبو قلابة. ونصّ عليه مالك والثّوريّ وأحمد وإسحاق.

وزعم الماورديّ أنّه متّفقٌ عليه؛ وكأنّه أخذه من حديث ابن عبّاس , أنّ الصّحابة اتّفقوا على أنّها في العشر الأخير , ثمّ اختلفوا في تعيينها منه. فروى عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة وعاصم أنّهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عبّاس: دعا عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنّها العشر الأواخر، قال ابن عبّاس: فقلت: لعمر إنّي لأعلم - أو أظنّ - أيّ ليلةٍ هي، قال عمر: أيّ ليلةٍ هي؟ فقلت: سابعةٌ تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر .. الحديث. ويؤيّد كونها في العشر الأخير حديث أبي سعيد الصّحيح (¬1) , أنّ جبريل قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا اعتكف العشر الأوسط: إنّ الذي تطلب أمامك. وكذا اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - العشر الأخير في طلب ليلة القدر , واعتكاف أزواجه بعده , والاجتهاد فيه. واختلف القائلون به. فمنهم مَن قال: هي فيه محتملة على حدّ سواء نقله الرّافعيّ عن مالك وضعّفه ابن الحاجب. ومنهم مَن قال: بعض لياليه أرجى من بعض. فقال الشّافعيّ: أرجاه ليلة إحدى وعشرين وهو القول الثّامن والعشرون. وقيل: أرجاه ليلة ثلاث وعشرين وهو القول التّاسع والعشرون. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (780).

وقيل: أرجاه ليلة سبع وعشرين وهو القول الثّلاثون. القول الحادي والثّلاثون: أنّها تنتقل في السّبع الأواخر، وقد تقدّم بيان المراد منه في حديث ابن عمر: هل المراد ليالي السّبع من آخر الشّهر أو آخر سبعة تعدّ من الشّهر؟. ويخرج من ذلك القول الثّاني والثّلاثون. القول الثّالث والثّلاثون: أنّها تنتقل في النّصف الأخير. ذكره صاحب المحيط عن أبي يوسف ومحمّد، وحكاه إمام الحرمين عن صاحب التّقريب. القول الرّابع والثّلاثون: أنّها ليلة ستّ عشرة أو سبع عشرة. رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزّبير. القول الخامس والثّلاثون: أنّها ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين , رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسنادٍ ضعيفٍ. القول السّادس والثّلاثون: أنّها في أوّل ليلة من رمضان أو آخر ليلة. رواه ابن أبي عاصم من حديث أنس بإسنادٍ ضعيفٍ. القول السّابع والثّلاثون: أنّها أوّل ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة. رواه ابن مردويه في " تفسيره " عن أنس بإسنادٍ ضعيفٍ. القول الثّامن والثّلاثون: أنّها ليلة تسع عشرة أو إحدى عشرة أو ثلاث وعشرين.

رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بإسنادٍ فيه مقال، وعبد الرّزّاق من حديث عليّ بإسنادٍ منقطع، وسعيد بن منصور من حديث عائشة بإسنادٍ منقطعٍ أيضاً القول التّاسع والثّلاثون: ليلة ثلاث وعشرين , أو سبع وعشرين. وهو مأخوذ من حديث ابن عبّاس في البخاري حيث قال: سبع يبقين أو سبع يمضين. (¬1) ولأحمد من حديث النّعمان بن بشير " سابعه تمضي أو سابعة تبقى " قال النّعمان: فنحن نقول ليلة سبع وعشرين , وأنتم تقولون ليلة ثلاث وعشرين. القول الأربعون: ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين كما في حديث عبادة بن الصّامت: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبرنا بليلة القدر. فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. ولأبي داود من حديثه بلفظ " تاسعة تبقى سابعة تبقى خامسة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2022) , لكن بلفظ " هي في العشر الأواخر، هي في تسع يمضين، أو في سبع يبقين " قال الحافظ في " الفتح " (4/ 332): كذا للأكثر بتقديم السين في الثاني وتأخيرها في الأول وبلفظ المضي في الأول والبقاء في الثاني , وللكشميهني بلفظ المضي فيهما , وفي رواية الإسماعيلي بتقديم السين في الموضعين " انتهى وفي لفظ للبخاري معلَّقاً " التمسوا في أربع وعشرين " ووصله الإمام أحمد وابن أبي عمر كما في الفتح.

تبقى ". قال مالك في " المدوّنة ": قوله: تاسعة تبقى. ليلة إحدى وعشرين إلخ. القول الحادي والأربعون: أنّها منحصرة في السّبع الأواخر من رمضان لحديث ابن عمر في الباب الذي قبله. القول الثّاني والأربعون: أنّها ليلة اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيسٍ عند أحمد. القول الثّالث والأربعون: أنّها في أشفاع العشر الوسط والعشر الأخير. قرأته بخطّ مغلطاي. القول الرّابع والأربعون: أنّها ليلة الثّالثة من العشر الأخير أو الخامسة منه. رواه أحمد من حديث معاذ بن جبل. والفرق بينه وبين ما تقدّم. أنّ الثّالثة تحتمل ليلة ثلاث وعشرين , وتحتمل ليلة سبع وعشرين فتنحلّ إلى أنّها ليلة ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين. وبهذا يتغاير هذا القول ممّا مضى القول الخامس والأربعون: أنّها في سبع أو ثمان من أوّل النّصف الثّاني. روى الطّحاويّ من طريق عطيّة بن عبد الله بن أنيسٍ عن أبيه , أنّه سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر فقال: تحرّها في النّصف الأخير، ثمّ عاد فسأله فقال: إلى ثلاث وعشرين، قال: وكان عبد الله يحيي ليلة ستّ عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين ثمّ يقصّر.

القول السّادس والأربعون: أنّها في أوّل ليلة أو آخِر ليلة أو الوتر من الليل. أخرجه أبو داود في كتاب " المراسيل " عن مسلم بن إبراهيم عن أبي خلدة عن أبي العالية , أنّ أعرابيّاً أتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي - فقال له: متى ليلة القدر؟ فقال: اطلبوها في أوّل ليلة وآخر ليلة والوتر من الليل. وهذا مرسلٌ رجاله ثقات. وجميع هذه الأقوال التي حكيناها بعد الثّالث فهلمّ جرّاً. متّفقة على إمكان حصولها والحثّ على التماسها. وقال ابن العربيّ: الصّحيح أنّها لا تعلم، وهذا يصلح أن يكون قولاً آخر. وأنكر هذا القول النّوويّ , وقال: قد تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها وأخبر به جماعة من الصّالحين فلا معنى لإنكار ذلك. ونقل الطّحاويّ عن أبي يوسف قولاً جوّز فيه أنّه يرى أنّها ليلة أربع وعشرين أو سبع وعشرين، فإن ثبت ذلك عنه فهو قول آخر. هذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال وبعضها يمكن ردّه إلى بعض، وإن كان ظاهرها التّغاير. وأرجحها كلّها أنّها في وترٍ من العشر الأخير , وأنّها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشّافعيّة ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيسٍ.

وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين. وقد تقدّمت أدلة ذلك. قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عيّنت لها ليلةٌ لاقتصر عليها كما في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مطّردة عند من يقول إنّها في جميع من السّنة , وفي جميع رمضان , أو في جميع العشر الأخير , أو في أوتاره خاصّة، إلاَّ أنّ الأوّل ثمّ الثّاني أليق به. واختلفوا. هل لها علامة تظهر لمن وفّقت له أم لا؟. فقيل: يرى كلّ شيء ساجداً. وقيل: الأنوار في كلّ مكان ساطعة. حتّى في المواضع المظلمة. وقيل: يسمع سلاماً أو خطاباً من الملائكة. وقيل: علامتها استجابة دعاء من وفّقت له. واختار الطّبريّ: أنّ جميع ذلك غير لازم , وأنّه لا يشترط لحصولها رؤية شيءٍ ولا سماعه. واختلفوا أيضاً. هل يحصل الثّواب المرتّب عليها لمن اتّفق له أنّه قامها وإن لَم يظهر له شيء، أو يتوقّف ذلك على كشفها له؟. وإلى الأوّل: ذهب الطّبريّ والمُهلَّب وابن العربيّ وجماعة. وإلى الثّاني: ذهب الأكثر، ويدلّ له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ " من يقم ليلة القدر فيوافقها " وفي حديث عبادة عند أحمد " من قامها إيماناً واحتساباً ثمّ وفّقت له ". قال النّوويّ: معنى يوافقها. أي: يعلم أنّها ليلة القدر فيوافقها،

ويحتمل: أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر وإن لَم يعلم هو ذلك. وفي حديث زرّ بن حبيش عن ابن مسعود قال: من يقم الحول يُصب ليلة القدر " وهو محتمل للقولين أيضاً. وقال النّوويّ أيضاً في حديث " من قام رمضان " وفي حديث " من قام ليلة القدر ": معناه من قامه ولو لَم يوافق ليلة القدر حصل له ذلك، ومن قام ليلة القدر فوافقها حصل له. وهو جارٍ على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم بها، وهو الذي يترجّح في نظري، ولا أنكر حصول الثّواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر. وإن لَم يعلم بها ولو لَم توفّق له، وإنّما الكلام على حصول الثّواب المعيّن الموعود به. وفرّعوا على القول باشتراط العلم بها أنّه يختصّ بها شخص دون شخص فيكشف لواحد ولا يكشف لآخر ولو كانا معاً في بيت واحد. وقال الطّبريّ: في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنّه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السّنة، إذ لو كان ذلك حقّاً لَم يخف على كلّ من قام ليالي السّنة فضلاً عن ليالي رمضان. وتعقّبه ابن المنيّر في الحاشية: بأنّه لا ينبغي إطلاق القول بالتّكذيب لذلك , بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده فيختصّ بها قوم دون قوم، والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يحصر العلامة ولَم ينف الكرامة، وقد كانت العلامة في السّنة التي حكاها أبو سعيد نزول

المطر، ونحن نرى كثيراً من السّنين ينقضي رمضان دون مطر مع اعتقادنا أنّه لا يخلو رمضان من ليلة القدر. قال: ومع ذلك فلا نعتقد أنّ ليلة القدر لا ينالها إلاَّ من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع , وربّ قائمٍ تلك الليلة لَم يحصل منها إلاَّ على العبادة من غير رؤية خارق، وآخر رأى الخارق من غير عبادة، والذي حصل على العبادة أفضل، والعبرة إنّما هي بالاستقامة فإنّها تسحيل أن تكون إلاَّ كرامة، بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة والله أعلم. وفي هذه الأحاديث ردّ لقول أبي الحسن الحولي (¬1) المغربيّ: أنّه اعتبر ليلة القدر فلم تفُتْه طول عمره , وأنّها تكون دائماً ليلة الأحد، فإن كان أوّل الشّهر ليلة الأحد كانت ليلة تسع وعشرين وهلُمَّ جرّاً، ولزم من ذلك أن تكون في ليلتين من العشر الوسط لضرورة أنّ أوتار العشر خمسة. وعارضه بعض من تأخّر عنه , فقال: إنّها تكون دائماً ليلة الجمعة , وذكر نحو قول أبي الحسن. وكلاهما لا أصل له، بل هو مخالف لإجماع الصّحابة في عهد عمر كما تقدّم، وهذا كافٍ في الرّدّ. وبالله التّوفيق. ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع (الحولي) ويحتمل أنه مصحَّف , وقد نقَلَ بعضُ فقهاء الشافعية هذا القولَ عن أبي الحسن البكري. لكن البكريَّ مصريٌّ. وهذا نسَبَه الشارحُ مغربيَّا. والله أعلم.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون 211 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان. فاعتكف عاماً , حتّى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين - وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه – قال: من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ثمّ أنسيتها , وقد رأيتني أسجد في ماءٍ وطينٍ من صبيحتها , فالتمسوها في العشر الأواخر , والتمسوها في كل وترٍ. فمطرت السّماء تلك الليلة , وكان المسجد على عريشٍ , فوكف المسجد , فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته أثر الماء والطّين من صبح إحدى وعشرين. (¬1) قوله: (أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف) وللبخاري من رواية يحيى عن أبي سلمة قال: سألت أبا سعيدٍ - وكان لي صديقاً - فقال: اعتكفنا. لَم يذكر المسئول عنه في هذه الطّريق. وله من رواية عليّ بن المبارك عن يحيى عن أبي سلمة , سألت أبا سعيد: هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم. فذكر الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (638 , 780 , 801 , 1912 , 1914 , 1923 , 1931 , 1935) ومسلم (1167) مطوّلاً ومختصراً من طرق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (1167) من وجه آخر عن أبي نضرة عن أبي سعيد نحوه.

ولمسلمٍ من طريق معمر عن يحيى " تذاكرنا ليلة القدر في نفرٍ من قريشٍ، فأتيت أبا سعيد .. فذكره. (¬1) وفي رواية همّامٍ عن يحيى عند البخاري: انطلقتُ إلى أبي سعيد فقلت: ألا تخرج بنا إلى النّخل فنتحدّث؟ فخرج، فقلت: حدِّثني ما سمعتَ من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر. فأفاد بيان سبب السّؤال. وفيه تأنيس الطّالب للشّيخ في طلب الاختلاء به ليتمكّن ممّا يريد من مسألته. قوله: (العشر الأوسط من رمضان) هكذا وقع في أكثر الرّوايات، والمراد بالعشر الليالي وكان من حقّها أن توصف بلفظ التّأنيث , لكن وصفت بالمذكّر على إرادة الوقت أو الزّمان أو التّقدير الثّلث كأنّه قال: الليالي العشر التي هي الثّلث الأوسط من الشّهر. ووقع في " الموطّأ " العشر الوسط. بضمّ الواو والسّين جمع وسطى , ويروى بفتح السّين مثل كبر وكبرى. ورواه الباجيّ في " الموطّأ " بإسكانها على أنّه جمع واسط كبازلٍ وبزلٍ, وهذا يوافق رواية الأوسط. ووقع في رواية محمّد بن إبراهيم عن أبي سلمة في البخاري " كان يجاور العشر التي في وسط الشّهر " وفي رواية الباب " كان يعتكف " ¬

_ (¬1) روى هذا الطريق مسلمٌ (1167) عن عبد الرزاق عن معمر , لكنه لم يسق متنها. وإنما أحاله على رواية الباب هنا. وقد رواه عبد الرزاق في " المصنف " (7685) عن معمر به. وفيه (في نفرٍ من قريش).

والاعتكاف مجاورةٌ مخصوصةٌ. ولمسلمٍ من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد: اعتكف العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له، فلمّا انقضين أمر بالبناء فقوّض، ثمّ أبينت له أنّها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد. وزاد مسلم في رواية عمارة بن غزيّة عن محمّد بن إبراهيم , أنّه اعتكف العشر الأوّل ثمّ اعتكف العشر الأوسط ثمّ اعتكف العشر الأواخر. ومثله في رواية همّامٍ المذكورة. وزاد فيها " إنّ جبريل أتاه في المرّتين , فقال له: إنّ الذي تطلب أمامك " وهو بفتح الهمزة والميم. أي: قدّامك. قال الطّيبيّ: وصف الأوّل والأوسط بالمفرد. والأخير بالجمع. إشارةً إلى تصوير ليلة القدر في كلّ ليلةٍ من ليالي العشر الأخير دون الأوّلين قوله: (حتّى إذا كان ليلة إحدى وعشرين , وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه) في رواية لهما " فخرج صبيحة عشرين فخطبنا ". وظاهره يخالف رواية الباب، ومقتضاه أنّ خطبته وقعت في أوّل اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أوّل ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين. وهو مغايرٌ لقوله في آخر الحديث " فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته أثر الماء والطّين من صبح إحدى وعشرين ". فإنّه ظاهرٌ في أنّ الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر كان في ليلة

إحدى وعشرين. وهو الموافق لبقيّة الطّرق. وعلى هذا فكأنّ قوله في رواية مالك المذكورة " وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها " أي: من الصّبح الذي قبلها، ويكون في إضافة الصّبح إليها تجوّزٌ. وقد أطال ابن دحية في تقرير: أنّ الليلة تضاف لليوم الذي قبلها، وردّ على من منع ذلك. ولكن لَم يوافق على ذلك. فقال ابن حزمٍ: رواية ابن أبي حازم والدّراورديّ عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة، بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي، ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس. الحديث. أخرجه البخاري. مستقيمةٌ. ورواية مالك مشكلةٌ، وأشار إلى تأويلها بنحوٍ ممّا ذكرته. ويؤيّده. أنّ في رواية البخاري " فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلةً تمضي. ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ". وهذا في غاية الإيضاح. وأفاد ابن عبد البرّ في " الاستذكار ": أنّ الرّواة عن مالك اختلفوا عليه في لفظ الحديث, فقال بعد ذكر الحديث: هكذا رواه يحيى بن يحيى بن بكير والشّافعيّ عن مالك " يخرج في صبيحتها من اعتكافه ". ورواه ابن القاسم وابن وهبٍ والقعنبيّ وجماعةٌ عن مالك فقالوا "

وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه ". قال: وقد روى ابن وهبٍ وابن عبد الحكم عن مالك فقال: من اعتكف أوّل الشّهر أو وسطه فإنّه يخرج إذا غابت الشّمس من آخر يومٍ من اعتكافه، ومن اعتكف في آخر الشّهر فلا ينصرف إلى بيته حتّى يشهد العيد. قال ابن عبد البرّ: ولا خلاف في الأوّل، وإنّما الخلاف فيمن اعتكف العشر الأخير. هل يخرج إذا غابت الشّمس , أو لا يخرج حتّى يصبح؟ قال: وأظنّ الوهم دخل من وقت خروج المعتكف. قلت: وهو بعيدٌ لِمَا قرّره هو من بيان محلّ الاختلاف. وقد وجّه شيخنا الإمام البلقينيّ (¬1) رواية الباب بأنّ معنى قوله " حتّى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين " أي: حتّى إذا كان المستقبل من الليالي ليلة إحدى وعشرين، وقوله " وهي الليلة التي يخرج " الضّمير يعود على الليلة الماضية. ويؤيّد هذا قوله " من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر " , لأنّه لا يتمّ ذلك إلاَّ بإدخال الليلة الأولى. وسبيل من أراد اعتكاف الليالي دون الأيّام، أن يدخل قبيل غروب الشّمس ويخرج بعد طلوع الفجر، فإن أراد اعتكاف الأيّام خاصّةً فيدخل مع طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشّمس، فإن أراد اعتكاف الأيّام والليالي معاً فيدخل قبل غروب الشّمس ويخرج بعد ¬

_ (¬1) هو عمر بن رسلان , سبق ترجمته (1/ 19)

غروب الشّمس أيضاً. وقد وقع في البخاري " فلمّا كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا " وهو مشعرٌ بأنّهم اعتكفوا الليالي دون الأيّام. وحمله المُهلَّب على نقل أثقالهم وما يحتاجون إليه من آلة الأكل والشّرب والنّوم، إذ لا حاجة لهم بها في ذلك اليوم، فإذا كان المساء خرجوا خفافاً. ولذلك قال " نقلنا متاعنا " ولَم يقل خرجنا. وقد تقدّم من وجهٍ آخر " فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة ويستقبل إحدى وعشرين رجع " وبذلك يجمع بين الطّريقين , فإنّ القصّة واحدةٌ , والحديث واحدٌ , وهو حديث أبي سعيدٍ. قوله: (فمن كان اعتكف معي فليعتكف) وللبخاري " فليرجع " وفي رواية همّامٍ المذكورة " من اعتكف مع النّبيّ " وفيه التفاتٌ. قوله: (أُريت) بضمّ أوّله على البناء لغير معيّنٍ، وهي من الرّؤيا. أي: أعلمت بها، أو من الرّؤية. أي: أبصرتها، وإنّما أري علامتها وهو السّجود في الماء والطّين كما وقع في رواية همّامٍ المشار إليها بلفظ " حتّى رأيت أثر الماء والطّين على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصديق رؤياه ". قوله: (ثمّ أنسيتها) وفي رواية لهما " أنسيتها أو نسيتها " شكٌّ من الرّاوي هل أنساه غيره إيّاها أو نسيها هو من غير واسطةٍ؟. ومنهم: من ضبط نسّيتها بضمّ أوّله والتّشديد. فهو بمعنى أنسيتها , والمراد أنّه أنسي علم تعيينها في تلك السّنة. وسبب النّسيان في هذه القصّة في حديث عبادة بن الصّامت: خرج

النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين , فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة. أخرجه البخاري. وقوله " فتلاحى " بالمهملة. أي: وقعت بينهما ملاحاةٌ، وهي المخاصمة والمنازعة والمشاتمة، والاسم اللحاء بالكسر والمدّ. وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد عند مسلم " فجاء رجلان يختصمان معهما الشّيطان " (¬1) ونحوه في حديث الفلتان عند ابن إسحاق. وزاد " أنّه لقيهما عند سدّة المسجد فحجز بينهما ". فاتّفقت هذه الأحاديث على سبب النّسيان. وروى مسلمٌ أيضاً من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أريت ليلة القدر، ثمّ أيقظني بعض أهلي فنسيتها " وهذا سببٌ آخر. ¬

_ (¬1) حديث أبي سعيد عند مسلم (1167) بلفظ: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان، يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له، فلما انقضين أمر بالبناء فقوّض، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر، فأمر بالبناء فأعيد، ثم خرج على الناس، فقال: يا أيها الناس، إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقّان معهما الشيطان، فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قال: قلت: يا أبا سعيد، إنكم أعلم بالعدد منا، قال: أجل، نحن أحق بذلك منكم، قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون، فالتي تليها ثنتان وعشرون وهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون , فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة - وقال ابن خلاد مكان يحتقان: يختصمان

فإمّا أن يُحمل على التّعدّد بأن تكون الرّؤيا في حديث أبي هريرة مناماً فيكون سبب النّسيان الإيقاظ، وأن تكون الرّؤية في حديث غيره في اليقظة فيكون سبب النّسيان ما ذكر من المخاصمة. أو يُحمل: على اتّحاد القصّة , ويكون النّسيان وقع مرّتين عن سببين. ويحتمل: أن يكون المعنى أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحي الرّجلين فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما. وقد روى عبد الرّزّاق من مرسل سعيد بن المسيّب , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبركم بليلة القدر؟ قالوا: بلى. فسكت ساعةً , ثمّ قال: لقد قلت لكم وأنا أعلمها , ثمّ أنسيتها " فلم يذكر سبب النّسيان، وهو ممّا يقوّي الحمل على التّعدّد. قوله: (وقد رأيتني أسجد) في رواية الكشميهنيّ " أن أسجد ". قوله: (قزعة) بفتح القاف والزّاي. أي: قطعةٌ من سحابٍ رقيقةٌ. قوله: (فمطرت) بفتحتين، وللبخاري من وجهٍ آخر " فاستهلت السّماء فأمطرت " قوله: (وكان المسجد على عريشٍ) أي: مثل العريش وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنّه كان مظللاً بالجريد والخوص، ولَم يكن محكم البناء بحيث يكفّ من المطر الكثير. قوله: (فوكف المسجد) أي: قطّر الماء من سقفه، وللبخاري " وما نرى في السماء قزعة , فجاءت سحابة فمطرت. حتى سال سقف

المسجد " قوله: (على جبهته أثر الماء والطّين) في رواية لهما " يسجد في الماء والطّين حتّى رأيت أثر الطّين في جبهته ". وفي رواية ابن أبي حازمٍ في البخاري " انصرف من الصّبح ووجهه ممتلئٌ طيناً وماءً " وهذا يشعر بأنّ قوله " أثر الماء والطّين " لَم يرد به محض الأثر وهو ما يبقى بعد إزالة العين. قال البخاري في " صحيحه ": رأيت الحميدي يحتج بهذا الحديث أن لا يمسح الجبهة في الصلاة. وفيه إشارة إلى أنّه يوافقه على ذلك، ومن ثَمَّ لَم يتعقّبه، وأنّه إن احتجّ به على المنع جملةً لَم يسلم من الاعتراض وأنّ التّرك أولى. قال الزّين بن المنير ما حاصله: ذكر البخاريّ المستدلّ ودليله، وكّل الأمر فيه لنظر المجتهد. هل يوافق الحميديّ أو يخالفه؟ وإنّما فعل ذلك لِمَا يتطرّق إلى الدّليل من الاحتمالات، لأنّ بقاء أثر الطّين لا يستلزم نفي مسح الجبهة، إذ يجوز أن يكون مسحها وبقي الأثر بعد المسح. ويحتمل: أن يكون ترك المسح ناسياً أو تركه عامداً لتصديق رؤياه، أو لكونه لَم يشعر ببقاء أثر الطّين في جبهته، أو لبيان الجواز، أو لأنّ ترك المسح أولى , لأنّ المسح عملٌ. وإن كان قليلاً. وإذا تطرّقت هذه الاحتمالات لَم ينهض الاستدلال، لا سيّما وهو فعل من الجبليّات لا من القرب.

وفي حديث أبي سعيد من الفوائد: استحباب ترك الإسراع إلى إزالة ما يصيب جبهة السّاجد من غبار الأرض ونحوه، والسّجود على الحائل. وحمله الجمهور على الأثر الخفيف , لكن يعكّر عليه قوله في بعض طرقه " ووجهه ممتلئٌ طيناً وماءً ". وأجاب النّوويّ: بأنّ الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة. وفيه جواز السّجود في الطّين، ولا حجّة فيه لمن استدل به على جواز الاكتفاء بالأنف , لأنّ في سياقه أنّه سجد على جبهته وأرنبته، فوضح أنّه إنّما قصد بالتّرجمة ما قدّمناه وهو دالٌّ على وجوب السّجود عليهما , ولولا ذلك لصانهما عن لوث الطّين، قاله الخطّابيّ. وفيه نظرٌ. وفيه الأمر بطلب الأولى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل، وأنّ النّسيان جائزٌ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا نقص عليه في ذلك لا سيّما فيما لَم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحةٌ تتعلق بالتّشريع كما في السّهو في الصّلاة، أو بالاجتهاد في العبادة كما في هذه القصّة، لأنّ ليلة القدر لو عيّنت في ليلةٍ بعينها حصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها، وكان هذا هو المراد بقوله " عسى أن يكون خيراً لكم " كما في حديث عبادة. وفيه استعمال رمضان بدون شهرٍ، واستحباب الاعتكاف فيه، وترجيح اعتكاف العشر الأخير، وأنّ من الرّؤيا ما يقع تعبيره مطابقاً

، وترتّب الأحكام على رؤيا الأنبياء. وفي أوّل قصّة أبي سلمة مع أبي سعيد المشي في طلب العلم، وإيثار المواضع الخالية للسّؤال، وإجابة السّائل لذلك واجتناب المشقّة في الاستفادة، وابتداء الطّالب بالسّؤال. وفيه تقدّم الخطبة على التّعليم وتقريب البعيد في الطّاعة وتسهيل المشقّة فيها بحسن التّلطّف والتّدريج إليها، قيل: ويستنبط منه جواز تغيير مادّة البناء من الأوقاف بما هو أقوى منها وأنفع.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف الاعتكاف لغةً. لزوم الشّيء وحبس النّفس عليه. وشرعاً. المقام في المسجد من شخصٍ مخصوصٍ على صفةٍ مخصوصةٍ , وليس بواجبٍ إجماعاً إلاَّ على من نذره. وكذا من شرَعَ فيه فقطعه عامداً عند قومٍ. واختلف في اشتراط الصّوم له كما سيأتي (¬1) وانفرد سُويد بن غفَلَة باشتراط الطّهارة. ¬

_ (¬1) سيأتي في حديث عمر - رضي الله عنه - ثالث أحاديث الباب.

الحديث الأول

الحديث الأول 212 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأَواخر من رمضان , حتّى توفّاه الله عزّ وجل. ثمّ اعتكف أزواجه بعده. (¬1) وفي لفظٍ (¬2): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان. فإذا صلَّى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه. قوله: (حتّى توفّاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده) يؤخذ منه أنّه لَم ينسخ , وليس من الخصائص. وأمّا قول ابن نافع عن مالك: فكّرت في الاعتكاف وترك الصّحابة له مع شدّة اتّباعهم للأثر فوقع في نفسي أنّه كالوصال، وأراهم تركوه لشدّته , ولَم يبلغني عن أحد من السّلف أنّه اعتكف إلاَّ عن أبي بكر بن عبد الرّحمن. انتهى. وكأنّه أراد صفةً مخصوصةً، وإلاَّ فقد حكيناه عن غير واحدٍ من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1922) ومسلم (1171) من طريق عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها به. (¬2) أخرجه البخاري (1928 , 1929 , 1936 , 1940) ومسلم (1173) من طرق عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. واللفظ للبخاري. وفيه استئذان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الاعتكاف. ثم أمره بنزعها , كما سيرِدُ ذكره في الشرح. والتعليق عليه.

الصّحابة. (¬1) ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أنّ الاعتكاف جائزٌ. وأنكر ذلك عليهم ابن العربيّ , وقال: إنّه سنّةٌ مؤكّدةٌ، وكذا قال ابن بطّال: في مواظبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما يدلّ على تأكيده. وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحدٍ من العلماء خلافاً أنّه مسنونٌ. قال ابن بطّال: مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على الاعتكاف تدلّ على أنّه من السّنن المؤكّدة، وقد روى ابن المنذر عن ابن شهاب , أنّه كان يقول: عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف، والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يتركه منذ دخل المدينة حتّى قبضه الله. انتهى قوله: (ثم اعتكف أزواجه من بعده) أطلق الشّافعيّ كراهة الاعتكاف للنساء في المسجد الذي تُصلَّى فيه الجماعة. واحتجّ بحديث عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله، ¬

_ (¬1) روى البخاري (1921) ومسلم (1711) عن ابن عمر عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. قال نافع: وقد أراني عبدالله - رضي الله عنه - المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد. قال الشارح: (6/ 312): وزاد ابن ماجه من وجه آخر عن نافع: أن ابن عمر كان إذا اعتكف طرح له فراشه وراء أسطوانة التوبة. وسيأتي النقل عن حذيفة - رضي الله عنه - , وغيره.

فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنتُ لها، فضربت خباء، فلمَّا رأته زينب ابنة جحش ضربت خباء آخر، فلمَّا أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الأخبية، فقال: ما هذا؟ فأخبر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألبر ترون بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشراً من شوال. فإنّه دالٌّ على كراهة الاعتكاف للمرأة إلاَّ في مسجد بيتها لأنّها تتعرّض لكثرة من يراها. وقال ابن عبد البرّ: لولا أنّ ابن عيينة زاد في الحديث (¬1). أنّهنّ استأذنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الاعتكاف. لقطعت بأنّ اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة غير جائزٍ. انتهى. وشرط الحنفيّة لصحّة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها، وفي روايةٍ لهم , أنّ لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها. وبه قال أحمد. وفيه أنّ المسجد شرطٌ للاعتكاف , لأنّ النّساء شرع لهنّ الاحتجاب في البيوت , فلو لَم يكن المسجد شرطاً ما وقع ما ذكر من ¬

_ (¬1) أي: حديث عائشة المذكور في الشرح قبل قليل. أخرجه البخاري في " صحيحه " (2033) من طريق حماد بن زيد حدثنا يحيى عن عمرة عن عائشة , قالت: فذكره. أمَّا زيادة ابن عيينة. فأخرجها النسائي في " الكبرى " (3333) والحميدي في " المسند " (196) عنه عن يحيى بن سعيد بلفظ: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتكف في العشر الأول من شهر رمضان فاستأذَنَتْه عائشة فأذن لها، ثم استأذَنَتْه حفصة فأذن لها، وكانت زينب لم تكن استأذنته فسمعت بذلك فاستأذنَتْ. الحديث. وجاء الاستئذان صريحاً في صحيح البخاري أيضاً (2045) من طريق الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، قال: حدثتني عمرة عن عائشة , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنْ يعتكف العشر الأواخر من رمضان فاستأذنَتْه عائشة، فأذن لها، وسألتْ حفصةُ عائشةَ أنْ تستأذن لها، ففعلتْ، فلمَّا رأتْ ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناء، فبني لها. الحديث.

الإذن والمنع. ولاكتفي لهنّ بالاعتكاف في مساجد بيوتهنّ. ولقوله تعالى (ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد .. الآية) ووجه الدلالة من الآية أنه لو صحَّ في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به , لأنَّ الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع. فعلم من ذكر المساجد أنَّ المراد أنَّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ فيها. ونقل بن المنذر الإجماع على أنَّ المراد بالمباشرة في الآية الجماع. وروى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية: كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجلٌ لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء. فنزلت واتّفق العلماء على مشروطيّة المسجد للاعتكاف، إلاَّ محمّد بن عمر بن لبابة المالكيّ. فأجازه في كل مكانٍ. وأجاز الحنفيّة للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها. وهو المكان المعدّ للصّلاة فيه. وفيه قولٌ للشّافعيّ قديم. وفي وجهٍ لأصحابه وللمالكيّة: يجوز للرّجال والنّساء , لأنّ التّطوّع في البيوت أفضل وذهب أبو حنيفة وأحمد: إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصّلوات. وخصّه أبو يوسف بالواجب منه , وأمّا النّفل ففي كلّ مسجد. وقال الجمهور بعمومه من كلّ مسجد , إلاَّ لمن تلزمه الجمعة. فاستحبّ له الشّافعيّ في الجامع، وشرطه مالكٌ , لأنّ الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشّروع عند مالك.

وخصّه طائفةٌ من السّلف كالزّهريّ بالجامع مطلقاً. وأومأ إليه الشّافعيّ في القديم. وخصّه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثّلاثة، وعطاءٌ بمسجد مكّة والمدينة , وابن المسيّب بمسجد المدينة. قوله: (فإذا صلَّى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه) في رواية لهما " فيُصلي الصبح ثم يدخل معتكفه ". واستدل بهذا. وهو القول الأول: على أنّ مبدأ الاعتكاف من أوّل النّهار بعد صلاة الصّبح. وهو قول الأوزاعيّ والليث والثّوريّ. القول الثاني: قال الأئمّة الأربعة وطائفةٌ: يدخل قبيل غروب الشّمس. وأوّلوا الحديث: على أنّه دخل من أوّل الليل، ولكن إنّما تخلّى بنفسه في المكان الذي أعدّه لنفسه بعد صلاة الصّبح. وهذا الجواب يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدّخول فيها. وأجاب عن هذا الحديث (¬1): بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف , وإنّما همّ به , ثمّ عرض له المانع المذكور فتَرَكَه. فعلى هذا. فاللازم أحدُ الأمرين. الأول: إمّا أن يكون شرع في الاعتكاف فيدخل على جواز الخروج ¬

_ (¬1) أي: حديث عائشة الذي تقدّم ذكره في التعليق الماضي , وفي الشرح أيضاً

منه. الثاني: إمّا أن لا يكون شرع فيدلّ على أنّ أوّل وقته بعد صلاة الصّبح.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 213 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّها كانت ترجّل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهي حائضٌ , وهو معتكفٌ في المسجد. وهي في حجرتها , يناولها رأسه. (¬1) وفي روايةٍ: وكان لا يدخل البيت إلاَّ لحاجة الإنسان. (¬2) وفي روايةٍ: أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه. فما أسأل عنه إلاَّ وأنا مارّةٌ. (¬3) قوله: (كانت ترجل .. الحديث) تقدّم الكلام عليه (¬4) قوله: (إلاَّ لحاجة الإنسان) فسّرها الزّهريّ بالبول والغائط، وقد اتّفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشّرب، ولو خرج لهما فتوضّأ خارج المسجد لَم يبطل. ويُلتَحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه. ووقع عند أبي داود من طريق عبد الرّحمن بن إسحاق الزّهريّ عن عروة عن عائشة قالت: السّنّة على المعتكف أن لا يعود مريضاً , ولا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (291 , 292 , 1924 , 1941 , 5581) ومسلم (297) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) أخرجه البخاري (1925) ومسلم (297) من طريق الليث , ومسلم (297) من طريق مالك كلاهما عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة رضي الله عنها. (¬3) أخرجه مسلم (297) من طريق الليث عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة. وقد تقدّم أنَّ البخاري رواه من طريق الليث. لكن لم يذكر هذه اللفظة. (¬4) في باب الحيض برقم (47)

يشهد جنازةً , ولا يمسّ امرأةً ولا يباشرها , ولا يخرج لحاجةٍ إلاَّ لِمَا لا بدّ منه. قال أبو داود: غيرُ عبد الرّحمن لا يقول فيه: السّنة. وجزم الدّارقطنيّ: بأنّ القدر الذي من حديث عائشة قولها " لا يخرج إلاَّ لحاجةٍ " وما عداه مِمَّن دونها. وروينا عن عليٍّ والنّخعيّ والحسن البصريّ: إنْ شهد المعتكف جنازةً , أو عاد مريضاً , أو خرج للجمعة بطل اعتكافه. وبه قال الكوفيّون , وابن المنذر في الجمعة. وقال الثّوريّ والشّافعيّ وإسحاق: إن شرط شيئاً من ذلك في ابتداء اعتكافه لَم يبطل اعتكافه بفعله , وهو روايةٌ عن أحمد.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 214 - عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - , قال: قلت: يا رسولَ الله , إنّي كنت نذرت في الجاهليّة أن أعتكف ليلةً (وفي روايةٍ: يوماً) في المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك. (¬1). ولَم يذكر بعض الرّواة يوماً ولا ليلةً. قوله: (قلت: يارسول الله) في رواية لهما عن ابن عمر , أنّ عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - " لَم يذكر مكان السّؤال , وللبخاري ومسلم من وجهٍ آخر , أنّ ذلك كان بالجعرانة لَمّا رجعوا من حنينٍ. ويستفاد منه الرّدّ على من زعم أنّ اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصّيام في الليل , لأنّ غزوة حنينٍ متأخّرةٌ عن ذلك , وكان نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة بعد رجوعه من الطائف بالاتفاق. قوله: (كنت نذرت في الجاهليّة) زاد حفص بن غياثٍ عن عبيد الله عند مسلمٍ (¬2) " فلمّا أسلمتُ سألتُ ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1927 , 1927 , 1938 , 6319) ومسلم (1656) من طرق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر. ورواه بعضهم عن ابن عمر عن عمر. فجعله من مسند عمر. وأخرجه البخاري (2975 , 4065) ومسلم (1656) من طرق عن أيوب عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. ورواه مسلم أيضاً عن ابن إسحاق عن نافع به. (¬2) لَم يذكر مسلم (1656) رواية حفص , بل ساق سندَها , وأحالها على رواية الباب. وليست فيه هذه الزيادة. وقد أخرجه ابن ماجه في " السنن " (2129) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث به بلفظ " فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما أسلمتُ ... " وأخرجه البزار في " مسنده " (140) من طريق سفيان عن عبيد الله به بلفظ " فلمّا أسلمتُ سألت .. " بلفظ الشارح.

وفيه ردٌّ على من زعم أنّ المراد بالجاهليّة ما قبل فتح مكّة. وأنّه إنّما نذر في الإسلام. وأصرح من ذلك ما أخرجه الدّارقطنيّ من طريق سعيد بن بشيرٍ عن عبيد الله بلفظ " نذر عمر أن يعتكف في الشّرك ". والمراد بالجاهليّة جاهليّة المذكور وهو حاله قبل إسلامه، وأصل الجاهليّة ما قبل البعثة. قوله: (أن أعتكف ليلةً) استدل به على جواز الاعتكاف بغير صومٍ , لأنّ الليل ليس ظرفاً للصّوم. فلو كان شرطاً لأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - به. وتعقّب: بأنّ في رواية شعبة عن عبيد الله عند مسلمٍ " يوماً " بدل ليلة , فجمع بن حبّان وغيره بين الرّوايتين: بأنّه نذر اعتكاف يومٍ وليلةٍ فمن أطلق ليلةً أراد بيومها , ومن أطلق يوماً أراد بليلته. وقد ورد الأمر بالصّوم في رواية عمرو بن دينارٍ عن ابن عمر صريحاً. لكنّ إسنادها ضعيفٌ , وقد زاد فيها " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: اعتكف وصم ". أخرجه أبو داود والنّسائيّ من طريق عبد الله بن بديلٍ. وهو ضعيف. وذكر ابن عديٍّ والدّارقطنيّ: أنّه تفرّد بذلك عن عمرو بن دينار. ورواية من روى يوماً شاذّةٌ.

وقد وقع في رواية سليمان بن بلالٍ عن عبيد الله عند البخاري " فاعتكف ليلةً " فدلَّ على أنّه لَم يزد على نذره شيئاً , وأنّ الاعتكاف لا صوم فيه , وأنّه لا يشترط له حدٌّ معيّنٌ. قوله: (في المسجد الحرام) زاد عمرو بن دينارٍ في روايته " عند الكعبة. وقد ترجم البخاريّ لهذا الحديث " من لَم ير عليه إذا اعتكف صوماً " وترجمه أيضاً " الاعتكاف ليلاً " وهذه مستلزمةٌ للثّانية , لأنّ الاعتكاف إذا ساغ ليلاً بغير نهارٍ استلزم صحّته بغير صيامٍ من غير عكسٍ. وهو القول الأول. القول الثاني: قال باشتراط الصّيام ابن عمر وابن عبّاسٍ. أخرجه عبد الرّزّاق عنهما بإسنادٍ صحيحٍ , وعن عائشة نحوه , وبه قال مالكٌ والأوزاعيّ والحنفيّة , واختلف عن أحمد وإسحاق. واحتجّ عياضٌ: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يعتكف إلاَّ بصومٍ. وفيه نظرٌ , لأنّه اعتكف في شوّالٍ كما تقدّم. واحتجّ بعض المالكيّة: بأنّ الله تعالى ذكر الاعتكاف إثر الصّوم فقال (ثمّ أتمّوا الصّيام إلى الليل ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون). وتعقّب: بأنّه ليس فيها ما يدلّ على تلازمها. وإلاَّ لكان لا صوم إلاَّ باعتكافٍ. ولا قائل به. وفي الحديث ردٌّ على مَن قال: أقلّ الاعتكاف عشرة أيّامٍ أو أكثر من يومٍ.

واتّفقوا على أنّه لا حدّ لأكثره. واختلفوا في أقله. فمَن شرط فيه الصّيام , قال: أقلّه يومٌ. ومنهم مَن قال: يصحّ مع شرط الصّيام في دون اليوم. حكاه ابن قدامة، وعن مالك: يشترط عشرة أيّام، وعنه: يومٌ أو يومان. ومن لَم يشترط الصّوم , قالوا: أقلّه ما يطلق عليه اسم لبثٍ ولا يشترط القعود، وقيل: يكفي المرور مع النّيّة كوقوف عرفة. وروى عبد الرّزّاق عن يعلى أُميَّة الصّحابيّ: إنّي لأمكث في المسجد السّاعة وما أمكث إلاَّ لأعتكف. وتظهر فائدة الخلاف فيمن نذر اعتكافاً مبهماً. وفيه أنّ من نذر وهو مشرك , ثم أسلم. هل يجب عليه الوفاء , أو لا؟. وقد ترجم الطّحاويّ لهذه المسألة (من نذر وهو مشركٌ ثمّ أسلم) فأوضح المراد، وذكر فيه حديث ابن عمر في نذر عمر في الجاهليّة أنّه يعتكف , فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك. قال ابن بطّال: قاس البخاريّ اليمين (¬1) على النّذر. وترك الكلام على الاعتكاف , فمن نذر أو حلف قبل أن يسلم على شيء يجب الوفاء به لو كان مسلماً. فإنّه إذا أسلم يجب عليه على ظاهر قصّة عمر، ¬

_ (¬1) بوّب البخاري على هذا الحديث " إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنساناً في الجاهلية ثم أسلم "

قال: وبه يقول الشّافعيّ وأبو ثور. كذا قال. وكذا نقله ابن حزم عن الإمام الشّافعيّ، والمشهور عند الشّافعيّة أنّه وجه لبعضهم , وأنّ الشّافعيّ وجلّ أصحابه على أنّه لا يجب بل يستحبّ، وكذا قال المالكيّة والحنفيّة. وعن أحمد في رواية: يجب، وبه جزم الطّبريّ والمغيرة بن عبد الرّحمن من المالكيّة والبخاريّ وداود وأتباعه. قلت: إن وجد عن البخاريّ التّصريح بالوجوب قُبِل، وإلا فمجرّد ترجمته لا يدلّ على أنّه يقول بوجوبه؛ لأنّه محتمل لأنْ يقول بالنّدب فيكون تقدير جواب الاستفهام يندب له ذلك. قال القابسيّ: لَم يأمر عمر على جهة الإيجاب بل على جهة المشورة. كذا قال، وقيل: أراد أن يعلمهم أنّ الوفاء بالنّذر من آكد الأمور فغلظ أمره بأن أمر عمر بالوفاء. واحتجّ الطّحاويّ: بأنّ الذي يجب الوفاء به ما يتقرّب به إلى الله. والكافر لا يصحّ منه التّقرّب بالعبادة، وأجاب عن قصّة عمر: باحتمال أنّه - صلى الله عليه وسلم - فهم من عمر أنّه سمح بأن يفعل ما كان نذره فأمره به , لأنّ فعله حينئذٍ طاعة لله تعالى، فكان ذلك خلاف ما أوجبه على نفسه؛ لأنّ الإسلام يهدم أمر الجاهليّة. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث يخالف هذا، فإن دلَّ دليل أقوى منه على أنّه لا يصحّ من الكافر قوي هذا التّأويل، وإلاَّ فلا. قوله: (فأوف بنذرك) لَم يذكر في هذه الرّواية متى اعتكف، وقد

تقدّم بأنّ سؤاله كان بعد قسم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنينٍ بالطّائف. وفي رواية سفيان بن عيينة عن أيّوب عن نافع عند الإسماعيلي من الزّيادة " قال عمر: فلم أعتكف حتّى كان بعد حنينٍ، وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاني جارية من السّبي، فبينا أنا معتكف إذ سمعت تكبيراً ". فذكر الحديث في مَنِّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على هوازن بإطلاق سبيهم (¬1). وفي الحديث لزوم النّذر للقربة من كلّ أحد حتّى قبل الإسلام. وقد تقدّمت الإشارة إليه. أجاب ابن العربيّ: بأنّ عمر لَمّا نذر في الجاهليّة ثمّ أسلم. أراد أن يكفّر ذلك بمثله في الإسلام , فلمّا أراده ونواه سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه أنّه لزمه، قال: وكلّ عبادة ينفرد بها العبد عن غيره تنعقد بمجرّد النّيّة العازمة الدّائمة كالنّذر في العبادة والطّلاق في الأحكام، وإن لَم يتلفّظ بشيءٍ من ذلك. كذا قال. ولَم يوافق على ذلك , بل نقل بعض المالكيّة الاتّفاق على أنّ العبادة لا تلزم إلاَّ بالنّيّة مع القول أو الشّروع. وعلى التّنزّل فظاهر كلام عمر مجرّد الإخبار بما وقع مع الاستخبار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الصحيح " (3144) مطوّلاً. وفيه قصّة السبي. من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، إنه كان عليّ اعتكاف يوم في الجاهلية، فأمره أن يفي به، قال: وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبي حنين، فجعلوا يسعون في السِّكك، فقال عمر: يا عبد الله، انظر ما هذا؟ فقال: منَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السبي، قال: اذهب فأرسل الجاريتين.

عن حكمه هل لزم أو لا؟ وليس فيه ما يدلّ على ما ادّعاه من تجديد نيّة منه في الإسلام. وقال الباجيّ: قصّة عمر هي كمن نذر أن يتصدّق بكذا إن قدم فلان بعد شهر فمات فلان قبل قدومه , فإنّه لا يلزم النّاذر قضاؤه. فإن فعله فحسنٌ، فلمّا نذر عمر قبل أن يسلم وسأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمره بوفائه استحباباً. وإن كان لا يلزمه , لأنّه التزمه في حالة لا ينعقد فيها. ونقل شيخنا في شرح التّرمذيّ: أنّه استُدل به على أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة. وإن كان لا يصحّ منهم إلاَّ بعد أن يسلموا لأمر عمر بوفاء ما التزمه في الشّرك، ونقل أنّه لا يصحّ الاستدلال به , لأنّ الواجب بأصل الشّرع كالصّلاة لا يجب عليهم قضاؤها. فكيف يكلفون بقضاء ما ليس واجباً بأصل الشّرع؟. قال: ويمكن أن يجاب بأنّ الواجب بأصل الشّرع مؤقّت بوقتٍ. وقد خرج قبل أن يسلم الكافر ففات وقت أدائه فلم يؤمر بقضائه؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، فأمّا إذا لَم يؤقّت نذره فلم يتعيّن له وقت حتّى أسلم فإيقاعه له بعد الإسلام يكون أداء لاتّساع ذلك باتّساع العمر. قلت: وهذا البحث يقوّي ما ذهب إليه أبو ثور ومَن قال بقوله، وإن ثبت النّقل عن الشّافعيّ بذلك فلعله كان يقوله أوّلاً فأخذه عنه أبو ثور. ويمكن أن يؤخذ من الفرق المذكور وجوب الحجّ على من أسلم

لاتّساع وقته بخلاف ما فات وقته، والله أعلم. تنْبيه: المراد بقول عمر في الجاهليّة قبل إسلامه , لأنّ جاهليّة كل أحدٍ بحسبه، ووهم مَن قال: الجاهليّة في كلامه زمن فترة النّبوّة. والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -. فإنّ هذا يتوقّف على نقل، وقد تقدّم أنّه نذر قبل أن يسلم، وبين البعثة وإسلامه مدّةٌ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 215 - عن صفيّة بنت حييٍّ رضي الله عنها قالت: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً , فأتيته أزوره ليلاً. فحدّثته , ثمّ قمتُ لأَنْقلب , فقام معي ليقلبني - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيدٍ - فمرّ رجلان من الأنصار , فلمّا رأيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أسرعا , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: على رِسْلكما. إنّها صفيّة بنت حييٍّ , فقالا: سبحان الله يا رسولَ الله , فقال: إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم. وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شرّاً , أو قال شيئاً. وفي روايةٍ: أنّها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان. فتحدّثت عنده ساعةً , ثمّ قامتْ تنقلب. فقام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها , حتّى إذا بلغت باب المسجد عند باب أمّ سلمة. ثمّ ذكره بمعناه. (¬1) قوله: (صفيّة بنت حيي) قيل: إنَّ صفية كان اسمها قبل أنْ تُسبى زينب فلمَّا صارت من الصَّفِيِّ (¬2) سميت صفية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1930 , 1933، 1934، 2934، 3107، 5865، 6750) ومسلم (2175) من طرق عن الزهري عن علي بن الحسين , أنَّ صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته. (¬2) قال الشارح (7/ 480): روى أبو داود وأحمد وصحَّحه ابن حبان والحاكم عن عائشة قالت: كانت صفية من الصفي ". والصَّفِيّ بفتح المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية، فسره محمد بن سيرين فيما أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عنه قال: كان يُضرب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بسهم مع المسلمين، والصَّفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء " ومن طريق الشعبي قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - سهمٌ يُدعى الصفي إنْ شاء عبداً , وإن شاء أمةً , وإن شاء فرساً يختاره من الخمس. انتهى بتجوز.

وحُييّ - بمهملةٍ وتحتانيّةٍ مصغّراً - ابن أخطب بن سعية - بفتح المهملة وسكون العين المهملة بعدها تحتانية ساكنة - بن عامر بن عبيد بن كعب من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام. كان أبوها رئيس خيبر , وكانت تكنّى أمّ يحيى. وأمُّها برة بنت شموال من بني قريظة , وكانت تحت سلام بن مشكم القرظي ثم فارقها فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضيري فقتل عنها يوم خيبر. ذكر ذلك ابن سعد , وأسند بعضه من وجهٍ مرسلٍ. وفي تصريح عليّ بن الحسين بأنّها حدّثته ردٌّ على من زعم أنّها ماتت سنة ستٍّ وثلاثين أو قبل ذلك، لأنّ عليّاً إنّما ولد بعد ذلك سنة أربعين أو نحوها. والصّحيح أنّها ماتت سنة خمسين , وقيل: بعدها، وكان عليّ بن الحسين حين سمع منها صغيراً. قوله: (فأتيته أزوره ليلاً) وللبخاري من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزّهريّ: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وعنده أزواجه فرُحْنَ، وقال لصفيّة: لا تعجلي حتّى أنصرف معك. والذي يظهر أنّ اختصاص صفيّة بذلك. لكون مجيئها تأخّر عن رفقتها فأمرها بتأخير التّوجّه ليحصل لها التّساوي في مدّة جلوسهنّ

عنده. أو أنّ بيوت رفقتها كانت أقرب من منزلها فخشي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليها. أو كان مشغولاً فأمرها بالتّأخّر ليفرغ من شغله ويشيّعها. وروى عبد الرّزّاق من طريق مروان بن سعيد بن المعلى , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان معتكفاً في المسجد فاجتمع إليه نساؤه ثمّ تفرّقن، فقال لصفيّة: أقلبك إلى بيتك، فذهب معها حتّى أدخلها بيتها. وفي رواية هشام المذكورة " وكان بيتها في دار أسامة " قوله: (فحدثته , ثم قمت) في رواية لهما " فتحدّثت عنده ساعةً " زاد ابن أبي عتيقٍ عن الزّهريّ كما عند البخاري " ساعةً من العشاء ". قوله: (ثم قمت لأنقلب) أي: تردّ إلى بيتها. قوله: (فقام معي ليقلبني) بفتح أوّله وسكون القاف. أي: يردّها إلى منزلها. قوله: (وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد) أي: الدّار التي صارت بعد ذلك لأسامة بن زيدٍ , لأنّ أسامة إذ ذاك لَم يكن له دارٌ مستقلةٌ بحيث تسكن فيها صفيّة، وكانت بيوت أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حوالي أبواب المسجد. قوله: (مرّ رجلان من الأنصار) زادا في رواية لهما " فسلّما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " , وفي رواية معمر " فنظرا إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثمّ أجازا ". أي: مضيا. يقال: جاز وأجاز بمعنًى , ويقال: جاز الموضع. إذا سار فيه , وأجازه. إذا قطعه وخلفه.

وفي رواية ابن أبي عتيق " ثمّ نفذا " وهو بالفاء والمعجمة. أي: خلفاه، وفي رواية عبد الرّحمن بن إسحاق عن الزّهريّ عند ابن حبّان " فلمّا رأياه استحييا فرجعا " فأفاد سبب رجوعهما وكأنّهما لو استمرّا ذاهبين إلى مقصدهما ما ردّهما , بل لَمّا رأى أنّهما تركا مقصدهما ورجعا ردّهما. ولَم أقف على تسمية الرجلين في شيء من كتب الحديث، إلاَّ أنّ ابن العطّار في " شرح العمدة " زعم أنّهما أسيد بن حضير وعبّاد بن بشر , ولَم يذكر لذلك مستنداً، ووقع في رواية سفيان عن الزهري عند البخاري " فأبصره رجلٌ من الأنصار " بالإفراد. وقال ابن التّين: إنّه وهمٌ , ثمّ قال: يحتمل تعدّد القصّة. قلت: والأصل عدمه , بل هو محمولٌ على أنّ أحدهما كان تبعاً للآخر , أو خصّ أحدهما بخطاب المشافهة دون الآخر. ويحتمل: أن يكون الزّهريّ كان يشكّ فيه. فيقول تارة رجل , وتارة رجلان، فقد رواه سعيد بن منصور عن هشيمٍ عن الزّهريّ " لقيه رجلٌ أو رجلان " بالشّكّ، وليس لقوله رجلٌ مفهومٌ. نعم. رواه مسلمٌ من وجه آخر من حديث أنس بالإفراد. (¬1) ووجهه ما قدّمته من أنّ أحدهما كان تبعاً للآخر. فحيث أفرد ذكر ¬

_ (¬1) وتمامه في صحيح مسلم (2174) عن أنس , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مع إحدى نسائه. فمرَّ به رجلٌ فدعاه فجاء , فقال: يا فلان هذه زوجتي فلانة. فقال: يا رسول الله مَن كنت أظن به فلم أكن أظن بك , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم.

الأصل وحيث ثنّى ذكر الصّورة. قوله: (على رسلكما) بكسر الرّاء ويجوز فتحها. أي: على هينتكما في المشي فليس هنا شيءٌ تكرهانه، وفيه شيءٌ محذوفٌ تقديره امشيا على هينتكما، وفي رواية معمر " فقال لهما النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: تعاليا " وهو بفتح اللام. قال الدّاوديّ: أي: قفا، وأنكره ابن التّين. وقد أخرجه عن معناه بغير دليل، وفي رواية سفيان " فلمّا أبصره دعاه , فقال: تعال. قوله: (إنّها صفيّة بنت حييّ) في رواية سفيان " هذه صفيّة ". قوله: (فقالا: سبحان الله يا رسولَ الله) زاد البخاري عن أبي اليمان عن شعيب " وكبُر عليهما " أي: عظم وشق , وروى النّسائيّ من طريق بشر بن شعيب عن أبيه ذلك، ومثله في رواية ابن مسافر عند البخاري، وكذا للإسماعيليّ من وجه آخر عن أبي اليمان - شيخ البخاريّ - وفيه، وفي رواية ابن أبي عتيق عند البخاري أيضاً " وكبُر عليهما ما قال ". وله من طريق عبد الأعلى عن معمر " فكبُر ذلك عليهما " وفي رواية هشيمٍ " فقال: يا رسولَ الله هل نظنّ بك إلاَّ خيراً؟ ". قوله: (يجري من الإنسان مجرى الدّم) كذا في رواية معمر. وكذا لابن ماجه من طريق عثمان بن عمر التّيميّ عن الزّهريّ. وفي رواية ابن مسافرٍ وابن أبي عتيق " إنّ الشّيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم ". زاد عبد الأعلى فقال: إنّي خفت أن تظنّا ظنّاً، إنّ الشّيطان يجري،

إلخ ". وفي رواية عبد الرّحمن بن إسحاق " ما أقول لكما هذا أن تكونا تظنّان شرّاً، ولكن قد علمت أنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم. وقوله " يبلغ " أو " يجري ". قيل: هو على ظاهره. وأنّ الله تعالى أقدره على ذلك وجعل له قوةً على التوصل إلى باطن الإنسان. وقيل: هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغوائه، وكأنّه لا يفارق كالدّم فاشتركا في شدّة الاتّصال وعدم المفارقة. قوله: (ابن آدم) المراد جنس أولاد آدم. فيدخل فيه الرّجال والنّساء كقوله: (يا بني آدم) وقوله (يا بني إسرائيل) بلفظ المذكّر إلاَّ أنّ العرف عمّمه فأدخل فيه النّساء. قوله: (وإنّي خفت أن يقذف في قلوبكما شراً) بمعجمةٍ وراءٍ. وفي رواية شعيب " شيئاً " وكذا في رواية ابن مسافر، وفي رواية معمر " سوءاً , أو قال شيئاً " وفي رواية هشيمٍ " إنّي خفت أن يدخل عليكما شيئاً " , وفي رواية هشام عن معمر " في أنفسكما " وهو مثل قوله في الرّواية الأخرى " في قلوبكما " وإضافة لفظ الجمع إلى المثنّى كثيرٌ مسموعٌ كقوله تعالى (فقد صغت قلوبكما). والمحصّل من هذه الرّوايات. أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم ينسبهما إلى أنّهما يظنّان به سوءاً لِمَا تقرّر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشّيطان ذلك , لأنّهما غير معصومين فقد يفضي بهما ذلك

إلى الهلاك فبادر إلى إعلامهما حسماً للمادّة وتعليماً لمن بعدهما إذا وقع له مثل ذلك. كما قاله الشّافعيّ رحمه الله تعالى. فقد روى الحاكم , أنّ الشّافعيّ كان في مجلس ابن عيينة. فسأله عن هذا الحديث فقال الشّافعيّ: إنّما قال لهما ذلك , لأنّه خاف عليهما الكفر إن ظنّا به التّهمة. فبادر إلى إعلامهما نصيحةً لهما قبل أن يقذف الشّيطان في نفوسهما شيئاً يهلكان به. قلت: وهو بيّنٌ من الطّرق التي أسلفتها. وغفل البزّار فطعن في حديث صفيّة هذا واستبعد وقوعه. ولَم يأت بطائلٍ، والله الموفّق وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزّوجة، وزيارة المرأة للمعتكف، وبيان شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمّته وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم. وفيه التّحرّز من التّعرّض لسوء الظّنّ والاحتفاظ من كيد الشّيطان والاعتذار. قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكّد في حقّ العلماء ومن يقتدى به فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظّنّ بهم وإن كان لهم فيه مخلص , لأنّ ذلك سببٌ إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، ومن ثَمَّ قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبيّن للمحكوم عليه وجه الحكم إذا

كان خافياً نفياً للتّهمة. ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السّوء ويعتذر بأنّه يجرّب بذلك على نفسه، وقد عظم البلاء بهذا الصّنف. والله أعلم وفيه إضافة بيوت أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إليهنّ، وفيه جواز خروج المرأة ليلاً، وفيه الدفع بالقول فيلحق به الفعل ولس المعتكف بأشد في ذلك من المُصلِّي. وفيه قول " سبحان الله " عند التّعجّب، قد وقعت في الحديث لتعظيم الأمر وتهويله وللحياء من ذكره كما في حديث أمّ سليمٍ. وقد وردت عدّة أحاديث صحيحة في قول " سبحان الله " عند التّعجّب كحديث أبي هريرة " لقيني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب " وفيه فقال " سبحان الله، إنّ المؤمن لا ينجس " متّفق عليه. وحديث عائشة " أنّ امرأة سألت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض " وفيه " قال تطهّري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله .. الحديث " متّفق عليه. وعند مسلم من حديث عمران بن حصين في قصّة المرأة التي نذرت أن تنحر ناقة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: سبحان الله بئسما جزيتها " وكلاهما من قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصّحيحين أيضاً من قول جماعة من الصّحابة كحديث عبد الله بن سلامٍ لَمّا قيل له: إنّك من أهل الجنّة. قال: سبحان الله ما ينبغي لأحدٍ أن يقول ما لا يعلم. واستدل به لأبي يوسف ومحمّد في جواز تمادي المعتكف إذا خرج

من مكان اعتكافه لحاجته وأقام زمناً يسيراً زائداً عن الحاجة. ما لَم يستغرق أكثر اليوم. ولا دلالة فيه , لأنّه لَم يثبت أنّ منزل صفيّة كان بينه وبين المسجد فاصلٌ زائدٌ، وقد حدّ بعضهم اليسير بنصف يوم , وليس في الخبر ما يدلّ عليه. واستدل بحديث صفيّة لمن منع الحكم بالعلم , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كره أن يقع في قلب الأنصاريّين من وسوسة الشّيطان شيء، فمراعاة نفي التّهمة عنه مع عصمته تقتضي مراعاة نفي التّهمة عمّن هو دونه (¬1) قوله: (حتّى إذا بلغت باب المسجد عند باب أمّ سلمة) في رواية ابن أبي عتيق " الذي عند مسكن أمّ سلمة " والمراد بهذا بيان المكان الذي لقيه الرّجلان فيه لإتيان مكان بيت صفيّة. فائدة: قال الطّبريّ: قيل: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ملَّك كلاً من أزواجه البيت الذي هي فيه , فسكن بعده فيهنّ بذلك التّمليك. وقيل: إنّما لَم ينازعهنّ في مساكنهنّ , لأنّ ذلك من جملة مئونتهنّ التي كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - استثناها لهنّ ممّا كان بيده أيّام حياته حيث قال: ما تركت بعد نفقة نسائي. قال: وهذا أرجح. ويؤيّده أنّ ورثتهنّ لَم يرثن عنهنّ منازلهنّ، ولو كانت البيوت ملكاً لهنّ لانتقلت إلى ورثتهنّ، وفي ترك ورثتهنّ حقوقهم منها دلالة على ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله الكلام على مسألة حكم القاضي بعلمه , في " باب القضاء " في شرح حديث هند بنت عتبة رضي الله عنها رقم (374).

ذلك، ولهذا زيدت بيوتهنّ في المسجد النّبويّ بعد موتهنّ لعموم نفعه للمسلمين كما فعل فيما كان يصرف لهنّ من النّفقات. والله أعلم. وادّعى المُهلَّب: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان حبس عليهنّ بيوتهنّ، ثمّ استدل به على أنّ من حبس داراً جاز له أن يسكن منها في موضعٍ. وتعقّبه ابن المنيّر: بمنع أصل الدّعوى , ثمّ على التّنزّل لا يوافق ذلك مذهبه إلاَّ إن صرّح بالاستثناء، ومن أين له ذلك؟

كتاب الحج

كتاب الحجّ أصل الحجّ في اللّغة القصد، وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظّم. وفي الشّرع القصد إلى البيت الحرام بأعمالٍ مخصوصة. وهو بفتح المهملة وبكسرها لغتان، نقل الطّبريّ , أنّ الكسر لغة أهل نجد والفتح لغيرهم، ونقل عن حسين الجعفيّ , أنّ الفتح الاسم والكسر المصدر، وعن غيره عكسه. ووجوب الحجّ معلوم من الدّين بالضّرورة. وأجمعوا على أنّه لا يتكرّر إلاَّ لعارضٍ كالنّذر. واختلف هل هو على الفور أو التّراخي؟ وهو مشهور. وفي وقت ابتداء فرضه. فقيل: قبل الهجرة وهو شاذٌّ، وقيل: بعدها. ثمّ اختلف في سَنتِه. والجمهور. على أنّها سنة ستٍّ , لأنّها نزل فيها قوله تعالى (وأتمّوا الحجّ والعمرة لله) وهذا ينبني على أنّ المراد بالإتمام ابتداء الفرض. ويؤيّده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النّخعيّ بلفظ " وأقيموا " أخرجه الطّبريّ بأسانيد صحيحة عنهم. وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشّروع، وهذا يقتضي تقدُّم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصّة ضمام (¬1) ذِكر الأمر بالحجّ، وكان ¬

_ (¬1) قصته أخرجها البخاري في " صحيحه " (61) من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك، يقول: بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = دخل رجلٌ على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك. فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك؟ فقال: سل عما بدا لك , فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي .. فسأله عن الصلاة والصوم والزكاة. قال الشارح في " الفتح " (1/ 201): (تنبيه): لم يذكر الحج في رواية شريك هذه، وقد ذكره مسلم وغيره فقال " وإنَّ علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: صدق " وأخرجه مسلم أيضاً , وهو في حديث أبي هريرة وابن عباس أيضاً. وأغرب ابن التين فقال: إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض. وكأنَّ الحامل له على ذلك ما جزم به الواقدي ومحمد بن حبيب , أنَّ قدوم ضمام كان سنة خمس فيكون قبل فرض الحج، لكنه غلط من أوجه. أحدها: أن في رواية مسلم , أنَّ قدومه كان بعد نزول النهي في القرآن عن سؤال الرسول، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جداً. ثانيها: أنَّ إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد فتح مكة. ثالثها: أنَّ في القصة أنَّ قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة. رابعها: في حديث ابن عباس , أنَّ قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد - وهو ابن بكر بن هوازن - في الإسلام إلاَّ بعد وقعة حنين. وكانت في شوال سنة ثمان. فالصواب أنَّ قدوم ضمام كان في سنة تسع. وبه جزم ابن إسحاق وأبو عبيدة وغيرهما. وغفل البدر الزركشي فقال: إنما لم يذكر الحج لأَنَّه كان معلوماً عندهم في شريعة إبراهيم انتهى. وكأنه لم يراجع صحيح مسلم فضلاً عن غيره. انتهى كلام الشارح. قلت: لعلَّ الزركشي يرى المغايرة بين روايتي البخاري ومسلم , وأنهما قصتان. لتغاير السياق واختلاف السند. فالحديث في صحيح مسلم (12) من رواية ثابت عن أنس بن مالك، قال: نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجلٌ من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أنَّ علينا خمس صلوات. فذكر الأركان , ثم قال: ثم ولى، قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لئن صدق ليدخلنَّ الجنة. والله تعالى أعلم.

قدومه على ما ذكر الواقديّ سنة خمس، وهذا يدلّ - إن ثبت - على تقدّمه على سنة خمس أو وقوعه فيها. وأمّا فضله فمشهور , ولا سيّما في الوعيد على تركه في الآية. (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجُّ الْبَيْت مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) تقسيم: النّاس قسمان، من يجب عليه الحجّ , ومن لا يجب، الثّاني العبد وغير المكلف وغير المستطيع. ومن لا يجب عليه. إمّا أن يجزئه المأتيّ به أو لا، الثّاني. العبد وغير المكلف. والمستطيع إمّا أن تصحّ مباشرته منه أو لا، الثّاني غير المميّز. ومن لا تصحّ مباشرته. إمّا أن يباشر عنه غيره أو لا، الثّاني الكافر. فتبيّن أنّه لا يشترط لصحّة الحجّ إلاَّ الإسلام.

باب المواقيت

باب المواقيت الحديث الأول 216 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة , ولأهل الشّام الجحفة , ولأهل نجدٍ قرن المنازل , ولأهل اليمن يلملم , هنّ لهم ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ , ممّن أراد الحجّ أو العمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ , حتّى أهل مكّة من مكّة. (¬1) قوله: (وقّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: حدّد، وأصل التّوقيت أن يجعل للشّيء وقت يختصّ به , ثمّ اتّسع فيه فأطلق على المكان أيضاً. قال ابن الأثير: التّوقيت والتّأقيت أن يُجعل للشّيء وقت يختصّ به وهو بيان مقدار المدّة , يقال: وقّت الشّيء بالتّشديد يوقّته ووقَت بالتّخفيف يقته إذا بيّن مدّته، ثمّ اتّسع فيه فقيل للموضع ميقات. وقال ابن دقيق العيد: قيل: إنّ التّوقيت في اللّغة التّحديد والتّعيين، فعلى هذا فالتّحديد من لوازم الوقت. وقوله هنا " وقّت " يحتمل: أن يريد به التّحديد. أي: حدّ هذه المواضع للإحرام، ويحتمل: أن يريد به تعليق الإحرام بوقت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1452 , 1457 , 1748) ومسلم (1181) من طريق وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (1454 , 1456) ومسلم (1181) من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس به.

الوصول إلى هذه الأماكن بالشّرط المعتبر. وقال عياض: وقّت. أي: حدّد، وقد يكون بمعنى أوجب. ومنه قوله تعالى (إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً). انتهى. ويؤيّده الرّواية الآتية بلفظ " فرض ". قوله: (لأهل المدينة) أي: مدينته عليه الصّلاة والسّلام. قوله: (ذا الحليفة) بالمهملة والفاء مصغّراً. مكان معروف بينه وبين مكّة مائتا ميل غير ميلين. قاله ابن حزم، وقال غيره: بينهما عشر مراحل. وقال النّوويّ: بينها وبين المدينة ستّة أميال، ووهم مَن قال بينهما ميل واحد , وهو ابن الصّبّاغ. وبها مسجد يعرف بمسجد الشّجرة خراب، وبها بئر يقال لَها بئر عليّ (¬1). قوله: (الجحفة) بضمّ الجيم وسكون المهملة، وهي قرية خربة بينها وبين مكّة خمس مراحل أو ستّة. وفي قول النّوويّ في " شرح المهذّب " ثلاث مراحل نظرٌ. ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية في الفتاوى: وفيها بئر تُسمّيها جهال العامة " بئر علي " لظنهم أنَّ علياً قاتل الجن بها وهو كذب. فإن الجنَّ لَم يقاتِلهم أحدٌ من الصحابة , وعليٌ أرفع قدراً من أن يثبت الجنُّ لقتاله , ولا فضيلة لهذا البئر ولا مذمة , ولا يُستحب أن يرمي بها حجراً ولا غيره. وقال في موضع آخر: والحديث المروي في قتاله للجن موضوع مكذوب باتفاق أهل المعرفة. انتهى

وسيأتي في حديث ابن عمر أنّها مهيعة (¬1) بوزن علقمة , وقيل: بوزن لطيفة، وسمّيت الجحفة , لأنّ السّيل أجحف بها. قال ابن الكلبيّ: كان العماليق يسكنون يثرب، فوقع بينهم وبين بني عبيل - بفتح المهملة وكسر الموحّدة وهم إخوة عاد - حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة. فجاء سيل فاجتحفهم. أي: استأصلهم فسمّيت الجحفة. ووقع في حديث عائشة عند النّسائيّ " ولأهل الشّام ومصر الجحفة " والمكان الذي يحرم منه المصريّون الآن رابغ. بوزن فاعل براءٍ وموحّدة وغين معجمة قريب من الجحفة، واختصّت الجحفة بالحمّى فلا ينزلها أحدٌ إلاَّ حُمّ. قوله: (ولأهل نجد قرن المنازل) أمّا نجد فهو كلّ مكان مرتفع وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها الشّام والعراق. والمنازل بلفظ جمع المنزل، والمركب الإضافيّ هو اسم المكان. ويقال له: قرن أيضاً بلا إضافة، وهو بفتح القاف وسكون الرّاء بعدها نون. وضبطه صاحب " الصّحاح " بفتح الرّاء. وغلّطوه، وبالغ النّوويّ. فحكى الاتّفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى عياض تعليق القابسيّ. أنّ مَن قاله بالإسكان أراد الجبل , ومَن قاله بالفتح ¬

_ (¬1) انظر الحديث الآتي. وهذه الرواية ليست في العمدة , وإنما في رواية البخاري كما سيأتي.

أراد الطّريق، والجبل المذكور بينه وبين مكّة من جهة المشرق مرحلتان. وحكى الرّويانيّ عن بعض قدماء الشّافعيّة , أنّ المكان الذي يقال له قرن موضعان: أحدهما: في هبوط , وهو الذي يقال له قرن المنازل. والآخر: في صعود , وهو الذي يقال له قرن الثّعالب. والمعروف الأوّل. وفي " أخبار مكّة " للفاكهيّ , أنّ قرن الثّعالب جبل مشرف على أسفل منًى بينه وبين مسجد منًى ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له: قرن الثّعالب , لكثرة ما كان يأوي إليه من الثّعالب. فظهر أنّ قرن الثّعالب ليس من المواقيت. وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الطّائف يدعوهم إلى الإسلام وردّهم عليه قال " فلم أستفق إلاَّ وأنا بقرن الثّعالب " الحديث ذكره ابن إسحاق في " السّيرة النّبويّة ". ووقع في مرسل عطاء عند الشّافعيّ " ولأهل نجد قرن، ولمن سلك نجداً من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل ". ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عبّاس هذا " ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن ". وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عبّاس، وإنّما يوجد ذلك من مرسل عطاء، وهو المعتمد , فإنّ لأهل اليمن إذا قصدوا

مكّة طريقين: إحداهما: طريق أهل الجبال , وهم يصلون إلى قرن أو يحاذونه , فهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق. والأخرى: طريق أهل تهامة , فيمرّون بيلملم أو يحاذونه , وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلاَّ من أتى عليه من غيرهم. قوله: (ولأهل اليمن يلملم) بفتح التّحتانيّة واللام وسكون الميم وبعدها لام مفتوحة ثمّ ميم , مكان على مرحلتين من مكّة , بينهما ثلاثون ميلاً , ويقال لها. ألَمْلَم بالهمزة , وهو الأصل والياء تسهيل لها، وحكى ابن السّيّد فيه. يرمرم براءين بدل اللامين. تنبيه: أبعد المواقيت من مكّة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة. فقيل: الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة. وقيل: رفقاً بأهل الآفاق , لأنّ أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكّة , أي: ممّن له ميقات معيّن. قوله: (هُنَّ لهنّ) في رواية لهما " هنَّ لهم " أي: المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة. وقوله " هنّ لهنّ " أي: المواقيت للجماعات المذكورة , أو لأهلهنّ على حذف المضاف. والأوّل هو الأصل. وللبخاري بلفظ " هنّ لأهلهنّ " كما شرحته. وقوله " هنّ " ضمير جماعة المؤنّث وأصله لمن يعقل، وقد استعمل فيما لا يعقل , لكن فيما دون العشرة. قوله: (ولمن أتى عليهنّ) أي: على المواقيت من غير أهل البلاد

المذكورة، ويدخل في ذلك من دخل بلداً ذات ميقات ومن لَم يدخل. فالذي لا يدخل. لا إشكال فيه إذا لَم يكن له ميقات معيّن. والذي يدخل. فيه خلاف كالشّاميّ إذا أراد الحجّ فدخل المدينة , فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها. ولا يؤخّر حتّى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصليّ، فإن أخّر أساء ولزمه دم. عند الجمهور. وأطلق النّوويّ الاتّفاق , ونفى الخلاف في شرحيه لمسلمٍ والمهذّب في هذه المسألة. فلعلَّه أراد في مذهب الشّافعيّ , وإلَّا فالمعروف عند المالكيّة. أنّ للشّاميّ مثلاً إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصليّ , وهو الجحفة , جاز له ذلك , وإن كان الأفضل خلافه , وبه قال الحنفيّة وأبو ثور وابن المنذر من الشّافعيّة. قال ابن دقيق العيد: قوله " ولأهل الشّام الجحفة ": يشمل من مرّ من أهل الشّام بذي الحليفة ومن لَم يمرّ، وقوله " ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ " يشمل الشّاميّ إذا مرّ بذي الحليفة وغيره، فهنا عمومان قد تعارضا. انتهى ملخّصاً. ويحصل الانفكاك عنه بأنّ قوله " هنّ لهنّ " مفسّر لقوله مثلاً وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وأنّ المراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمرّ على ميقاتهم. ويؤيّده. عراقيّ خرج من المدينة فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير

محرم، ويترجّح بهذا قول الجمهور. وينتفي التّعارض. قوله: (ممّن أراد الحجّ والعمرة) فيه دلالة على جواز دخول مكّة بغير إحرام، وحاصله أنّه خصّ الإحرام بمن أراد الحجّ والعمرة. فمفهومه أنّ المتردّد إلى مكّة لغير قصد الحجّ والعمرة لا يلزمه الإحرام. وقد اختلف العلماء في هذا. فالمشهور من مذهب الشّافعيّ عدم الوجوب مطلقاً. وفي قول. يجب مطلقاً. وفيمن يتكرّر دخوله خلافٌ , مرتّب وأولى بعدم الوجوب. والمشهور عن الأئمّة الثّلاثة الوجوب، وفي رواية عن كلّ منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزّهريّ والحسن وأهل الظّاهر. وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكرّرة. واستثنى الحنفيّة من كان داخل الميقات. وزعم ابن عبد البرّ , أنّ أكثر الصّحابة والتّابعين على القول بالوجوب (¬1). قوله: (ومن كان دون ذلك) أي: بين الميقات ومكّة. قوله: (فمن حيث أنشأ) أي: فميقاته من حيث أنشأ الإحرام. إذ السّفر من مكانه إلى مكّة وهذا متّفق عليه إلاَّ ما رُوي عن مجاهد أنّه قال: ميقات هؤلاء نفس مكّة. ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله مزيد بسطٍ عن هذه المسألة في شرح حديث أنس الآتي رقم (226)

واستدلَّ به ابن حزم على أنّ من ليس له ميقات فميقاته من حيث شاء , ولا دلالة فيه , لأنّه يختصّ بمن كان دون الميقات. أي: إلى جهة مكّة. ويؤخذ منه أنّ من سافر غير قاصد للنّسك فجاوز الميقات , ثمّ بدا له بعد ذلك النّسك , أنّه يُحرم من حيث تجدّد له القصد , ولا يجب عليه الرّجوع إلى الميقات لقوله " فمن حيث أنشأ ". قوله: (حتّى أهل مكّة) يجوز فيه الرّفع والكسر. قوله: (من مكّة) أي: لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه , بل يحرمون من مكّة كالآفاقيّ الذي بين الميقات ومكّة , فإنّه يحرم من مكانه , ولا يحتاج إلى الرّجوع إلى الميقات ليحرم منه، وهذا خاصّ بالحاجّ. واختلف في أفضل الأماكن التي يُحرم منها. القول الأول: في قول للشّافعيّ من المسجد. القول الثاني: قال مالك وأحمد وإسحاق: يهلّ من جوف مكّة , ولا يخرج إلى الحل إلاَّ محرماً. وأمّا المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحلّ كما سيأتي بيانه (¬1). قال المحبّ الطّبريّ: لا أعلم أحداً جعل مكّة ميقاتاً للعمرة، فتعيّن حمله على القارن. واختلف في القارن. ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة الآتي برقم (244)

القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنّ حكمه حكم الحاجّ في الإهلال من مكّة. القول الثاني: قال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحلّ، ووجهه أنّ العمرة إنّما تندرج في الحجّ فيما محلّه واحد كالطّواف والسّعي عند من يقول بذلك، وأمّا الإحرام فمحلّه فيهما مختلف. وجواب هذا الإشكال: أنّ المقصود من الخروج إلى الحلّ في حقّ المعتمر أن يرد على البيت الحرام من الحلّ فيصحّ كونه وافداً عليه، وهذا يحصل للقارن لخروجه إلى عرفة وهي من الحلّ ورجوعه إلى البيت لطواف الإفاضة فحصل المقصود بذلك أيضاً. واختلف فيمن جاوز الميقات مريداً للنّسك فلم يُحرم. القول الأول: قال الجمهور: يأثم ويلزمه دم، فأمّا لزوم الدّم فبدليلٍ غير هذا، وأمّا الإثم فلترك الواجب. وللبخاري عن ابن عمر بلفظ " فرضها " وسيأتي بلفظ " يهلّ " وهو خبر بمعنى الأمر , والأمر لا يرِدُ بلفظ الخبر إلاَّ إذا أريد تأكيده، وتأكيد الأمر للوجوب. وللبخاري بلفظ " من أين تأمرنا أن نهلّ " ولمسلمٍ من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل المدينة. القول الثاني: ذهب عطاء والنّخعيّ إلى عدم الوجوب. القول الثالث: مقابله قول سعيد بن جبير: لا يصحّ حجّه. وبه قال ابن حزم.

وقال الجمهور: لو رجع إلى الميقات قبل التّلبّس بالنّسك سقط عنه الدّم. قال أبو حنيفة: بشرط أن يعود ملبّياً، ومالك: بشرط أن لا يبعد، وأحمد: لا يسقط بشيءٍ. تنْبيه: الأفضل في كلّ ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكّة، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز. تكميل: حكى الأثرم عن أحمد: أنّه سئل في أيّ سنة وقّت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المواقيت؟ فقال: عام حجّ. انتهى. وفي حديث ابن عمر (¬1) بلفظ " أنّ رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسولَ الله من أين تأمرنا أن نهلّ "؟. ¬

_ (¬1) هذه إحدى روايات حديث ابن عمر الآتي , وهي في صحيح البخاري (133) وستأتي إن شاء الله.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 217 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يُهِلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة , وأهل الشّام من الجحفة , وأهل نجدٍ من قرنٍ. قال: وبلغني أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويهلّ أهل اليمن من يلملم (¬1). قوله: (أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يهلّ أهل المدينة ..) وللبخاري من رواية الليث عن نافع " أنَّ رجلاً قام في المسجد , فقال: يارسول الله من أين تأمرنا أن نهل .. ". لَم أقف على اسم هذا الرّجل، والمراد بالمسجد مسجد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ويستفاد منه أنّ السّؤال عن مواقيت الحجّ كان قبل السّفر من المدينة. وللبخاري عن زيد بن جبير، أنه أتى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - في منزله فسألته من أين يجوز أن أعتمر؟ قال: فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل .. الحديث ". ومعنى " فرض " قدّر أو أوجب، وهو ظاهر نصّ البخاري , وأنّه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1453) ومسلم (1182) من طريق مالك , والبخاري (133) من طريق الليث كلاهما عن نافع عن ابن عمر به. وأخرجه البخاري (1455) ومسلم (1182) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه نحوه. وأخرجه البخاري (6912) ومسلم (1182) من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر.

لا يجيز الإحرام بالحجّ والعمرة من قبل الميقات. ويزيد ذلك وضوحاً قوله باب " ميقات أهل المدينة ولا يهلّون قبل ذي الحليفة ". فاستنبط من إيراد الخبر بصيغة الخبر مع إرادة الأمر تعيّن ذلك. وأيضاً فلم ينقل عن أحد ممّن حجّ مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه أحرم قبل ذي الحليفة، ولولا تعيّن الميقات لبادروا إليه , لأنّه يكون أشقّ , فيكون أكثر أجراً. وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز. وفيه نظرٌ. فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز , وهو ظاهر جواب ابن عمر. ويؤيّده القياس على الميقات الزّمانيّ , فقد أجمعوا على أنّه لا يجوز التّقدّم عليه. وفرّق الجمهور بين الزّمانيّ والمكانيّ , فلم يجيزوا التّقدّم على الزّمانيّ. وأجازوا في المكانيّ. وذهب طائفة كالحنفيّة وبعض الشّافعيّة. إلى ترجيح التّقدّم، وقال مالك: يكره قوله: (يهلّ) ولهما من رواية سالم عن أبيه " مهلّ " المهلّ بضمّ الميم وفتح الهاء وتشديد اللام موضع الإهلال. وأصله رفع الصّوت , لأنّهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتّلبية عند الإحرام، ثمّ أطلق على نفس الإحرام اتّساعاً. قال ابن الجوزيّ: وإنّما يقول بفتح الميم من لا يعرف.

وقال أبو البقاء العكبريّ: هو مصدر بمعنى الإهلال. كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج. قوله: (يهلّ أهل الشام من الجحفة) في رواية لهما " ومهل أهل الشام مهيعة، وهي الجحفة " وتقدّم الكلام عليه مستوفى في الذي قبله. قوله: (وبلغني أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال ..) ولهما من رواية ابنه سالم عنه بلفظ " زعموا , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال , ولَم أسمعه ". وله من وجه آخر بلفظ " لَم أفقه هذه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وهو يشعر بأنّ الذي بلغ ابنَ عمر ذلك جماعةٌ، وقد ثبت ذلك من حديث ابن عبّاس كما في الحديث قبله، ومن حديث جابر عند مسلم، ومن حديث عائشة عند النّسائيّ، ومن حديث الحارث بن عمرو السّهميّ عند أحمد وأبي داود والنّسائيّ. وفيه دليل على إطلاق الزّعم على القول المحقّق , لأنّ ابن عمر سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لكنّه لَم يفهمه. لقوله: لَم أفقه هذه. أي: الجملة الأخيرة فصار يرويها عن غيره، وهو دالٌّ على شدّة تحرّيه وورعه. تكميل: زاد البخاري في آخره من رواية عبد الله بن دينار " وذُكر العراق , فقال: لَم يكن عراق يومئذ ". ذكر بضمّ أوّله مبنيّ للمجهول ولَم يسمّ، والمجيب هو ابن عمر، ووقع عند الإسماعيليّ " فقيل له: العراق , قال: لَم يكن يومئذٍ عراق "

وقوله: لَم يكن عراقٌ يومئذٍ. أي: بأيدي المسلمين , فإنّ بلاد العراق كلّها في ذلك الوقت كانت بأيدي كسرى وعمّاله من الفرس والعرب , فكأنّه قال: لَم يكن أهل العراق مسلمين حينئذٍ حتّى يوقّت لهم. ويعكّر على هذا الجواب , ذِكر أهل الشّام , فلعل مراد ابن عمر نفي العراقين وهما المصران المشهوران الكوفة والبصرة , وكلٌّ منهما إنّما صار مصراً جامعاً بعد فتح المسلمين بلاد الفرس

باب ما يلبس المحرم من الثياب

باب ما يلبس المُحرم من الثياب الحديث الثالث 218 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رجلاً قال يا رسولَ الله , ما يلبس المُحرم من الثّياب؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يلبس القميص , ولا العمائم , ولا السّراويلات , ولا البرانس , ولا الخفاف , إلاَّ أحدٌ لا يجد نعلين فليلبس خفّين وليقطعهما أسفل من الكعبين , ولا يلبس من الثّياب شيئاً مسّه زعفرانٌ أو ورسٌ. (¬1) وللبخاريّ: ولا تنتقب المرأة. ولا تلبس القفّازين. (¬2) قوله: (أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله) لَم أقف على اسمه في شيء من الطّرق، وللبخاري من طريق الليث عن نافع بلفظ " ماذا تأمرنا أن نلبس من الثّياب في الإحرام ". وعند النّسائيّ من طريق عمر بن نافع عن أبيه " ما نلبس من الثّياب إذا أحرمنا " وهو مشعرٌ بأنّ السّؤال عن ذلك كان قبل الإحرام. وقد حكى الدّارقطنيّ عن أبي بكر النّيسابوريّ , أنّ في رواية ابن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (134 , 1468 ,، 5458، 5466، 5468) ومسلم (1281) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (359 , 1745 , 5469) ومسلم (1281) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه - رضي الله عنه -. وأخرجاه من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر. مختصراً. (¬2) أخرجه البخاري (1741) من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

جريجٍ والليث عن نافع , أنّ ذلك كان في المسجد. ولَم أر ذلك في شيء من الطّرق عنهما. (¬1) نعم. أخرج البيهقيّ من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوب، ومن طريق عبد الوهّاب بن عطاء عن عبد الله بن عون، كلاهما عن نافع عن ابن عمر: نادى رجلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بذلك المكان. وأشار نافع إلى مقدّم المسجد. فذكر الحديث. وظهر أنّ ذلك كان بالمدينة. ووقع في حديث ابن عبّاس الآتي (¬2) , أنّه - صلى الله عليه وسلم - خطب بذلك في عرفات. فيُحمل على التّعدّد، ويؤيّده أنّ حديث ابن عمر أجاب به السّائل , وحديث ابن عبّاس ابتدأ به في الخطبة. قوله: (ما يلبس المُحرم من الثّياب؟) المراد بالمُحرم من أحرم بحجٍّ أو عمرة أو قرَن. وحكى ابن دقيق العيد , أنّ ابن عبد السّلام كان يستشكل معرفة حقيقة الإحرام. يعني على مذهب الشّافعيّ , ويردّ على من يقول إنّه النّيّة، لأنّ النّيّة شرط في الحجّ الذي الإحرام ركنه، وشرط الشّيء غيره، ويعترض على من يقول إنّه التّلبية بأنّها ليست ركناً , وكأنّه ¬

_ (¬1) جاء عند أبي يعلى الموصلي في " معجمه " (112) من طريق الزهري عن نافع. وفيه التصريح بكونه في المسجد. ولأحمد في " مسنده " (4868) من طريق ابن إسحاق عن نافع. وفيه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على هذا المنبر. فذكر نحوه. (¬2) بعد حديث الباب إن شاء الله.

يحوم على تعيين فعل تتعلق به النّيّة في الابتداء. انتهى. والذي يظهر. أنّه مجموع الصّفة الحاصلة من تجرّدٍ وتلبيةٍ ونحو ذلك، قوله: (ما يلبس المُحرم من الثّياب؟ قال: لا يلبس القمص إلخ) قال النّوويّ: قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وجزله , لأنّ ما لا يلبس منحصر فحصل التّصريح به، وأمّا الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: لا يلبس كذا أي ويلبس ما سواه. انتهى. وقال البيضاويّ: سئل عمّا يلبس , فأجاب بما لا يلبس , ليدلّ بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنّما عدل عن الجواب لأنّه أخصر وأحصر، وفيه إشارة إلى أنّ حقّ السّؤال أن يكون عمّا لا يلبس , لأنّه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب , فكان الأليق السّؤال عمّا لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسلوب الحكيم، ويقرب منه قوله تعالى (يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين) الآية، فعدل عن جنس المنفق , وهو المسئول عنه , إلى ذكر المنفق عليه , لأنّه أهمّ. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه. أنّ المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود , كيف كان ولو بتغييرٍ أو زيادة , ولا تشترط المطابقة. انتهى. وهذا كلّه بناء على سياق هذه الرّواية , وهي المشهورة عن نافع،

وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريجٍ عن نافع بلفظ " ما يترك المُحرم ". وهي شاذّة. والاختلاف فيها على ابن جريجٍ لا على نافع. ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ: أنّ رجلاً قال: ما يجتنب المُحرم من الثّياب. أخرجه أحمد وابن خزيمة وأبو عوانة في " صحيحيهما " من طريق عبد الرّزّاق عن معمر عن الزّهريّ عنه. وأخرجه أحمد عن ابن عيينة عن الزّهريّ. فقال مرّة " ما يترك " ومرّة " ما يلبس "، وأخرجه البخاري من طريق إبراهيم بن سعد عن الزّهريّ بلفظ نافع. فالاختلاف فيه على الزّهريّ يشعر بأنّ بعضهم رواه بالمعنى. فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها، واتّجه البحث المتقدّم. وطعن بعضهم في قول مَن قال من الشّرّاح , أنّ هذا من أسلوب الحكيم , بأنّه كان يمكن الجواب بما يحصر أنواع ما لا يلبس كأن يقال ما ليس بمخيطٍ , ولا على قدر البدن كالقميص أو بعضه كالسّراويل أو الخفّ , ولا يستر الرّأس أصلاً , ولا يلبس ما مسّه طيب كالورس والزّعفران، ولعل المراد من الجواب المذكور ذكر المهمّ , وهو ما يحرم لبسه ويوجب الفدية. قوله: (المُحرم) أجمعوا على أنّ المراد به هنا الرّجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّ للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنّما تشترك مع الرّجل في منع الثّوب الذي مسّه الزّعفران أو الورس.

ويؤيّده. قوله في آخر حديث الليث الآتي " لا تنتقب المرأة " وقوله " لا تلبس " بالرّفع على الخبر وهو في معنى النّهي، وروي بالجزم على أنّه نهي. قال عياض: أجمع المسلمون على أنّ ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المُحرم، وأنّه نبّه بالقميص والسّراويل على كلّ مخيط، وبالعمائم والبرانس على كلّ ما يغطّى الرّأس به مخيطاً أو غيره، وبالخفاف على كلّ ما يستر الرّجل. انتهى. وخصّ ابن دقيق العيد الإجماع الثّاني بأهل القياس وهو واضح، والمراد بتحريم المخيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له ولو في بعض البدن , فأمّا لو ارتدى بالقميص مثلاً فلا بأس. وقال الخطّابيّ: ذكر العمامة والبرنس معاً , ليدلّ على أنّه لا يجوز تغطية الرّأس لا بالمعتاد ولا بالنّادر، قال: ومن النّادر المكتل يحمله على رأسه. قلت: إن أراد أنّه يجعله على رأسه كلابس القبع صحّ ما قال، وإلَّا فمجرّد وضعه على رأسه على هيئة الحامل لحاجته لا يضرّ على مذهبه. وممّا لا يضرّ أيضاً الانغماس في الماء فإنّه لا يُسمّى لابساً، وكذا ستر الرّأس باليد. قوله: (القميص) وفيه دلالة على وجود القمصان حينئذٍ. قال ابن العربيّ: لَم أر للقميص ذكراً صحيحاً إلاَّ في الآية " وجاءوا

على قميصه " وقصّة ابن أبيّ بن سلول " وألبسه قميصه " (¬1) ولَم أر لهما ثالثاً فيما يتعلق بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال هذا في كتابه " سراج المريدين ". وكأنّه صنّفه قبل " شرح التّرمذيّ " فلم يستحضر حديث أمّ سلمة ولا حديث أبي هريرة: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه. ولا حديث أسماء بنت يزيد: كانت يد كمّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الرّسغ. ولا حديث معاوية بن قرّة بن إياس المزنيّ حدّثني أبي قال: أتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في رهط من مزينة فبايعناه وإنّ قميصه لمطلق، فبايعته، ثمّ أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم. ولا حديث أبي سعيد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجدّ ثوباً سمّاه باسمه قميصاً أو عمامة أو رداء , ثمّ يقول: اللهمّ لك الحمد ". وكلّها في السّنن، وأكثرها في التّرمذيّ. وفي الصّحيحين حديث عائشة: كفّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خمسة أثواب , ليس فيها قميص ولا عمامة. وحديث أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رخّص لعبد الرّحمن بن عوف في قميص الحرير , لحكّةٍ كانت به. وحديث ابن عمر رفعه " لا يلبس المُحرم القميص ولا العمائم " الحديث , وغير ذلك. قوله: (العمائم) ورد فيها حديث عمرو بن حريث أنّه قال: كأنّي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5795) ومسلم (2773) عن جابر بن عبد الله، - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أُبي بعد ما أدخل قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه "

أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وعليه عمامة سوداء. قد أرخى طرفها بين كتفيه. أخرجه مسلم، وعن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه: اعتمّوا تزدادوا حلماً. أخرجه الطّبرانيّ والتّرمذيّ في " العلل المفرد ". وضعّفه البخاريّ؛ وقد صحَّحه الحاكم فلم يُصب، وله شاهد عند البزّار عن ابن عبّاس ضعيف أيضاً. وعن ركانة رفعه: فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ، وعن ابن عمر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتمّ , سدل عمامته بين كتفيه. أخرجه التّرمذيّ، وفيه , أنّ ابن عمر كان يفعله والقاسم وسالم، وأمّا مالك , فقال: إنّه لَم ير أحداً يفعله إلاَّ عامر بن عبد الله بن الزّبير. والله أعلم. قوله: (السراويلات) قال ابن سيده: السّراويل فارسيٌّ معرّبٌ يذكّر ويؤنّث. ولَم يَعرِف أبو حاتم السّجستانيّ التّذكير، والأشهر عدم صرفه. وسيأتي إن شاء الله في حديث ابن عباس الذي بعده باقي مباحثه قوله: (البرانس) جمع برنس - بضمّ الموحّدة والنّون بينهما راء ساكنة وآخره مهملة - وأخرج البخاري عن سليمان التيمي قال: رأيت على أنسٍ برنساً أصفر من خز. وقد كره بعض السّلف لبس البرنس , لأنّه كان من لباس الرّهبان، وقد سئل مالك عنه. فقال: لا بأس به. قيل: فإنّه من لبوس النّصارى. قال: كان يلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبي بكر: ما كان

أحدٌ من القرّاء إلاَّ له برنس. وأخرج الطّبرانيّ من حديث أبي قرصافة قال: كساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برنساً , فقال: البَسْه. وفي سنده من لا يعرف. ولعل من كرهه أخذ بعموم حديث عليّ رفعه: إيّاكم ولبوس الرّهبان، فإنّه من تزيّا بهم أو تشبّه فليس منّي. أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط " بسندٍ لا بأس به. قوله: (إلاَّ أحدٌ) قال ابن المنيّر في الحاشية: يستفاد منه جواز استعمال أحد في الإثبات خلافاً لمن خصّه بضرورة الشّعر. قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنّه لا يستعمل في الإثبات إلاَّ إن كان يعقبه نفي. قوله: (لا يجد نعلين) زاد معمر في روايته عن الزّهريّ عن سالم في هذا الموضع زيادة حسنة , تفيد ارتباط ذكر النّعلين بما سبق. وهي قوله " وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لَم يجد نعلين فليلبس الخُفَّين " واستدل بقوله " فإن لَم يجد ". وهو القول الأول. على أنّ واجد النّعلين لا يلبس الخُفَّين المقطوعين , وهو قول الجمهور. القول الثاني: عن بعض الشّافعيّة جوازه , وكذا عند الحنفيّة. وقال ابن العربيّ: إن صارا كالنّعلين جاز وإلاَّ متى سترا من ظاهر الرّجل شيئاً لَم يجز إلاَّ للفاقد، والمراد بعدم الوجدان , أن لا يقدر على

تحصيله إمّا لفقده أو ترك بذل المالك له وعجزه عن الثّمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة، ولو بيع بغبنٍ لَم يلزمه شراؤه أو وهب له لَم يجب قبوله إلاَّ إن أعير له. قوله: (فليلبس) ظاهر الأمر للوجوب، لكنّه لَمّا شرع للتّسهيل لَم يناسب التّثقيل وإنّما هو للرّخصة. قوله: (وليقطعهما أسفل من الكعبين) في رواية ابن أبي ذئب عند البخاري " حتّى يكونا تحت الكعبين " والمراد كشف الكعبين في الإحرام , وهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم. ومؤيّده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا اضطرّ المُحرم إلى الخُفَّين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه. وقال محمّد بن الحسن ومن تبعه من الحنفيّة: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشّراك. وقيل: إنّ ذلك لا يعرف عند أهل اللّغة. وقيل: إنّه لا يثبت عن محمّد , وأنّ السّبب في نقله عنه , أنّ هشام بن عبيد الله الرّازيّ سمعه يقول , في مسألة المُحرم: إذا لَم يجد النّعلين حيث يقطع خفّيه , فأشار محمّد بيده إلى موضع القطع، ونقله هشام إلى غسل الرّجلين في الطّهارة. وبهذا يتعقّب على من نقل عن أبي حنيفة كابن بطّال أنّه قال: إنّ الكعب هو الشّاخص في ظهر القدم، فإنّه لا يلزم من نقل ذلك عن

محمّد بن الحسن - على تقدير صحّته عنه - أن يكون قول أبي حنيفة. ونقل عن الأصمعيّ , وهو قول الإماميّة , أنّ الكعب عظم مستدير تحت عظم السّاق حيث مفصل السّاق والقدم. وجمهور أهل اللّغة على أنّ في كلّ قدم كعبين. وظاهر الحديث. أنّه لا فدية على من لبسهما إذا لَم يجد النّعلين. وعن الحنفيّة تجب. وتعقّب: بأنّها لو وجبت لبيّنها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , لأنّه وقت الحاجة. واستُدل به. وهو القول الأول. على اشتراط القطع. القول الثاني: المشهور عن أحمد. أنّه أجاز لبس الخُفَّين من غير قطع لإطلاق حديث ابن عبّاس الآتي بلفظ " ومن لَم يجد نعلين فليلبس خفّين ". وتعقّب: بأنّه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيّد فينبغي أن يقول بها هنا وأجاب الحنابلة بأشياء: الجواب الأول: دعوى النّسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدّارقطنيّ من طريق عمرو بن دينار , أنّه روى عن ابن عمر حديثه , وعن جابر بن زيد عن ابن عبّاس حديثه , وقال: انظروا أيّ الحديثين قبل. ثمّ حكى الدّارقطنيّ عن أبي بكر النّيسابوريّ أنّه قال: حديث ابن

عمر قَبْل , لأنّه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عبّاس بعرفاتٍ. وأجاب الشّافعيّ عن هذا في " الأمّ " فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عبّاس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شكّ أو قالها فلم يقلها عنه بعض رواته انتهى. الجواب الثاني: سلك بعضهم التّرجيح بين الحديثين. قال ابن الجوزيّ: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عبّاس لَم يختلف في رفعه. انتهى. وهو تعليلٌ مردودٌ , بل لَم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلاَّ في رواية شاذّة، على أنّه اختلف في حديث ابن عبّاس أيضاً. فرواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس موقوفاً. ولا يرتاب أحدٌ من المحدّثين أنّ حديث ابن عمر أصحّ من حديث ابن عبّاس , لأنّ حديث ابن عمر جاء بإسنادٍ وصف بكونه أصحّ الأسانيد، واتّفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفّاظ منهم نافع وسالم. بخلاف حديث ابن عبّاس فلم يأت مرفوعاً إلاَّ من رواية جابر بن زيد عنه. حتّى قال الأصيليّ (¬1): إنّه شيخ بصريّ لا يُعرف. ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن إبراهيم , سبق ترجمته (1/ 114)

كذا قال، وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمّة. الجواب الثالث: استدل بعضهم بالقياس على السّراويل كما سيأتي البحث فيه. في حديث ابن عبّاس إن شاء الله تعالى. وأجيب: بأنّ القياس مع وجود النّصّ فاسد الاعتبار. الجواب الرابع: احتجّ بعضهم بقول عطاء: إنّ القطع فساد , والله لا يحبّ الفساد. وأجيب: بأنّ الفساد إنّما يكون فيما نهى الشّرع عنه لا فيما أذن فيه. وقال ابن الجوزيّ: يحمل الأمر بالقطع على الإباحة لا على الاشتراط. عملاً بالحديثين، ولا يخفى تكلّفه. قال العلماء: والحكمة في منع المُحرم من اللباس والطّيب البعد عن التّرفّه، والاتّصاف بصفة الخاشع، وليتذكّر بالتّجرّد القدوم على ربّه فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات. قوله: (ولا تلبسوا من الثّياب شيئاً مسّه زعفران أو ورس) قيل: عدل عن طريقة ما تقدّم ذكره إشارة إلى اشتراك الرّجال والنّساء في ذلك. وفيه نظرٌ. بل الظّاهر أنّ نكتة العدول. أنّ الذي يخالطه الزّعفران والورس لا يجوز لبسه. سواء كان ممّا يلبسه المُحرم أو لا يلبسه. والورس: بفتح الواو وسكون الرّاء بعدها مهملة. نبت أصفر طيّب الرّيح يصبغ به. قال ابن العربيّ: ليس الورس بطيبٍ، ولكنّه نبّه به على اجتناب

الطّيب وما يشبهه في ملاءمة الشّمّ، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطّيب على المُحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التّطيّب. واستدل بقوله " مسّه " على تحريم ما صبغ كلّه أو بعضه. ولو خَفِيتْ رائحته قال مالك في الموطّأ: إنّما يكره لبس المصبغات , لأنّها تنفض. وقال الشّافعيّة: إذا صار الثّوب بحيث لو أصابه الماء لَم تفح له رائحة لَم يمنع. والحجّة فيه حديث ابن عبّاس في البخاري بلفظ " ولَم ينه عن شيء من الثّياب , إلاَّ المزعفرة التي تردع الجلد " وأمّا المغسول. فقال الجمهور: إذا ذهبت الرّائحة جاز خلافاً لمالكٍ. واستدل لهم بما روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث " إلاَّ أن يكون غسيلاً " أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحمّانيّ في " مسنده " عنه. وروى الطّحاويّ عن أحمد بن أبي عمران , أنّ يحيى بن معين أنكره على الحمّانيّ، فقال له عبد الرّحمن بن صالح الأزديّ: قد كتبته عن أبي معاوية. وقام في الحال. فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيى بن معين. انتهى. وهي زيادة شاذّة , لأنّ أبا معاوية - وإن كان متقناً - لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال.

قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله , ولَم يجيء بهذه الزّيادة غيره. قلت: والحمّانيّ ضعيف , وعبد الرّحمن الذي تابعه فيه مقال. واستدل به المُهلَّب على منع استدامة الطّيب. وفيه نظرٌ. واستنبط مَن منع لبس الثّوب المزعفر منع أكل الطّعام الذي فيه الزّعفران. وهذا قول الشّافعيّة، وعن المالكيّة خلاف. وقال الحنفيّة: لا يحرم , لأنّ المراد اللّبس والتّطيّب والآكل لا يعدّ متطيّباً. ولَم يختلف العلماء. أنّ المرأة كالرّجل في منع الطّيب، وإنّما اختلفوا في أشياء. هل تُعدّ طيباً أو لا؟. والحكمة في منع المُحرم من الطّيب. أنّه من دواعي الجماع ومقدّماته التي تفسد الإحرام، وبأنّه ينافي حال المُحرم , فإنّ المُحرم أشعث أغبر. وذكر البخاري معلقاً ووصله البيهقيّ من طريق معاذ عن عائشة قالت: المُحرمة تلبس من الثّياب ما شاءت إلَّا ثوباً مسّه ورس أو زعفران، ولا تبرقع ولا تلثّم، وتسدل الثّوب على وجهها إن شاءت. وروى أحمد وأبو داود والحاكم أصلَ حديث الباب من طريق ابن إسحاق حدّثني نافع عن ابن عمر بلفظ: أنّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى النّساء في إحرامهنّ عن القفّازين والنّقاب وما مسّ الورس والزّعفران من الثّياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثّياب.

وقد أخذ من التّقييد بالمُحرم جواز لبس الثّوب المزعفر للحلال. قال ابن بطّال: أجاز مالك وجماعة لباس الثّوب المزعفر للحلال , وقالوا: إنّما وقع النّهي عنه للمحرم خاصّة. وحمله الشّافعيّ والكوفيّون على المُحرم وغير المُحرم، وحديث ابن عمر في الصحيح يدلّ على الجواز، فإنّ فيه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصبغ بالصّفرة. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبان مصبوغان بالزّعفران. وفي سنده عبد الله بن مصعب الزّبيريّ. وفيه ضعف. وأخرج الطّبرانيّ من حديث أمّ سلمة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبغ إزاره ورداءه بزعفرانٍ. وفيه راوٍ مجهول. ومن المستغرب قول ابن العربيّ. لَم يرد في الثّوب الأصفر حديث، وقد ورد فيه عدّة أحاديث كما ترى. قال المُهلَّب: الصّفرة أبهج الألوان إلى النّفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عبّاس في قوله تعالى: (صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين) (¬1) تنْبيه زاد الثّوريّ في روايته عن أيّوب عن نافع في هذا الحديث " ولا القباء " أخرجه عبد الرّزّاق عنه، ورواه الطّبرانيّ من وجه آخر عن الثّوريّ، وأخرجه الدّارقطنيّ والبيهقيّ من طريق حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضاً. والقباء: بالقاف والموحّدة معروف، ويطلق على كلّ ثوب مفرّج. ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله بسط هذه المسألة في كتاب اللباس.

ومَنْعُ لبسِه على المُحرم متّفق عليه، إلاَّ أنّ أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كمّيه لا إذا ألقاه على كتفيه، ووافقه أبو ثور والخرقيّ من الحنابلة. وحكى الماورديّ. نظيره إن كان كمّه ضيّقاً، فإن كان واسعاً فلا. وفي الحديث. أنّ الصّلاة تجوز بدون القميص والسّراويل وغيرهما من المخيط لأمر المُحرم باجتناب ذلك، وهو مأمور بالصّلاة. قال ابن المنير: وفيه التّنبيه على أنّ مطابقة الجواب للسّؤال غير لازم، بل إذا كان السّبب خاصّاً والجواب عامّاً جاز، وحمل الحكم على عموم اللفظ لا على خصوص السّبب لأنّه جواب وزيادة فائدة. ويؤخذ منه أيضاً. أنّ المفتي إذا سئل عن واقعة. واحتمل عنده أن يكون السّائل يتذرّع بجوابه إلى أن يعدّيه إلى غير محلّ السّؤال , تعيّن عليه أن يفصّل الجواب، ولهذا قال: " فإن لَم يجد نعلين " فكأنّه سأل عن حالة الاختيار فأجابه عنها وزاده حالة الاضطرار، وليست أجنبيّة عن السّؤال , لأنّ حالة السّفر تقتضي ذلك. وأمّا ما وقع في كلام كثير من الأصوليّين , أنّ الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسّؤال. فليس المراد بالمطابقة عدم الزّيادة، بل المراد أنّ الجواب يكون مفيداً للحكم المسئول عنه. قاله ابن دقيق العيد. وفي الحديث أيضاً. العدول عمّا لا ينحصر إلى ما ينحصر طلباً للإيجاز؛ لأنّ السّائل سئل عمّا يلبس فأجيب بما لا يلبس، إذ الأصل الإباحة، ولو عدّد له ما يلبس لطال به، بل كان لا يؤمن أن يتمسّك

بعض السّامعين بمفهومه فيظنّ اختصاصه بالمُحرم، وأيضاً فالمقصود ما يحرم لبسه لا ما يحلّ له لبسه لأنّه لا يجب له لباس مخصوص بل عليه أن يجتنب شيئاً مخصوصاً. قوله: (وللبخاريّ: ولا تنتقب المرأة , ولا تلبس القفّازين) القُفّاز بضمّ القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي: ما تلبسه المرأة في يدها فيغطّي أصابعها وكفّيها عند معاناة الشّيء كغزلٍ ونحوه، وهو لليد كالخفّ للرّجل. والنّقاب: الخمار الذي يشدّ على الأنف أو تحت المحاجر، وظاهره اختصاص ذلك بالمرأة، ولكنّ الرَّجُلَ في القفّاز مثلها لكونه في معنى الخفّ فإنّ كلاًّ منهما محيط بجزء من البدن. وأمّا النّقاب فلا يحرم على الرّجل من جهة الإحرام , لأنّه لا يحرم عليه تغطية وجهه على الرّاجح. كما تقدم الكلام عليه في حديث ابن عبّاس (¬1). واختلف العلماء في ذلك. القول الأول: منعه الجمهور. القول الثاني: أجازه الحنفيّة. وهو رواية عند الشّافعيّة والمالكيّة. ولَم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفّيها بما سوى النّقاب والقفّازين. تكميل: زيادة البخاري " لاتنتقب .. الحديث " أخرجها من طريق ¬

_ (¬1) حديث ابن عباس - رضي الله عنه - تقدّم شرحه في الجنائز برقم (165)

الليث عن نافع به مرفوعاً , ثم قال البخاري: تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وجويرية، وابن إسحاق: في النقاب والقفازين، وقال عبيد الله: ولا ورس، وكان يقول: لا تتنقب المُحرمة، ولا تلبس القفازين، وقال مالك، عن نافع، عن ابن عمر: لا تتنقب المُحرمة، وتابعه ليث بن أبي سليم. انتهى قوله " تابعه موسى بن عقبة ". وصله النّسائيّ من طريق عبد الله بن المبارك عنه عن نافع في آخر الزّيادة المذكورة قبل. قوله " وإسماعيل بن إبراهيم " أي: ابن عقبة، وهو ابن أخي موسى المذكور قبله، وقد رويناه من طريقه موصولاً في " فوائد عليّ بن محمّد المصريّ " من رواية السّلفيّ عن الثّقفيّ عن ابن بشران عنه عن يوسف بن يزيد عن يعقوب بن أبي عبّاد عن إسماعيل عن نافع به. قوله " وجويرية " أي: ابن أسماء، وصله أبو يعلى عن عبد الله بن محمّد بن أسماء عنه عن نافع. وفيه الزّيادة. قوله " وابن إسحاق " وصله أحمد وغيره كما تقدّم. قوله " في النّقاب والقفّازين " أي: في ذكرهما في الحديث المرفوع. قوله " وقال عبيد الله " يعني. ابن عمر العمريّ " ولا ورس " وكان يقول " لا تتنقّب المُحرمة ولا تلبس القفّازين " يعني. أنّ عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع فوافقهم على رفعه إلى قوله " زعفران ولا ورس "

وفصَلَ بقيّة الحديث فجعله من قول ابن عمر. وهذا التّعليق عن عبيد الله. وصله إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن محمّد بن بشر وحمّاد بن مسعدة , وابن خزيمة من طريق بشر بن المفضّل ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمر عن نافع. فساق الحديث إلى قوله " ولا ورس " قالا: وكان عبيد الله - يعني ابن عمر - يقول " ولا تنتقب المُحرمة , ولا تلبس القفّازين ". ورواه يحيى القطّان عند النّسائيّ وحفص بن غياث عند الدّارقطنيّ كلاهما عن عبيد الله. فاقتصرا على المتّفق على رفعه. قوله " وقال مالك إلخ " هو في " الموطّإ " كما قال، والغرض. أنّ مالكاً اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله. وظهر الإدراج في رواية غيره. وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النّهي عن النّقاب والقفّاز مفرداً مرفوعاً , وللابتداء بالنّهي عنهما في رواية ابن إسحاق المرفوعة المقدّم ذكرها. وقال في " الاقتراح ": دعوى الإدراج في أوّل المتن ضعيفة. وأجيب: بأنّ الثّقات إذا اختلفوا. وكان مع أحدهم زيادة قدّمت , ولا سيّما إن كان حافظاً , ولا سيّما إن كان أحفظ، والأمر هنا كذلك. فإنّ عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه , وفد فصَلَ المرفوع من الموقوف. وأمّا الذي اقتصر على الموقوف فرفعه. فقد شذّ بذلك وهو

ضعيف. وأمّا الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف. فإنّه من التّصرّف في الرّواية بالمعنى، وكأنّه رأى أشياء متعاطفة فقدّم وأخّر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فَصَلَ زيادة علم فهو أولى، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح التّرمذيّ. وقال الكرمانيّ: فإن قلت: فلِمَ قال البخاري بلفظ " قال " وثانياً بلفظ " كان يقول "؟ قلت: لعله قال ذلك مرّة. وهذا كان يقوله دائماً مكرّراً، والفرق بين المرويّين. إمّا من جهة حذف المرأة , وإمّا من جهة أنّ الأوّل بلفظ " لا تتنقّب " من التّفعّل والثّاني من الافتعال، وإمّا من جهة أنّ الثّاني بضمّ الباء على سبيل النّفي لا غير والأوّل بالضّمّ والكسر نفياً ونهياً. انتهى كلامه ولا يخفى تكلّفه. قوله " وتابعه ليث بن أبي سليمٍ " أي: تابع مالكاً في وقفه , وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق فضيل بن غزوان عن نافع موقوفاً على ابن عمر.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 219 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفاتٍ: من لَم يجد نعلين فليلبس الخُفَّين , ومن لَم يجد إزاراً فليلبس السّراويل للمحرم. (¬1) قوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفاتٍ) اتفقوا على مشروعيّة الخطبة بعرفات. قوله: (من لَم يجد نعلين فليلبس الخُفَّين) تقدّم الكلام عليه في الذي قبله وفي هذا الحديث استحباب لبس النّعل، وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه: استكثروا من النّعال فإنّ الرّجل لا يزال راكباً ما انتعل. أي: أنّه شبيهٌ بالرّاكب في خفّة المشقّة وقلة التّعب وسلامة الرّجل من أذى الطّريق، قاله النّوويّ. وقال القرطبيّ: هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفّف المشقّة، فإنّ الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقّة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالرّاكب فلذلك شبّه به. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1653 , 1744 , 1746 , 5467 , 5515) ومسلم (1178) من طرق عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

قوله: (ومن لَم يجد إزاراً فليلبس السّراويل للمحرم) أي: هذا الحكم للمحرم لا الحلال، فلا يتوقّف جواز لبسه السّراويل على فقد الإزار. قال القرطبيّ: أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد. فأجاز لبس الخفّ والسّراويل للمحرم الذي لا يجد النّعلين والإزار على حالهما. واشترط الجمهور قطع الخفّ وفتق السّراويل، فلو لبس شيئاً منهما على حاله لزمته الفدية، والدّليل قوله في حديث ابن عمر " وليقطعهما حتّى يكونا أسفل من الكعبين " فيُحمل المطلق على المقيّد , ويلحق النّظير بالنّظير لاستوائهما في الحكم. وقال ابن قدامة: الأولى قطعهما عملاً بالحديث الصّحيح وخروجاً من الخلاف. انتهى والأصحّ عند الشّافعيّة والأكثر جواز لبس السّراويل بغير فتق كقول أحمد، واشترط الفتق محمّد بن الحسن وإمام الحرمين وطائفة. وعن أبي حنيفة: منع السّراويل للمحرم مطلقاً، ومثله عن مالك. وكأنّ حديث ابن عبّاس لَم يبلغه، ففي " الموطّإ " أنّه سئل عنه؟ فقال: لَم أسمع بهذا الحديث. وقال الرّازيّ من الحنفيّة: يجوز لبسه وعليه الفدية كما قاله أصحابهم في الخُفَّين. ومن أجاز لبس السّراويل على حاله. قيّده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزاراً , لأنّه في تلك الحالة يكون واجد الإزار.

تكميل: أخرج حديثَ الدّعاء للمتسرولات البزّارُ من حديث عليّ بسندٍ ضعيف، وصحّ أنّه - صلى الله عليه وسلم - اشترى سراويل من سويد بن قيس. أخرجه الأربعة وأحمد وصحَّحه ابن حبّان من حديثه. وأخرجه أحمد أيضاً من حديث مالك بن عميرة الأسديّ. قال: قدمت قبل مهاجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشترى منّي سراويل. فأرجح لي. وما كان ليشتريه عبثاً. وإن كان غالب لبسه الإزار. وأخرج أبو يعلى والطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث أبي هريرة: دخلت يوماً السّوق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس إلى البزّاز فاشترى سراويل بأربعة دراهم .. الحديث. وفيه. قلت: يا رسولَ الله وإنّك لتلبس السّراويل؟ قال: أجل، في السّفر والحضر والليل والنّهار، فإنّي أمرت بالتّستّر. وفيه يونس بن زياد البصريّ. وهو ضعيف. قال ابن القيّم في " الهدى ": اشترى - صلى الله عليه وسلم - السّراويل، والظّاهر أنّه إنّما اشتراه ليلبسه ثمّ قال: وروي في حديث أنّه لبس السّراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه وبإذنه. قلت: وتؤخذ أدلة ذلك كلّه ممّا ذكرته. ووقع في الإحياء للغزاليّ. أنّ الثّمن ثلاثة دراهم , والذي تقدّم أنّه أربعة دراهم أولى.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 220 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أنّ تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لبّيك اللهمّ لبّيك , لبّيك لا شريك لك لبّيك , إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك. (¬1) قال (¬2): وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها " لبّيك لبّيك , وسعديك , والخير بيديك , والرّغباء إليك والعمل ". قوله: (أنّ تلبية) هي مصدر لبّى. أي قال: لبّيك، ولا يكون عامله إلاَّ مضمراً. قوله: (لبّيك) هو لفظ مثنًّى عند سيبويه ومن تبعه. وقال يونس: هو اسم مفرد وأَلِفه إنّما انقلبت ياء لاتّصالها بالضّمير كلديّ وعليّ. وردّ بأنّها قلبت ياء مع المظهر. وعن الفرّاء: هو منصوب على المصدر، وأصله لبّاً لك فثنّي على التّأكيد. أي: إلباباً بعد إلباب، وهذه التّثنية ليست حقيقيّة بل هي للتّكثير أو المبالغة، ومعناه إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1474) ومسلم (1184) من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر. وأخرجه البخاري (5571) ومسلم (1184) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه. وأخرجه مسلم (1184) من طرق أخرى عن ابن عمر. (¬2) القائل هو نافع مولى ابن عمر رحمه الله , وهذه الزيادة انفرد بها مسلم دون البخاري. وقد أخرجها مسلم أيضاً (1184) من طريق سالم عن أبيه عن عمر كما سيذكره الشارح رحمه الله

قال ابن الأنباريّ: ومثله حنانيك. أي: تحنّناً بعد تحنّن. وقيل: معنى لبّيك اتّجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم داري تلبّ دارك أي تواجهها. وقيل: معناه محبّتي لك مأخوذ من قولهم امرأة لبّة. أي: محبّة. وقيل: إخلاصي لك من قولهم حبٌّ لباب. أي: خالص. وقيل: أنا مقيم على طاعتك من قولهم لبّ الرّجل بالمكان إذا أقام. وقيل: قرباً منك من الإلباب وهو القرب. وقيل: خاضعاً لك. والأوّل أظهر وأشهر , لأنّ المُحرم مستجيب لدعاء الله إيّاه في حجّ بيته، ولهذا من دعا فقال لبّيك فقد استجاب. وقال ابن عبد البرّ: قال جماعة من أهل العلم: معنى التّلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذّن في النّاس بالحجّ. انتهى. وهذا أخرجه عبد بن حميدٍ وابن جرير وابن أبي حاتم بأسانيدهم في " تفاسيرهم " عن ابن عبّاس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد. والأسانيد إليهم قويّة. وأقوى ما فيه عن ابن عبّاس. ما أخرجه أحمد بن منيع في " مسنده " وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عنه قال: لَمّا فرغ إبراهيم عليه السّلام من بناء البيت قيل له أذّن في النّاس بالحجّ، قال: ربِّ وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ البلاغ. قال فنادى إبراهيم: يا أيّها النّاس كتب

عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السّماء والأرض، أفلا ترون أنّ النّاس يجيئون من أقصى الأرض يلبّون. ومن طريق ابن جريجٍ عن عطاء عن ابن عبّاس. وفيه: فأجابوه بالتّلبية في أصلاب الرّجال، وأرحام النّساء. وأوّل من أجابه أهل اليمن، فليس حاجٌّ يحجّ من يومئذٍ إلى أن تقوم السّاعة إلاَّ من كان أجاب إبراهيم يومئذٍ. قال ابن المنيّر في الحاشية: وفي مشروعيّة التّلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأنّ وفودهم على بيته إنّما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى. قوله: (إنّ الحمد) روي بكسر الهمزة على الاستئناف وبفتحها على التّعليل، والكسر أجود عند الجمهور. وقال ثعلب: لأنّ من كسر جعل معناه إنّ الحمد لك على كلّ حال، ومن فتح قال معناه: لبّيك لهذا السّبب. وقال الخطّابيّ: لهج العامّة بالفتح. وحكاه الزّمخشريّ عن الشّافعيّ. قال ابن عبد البرّ: المعنى عندي واحد , لأنّ من فتح أراد لبّيك , لأنّ الحمد لك على كلّ حال، وتعقّب: بأنّ التّقييد ليس في الحمد وإنّما هو في التّلبية. قال ابن دقيق العيد: الكسر أجود , لأنّه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة، وأنّ الحمد والنّعمة لله على كلّ حال، والفتح يدلّ على التّعليل فكأنّه يقول: أجبتك لهذا السّبب.

والأوّل أعمّ فهو أكثر فائدة. ولَمّا حكى الرّافعيّ الوجهين من غير ترجيح رجّح النّوويّ الكسر، وهذا خلاف ما نقله الزّمخشريّ , أنّ الشّافعيّ اختار الفتح , وأنّ أبا حنيفة اختار الكسر. قوله: (والنّعمة لك) المشهور فيه النّصب، قال عياض: ويجوز الرّفع على الابتداء ويكون الخبر محذوفاً والتّقدير أنّ الحمد لك والنّعمة مستقرّة لك، قاله ابن الأنباريّ. وقال ابن المنيّر في الحاشية: قرن الحمد والنّعمة وأفرد الملك , لأنّ الحمد متعلق النّعمة، ولهذا يقال الحمد لله على نعمه فجمع بينهما كأنّه قال: لا حمد إلاَّ لك , لأنّه لا نعمة إلاَّ لك. وأمّا الملك فهو معنًى مستقلّ بنفسه ذكر لتحقيق أنّ النّعمة كلّها لله صاحب الملك. قوله: (والملك) بالنّصب أيضاً على المشهور ويجوز الرّفع، وتقديره والملك كذلك. ووقع عند مسلم من رواية موسى بن عقبة عن نافع وغيره عن ابن عمر " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استوت به راحلته عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: لبّيك " الحديث. وللبخاري في اللباس من طريق الزّهريّ عن سالم عن أبيه , سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلّ ملبّداً , يقول: لبّيك اللهمّ لبّيك. الحديث. وقال في آخره: لا يزيد على هذه الكلمات. زاد مسلم من هذا الوجه " قال ابن عمر: كان عمر يهلّ بهذا ,ويزيد: لبّيك اللهمّ لبّيك وسعديك والخير في يديك والرّغباء إليك

والعمل " وهذا القدر في رواية مالك أيضاً عنه عن نافع عن ابن عمر , أنّه كان يزيد فيها. فذكر نحوه. فعرف أنّ ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر. فذكر مثل المرفوع. وزاد: لبّيك مرغوباً ومرهوباً إليك ذا النّعماء والفضل الحسن. واستُدلّ به. وهو القول الأول: على استحباب الزّيادة على ما ورد عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. قال الطّحاويّ بعد أن أخرجه من حديث ابن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعمرو بن معد يكرب: أجمع المسلمون جميعاً على هذه التّلبية، غير أنّ قوماً قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذّكر لله ما أحبّ، وهو قول محمّد والثّوريّ والأوزاعيّ. واحتجّوا بحديث أبي هريرة يعني الذي أخرجه النّسائيّ وابن ماجه وصحَّحه ابن حبّان والحاكم. قال: كان من تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبّيك إله الحقّ لبّيك. وبزيادة ابن عمر المذكورة. القول الثاني: خالفهم آخرون. فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النّاس كما في حديث عمرو بن معدي كرب , ثمّ فعله هو , ولَم يقل لبّوا بما شئتم ممّا هو من جنس هذا , بل علَّمهم كما علَّمهم التّكبير في الصّلاة , فكذا لا ينبغي أن يتعدّى في ذلك شيئاً ممّا

علمه. ثمّ أخرج حديث عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه , أنّه سمع رجلاً يقول: لبّيك ذا المعارج؟ فقال: إنّه لذو المعارج، وما هكذا كنّا نلبّي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فهذا سعد قد كره الزّيادة في التّلبية. وبه نأخذ. انتهى ويدلّ على الجواز ما وقع عند النّسائيّ من طريق عبد الرّحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: كان من تلبية النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فذكره. ففيه دلالة على أنّه قد كان يلبّي بغير ذلك، وما تقدّم عن عمر وابن عمر. وروى سعيد بن منصور من طريق الأسود بن يزيد , أنّه كان يقول: لبّيك غفّار الذّنوب ". وفي حديث جابر الطّويل في صفة الحجّ " حتّى استوت به ناقته على البيداء أهل بالتّوحيد لبّيك اللهمّ لبّيك إلخ. قال: وأهلَّ النّاس بهذا الذي يهلّون به، فلم يردّ عليهم شيئاً منه، ولزم تلبيته. وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه منه مسلم قال: والنّاس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام , والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئاً. وفي رواية البيهقيّ " ذا المعارج وذا الفواضل ". وهذا يدلّ على أنّ الاقتصار على التّلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو - صلى الله عليه وسلم - عليها , وأنّه لا بأس بالزّيادة لكونه لَم يردّها عليهم. وأقرّهم عليها، وهو قول الجمهور وبه صرّح أشهب. وحكى ابن عبد البرّ عن مالك الكراهة , قال: وهو أحد قولي

الشّافعيّ. وقال الشّيخ أبو حامد: حكى أهل العراق عن الشّافعيّ يعني في القديم. أنّه كره الزّيادة على المرفوع، وغلِطوا , بل لا يكره ولا يستحبّ. وحكى التّرمذيّ عن الشّافعيّ قال: فإن زاد في التّلبية شيئاً من تعظيم الله فلا بأس، وأحبّ إليّ أن يقتصر على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنّ ابن عمر حفظ التّلبية عنه ثمّ زاد من قبله زيادة. ونصب البيهقيّ الخلاف بين أبي حنيفة والشّافعيّ , فقال: الاقتصار على المرفوع أحبّ، ولا ضيق أن يزيد عليها. قال: وقال أبو حنيفة: إن زاد فحسن. وحكى في " المعرفة " عن الشّافعيّ , قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أنّ الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. انتهى. وهذا أعدل الوجوه، فيفرد ما جاء مرفوعاً، وإذا اختار قول ما جاء موقوفاً أو أنشأه هو من قبل نفسه ممّا يليق قاله على انفراده حتّى لا يختلط بالمرفوع. وهو شبيه بحال الدّعاء في التّشهّد فإنّه قال فيه: ثمّ ليتخيّر من المسألة والثّناء ما شاء. أي: بعد أن يفرغ من المرفوع. كما تقدّم ذلك في موضعه. تكميل:

اختلف في حكم التّلبية، وفيها مذاهب أربعة يمكن توصيلها إلى عشرة: أوّلها: أنّها سنّة من السّنن لا يجب بتركها شيء، وهو قول الشّافعيّ وأحمد. ثانيها: واجبة ويجب بتركها دم، حكاه الماورديّ عن ابن أبي هريرة من الشّافعيّة وقال: إنّه وجد للشّافعيّ نصّاً يدلّ عليه، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكيّة , والخطّابيّ عن مالك وأبي حنيفة. وأغرب النّوويّ فحكى عن مالك , أنّها سنّة. ويجب بتركها دم، ولا يعرف ذلك عندهم , إلاَّ أنّ ابن الجلاب قال: التّلبية في الحجّ مسنونة غير مفروضة. وقال ابن التّين: يريد أنّها ليست من أركان الحجّ , وإلا فهي واجبة. ولذلك يجب بتركها الدّم ولو لَم تكن واجبة لَم يجب. وحكى ابن العربيّ , أنّه يجب عندهم بترك تكرارها دم. وهذا قدر زائد على أصل الوجوب. ثالثها: واجبة , لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحجّ كالتّوجّه على الطّريق. وبهذا صدّر ابن شاسٍ من المالكيّة كلامه في " الجواهر " له. وحكى صاحب " الهداية " من الحنفيّة مثله , لكن زاد القول الذي يقوم مقام التّلبية من الذّكر كما في مذهبهم من أنّه لا يجب لفظ معيّن. وقال ابن المنذر: قال أصحاب الرّأي: إن كبّر أو هلل أو سبّح ينوي بذلك الإحرام. فهو محرم.

رابعها: أنّها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها. حكاه ابن عبد البرّ عن الثّوريّ وأبي حنيفة وابن حبيب من المالكيّة والزّبيريّ من الشّافعيّة وأهل الظّاهر , قالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصّلاة. ويقوّيه ما تقدّم من بحث ابن عبد السّلام عن حقيقة الإحرام , وهو قول عطاء أخرجه سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عنه قال: التّلبية فرض الحجّ. وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوسٍ وعكرمة. وحكى النّوويّ عن داود , أنّه لا بدّ من رفع الصّوت بها. وهذا قدر زائد على أصل كونها ركناً.

الحديث السادس

الحديث السادس 221 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلاَّ ومعها حرمةٌ. (¬1) وفي لفظ للبخاريّ: لا تسافر مسيرة يومٍ إلاَّ مع ذي محرمٍ. (¬2) قوله: (لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر) مفهومه أنّ النّهي المذكور يختصّ بالمؤمنات، فتخرج الكافرات كتابيّة كانت أو حربيّة، وقد قال به بعض أهل العلم. وأجيب: بأنّ الإيمان هو الذي يستمرّ للمتّصف به خطاب الشّارع فينتفع به وينقاد له، فلذلك قيّد به، أو أنّ الوصف ذُكِر لتأكيد التّحريم. ولَم يقصد به إخراج ممّا سواه. والله أعلم. قوله: (مسيرة يوم وليلة) كذا مقيّداً بمسيرة يوم وليلة، وعنه روايات أخرى، وحديث ابن عمر في الصحيحين مقيّداً بثلاثة أيّام، وعنه روايات أخرى أيضاً , ولهما عن ابن عباس: لاتسافر المرأة إلاَّ مع ذي محرم. كذا أطلق السّفر , وقيّده في حديث أبي سعيد في الصحيحين فقال " مسيرة يومين ". وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التّقييدات. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1038) ومسلم (1339) من طرق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به. واللفظ للبخاري. ولمسلم (1339) من رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وفيه. أن تسافر ثلاثاً .. (¬2) لَم أر هذا اللفظ في البخاري. وإنما هو أحد روايات مسلم من الطريق المتقدّم

وقال النّوويّ: ليس المراد من التّحديد ظاهره، بل كلّ ما يسمّى سفراً فالمرأة منهيّة عنه إلاَّ بالمَحرم، وإنّما وقع التّحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. وقال ابن المنير: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السّائلين. وقال المنذريّ: يحتمل أن يقال: إنّ اليوم المفرد والليلة المفردة بمعنى اليوم والليلة، يعني فمن أطلق يوماً أراد بليلته. أو ليلة أراد بيومها , وأن يكون عند جمعهما أشار إلى مدّة الذّهاب والرّجوع، وعند إفرادهما أشار إلى قدر ما تقضي فيه الحاجة. قال: ويحتمل: أن يكون هذا كلّه تمثيلاً لأوائل الأعداد، فاليوم أوّل العدد والاثنان أوّل التّكثير والثّلاث أوّل الجمع، وكأنّه أشار إلى أنّ مثل هذا في قلة الزّمن لا يحلّ فيه السّفر فكيف بما زاد؟. ويحتمل: أن يكون ذِكْر الثّلاث قبل ذِكْر ما دونها , فيؤخذ بأقلّ ما ورد في ذلك , وأقلّه الرّواية التي فيها ذكر البريد، فعلى هذا يتناول السّفر طويل السّير وقصيره، ولا يتوقّف امتناع سير المرأة على مسافة القصر خلافاً للحنفيّة. وحجّتهم: أنّ المنع المقيّد بالثّلاث متحقّق. وما عداه مشكوك فيه , فيؤخذ بالمتيقّن. ونوقض: بأنّ الرّواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما عداها فإنّه مشكوك فيه، ومن قواعد الحنفيّة تقديم الخبر العامّ على الخاصّ، وترك حمل المطلق على المقيّد، وقد خالفوا ذلك

هنا، والاختلاف إنّما وقع في الأحاديث التي وقع فيها التّقييد، بخلاف حديث ابن عبّاس فإنّه لَم يختلف عليه فيه. وفرّق سفيان الثّوريّ. بين المسافة البعيدة فمنعها دون القريبة. واستُدلَّ بالحديث على عدم جواز السّفر للمرأة بلا محرم، وهو إجماع في غير الحجّ والعمرة والخروج من دار الشّرك، ومنهم من جعل ذلك من شرائط الحجّ كما سيأتي وتمسّك أحمد بعموم الحديث , فقال: إذا لَم تجد زوجاً أو محرماً لا يجب عليها الحجّ، هذا هو المشهور عنه. وعنه رواية أخرى كقول مالك , وهو تخصيص الحديث بغير سفر الفريضة، قالوا: وهو مخصوص بالإجماع. قال البغويّ: لَم يختلفوا في أنّه ليس للمرأة السّفر في غير الفرض إلاَّ مع زوج أو محرم , إلاَّ كافرة أسلمتْ في دار الحرب أو أسيرة تخلصت. وزاد غيره: أو امرأة انقطعت من الرّفقة فوجدها رجلٌ مأمونٌ , فإنّه يجوز له أن يصحبها حتّى يبلغها الرّفقة. قالوا: وإذا كان عمومه مخصوصاً بالاتّفاق. فيخصّ منه حجّة الفريضة. وأجاب صاحب " المغني ": بأنّه سفر الضّرورة فلا يقاس عليه حالة الاختيار، ولأنّها تدفع ضرراً متيقّناً بتحمّل ضرر متوهّم. ولا كذلك السّفر للحجّ. وقد روى الدّارقطنيّ وصحَّحه أبو عوانة حديث الباب (¬1) من ¬

_ (¬1) أي: ما أخرجه البخاري في " صحيحه " (1862) , ومواضع أخرى , ومسلم (1341) من طريق سفيان وابن جريج وحماد بن زيد كلهم عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس - رضي الله عنهم -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تسافر المرأة إلاَّ مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجلٌ إلاَّ ومعها محرم، فقال رجلٌ: يا رسول الله. إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: اخرج معها ". ونسبه الشارح للدارقطني وأبي عوانة لتصريح الرواية بالحج.

طريق ابن جريجٍ عن عمرو بن دينار بلفظ " لا تحجّن امرأة إلاَّ ومعها ذو محرم " فنصّ في نفس الحديث على منع الحجّ. فكيف يخصّ من بقيّة الأسفار؟. والمشهور عند الشّافعيّة اشتراط الزّوج أو المَحرم أو النّسوة الثّقات. وفي قول: تكفي امرأة واحدة ثقة. وفي قول: نقله الكرابيسيّ وصحَّحه في المهذّب. تسافر وحدها إذا كان الطّريق آمناً. وهذا كلّه في الواجب من حجّ أو عمرة , وأغرب القفّال فطرده في الأسفار كلّها، واستحسنه الرّويانيّ قال: إلاَّ أنّه خلاف النّصّ. قلت: وهو يعكّر على نفي الاختلاف الذي نقله البغويّ آنفاً. واختلفوا هل المَحْرَم وما ذكر معه شرط في وجوب الحجّ عليها؟ أو شرط في التّمكّن فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذّمّة؟ وعبارة أبي الطّيّب الطّبريّ منهم: الشّرائط التي يجب بها الحجّ على الرّجل يجب بها على المرأة، فإذا أرادت أن تؤدّيه فلا يجوز لهم إلاَّ مع محرم أو زوج أو نسوة ثقات. ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النّسوة الثّقات إذا أمن

الطّريق , ما أخرجه البخاري , أنّ عمر - رضي الله عنه - أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجةٍ حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف ". لاتّفاق عمر وعثمان وعبد الرّحمن بن عوف ونساء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وعدم نكير غيرهم من الصّحابة عليهنّ في ذلك. ومن أبى ذلك من أمّهات المؤمنين. فإنّما أباه من جهة خاصّة لا من جهة توقّف السّفر على المَحرم. ولَم يختلفوا أنّ النّساء كلّهنّ في ذلك سواء , إلاَّ ما نقل عن أبي الوليد الباجيّ , أنّه خصّه بغير العجوز التي لا تشتهى، وكأنّه نقله من الخلاف المشهور في شهود المرأة صلاة الجماعة. قال ابن دقيق العيد: الذي قاله الباجيّ تخصيص للعموم بالنّظر إلى المعنى، يعني مع مراعاة الأمر الأغلب. وتعقّبوه بأنّ لكل ساقطة لاقطة، والمتعقّب راعى الأمر النّادر وهو الاحتياط. قال: والمتعقّب على الباجيّ يرى جواز سفر المرأة في الأمن وحدها فقد نظر أيضاً إلى المعنى، يعني فليس له أن ينكر على الباجيّ، وأشار بذلك إلى الوجه المتقدّم والأصحّ خلافه. وقد احتجّ له بحديث عديّ بن حاتم مرفوعاً: يوشك أن تخرج الظّعينة من الحيرة تؤمّ البيت لا زوج معها .. الحديث. وهو في البخاريّ. وتعقّب: بأنّه يدلّ على وجود ذلك لا على جوازه. وأجيب: بأنّه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام. فيحمل على

الجواز. ومن المستظرف أنّ المشهور من مذهب من لَم يشترط المَحرم أنّ الحجّ على التّراخي، ومن مذهب من يشترطه أنّه حجّ على الفور، وكان المناسب لهذا قول هذا وبالعكس. وأمّا ما قال النّوويّ في شرح حديث جبريل في بيان الإيمان والإسلام عند قوله " أن تلد الأمة ربّتها ": فليس فيه دلالة على إباحة بيع أمّهات الأولاد , ولا منع بيعهنّ، خلافاً لمن استدل به في كلّ منهما، لأنّه ليس في كلّ شيء أخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنّه سيقع يكون محرّماً , ولا جائزاً. انتهى. وهو كما قال، لكنّ القرينة المذكورة تقوّي الاستدلال به على الجواز. قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة تتعلق بالعامَّين إذا تعارضا، فإنّ قوله تعالى (ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) عامّ في الرّجال والنّساء، فمقتضاه أنّ الاستطاعة على السّفر إذا وجدت وجب الحجّ على الجميع، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسافر المرأة إلاَّ مع محرم. عامٌّ في كلّ سفر فيدخل فيه الحجّ، فمن أخرجه عنه خصّ الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خصّ الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى التّرجيح من خارج، وقد رجح المذهب الثّاني بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. , وليس ذلك بجيّدٍ , لكونه عامّاً في المساجد فيخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السّفر بحديث النّهي. انتهى

تنْبيه: قال شيخنا ابن الملقّن تبعاً لشيخه مغلطاي: الهاء في قوله " مسيرة يوم وليلة " للمرّة الواحدة، والتّقدير أن تسافر مرّة واحدة مخصوصة بيومٍ وليلة. ولا سلف له في هذا الإعراب، ومسيرة إنّما هي مصدر سار كقوله سيراً مثل عاش معيشة وعيشاً. قوله: (ليس معها حُرْمة) أي: محرم قوله: (إلاَّ مع ذي محرم) أي: فيحلّ، ولَم يصرّح بذكر الزّوج، وفي حديث أبي سعيد في البخاري بلفظ " ليس معها زوجها أو ذو محرم منها " ووقع لمسلم " إلاَّ ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرمٍ منها ". وضابط المَحرم عند العلماء: من حرُم عليه نكاحها على التّأبيد بسببٍ مباح لحرمتها، فخرج بالتّأبيد أخت الزّوجة وعمّتها , وبالمباح أمّ الموطوءة بشبهةٍ وبنتها وبحرمتها الملاعنة. واستثنى أحمد من حرُمت على التّأبيد مسلمةً لها أب كتابيّ , فقال: لا يكون محرماً لها , لأنّه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها إذا خلا بها. ومَن قال: إنّ عبد المرأة مَحرم لها يحتاج أن يزيد في هذا الضّابط ما يدخله، وقد روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعاً: سفر المرأة مع عبدها ضيعة. لكن في إسناده ضعف. وقد احتجّ به أحمد وغيره، وينبغي لمن أجاز ذلك أن يقيّده بما إذا كانا في قافلة بخلاف ما إذا كانا وحدهما فلا. لهذا الحديث.

وفي آخر حديث ابن عبّاس (¬1) ما يشعر بأنّ الزّوج يدخل في مسمّى المَحرم، فإنّه لَمّا استثنى المَحرم , فقال القائل: إنّ امرأتي حاجّة. فكأنّه فهم حال الزّوج في المَحرم، ولَم يردّ عليه ما فهمه , بل قيل له " اخرج معها ". واستثنى بعض العلماء ابن الزّوج. فكره السّفر معه لغلبة الفساد في النّاس. قال ابن دقيق العيد: هذه الكراهية عن مالك، فإن كانت للتّحريم ففيه بعد لمخالفة الحديث، وإن كانت للتّنزيه فيتوقّف على أنّ لفظ " لا يحلّ " هل يتناول المكروه الكراهة التّنزيهيّة؟. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق.

باب الفدية

باب الفدية الحديث السابع 222 - عن عبد الله بن معقلٍ, قال: جلستُ إلى كعب بن عُجْرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت فِيَّ خاصّةً. وهي لكم عامّةً. حُملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي , فقال: ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أَرَى , أو ما كنت أرى الجَهد بلغ بك ما أرى , أتجد شاةً؟ فقلت: لا , فقال: صم ثلاثة أيّامٍ , أو أطعم ستّة مساكين , لكل مسكينٍ نصف صاعٍ. (¬1) وفي روايةٍ: فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُطعم فَرَقاً بين ستّةٍ , أو يهدي شاةً , أو يصوم ثلاثة أيّامٍ. (¬2) تمهيد: نقل ابن عبد البرّ عن أحمد بن صالح المصريّ , قال: حديث كعب بن عُجْرة في الفدية سنّة معمول بها لَم يروها من الصّحابة غيره، ولا رواها عنه إلاَّ ابن أبي ليلى وابن معقل. قال: وهي سنّة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة. قال الزّهريّ: سألت عنها علماءنا كلّهم حتّى سعيد بن المسيّب فلم يبيّنوا كم عدد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1721 , 4245) ومسلم (1201) من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل به. (¬2) أخرجه البخاري (1719 , 1720، 1722، 3927، 3954، 3955، 4245، 5341، 5376، 6330) ومسلم (1201) من طرق عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - نحو رواية عبد الله بن معقل الماضية.

المساكين. قلت: فيما أطلقه ابن صالح نظرٌ، فقد جاءت هذه السّنّة من رواية جماعة من الصّحابة غير كعب، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطّبريّ والطّبرانيّ، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور، وابن عمر عند الطّبريّ، وفضالة الأنصاريّ عمّن لا يتّهم من قومه عند الطّبريّ أيضاً. ورواه عن كعب بن عُجْرة غير المذكورين , أبو وائل عند النّسائيّ، ومحمّد بن كعب القرظيّ عند ابن ماجه، ويحيى بن جعدة عند أحمد، وعطاء عند الطّبريّ. وجاء عن أبي قلابة والشّعبيّ أيضاً عن كعب. وروايتهما عند أحمد، لكنّ الصّواب أنّ بينهما واسطة. وهو ابن أبي ليلى على الصّحيح. وقد أورد البخاريّ حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية، وأورده أيضاً في المغازي والطّبّ وكفّارات الأيمان من طرق أخرى , مدار الجميع على ابن أبي ليلى وابن معقل، فيقيّد إطلاق أحمد بن صالح بالصّحّة فإنّ بقيّة الطّرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلاَّ طريق أبي وائل. وسأذكر ما في هذه الطّرق من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. قوله: (عن عبد الله بن معقل) بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف هو ابن مقرّن - بالقاف وزن محمّد لكن بكسر الرّاء - لأبيه صحبة. وهو من ثقات التّابعين بالكوفة، وليس له في البخاريّ سوى هذا

الحديث وآخر عن عديّ بن حاتم، مات سنة ثمان وثمانين من الهجرة. يلتبس بعبد الله بن مغفّل - بالغين المعجمة وزن محمّد - ويجتمعان في أنّ كلاً منهما مزنيّ، لكن يفترقان بأنّ الرّاوي عن كعب تابعيّ والآخر صحابيّ. وفي التّابعين من اتّفق مع الرّاوي عن كعب في اسمه واسم أبيه ثلاثة: أحدهم: يروي عن عائشة. وهو محاربيّ. والآخر: يروي عن أنس في المسح على العمامة. وحديثه عند أبي داود. والثّالث: أصغر منهما. أخرج له ابن ماجه قوله: (جلست إلى كعب بن عُجْرة) (¬1) زاد مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عنه " وهو في المسجد "، ولأحمد عن بهز " قعدت إلى كعب بن عُجْرة في هذا المسجد " وزاد في رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهانيّ " يعني مسجد الكوفة ". وفيه الجلوس في المسجد , ومذاكرة العلم , والاعتناء بسبب النّزول لِمَا يترتّب عليه من معرفة الحكم وتفسير القرآن. قوله: (نزلت في خاصة، وهي لكم عامة , حُملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي) وللبخاري من رواية حميد بن قيس ¬

_ (¬1) تقدّمت ترجمة كعب - رضي الله عنه - في الصلاة برقم (125).

عن مجاهد " لعلك آذاك هوامّك " , وفي رواية عبد الكريم عن ابن أبي ليلى عند مالك , أنّه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم فآذاه القمل. وفي رواية سيف عن مجاهد في البخاري " وقف عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً فقال: أيؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك - الحديث. وفيه - قال: فيَّ نزلت هذه الآية (فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه). زاد في رواية أبي الزّبير عن مجاهد عند الطّبرانيّ " أنّه أهلَّ في ذي القعدة " وفي رواية مغيرة عن مجاهد عند الطّبريّ " أنّه لقيه وهو عند الشّجرة وهو محرم ". وفي رواية أيّوب عن مجاهد في البخاري " أتى عليّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أوقد تحت برمة. والقمل يتناثر على رأسي " زاد في رواية ابن عون عن مجاهد " فقال: ادن، فدنوت. فقال: أيؤذيك؟ ". وفي رواية ابن بشر عن مجاهد فيه قال: كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرةٌ. فجعلتِ الهوامّ تتساقط على وجهي، فقال: أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قلت: نعم. فأنزلت هذه الآية. وفي رواية أبي وائل عن كعب " أحرمت فكثر قمل رأسي. فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأتاني وأنا أطبخ قدراً لأصحابي ". وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند البخاري " رآه وإنّه ليسقط القمل على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامّك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ,

ولَم يبيّن لهم أنّهم يحلّون، وهم على طمع أن يدخلوا مكّة، فأنزل الله الفدية " وأخرجه الطّبرانيّ من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد. بهذه الزّيادة. ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة عن كعب " قملت حتّى ظننت أنّ كلّ شعرة في رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها " زاد سعيد " وكنت حسن الشّعر ". ولأحمد من وجه آخر عن سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عن ابن معقل " وقع القمل في رأسي ولحيتي حتّى حاجبي وشاربي، فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليّ فدعاني، فلمّا رآني قال: لقد أصابك بلاء ونحن لا نشعر، ادع إليّ الحجّام، فحلقني ". ولأبي داود من طريق الحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن كعب: أصابتني هوامّ حتّى تخوّفت على بصري ". وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطّبريّ " فحكّ رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل " زاد الطّبريّ من طريق الحكم " إنّ هذا لأذىً، قلت: شديد يا رسولَ الله ". والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرّ به فرآه، وفي قول عبد الله بن معقل , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه فرآه. أن يقال: مرّ به أوّلاً فرآه على تلك الصّورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته، فنقل كلُّ واحدٍ منهما ما لَم ينقله الآخر.

ويوضّحه قوله في رواية ابن عون عن مجاهد عند البخاري حيث قال فيها: فقال: ادن فدنوت. فالظّاهر أنّ هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إيّاه إذ مرّ به وهو يوقد تحت القدر. قال القرطبيّ قوله " لعلك آذاك هوامّك ": هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتّب عليها الحكم، فلمّا أخبره بالمشقّة التي نالته خفّف عنه. و" الهوامّ " بتشديد الميم جمع هامّة. وهي ما يدبّ من الأخشاش، والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالباً إذا طال عهده بالتّنظيف، وقد عيّن في كثير من الرّوايات أنّها القمل. واستدل به على أنّ الفدية مرتّبة على قتل القمل. وتعقّب: بذكر الحلق، فالظّاهر أنّ الفدية مرتّبة عليه، وهما وجهان عند الشّافعيّة، يظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولَم يقتل قملاً. قوله: (ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أَرى) في رواية المستملي والحمويّ " يبلغ بك ". وأُرى الأولى بضمّ الهمزة. أي: أظنّ، وأَرى الثّانية بفتح الهمزة من الرّؤية، وكذا في قوله " أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك " وهو شكّ من الرّاوي هل قال الوجع أو الجهد؟. والجهد: بالفتح المشقّة، قال النّوويّ: والضّمّ لغة في المشقّة أيضاً، وكذا حكاه عياض عن ابن دريد. وقال صاحب العين: بالضّمّ الطّاقة وبالفتح المشقّة.

فيتعيّن الفتح هنا بخلاف لفظ الجهد في حديث بدء الوحي حيث قال " حتّى بلغ منّي الجهد " فإنّه محتمل للمعنيين. قوله: (أتجد شاةً؟) ولأبي داود في رواية أخرى " أمعك دم؟ قال: لا. قال: فإن شئت فصم " ونحوه للطّبرانيّ من طريق عطاء عن كعب، ووافقهم أبو الزّبير عن مجاهد عند الطّبرانيّ. وزاد بعد قوله ما أجد هدياً " قال: فأطعم. قال: ما أجد. قال: صم ". ولهذا قال أبو عوانة في " صحيحه ": فيه دليل على أنّ من وجد نسكاً لا يصوم، يعني ولا يطعم. لكن لا أعرف مَن قال بذلك من العلماء. إلاَّ ما رواه الطّبريّ وغيره عن سعيد بن جبير قال: النّسك شاة، فإن لَم يجد قوّمت الشّاة دراهم والدّراهم طعاماً فتصدّق به أو صام لكل نصف صاع يوماً. أخرجه من طريق الأعمش عنه قال: فذكرته لإبراهيم , فقال: سمعت علقمة مثله. فحينئذٍ يحتاج إلى الجمع بين الرّوايتين. وقد جُمع بينهما بأوجهٍ. الوجه الأول: ما قال ابن عبد البرّ: إنّ فيه الإشارة إلى ترجيح التّرتيب لا لإيجابه الوجه الثاني: ما قال النّوويّ: ليس المراد أنّ الصّيام أو الإطعام لا يجزئ إلاَّ لفاقد الهدي، بل المراد أنّه استخبره: هل معه هدي أو لا؟ فإن كان واجده أعلمه أنّه مخيّر بينه وبين الصّيام والإطعام، وإن لَم يجده أعلمه أنّه مخيّر بينهما.

ومحصّله أنّه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذّبح تعيينه لاحتمال أنّه لو أعلمه أنّه يجده لأخبره بالتّخيير بينه وبين الإطعام والصّوم. الوجه الثالث: ما قال غيرهما: يحتمل أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى. أفتاه بأن يكفّر بالذّبح على سبيل الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - , أو بوحيٍ غير متلوٍّ، فلمّا أعلمه أنّه لا يجد نزلت الآية بالتّخيير بين الذّبح والإطعام والصّيام. فخيّره حينئذٍ بين الصّيام والإطعام. لعلمه بأنّه لا ذبح معه، فصام لكونه لَم يكن معه ما يطعمه. ويوضّح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال " أتجد شاة؟ قلت: لا. فنزلت هذه الآية (ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ) فقال: صم ثلاثة أيّام أو أطعم ". وفي رواية عطاء الخراسانيّ قال " صم ثلاثة أيّام أو أطعم ستّة مساكين " قال " وكان قد علم أنّه ليس عندي ما أنسك به ". ونحوه في رواية محمّد بن كعب القرظيّ عن كعب. وسياق الآية يشعر بتقديم الصّيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره، بل السّرّ فيه أنّ الصّحابة الذين خوطبوا شفاهاً بذلك كان أكثرهم يقدر على الصّيام أكثر ممّا يقدر على الذّبح والإطعام. وعُرف من رواية أبي الزّبير , أنّ كعباً افتدى بالصّيام. ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنّه افتدى بالذّبح لأنّ لفظه "

صم أو أطعم أو انسك شاة. قال: فحلقت رأسي ونسكت ". وروى الطّبرانيّ من طريق ضعيفة عن عطاء عن كعب في آخر هذا الحديث " فقلت: يا رسولَ الله خر لي، قال: أطعم ستّة مساكين. قوله: (فقلت: لا) زاد (¬1) مسلم وأحمد " فنزلت هذه الآية (ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ) قال: صوم ثلاثة أيّام " الحديث. قوله: (لكل مسكين نصف صاع) وللطّبرانيّ عن أحمد بن محمّد الخزاعيّ عن أبي الوليد - شيخ البخاريّ فيه - عن شعبة " لكل مسكين نصف صاع تمر " ولأحمد عن بهز عن شعبة " نصف صاع طعام " ولبشر بن عمر عن شعبة " نصف صاع حنطة ". ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى تقتضي أنّه نصف صاع من زبيب. فإنّه قال " يطعم فرقاً من زبيب بين ستّة مساكين ". قال ابن حزم: لا بدّ من ترجيح إحدى هذه الرّوايات , لأنّها قصّة واحدة في مقام واحد في حقّ رجل واحد. قلت: المحفوظ عن شعبة أنّه قال في الحديث " نصف صاع من طعام " والاختلاف عليه في كونه تمراً أو حنطة لعله من تصرّف الرّواة. ¬

_ (¬1) قوله (زاد) أي: من هذا الطريق. وهو طريق عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة , وهي الرواية التي ساقها صاحب العمدة. وإلاّ فنزول هذه الآية بهذا السبب ثابت في الصحيحين من طريق ابن أبي ليلى عن كعب - رضي الله عنه -.

وأمّا الزّبيب. فلم أره إلاَّ في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود وفي إسنادها ابن إسحاق، وهو حجّة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف. والمحفوظ رواية التّمر. فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى , ولَم يختلف فيه على أبي قلابة. وكذا أخرجه الطّبريّ من طريق الشّعبيّ عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قرم عن ابن الأصبهانيّ، ومن طريق أشعث وداود الشّعبيّ عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطّبرانيّ. وعُرف بذلك قوّة قول مَن قال: لا فرق في ذلك بين التّمر والحنطة. وأنّ الواجب ثلاثة آصعٍ لكل مسكين نصف صاع. ولمسلمٍ عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب في هذا الحديث " وأطعم فرقاً بين ستّة مساكين " والفرق ثلاثة آصعٍ. وأخرجه الطّبريّ من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة فقال فيه: قال سفيان: والفرق ثلاثة آصعٍ " فأشعر بأنّ تفسير الفرق مدرج، لكنّه مقتضى الرّوايات الأخر، ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهانيّ عند أحمد " لكل مسكين نصف صاع ". وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضاً " أو أطعم ستّة مساكين مدّين مدّين ". وأمّا ما وقع في بعض النّسخ عند مسلم من رواية زكريّا عن ابن الأصبهانيّ " أو يطعم ستّة مساكين لكل مسكين صاع " فهو تحريف

ممّن دون مسلم، والصّواب ما في النّسخ الصّحيحة " لكل مسكينين " بالتّثنية، وكذا أخرجه مسدّد في " مسنده " عن أبي عوانة عن ابن الأصبهانيّ على الصّواب. قوله: (فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقاً بين ستّةٍ , أو يهدي شاةً , أو يصوم ثلاثة أيّامٍ) وللبخاري من طريق مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد بلفظ " احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة ". والنّسك يطلق على العبادة وعلى الذّبح المخصوص، وسياق رواية البخاري موافق للآية، وقد تقدّم أنّ كعباً قال: إنّها نزلت بهذا السّبب. قال البخاري: وقد خيّر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كعباً في الفدية، ويذكر عن ابن عبّاس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار. انتهى. وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التّصريح. ما أخرجه أبو داود من طريق الشّعبيّ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عُجْرة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيّام، وإنّ شئت فأطعم .. الحديث. ووافقتها رواية عبد الوارث عن ابن أبي نجيح. أخرجها مسدّد في " مسنده " , ومن طريقه الطّبرانيّ. وفي رواية مالك في " الموطّإ " عن عبد الكريم عن ابن أبي ليلى في

آخر الحديث " أيّ ذلك فعلت أجزأ " قوله: (أن يطعم فرقاً بين ستّةٍ) فيه أنّ الصّدقة في الآية مبهمة فسّرتها السّنّة، وبهذا قال جمهور العلماء. وروى سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عن الحسن قال: الصّوم عشرة أيّام، والصّدقة على عشرة مساكين. وروى الطّبريّ عن عكرمة ونافع نحوه. قال ابن عبد البرّ: لَم يقل بذلك أحدٌ من فقهاء الأمصار. قوله: (فرقاً) بفتح الفاء والرّاء وقد تسكّن، قاله ابن فارس. وقال الأزهريّ: كلام العرب بالفتح، والمحدّثون قد يسكّنونه، وآخره قاف: مكيال معروف بالمدينة وهو ستّة عشر رطلاً. ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد وغيره " الفرق ثلاثة آصعٍ ". ولمسلمٍ من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى " أو أطعم ثلاثة آصعٍ من تمر على ستّة مساكين ". وإذا ثبت أنّ الفَرَقَ ثلاثة آصعٍ اقتضى أنّ الصّاع خمسة أرطال وثلث خلافاً لمَن قال: إنّ الصّاع ثمانية أرطال. قوله: (أو يهدي شاةً) وهو النّسك المذكور في الآية حيث قال (أو نسك) وروى الطّبريّ من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث " فأنزل الله (ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ) والنّسك شاة ".

ومن طريق محمّد بن كعب القرظيّ عن كعب " أمرني أن أحلق وأفتدي بشاةٍ ". قال عياض ومن تبعه تابعاً لأبي عمر: كلّ من ذكر النّسك في هذا الحديث مفسّراً فإنّما ذكروا شاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. قلت: يعكّر عليه ما أخرجه أبو داود من طريق نافع عن رجل من الأنصار عن كعب بن عُجْرة , أنّه أصابه أذًى فحلق فأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي بقرة. وللطّبرانيّ من طريق عبد الوهّاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر قال: حلق كعب بن عُجْرة رأسه، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتدي، فافتدى ببقرةٍ. ولعبد بن حميدٍ من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر قال: افتدى كعبٌ من أذىً كان برأسه فحلقه ببقرةٍ قلدها وأشعرها. ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن سليمان بن يسار , قيل لابن كعب بن عُجْرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة. فهذه الطّرق كلّها تدور على نافع، وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه وبين كعب. وقد عارضها ما هو أصحّ منها. مِن أنّ الذي أُمر به كعب وفعله في النّسك إنّما هو شاة. وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميدٍ من طريق المقبريّ عن أبي

هريرة: أنّ كعب بن عُجْرة ذبح شاة لأذًى كان أصابه. وهذا أصوب من الذي قبله. واعتمد ابن بطّال على رواية نافع بن سليمان بن يسار فقال: أخذ كعب بأرفع الكفّارات، ولَم يُخالف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره به من ذبح شاة، بل وافق وزاد. ففيه أنّ من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب. قلت: هو فرع ثبوت الحديث، ولَم يثبت لِمَا قدّمته. والله أعلم. قوله: (صم ثلاثة أيّامٍ) الصّيام المطلق في الآية مقيّد بما ثبت في الحديث بالثّلاث. قال ابن التّين وغيره: جعل الشّارع هنا صوم يوم معادلاً بصاعٍ، وفي الفطر من رمضان عدل مدّ، وكذا في الظّهار والجماع في رمضان، وفي كفّارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أنّ القياس لا يدخل في الحدود والتّقديرات. وفي حديث كعب بن عُجْرة من الفوائد غير ما تقدّم. أنّ السّنّة مبيّنة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسّنّة، وتحريم حلق الرّأس على المُحرم، والرّخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع. وفيه تلطّف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقّده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضرراً سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه. واستنبط منه بعض المالكيّة. إيجاب الفدية على من تعمّد حلق رأسه

بغير عذر، فإنّ إيجابها على المعذور من التّنبيه بالأدنى على الأعلى. لكن لا يلزم من ذلك التّسوية بين المعذور وغيره. ومن ثَمَّ قال الشّافعيّ والجمهور: لا يتخيّر العامد بل يلزمه الدّم، وخالف في ذلك أكثر المالكيّة. واحتجّ لهم القرطبيّ بقوله في حديث كعب " أو اذبح نسكاً " قال: فهذا يدلّ على أنّه ليس بهديٍ. قال: فعلى هذا يجوز أن يذبحها حيث شاء. قلت: لا دلالة فيه. إذ لا يلزم تسميتها نسكاً أو نسيكة أنْ لاَّ تسمّى هدياً , أو لا تعطى حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هدياً حيث قال " أو تهدي شاة ". وفي رواية مسلم " واهد هدياً " وفي رواية للطّبريّ " هل لك هدي؟ قلت: لا أجد " فظهر أنّ ذلك من تصرّف الرّواة. ويؤيّده قوله في رواية مسلم " أو اذبح شاة ". واستدل به على أنّ الفدية لا يتعيّن لها مكان، وبه قال أكثر التّابعين. وقال الحسن: تتعيّن مكّة. وقال مجاهد: النّسك بمكّة ومنًى، والإطعام بمكّة، والصّيام حيث شاء. وقريب منه قول الشّافعيّ وأبي حنيفة: الدّم والإطعام لأهل الحرم، والصّيام حيث شاء إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم. وألْحَقَ بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكيّة

الإطعام بالصّيام. واستُدلّ به على أنّ الحجّ على التّراخي , لأنّ حديث كعب دلَّ على أنّ نزول قوله تعالى (وأتمّوا الحجّ والعمرة لله) كان بالحديبية. وهي في سنة ستّ. وفيه بحث (¬1). والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر ص (350).

باب حرمة مكة

باب حرمة مكة الحديث الثامن 223 - عن أبي شُريح خويلد بن عمرٍو الخزاعيّ العدويّ (¬1) - رضي الله عنه -: أنّه قال لعمرو بن سعيد بن العاص - وهو يبعث البعوث إلى مكّة -: ائذن لي أيّها الأمير أن أحدّثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح. فسمِعتْه أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرتْه عيناي , حين تكلَّم به: أنّه حمد الله وأثنى عليه. ثمّ قال: إنّ مكّة حرّمها الله تعالى , ولَم يحرِّمها النّاس. فلا يحلُّ لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر: أن يسفك بها دماً , ولا يعضد بها شجرةً. فإنْ أحدٌ ترخَّصَ بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إنّ الله قد أذن لرسوله , ولَم يأذن لكم. وإنّما أذن لي ساعةً من نهارٍ , وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , فليبلغ الشّاهد الغائب. فقيل لأبي شُريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شُريح، إنّ الحرم لا يُعيذ عاصياً , ولا فارّاً بدمٍ , ولا فارّاً بِخَرْبةٍ. (¬2) قال المُصنف: الخربة: بالخاء بالمعجمة والراء المهملة. قيل: الخيانة , وقيل: البلية , وقيل: الهمة. وأصلها في سرقة الإبل. ¬

_ (¬1) هذه التسمية من مؤلف العمدة رحمه الله , وليست في الصحيحين. وأورده البخاري في كتاب العلم " عن أبي شُريح " فقط , أمّا في الحج والمغازي. وكذا مسلم فقد قال (عن أبي شريح العدوي) ولذا قال ابن حجر رحمه الله كما سيأتي في الشرح: كذا وقع هنا. (¬2) أخرجه البخاري (104 , 1735 , 4044) ومسلم (1354) من طريق الليث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح العدوي - رضي الله عنه -.

قال الشاعر: والخارب اللصُّ يحب الخاربا. قوله: (عن أبي شُريح .. العدوي) كذا وقع هنا، وفيه نظر (¬1). لأنّه خزاعيّ من بني كعب بن ربيعة بن لحيّ، بطن من خزاعة، ولهذا يقال له الكعبيّ أيضاً، وليس هو من بني عديّ، لا عديّ قريش ولا عديّ مضر، فلعله كان حليفاً لبني عديّ بن كعب من قريش. وقيل: في خزاعة بطن يقال لهم بنو عديّ. وقد وقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد " سمعت أبا شُريح " أخرجه أحمد. واختلف في اسمه: فالمشهور أنّه خويلد بن عمرو، وقيل: ابن صخر، وقيل: هانئ بن عمرو، وقيل: عبد الرّحمن، وقيل: كعب، وقيل: عمرو بن خويلد، وقيل: مطر، أسلم قبل الفتح. وحمل بعضَ أَلْويةِ قومه، وسكن المدينة ومات بها سنة ثمان وستّين، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث وحديثين آخرين. قوله: (لعمرو بن سعيد) هو ابن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أُميَّة القرشيّ الأمويّ يعرف بالأشدق. وليست له صحبة , ولا كان من التّابعين بإحسانٍ. ¬

_ (¬1) تَرَاجَعَ الشارح رحمه الله عن هذا. فقال في المغازي من الفتح (8/ 28): كنت جوَّزتُ في الكلام على حديث الباب في الحج أنه من حلفاء بني عدي بن كعب , وذلك لأنني رأيته في طريق أخرى " الكعبي " نسبةً إلى بني كعب بن ربيعة بن عمرو بن لحي، ثم ظهر لي أنه نُسب إلى بني عدي بن عمرو بن لحي. وهم إخوة كعب، ويقع هذا في الأنساب كثيراً ينسبون إلى أخي القبيلة. انتهى

ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق عن سعيد المقبريّ. زيادة في أوّله توضّح المقصود. وهي: لَمّا بعث عمرو بن سعيد إلى مكّة بعثه لغزو ابن الزّبير أتاه أبو شُريح فكلَّمه , وأخبره بما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ خرج إلى نادي قومه فجلس فيه، فقمت إليه فجلست معه فحدّث قومه , قال: قلت له: يا هذا إنّا كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح مكّة، فلمّا كان الغد من يوم الفتح عَدَتْ خُزاعة على رجلٍ من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً. فذكر الحديث. وأخرج أحمد أيضاً من طريق الزّهريّ عن مسلم بن يزيد الليثيّ عن أبي شُريح الخزاعيّ أنّه سمعه يقول: أذن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في قتال بني بكر حتّى أصبنا منهم ثأرنا وهو بمكّة، ثمّ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضع السّيف، فلقي الغد رهطٌ منّا رجلاً من هذيل في الحرم يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد كان وترهم في الجاهليّة , وكانوا يطلبونه فقتلوه، فلمّا بلغ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غضب غضباً شديداً ما رأيته غضب أشدّ منه، فلمّا صلَّى. قام فأثنى على الله بما هو أهله , ثمّ قال: أمّا بعد. فإنّ الله حرّم مكّة. انتهى وقد ذكر أبو هريرة في حديثه هذه القصّة مختصرة في البخاري، في كتاب العلم , وذكرنا أنّ عمرو بن سعيد كان أميراً على المدينة من قِبَل يزيد بن معاوية , وأنّه جهّز إلى مكّة جيشاً لغزو عبد الله بن الزّبير بمكّة.

وقد ذكر الطّبريّ القصّة عن مشايخه , فقالوا: كان قدوم عمرو بن سعيد والياً على المدينة من قِبَل يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستّين. وقيل: قدمها في رمضان منها - وهي السّنة التي ولي فيها يزيد الخلافة - فامتنع ابن الزّبير من بيعته وأقام بمكّة، فجهّز إليه عمرو بن سعيد جيشاً وأمّر عليهم عمرو بن الزّبير , وكان معادياً لأخيه عبد الله، وكان عمرو بن سعيد قد ولاه شرطته , ثمّ أرسله إلى قتال أخيه، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه فامتنع، وجاء أبو شُريح فذكر القصّة، فلمّا نزل الجيش ذا طوىً خرج إليهم جماعة من أهل مكّة فهزموهم وأسر عمرو بن الزّبير فسجنه أخوه بسجن عارم، وكان عمرو بن الزّبير قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممّن اتّهم بالميل إلى أخيه. فأقادهم عبد الله منه. حتّى مات عمرو من ذلك الضّرب. تنْبيه: وقع في " السّيرة " لابن إسحاق و " مغازي " الواقديّ: أنّ المراجعة المذكورة وقعت بين أبي شُريح وبين عمرو بن الزّبير، فإن كان محفوظاً احتمل أن يكون أبو شُريح راجع الباعث والمبعوث، والله أعلم. قوله: (وهو يبعث البعوث) هي جمع بعث بمعنى مبعوث. وهو من تسمية المفعول بالمصدر. والمراد به الجيش المجهّز للقتال. أي: يرسل الجيوش إلى مكّة لقتال عبد الله بن الزّبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم

بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة، والقصّة مشهورة. وملخّصها: أنّ معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية، فبايعه النّاس إلاَّ الحسين بن عليّ وابن الزّبير، فأمّا ابن أبي بكر فمات قبل موت معاوية، وأمّا ابن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأمّا الحسين بن عليّ فسار إلى الكوفة لاستدعائهم إيّاه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله، وأمّا ابن الزّبير فاعتصم - ويسمّى عائذ البيت -وغلب على أمر مكّة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهّزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أنّ أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة. قوله: (ائذن لي) أصله ائذن بهمزتين فقلبت الثّانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. قوله: (أيّها الأمير) الأصل فيه يا أيّها الأمير فحذف حرف النّداء. ويستفاد منه حسن التّلطّف في مخاطبة السّلطان ليكون أدعى لقبولهم النّصيحة وأنّ السّلطان لا يخاطب إلاَّ بعد استئذانه , ولا سيّما إذا كان في أمر يعترض به عليه، فترك ذلك والغلظة له قد يكون سبباً لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه، ومنه قول والد العسيف " وائذن لي ". قوله: (أحدّثك) بالجزم , لأنّه جواب الأمر. قوله: (قام به) صفة للقول، والمقول هو حمد الله إلخ. قوله: (الغد) بالنّصب. أي: أنّه خطب في اليوم الثّاني من فتح

مكّة. قوله: (سَمِعتْه أُذناي ووعاه قلبي، وأبصرتْه عيناي) فيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه، فقوله " سمعته " أي: حملته عنه بغير واسطة، وذكر الأذنين للتّأكيد. وقوله " ووعاه قلبي " تحقيق لفهمه وتثبّته. وقوله " وأبصرته عيناي " زيادة في تحقيق ذلك , وأنّ سماعه منه ليس اعتماداً على الصّوت فقط بل مع المشاهدة. وقوله " حين تكلم به " أي: بالقول المذكور. ويؤخذ من قوله " ووعاه قلبي " أنّ العقل محلّه القلب. قوله: (إنّه حمد الله) هو بيان لقوله تكلم، ويؤخذ منه استحباب الثّناء بين يدي تعليم العلم وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمّة. وقد تقدّم من رواية ابن إسحاق أنّه قال فيها " أمّا بعد ". قوله: (إنّ مكّة حرّمها الله) أي: حكم بتحريمها وقضاه، وظاهره أنّ حكم الله تعالى في مكّة أن لا يقاتل أهلها ويؤمّن من استجار بها ولا يتعرّض له، وهو أحد أقوال المفسّرين في قوله تعالى (ومن دخله كان آمناً) وقوله (أولم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً) وسيأتي في حديث ابن عبّاس (¬1) بلفظ " هذا بلدٌ حرّمه الله يوم خلق السّماوات والأرض ". ولا معارضة بين هذا وبين قوله في البخاري من حديث أنس: إنّ ¬

_ (¬1) انظر الحديث الآتي.

إبراهيم حرّم مكّة , لأنّ المعنى أنّ إبراهيم حرّم مكّة بأمر الله تعالى لا باجتهاده. أو أنّ الله قضى يوم خلق السّماوات والأرض أنّ إبراهيم سيحرّم مكّة. أو المعنى أنّ إبراهيم أوّل من أظهر تحريمها بين النّاس، وكانت قبل ذلك عند الله حراماً. أو أوّل من أظهره بعد الطّوفان. وقال القرطبيّ: معناه أنّ الله حرّم مكّة ابتداء من غير سبب ينسب لأحدٍ ولا لأحدٍ فيه مدخل , قال: ولأجل هذا أكّد المعنى بقوله " ولَم يحرّمها النّاس " والمراد بقوله " ولَم يحرّمها النّاس " أنّ تحريمها ثابت بالشّرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنّها من محرّمات الله فيجب امتثال ذلك، وليس من محرّمات النّاس يعني في الجاهليّة كما حرّموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه. وقيل: معناه أنّ حرمتها مستمرّة من أوّل الخلق، وليس ممّا اختصّت به شريعة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (ولَم يحرّمها النّاس) بالضّمّ. أي: أنّ تحريمها كان بوحيٍ من الله لا من اصطلاح النّاس. قوله: (فلا يحلّ .. إلخ) فيه تنبيه على الامتثال لأنّ من آمن بالله لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه خوف الحساب عليه.

وقد تعلَّق به مَن قال: إنّ الكفّار غير مخاطبين بفروع الشّريعة، والصّحيح عند الأكثر خلافه، وجوابهم: بأنّ المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام , وينزجر عن المُحرمات فجعل الكلام معه. وليس فيه نفي ذلك عن غيره. وقال ابن دقيق العيد: الذي أراه أنّه من خطاب التّهييج، نحو قوله تعالى (وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين) فالمعنى أنّ استحلال هذا المنهيّ عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، ولو قيل لا يحلّ لأحدٍ مطلقاً لَم يحصل منه هذا الغرض , وإن أفاد التّحريم. قوله: (يسفك) بكسر الفاء. وحكي: ضمّها، وهو صبّ الدّم، والمراد به القتل. واستدل به على تحريم القتل والقتال بمكّة، وسيأتي البحث في الكلام على حديث ابن عبّاس. قوله: (ولا يعضد) بكسر الضّاد المعجمة وفتح الدّال. أي: يقطع بالمعضد , وهو آلة كالفأس. قال ابن الجوزيّ: أصحاب الحديث يقولون " يعضد " بضمّ الضّاد، وقال لنا ابن الخشّاب: هو بكسرها، والمعضد بكسر أوّله الآلة التي يقطع بها. قال الخليل: المعضد الممتهن من السّيوف في قطع الشّجر. وقال الطّبريّ: أصله من عضد الرّجل إذا أصابه بسوءٍ في عضده.

ووقع في رواية لعمر بن شبّة بلفظ " لا يخضد " بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معناه , فإنّ أصل الخضد الكسر. ويستعمل في القطع. قال القرطبيّ: خصّ الفقهاء الشّجر المنهيّ عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع آدميّ، فأمّا ما ينبت بمعالجة آدميّ. فاختلف فيه. والجمهور: على الجواز. وقال الشّافعيّ: في الجميع الجزاء، ورجّحه ابن قدامة. واختلفوا في جزاء ما قطع من النّوع الأوّل. فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم. وقال عطاء: يستغفر. وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي. وقال الشّافعيّ: في العظيمة بقرة وفيما دونها شاة. واحتجّ الطّبريّ: بالقياس على جزاء الصّيد. وتعقّبه ابن القصّار: بأنّه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المُحرم إذا قطع شيئاً من شجر الحلّ. ولا قائل به. وقال ابن العربيّ: اتّفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلاَّ أنّ الشّافعيّ أجاز قطع السّواك من فروع الشّجرة، كذا نقله أبو ثور عنه، وأجاز أيضاً أخذ الورق والثّمر إذا كان لا يضرّها ولا يهلكها. وبهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما، وأجازوا قطع الشّوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق. ومنعه الجمهور كما سيأتي في حديث ابن عبّاس بلفظ " ولا يعضد

شوكه " وصحَّحه المتولي من الشّافعيّة. وأجابوا: بأنّ القياس المذكور في مقابلة النّصّ. فلا يعتبر به، حتّى ولو لَم يرد النّصّ على تحريم الشّوك لكان في تحريم قطع الشّجر دليل على تحريم قطع الشّوك , لأنّ غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام الفارق أيضاً فإنّ الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشّجر. قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشّجر بغير صنع آدميّ, ولا بما يسقط من الورق نصّ عليه أحمد , ولا نعلم فيه خلافاً. قوله: (فإنْ أحدٌ) هو فاعل بفعلٍ مضمر يفسّره ما بعده، وقوله " ترخّص " مشتقّ من الرّخصة، وفي رواية ابن أبي ذئب عند أحمد " فإن ترخّص مترخّص , فقال: أُحلِّت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّ الله أحلَّها لي. ولَم يحلّها للنّاس ". وفي مرسل عطاء بن يزيد عند سعيد بن منصور " فلا يستنّ بي أحدٌ , فيقول: قتل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (وإنّما أذن لي) أي: الله، روي بضمّ الهمزة. وفي قوله " لي " التفات لأنّ نسق الكلام " وإنّما أذن له " أي: لرسوله. قوله: (ساعة) أي: مقداراً من الزّمان، والمراد به يوم الفتح. ومقدارها ما بين طلوع الشّمس وصلاة العصر، ولفظ الحديث عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه , لَمّا فتحت مكّة قال: كفّوا السّلاح، إلاَّ خزاعة عن بني بكر. فأذن لهم حتّى صلَّى

العصر، ثمّ قال: كفّوا السّلاح، فلقي رجلٌ من خزاعة رجلاً من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقام خطيباً , فقال، ورأيته مسنداً ظهره إلى الكعبة .. فذكر الحديث. ويستفاد منه أنّ قتل من أذن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قتلهم - كابن خطل - وقع في الوقت الذي أبيح للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه القتال، خلافاً لمن حمل قوله " ساعةً من النّهار " على ظاهره فاحتاج إلى الجواب عن قصّة ابن خطل، والمأذون له فيه القتال لا قطع الشّجر. قوله: (وقد عادت حرمتها) أي: الحكم الذي في مقابلة إباحة القتال المستفادة من لفظ الإذن. وقوله: (اليوم) المراد به الزّمن الحاضر، وقد بيّن غايته في رواية ابن أبي ذئب المذكورة بقوله " ثمّ هي حرام إلى يوم القيامة ". وكذا في حديث ابن عبّاس الآتي بقوله " فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ". قوله: (فليبلّغ الشّاهدُ الغائبَ) قال ابن جرير: فيه دليل على جواز قبول خبر الواحد، لأنّه معلوم أنّ كلّ من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ، وأنّه لَم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلاَّ وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه كالذي لزم السّامع سواء، وإلَّا لَم يكن للأمر بالتّبليغ فائدة. قوله: (فقيل لأبي شُريح) لَم أعرف اسم القائل، وظاهر رواية ابن إسحاق أنّه بعض قومه من خزاعة

قوله: (ما قال عمرو؟) أي: في جوابك. قوله: (لا تعيذ) بضمّ المثنّاة أوّله وآخره ذال معجمة. أي: مكّة لا تعصم العاصي عن إقامة الحدّ عليه قوله: (ولا فارّاً) بالفاء والرّاء المشدّدة. أي: هارباً , والمراد من وجب عليه حدّ القتل فهرب إلى مكّة مستجيراً بالحرم، وهي مسألة خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدّليل. وفي تخصيصه العموم بلا مستند. قوله: (بخربةٍ) بفتح المعجمة وإسكان الرّاء ثمّ موحّدة , وللبخاري " يعني السّرقة " كذا ثبت تفسيرها في رواية المستمليّ. وهي أحد ما قيل في تأويلها. وأصلها سرقة الإبل ثمّ استعملت في كلّ سرقة. وعن الخليل: الخربة الفساد في الإبل، وقيل: العيب، وقيل: بضمّ أوّله العورة , وقيل: الفساد، وبفتحه الفعلة الواحدة من الخرابة وهي السّرقة. وأشار ابن العربيّ إلى ضبطه بكسر أوّله وبالزّاي بدل الرّاء والتّحتانيّة بدل الموحّدة جعله من الخزي، والمعنى صحيح. لكن لا تساعد عليه الرّواية. وأغرب الكرمانيّ لَمّا حكى هذا الوجه: فأبدل الخاء المعجمة جيماً جعله من الجزية، وذكر الجزية وكذا الذّمّ بعد ذكر العصيان من الخاصّ بعد العامّ. وقد تشدّق عمرو في الجواب وأتى بكلامٍ ظاهره حقّ لكن أراد به

الباطل، فإنّ الصّحابيّ أنكر عليه نصب الحرب على مكّة فأجابه بأنّها لا تمنع من إقامة القصاص، وهو صحيح. إلاَّ أنّ ابن الزّبير لَم يرتكب أمراً يجب عليه فيه شيء من ذلك. وقد وهِم من عدّ كلام عمرو بن سعيد هذا حديثاً. واحتجّ بما تضمّنه كلامه. قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشّيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأغرب ابن بطّال: فزعم أنّ سكوت أبي شُريح عن جواب عمرو بن سعيد دالٌّ على أنّه رجع إليه في التّفصيل المذكور. ويعكّر عليه ما وقع في رواية أحمد أنّه قال في آخره: قال أبو شُريح: فقلت لعمرٍو: قد كنتُ شاهداً وكنتَ غائباً. وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلّغتك. فهذا يشعر بأنّه لَم يوافقه، وإنّما ترك مشاققته لعجزه عنه لِمَا كان فيه من قوّة الشّوكة. وقال ابن بطّال أيضاً: ليس قول عمرو جواباً لأبي شُريح، لأنّه لَم يختلف معه في أنّ من أصاب حدّاً في غير الحرم ثمّ لجأ إليه أنّه يجوز إقامة الحدّ عليه في الحرم، فإنّ أبا شُريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكّة , ونصب الحرب عليها فأحسن في استدلاله بالحديث، وحاد عمرو عن جوابه. وأجابه عن غير سؤاله. وتعقّبه الطّيبيّ: بأنّه لَم يحد في جوابه، وإنّما أجاب بما يقتضي القول بالموجب كأنّه قال له: صحّ سماعك وحفظك، لكنّ المعنى المراد من

الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه، فإنّ ذلك التّرخّص كان بسبب الفتح وليس، بسبب قتل من استحقّ القتل خارج الحرم ثمّ استجار بالحرم، والذي أنا فيه من القبيل الثّاني. قلت: لكنّها دعوى من عمرو بغير دليل، لأنّ ابن الزّبير لَم يجب عليه حدٌّ فعاذ بالحرم فراراً منه حتّى يصحّ جواب عمرو، نعم. كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه، وكان يزيد أمر ابن الزّبير أن يبايع له بالخلافة ويحضر إليه في جامعة. يعني مغلولاً , فامتنع ابن الزّبير , وعاذ بالحرم. فكان يقال له بذلك عائذ الله، وكان عمرو يعتقد أنّه عاصٍ بامتناعه من امتثال أمر يزيد , ولهذا صدّر كلامه بقوله " إنّ الحرم لا يعيذ عاصياً " ثمّ ذكر بقيّة ما ذكر استطراداً، فهذه شبهة عمرو وهي واهية. وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شُريح وعمرو فيها اختلاف بين العلماء أيضاً كما سيأتي في الكلام على حديث ابن عبّاس. وفي حديث أبي شُريح من الفوائد غير ما تقدّم. جواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لِمَا سمعه ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيّره من أمر الدّين والموعظة بلطفٍ وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذا لَم يستطع باليد، ووقوع التّأكيد في الكلام البليغ، وجواز المجادلة في الأمور الدّينيّة، وجواز النّسخ، وأنّ مسائل الاجتهاد لا يكون فيها مجتهد حجّة على مجتهد.

وفيه الخروج عن عهدة التّبليغ والصّبر على المكاره لمن لا يستطيع بدّاً من ذلك، وتمسّك به مَن قال: إنّ مكّة فتحت عنوة. قال النّوويّ: تأوّل مَن قال فتحت صلحاً. بأنّ القتال كان جائزاً له لو فعله , لكن لَم يحتج إليه. وتعقّب: بأنّه خلاف الواقع. وسيأتي تسمية القاتل والمقتول في قصّة أبي شُريح في الكلام على حديث أبي هريرة (¬1). وفي الحديث شرف مكّة، وتقديم الحمد والثّناء على القول المقصود، وإثبات خصائص الرّسول - صلى الله عليه وسلم - واستواء المسلمين معه في الحكم إلاَّ ما ثبت تخصيصه به، ووقوع النّسخ، وفضل أبي شُريح لاتّباعه أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالتّبليغ عنه وغير ذلك. ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - سيأتي إن شاء الله في باب القصاص في العمدة رقم (345)

الحديث التاسع

الحديث التاسع 224 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكّة: لا هجرة بعد الفتح , ولكن جهادٌ ونيّةٌ. وإذا استنفرتم فانفروا , وقال يوم فتح مكّة: إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق الله السّموات والأرض. فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة , وإنّه لَم يحل القتال فيه لأحدٍ قبلي , ولَم يحل لي إلاَّ ساعةً من نهارٍ فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعضد شوكُه , ولا يُنفَّر صيُده , ولا يُلتقطُ لقطته إلاَّ من عرّفها. ولا يُختلَى خلاها. فقال العبّاس: يا رسولَ الله , إلاَّ الإذخر فإنّه لقينهم وبيوتهم. فقال: إلاَّ الإذخر (¬1). قال المصنِّف: القين: الحداد. قوله: (يوم فتح مكّة) هو ظرف للقول المذكور. قوله: (لا هجرة بعد الفتح) أي: فتح مكّة أو المراد ما هو أعمّ من ذلك إشارة إلى أنّ حكم غير مكّة في ذلك حكمها فلا تجب الهجرة من بلدٍ قد فتحه المسلمون. أمّا قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة: الأوّل: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبةٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1510 , 1737 , 2631 , 2612 , 3017) ومسلم (1353) من طريق منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس. مطوّلاً ومختصراً. وأخرجه البخاري (1284) ومواضع أخرى من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس نحوه.

الثّاني: قادر , لكنّه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته. فمستحبّة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفّار والأمن من غدرهم والرّاحة من رؤية المنكر بينهم. الثّالث: عاجز يعذر من أسرٍ أو مرضٍ أو غيره. فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر قال الخطّابيّ وغيره: كانت الهجرة فرضاً في أوّل الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلمّا فتح الله مكّة دخل النّاس في دين الله أفواجاً فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنّيّة على من قام به أو نزل به عدوّ. انتهى. وكانت الحكمة أيضاً في وجوب الهجرة على من أسلم , ليسلم من أذى ذويه من الكفّار فإنّهم كانوا يعذّبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت (إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم , قالوا كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا أَلَم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الآية. وهذه الهجرة باقية الحكم في حقّ من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النّسائيّ من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جدّه مرفوعاً: لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يفارق المشركين. ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعاً: أنا بريء من كلّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وهذا محمول على من لَم يأمن على دينه.

قوله: (ولكن جهاد ونيّة) المعنى أنّ وجوب الهجرة من مكّة انقطع بفتحها إذ صارت دار إسلام، ولكن بقي وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسّره بقوله: (فإذا استنفرتم فانفروا) أي: إذا دعيتم إلى الغزو فأجيبوا. قال الطّيبيّ وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لِمَا قبله، والمعنى أنّ الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلاَّ أنّ المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نيّة صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدّين من الفتن والنّيّة في جميع ذلك. انتهى وتضمّن الحديث بشارة من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنّ مكّة تستمرّ دار إسلام. وللنّاس في الجهاد حالان: إحداهما: في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والأخرى: بعده. فأمّا الأولى: فأوّل ما شُرع الجهاد بعد الهجرة النّبويّة إلى المدينة اتّفاقاً. ثمّ بعد أن شرّع هل كان فرض عين أو كفاية؟. قولان مشهوران للعلماء. وهما في مذهب الشّافعيّ. وقال الماورديّ: كان عيناً على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيّده وجوب الهجرة قبل الفتح في حقّ كلّ من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام. وقال السّهيليّ: كان عيناً على الأنصار دون غيرهم، ويؤيّده مبايعتهم للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة على أن يئووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصروه،

فيخرج من قولهما أنّه كان عيناً على الطّائفتين كفاية في حقّ غيرهم، ومع ذلك فليس في حقّ الطّائفتين على التّعميم، بل في حقّ الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حقّ المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفّار ابتداء. ويؤيّد هذا ما وقع في قصّة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنّه كالصّريح في ذلك. وقيل: كان عيناً في الغزوة التي يخرج فيها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها، والتّحقيق: أنّه كان عيناً على من عيّنه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حقّه. ولو لَم يخرج. الحال الثّاني: بعده - صلى الله عليه وسلم - فهو فرض كفاية على المشهور إلاَّ أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدوّ ويتعيّن على من عيّنه الإمام، ويتأدّى فرض الكفاية بفعله في السّنة مرّة عند الجمهور. ومن حجّتهم: أنّ الجزية تجب بدلاً عنه , ولا تجب في السّنة أكثر من مرّة اتّفاقاً فليكن بدلها كذلك. وقيل: يجب كلَّما أمكن. وهو قويّ. والذي يظهر أنّه استمرّ على ما كان عليه في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد وانتشر الإسلام في أقطار الأرض , ثمّ صار إلى ما تقدّم ذكره، والتّحقيق أيضاً أنّ جنس جهاد الكفّار متعيّن على كلّ مسلم , إمّا بيده وإمّا بلسانه وإمّا بماله وإمّا بقلبه. والله أعلم. قوله: (وإذا استنفرتم فانفروا) قال النّوويّ: يريد أنّ الخبر الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنّيّة الصّالحة، وإذا

أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصّالحة فاخرجوا إليه. وقال الطّيبيّ: قوله " ولكن جهاد " معطوف على محلّ مدخول " لا هجرة " أي: الهجرة من الوطن إمّا للفرار من الكفّار أو إلى الجهاد أو إلى غير ذلك كطلب العلم، فانقطعت الأولى وبقي الأخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما، بل إذا استنفرتم فانفروا. قلت: وليس الأمر في انقطاع الهجرة من الفرار من الكفّار على ما قال، وقد تقدّم تحرير ذلك. وقال ابن العربيّ: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، كانت فرضاً في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , واستمرّت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حيث كان. وفي الحديث بشارة بأنّ مكّة تبقى دار إسلام أبداً. وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عيّنه الإمام، وأنّ الأعمال تعتبر بالنّيّات. تكملة: قال ابن أبي جمرة ما محصّله: إنّ هذا الحديث يمكن تنزيله على أحوال السّالك , لأنّه أوّلاً يؤمر بهجرةٍ مألوفه حتّى يحصل له الفتح، فإذا لَم يحصل له أمر بالجهاد وهو مجاهدة النّفس والشّيطان مع النّيّة الصّالحة في ذلك. قوله: (إنّ هذا بلد حرّمه الله) وللبخاري " وإذا استنفرتم فانفروا , فإن هذا بلد .. " الفاء جواب بشرطٍ محذوف تقديره: إذا علمتم

ذلك فاعلموا أنّ هذا بلد حرام، وكأنّ وجه المناسبة أنّه لَمّا كان نصب القتال عليه حراماً كان التّنفير يقع منه لا إليه. ولَمَّا روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس. فَصَلَ الكلام الأوّل من الثّاني بقوله: وقال يوم الفتح: إنّ الله حرّم .. إلخ " فجعله حديثاً آخر مستقلاً، وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأوّل كعليّ بن المدينيّ عن جرير. كما في البخاري. قوله: (حرّمه الله) سبق مشروحاً في حديث أبي شُريح، ووقع في رواية غير الكشميهنيّ " حرّم الله " بحذف الهاء. قوله: (وهو حرام بحرمة الله) أي بتحريمه، وقيل: الحرمة الحقّ. أي: حرام بالحقّ المانع من تحليله. واستدلَّ به على تحريم القتل والقتال بالحرم. فأمّا القتل: فنقل بعضهم الاتّفاق على جواز إقامة حدّ القتل فيها على من أوقعه فيها، وخصّ الخلاف بمن قتل في الحلّ ثمّ لجأ إلى الحرم، وممّن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزيّ. واحتجّ بعضهم: بقتل ابن خطل بها، ولا حجّة فيه , لأنّ ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما تقدّم. وزعم ابن حزم: أنّ مقتضى قول ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما أنّه لا يجوز القتل فيها مطلقاً، ونقل التّفصيل عن مجاهد وعطاء. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتّى يخرج إلى الحلّ باختياره،

لكن لا يجالس ولا يكلم، ويوعظ ويذكّر حتّى يخرج. وقال أبو يوسف: يخرج مضطرّاً إلى الحلّ، وفعله ابن الزّبير. وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوسٍ عن ابن عبّاس " من أصاب حدّاً , ثمّ دخل الحرم , لَم يُجالس , ولَم يُبايع " وعن مالك والشّافعيّ: يجوز إقامة الحدّ مطلقاً فيها، لأنّ العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن. وأمّا القتال: فقال الماورديّ: من خصائص مكّة أن لا يحارب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل. فإن أمكن ردّهم بغير قتال لَم يجز، وإن لَم يمكن إلاَّ بالقتال: القول الأول: قال الجمهور: يقاتلون , لأنّ قتال البغاة من حقوق الله تعالى فلا يجوز إضاعتها. القول الثاني: قال آخرون: لا يجوز قتالهم بل يضيّق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطّاعة. قال النّوويّ: والأوّل نصّ عليه الشّافعيّ، وأجاب أصحابه عن الحديث: بحمله على تحريم نصب القتال بما يعمّ أذاه كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصّن الكفّار في بلد فإنّه يجوز قتالهم على كلّ وجه. وعن الشّافعيّ قول آخر بالتّحريم. اختاره القفّال وجزم به في " شرح التّلخيص " , وقال به جماعة من علماء الشّافعيّة والمالكيّة. قال الطّبريّ: من أتى حدّاً في الحلّ واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره

ويضيّق عليه حتّى يذعن للطّاعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: وإنّما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. فعلم أنّها لا تحلّ لأحدٍ بعده بالمعنى الذي حلت له به وهو محاربة أهلها والقتل فيها. ومال ابن العربيّ إلى هذا. وقال ابن المنير: قد أكّد النّبيّ التّحريم بقوله " حرّمه الله " ثمّ قال " فهو حرام بحرمة الله " ثمّ قال " ولَم تحلّ لي إلاَّ ساعة من نهار " وكان إذا أراد التّأكيد ذكر الشّيء ثلاثاً. قال: فهذا نصّ لا يحتمل التّأويل. وقال القرطبيّ: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بالقتال لاعتذاره عمّا أبيح له من ذلك مع أنّ أهل مكّة كانوا إذ ذاك مستحقّين للقتال والقتل لصدّهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شُريح كما تقدّم، وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن دقيق العيد: يتأكّد القول بالتّحريم بأنّ الحديث دالٌّ على أنّ المأذون للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه لَم يؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنّما هو مطلق القتال لا القتال الخاصّ بما يعمّ كالمنجنيق فكيف يسوغ التّأويل المذكور؟ وأيضاً فسياق الحديث يدلّ على أنّ التّحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدّماء فيها، وذلك لا يختصّ بما يستأصل. واستدل به على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم. قال القرطبيّ: معنى قوله " حرّمه الله ". أي: يحرم على غير المُحرم

دخوله حتّى يحرم، ويجري هذا مجرى قوله تعالى (حرّمت عليكم أمّهاتكم) أي: وطؤهنّ، و (حرّمت عليكم الميّتة) أي: أكلها، فعرف الاستعمال يدلّ على تعيين المحذوف. قال: وقد دلَّ على صحّة هذا المعنى اعتذاره عن دخوله مكّة غير محرم مقاتلاً بقوله " لَم تحلّ لي إلاَّ ساعة من نهار " الحديث. قال: وبهذا أخذ مالك والشّافعيّ في أحد قوليهما ومن تبعهما في ذلك , فقالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يدخل مكّة إلاَّ محرماً، إلاَّ إذا كان ممّن يكثر التّكرار. قلت: وتقدّم القول في ذلك (¬1). قوله: (وإنّه لَم يَحلّ القتال) الهاء في " أنّه " ضمير الشّأن، وللبخاري " لا يحل " وهي أشبه لقوله قبلي. وللبخاري من طريق خالد الطحان عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ " فلم تحل لأحد قبلي , ولا تحل لأحد بعدي " ومثله لأحمد من طريق وهيب عن خالد. قال ابن بطّال: المراد بقوله " ولا تحلّ لأحدٍ بعدي " الإخبار عن الحكم في ذلك لا الإخبار بما سيقع لوقوع خلاف ذلك في الشّاهد كما وقع من الحجّاج وغيره. انتهى ومحصّله أنّه خبر بمعنى النّهي، بخلاف قوله " فلم تحلّ لأحدٍ قبلي ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن عبَّاس برقم (216) , وسيأتي أيضاً إن شاء الله في حديث أنس رقم (226)

" فإنّه خبر محض، أو معنى قوله " ولا تحلّ لأحدٍ بعدي " أي: لا يحلّها الله بعدي، لأنّ النّسخ ينقطع بعده لكونه خاتم النّبيّين. قوله: (لا يعضد شوكه) تقدّم البحث فيه في حديث أبي شُريح. قوله: (ولا ينفّر صيده) بضمّ أوّله وتشديد الفاء المفتوحة. قيل: هو كناية عن الاصطياد. وقيل: هو على ظاهره , فأخرج البخاري عن خالد عن عكرمة، قال: هل تدري ما لا ينفر صيدها؟ هو أن ينحيه من الظل ينزل مكانه. قيل: نبّه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف وسائر أنواع الأذى. تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. وقد خالف عكرمةَ عطاءٌ ومجاهدٌ , فقالا: لا بأس بطرده ما لَم يفض إلى قتله. أخرجه ابن أبي شيبة. وروى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق الحكم عن شيخٍ من أهل مكّة , أنّ حَمَامَاً كان على البيت فذَرَقَ على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكّة، فجاءت حيّة فأكلته، فحكم عمرُ على نفسه بشاةٍ. وروي من طريق أخرى عن عثمان نحوه. قال النّوويّ: يحرم التّنفير - وهو الإزعاج - عن موضعه، فإن نفّره عصى سواء تلف أو لا، فإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن وإلا فلا. قال العلماء: يستفاد من النّهي عن التّنفير تحريم الإتلاف بالأولى. قوله: (ولا يُلتقط لُقطته إلاَّ من عرّفها) وللبخاري " ولا تحلّ

لقطتها إلاَّ لمنشد " وفي رواية لهما عن أبي هريرة " ولا تحلّ ساقتها إلاَّ لمنشد " أي: معرّفٍ. وأمّا الطّالب فيقال له النّاشد، تقول: نشدت الضّالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرّفتها. وأصل الإنشاد والنّشيد رفع الصّوت، والمعنى لا تحلّ لقطتها إلاَّ لمن يريد أن يعرّفها فقط، فأمّا من أراد أن يعرّفها ثمّ يتملكها فلا. واستدل بحديثي ابن عبّاس وأبي هريرة (¬1) , على أنّ لقطة مكّة لا تلتقط للتّمليك بل للتّعريف خاصّةً , وهو قول الجمهور. وإنّما اختصّت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربّها، لأنّها إن كانت للمكّيّ فظاهر، وإن كانت للآفاقيّ فلا يخلو أفق غالباً من واردٍ إليها، فإذا عرّفها واجدها في كل عامٍ سهل التّوصّل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطّال. وقال أكثر المالكيّة وبعض الشّافعيّة: هي كغيرها من البلاد، وإنّما تختصّ مكّة بالمبالغة في التّعريف , لأنّ الحاجّ يرجع إلى بلده وقد لا يعود , فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التّعريف. واحتجّ ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء، لأنّه نفى الحل واستثنى المنشد فدلَّ على أنّ الحل ثابت للمنشد لأنّ الاستثناء من النّفي إثبات، قال: ويلزم على هذا أنّ مكّة وغيرها سواء، والقياس يقتضي تخصيصها. والجواب: أنّ التّخصيص إذا وافق الغالب لَم يكن له مفهوم، ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة سيأتي إن شاء الله مطوّلاً في القصاص. رقم (345)

والغالب أنّ لقطة مكّة ييأس ملتقطها من صاحبها، وصاحبها من وجدانها لتفرّق الخلق إلى الآفاق البعيدة، فربّما داخل الملتقط الطّمع في تملّكها من أوّل وهلةٍ فلا يعرّفها , فنهى الشّارع عن ذلك وأمر أن لا يأخذها إلاَّ من عرّفها، وفارقت في ذلك لقطة العسكر ببلاد الحرب بعد تفرّقهم فإنّها لا تعرّف في غيرهم باتّفاق، بخلاف لقطة مكّة فيشرع تعريفها لإمكان عود أهل أفق صاحب اللّقطة إلى مكّة فيحصل متوصّل إلى معرفة صاحبها. وقال إسحاق بن راهويه: قوله: " إلاَّ لمنشد " أي: لمن سمع ناشداً يقول: مَن رأى لي كذا؟ فحينئذ يجوز لواجد اللّقطة أن يعرّفها ليردّها على صاحبها. وهو أضيق من قول الجمهور , لأنّه قيّده بحالةٍ للمعرّف دون حالة. وقيل: المراد بالمنشد الطّالب. حكاه أبو عبيد , وتعقّبه: بأنّه لا يجوز في اللّغة تسمية الطّالب منشداً. قلت: ويكفي في ردّ ذلك قوله في حديث ابن عبّاس " لا يلتقط لقطتها إلاَّ معرّف " والحديث يفسّر بعضه بعضاً، وكأنّ هذا هو النّكتة في تصدير البخاريّ الباب بحديث ابن عبّاس. وأمّا اللّغة فقد أثبت الحربيُّ جوازَ تسمية الطّالب منشداً, وحكاه عياض أيضاً. واستُدل به على أنّ لقطة عرَفَة والمدينة النّبويّة كسائر البلاد لاختصاص مكّة بذلك.

وحكى الماورديّ في " الحاوي " وجهاً في عرفة , أنّها تلتحق بحكم مكّة , لأنّها تجمع الحاجّ كمكّة ولَم يرجّح شيئاً. وليس الوجه المذكور في " الرّوضة " ولا أصلها. واستُدل به على جواز تعريف الضّالة في المسجد الحرام بخلاف غيره من المساجد، وهو أصحّ الوجهين عند الشّافعيّة. والله أعلم. قوله: (ولا يُختلى خلاها) بالخاء المعجمة، والخلا مقصور، وذكر ابن التّين , أنّه وقع في رواية القابسيّ بالمدّ وهو الرّطب من النّبات , واختلاؤه قطعه واحتشاشه. واستدل به. وهو القول الأول: على تحريم رعيه لكونه أشدّ من الاحتشاش، وبه قال مالك والكوفيّون واختاره الطّبريّ. القول الثاني: قال الشّافعيّ: لا بأس بالرّعي لمصلحة البهائم وهو عمل النّاس، بخلاف الاحتشاش فإنّه المنهيّ عنه فلا يتعدّى ذلك إلى غيره. وفي تخصيص التّحريم بالرّطب إشارة إلى جواز رعي اليابس واختلائه، وهو أصحّ الوجهين للشّافعيّة , لأنّ النّبت اليابس كالصّيد الميّت. قال ابن قدامة: لكن في استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس من الحشيش، ويدلّ عليه أنّ في بعض طرق حديث أبى هريرة " ولا

يحتشّ حشيشها " (¬1). قال: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته النّاس في الحرم من بقل وزرع ومشموم. فلا بأس برعيه واختلائه. قوله: (فقال العبّاس) أي: ابن عبد المطّلب كما وقع مبيّناً في البخاري من وجه آخر. قوله: (إلاَّ الإذخر) يجوز فيه الرّفع والنّصب، أمّا الرّفع فعلى البدل ممّا قبله، وأمّا النّصب فلكونه استثناء واقعاً بعد النّفي. وقال ابن مالك: المختار النّصب لكون الاستثناء وقع متراخياً عن المستثنى منه فبعدت المشاكلة بالبدليّة، ولكون الاستثناء أيضاً عرض في آخر الكلام ولَم يكن مقصوداً. والإذخر: نبت معروف عند أهل مكّة طيّب الرّيح له أصل مندفن وقضبان دقاق ينبت في السّهل والحزن، وبالمغرب صنف منه. فيما قاله ابن البيطار، قال: والذي بمكّة أجوده، وأهل مكّة يسقفون به البيوت بين الخشب , ويسدّون به الخلل بين اللبنات في القبور , ويستعملونه بدلاً من الحلفاء في الوقود، ولهذا قال العبّاس " فإنّه لقينهم " وهو بفتح القاف وسكون التّحتانيّة بعدها نون. أي الحدّاد. ¬

_ (¬1) أخرج هذه الرواية. ابنُ أبي خيثمة في " التاريخ الكبير " له (1/ 141) من طريق حماد بن سلمة , وأبو أحمد الحاكم في " فوائده " (رقم 28) من طريق عبد العزيز الدراوردي كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به .. وإسناده جيَّد. لكن رواه ابن أبي شيبة في " المصنَّف " (36900) عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب مرسلاً. ضمن حديث طويل.

وقال الطّبريّ: القين عند العرب كلّ ذي صناعة يعالجها بنفسه، ووقع في رواية البخاري " فإنّه لا بدّ منه للقين والبيوت ". قال ابن دريدٍ: أصل القين الحدّاد ثمّ صار كلّ صائغٍ عند العرب قيناً. وقال الزّجّاج: القين الذي يصلح الأسنّة، والقين أيضاً الحدّاد. وقال الخليل: التّقيين التّزيين، ومنه سُمِّيت المغنّية قينةً , لأنّ من شأنها الزّينة. وفي رواية للبخاري أيضاً " فإنّه لصاغتنا وقبورنا " ووقع في مرسل مجاهد عند عمر بن شبّة الجمع بين الثّلاثة، ووقع عنده أيضاً " فقال العبّاس: يا رسولَ الله، إنّ أهل مكّة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم " وهذا يدلّ على أنّ الاستثناء في حديث الباب لَم يرد به أن يستثني هو. وإنّما أراد به أن يلقّنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الاستثناء. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في جوابه " إلاَّ الإذخر " هو استثناء بعض من كلّ لدخول الإذخر في عموم ما يختلى. واستدل به على جواز النّسخ قبل الفعل , وليس بواضحٍ. وعلى جواز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومذهب الجمهور اشتراط الاتّصال إمّا لفظاً. وإمّا حكماً لجواز الفصل بالتّنفّس مثلاً. وقد اشتهر عن ابن عبّاس الجواز مطلقاً، ويمكن أن يحتجّ له بظاهر هذه القصّة. وأجابوا عن ذلك: بأنّ هذا الاستثناء في حكم المتّصل لاحتمال أن

يكون - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يقول إلاَّ الإذخر فشغله العبّاس بكلامه فوصل كلامه بكلام نفسه , فقال: إلاَّ الإذخر. وقد قال ابن مالك: يجوز الفصل مع إضمار الاستثناء متّصلاً بالمستثنى منه. واختلفوا هل كان قوله - صلى الله عليه وسلم - " إلاَّ الإذخر " باجتهادٍ أو وحي؟. قيل: كأن الله فوّض له الحكم في هذه المسألة مطلقاً. وقيل: أوحى إليه قبل ذلك أنّه إن طلب أحدٌ استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله. وقال الطّبريّ: ساغ للعبّاس أن يستثني الإذخر , لأنّه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكّة تحريم القتال دون ما ذكر من تحريم الاختلاء , فإنّه من تحريم الرّسول - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده. فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر، وهذا مبنيّ على أنّ الرّسول - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يجتهد في الأحكام. وليس ما قاله بلازمٍ , بل في تقريره - صلى الله عليه وسلم - للعبّاس على ذلك. دليل على جواز تخصيص العامّ. وحكى ابن بطّال عن المُهلَّب: أنّ الاستثناء هنا للضّرورة كتحليل أكل الميتة عند الضّرورة، وقد بيّن العبّاس ذلك. بأنّ الإذخر لا غنى لأهل مكّة عنه. وتعقّبه ابن المنير: بأنّ الذي يباح للضّرورة يشترط حصولها فيه، فلو كان الإذخر مثل الميتة لامتنع استعماله إلاَّ فيمن تحقّقت ضرورته

إليه، والإجماع على أنّه مباح مطلقاً بغير قيد الضّرورة. انتهى. ويحتمل: أن يكون مراد المُهلَّب بأنّ أصل إباحته كانت للضّرورة وسببها، لا أنّه يريد أنّه مقيّد بها. قال ابن المنير: والحقّ أنّ سؤال العبّاس كان على معنى الضّراعة، وترخيص النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان تبليغاً عن الله إمّا بطريق الإلهام أو بطريق الوحي، ومن ادّعى أنّ نزول الوحي يحتاج إلى أمد متّسع فقد وهم. وفي الحديث بيان خصوصيّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في الحديث، وجواز مراجعة العالم في المصالح الشّرعيّة، والمبادرة إلى ذلك في المَجَامع والمشاهد، وعظيم منزلة العبّاس عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعنايته بأمر مكّة لكونه كان بها أصله ومنشؤه. وفيه رفع وجوب الهجرة عن مكّة إلى المدينة، وإبقاء حكمها من بلاد الكفر إلى يوم القيامة، وأنّ الجهاد يشترط أن يقصد به الإخلاص ووجوب النّفير مع الأئمّة. تكميل: في رواية للبخاري " لصاغتنا وقبورنا " بوّب عليه في البيوع " باب ما قيل في الصوّاغ " بفتح أوّله على الإفراد وبضمّه على الجمع , يقال صائغٌ وصوّاغٌ بالتّحتانيّة. وأصله عمل الصّياغة. قال ابن المنيّر: فائدة التّرجمة لهذه الصّياغة وما بعدها التّنبيه على أنّ ذلك كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وأقرّه مع العلم به , فيكون كالنّصّ على جوازه , وما عداه يؤخذ بالقياس. وللبخاري عن عليٍ قال: واعدت رجلاً صوّاغاً من بني قينقاع.

وهم رهطٌ من اليهود، فيؤخذ منه جواز معاملة الصّائغ ولو كان غير مسلم، ويؤخذ منه أنّه لا يلزم من دخول الفساد في صنعةٍ أن تترك معاملة صاحبها ولو تعاطاها أراذل النّاس مثلاً. ولعل البخاري أشار إلى حديث " أكذب النّاس الصّبّاغون والصّوّاغون " وهو حديثٌ مضطرب الإسناد أخرجه أحمد وغيره.

باب ما يجوز قتله

باب ما يجوز قتله الحديث العاشر 225 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خمسٌ من الدّوابّ كلّهنّ فاسقٌ , يقتلن في الحرم: الغراب , والحِدَأة , والعقرب , والفأرة , والكلب العقور. (¬1) ولمسلمٍ: يُقتل خمسٌ فواسق في الحل والحرم. (¬2) قوله: (خمس) التّقييد بالخمس. وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنّه مفهوم عدد، وليس بحجّةٍ عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله - صلى الله عليه وسلم - أوّلاً , ثمّ بيّن بعد ذلك أنّ غير الخمس يشترك معها في الحكم. فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ " أربع " وفي بعض طرقها بلفظ " ستّ ". فأمّا طريق أربع. فأخرجها مسلم من طريق القاسم عنها. فأسقط العقرب. وأمّا طريق ستّ. فأخرجها أبو عوانة في " المستخرج " من طريق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1732 , 3136) ومسلم (1198) من طريق الزهري , ومسلم (1198) من طريق هشام كلاهما عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. زاد مسلم (في الحل والحرم) وانظر التعليق الآتي. (¬2) أخرجه مسلم (1198) من طريق قتادة عن ابن المسيب عن عائشة. ولفظه: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم.

المحاربيّ عن هشام عن أبيه عنها. فأثبتها: وزاد الحيّة. ويشهد لها طريق شيبان عن أبي عوانة عن زيد بن جبير عند مسلم (¬1) فزاد فيه أشياء. ولفظه: سأل رجل ابن عمر ما يقتل الرّجل من الدّوابّ وهو محرم؟ فقال: حدّثتني إحدى نسوة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحيّة , قال: وفي الصّلاة أيضاً. فلم يقل في أوّله خمساً. وزاد الحيّة، وزاد في آخره ذكر الصّلاة لينبّه بذلك على جواز قتل المذكورات في جميع الأحوال. ولَم أر هذه الزّيادة (¬2) في غير هذه الطّريق. فقد أخرجه مسلم من طريق زهير بن معاوية والإسماعيليّ من طريق إسرائيل كلاهما عن زيد بن جبير بدونها. وأغرب عياض فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى. فصارت ¬

_ (¬1) وأخرجه البخاري في " الصحيح " (1827) حدثنا مسدد حدّثنا أبو عوانة به. دون الزيادة التي ذكرها الشارح. (¬2) أي: زيادة الصلاة. وروى الإمام أحمد (2/ 475) أبو داود (921)، والنسائي (3/ 10)، والترمذي (390)، وابن ماجه (1245) عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب. وصحَّحه ابن حبان برقم (2352). وقال الترمذي: حديث حسنٌ صحيحٌ. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وبه يقول أحمد وإسحق , وكَرِه بعض أهل العلم قتل الحية والعقرب في الصلاة , وقال إبراهيم: إن في الصلاة لشغلاً , والقول الأول أصح. انتهى

سبعاً. وتعقّب: بأنّ الأفعى داخلة في مسمّى الحيّة. والحديث الذي ذُكِرت فيه أخرجه أبو عوانة في " المستخرج " من طريق ابن عون عن نافع في آخر حديث الباب (¬1) قال: قلت لنافعٍ: فالأفعى؟ قال: ومن يشكّ في الأفعى؟. وقد وقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد " السّبع العادي " فصارت سبعاً. وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وابن المنذر زيادة ذكر الذّئب والنّمر على الخمس المشهورة. فتصير بهذا الاعتبار تسعاً. لكن أفاد ابن خزيمة عن الذّهليّ , أنّ ذكر الذّئب والنّمر من تفسير الرّاوي للكلب العقور. ووقع ذكر الذّئب في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود من طريق سعيد بن المسيّب عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: يقتل المُحرم الحيّة والذّئب. ورجاله ثقات. وأخرج أحمد من طريق حجّاج بن أرطاة عن وبرة عن ابن عمر قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الذّئب للمحرم. وحجّاج ضعيف. وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفاً أخرجه ابن أبي شيبة. ¬

_ (¬1) أي: حديث ابن عمر. الذي أخرجه البخاري (1730) ومسلم (1199) من طرق عن نافع عن ابن عمر رفعه: خمسٌ من الدوابِّ ليس على المحرم في قتلهن جُناح الغراب والحدأة والعقرب والفارة والكلب العقور.

فهذا جميع ما وقفت عليه في الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة، ولا يخلو شيء من ذلك من مقال، والله أعلم قوله: (من الدّوابّ) بتشديد الموحّدة، جمع دابّة وهو ما دبّ من الحيوان. وقد أخرج بعضهم منها الطّير لقوله تعالى (وما من دابّةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه) الآية. وهذا الحديث يردّ عليه، فإنّه ذكر في الدّوابّ الخمس الغراب والحدأة. ويدلّ على دخول الطّير أيضاً عموم قوله تعالى (وما من دابّةٍ في الأرض إلاَّ على الله رزقها)؛ وقوله تعالى (وكأيّن من دابّةٍ لا تحمل رزقها) الآية. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم في صفة بدء الخلق " وخلق الدّوابّ يوم الخميس " ولَم يفرد الطّير بذكرٍ. وقد تصرّف أهل العرف في الدّابّة، فمنهم: من يخصّها بالحمار، ومنهم: من يخصّها بالفرس، وفائدة ذلك تظهر في الحلف. قوله: (كلّهنّ فاسق , يقتلن) قيل: فاسق صفة لكلّ، وفي يقتلن ضمير راجع إلى معنى كلّ. ووقع في رواية مسلم " كلّها فواسق " وفي رواية معمر عن الزهري عند الشيخين " خمس فواسق ". قال النّوويّ: هو بإضافة خمس لا بتنوينه، وجوّز ابن دقيق العيد الوجهين. وأشار إلى ترجيح الثّاني فإنّه قال: رواية الإضافة تشعر بالتّخصيص فيخالفها غيرها في الحكم من

طريق المفهوم، ورواية التّنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى. فيشعر بأنّ الحكم المرتّب على ذلك وهو القتل معلل بما جعل وصفاً وهو الفسق فيدخل فيه كلّ فاسق من الدّوابّ، ويؤيّده رواية الباب " كلّهن فاسق ". قال النّوويّ وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية في وفق اللّغة، فإنّ أصل الفسق لغة الخروج، ومنه فسقت الرّطبة إذا خرجت عن قشرها. وقوله تعالى (ففسق عن أمر ربّه). أي: خرج، وسُمّي الرّجل فاسقاً لخروجه عن طاعة ربّه، فهو خروج مخصوص. وزعم ابن الأعرابيّ: أنّه لا يعرف في كلام الجاهليّة ولا شعرهم فاسق، يعني بالمعنى الشّرعيّ. وأمّا المعنى في وصف الدّوابّ المذكورة بالفسق. فقيل: لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله. وقيل: في حلّ أكله لقوله تعالى (أو فسقاً أهل لغير الله به). وقوله: (ولا تأكلوا ممّا لَم يذكر اسم الله عليه وإنّه لفسقٌ). وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع. ومن ثَمَّ اختلف أهل الفتوى: فمَن قال بالأوّل. ألحق بالخمس كلّ ما جاز قتله للحلال في الحرم وفي الحلّ.

ومَن قال بالثّاني. ألحق ما لا يؤكل إلاَّ ما نهي عن قتله وهذا قد يجامع الأوّل. ومَن قال بالثّالث. يخصّ الإلحاق بما يحصل منه الإفساد. ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه: قيل له: لِمَ قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت. فهذا يومئ إلى أنّ سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفسّاق، وهو يرجّح القول الأخير، والله أعلم. قوله: (يُقتلن في الحرم) ولهما في رواية نافع عن ابن عمر بلفظ " ليس على المُحرم في قتلهنّ جناح " وعرف بذلك أن لا إثم في قتلها على المُحرم ولا في الحرم، ويؤخذ منه جواز ذلك للحلال، وفي الحلّ من باب الأولى. وقد وقع ذكر الحلّ صريحاً عند مسلم من طريق معمر عن الزّهريّ عن عروة بلفظ " يقتلن في الحلّ والحرم " ويعرف حكم الحلال بكونه لَم يقم به مانع وهو الإحرام فهو بالجواز أولى. ثمّ إنّه ليس في نفي الجناح وكذا الحرج في طريق سالم (¬1) دلالة على أرجحيّة الفعل على التّرك، لكن ورد في طريق زيد بن جبير عند مسلم بلفظ " أمر " وكذا في طريق معمر، ولأبي عوانة من طريق ابن ¬

_ (¬1) أي: رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. أخرجها البخاري (1731) ومسلم (1200) بلفظ " خمسٌ من الدواب لا حَرَجَ على مَن قتلهنَّ .. "

نمير عن هشام عن أبيه بلفظ " ليقتل المُحرم ". وظاهر الأمر الوجوب. ويحتمل: النّدب والإباحة. وروى البزّار من طريق أبي رافع قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته إذ ضرب شيئاً، فإذا هي عقرب فقتلها، وأمر بقتل العقرب والحيّة والفأرة والحدأة للمحرم. لكنّ هذا الأمر ورد بعد الحظر لعموم نَهي المُحرم عن القتل فلا يكون للوجوب ولا للنّدب. ويؤيّد ذلك رواية الليث عن نافع بلفظ " أذن " أخرجه مسلم والنّسائيّ عن قتيبة، لكن لَم يسق مسلم لفظه. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره " خمس قتلهنّ حلال للمحرم ". قوله: (الغراب) زاد في رواية سعيد بن المسيّب عن عائشة عند مسلم " الأبقع " وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، وأخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث. كما حكاه ابن المنذر وغيره. ثمّ وجدت ابن خزيمة قد صرّح باختياره، وهو قضيّة حمل المطلق على المقيّد. وأجاب ابن بطّال: بأنّ هذه الزّيادة لا تصحّ لأنّها من رواية قتادة عن سعيد، وهو مدلس وقد شذّ بذلك. وقال ابن عبد البرّ: لا تثبت هذه الزّيادة. وقال ابن قدامة: الرّوايات المطلقة أصحّ. وفي جميع هذا التّعليل نظر. أولاً: أمّا دعوى التّدليس. فمردودة بأنّ شعبة لا يروي عن

شيوخه المدلسين إلاَّ ما هو مسموع لهم وهذا من رواية شعبة، بل صرّح النّسائيّ في روايته من طريق النّضر بن شميلٍ عن شعبة بسماع قتادة. ثانياً: وأمّا نفي الثّبوت. فمردود بإخراج مسلم. ثالثاً: وأمّا التّرجيح. فليس من شرط قبول الزّيادة , بل الزّيادة مقبولة من الثّقة الحافظ , وهو كذلك هنا. نعم قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل. وقد اتّفق العلماء على إخراج الغراب الصّغير الذي يأكل الحبّ من ذلك , ويقال له غراب الزّرع , ويقال له الزّاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان ملتحقاً بالأبقع. ومنها الغداف على الصّحيح في " الرّوضة " بخلاف تصحيح الرّافعيّ، وسَمّى ابن قدامة الغداف غراب البين، والمعروف عند أهل اللّغة أنّه الأبقع. قيل: سُمِّي غراب البين , لأنّه بان عن نوح لَمّا أرسله من السّفينة ليكشف خبر الأرض، فلقي جيفة فوقع عليها ولَم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهليّة يتشاءمون به فكانوا إذا نَعَبَ (¬1) مرّتين. قالوا: آذن بشرٍّ، وإذا نعب ثلاثاً. قالوا: آذن بخيرٍ، فأبطل الإسلام ذلك. وكان ابن عبّاس إذا سمع الغراب. قال: اللهمّ لا طير إلاَّ طيرك ¬

_ (¬1) قال في القاموس (1/ 139): نعب الغراب وغيره، كمنع وضرب، نعباً ونعيباً ونعاباً وتنعاباً ونعباناً: صوّت، أو مدّ عنقه وحرّك رأسه في صياحه.

ولا خير إلاَّ خيرك ولا إله غيرك. (¬1) وقال صاحب الهداية: المراد بالغراب في الحديث الغداف والأبقع , لأنّهما يأكلان الجيف، وأمّا غراب الزّرع فلا. وكذا استثناه ابن قدامة، وما أظنّ فيه خلافاً، وعليه يُحمل ما جاء في حديث أبي سعيد عند أبي داود - إن صحّ - حيث قال فيه: ويرمي الغراب ولا يقتله. وروى ابن المنذر وغيره نحوه عن عليّ ومجاهد. قال ابن المنذر: أباح كلّ من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإحرام إلاَّ ما جاء عن عطاء قال في مُحرم كسر قرن غراب , فقال: إن أدماه فعليه الجزاء. وقال الخطّابيّ: لَم يتابع أحدٌ عطاءً على هذا، انتهى. ويحتمل: أن يكون مراده غراب الزّرع. وعند المالكيّة اختلاف آخر في الغراب والحدأة هل يتقيّد جواز ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في " الزهد " (1/ 238) من طريق مهدي بن ميمون حدثنا غيلان عن رجلٍ - إن لَم يكن مطرّفاً فلا ادري من هو - عن ابن عباس به. وأخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (29872) عن غيلان عن ابن عبَّاس به. دون واسطة. والصواب الأول , وغيلان هو ابن جرير المعولي الأزدي البصري. وفي المسند للإمام أحمد (7045) من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ردَّته الطيرة من حاجة فقد أشرك. قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلاَّ خيرك، ولا طير إلاَّ طيرك، ولا إله غيرك. وفي سنده ابن لهيعة. ورواه البزار (4379) من حديث بريدة - رضي الله عنه - نحوه. قال الهيثمي في " المجمع " (5/ 105): فيه الحسن بن أبي جعفر، وهو متروك , وقد قيل فيه: صدوق منكر الحديث.

قتلهما بأن يبتدئا بالأذى، وهل يختصّ ذلك بكبارها؟.والمشهور عنهم - كما قال ابن شاسٍ - لا فرق , وفاقاً للجمهور. ومن أنواع الغربان الأعصم، وهو الذي في رجليه أو في جناحيه أو بطنه بياض أو حمرة، وله ذكر في قصّة حفر عبد المطّلب لزمزم، وحكمه حكم الأبقع. ومنها العقعق. وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل: سُمِّي بذلك , لأنّه يعقّ فراخه فيتركها بلا طعم، وبهذا ظهر أنّه نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به أيضاً. ووقع في فتاوى قاضي خان الحنفيّ: من خرج لسفرٍ فسمع صوت العقعق فرجع كفر، وحكمه حكم الأبقع على الصّحيح، وقيل: حكم غراب الزّرع. وقال أحمد: إن أكل الجيف وإلا فلا بأس به. قوله: (والحِدَأة) بالكسر وفتح الدال بعدها همزة طير معروف. بزيادة هاء. بلفظ الواحدة وليست للتّأنيث , بل هي كالهاء في التّمرة. وللبخاري " الحِدأ " بكسر أوّله وفتح ثانيه بعدها همزة بغير مدّ. وحكى صاحب " المحكم " المدّ فيه ندوراً، وحكى الأزهريّ فيها " حدوة " بواوٍ بدل الهمزة. وفي رواية للبخاري بلفظ " الحُديّا " بضمّ أوّله وتشديد التّحتانيّة مقصور، ومثله لمسلمٍ في رواية هشام بن عروة عن أبيه , وقيل: هي لغة حجازيّة، وغيرهم يقول " حديّة ".

وقد أنكر ثابتٌ في " الدّلائل " (¬1) هذه الصّيغة , وقال: الصّواب الحديأة أو الحدّيّة. أي: بهمزةٍ وزيادة هاء , أو بالتّشديد بغير همز. قال: والصّواب أنّ الحديأة ليس من هذا، وإنّما هو من التّحدّي يقولون: فلان يتحدّى فلاناً. أي: ينازعه ويغالبه. وعن أبي حاتم: أهل الحجاز يقولون لهذا الطّائر الحديّا , ويجمعونه الحداديّ، وكلاهما خطأ. وأمّا الأزهريّ فصوّبه , وقال: الحديأة تصغير الحديّ، ومن خواصّ الحدأة أنّها تقف في الطّيران، ويقال: إنّها لا تختطف إلاَّ من جهة اليمين تنْبيه: يلتبس بالحدأ الحدأة بفتح أوّله: فأس له رأسان. قوله: (والعقرب) هذا اللفظ للذّكر والأنثى، وقد يقال عقربة وعقرباء، وليس منها العقربان , بل هي دويبّة طويلة كثيرة القوائم. قال صاحب " المحكم ": ويقال إنّ عينها في ظهرها , وإنّها لا تضرّ ميّتاً ولا نائماً حتّى يتحرّك. ويقال: لدغته العقرب بالغين المعجمة ولسعته بالمهملتين. وقد تقدّم اختلاف الرّواة في ذكر الحيّة بَدَلَها في حديث الباب ومن جمعهما. والذي يظهر لي أنّه - صلى الله عليه وسلم - نبّه بإحداهما على الأخرى عند الاقتصار , وبيّن حكمهما معاً حيث جمع. قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب. وقال ¬

_ (¬1) أي: " كتاب الدلائل في غريب الحديث " لأبي محمد ثابت بن القاسم السرقسطي.

نافع لَمّا قيل له: فالحيّة؟ قال: لا يُختلف فيها , وفي رواية: ومن يشكّ فيها؟. وتعقّبه ابن عبد البرّ: بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة , أنّه سأل الحكم وحمّاداً. فقالا: لا يقتل المُحرم الحيّة ولا العقرب. قال: ومن حجّتهما أنّهما من هوامّ الأرض فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوامّ، وهذا اعتلال لا معنى له، نعم عند المالكيّة خلاف في قتل صغير الحيّة والعقرب التي لا تتمكّن من الأذى. قوله: (والفأرة) بهمزةٍ ساكنة ويجوز فيها التّسهيل. ولَم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم إلاَّ ما حكي عن إبراهيم النّخعيّ. فإنّه قال: فيها جزاء إذا قتلها المُحرم. أخرجه ابن المنذر، وقال: هذا خلاف السّنّة وخلاف قول جميع أهل العلم. وروى البيهقيّ بإسنادٍ صحيح عن حمّاد بن زيد. قال لَمّا ذكروا له هذا القول: ما كان بالكوفة أفحش ردّاً للآثار من إبراهيم النّخعيّ لقلّة ما سمع منها، ولا أحسن اتّباعاً لها من الشّعبيّ لكثرة ما سمع. ونقل ابن شاسٍ عن المالكيّة خلافاً في جواز قتل الصّغير منها الذي لا يتمكّن من الأذى. والفأر أنواع، منها: الجُرَذ بالجيم بوزن عمر، والخُلْد بضمّ المعجمة وسكون اللام، وفأرة الإبل، وفأرة المسك، وفأرة الغيط. وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء، وفي الصحيحين إطلاق الفويسقة عليها من حديث جابر.

وتقدّم سبب تسميتها بذلك من حديث أبي سعيد. وقيل: إنّما سُمِّيت بذلك , لأنّها قطعت حِبال سفينة نوح، والله أعلم. قوله: (والكلب العقور) الكلب معروف , والأنثى كلبة , والجمع أكلب وكلاب وكَليب بالفتح، كأعبدٍ وعباد وعبيد. وفي الكلب بَهيميّة وسَبعيّة كأنّه مركّب. وفيه منافع للحراسة والصّيد. وفيه من اقتفاء الأثر وشمّ الرّائحة والحراسة وخفّة النّوم والتّودّد وقبول التّعليم ما ليس لغيره. وقيل: إنّ أوّل من اتّخذه للحراسة نوح عليه السّلام. واختلف العلماء في المراد به هنا، وهل لوصفه بكونه عقوراً مفهومٌ , أو لا.؟ فروى سعيد بن منصور بإسنادٍ حسن عن أبي هريرة قال: الكلب العقور الأسد. وعن سفيان عن زيد بن أسلم , أنّهم سألوه عن الكلب العقور؟ فقال: وأيّ كلب أعقر من الحيّة؟. وقال زفر: المراد بالكلب العقور هنا الذّئب خاصّة. وقال مالك في الموطّإ: كلّ ما عقر النّاس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنّمر والفهد والذّئب هو العقور. وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا الكلب خاصّة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذّئب.

واحتجّ أبو عبيد للجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهمّ سلَّط عليه كلباً من كلابك. فقتله الأسد. وهو حديثٌ حسنٌ. أخرجه الحاكم من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه. واحتجّ بقوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين) فاشتقّها من اسم الكلب، فلهذا قيل لكل جارح عقور. واحتجّ الطّحاويّ للحنفيّة: بأنّ العلماء اتّفقوا على تحريم قتل البازي والصّقر وهما من سباع الطّير فدلَّ ذلك على اختصاص التّحريم بالغراب والحدأة، وكذلك يختصّ التّحريم بالكلب وما شاركه في صفته وهو الذّئب. وتعقّب: بردّ الاتّفاق، فإنّ مخالفيهم أجازوا قتل كلّ ما عدا وافترس، فيدخل فيه الصّقر وغيره، بل معظمهم قال: يلتحق بالخمس كلّ ما نهي عن أكله إلاَّ ما نهي عن قتله. واختلف العلماء في غير العقور ممّا لَم يؤمر باقتنائه. القول الأول: صرّح بتحريم قتله القاضيان حسين والماورديّ وغيرهما، ووقع في " الأمّ " للشّافعيّ الجواز. واختلف كلام النّوويّ. فقال في البيع من " شرح المهذّب ": لا خلاف بين أصحابنا في أنّه محترم لا يجوز قتله، وقال في التّيمّم والغصب: إنّه غير محترم. وقال في الحجّ: يكره قتله كراهة تنزيه. وهذا اختلاف شديد، وعلى كراهة قتله اقتصر الرّافعيّ وتبعه في " الرّوضة " وزاد: إنّها كراهة تنزيه، والله أعلم.

القول الثاني: ذهب الجمهور كما تقدّم إلى إلحاق غير الخمس بها في هذا الحكم، إلاَّ أنّهم اختلفوا في المعنى. فقيل: لكونها مؤذية فيجوز قتل كلّ مؤذٍ، وهذا قضيّة مذهب مالك. وقيل: لكونها ممّا لا يؤكل، فعلى هذا كلّ ما يجوز قتله لا فدية على المُحرم فيه، وهذا قضيّة مذهب الشّافعيّ. وقد قسّم هو وأصحابه الحيوان بالنّسبة للمحرم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يستحبّ كالخمس وما في معناها ممّا يؤذي. القسم الثاني: يجوز كسائر ما لا يؤكل لحمه وهو قسمان: الأول: ما يحصل منه نفع وضرر فيباح لِمَا فيه من منفعة الاصطياد. ولا يكره لِمَا فيه من العدوان. الثاني: ليس فيه نفع ولا ضرر فيكره قتله ولا يحرم. القسم الثّالث: ما أبيح أكله أو نهي عن قتله فلا يجوز ففيه الجزاء إذا قتله المُحرم. وخالف الحنفيّة. فاقتصروا على الخمس إلاَّ أنّهم ألحقوا بها الحيّة لثبوت الخبر، والذّئب لمشاركته للكلب في الكلبيّة، وأَلْحقوا بذلك من ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها. وتعقّب: بظهور المعنى في الخمس - وهو الأذى الطّبيعيّ والعدوان المركّب - والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه تعدّى الحكم إلى كلّ ما وجد فيه ذلك المعنى، كما وافقوا عليه في مسائل الرّبا.

قال ابن دقيق العيد: والتّعدية بمعنى الأذى إلى كلّ مؤذٍ قويّ بالإضافة إلى تصرّف أهل القياس، فإنّه ظاهر من جهة الإيماء بالتّعليل بالفسق وهو الخروج عن الحدّ، وأمّا التّعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال لِمَا دلَّ عليه إيماء النّصّ من التّعليل بالفسق. انتهى وقال غيره: هو راجع إلى تفسير الفسق، فمن فسرّه بأنّه الخروج عن بقيّة الحيوان بالأذى علل به، ومَن قال بجواز القتل وتحريم الأكل علل به. وقال من علَّل بالأذى: أنواع الأذى مختلفة، وكأنّه نبّه بالعقرب على ما يشاركها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السّموم كالحيّة والزّنبور، وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنّقب والقرض كابن عُرْس، وبالغراب والحدأ على ما يشاركهما بالاختطاف كالصّقر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر كالأسد والفهد. وقال: من علَّل بتحريم الأكل وجواز القتل إنّما اقتصر على الخمس لكثرة ملابستها للنّاس بحيث يعمّ أذاها، والتّخصيص بالغلبة لا مفهوم له. تكْمِلة: نقل الرّافعيّ عن الإمام (¬1) أنّ هذه الفواسق لا ملك فيها لأحدٍ ولا اختصاص، ولا يجب ردّها على صاحبها، ولَم يذكر مثل ¬

_ (¬1) أي: إمام الحرمين شيخ الشافعية. الإمام أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي رحمه الله المتوفى سنة 478 هـ. وهو المقصود بالإمام عند الشافعية.

ذلك في غير الخمس ممّا يلتحق بها في المعنى، فليتأمّل. واستُدل به على جواز قتل من لجأ إلى الحرم ممّن وجب عليه القتل , لأنّ إباحة قتل هذه الأشياء معلَّلٌ بالفسق , والقاتل فاسق فيقتل بل هو أولى، لأنّ فسق المذكورات طبيعيّ، والمُكلَّف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه. وأشار ابن دقيق العيد إلى أنّه بحث قابل للنّزاع. فائدةٌ: نقل ابن عبد البرّ الاتّفاق على جواز قتل الوزغ في الحلّ والحرم. لكن نقل ابن عبد الحكم وغيره عن مالك: لا يقتل المُحرم الوزغ، زاد ابن القاسم: وإن قتله يتصدّق لأنّه ليس من الخمس المأمور بقتلها. وروى ابن أبي شيبة , أنّ عطاء سُئل عن قتل الوزغ في الحرم؟ فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله. وهذا يفهم توقّف قتله على أذاه.

باب دخول مكة وغيره

باب دخول مكة وغيره الحديث الحادي عشر 226 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكّة عام الفتح , وعلى رأسه المغفر، فلمّا نزعه جاءه رجلٌ , فقال: ابن خطلٍ متعلقٌ بأستار الكعبة , فقال: اقتلوه. (¬1) قوله: (عن أنس) في رواية أبي أويس عند ابن سعد حدّثني الزّهري , أنّ أنس بن مالك حدّثه. وقد اشتهر عن الزّهريّ عنه، ووقع لي من رواية يزيد الرّقاشيّ عن أنس في " فوائد أبي الحسن الفرّاء الموصليّ ". وفي الإسناد إلى يزيد - مع ضعفه - ضعفٌ. وقيل: إنّ مالكاً تفرّد به عن الزّهريّ، وممّن جزم بذلك ابن الصّلاح في " علوم الحديث " له في الكلام على الشّاذّ. وتعقّبه شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقيّ: بأنّه ورد من طريق ابن أخي الزّهريّ وأبي أويس ومعمر والأوزاعيّ , وقال: إنّ رواية ابن أخي الزّهريّ عند البزّار. ورواية أبي أويس عند ابن سعد وابن عديّ , وأنّ رواية معمر ذكرها ابن عدّي , وأنّ رواية الأوزاعيّ ذكرها المزنيّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1749 , 2879 , 4035 , 5471) ومسلم (1357) من طرق عن مالك عن ابن شهاب الزهري عن أنس - رضي الله عنه -.

ولَم يذكر شيخنا من أخرج روايتهما، وقد وجدت رواية معمر في " فوائد ابن المقري " ورواية الأوزاعيّ في " فوائد تمّام ". ثمّ نقل شيخنا عن ابن مسدي: أنّ ابن العربيّ قال حين قيل له: لَمْ يروه إلاَّ مالك: قد رويته من ثلاثة عشر طريقاً غير طريق مالك، وأنّه وعد بإخراج ذلك ولَم يُخرج شيئاً. وأطال ابن مسدي في هذه القصّة , وأنشد فيها شعراً، وحاصلها أنّهم اتّهموا ابن العربيّ في ذلك. ونسبوه إلى المجازفة. ثمّ شرع ابن مسدي يقدح في أصل القصّة , ولَم يصب في ذلك، فراوي القصّة عدل متقن، والذين اتّهموا ابن العربيّ في ذلك هم الذين أخطئوا لقلة اطّلاعهم، وكأنّه بخل عليهم بإخراج ذلك لَمّا ظهر له من إنكارهم وتعنّتهم. وقد تتبّعت طرقه حتّى وقفت على أكثر من العدد الذي ذكره ابن العربيّ. ولله الحمد فوجدته من رواية اثني عشر نفساً غير الأربعة التي ذكرها شيخنا وهم: عقيل في " معجم ابن جميع "، ويونس بن يزيد في " الإرشاد " للخليليّ وابن أبي حفص في " الرّواة عن مالك للخطيب "، وابن عيينة في " مسند أبي يعلى " وأسامة بن زيد في " تاريخ نيسابور "، وابن أبي ذئب في " الحلية "، ومحمّد بن عبد الرّحمن بن أبي الموالي في " أفراد الدّارقطنيّ " وعبد الرّحمن ومحمّد ابنا عبد العزيز الأنصاريّان في " فوائد عبد الله بن إسحاق الخراسانيّ "، وابن إسحاق في " مسند

مالك " لابن عديّ، وبحر السّقاء. ذكره جعفر الأندلسيّ في تخريجه للجيزيّ بالجيم والزّاي، وصالح بن أبي الأخضر. ذكره أبو ذرّ الهرويّ عقب حديث يحيى بن قزعة عن مالك , والمخرّج عند البخاريّ في المغازي. فتبيّن بذلك أنّ إطلاق ابن الصّلاح متعقّب، وأنّ قول ابن العربيّ صحيح، وأنّ كلام من اتّهمه مردود. ولكن ليس في طرقه شيء على شرط الصّحيح إلاَّ طريق مالك، وأقربها رواية ابن أخي الزّهريّ. فقد أخرجها النّسائيّ في " مسند مالك " وأبو عوانة في " صحيحه "، وتليها رواية أبي أويس أخرجها أبو عوانة أيضاً. وقالوا: إنّه كان رفيق مالك في السّماع عن الزّهريّ، فيُحمل قول مَن قال: انفرد به مالك - أي بشرط الصّحّة - وقول مَن قال: توبع. أي: في الجملة. وعبارة التّرمذيّ سالمة من الاعتراض فإنّه قال بعد تخريجه: حسن صحيح غريب لا يُعرف كثير (¬1) أحدٍ رواه غير مالك عن الزّهريّ فقوله " كثير " يشير إلى أنّه توبع في الجملة. قوله: (عام الفتح وعلى رأسه المغفر) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدّروع على قدر الرّأس. وقيل: هو رفرف البيضة. قاله في " المحكم ". وفي " المشارق ": هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرّأس مثل القلنسوة. ¬

_ (¬1) في مطبوع سنن الترمذي (كبير أحد) بالموحّدة. وهما بمعنى

وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك " يوم الفتح وعليه مغفر من حديد " أخرجه الدّارقطنيّ في " الغرائب " والحاكم في " الإكليل " وكذا في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام عن يحيى بن بكير عن مالك " مغفر من حديد " قال الدّارقطنيّ: تفرّد به أبو عبيد. وهو في " الموطّأ " ليحيى بن بكير مثل الجماعة. ورواه عن مالك جماعة من أصحابه خارج الموطّأ بلفظ " مغفر من حديد " , ثمّ ساقه من رواية عشرة عن مالك كذلك. وكذلك هو عند ابن عديّ من رواية أبي أويس عن ابن شهاب، وعند الدّارقطنيّ من رواية شبّابة بن سوار عن مالك، وفي هذا الحديث " من رأى منكم ابن خطل فليقتله " ومن رواية زيد بن الحباب عن مالك بهذا الإسناد " وكان ابن خطل يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشّعر ". قوله: (فلمّا نزعه جاءه رجل .. إلخ) لَم أقف على اسمه، إلاَّ أنّه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله. وقد جزم الفاكهيّ في " شرح العمدة ": بأنّ الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي، وكأنّه لَمّا رجح عنده أنّه هو الذي قتله رأى أنّه هو الذي جاء مخبراً بقصّته. ويوشّحه قوله في رواية يحيى بن قزعة عند البخاري " فقال: اقتله " بصيغة الإفراد. زاد الوليد بن مسلم عن مالك في آخره " فقتل " أخرجه ابن عائذ , وصحَّحه ابن حبّان.

على أنّه اختلف في اسم قاتله، وحكى الواقديّ فيه أقوالاً: منها: أنّ قاتله شريك بن عبدة العجلانيّ، ورجّح أنّه أبو برزة , وفي حديث سعيد بن يربوع عند الدّارقطنيّ والحاكم أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: أربعة لا أؤمّنهم لا في حلٍّ ولا حرم: الحويرث بن نقيد بالنّون والقاف مصغّر، وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح. قال: فأمّا هلال بن خطل فقتله الزّبير. الحديث. وفي حديث سعد بن أبي وقّاص عند البزّار والحاكم والبيهقيّ في " الدّلائل " نحوه , لكن قال " أربعة نفر وامرأتين , فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " فذكرهم , لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولَم يسمّ المرأتين , وقال: فأمّا عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمّار بن ياسر. فسبق سعيدٌ عمّاراً , وكان أشبّ الرّجلين فقتله " الحديث. وفي زيادات يونس بن بكيرٍ في " المغازي " من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه نحوه. وروى ابن أبي شيبة والبيهقيّ في " الدّلائل " من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس: أمّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النّاس يوم فتح مكّة إلاَّ أربعة من النّاس: عبد العزّى بن خطل، ومقيس بن صبابة الكنانيّ، وعبد الله بن أبي سرح، وأمّ سارة. فأمّا عبد العزّى بن خطل فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة.

وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النّهديّ , أنّ أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة. وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في " البرّ والصّلة " من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر. وهو أصحّ ما ورد في تعيين قاتله. وبه جزم البلاذريّ وغيره من أهل العلم بالأخبار. وتحمل بقيّة الرّوايات على أنّهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل: أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في " السّيرة ". بأنّ سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلميّ اشتركا في قتله، ومنهم: من سمّى قاتله: سعيد بن ذؤيب. وحكى المحبّ الطّبريّ: أنّ الزّبير بن العوّام هو الذي قتل ابن خطل. وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السّائب بن يزيد قال: فأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة. فقتل بين المقام وزمزم. وقد جمع الواقديّ عن شيوخه أسماء من لَم يؤمّن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس: ستّة رجال وأربع نسوة. والسّبب في قتل ابن خطل , وعدم دخوله في قوله " من دخل المسجد فهو آمنٌ " (¬1) ما روى ابن إسحاق في " المغازي " حدّثني عبد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3022) البيهقي في " المعرفة " (13/ 297) من حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه -.

الله بن أبي بكر وغيره , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكّة قال: لا يقتل أحدٌ إلاَّ من قاتل، إلاَّ نفراً سمّاهم , فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد، وإنّما أمر بقتل ابن خطل , لأنّه كان مسلماً فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدّقاً. وبعث معه رجلاً من الأنصار , وكان معه مولًى يخدمه - وكان مسلماً - فنزل منزلاً، فأمر المولى أن يذبح تيساً , ويصنع له طعاماً، فنام واستيقظ ولَم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله , ثمّ ارتدّ مشركاً، وكانت له قينتان تغنّيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى الفاكهيّ من طريق ابن جريجٍ قال: قال مولى ابن عبّاس: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأنصار ورجلاً من مزينة وابن خطل , وقال: أطيعا الأنصاريّ حتّى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاريّ وهرب المزنيّ. وكان ممّن أهدر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دمه يوم الفتح. ومن النّفر الذين كان أهدر دمهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل الفتح غير من تقدّم ذِكرُه هبّار بن الأسود وعكرمة بن أبي جهل وكعب بن زهير ووحشيّ بن حرب وأسيد بن إياس بن أبي زنيم وقَيْنَتَا ابنِ خطل وهند بنت عتبة. والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه. أنّه كان يسمّى عبد العزّى فلمّا أسلم سُمِّي عبد الله، وأمّا مَن قال هلال فالتبس عليه بأخٍ له اسمه هلال، بيّن ذلك الكلبيّ في النّسب، وقيل: هو عبد الله بن هلال بن خطل، وقيل: غالب بن عبد الله بن

خطل، واسم خطل عبد منافٍ من بني تيم بن فهر بن غالب. وهذا الحديث ظاهره أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا دخل مكّة يوم الفتح لَم يكن محرماً، وقد صرّح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره البخاري في " المغازي " عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث. قال مالك: ولَم يكن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى , والله أعلم - يومئذٍ مُحرماً. انتهى وقول مالك هذا رواه عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن مالك جازماً به، أخرجه الدّارقطنيّ في " الغرائب " ووقع في " الموطّإ " من رواية أبي مصعب وغيره. قال مالك: قال ابن شهاب: ولَم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ محرماً. وهذا مرسل. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: دخل يوم فتح مكّة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن طاوسٍ قال: لَم يدخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مكّة إلاَّ محرماً إلاَّ يوم فتح مكّة. وزعم الحاكم في " الإكليل " أنّ بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السّوداء معارضة. وتعقّبوه: باحتمال أن يكون أوّل دخوله كان على رأسه المغفر ثمّ أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كلٌّ منهما ما رآه. ويؤيّده أنّ في حديث عمرو بن حريث: أنّه خطب النّاس وعليه عمامة سوداء. أخرجه مسلم أيضاً، وكانت الخطبة عند باب الكعبة

وذلك بعد تمام الدّخول، وهذا الجمع لعياضٍ. وقال غيره: يجمع بأنّ العمامة السّوداء كانت ملفوفة فوق المغفر , أو كانت تحت المغفر وقايةً لرأسه من صدإ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيّئاً للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم. وبهذا يندفع إشكال مَن قال: لا دلالة في الحديث على جواز دخول مكّة بغير إحرام لاحتمال أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان محرماً , ولكنّه غطّى رأسه لعذرٍ، فقد اندفع ذلك بتصريح جابر بأنّه لَم يكن محرماً. لكن فيه إشكال من وجه آخر , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان متأهّباً للقتال , ومن كان كذلك جاز له الدّخول بغير إحرام عند الشّافعيّة , وإن كان عياض نقل الاتّفاق على مقابله. وأمّا مَن قال من الشّافعيّة كابن القاصّ: دخول مكّة بغير إحرام من خصائص النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ففيه نظرٌ، لأنّ الخصوصيّة لا تثبت إلاَّ بدليلٍ، لكن زعم الطّحاويّ أنّ دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي شُريح وغيره " إنّها لَم تحلّ له إلاَّ ساعة من نهار " وأنّ المراد بذلك جواز دخولها له بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها , لأنّهم أجمعوا على أنّ المشركين لو غلبوا - والعياذ بالله تعالى - على مكّة حلَّ للمسلمين قتالهم وقتلهم فيها. وقد عكس استدلاله النّوويّ , فقال: في الحديث دلالة على أنّ مكّة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة، فبطل ما صوّره الطّحاويّ.

وفي دعواه الإجماع نظرٌ , فإنّ الخلاف ثابت كما تقدّم، وقد حكاه القفّال والماورديّ وغيرهما. واستدل بحديث الباب على أنّه - صلى الله عليه وسلم - فتح مكّة عنوة، وأجاب النّوويّ بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان صالحهم، لكن لَمّا لَم يأمن غدرهم دخل متأهّباً. وهذا جواب قويّ. إلاَّ أنّ الشّأن في ثبوت كونه صالحهم , فإنّه لا يُعرف في شيء من الأخبار صريحاً (¬1). واستدل بقصّة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكّة. قال ابن عبد البرّ: كان قتل ابن خطل قوداً من قتله المسلم. وقال السّهيليّ: فيه أنّ الكعبة لا تعيذ عاصياً , ولا تمنع من إقامة حدّ واجب. وقال النّوويّ: تأوّل مَن قال: لا يقتل فيها. على أنّه - صلى الله عليه وسلم - قتله في السّاعة التي أبيحت له، وأجاب عنه أصحابنا: بأنّها إنّما أبيحت له ساعة الدّخول حتّى استولى عليها , وأذعن أهلها، وإنّما قتل ابن خطل بعد ذلك. انتهى. وتعقّب: بما تقدّم في الكلام على حديث أبي شُريح , أنّ المراد بالسّاعة التي أحلت له ما بين أوّل النّهار ودخول وقت العصر، وقَتْل ابن خطل كان قبل ذلك قطعاً , لأنّه قيّد في الحديث بأنّه كان عند نزعه ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري كتاب المغازي باب " أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح " (8/ 16) وقد أطال الشارح رحمه الله في الخلاف في هذه المسألة.

المغفر. وذلك عند استقراره بمكّة. وقد قال ابن خزيمة: المراد بقوله في حديث ابن عبّاس " ما أحل الله لأحدٍ فيه القتل غيري " أي: قتل النّفر الذين قتلوا يومئذٍ ابن خطل ومن ذكر معه. قال: وكان الله قد أباح له القتال والقتل معاً في تلك السّاعة، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضّي القتال. وأخرج عمر بن شبّة في " كتاب مكّة " من حديث السّائب بن يزيد قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخرج من تحت أستار الكعبة عبد الله بن خطل فضربت عنقه صبراً بين زمزم ومقام إبراهيم. وقال: لا يُقتلنّ قرشيّ بعد هذا صبراً. ورجاله ثقات إلاَّ أنّ في أبي معشر مقالاً، والله أعلم واستُدل به على جواز قتل الذّمّيّ إذا سبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه نظرٌ. كما قاله ابن عبد البرّ , لأنّ ابن خطل كان حربيّاً , ولَم يُدخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمانه لأهل مكّة، بل استثناه مع من استثني وخرج أمره بقتله مع أمانه لغيره مخرجاً واحداً، فلا دلالة فيه لِمَا ذكره. انتهى. ويمكن أن يتمسّك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييد بكونه ذمّيّاً، لكنّ ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتّم أنّ سبب قتله السّبّ. واستدل به على جواز قتل الأسير صبراً , لأنّ القدرة على ابن خطل صيّرته كالأسير في يد الإمام , وهو مخيّر فيه بين القتل وغيره , لكن

قال الخطّابيّ: إنّه - صلى الله عليه وسلم - قتله بما جناه في الإسلام. وقال ابن عبد البرّ: قتله قوداً من دم المسلم الذي غدر به. وقتله ثمّ ارتدّ كما تقدّم. واستُدل به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإسلام، ترجم بذلك أبو داود. وفيه مشروعيّة لبس المغفر وغيره من آلات السّلاح حال الخوف من العدوّ , وأنّه لا ينافي التّوكّل، وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلمّا دخل مكّة طاف وطفنا معه. ومعه من يستره من أهل مكّة أن يرميه أحدٌ .. الحديث، وإنّما احتاج إلى ذلك , لأنّه كان حينئذٍ محرماً فخشي الصّحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيءٍ يؤذيه فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك. وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر، ولا يكون ذلك من الغيبة المُحرمة ولا النّميمة.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 227 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكّة من كداءٍ , من الثّنيّة العليا التي بالبطحاء , وخرج من الثّنيّة السّفلى. (¬1) قوله: (من كداءٍ) بفتح الكاف والمدّ , قال أبو عبيد: لا يصرف. وهذه الثّنيّة هي التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكّة، وهي التي يقال لها الحجون بفتح المهملة وضمّ الجيم. وكانت صعبة المرتقى فسهّلها معاوية ثمّ عبد الملك ثمّ المهديّ على ما ذكره الأزرقيّ. ثمّ سهُل في عصرنا هذا , منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضعٌ. ثمّ سهّلت كلّها في زمن سلطان مصر الملك المؤيّد في حدود العشرين وثمانمائة، وكلّ عقبة في جبل أو طريق عالٍ فيه تسمّى ثنيّة. قوله: (الثّنيّة السّفلى) وللبخاري عن عائشة " وخرج من كدا " وهو بضمّ الكاف مقصور , وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشّاميّين من ناحية قعيقعان، وكان بناء هذا الباب عليها في القرن السّابع. قال عياض والقرطبيّ وغيرهما: اختلف في ضبط كداءٍ وكدا. فالأكثر: على أنّ العليا بالفتح والمدّ والسّفلى بالضّمّ والقصر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1500 , 1501) ومسلم (1257) من مالك وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

وقيل: بالعكس. قال النّوويّ: وهو غلط. قالوا: واختلف في المعنى الذي لأجله خالف - صلى الله عليه وسلم - بين طريقيه. فقيل: ليتبرّك به كلّ من في طريقه. وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلوّ عند الدّخول لِمَا فيه من تعظيم المكان , وعكسه الإشارة إلى فراقه. وقيل: لأنّ إبراهيم لَمّا دخل مكّة دخل منها. وقيل: لأنّه - صلى الله عليه وسلم - خرج منها متخفّياً في الهجرة. فأراد أن يدخلها ظاهراً عالياً. وقيل: لأنّ من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت. ويحتمل: أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمرّ على ذلك، والسّبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعبّاس: لا أُسلم حتّى أرى الخيل تطلع من كداءٍ، فقلت ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي , وإنّ الله لا يطلع الخيل هناك أبداً، قال العبّاس: فذكّرت أبا سفيان بذلك لَمّا دخل (¬1) " وللبيهقيّ من حديث ابن عمر قال: قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: كيف قال حسّان؟ فأنشده: عدمت بنيّتي إن لَم تروها ... تثير النّقع مطلعها كداء ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم كما في " البداية والنهاية " لابن كثير (2/ 388) من طريق العباس بن بكار الضبي حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس به. ضمن قصة طويلة جرت بين العباس وأبي سفيان. والعباس وأبو بكر الهذلي متروكان. وكذَّبهما بعضهم.

فتبسّم. وقال: ادخلوها من حيث قال حسّان. تنْبيه: حكى الحميديّ عن أبي العبّاس العذريّ , أنّ بمكّة موضعاً ثالثاً يقال لها: كُديّ وهو بالضّمّ والتّصغير يخرج منه إلى جهة اليمن. قال المحبّ الطّبريّ: حقّقه العذريّ عن أهل المعرفة بمكّة، قال: وقد بني عليها باب مكّة الذي يدخل منه أهل اليمن. فائدةٌ: في صحيح البخاري حدثنا محمود بن غيلان المروزي حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح من كداء، وخرج من كُدا من أعلى مكة. قوله: " وخرج من كدا من أعلى مكّة " كذا رواه أبو أسامة فقَلَبَه، والصّواب ما رواه عمرو وحاتم عن هشام عند البخاري " دخل من كداءٍ من أعلى مكّة ". ثمّ ظهر لي أنّ الوهم فيه ممّن دون أبي أسامة، فقد رواه أحمد عن أبي أسامة. على الصّواب.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 228 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت , هو وأسامة بن زيدٍ وبلالٌ وعثمان بن طلحة , فأغلقوا عليهم الباب فلمّا فتحوا , كنت أوّل من ولج. فلقيتُ بلالاً , فسألته: هل صلَّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم , بين العمودين اليمانيين. (¬1) قوله: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت) كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبيّناً من رواية يونس بن يزيد عن نافع عن ابن عمر عند البخاري بزيادة فوائد. ولفظه: أقبل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح من أعلى مكّة على راحلته. وفي رواية فليح عن نافع عنده أيضاً " وهو مردف أسامة - يعني ابن زيد - على القصواء، ثمّ اتّفقا ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتّى أناخ في المسجد " وفي رواية فليح " عند البيت، وقال لعثمان: ائتنا بالمفتاح، فجاءه بالمفتاح. ففتح له الباب فدخل ". ولمسلمٍ وعبد الرّزّاق من رواية أيّوب عن نافع " ثمّ دعا عثمان بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1521) ومسلم (1329) من طرق عن الزهري عن سالم عن أبيه به. وأخرجه البخاري (388 , 356، 482 , 483 , 484، 1114، 1522، 2826، 4038، 4139) ومسلم (1329) من طرق عن نافع عن ابن عمر نحوه. مطوَّلاً ومختصراً وانفرد البخاري (388) بإخراجه من طريق مجاهد عن ابن عمر نحوه.

طلحة بالمفتاح فذهب إلى أمّه فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينّه أو لأخرجنّ هذا السّيف من صلبي، فلمّا رأت ذلك أعطته، فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففتح الباب. فظهر من رواية فليح. أنّ فاعل فتح هو عثمان المذكور، لكن روى الفاكهيّ من طريق ضعيفة عن ابن عمر , قال: كان بنو أبي طلحة يزعمون أنّه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المفتاح ففتحها بيده. وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزيز بن عبد الدّار بن قصيّ بن كلاب، ويقال: له الحجبيّ بفتح المهملة والجيم، ولآل بيته الحَجَبَة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشّيبيّين. نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة , وهو ابن عمّ عثمان هذا لا ولده، وله أيضاً صحبة ورواية. واسم أمّ عثمان المذكورة سُلافة. بضمّ المهملة والتّخفيف والفاء. قوله: (هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان) زاد مسلم " ولَم يدخلها معهم أحدٌ " ووقع عند النّسائيّ من طريق ابن عون عن نافع " ومعه الفضل بن عبّاس وأسامة وبلال وعثمان " زاد الفضل. ولأحمد من حديث ابن عبّاس حدّثني أخي الفضل - وكان معه حين دخلها - أنّه لَم يصل في الكعبة. قوله: (فأغلقوا عليهم) زاد في رواية حسّان بن عطيّة عن نافع عند أبي عوانة " من داخل " وزاد يونس " فمكث نهاراً طويلاً " وفي

رواية فليح " زماناً " بدل نهاراً، وفي رواية جويرية عن نافع في البخاري " فأطال ". ولمسلمٍ من رواية ابن عون عن نافع " فمكث فيها مليّاً " , وله من رواية عبيد الله عن نافع " فأجافوا عليهم الباب طويلاً " , ومن رواية أيّوب عن نافع " فمكث فيها ساعة ". وللنّسائيّ من طريق ابن أبي مُلَيْكة " فوجدت شيئاً فذهبت ثمّ جئت سريعاً فوجدت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خارجاً منها " , ووقع في " الموطّأ " بلفظ " فأغلقاها عليه " والضّمير لعثمان وبلال، ولمسلمٍ من طريق ابن عون عن نافع " فأجاف عليهم عثمان الباب ". والجمع بينهما: أنّ عثمان هو المباشر لذلك , لأنّه من وظيفته، ولعل بلالاً ساعده في ذلك. ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والرّاضي به. قال ابن بطّال: الحكمة في غلق الباب حينئذٍ لئلا يظنّ النّاس أنّ الصّلاة فيه سنّةٌ فيلتزمون ذلك. كذا قال. وهو مع ضعفه منتقض بأنّه لو أراد إخفاء ذلك ما اطّلع عليه بلال ومن كان معه، وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه فعل الواحد. وقال غيره: يحتمل أن يكون ذلك لئلا يزدحموا عليه. لتوفّر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه. وإنّما أدخل معه عثمان لئلا يظنّ أنّه عزل عن

ولاية الكعبة، وبلالاً وأسامة لملازمتهما خدمته. وقيل: فائدة ذلك التّمكّن من الصّلاة في جميع جهاتها؛ لأنّ الصّلاة إلى جهة الباب وهو مفتوحٌ لا تصحّ. والمحكيّ عن الحنفيّة الجواز مطلقاً. وعن الشّافعيّة وجه مثله , لكن يشترط أن يكون للباب عتبة بأيّ قدرٍ كانت. ووجه يشترط أن يكون قدر قامة المُصلِّي. ووجه يشترط أن يكون قدر مؤخّرة الرّحْل (¬1). وهو المصحّح عندهم. وفي الصّلاة فوق ظهر الكعبة نظير هذا الخلاف والله أعلم. وأمّا قول بعض الشّارحين: إنّ قول البخاري " باب إغلاق البيت , ويصلي في أيّ نواحي البيت شاء " يعكّر على الشّافعيّة فيما إذا كان البيت مفتوحاً , ففيه نظرٌ , لأنّه جعله حيث يغلق الباب، وبعد الغلق لا توقّف عندهم في الصّحّة. قوله: (فلمّا فتحوا كنت أوّل من ولَجَ) في رواية فليح " ثمّ خرج فابتدر النّاس الدّخول فسبقتهم " وفي رواية أيّوب " وكنت رجلاً شابّاً قويّاً فبادرت النّاس فبدرتهم " وفي رواية جويرية " كنت أوّل النّاس ولج على أثره " , وفي رواية ابن عون " فرقيت الدّرجة ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع بالجيم. وهو خطأ , والصواب أنه بالحاء المهملة. ففي صحيح مسلم (500) عن عائشة، أنها قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سترة المصلي؟ فقال: مثل مؤخرة الرحل.

فدخلت البيت " , وفي رواية مجاهد عن ابن عمر عند البخاري " وأجد بلالاً قائماً بين البابين ". وأفاد الأزرقيّ في " كتاب مكّة " , أنّ خالد بن الوليد كان على الباب يذبّ عنه النّاس، وكأنّه جاء بعدما دخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأغلق. قوله: (فلقيت بلالاً فسألته) زاد في رواية مالك عن نافع عند الشيخين " ما صنع؟ " وفي رواية جويرية ويونس وجمهور أصحاب نافع " فسألت بلالاً أين صلَّى؟ " اختصروا أوّل السّؤال، وثبت في رواية سالم هذه حيث قال: هل صلَّى فيه؟ قال: نعم. وكذا في رواية مجاهد وابن أبي مُلَيْكة عن ابن عمر , فقلت: أصلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؟ قال: نعم. فظهر أنّه استثبت أوّلاً هل صلَّى أو لا.؟ ثمّ سأل عن موضع صلاته من البيت. ووقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم " فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة " على الشّكّ، والمحفوظ أنّه سأل بلالاً كما في رواية الجمهور. ووقع عند أبي عوانة من طريق العلاء بن عبد الرّحمن عن ابن عمر , أنّه سأل بلالاً وأسامة بن زيد حين خرجا. أين صلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه؟ فقالا: على جهته. وكذا أخرجه البزّار نحوه. ولأحمد والطّبرانيّ من طريق أبي الشّعثاء عن ابن عمر قال: أخبرني أسامة أنّه صلَّى فيه هاهنا " ولمسلمٍ والطّبرانيّ من وجه آخر " فقلت:

أين صلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا .. ". فإن كان محفوظاً حُمل على أنّه ابتدأ بلالاً بالسّؤال كما تقدّم تفصيله، ثمّ أراد زيادة الاستثبات في مكان الصّلاة فسأل عثمان أيضاً وأسامة. ويؤيّد ذلك قوله في رواية ابن عون عند مسلم " ونسيت أن أسألهم كم صلَّى " بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم الرّواية التي أشرنا إليها عند مسلم، وكأنّه لَم يقف على بقيّة الرّوايات. ولا يعارض قصّته مع قصّة أسامة. ما أخرجه مسلم أيضاً من حديث ابن عبّاس , أنّ أسامة بن زيد أخبره , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يصل فيه، ولكنّه كبّر في نواحيه. فإنّه يمكن الجمع بينهما: بأنّ أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لَم يره - صلى الله عليه وسلم - حين صلَّى. تكميل: روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت فكبّر في نواحيه ولَم يصلّ. فابن عبّاس أثبت التّكبير ولَم يتعرّض له بلال، وبلال أثبت الصّلاة , ونفاها ابن عبّاس. وقد يُقدَّم إثباتُ بلالٍ على نفي غيره لأمرين. أحدهما: أنّه لَم يكن مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ , وإنّما أسند نفيه تارة لأسامة وتارة لأخيه الفضل. مع أنّه لَم يثبت أنّ الفضل كان معهم إلاَّ في رواية شاذّة. وقد روى أحمد من طريق ابن عبّاس عن أخيه الفضل نفي الصّلاة فيها. فيحتمل أن يكون تلقّاه عن أسامة فإنّه كان معه. كما تقدّم.

وقد روى عنه ابن عبّاس نفي الصّلاة فيها عند مسلم، وقد وقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عن أسامة عند أحمد وغيره. فتعارضت الرّواية في ذلك عنه. فتترجّح رواية بلال من جهة أنّه مثبت وغيره نافٍ , ومن جهة أنّه لَم يختلف عليه في الإثبات , واختلف على من نفى. وقال النّوويّ وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة: بأنّهم لَمّا دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدّعاء. فرأى أسامة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو فاشتغل أسامة بالدّعاء في ناحية والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ناحية، ثمّ صلَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فرآه بلال لقربه منه , ولَم يره أسامة لبعده واشتغاله، ولأنّ بإغلاق الباب تكون الظّلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة فنفاها عملاً بظنّه. وقال المحبّ الطّبريّ: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته. انتهى. ويشهد له ما رواه أبو داود الطّيالسيّ في " مسنده " عن ابن أبي ذئب عن عبد الرّحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عبّاس عن أسامة قال: دخلتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة. فرأى صوراً فدعا بدلوٍ من ماء فأتيته به , فضرب به الصّور. فهذا الإسناد جيّد. قال القرطبيّ: فلعله استصحب النّفي لسرعة عوده. انتهى. وهو مفرّع على أنّ هذه القصّة وقعت عام الفتح، فإن لَم يكن فقد

روى عمر بن شبّة في " كتاب مكّة " من طريق عليّ بن بذيمة - وهو تابعيّ وأبوه بفتح الموحّدة ثمّ معجمة وزن عظيمة - قال: دخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الكعبة ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلمّا خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ بحبوته فحلها. الحديث. فلعله احتبى فاستراح فنعس فلم يشاهد صلاته فلمّا سئل عنها نفاها مستصحباً للنّفي لقصر زمن احتبائه، وفي كلّ ذلك إنّما نفى رؤيته لا ما في نفس الأمر. ومنهم من جمع بين الحديثين بغير ترجيح أحدهما على الآخر. وذلك من أوجه: أحدها: حمل الصّلاة المثبتة على اللّغويّة والمنفيّة على الشّرعيّة، وهذه طريقة من يكره الصّلاة داخل الكعبة فرضاً ونفلاً. ويردّ هذا الحمل ما تقدّم في بعض طرقه من تعيين قدر الصّلاة، فظهر أنّ المراد بها الشّرعيّة لا مجرّد الدّعاء. ثانيها: قال القرطبيّ: يمكن حمل الإثبات على التّطوّع والنّفي على الفرض، وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك. ثالثها: قال المُهلَّب شارح البخاريّ: يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرّتين، صلَّى في إحداهما , ولَم يصلِّ في الأخرى. وقال ابن حبّان: الأشبه عندي في الجمع أن يُجعل الخبران في وقتين , فيقال: لَمّا دخل الكعبة في الفتح صلَّى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عبّاس الصّلاة في الكعبة في حجّته التي حجّ

فيها , لأنّ ابن عبّاس نفاها , وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها , وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضاً، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التّعارض. وهذا جمع حسن، لكن تعقّبه النّوويّ: بأنّه لا خلاف أنّه - صلى الله عليه وسلم - دخل في يوم الفتح لا في حجّة الوداع. ويشهد له ما روى الأزرقيّ في " كتاب مكّة " عن سفيان عن غير واحد من أهل العلم , أنّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما دخل الكعبة مرّة واحدة عام الفتح , ثمّ حجّ فلم يدخلها. وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرّتين , ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة وحدة السّفر لا الدّخول، وقد وقع عند الدّارقطنيّ من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. والله أعلم. ويؤيّد الجمع الأوّل: ما أخرجه عمر بن شبّة في " كتاب مكّة " من طريق حمّاد عن أبي حمزة عن ابن عبّاس قال: قلت له: كيف أُصلي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة، تسبّح وتكبّر ولا تركع ولا تسجد، ثمّ عند أركان البيت سبّح وكبّر وتضرّع واستغفر , ولا تركع ولا تسجد. وسنده صحيح. قوله: (فسألته: هل صلَّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم) زاد البخاري من رواية يحيى القطان عن سيف بن سليمان عن مجاهد عن ابن عمر " نعم ركعتين " أي: صلَّى ركعتين.

وقد استشكل الإسماعيليّ وغيره هذا مع أنّ المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره عنه أنّه قال " ونسيت أن أسأله كم صلَّى " (¬1) قال: فدلَّ على أنّه أخبره بالكيفيّة وهي تعيين الموقف في الكعبة، ولَم يخبره بالكمّيّة، ونسي هو أن يسأله عنها. والجواب عن ذلك أن يقال: يحتمل: أنّ ابن عمر اعتمد في قوله في هذه الرّواية ركعتين على القدر المتحقّق له، وذلك أنّ بلالاً أثبت له أنّه صلَّى , ولَم ينقل أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تنفّل في النّهار بأقلّ من ركعتين، فكانت الرّكعتان متحقّقاً وقوعهما لِمَا عرف بالاستقراء من عادته. فعلى هذا فقوله " ركعتين " من كلام ابن عمر لا من كلام بلال. وقد وجدت ما يؤيّد هذا. ويستفاد منه جمعاً آخر بين الحديثين، وهو ما أخرجه عمر بن شبّة في " كتاب مكّة " من طريق عبد العزيز بن أبي روّادٍ عن نافع عن ابن عمر في هذا الحديث: فاستقبلني بلال , فقلت: ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاهنا؟ فأشار بيده. أي: صلَّى ركعتين بالسّبّابة والوسط. فعلى هذا فيحمل قوله " نسيت أن أسأله كم صلَّى " على أنّه لَم يسأله لفظاً , ولَم يجبه لفظاً، وإنّما استفاد منه صلاة الرّكعتين بإشارته لا بنطقه. ¬

_ (¬1) رواية " ونسيت أن أسأله كم صلَّى " في الصحيحين من طرق عن نافع به. كما تقدم في ... تخريج حديث الباب.

وأمّا قوله " ونسيت أن أسأله كم صلَّى " فيحمل: على أنّ مراده أنّه لَم يتحقّق هل زاد على ركعتين أو لا؟. وأمّا قول بعض المتأخّرين: يجمع بين الحديثين. بأنّ ابن عمر نسي أن يسأل بلالاً , ثمّ لقيه مرّة أخرى فسأله، ففيه نظرٌ من وجهين: أحدهما: أنّ الذي يظهر أنّ القصّة - وهي سؤال ابن عمر عن صلاته في الكعبة - لَم تتعدّد؛ لأنّه أتى في السّؤال بالفاء المعقّبة في الرّوايتين معاً، فقال في رواية مجاهد " فأقبلت ثمّ قال: فسألت بلالاً "، وقال في الأخرى " فبدرت فسألت بلالاً "، فدلَّ على أنّ السّؤال عن ذلك كان واحداً في وقت واحد. ثانيهما: أنّ راوي قول ابن عمر " ونسيت " هو نافع مولاه , ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمرّ على حكاية النّسيان , ولا يتعرّض لحكاية الذّكر أصلاً. والله أعلم. وأمّا ما نقله عياض أنّ قوله " ركعتين " غلطٌ من يحيى بن سعيد القطّان؛ لأنّ ابن عمر قد قال: نسيت أن أسأله كم صلَّى. قال: وإنّما دخل الوهم عليه من ذكر الرّكعتين بعد، فهو كلام مردودٌ، والمغلط هو الغالط، فإنّه ذكر الرّكعتين قبل وبعد فلم يهم من موضع إلى موضع. ولَم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتّى يغلط، فقد تابعه أبو نعيمٍ عند البخاريّ والنّسائيّ، وأبو عاصم عند ابن خزيمة، وعمر بن عليّ عند الإسماعيليّ، وعبد الله بن نمير عند أحمد كلّهم عن سيف.

ولَم ينفرد به سيف أيضاً , فقد تابعه عليه خصيف عن مجاهد عند أحمد. ولَم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر , فقد تابعه عليه ابن أبي مُلَيْكة عند أحمد والنّسائيّ، وعمرو بن دينار عند أحمد أيضاً باختصارٍ، ومن حديث عثمان بن أبي طلحة عند أحمد والطّبرانيّ بإسنادٍ قويّ، ومن حديث أبي هريرة عند البزّار. ومن حديث عبد الرّحمن بن صفوان قال: فلمّا خرج سألت من كان معه , فقالوا: صلَّى ركعتين عند السّارية الوسطى. أخرجه الطّبرانيّ بإسنادٍ صحيح، ومن حديث شيبة بن عثمان قال: لقد صلَّى ركعتين عند العمودين. أخرجه الطّبرانيّ بإسنادٍ جيّد. فالعجب من الإقدام على تغليط جَبَلٍ من جبال الحفظ بقول من خفي عليه وجه الجمع بين الحديثين فقال بغير علم، ولو سكت لسلم. والله الموفّق. قوله: (بين العمودين اليمانيّين) في رواية جويرية " بين العمودين المقدّمين " وفي رواية مالك عن نافع " جعل عموداً عن يمينه وعموداً عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه , وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة " وفي رواية عنه " عمودين عن يمينه ". ووقع في رواية فليح في البخاري " بين ذينك العمودين المقدّمين، وكان البيت على ستّة أعمدة سطرين، صلَّى بين العمودين من السّطر المقدّم , وجعل باب البيت خلف ظهره ".

وقال في آخر روايته " وعند المكان الذي صلَّى فيه مرمرة حمراء ". وكلّ هذا إخبار عمّا كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبنى في زمن ابن الزّبير. فأمّا الآن فقد بيّن موسى بن عقبة في روايته عن نافع كما في البخاري , أنّ بين موقفه - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار الذي استقبله قريباً من ثلاثة أذرع. وجزم برفع هذه الزّيادة مالك عن نافع. فيما أخرجه أبو داود من طريق عبد الرّحمن بن مهديّ , والدّارقطنيّ في " الغرائب " من طريقه وطريق عبد الله بن وهب وغيرهما عنه , ولفظه: وصلَّى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع. وكذا أخرجها أبو عوانة من طريق هشام بن سعد عن نافع. وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النّسائيّ من طريق ابن القاسم عن مالك بلفظ " نحو من ثلاثة أذرع " وهي موافقة لرواية موسى بن عقبة. وفي " كتاب مكّة " للأزرقيّ والفاكهيّ من وجه آخر , أنّ معاوية سأل ابن عمر أين صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة. فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتّباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فإنّه تقع قدماه في مكان قدميه - صلى الله عليه وسلم - إن كانت ثلاثة أذرع سواء، وتقع ركبتاه أو يداه ووجهه إن كان أقل من ثلاثة. والله أعلم.

قال الكرمانيّ: لفظ العمود جنسٌ. يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجملٌ بيّنته رواية " وعمودين "، ويحتمل أن يقال: لَم تكن الأعمدة الثّلاثة على سمتٍ واحدٍ , بل اثنان على سمت والثّالث على غير سمتهما، ولفظ " المقدّمين " مشعر به، والله أعلم قلت: ويؤيّده أيضاً رواية مجاهدٍ عن ابن عمر فإنّ فيها " بين السّاريتين اللتين على يسار الدّاخل " وهو صريحٌ في أنّه كان هناك عمودان على اليسار , وأنّه صلَّى بينهما. فيحتمل أنّه كان ثَمّ عمود آخر عن اليمين , لكنّه بعيدٌ أو على غير سمت العمودين فيصحّ قول مَن قال " جعل عن يمينه عمودين " وقول مَن قال " جعل عموداً عن يمينه ". وجوّز الكرمانيّ احتمالاً آخر , وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفّةً فصلَّى إلى جنب الأوسط، فمَن قال: جعل عموداً عن يمينه وعموداً عن يساره لَم يعتبر الذي صلَّى إلى جنبه , ومَن قال: عمودين اعتبره. ثمّ وجدته مسبوقاً بهذا الاحتمال. وأبعد منه قول مَن قال: انتقل في الرّكعتين من مكانٍ إلى مكان، ولا تبطل الصّلاة بذلك لقلته، والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد: رواية الصّاحب عن الصّاحب، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل والاكتفاء به، والحجّة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضاً خبر واجد فكيف يحتجّ للشّيء بنفسه.؟ لأنّا نقول: هو فرد ينضمّ إلى

نظائر مثله يوجب العلم بذلك. وفيه اختصاص السّابق بالبقعة الفاضلة، وفيه السّؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر لشدّة حرصه على تتبّع آثار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها. وفيه أنّ الفاضل من الصّحابة قد كان يغيب عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض المشاهد الفاضلة ويحضره من هو دونه فيطّلع على ما لَم يطّلع عليه، لأنّ أبا بكر وعمر وغيرهما ممّن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لَم يشاركوهم في ذلك. واستدل به البخاري على أنّ الصّلاة إلى المقام غير واجبة، فلو تعيّن استقبال المقام لَمَا صحّت داخل الكعبة؛ لأنّه كان حينئذٍ غير مستقبله. وقد روى الأزرقيّ في " أخبار مكّة " بأسانيد صحيحةٍ , أنّ المقام كان في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، حتّى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله حتّى وجد بأسفل مكّة، فأُتي به فرُبط إلى أستار الكعبة حتّى قدم عمر فاستثبت في أمره حتّى تحقّق موضعه الأوّل فأعاده إليه , وبنى حوله فاستقرّ ثَمَّ إلى الآن. وعلى جواز الصّلاة بين السّواري في غير الجماعة، وعلى مشروعيّة الأبواب والغلق للمساجد. وفيه أنّ السّترة إنّما تشرع حيث يخشى المرور فإنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بين العمودين ولَم يصل إلى أحدهما، والذي يظهر أنّه ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار كما تقدّم أنّه كان بين مصلاه والجدار نحو ثلاثة

أذرع، وبذلك ترجم له النّسائيّ. على أنّ حدّ الدّنوّ من السّترة أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع. ويستفاد منه أنّ قول العلماء تحيّة المسجد الحرام الطّواف مخصوص بغير داخل الكعبة , لكونه - صلى الله عليه وسلم - جاء فأناخ عند البيت فدخله فصلَّى فيه ركعتين , فكانت تلك الصّلاة , إمّا لكون الكعبة كالمسجد المستقلّ , أو هو تحيّة المسجد العامّ. والله أعلم. وفيه استحباب دخول الكعبة، وقد روى ابن خزيمة والبيهقيّ من حديث ابن عبّاس مرفوعاً: من دخل البيت دخل في حسنة وخرج مغفوراً له. قال البيهقيّ: تفرّد به عبد الله بن المؤمّل وهو ضعيف. ومحلّ استحبابه ما لَم يؤذ أحداً بدخوله. وروى ابن أبي شيبة من قول ابن عبّاس: أنّ دخول البيت ليس من الحجّ في شيء. وحكى القرطبيّ عن بعض العلماء: أنّ دخول البيت من مناسك الحجّ، وردّه بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما دخله عام الفتح. ولَم يكن حينئذٍ محرماً. وأمّا ما رواه أبو داود والتّرمذيّ وصحَّحه هو وابن خزيمة والحاكم عن عائشة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها وهو قرير العين , ثمّ رجع وهو كئيب فقال: دخلت الكعبة فأخاف أن أكون شققت على أمّتي. فقد يتمسّك به لصاحب هذا القول المحكيّ لكون عائشة لَم تكن معه في الفتح ولا في عمرته، بل إنّه لَم يدخل في الكعبة في عمرته ,

فروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت، وصلَّى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس، فقال له رجل: أَدَخَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة؟ قال: لا. (¬1). فتعيّن أنّ القصّة كانت في حجّته وهو المطلوب، وبذلك جزم البيهقيّ، وإنّما لَم يدخل في عمرته لِمَا كان في البيت من الأصنام والصّور , وكان إذ ذاك لا يتمكّن من إزالتها، بخلاف عام الفتح. قال النووي: قال العلماء: سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولَم يكن المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور ثم دخلها، يعني كما في حديث ابن عباس. انتهى. ويحتمل: أن يكون دخول البيت لَم يقع في الشرط، فلو أراد دخوله لمنعوه كما منعوه من الإقامة بمكة زيادة على الثلاث فلم يقصد دخوله لئلا يمنعوه. وفي " السيرة " عن علي , أنه دخلها قبل الهجرة فأزال شيئاً من الأصنام، وفي " الطبقات " عن عثمان بن طلحة نحو ذلك. فإن ثبت ذلك لَم يشكل على الوجه الأول , لأنَّ ذلك الدخول كان لإزالة شيء من المنكرات لا لقصد العبادة، والإزالة في الهدنة كانت ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح " (3/ 468): استدل المحب الطبري به على أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة في حجته وفي فتح مكة , ولا دلالة فيه على ذلك , لأنه لا يلزم من نفي كونه دخلها في عمرته أنه دخلها في جميع أسفاره. والله أعلم.

غير ممكنة بخلاف يوم الفتح. ويحتمل: أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه فليس في السّياق ما يمنع ذلك، وتقدم النقل عن جماعة من أهل العلم أنّه لَم يدخل الكعبة في حجّته. وفيه استحباب الصّلاة في الكعبة وهو ظاهر في النّفل، ويلتحق به الفرض إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم. وهو قول الجمهور. وعن ابن عبّاس: لا تصحّ الصّلاة داخلها مطلقاً. وعلَّله بأنّه يلزم من ذلك استدبار بعضها. وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها، وقال به بعض المالكيّة والظّاهريّة والطّبريّ. وقال المازريّ: المشهور في المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة، وعن ابن عبد الحكم الإجزاء، وصحَّحه ابن عبد البرّ وابن العربيّ. وعن ابن حبيب يعيد أبداً، وعن أصبغ إن كان متعمّداً. وأطلق التّرمذيّ عن مالك جواز النّوافل، وقيّده بعض أصحابه بغير الرّواتب وما تسرّع فيه الجماعة. وفي " شرح العمدة " لابن دقيق العيد: كَرِه مالك الفرض أو منعه , فكأنّه أشار إلى اختلاف النّقل عنه في ذلك. ويلتحق بهذه المسألة الصّلاة في الحِجر. ويأتي فيها الخلاف السّابق في الصّلاة إلى جهة الباب، نعم إذا استدبر الكعبة واستقبل الحِجر لَم

يصحّ على القول بأنّ تلك الجهة منه ليست من الكعبة. ومن المشكل ما نقله النّوويّ في " زوائد الرّوضة " عن الأصحاب , أنّ صلاة الفرض داخل الكعبة - إن لَم يرج جماعة - أفضل منها خارجها. ووجه الإشكال: أنّ الصّلاة خارجها متّفق على صحّتها بين العلماء بخلاف داخلها، فكيف يكون المختلف في صحّته أفضل من المتّفق؟.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 229 - عن عمر - رضي الله عنه - أنّه جاء إلى الحجر الأسود , فقبّله. وقال: إنّي لأعلم أنّك حجرٌ , لا تضرّ ولا تنفع , ولولا أنّي رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقبّلك ما قبّلتك (¬1). قوله: (الحجر الأسود) وردت فيه أحاديث: منها حديث عند الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: إنّ الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب. أخرجه أحمد والتّرمذيّ وصحَّحه ابن حبّان. وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف. قال التّرمذيّ: حديث غريب، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: وقفه أشبه والذي رفعه ليس بقويٍّ. ومنها حديث ابن عبّاس مرفوعاً: نزل الحجر الأسود من الجنّة وهو أشدّ بياضاً من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم. أخرجه التّرمذيّ وصحَّحه، وفيه عطاء بن السّائب وهو صدوق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1520) ومسلم (1270) من طريق إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (1528 , 1532) من حديث زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. وأخرجه مسلم (1270) من رواية ابن عمر وعبد الله بن سرجس وسويد بن غفلة عن عمر نحوه. ولفظ سويد: رأيت عمر قبل الحجر والتزمه، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفيَّاً.

لكنّه اختلط، وجرير ممّن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها، وقد رواه النّسائيّ من طريق حمّاد بن سلمة عن عطاء مختصراً ولفظه " الحجر الأسود من الجنّة " وحمّاد ممّن سمع من عطاء قبل الاختلاط. وفي صحيح ابن خزيمة أيضاً عن ابن عبّاس مرفوعاً: أنّ لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحقٍّ. وصحَّحه أيضاً ابن حبّان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضاً. قوله: (فقبّله) وللبخاري عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله. ولابن المنذر (¬1) من طريق أبي خالد عن عبيد الله عن نافع , رأيت ابن عمر استلم الحجر , وقبّل يده , وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. ويستفاد منه استحباب الجمع بين التّسليم والتّقبيل. بخلاف الرّكن اليمانيّ فيستلمه فقط , والاستلام المسح باليد والتّقبيل بالفم. وروى الشّافعيّ من وجه آخر عن ابن عمر قال: استقبل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحجر فاستلمه، ثمّ وضع شفتيه عليه طويلاً .. الحديث , واختصّ الحجر الأسود بذلك لاجتماع الفضيلتين له. كما سيأتي. (¬2) فائدةٌ: المستحبّ في التّقبيل أن لا يرفع به صوته، وروى الفاكهيّ ¬

_ (¬1) وأخرجه مسلم أيضاً (1268) من طريق أبي خالد الأحمر به. مثله (¬2) انظر حديث ابن عمر الآتي برقم (233)

عن سعيد بن جبير قال: إذا قبّلت الرّكن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النّساء. قوله: (وقال: إنّي لأعلم أنّك حجرٌ) وللبخاري من رواية أسلم عن عمر , أنّه قال للركن: أما والله إنّي لأعلم أنّك " وظاهره أنه خاطبه بذلك , وإنما فعل ذلك ليسمع الحاضرين. قوله: (لا تضرّ ولا تنفع) أي: إلاَّ بإذن الله. وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد , أنّ عمر لَمّا قال هذا , قال له عليّ بن أبي طالب: إنّه يضرّ وينفع، وذكر أنّ الله لَمّا أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رقٍّ وألقمه الحجر، قال: وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود , وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتّوحيد. وفي إسناده أبو هارون العبديّ. وهو ضعيف جدّاً. وقد روى النّسائيّ من وجه آخر ما يشعر , بأنّ عمر رفع قوله ذلك إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أخرجه من طريق طاوسٍ عن ابن عبّاس قال: رأيت عمر قبّل الحجر ثلاثاً , ثمّ قال: إنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبّلك ما قبّلتك , ثمّ قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ذلك. قال الطّبريّ: إنّما قال ذلك عمر , لأنّ النّاس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظنّ الجهّال أنّ استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهليّة , فأراد عمر

أن يعلم النّاس أنّ استلامه اتّباع لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لا لأنّ الحجر ينفع ويضرّ بذاته كما كانت الجاهليّة تعتقده في الأوثان. وقال المُهلَّب: حديث عمر هذا يردّ على مَن قال: إنّ الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة، وإنّما شرع تقبيله اختياراً ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصّة إبليس حيث أمر بالسّجود لآدم. وقال الخطّابيّ: معنى أنّه يمين الله في الأرض. أنّ من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأنّ العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به. فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحبّ الطّبريّ: معناه. أنّ كلّ ملك إذا قدم عليه الوافد قبّل يمينه , فلمّا كان الحاجّ أوّل ما يقدم يسنّ له تقبيله نزّل منزلة يمين الملك , ولله المثل الأعلى. وفي قول عمر هذا التّسليم للشّارع في أمور الدّين وحسن الاتّباع فيما لَم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتّباع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله ولو لَم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهّال من أنّ في الحجر الأسود خاصّة ترجع إلى ذاته ز وفيه بيان السّنن بالقول والفعل، وأنّ الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاده أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضّح ذلك. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": فيه كراهة تقبيل ما لَم يرد الشّرع بتقبيله، وأمّا قول الشّافعيّ: ومهما قبّل من البيت فحسنٌ , فلم يرد به

الاستحباب , لأنّ المباح من جملة الحسن عند الأصوليّين. تكميل: اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي فقال: كيف سوّدته خطايا المشركين , ولَم تبيّضه طاعات أهل التّوحيد؟. وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك، وإنّما أجرى الله العادة بأنّ السّواد يصبغ، ولا ينصبغ على العكس من البياض. وقال المحبّ الطّبريّ: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة، فإنّ الخطايا إذا أثّرت في الحجر الصّلد فتأثيرها في القلب أشدّ. قال: وروي عن ابن عبّاس إنّما غيّره بالسّواد , لئلا ينظر أهل الدّنيا إلى زينة الجنّة، فإن ثبت فهذا هو الجواب. قلت: أخرجه الحميديّ في فضائل مكّة بإسنادٍ ضعيف والله أعلم.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 230 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: لَمّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكّة , فقال المشركون: إنّه يقدم عليكم قومٌ وهَنَتْهم حمّى يثرب. فأمرهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثّلاثة , وأن يمشوا ما بين الرّكنين , ولَم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلاَّ الإبقاء عليهم. (¬1) قوله: (يقدم عليكم قوم) وللبخاري " وفدٌ " بمعنى قوم وزناً ومعنى، ووقع في رواية ابن السّكن " وقد " بفتح القاف وسكون الدّال. وهو خطأٌ قوله: (وهنتهم) بتخفيف الهاء وتشديدها. أي: أضعفتهم. قوله: (يثرب) اسم المدينة النّبويّة في الجاهليّة، ونهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن تسميتها بذلك، وإنّما ذكر ابن عبّاس ذلك حكاية: لكلام المشركين , وفي رواية الإسماعيليّ " فأطلعه الله على ما قالوا ". وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت بقرية تأكل القرى , يقولون: يثرب وهي المدينة .. " أي: إنّ بعض المنافقين يسمّيها يثرب , واسمها الذي يليق بها المدينة. وفهِم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب , وقالوا: ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1525 , 4009) ومسلم (1666) من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

وقع في القرآن إنّما هو حكايةٌ عن قول غير المؤمنين , وروى أحمد من حديث البراء بن عازبٍ رفعه: من سَمّى المدينة يثرب فليستغفر الله , هي طابة هي طابة. وروى عمر بن شبّة من حديث أبي أيّوب , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقال للمدينة يثرب. ولهذا قال عيسى بن دينارٍ من المالكيّة: من سمّى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئةٌ , قال: وسبب هذه الكراهة , لأنّ يثرب إمّا من التّثريب الذي هو التّوبيخ والملامة , أو من الثّرب. وهو الفساد وكلاهما مستقبحٌ , وكان - صلى الله عليه وسلم - يحبّ الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح. وذكر أبو إسحاق الزجاج في مختصره وأبو عبيد البكري في " معجم ما استعجم ": أنها سُميت يثرب باسم يثرب بن قانية بن مهلايل بن عيل بن عيص بن إرم بن سام بن نوح , لأنه أول من سكنها بعد العرب، ونزل أخوه خيبور خيبر فسميت به، وسقط بعض الأسماء من كلام البكري. قوله: (أن يرملوا) بضمّ الميم وهو في موضع مفعول يأمرهم , تقول أمرته كذا وأمرته بكذا. والرّمل بفتح الرّاء والميم هو الإسراع. وقال ابن دريدٍ: هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرّك الماشي منكبيه في مشيه. وفيه مشروعيّة الرمل، وهو الذي عليه الجمهور.

وقال ابن عبّاس: ليس هو بسنّةٍ، من شاء رمل ومن شاء لَم يرمل تكميل: لا يشرع تدارك الرّمل، فلو تركه في الثّلاث لَم يقضه في الأربع، لأنّ هيئتها السّكينة فلا تغيّر، ويختصّ بالرّجال فلا رمل على النّساء، ويختصّ بطوافٍ يعقبه سعي على المشهور. ولا فرق في استحبابه بين ماشٍ وراكب، ولا دم بتركه عند الجمهور. واختلف عند المالكيّة. وقال الطّبريّ: قد ثبت أنّ الشّارع رمل ولا مشرك يومئذٍ بمكّة يعني في حجّة الوداع، فعلم أنّه من مناسك الحجّ إلاَّ أنّ تاركه ليس تاركاً لعملٍ , بل لهيئةٍ مخصوصة , فكان كرفع الصّوت بالتّلبية , فمن لبّى خافضاً صوته لَم يكن تاركاً للتّلبية , بل لصفتها. ولا شيء عليه. قوله: (الأشواط) بفتح الهمزة بعدها معجمة. جمع شوط بفتح الشّين وهو الجري مرّة إلى الغاية، والمراد به هنا الطّوفة حول الكعبة. قوله: (وأن يمشوا بين الرّكنين) أي: اليمانيين. ولمسلمٍ من هذا الوجه في آخره " ليرى المشركون قوته. فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمّى وهنتهم، لهؤلاء أجلد من كذا ". وعند أبي داود من وجهٍ آخر " وكانوا إذا تواروا عن قريش بين الرّكنين مشوا، وإذا طلعوا عليهم رملوا ". تكملة: قال البخاري: وزاد ابن سلمة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لَمَّا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لِعامِه الذي استأمن، قال: ارملوا ليرى المشركون قوتَهم، والمشركون من قِبَل قعيقعان.

وابن سلمة هو حماد. وقد شارك حماد بن زيد في روايته له عن أيوب , وزاد عليه تعيين مكان المشركين. وهو قيقعان , وطريق حماد بن سلمة هذه وصلها الإسماعيلي نحوه. وزاد في آخره: فلمَّا رملوا. قال المشركون: ما وهنتهم. قوله: (إلاَّ الإبقاء عليهم) بكسر الهمزة وسكون الموحّدة بعدها القاف والمدّ. أي: الرّفق بهم والإشفاق عليهم، والمعنى لَم يمنعه من أمرهم بالرّمل في جميع الطّوفات إلاَّ الرّفق بهم. قال القرطبيّ: روينا قوله: " إلاَّ الإبقاء عليهم " بالرّفع على أنّه فاعل يمنعه، وبالنّصب على أن يكون مفعولاً من أجله , ويكون في يمنعه ضمير عائد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فاعله. وفي الحديث جواز تسمية الطّوفة شوطاً، ونقل عن مجاهد والشّافعيّ كراهته. ويؤخذ منه جواز إظهار القوّة بالعدّة والسّلاح ونحو ذلك للكفّار إرهاباً لهم، ولا يعدّ ذلك من الرّياء المذموم. (¬1) وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربّما كانت بالفعل أولى. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (1566) ومسلم (1666) عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إنما سعى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبيت، وبين الصفا والمروة، ليري المشركين قوته.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 231 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقدم مكّة إذا استلم الرّكن الأسود , أوّل ما يطوف: يخبّ ثلاثة أشواطٍ. (¬1) قوله: (أوّل) منصوب على الظّرف. قوله: (يخبّ) بفتح أوّله وضمّ الخاء المعجمة بعدها موحّدة. أي: يسرع في مشيه، والخبب بفتح المعجمة والموحّدة بعدها موحّدة أخرى: العدو السّريع، يقال: خبت الدّابّة إذا أسرعت وراوحت بين قدميها، وهذا يشعر بترادف الرّمل والخبب عند هذا القائل. وقوله: (ثلاثة أشواط) زادا في روايتهما " من السّبع " بفتح أوّله. أي: السّبع طوفات. وظاهره أنّ الرّمل يستوعب الطّوفة، فهو مغاير لحديث ابن عبّاس الذي قبله , لأنّه صريح في عدم الاستيعاب , فإنّهم اقتصروا عند مراءاة المشركين على الإسراع إذا مرّوا من جهة الرّكنين الشّاميّين , لأنّ المشركين كانوا بإزاء تلك النّاحية، فإذا مرّوا بين الرّكنين اليمانيّين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1526) ومسلم (1261) من طريق يونس عن الزهري عن سالم عن أبيه - رضي الله عنه -. ولفظه عندهما: ثلاثة أطواف من السبع. أمَّا لفظة " أشواط " فجاءت في أحد طرق نافع عن ابن عمر. أخرجه البخاري (1527 , 1537 , 1538 , 1562) ومسلم (1261) من طرق عن نافع عن ابن عمر نحوه.

مشوا على هيئتهم كما هو بيّن في حديث ابن عبّاس. ولَمّا رملوا في حجّة الوداع أسرعوا في جميع كلّ طوفة فكانت سنّة مستقلة، ولهذه النّكتة سأل عبيد الله بن عمر نافعاً كما في البخاري عن مشي عبد الله بن عمر بين الرّكنين اليمانيّين. فأعلمه أنّه إنّما كان يفعله , ليكون أسهل عليه في استلام الرّكن. أي: كان يرفق بنفسه ليتمكّن من استلام الرّكن عند الازدحام. وهذا الذي قاله نافع. إن كان استند فيه إلى فهمه فلا يدفع احتمال أن يكون ابن عمر فعل ذلك اتّباعاً للصّفة الأولى من الرّمل لِمَا عرف من مذهبه في الاتّباع.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 232 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: طاف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع على بعيرٍ , يستلم الرّكن بمحجنٍ. (¬1) قال المصنف: المِحجن: عصاً منحنية الرأس. قوله: (حجة الوداع) بكسر الحاء المهملة وبفتحها، وبكسر الواو وبفتحها. وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: كنا نتحدّث بحجة الوداع , والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا , ولا ندري ما حجة الوداع. فحمد الله وأثنى عليه .. الحديث ". كأنّه شيء ذكره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتحدّثوا به وما فهموا أنّ المراد بالوداع وداع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، حتّى وقعت وفاته - صلى الله عليه وسلم - بعدها بقليلٍ فعرفوا المراد، وعرفوا أنّه ودّع النّاس بالوصيّة التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفّاراً، وأكّد التّوديع بإشهاد الله عليهم بأنّهم شهدوا أنّه قد بلغ ما أرسل إليهم به، فعرفوا حينئذٍ المراد بقولهم حجّة الوداع. وقد وقع في البخاري من رواية عاصم بن محمّد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر في هذا الحديث " فودّع النّاس ". ووقع عند البيهقيّ أنّ سورة (إذا جاء نصر الله والفتح) نزلت في وسط أيّام التّشريق، فعرف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه الوداع، فركب واجتمع النّاس فذكر الخطبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1530) ومسلم (1272) من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (1534 , 1535 , 1551 , 4987) من وجه آخر عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس نحوه , لكن قال: أشار إليه بشيءٍ كان عنده.

وذكر جابر في حديثه الطّويل في صفتها كما أخرجه مسلم وغيره , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين - أي: منذ قدم المدينة - لَم يحجّ، ثمّ أذّن في النّاس في العاشرة أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حاجّ، فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الحديث. ووقع في حديث أبي سعيد الخدريّ ما يوهم أنّه - صلى الله عليه وسلم - حجّ قبل أنّ يهاجر غير حجّة الوداع. ولفظه (¬1) ..... وعند التّرمذيّ من حديث جابر " حجّ قبل أن يهاجر ثلاث حجج " وعن ابن عبّاس مثله. أخرجه ابن ماجه والحاكم. قلت: وهو مبنيّ على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنًى بعد الحجّ، فإنّهم قدموا أوّلاً فتواعدوا، ثمّ قدموا ثانياً فبايعوا البيعة الأولى، ثمّ قدموا ثالثاً فبايعوا البيعة الثّانية، وهذا لا يقتضي نفي الحجّ قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسندٍ صحيح إلى الثّوريّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حجّ قبل أن يهاجر حججاً. قلت: بل حجّ قبل أن يهاجر مراراً، بل الذي لا أرتاب فيه أنّه لَم يترك الحجّ وهو بمكّة قطّ، لأنّ قريشاً في الجاهليّة لَم يكونوا يتركون الحجّ، وإنّما يتأخّر منهم عنه من لَم يكن بمكّة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحجّ , ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب , فكيف يظنّ بالنّبيّ ¬

_ (¬1) بياض بالأصل.

- صلى الله عليه وسلم - أنّه يتركه؟ وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم , أنّه رآه في الجاهليّة واقفاً بعرفة (¬1)، وأنّ ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنًى ثلاث سنين متوالية كما بيّنته في الهجرة إلى المدينة. وقال ابن الجوزيّ: حجّ حججاً لا يُعرف عددها. وقال ابن الأثير في النّهاية: كان يحجّ كلّ سنة قبل أن يهاجر. قوله: (على بعيرٍ) حمل البخاريُّ (¬2) سببَ طوافه - صلى الله عليه وسلم - راكباً على أنّه كان عن شكوى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عبّاس أيضاً بلفظ: قدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مكّة وهو يشتكي. فطاف على راحلته. ووقع في حديث جابر عند مسلم: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - طاف راكباً ليراه النّاس , وليسألوه. فيحتمل: أن يكون فعل ذلك للأمرين، وحينئذٍ لا دلالة فيه على جواز الطّواف راكباً لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز إلاَّ أنّ المشي أولى، والرّكوب مكروه تنزيهاً، والذي يترجّح المنع , لأنّ طوافه - صلى الله عليه وسلم - وكذا أمّ سلمة كان قبل أن يحوّط المسجد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1664) ومسلم (1220) عن جبير - رضي الله عنه - قال: أضللت بعيراً لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفاً مع الناس بعرفة، فقلت: والله، إن هذا لمن الحُمس، فما شأنه هاهنا؟. وكانت قريش تعد من الحمس (¬2) حيث قال (باب المريض يطوف راكباً) ثم ذكر حديث ابن عبّاس. وكذا حديث أم سلمة , قالت: شكوتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي , فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة .. الحديث

ووقع في حديث أمّ سلمة " طوفي من وراء النّاس " وهذا يقتضي منع الطّواف في المطاف، وإذا حوّط المسجد امتنع داخله، إذ لا يؤمن التّلويث فلا يجوز بعد التّحويط، بخلاف ما قبله. فإنّه كان لا يحرم التّلويث كما في السّعي. وعلى هذا فلا فرق في الرّكوب - إذا ساغ - بين البعير والفرس والحمار. وأمّا طواف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - راكباً فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه , ولذلك عدّه بعض من جمع خصائصه فيها. واحتمل أيضاً: أن تكون راحلته عصمت من التّلويث حينئذٍ كرامة له , فلا يقاس غيره عليه، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير وبَعْرِه. قوله: (يستلم الرّكن بمحجنٍ) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون، هو عصا محنيّة الرّأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سُمِّي الحجون. والاستلام افتعال من السّلام بالفتح. أي: التّحيّة. قاله الأزهريّ. وقيل: من السّلام بالكسر. أي: الحجارة , والمعنى أنّه يومئ بعصاه إلى الرّكن يصيبه. زاد مسلم من حديث أبي الطّفيل " ويقبّل المحجن " وله من حديث ابن عمر , أنّه استلم الحجر بيده , ثمّ قبّله. ورفع ذلك. ولسعيد بن المنصور من طريق عطاء قال: رأيت أبا سعيد وأبا

هريرة وابن عمر وجابراً إذا استلموا الحجر قبّلوا أيديهم. قيل: وابن عبّاس؟ قال: وابن عبّاس، أحسبه. قال: كثيراً. وبهذا قال الجمهور: أنّ السّنّة أن يستلم الرّكن , ويقبّل يده. فإن لَم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيءٍ في يده , وقبّل ذلك الشّيء , فإن لَم يستطع أشار إليه , واكتفى بذلك. (¬1) وعن مالك في رواية: لا يقبّل يده، وكذا قال القاسم، وفي رواية عند المالكيّة يضع يده على فمه من غير تقبيل. وزاد أبو داود في آخر حديثه " فلمّا فرغ من طوافه أناخ فصلَّى ركعتين " تكميل: في رواية للبخاري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس: كلَّما أتى الركن أشار إليه بشيءٍ كان عنده وكبّر. وفيه استحباب التّكبير عند الرّكن الأسود في كلّ طوفة. قال ابن التّين: تقدّم أنّه كان يستلمه بالمحجن، فيدلّ على قربه من البيت، لكن من طاف راكباً يستحبّ له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحداً، فيحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الأمن من ذلك. انتهى. ويحتمل: أن يكون في حال استلامه قريباً حيث أمن ذلك، وأن يكون في حال إشارته بعيداً حيث خاف ذلك. ¬

_ (¬1) أي بعدم تقبيل اليد. فإنَّ التقبيل إنما يكون لشيء مسَّ الحجر كاليد والمحجن وغيرهم.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 233 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: لَم أر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت إلاَّ الرّكنين اليمانيين. (¬1) قوله: (إلاَّ الرّكنين اليمانيين) أي: دون الرّكنين الشّاميّين، واليمانيان تثنية يمان والمراد بهما الرّكن الأسود والذي يسامته من مقابلة الصّفا. وقيل: للأسود يمانٍ تغليباً , واليماني بتخفيف الياء على المشهور , لأنّ الألف عوض عن ياء النّسب. فلو شدّدت لكان جمعاً بين العوض والمعوّض. وجوّز سيبويه التّشديد , وقال: إنّ الألف زائدة. وأخرج الشيخان عن ابن عمر: إنّما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلام الرّكنين الشّاميّين , لأنّ البيت لَم يتمّم على قواعد إبراهيم. وعلى هذا المعنى حَملَ ابن التّين تبعاً لابن القصّار استلامَ ابن الزّبير لهما , لأنّه لَمّا عَمَرَ الكعبة أتمّ البيت على قواعد إبراهيم. انتهى. وتعقّب ذلك بعض الشّرّاح: بأنّ ابن الزّبير طاف مع معاوية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1531) ومسلم (1268) من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (1529) ومسلم (1268) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. نحوه. وله طرق أخرى نحوه عندهما.

واستلم الكلّ، ولَم نقف (¬1) على هذا الأثر. وإنّما وقع ذلك لمعاوية مع ابن عبّاس (¬2). وأمّا ابن الزّبير. فقد أخرج الأزرقيّ في " كتاب مكّة " فقال: إنّ ابن الزّبير لَمّا فرغ من بناء البيت , وأدخل فيه من الحجر ما أخرج منه , وردّ الرّكنين على قواعد إبراهيم. خرج إلى التّنعيم , واعتمر وطاف بالبيت واستلم الأركان الأربعة، فلم يزل البيت على بناء ابن الزّبير إذا طاف الطّائف استلم الأركان جميعها. حتّى قتل ابن الزّبير. وأخرج من طريق ابن إسحاق , قال: بلغني أنّ آدم لَمّا حجّ استلم الأركان كلّها، وأنّ إبراهيم وإسماعيل لَمّا فرغا من بناء البيت طافا به سبعاً يستلمان الأركان. وقال الدّاوديّ: ظنّ معاوية أنّهما ركنا البيت الذي وضع عليه من أوّل، وليس كذلك، لِمَا سبق من حديث عائشة (¬3)، والجمهور على ما ¬

_ (¬1) في المطبوع (ولَم يقف) بالياء. ولعل الصواب ما أثبتّه , والسياق يدلّ عليه. (¬2) أي: ما ذكره البخاري معلقاً (1608) وقال محمد بن بكر: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء , أنه قال: ومن يتقي شيئاً من البيت؟ وكان معاوية يستلم الأركان. فقال له ابن عباس - رضي الله عنه -: إنه لا يُستلم هذان الركنان، فقال: ليس شيء من البيت مهجوراً. قال ابن حجر رحمه الله في " الفتح " (3/ 473): وصله أحمد والترمذي والحاكم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية , فكان معاوية لا يمرُّ بركن إلاَّ استلمه , فقال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يستلم إلاَّ الحجر واليماني , فقال معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجوراً. وأخرج مسلم المرفوع فقط من وجه آخر عن ابن عباس. انتهى (¬3) أي. ما أخرجه البخاري (1583) ومسلم (1333) عن عائشة , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أَلَم تري أن قومكِ حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم , قالت: فقلت: يا رسول الله. أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت، فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعتْ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلاَّ أن البيت لَم يُتَمَّم على قواعد إبراهيم. وفي رواية لهما " لهدمتُ الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم , فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة " زاد مسلم " وزِدتُ فيها ستة أذرع من الحِجر ".

دلَّ عليه حديث ابن عمر، وروى ابن المنذر وغيره. استلام جميع الأركان أيضاً عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصّحابة , وعن سويد بن غفلة من التّابعين. وقد يشعر ما أخرجه البخاري من حديث عبيد بن جريجٍ , أنّه قال لابن عمر: رأيتك تصنع أربعاً لَم أر أحداً من أصحابك يصنعها. فذكر منها " ورأيتك لا تمسّ من الأركان إلاَّ اليمانيّين .. الحديث " بأنّ الذين رآهم عبيد بن جريجٍ من الصّحابة والتّابعين كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الرّكنين اليمانيّين. وقال بعض أهل العلم: اختصاص الرّكنين مبيّن بالسّنّة , ومستند التّعميم القياس. وأجاب الشّافعيّ عن قول مَن قال: ليس شيء من البيت مهجوراً: بأنّا لَم ندّعِ استلامهما هجراً للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به؟ ولكنّا نتّبع السّنّة فعلاً أو تركاً، ولو كان ترك استلامهما هجراً لهما

لكان ترك استلام ما بين الأركان هجراً لها. ولا قائل به , ويؤخذ منه حفظ المراتب وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وتنزيل كلّ أحد منزلته. فائدةٌ: في البيت أربعة أركان، الأوّل له فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم. وللثّاني الثّانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يقبّل الأوّل ويستلم الثّاني فقط , ولا يقبّل الآخران ولا يستلمان، هذا على رأي الجمهور. واستحبّ بعضهم. تقبيل الرّكن اليمانيّ أيضاً (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في " التاريخ الكبير " (1/ 190) وابن خزيمة في " صحيحه " (2727) وأبو يعلى في " مسنده " (4/ 427) والبيهقي في " الكبرى " (5/ 76) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استلم الركن اليماني قبَّله , ووضع خده الأيمن عليه. قال البيهقي: تفرد به عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف. قال ابن عبد البر في " التمهيد ": وهذا غير معروف ولَم يتابع عليه , وإنما المعروف قبَّل يده. وإنما يُعرف تقبيل الحجر الأسود ووضع الوجه عليه , وما أعرف أحداً من أهل الفتوى يقول بتقبيل غير الأسود. اهـ

باب التمتع

باب التّمتّع التّمتّع المعروف أنّه الاعتمار في أشهر الحجّ , ثمّ التّحلّل من تلك العمرة والإهلال بالحجّ في تلك السّنة قال الله تعالى: (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي) ويطلق التّمتّع في عرف السّلف على القران أيضاً. قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين العلماء أنّ التّمتّع المراد بقوله تعالى (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ) أنّه الاعتمار في أشهر الحجّ قبل الحجّ. قال: ومن التّمتّع أيضاً القران , لأنّه تمتّع بسقوط سفر للنّسك الآخر من بلده، ومن التّمتّع فسخ الحجّ أيضاً إلى العمرة. انتهى. وأمّا القران. فوقع في رواية أبي ذرٍّ " الإقران " (¬1) بالألف , وهو خطأ من حيث اللّغة كما قاله عياض وغيره. وصورته الإهلال بالحجّ والعمرة معاً، وهذا لا خلاف في جوازه. أو الإهلال بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ أو عكسه. وهذا مختلف فيه. وأمّا الإفراد. فالإهلال بالحجّ وحده في أشهره عند الجميع , وفي غير أشهره أيضاً عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحجّ لمن شاء. ¬

_ (¬1) أي: في تبويب البخاري حيث قال: باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر 234 - عن أبي جمرة نصر بن عمران الضُّبعيّ، قال: سألت ابن عبّاسٍ عن المُتعة؟ فأمرني بها , وسألتُه عن الهدي؟ فقال: فيه جزورٌ , أو بقرةٌ , أو شاةٌ , أو شركٌ في دمٍ , قال: وكأن ناساً كَرِهُوها , فنمتُ. فرأيت في المنام كأنّ إنساناً ينادي: حجٌّ مبرورٌ , ومُتعةٌ متقبّلةٌ. فأتيت ابن عبّاسٍ فحدّثته. فقال: الله أكبر سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (أبو جمرة) بالجيم والرّاء. واسمه نصر بن عمران بن نوح بن مخلد الضبعي - بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة - من بني ضبيعة - بضمّ أوله مصغراً - وهم بطن من عبد القيس. كما جزم به الرشاطي. وفي بكر بن وائل بطنٌ يقال لهم بنو ضبيعة أيضاً، وقد وهِم من نسب أبا جمرة إليهم من شُراح البخاري، فقد روى الطبراني وابن منده في ترجمة نوح بن مخلد - جد أبي جمرة - أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ممن أنت؟ قال: من ضُبيعة ربيعة. فقال: خير ربيعة عبد القيس , ثم الحي الذين أنتَ منهم. قوله: (سألت ابن عبّاسٍ عن المُتعة) (¬2) في رواية لهما " تمتعتُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1992 , 1603) ومسلم (1242) من طريق شعبة عن أبي جمرة به. (¬2) سيأتي الكلام مفصّلاً إن شاء الله عن المتعة في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - رقم (237). فائدة: قال القاضي عياض في مشارق الأنوار (1/ 372): مُتعة النساء , ومُتعة الحج , ومُتعة المطلَّقة. كلها بضم الميم إلاَّ ما حكى أبو علي عن الخليل في متعة الحج أنها بكسر الميم. والمعروف الضم. انتهى بتجوز.

فنهاني ناسٌ عن ذلك " لَم أقف على أسمائهم، وكان ذلك في زمن ابن الزّبير , وكان ينهى عن المتعة كما رواه مسلم من حديث أبي الزّبير عنه وعن جابر. ونقل ابن أبي حاتم عن ابن الزّبير , أنّه كان لا يرى التّمتّع إلاَّ للمحصر. ووافقه علقمة وإبراهيم. وقال الجمهور: لا اختصاص لذلك للحصر. قوله: (فأمرني) أي: أن أستمرّ على عمرتي، ولأحمد ومسلم من طريق غندر عن شعبة عن أبي جمرة: فأتيت ابن عبّاس فسألته عن ذلك فأمرني بها، ثمّ انطلقتُ إلى البيت فنمتُ. فأتاني آتٍ في منامي. قوله: (وسألته) أي: ابن عبّاس. قوله: (عن الهدي) فقال فيها. أي: المتعة يعني يجب على من تمتّع دم. قوله: (جزور) بفتح الجيم وضمّ الزّاي. أي: بعير ذكراً كان أو أنثى , وهو مأخوذ من الجزر. أي: القطع. ولفظها مؤنّث تقول هذه الجزور. وقوله: (أو شاة) هو قول الجمهور , ورواه الطّبريّ وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم.

ورَوَيا بإسنادٍ قويّ عن القاسم بن محمّد عن عائشة وابن عمر " أنّهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلاَّ من الإبل والبقر ". ووافقهما القاسم وطائفة. قال إسماعيل القاضي في " الأحكام " له: أظنّهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن. قال: ويردّ هذا قوله تعالى (هدياً بالغ الكعبة). وأجمع المسلمون أنّ في الظّبي شاةً. فوقع عليها اسم هدي. قلت: قد احتجّ بذلك ابن عبّاس. فأخرج الطّبريّ بإسنادٍ صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عبّاس: الهدي شاةٌ. فقيل له في ذلك، قال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقوون به ما في الظّبي؟ قالوا: شاة , قال: فإنّ الله تعالى يقول (هدياً بالغ الكعبة). قوله: (أو شِرك) بكسر الشّين المعجمة وسكون الرّاء. أي: مشاركة في دم. أي: حيث يجزئ الشّيء الواحد عن جماعة. وهذا موافق لِمَا رواه مسلم عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحجّ. فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر: كلّ سبعة منّا في بدنة. وبهذا قال الشّافعيّ والجمهور سواء كان الهدي تطوّعاً أو واجباً. وسواء كانوا كلّهم متقرّبين بذلك أو كان بعضهم يريد التّقرّب ,

وبعضهم يريد اللحم. وعن أبي حنيفة: يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلّهم متقرّبين بالهدي. وعن زفر: مثله بزيادة أن تكون أسبابهم واحدة. وعن داود وبعض المالكيّة: يجوز في هدي التّطوّع دون الواجب. وعن مالك: لا يجوز مطلقاً. واحتجّ له إسماعيل القاضي: بأنّ حديث جابر إنّما كان بالحديبية حيث كانوا محصرين , وأمّا حديث ابن عبّاس فخالف أبا جمرة عنه ثقات أصحابه. فرووا عنه أنّ ما استيسر من الهدي شاةٌ , ثمّ ساق ذلك بأسانيد صحيحةٍ عنهم عن ابن عبّاس. قال: وقد روى ليث عن طاوس عن ابن عبّاس مثل رواية أبي جمرة , وليث ضعيف. قال: وحدّثنا سليمان عن حمّاد بن زيد عن أيّوب عن محمّد بن سيرين عن ابن عبّاس قال: ما كنت أرى أنّ دماً واحداً يقضي عن أكثر من واحد. انتهى. وليس بين رواية أبي جمرة ورواية غيره منافاةٌ , لأنّه زاد عليهم ذكر الاشتراك ووافقهم على ذكر الشّاة , وإنّما أراد ابن عبّاس بالاقتصار على الشّاة , الرّدّ على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر. وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا. وأمّا رواية محمّد عن ابن عبّاس فمنقطِعة , ومع ذلك لو كانت متّصلة احتمل أن يكون ابن عبّاس أخبر أنّه كان لا يرى ذلك من

جهة الاجتهاد حتّى صحّ عنده النّقل بصحّة الاشتراك فأفتى به أبا جمرة , وبهذا تجتمع الأخبار , وهو أولى من الطّعن في روايةِ مَن أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج بروايته. وهو أبو جمرة الضّبعيّ. وقد روي عن ابن عمر , أنّه كان لا يرى التّشريك , ثمّ رجع عن ذلك لَمّا بلغته السّنّة. قال أحمد: حدّثنا عبد الوهّاب حدّثنا مجاهد عن الشّعبيّ , قال: سألت ابن عمر. قلت: الجزور والبقرة تجزئ عن سبعة؟ قال: يا شعبيّ ولها سبعة أنفس؟ قال قلت: فإنّ أصحاب محمّد يزعمون , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنّ الجزور عن سبعة والبقرة عن سبعة. قال: فقال ابن عمر لرجلٍ: أكذلك يا فلان؟ قال: نعم. قال: ما شعرت بهذا. وأمّا تأويل إسماعيل لحديث جابر بأنّه كان بالحديبية. فلا يدفع الاحتجاج بالحديث , بل روى مسلم من طريق أخرى عن جابر في أثناء حديث قال: فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أحللنا أن نهدي ونجمع النّفر منّا في الهديّة. وهذا يدلّ على صحّة أصل الاشتراك. واتّفق مَن قال بالاشتراك على أنّه لا يكون في أكثر من سبعة إلاَّ إحدى الرّوايتين عن سعيد بن المسيّب فقال: تجزئ عن عشرةٍ. وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشّافعيّة. واحتجّ لذلك في صحيحه وقوّاه. واحتجّ له ابن خزيمة: بحديث رافع بن خديج , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قسم

فعدل عشراً من الغنم ببعير .. الحديث " وهو في الصّحيحين (¬1). وأجمعوا على أنّ الشّاة لا يصحّ الاشتراك فيها. قوله: (ومتعةٌ متقبّلةٌ) قال الإسماعيليّ وغيره: تفرّد النّضر (¬2) بقوله " متعة " ولا أعلم أحداً من أصحاب شعبة رواه عنه إلاَّ قال " عمرة " وقال أبو نعيمٍ: قال أصحاب شعبة كلّهم " عُمرة " إلاَّ النّضر فقال " متعة ". قلت: وقد أشار البخاري إلى هذا بما علَّقه بعد , فقال قال: آدم ووهب بن جرير وغندرٌ عن شعبة: عُمرة إلخ ". أمّا طريق آدم. فوصلها عنه البخاري , وأمّا طريق وهب بن جرير. فوصلها البيهقيّ من طريق إبراهيم بن مرزوق عن وهب , وأمّا طريق غندر. فوصلها أحمد عنه , وأخرجها مسلم عن أبي موسى وبندار كلاهما عن غندر. قوله: (فقال: الله أكبر سنّة أبي القاسم) هو خبر مبتدأ محذوف. أي: هذه سنّة، ويجوز فيه النّصب. أي: وافقت سنّة أبي القاسم أو على الاختصاص. وفي رواية آدم عن شعبة عند البخاري " فقال لي (أي ابن عباس) أقم عندي، فأجعل لك سهماً من مالي، قال شعبة: فقلت: لَم؟ فقال ¬

_ (¬1) حديث رافع - رضي الله عنه - سيأتي إن شاء في باب الصيد رقم (393) (¬2) أي: ابن شميل. وروايته هذه أخرجها البخاري في " الصحيح " (1688) عن إسحاق بن منصور عن النضر عن شعبة عن أبي جمرة به.

(أي أبو جمرة) للرؤيا التي رأيت " أي: لأجل الرّؤيا المذكورة. ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسرّه، وفرح العالم بموافقته الحقّ، والاستئناس بالرّؤيا لموافقة الدّليل الشّرعيّ، وعرض الرّؤيا على العالم، والتّكبير عند المسرّة. والعمل بالأدلة الظّاهرة، والتّنبيه على اختلاف أهل العلم ليعمل بالرّاجح منه الموافق للدّليل.

الحديث العشرون

الحديث العشرون 235 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: تمتّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ وأهدى. فساق معه الهدي من ذي الحليفة , وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بالعمرة , ثمّ أهل بالحجّ , فتمتّع النّاس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة إلى الحجّ , فكان من النّاس من أهدى , فساق الهدي من الحليفة. ومنهم من لَم يهد فلمّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة , قال للنّاس: من كان منكم أهدى , فإنّه لا يحلّ من شيءٍ حرم منه حتّى يقضي حجّه. ومن لَم يكن أهدى. فليطف بالبيت وبالصّفا والمروة , وليقصّر وليحلل , ثمّ ليُهل بالحجّ وليهد , فمن لَم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةً إذا رجع إلى أهله , فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكّة. واستلم الرّكن أوّل شيءٍ , ثمّ خبّ ثلاثة أطوافٍ من السّبع , ومشى أربعةً , وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين , ثمّ انصرف فأتى الصّفا , وطاف بالصّفا والمروة سبعة أطوافٍ , ثمّ لَم يَحْلِل من شيءٍ حرم منه حتّى قضى حجّه , ونحر هديه يوم النّحر. وأفاض فطاف بالبيت , ثمّ حلَّ من كل شيءٍ حرم منه , وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أهدى وساق الهدي من النّاس. (¬1) قوله: (تمتّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ) قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1606) ومسلم (1227) من طريق عقيل عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

المُهلَّب: معناه أمر بذلك , لأنّه كان ينكر على أنس قوله " أنّه قرن " ويقول: بل كان مفرداً (¬1). وأمّا قوله " وبدأ فأهل بالعمرة " فمعناه أمرهم بالتّمتّع وهو أن يهلّوا بالعمرة أوّلاً ويقدّموها قبل الحجّ , قال: ولا بدّ من هذا التّأويل لدفع التّناقض عن ابن عمر. قلت: لَم يتعيّن هذا التّأويل المتعسّف. وقد قال ابن المنير في الحاشية: إنّ حمل قوله " تمتّع " على معنى أمر من أبعد التّأويلات والاستشهاد عليه بقوله " رجم " وإنّما أمر بالرّجم. من أوهن الاستشهادات , لأنّ الرّجم من وظيفة الإمام , والذي يتولاه إنّما يتولاه نيابةً عنه , وأمّا أعمال الحجّ من إفرادٍ وقران وتمتّع. فإنّه وظيفة كلّ أحد عن نفسه. ثمّ أجاز تأويلاً آخر , وهو أنّ الرّاوي عهد أنّ النّاس لا يفعلون إلاَّ كفعله , لا سيّما مع قوله " خذوا عنّي مناسككم " فلمّا تحقّق أنّ النّاس تمتّعوا. ظنّ أنّه عليه الصّلاة والسّلام تمتّع فأطلق ذلك. قلت: ولَم يتعيّن هذا أيضاً , بل يحتمل أن يكون معنى قوله " تمتّع " محمولاً على مدلوله اللّغويّ وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة ¬

_ (¬1) إنكار ابن عمر على أنس - رضي الله عنهم -. أخرجه مسلم في " الصحيح " (1232) عن بكر بن عبد الله عن أنس قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبّي بالحج والعمرة جميعاً. قال بكر: فحدَّثت بذلك ابن عمر، فقال: لبَّى بالحج وحده , فلقيتُ أنساً فحدَّثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدُّوننا إلاَّ صبياناً، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لبيك عمرة وحجاً.

والخروج إلى ميقاتها وغيرها , بل قال النّوويّ. إنّ هذا هو المتعيّن. قال: وقوله " بالعمرة إلى الحجّ " أي: بإدخال العمرة على الحجّ. وسيأتي تقرير هذا التّأويل. وإنّما المشكل هنا قوله " بدأ فأهل بالعمرة , ثمّ أهل بالحجّ " , لأنّ الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقرّ على أنّه بدأ أوّلاً بالحجّ ثمّ أدخل عليه العمرة. وهذا بالعكس. وأجيب عنه: بأنّ المراد به صورة الإهلال. أي: لَمّا أدخل العمرة على الحجّ لبّى بهما فقال: لبّيك بعمرةٍ وحجّةٍ معاً. وهذا مطابق لحديث أنسٍ في البخاري , لكن قد أنكر ابن عمر ذلك على أنس , فيحتمل: أن يحمل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنّه - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما. أي: في ابتداء الأمر. ويعيّن هذا التّأويل قوله في نفس الحديث " وتمتّع النّاس .. إلخ " فإنّ الذين تمتّعوا إنّما بدءوا بالحجّ , لكن فسخوا حجّهم إلى العمرة حتّى حلّوا بعد ذلك بمكّة , ثمّ حجّوا من عامهم. قوله: (فساق معه الهدي من ذي الحليفة) أي: من الميقات , وفيه النّدب إلى سوق الهدي من المواقيت ومن الأماكن البعيدة , وهي من السّنن التي أغفلها كثيرٌ من النّاس. قال المُهلَّب: أراد البخاري (¬1) أن يعرّف أنّ السّنّة في الهدي أن يساق من الحل إلى الحرم فإن اشتراه من الحرم خرج به إذا حجّ إلى ¬

_ (¬1) بوّب على الحديث: باب من ساق البدن معه. قال ابن حجر: أي من الحلِّ إلى الحرم.

عرفة. وهو قول مالك قال: فإن لَم يفعل فعليه البدل. وهو قول الليث. وقال الجمهور: إن وقف به بعرفة فحسنٌ. وإلا فلا بدل عليه. وقال أبو حنيفة: ليس بسنّةٍ , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما ساق الهدي من الحل , لأنّ مسكنه كان خارج الحرم. وهذا كلّه في الإبل. فأمّا البقر فقد يضعف عن ذلك والغنم أضعف , ومن ثَمَّ قال مالك: لا يساق إلاَّ من عرفة أو ما قرب منها , لأنّها تضعف عن قطع طول المسافة. قوله: (فلمّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة) سيأتي إن شاء الله (¬1) قوله: (فإنّه لا يحلّ من شيء) سيأتي بيانه في حديث حفصة إن شاء الله. قوله: (وليقصّر) قال النّوويّ: معناه أنّه يفعل الطّواف والسّعي والتّقصير ويصير حلالاً , وهذا دليل على أنّ الحلق أو التّقصير نسك وهو الصّحيح. وقيل: استباحة محظور. قال: وإنّما أمره بالتّقصير دون الحلق مع أنّ الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحجّ. (¬2) ¬

_ (¬1) وهو في الرابع من ذي الحجة. انظر حديث ابن عباس - رضي الله عنه - الآتي رقم (246) (¬2) أخرج البخاري (1644) عن ابن عباس قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم يحلوا ويحلقوا أو يقصروا. قال الحافظ في " الفتح " (3/ 715): فيه التخيير بين الحلق والتقصير للمُتمتّع وهو على التفصيل. إن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحلق , وإلاَّ فالتقصير. ليقع له الحلق في الحج. والله أعلم

قوله: (وليحلل) هو أمرٌ معناه الخبر. أي: قد صار حلالاً فله فعل كل ما كان محظوراً عليه في الإحرام , ويحتمل: أن يكون أمراً على الإباحة لفعل ما كان عليه حراماً قبل الإحرام. قوله: (ثمّ ليهلّ بالحجّ) أي: يحرم وقت خروجه إلى عرفة , ولهذا أتى بثمّ الدّالة على التّراخي. فلم يرد أن يهل بالحجّ عقب إهلاله من العمرة. قوله: (وليهد) أي: هدي التّمتّع. وهو واجب بشروطه. قوله: (فمن لَم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ) أي: لَم يجد الهدي بذلك المكان , ويتحقّق ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذ , أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهمّ من ذلك , أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه , أو يمتنع من بيعه إلاَّ بغلائه , فينقل إلى الصّوم كما هو نصّ القرآن. والمراد بقوله " في الحجّ ". أي: بعد الإحرام به. وقال النّوويّ: هذا هو الأفضل فإن صامها قبل الإهلال بالحجّ أجزأه على الصّحيح, وأمّا قبل التّحلّل من العمرة فلا على الصّحيح. قاله مالكٌ , وجوّزه الثّوريّ وأصحاب الرّأي. وعلى الأوّل. فمن استحبّ صيام عرفة بعرفة قال: يُحرِمُ يوم السّابع ليصوم السّابع والثّامن والتّاسع. وإلا فيُحرِم يوم السّادس

ليفطر بعرفة فإن فاته الصّوم قضاه , وقيل: يسقط ويستقرّ الهدي في ذمّته , وهو قول الحنفيّة. وفي صوم أيّام التّشريق لهذا. قولان للشّافعيّة. أظهرهما لا يجوز. قال النّوويّ: وأصحّهما من حيث الدّليل الجواز (¬1). قوله: (ثمّ خبّ) تقدّم الكلام عليه. (¬2) قوله: (وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين). وفي حديث جابر الطّويل في صفة حجّة الوداع عند مسلم " طاف ثمّ تلا (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى) فصلَّى عند المقام ركعتين ". قال ابن المنذر: احتملت قراءته أن تكون صلاة الرّكعتين خلف المقام فرضاً، لكن أجمع أهل العلم على أنّ الطّائف تُجزئه ركعتا الطّواف حيث شاء، إلاَّ شيئاً ذُكر عن مالك. في أنّ من صلَّى ركعتي الطّواف الواجب في الحجر يعيد. ونقل بعض أصحابنا عن الثوري. أنه كان يعيّنهما خلف المقام. وقوله: (ثمّ سلَّم. فانصرف فأتى الصّفا) ظاهره أنّه لَم يتخلل بينهما عمل آخر , لكن في حديث جابر الطّويل في صفة الحجّ عند مسلم " ثمّ رجع إلى الحجر فاستلمه , ثمّ خرج من باب الصّفا " قوله: (ثمّ حلَّ من كل شيء حرُم منه) سيأتي في حديث حفصة أنّ ¬

_ (¬1) لِمَا رواه البخاري في صحيحه (1997) عن عائشة وابن عمر عنهما قالا: لَم يُرخّص في أيام التشريق أن يُصمن، إلاَّ لمن لَم يجد الهدي. (¬2) نظر حديث ابن عمر الماضي رقم (231)

سبب عدم إحلاله كونه ساق الهدي , وإلا لكان يفسخ الحجّ إلى العمرة , ويتحلل منها كما أمر به أصحابه. واستدل به على أنّ التّحلّل لا يقع بمجرّد طواف القدوم. خلافاً لابن عبّاس وهو واضح. وقوله: (وفعل مثل ما فعل) إشارة إلى عدم خصوصيّته بذلك. وفيه مشروعيّة طواف القدوم للقارن والرّمل فيه إن عقّبه بالسّعي، وتسمية السّعي طوافاً، وطواف الإفاضة يوم النّحر. واستدل به على أنّ الحلق ليس بركن , وليس بواضح , لأنّه لا يلزم من ترك ذكره في هذا الحديث أن لا يكون وقع , بل هو داخل في عموم قوله " حتّى قضى حجّه ". قوله: (من أهدى) فاعل قوله " وفعل "، وأغرب الكرمانيّ فشرحه على أنّ فاعل فعل هو ابن عمر راوي الخبر.

الحديث الواحد والعشرون

الحديث الواحد والعشرون 236 - عن حفصة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّها قالت: يا رسولَ الله , ما شأن النّاس حلّوا بعمرةٍ (¬1) ولَم تحلّ أنت من عمرتك؟ فقال: إنّي لبّدتُ رأسي , وقلَّدتُ هديي , فلا أَحلّ حتّى أنحر (¬2). قوله: (عن حفصة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) بنت عمر. (¬3) قوله: (قالت: يا رسولَ الله ما شأن النّاس حلّوا بعمرةٍ .. الحديث)، لَم يقع في رواية مسلم قوله " بعمرةٍ ". وذكر ابن عبد البرّ. أنّ أصحاب مالك ذكرها بعضهم وحذفها بعضهم. واستشكل كيف حلّوا بعمرةٍ مع قولها: ولَم تحلّ من عمرتك؟. والجواب: أنّ المراد قولها " بعمرةٍ " أي: إنّ إحرامهم بعمرةٍ كان سبباً لسرعة حلهم. واستدلَّ به على أنّ من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتّى يحلّ بالحجّ ويفرغ منه، لأنّه جعل العلة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وكذا وقع في حديث جابر " فلولا أني سقت الهدي لفعلت ¬

_ (¬1) في النسخ المطبوعة (من العمرة) ولَم أرها في الصحيحين مطلقاً , أمّا مسلم فلم يذكرها مطلقاً لا (بعمرة) ولا (من العمرة) كما قال الشارح. أمَّا البخاري فلم يذكرها في بعض المواضع. وذكرها في بعضها , لكن قال (بعمرة) وهو الصواب. وعليه فقوله (من العمرة) خطأ توارد عليه محققو العمدة. والله أعلم (¬2) أخرجه البخاري (1491 , 1610 , 1638 , 4137 , 5572) ومسلم (1229) من طرق عن نافع عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنها. (¬3) تقدَّمت ترجمتها رضي الله عنها في كتاب الصلاة رقم (66).

مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله " متفق عليه، وأخبر أنّه لا يحلّ حتّى ينحر الهدي. وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومن وافقهما. ويؤيّده قوله في حديث عائشة في الصحيحين " فأمر من لَم يكن ساق الهدي أن يحل " والأحاديث بذلك متضافرة. وأجاب بعض المالكيّة والشّافعيّة عن ذلك: بأنّ السّبب في عدم تحلّله من العمرة كونه أدخلها على الحجّ، وهو مشكل عليه لأنّه يقول إنّ حجّه كان مفرداً. وقال بعض العلماء: ليس لمَن قال كان مفرداً عن هذا الحديث انفصال، لأنّه إن قال به استشكل عليه كونه علل عدم التّحلّل بسوق الهدي , لأنّ عدم التّحلّل لا يمتنع على من كان قارناً عنده. وجنح الأصيليّ وغيره: إلى توهيم مالك في قوله " ولَم تحلّ أنت من عمرتك " وأنّه لَم يقله أحد في حديث حفصة غيره. وتعقّبه ابن عبد البرّ - على تقدير تسليم انفراده - بأنّها زيادة حافظ فيجب قبولها، على أنّه لَم ينفرد، فقد تابعه أيّوب وعبيد الله بن عمر , وهما مع ذلك حفّاظ أصحاب نافع. انتهى. ورواية عبيد الله بن عمر عند مسلم، وقد أخرجه مسلم من رواية ابن جريجٍ والبخاريّ من رواية موسى بن عقبة , والبيهقيّ من رواية شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن نافع بدونها. ووقع في رواية عبيد الله بن عمر عند الشّيخين " فلا أحلّ حتّى

أحل من الحجّ ". ولا تنافي هذه ورواية مالك , لأنّ القارن لا يحلّ من العمرة , ولا من الحجّ حتّى ينحر، فلا حجّة فيه لمن تمسّك بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان متمتّعاً كما سيأتي، لأنّ قول حفصة " ولَم تحلّ من عمرتك " وقوله هو " حتّى أحلّ من الحجّ " ظاهر في أنّه كان قارناً. وأجاب مَن قال كان مفرداً عن قوله " ولَم تحلّ من عمرتك " بأجوبةٍ: الجواب الأول: قاله الشّافعيّ معناه: ولَم تحلّ أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنيّةٍ واحدة، بدليل قوله " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " الجواب الثاني: معناه ولَم تحلّ من حجّك بعمرةٍ كما أمرت أصحابك، قالوا: وقد تأتي " من " بمعنى الباء كقوله عزّ وجل (يحفظونه من أمر الله) أي: بأمر الله، والتّقدير ولَم تحلّ أنت بعمرةٍ من إحرامك. الجواب الثالث: ظنّت أنّه فسخ حجّه بعمرةٍ كما فعل أصحابه بأمره فقالت: لِمَ لَمْ تحلّ أنت أيضاً من عمرتك؟. ولا يخفى ما في بعض هذه التّأويلات من التّعسّف. والذي تجتمع به الرّوايات أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً. بمعنى أنّه أدخل العمرة على الحجّ بعد أن أهل به مفرداً، لا أنّه أوّل ما أهل أحرم بالحجّ والعمرة معاً.

وفي البخاري من حديث عمر مرفوعاً " وقل عمرة في حجّة " وحديث أنس " ثمّ أهل بحجٍّ وعمرة " ولمسلمٍ من حديث عمران بن حصين " جمع بين حجٍّ وعمرة ". ولأبي داود والنّسائيّ من حديث البراء مرفوعاً " أنّي سقت الهدي وقرنت " , وللنّسائيّ من حديث عليّ مثله. ولأحمد من حديث سراقة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قرن في حجّة الوداع. وله من حديث أبي طلحة " جمع بين الحجّ والعمرة ". وللدّارقطنيّ من حديث أبي سعيد وأبي قتادة والبزّار من حديث ابن أبي أوفى ثلاثتهم مرفوعاً مثله. وأجاب البيهقيّ عن هذه الأحاديث وغيرها نصرةً لِمن قال إنّه - صلى الله عليه وسلم - كان مفرداً , فنقل عن سليمان بن حرب أنّ رواية أبي قلابة عن أنس , أنّه سمعهم يصرخون بهما جميعاً (¬1). أثْبتُ من رواية من روي عنه , أنّه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الحجّ والعمرة. ثمّ تعقّبه: بأنّ قتادة وغيره من الحفّاظ رووه عن أنس كذلك، فالاختلاف فيه على أنس نفسه، قال: فلعله سمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلم غيره كيف يهلّ بالقران. فظنّ أنّه أهل عن نفسه. وأجاب عن حديث حفصة: بما نقل عن الشّافعيّ أنّ معنى قولها " ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1548) من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس - رضي الله عنه -، قال: صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً.

ولَم تحلّ أنت من عمرتك " أي: من إحرامك كما تقدّم، وعن حديث عمر بأنّ جماعة رووه بلفظ " صلَّى في هذا الوادي , وقال: عمرة في حجّة ". قال: وهؤلاء أكثر عدداً ممّن رواه " وقل: عمرة في حجّة " فيكون إذناً في القران. لا أمراً للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حال نفسه. وعن حديث عمران (¬1): بأنّ المراد بذلك إذنه لأصحابه في القِران بدليل روايته الأخرى " أنّه - صلى الله عليه وسلم - أعمر بعض أهله في العشر " وروايته الأخرى " أنّه - صلى الله عليه وسلم - تمتّع " فإنّ مراده بكل ذلك إذنه في ذلك. وعن حديث البراء (¬2) بأنّه ساقه في قصّة عليّ , وقد رواها أنسٌ كما في البخاري وجابر كما أخرجه مسلم. وليس فيها لفظ " وقرنت " وأخرج حديث مجاهد عن عائشة قالت: لقد علم ابن عمر , أنّ النّبيّ ¬

_ (¬1) حديث عمران سيأتي إن شاء الله في العمدة بعد حديث حفصة. (¬2) حديث البراء. أخرجه أبوداود (1797) والنسائي في " الكبرى " (3691) والبيهقي في " السنن " (5/ 22) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء يعني ابن عازب قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، فلمَّا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال علي: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف صنعت؟ قلت: أهللت بإهلالك , قال: فإني سُقتُ الهدي. وقرنت قال: وقال لأصحابه: لو استقبلتُ من أمري كما استدبرتُ لفعلتُ كما فعلتم، ولكني سقت الهدي. وقرنت. قال البيهقي: كذا في هذه الرواية " وقرنت " , وليس ذلك في حديث جابر بن عبد الله حين وصف قدوم علي - رضي الله عنه - وإهلاله , وحديث جابر أصحُّ سنداً , وأحسن سياقة , ومع حديث جابر حديث أنس بن مالك

- صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها في حجّته " أخرجه أبو داود. وقال البيهقيّ: تفرّد أبو إسحاق عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفظ " فقالت: ما اعتمر في رجبٍ قطّ " وقال: هذا هو المحفوظ، ثمّ أشار إلى أنّه اختلف فيه على أبي إسحاق. فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا , وقال زكريّا: عن أبي إسحاق عن البراء. ثمّ روى حديث جابر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حجّ حجّتين قبل أن يهاجر وحجّة قرن منها عمرة. يعني بعدما هاجر. وحكى عن البخاريّ , أنّه أعلَّه , لأنّه من رواية زيد بن الحباب عن الثّوريّ عن جعفر عن أبيه عنه، وزيدٌ ربّما يَهِم في الشّيء، والمحفوظ عن الثّوريّ مرسل، والمعروف عن جابر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحجّ خالصاً. ثمّ روى حديث ابن عبّاس نحو حديث مجاهد عن عائشة , وأعلَّه بداود العطّار , وقال: إنّه تفرّد بوصله عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس، ورواه ابن عيينة عن عمرو فأرسله , ولَم يذكر ابن عبّاس. ثمّ روى حديث الصُّبي بن معبد , أنّه أهل بالحجّ والعمرة معاً فأنكر عليه، فقال له عمر: هديت لسنّة نبيّك. الحديث. وهو في السّنن. وفيه قصّة. وأجاب عنه: بأنّه يدلّ على جواز القران , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً. ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من التّعسّف.

وقال النّوويّ: الصّواب الذي نعتقده أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، ويؤيّده: أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يعتمر في تلك السّنة بعد الحجّ، ولا شكّ أنّ القِران أفضل من الإفراد الذي لا يعتمر في سننه عندنا، ولَم ينقل أحدٌ أنّ الحجّ وحده أفضل من القران. كذا قال. والخلاف ثابت قديماً وحديثاً. أمّا قديماً: فالثّابت عن عمر أنّه قال: إنّ أتمّ لحجّكم وعمرتكم أن تنشئوا لكلٍّ منهما سفراً. وعن ابن مسعود نحوه. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. وأمّا حديثاً: فقد صرّح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد , ولو لَم يعتمر في تلك السّنة. وقال صاحب الهداية من الحنفيّة: الخلاف بيننا وبين الشّافعيّ مبنيّ على أنّ القارن يطوف طوافاً واحداً وسعياً واحداً فبهذا , قال: إنّ الإفراد أفضل، ونحن عندنا أنّ القارن يطوف طوافين وسعيين. فهو أفضل لكونه أكثر عملاً. وقال الخطّابيّ: اختلفت الرّواية فيما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - به محرماً. والجواب عن ذلك بأنّ كلّ راوٍ أضاف إليه ما أمر به اتّساعاً، ثمّ رجّح بأنّه كان أفرد الحجّ، وهذا هو المشهور عند المالكيّة والشّافعيّة. وقد بسط الشّافعيّ القول فيه في " اختلاف الحديث " وغيره. ورجّح أنّه - صلى الله عليه وسلم - أحرم إحراماً مطلقاً ينتظر ما يؤمر به فنزّل عليه الحكم بذلك وهو على الصّفا، ورجّحوا الإفراد أيضاً بأنّ الخلفاء الرّاشدين

واظبوا عليه ولا يظنّ بهم المواظبة على ترك الأفضل، وبأنّه لَم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه كره الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التّمتّع والجمع بينهما حتّى فعله عليّ لبيان الجواز، وبأنّ الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التّمتّع والقران. انتهى وهذا ينبني على أنّ دم القران دم جبران , وقد منعه من رجّح القران وقال: إنّه دم فضل وثواب كالأضحيّة، ولو كان دم نقص لَمَا قام الصّيام مقامه، ولأنّه يؤكل منه ودم النّقص لا يؤكل منه كدم الجزاء. قاله الطّحاويّ. وقال عياض نحو ما قال الخطّابيّ. وزاد: وأمّا إحرامه هو فقد تضافرت الرّوايات الصّحيحة بأنّه كان مفرداً، وأمّا رواية من روى متمتّعاً فمعناه أمر به , لأنّه صرّح بقوله " ولولا أنّ معي الهدي لأحللت " فصحّ أنّه لَم يتحلل. وأمّا رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله , لأنّه أدخل العمرة على الحجّ لَمّا جاء إلى الوادي وقيل له " قل عمرة في حجّة ". انتهى وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديماً ابن المنذر. وبيّنه ابن حزم في " حجّة الوداع " بياناً شافياً , ومهّده المحبّ الطّبريّ تمهيداً بالغاً يطول ذكره. ومحصّله: أنّ كلّ من روى عنه الإفراد حمل على ما أهلَّ به في أوّل الحال، وكلّ من روى عنه التّمتّع أراد ما أمر به أصحابه، وكلّ من روى عنه القران أراد ما استقرّ عليه أمره.

ويترجّح رواية مَن روى القِران بأمورٍ: الأول: أنّ معه زيادة علم على من روى الإفراد وغيره. الثاني: أنّ من روى الإفراد والتّمتّع اختلف عليه في ذلك. فأشهر من روى عنه الإفراد عائشة. وقد ثبت عنها أنّه اعتمر مع حجّته كما في الصحيحن، وابن عمر , وقد ثبت عنه " أنّه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالعمرة ثمّ أهل بالحجّ " كما في البخاري. وثبت " أنّه جمع بين حجٍّ وعمرة ثمّ حدث أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك " كما في البخاري أيضاً، وجابر بقوله: إنّه اعتمر مع حجّته أيضاً ". وروى القِرانَ عنه جماعةٌ من الصّحابة لَم يختلف عليهم فيه. الثالث: أنّه لَم يقع في شيء من الرّوايات النّقل عنه من لفظه أنّه قال: أفردت ولا تمتّعت، بل صحّ عنه أنّه قال " قرنت " وصحّ عنه أنّه قال " لولا أنّ معي الهدي لأحللت " الرابع: أنّ من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التّأويل إلاَّ بتعسّفٍ. بخلاف من روى الإفراد. فإنّه محمول على أوّل الحال وينتفي التّعارض. ويؤيّده: أنّ من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران كما تقدّم، ومن روى عنه التّمتّع فإنّه محمول على الاقتصار على سفرٍ واحد للنّسكين. ويؤيّده: أنّ من جاء عنه التّمتّع لَمّا وصفه. وصفه بصورة القِران , لأنّهم اتّفقوا على أنّه لَم يحلّ من عمرته حتّى أتمّ عمل جميع الحجّ.

وهذه إحدى صور القران. الخامس: أنّ رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيّاً بأسانيد جياد بخلاف روايتي الإفراد والتّمتّع. وهذا يقتضي رفع الشّكّ عن ذلك , والمصير إلى أنّه كان قارناً. القول الأول: مقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد ومن التّمتّع , وهو قول جماعة من الصّحابة والتّابعين. وبه قال الثّوريّ وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه , واختاره من الشّافعيّة المزنيّ وابن المنذر وأبو إسحاق المروزيّ. ومن المتأخّرين تقيّ الدّين السّبكيّ , وبحث مع النّوويّ في اختياره , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً , وأنّ الإفراد مع ذلك أفضل. مستنداً إلى أنّه - صلى الله عليه وسلم - اختار الإفراد أوّلاً , ثمّ أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحجّ لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور كما في الصحيحين. وملخّص ما يتعقّب به كلامه: أنّ البيان قد سبق منه - صلى الله عليه وسلم - في عمره الثّلاث فإنّه أحرم بكلٍّ منها في ذي القعدة عمرة الحديبية التي صدّ عن البيت فيها وعمرة القضيّة التي بعدها وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره عمرة حجّته بيان الجواز فقط مع أنّ الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجّهم إلى العمرة. القول الثاني: ذهب جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم: إلى أنّ التّمتّع أفضل لكونه - صلى الله عليه وسلم - تمنّاه , فقال " لولا أنّي سقت الهدي

لأحللت " ولا يتمنّى إلاَّ الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه. وأجيب: بأنّه إنّما تمنّاه تطييباً لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته وإلا فالأفضل ما اختاره الله له واستمرّ عليه. وقال ابن قدامة: يترجّح التّمتّع. بأنّ الذي يفرد. إن اعتمر بعدها فهي عمرة مختلف في إجزائها عن حجّة الإسلام , بخلاف عمرة التّمتّع فهي مجزئة بلا خلاف , فيترجّح التّمتّع على الإفراد ويليه القران، وقال من رجّح القران. هو أشقّ من التّمتّع وعمرته مجزئة بلا خلاف فيكون أفضل منهما. القول الثالث: حكى عياض عن بعض العلماء , أنّ الصّور الثّلاث في الفضل سواء , وهو مقتضى تصرّف ابن خزيمة في " صحيحه ". القول الرابع: عن أبي يوسف: القِران والتّمتّع في الفضل سواء. وهما أفضل من الإفراد. القول الخامس: عن أحمد: من ساق الهدي فالقِران أفضل له ليوافق فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ومن لَم يسق الهدي فالتّمتّع أفضل له ليوافق ما تمنّاه وأمر به أصحابه. زاد بعض أتباعه: ومن أراد أن ينشئ لعمرته من بلده سفراً فالإفراد أفضل له , قال: وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصّحيحة، فمَن قال الإفراد أفضل فعلى هذا يتنزّل , لأنّ أعمال سفرين للنّسكين أكثر مشقّة فيكون أعظم أجراً ولتجزئ عنه

عمرته من غير نقص ولا اختلاف. ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر. مع موافقته على أنّه كان قارناً كالطّحاويّ وابن حبّان وغيرهما. فقيل: أهلَّ أوّلاً بعمرةٍ , ثمّ لَم يحلل منها إلى أن أدخل عليها الحجّ يوم التّروية. ومستند هذا القائل حديث ابن عمر في البخاري بلفظ " فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة , ثمّ أهل بالحجّ ". وهذا لا ينافي إنكار ابن عمر على أنس كونه نقل أنّه - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحجّ والعمرة كما تقدّم لاحتمال أن يكون من إنكاره كونه نقل أنّه أهل بهما معاً , وإنّما المعروف عنده أنّه أدخل أحد النّسكين على الآخر , لكنّ جزمه بأنّه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالعمرة مخالف لِمَا عليه أكثر الأحاديث. فهو مرجوح. وقيل: أهلَّ أوّلاً بالحجّ مفرداً , ثمّ استمرّ على ذلك إلى أن أمر أصحابه بأن يفسخوا حجّهم فيجعلوه عمرة وفسخ معهم، ومنعه من التّحلّل من عمرته المذكورة ما ذكره في حديث الباب وغيره من سوق الهدي. فاستمرّ معتمراً إلى أن أدخل عليها الحجّ حتّى تحلل منهما جميعاً، وهذا يستلزم أنّه أحرم بالحجّ أوّلاً وآخراً، وهو محتمل , لكنّ الجمع الأوّل أولى. وقيل: إنّه - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحجّ مفرداً واستمرّ عليه إلى أن تحلل منه بمنًى , ولَم يعتمر في تلك السّنة. وهو مقتضى من رجّح أنّه كان مفرداً.

والذي يظهر لي. أنّ من أنكر القران من الصّحابة نفى أن يكون أهل بهما في أوّل الحال، ولا ينفي أن يكون أهل بالحجّ مفرداً , ثمّ أدخل عليه العمرة. فيجتمع القولان كما تقدّم. والله أعلم. قوله: (ولَم تَحلِل) بكسر اللام الأولى. أي: لَم تحلّ، وإظهار التّضعيف لغة معروفة قوله: (لبّدتُ) بتشديد الموحّدة. أي: شعر رأسي , والتّلبيد هو أن يجعل فيه شيء ليلتصق به، نحو الصمغ ليجتمع شعره , لئلا يتشعث في الإحرام أو يقع فيه القمل , ولأبي داود والحاكم من طريق نافع عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - لبَّد رأسه بالعسل ". قال ابن عبد السلام: يحتمل: أنه بفتح المهملتين , ويحتمل: أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة. وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره. قلت: ضبطناه في روايتنا في سنن أبي داود بالمهملتين , ويؤخذ منه استحباب ذلك للمحرم. واختلفوا فيمن لبّد. هل يتعيّن عليه الحلق أو لا؟. فنقل ابن بطّال عن الجمهور تعيّن ذلك حتّى عن الشّافعيّ , وقال أهل الرّأي: لا يتعيّن بل إن شاء قصّر. انتهى. وهذا قول الشّافعيّ في الجديد. وليس للأوّل دليل صريح. وأعلى ما فيه ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: سمعت عمر يقول: من ضفر رأسه فليحلق , ولا

تشبّهوا بالتّلبيد " وكان ابن عمر يقول: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملبّداً. أمّا قول عمر. فحمله ابن بطّال على أنّ المراد إن أراد الإحرام فضفر شعره ليمنعه من الشّعث لَم يجز له أن يقصّر، لأنّه فعل ما يشبه التّلبيد الذي أوجب الشّارع فيه الحلق، وكان عمر يرى أنّ من لبّد رأسه في الإحرام تعيّن عليه الحلق والنّسك , ولا يجزئه التّقصير، فشبّه من ضفر رأسه بمن لبّده. فلذلك أمر من ضفر أن يحلق. ويحتمل: أن يكون عمر أراد الأمر بالحلق عند الإحرام حتّى لا يحتاج إلى التّلبيد ولا إلى الضّفر، أي: من أراد أن يضفّر أو يلبّد فليحلق فهو أولى من أن يضفّر أو يلبّد، ثمّ إذا أراد بعد ذلك التّقصير لَم يصل إلى الأخذ من سائر النّواحي كما هي السّنّة. وأمّا قوله " تشبّهوا " فحكى ابن بطّال: أنّه بفتح أوّله. والأصل لا تتشبّهوا فحذفت إحدى التّاءين، قال: ويجوز ضمّ أوّله وكسر الموحّدة، والأوّل أظهر. وأمّا قول ابن عمر فظاهره أنّه فهم عن أبيه , أنّه كان يرى أنّ ترك التّلبيد أولى، فأخبر هو أنّه رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قوله: (وقلَّدتُ هديي) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في حديث عائشة بعد حديث. قوله: (فلا أحلّ حتّى أنحر) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في حديث جابر. (¬1) ¬

_ (¬1) انظره برقم (244).

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون 237 - عن عمران بن حصينٍ , قال: أُنزلت آية المُتعة في كتاب الله تعالى. ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولَم ينزل قرآنٌ يُحرّمها , ولَم ينه عنها حتّى مات. قال رجلٌ برأيه ما شاء. قال البخاريّ: يقال: إنّه عمر. ولمسلمٍ: نزلت آية المتعة - يعني مُتعة الحجّ - وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ لَم تنزل آيةٌ تنسخ آية مُتعة الحجّ , ولَم ينه عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى مات (¬1) ولهما بمعناه. (¬2) قوله: (عن عمران بن حصين) الخزاعيّ، ولمسلمٍ من طريق شعبة عن قتادة عن مطرّف: بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفّي فيه , فقال: إنّي كنت محدّثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك .. فذكر الحديث. قوله: (أنزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى) أي: بجوازه. يشير إلى قوله تعالى (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ) الآية. ورواه مسلم من طريق عبد الصّمد بن عبد الوارث عن همّام عن قتادة بلفظ " ولَم ينزل فيه القرآن " أي: بمنعه. وتوضّحه رواية مسلم الأخرى من طريق شعبة وسعيد بن أبي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4246) ومسلم (1226) من طريق أبي بكر عمران بن مسلم عن أبي رجاء عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (1496) ومسلم (1226) من طريق مطرف عن عمران نحوه. طوَّله مسلم واختصره البخاري. وسيذكر الشارح رحمه الله جلَّ رواياته.

عروبة كلاهما عن قتادة بلفظ " ثمّ لَم ينزل فيها كتاب الله , ولَم ينه عنها نبيّ الله ". وزاد من طريق شعبة عن حميد بن هلال عن مطرّف " ولَم ينزل فيه القرآن بحرمةٍ " وله من طريق أبي العلاء عن مطرّف " فلم تنزل آية تنسخ ذلك , ولَم تنه عنه حتّى مضى لوجهه ". وللإسماعيليّ من طريق عفّان عن همّام " تمتّعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل فيه القرآن , ولَم ينهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولَم ينسخها شيء ". وقد أخرجه البخاري من طريق أبي رجاء العطارديّ عن عمران بلفظ " أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولَم ينزل قرآن بحرمةٍ فلم ينه عنها حتّى مات، قال رجل برأيه ما شاء. قوله: (قال رجلٌ برأيه ما شاء) في رواية أبي العلاء " ارتأى كلّ امرئٍ بعدما شاء أن يرتئي " قائل ذلك هو عمران بن حصين، ووهِم من زعم أنّه مطرّف الرّاوي عنه لثبوت ذلك في رواية أبي رجاء عن عمران كما ذكرته قبل. قوله: (قال البخاريّ: يقال: إنّه عمر) حكى الحميديّ: أنّه وقع في البخاريّ في رواية أبي رجاء عن عمران , قال البخاريّ: يقال إنّه عمر، أي: الرّجل الذي عناه عمران بن حصين. ولَم أر هذا في شيء من الطّرق التي اتّصلت لنا من البخاريّ، لكن نقله الإسماعيليّ عن البخاريّ كذلك , فهو عمدة الحميديّ في ذلك، وبهذا جزم القرطبيّ والنّوويّ وغيرهما. وكأنّ البخاريّ أشار بذلك إلى رواية الجريريّ عن مطرّف , فقال في

آخره: ارتأى رجلٌ برأيه ما شاء. يعني عمر، كذا في الأصل أخرجه مسلم عن محمّد بن حاتم عن وكيع عن الثّوريّ عنه. وقال ابن التّين: يحتمل أن يريد عمر أو عثمان. وأغرب الكرمانيّ فقال: ظاهر سياق كتاب البخاريّ أنّ المراد به عثمان، وكأنّه لقرب عهده بقصّة عثمان مع عليّ (¬1) جزم بذلك، وذلك غير لازم فقد سبقت قصّة عمر مع أبي موسى (¬2) في ذلك. ¬

_ (¬1) قصّة علي وعثمان. أخرجها البخاري (1569) ومسلم (1223) سعيد بن المسيب، قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلمَّا أن رأى عليٌ ذلك، أهلَّ بهما جميعاً. وأخرجاها من طرق أخرى. فائدة: قال الشارح في الفتح (3/ 425): تنبيه: ذكر ابن الحاجب حديث عثمان في التمتع دليلا لمسألة إتفاق أهل العصر الثاني بعد اختلاف أهل العصر الأول. فقال: وفي الصحيح أنَّ عثمان كان نهى عن المتعة. قال البغوي: ثم صار إجماعاً. وتعقب: بأنَّ نهيَ عثمان عن المتعة. إن كان المراد به الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج فلم يستقر الإجماع عليه , لأنَّ الحنفية يخالفون فيه , وإن كان المراد به فسخ الحج إلى العمرة فكذلك , لأنَّ الحنابلة يخالفون فيه , ثم وراء ذلك أن رواية النسائي السابقة مشعرة بأن عثمان رجع عن النهي فلا يصح التمسك به , ولفظ البغوي بعد أن ساق حديث عثمان في " شرح السنة " هذا خلاف علي , وأكثر الصحابة على الجواز , واتفقت عليه الأئمة بعد فحمله على أن عثمان نهى عن التمتع المعهود. والظاهر أنَّ عثمان ما كان يبطله , وإنما كان يرى أن الإفراد أفضل منه , وإذا كان كذلك فلم تتفق الأئمة على ذلك فإن الخلاف في أي الأمور الثلاثة أفضل باق والله أعلم , وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهداً آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان على علي ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك. والله أعلم الحديث (¬2) قصة أبي موسى مع عمر. أخرجها البخاري (1724) ومواضع أخرى. ومسلم (1221) عن طارق بن شهاب عن أبي موسى، قال: قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم، فقال: بِمَ أهللت؟ قال قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة، وأحلَّ , قال: فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس فَفَلَتْ رأسي، ثم أهللت بالحج , قال: فكنت أفتي به الناس، حتى كان في خلافة عمر - رضي الله عنه -، فقال له رجل: يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس، رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس، مَن كنا أفتيناه فتيا فليتَّئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا، قال: فقدم عمر - رضي الله عنه -، فذكرت ذلك له، فقال: إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يحل حتى بلغ الهدي محله.

ووقعت لمعاوية أيضاً مع سعد بن أبي وقّاص في صحيح مسلم قصّة في ذلك. والأولى أن يُفسّر بعمر , فإنّه أوّل من نهى عنها , وكأنّ من بعده كان تابعاً له في ذلك، وفي مسلم أيضاً , أنّ ابن الزّبير كان ينهى عنها وابن عبّاس يأمر بها، فسألوا جابراً فأشار إلى أنّ أوّل من نهى عنها عمر. ثمّ في حديث عمران هذا ما يعكّر على عياض وغيره في جزمهم أنّ المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحجّ إلى العمرة لا العمرة التي يحجّ بعدها، فإنّ في بعض طرقه عند مسلم التّصريح بكونها متعة الحجّ، وفي رواية له أيضاً " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعمر بعض أهله في العشر " وفي رواية له " جمع بين حجٍّ وعمرة " ومراده التّمتّع المذكور. وهو الجمع بينهما في عام واحد كما في البخاري صريحاً في حديث ابن

عبّاس. ولمسلمٍ من طريق إبراهيم بن أبي موسى الأشعريّ عن أبيه , أنّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك .. الحديث. وفي هذه الرّواية تبيين عمر العلة التي لأجلها كره التّمتّع , وهي قوله: قد علمتُ أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فعله , ولكن كرهت أن يظلّوا معرّسين بهنّ - أي بالنّساء - ثمّ يروحوا في الحجّ تقطر رءوسهم. انتهى. وكان من رأي عمر عدم التّرفّه للحجّ بكل طريق، فكره لهم قرب عهدهم بالنّساء , لئلا يستمرّ الميل إلى ذلك بخلاف من بعد عهده به، ومن يفطم ينفطم. وقد أخرج مسلم من حديث جابر أنّ عمر قال: افصلوا حجّكم من عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم. وفي رواية " إنّ الله يحلّ لرسوله ما شاء، فأتمّوا الحجّ والعمرة كما أمركم الله ". ومحصّل جواب عمر في منعه النّاس من التّحلّل بالعمرة. أنّ كتاب الله دالٌّ على منع التّحلّل لأمره بالإتمام فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحجّ، وأنّ سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً دالة على ذلك , لأنّه لَم يحلّ حتّى بلغ الهدي محلّه. لكنّ الجواب عن ذلك: ما أجاب به هو - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ولولا أنّ معي الهدي لأحللتُ. فدلَّ على جواز الإحلال لمن لَم يكن معه هدي، وتبيّن من مجموع ما جاء عن عمر في ذلك أنّه منع منه سدّاً للذّريعة. وقال المازريّ: قيل: إنّ المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحجّ إلى

العمرة. وقيل: العمرة في أشهر الحجّ ثمّ الحجّ من عامه، وعلى الثّاني إنّما نهى عنها ترغيباً في الإفراد الذي هو أفضل لا أنّه يعتقد بطلانها وتحريمها. وقال عياض: الظّاهر أنّه نهى عن الفسخ. ولهذا كان يضرب النّاس عليها كما رواه مسلم بناء على معتقده أنّ الفسخ كان خاصّاً بتلك السّنة. قال النّوويّ: والمختار أنّه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحجّ , ثمّ الحجّ من عامه. وهو على التّنزيه للتّرغيب في الإفراد كما يظهر من كلامه، ثمّ انعقد الإجماع على جواز التّمتّع من غير كراهة ونفي الاختلاف في الأفضل، ويمكن أن يتمسّك من يقول بأنّه إنّما نهى عن الفسخ بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريباً من مسلم " أنّ الله يحلّ لرسوله ما شاء " والله أعلم. وفيه من الفوائد أيضاً جواز نسخ القرآن بالقرآن ولا خلاف فيه، وجواز نسخه بالسّنّة وفيه اختلاف شهير، ووجه الدّلالة منه قوله " ولَم ينه عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإنّ مفهومه أنّه لو نهى عنها لامتنعت , ويستلزم رفع الحكم ومقتضاه جواز النّسخ، وقد يؤخذ منه أنّ الإجماع لا ينسخ به لكونه حصر وجوه المنع في نزول آية أو نهي من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفيه وقوع الاجتهاد في الأحكام بين الصّحابة، وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنّصِّ.

باب الهدي

باب الهدي الحديث الثالث والعشرون 238 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: فَتَلْتُ قلائدَ هديِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ أشعرتها وقلَّدها أو قلّدتها , ثمّ بعث بها إلى البيت. وأقام بالمدينة , فما حَرُم عليه شيءٌ كان له حِلاًّ. (¬1) قوله: (فتلت قلائد هدي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري " فتلت قلائدها من عهن كان عندي " وفيه ردٌّ على من كره القلائد من الأوبار , واختار أن تكون من نبات الأرض , وهو منقول عن ربيعة ومالك. وقال ابن التّين: لعله أراد أنّه الأولى مع القول بجواز كونها من الصّوف. والله أعلم قوله: (ثمّ أشعرها) فيه مشروعيّة الإشعار , وهو أن يكشط جلد البدنة حتّى يسيل دمٌ ثمّ يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هدياً وبذلك قال الجمهور من السّلف والخلف. وذكر الطّحاويّ في " اختلاف العلماء " كراهته عن أبي حنيفة , وذهب غيره إلى استحبابه للاتّباع حتّى صاحباه أبو يوسف ومحمّد فقالا: هو حسن. قال: وقال مالك: يختصّ الإشعار بمن لها سنام. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1609 , 1612 , 1618) ومسلم (1321) من طرق عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها به. واللفظ لمسلم. وأخرجه البخاري (1611 , 1613 , 2192 , 5246) ومسلم (1321) من وجوه أخرى عن عمرة وعروة ومسروق عن عائشة نحوه.

قال الطّحاويّ: ثبت عن عائشة وابن عبّاس التّخيير في الإشعار وتركه فدلَّ على أنّه ليس بنسك , لكنّه غير مكروه لثبوت فعله عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال الخطّابيّ وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنّه من المثلة مردود بل هو باب آخر كالكيّ وشقّ أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم. وكالختان والحجامة وشفقة الإنسان على المال عادة. فلا يخشى ما توهّموه من سريان الجرح حتّى يفضي إلى الهلاك. ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيّده الذي كرهه به كأنّه يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السّراية حتّى تهلك البدنة مكروه فكان قريباً. وقد كثُر تشنيع المتقدّمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار , وانتصر له الطّحاويّ في " المعاني " فقال: لَم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار. وإنّما كره ما يفعل على وجهٍ يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح , ولا سيّما مع الطّعن بالشّفرة. فأراد سدّ الباب عن العامّة , لأنّهم لا يراعون الحدّ في ذلك , وأمّا من كان عارفاً بالسّنّة في ذلك فلا. وفي هذا تعقّبٌ على الخطّابيّ حيث قال: لا أعلم أحداً كره الإشعار إلاَّ أبا حنيفة , وخالفه صاحباه فقالا بقول الجماعة. انتهى. وروي عن إبراهيم النّخعيّ أيضاً , أنّه كره الإشعار. ذكر ذلك التّرمذيّ قال: سمعت أبا السّائب يقول: كنّا عند وكيع , فقال له رجل: روي عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال: الإشعار مثلةٌ , فقال له

وكيع: أقول لك أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وتقول قال إبراهيم!؟ ما أحقّك بأن تحبس. انتهى. وفيه تعقّبٌ على ابن حزم في زعمه: أنّه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلفٌ. وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع. ويتعيّن الرّجوع إلى ما قال الطّحاويّ فإنّه أعلم من غيره بأقوال أصحابه. وفي هذا الحديث مشروعيّة الإشعار , وفائدته الإعلام بأنّها صارت هدياً ليتبعها من يحتاج إلى ذلك. وحتّى لو اختلطت بغيرها تميّزت أو ضلَّت عُرفت , أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشّرع وحثّ الغير عليه تنبيه: اتّفق مَن قال بالإشعار. بإلحاق البقر في ذلك بالإبل , إلاَّ سعيد بن جبير. واتّفقوا على أنّ الغنم لا تُشعر لضعفها , لكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار , وأمّا على ما نقل عن مالك. فلكونها ليست ذات أسنمة. والله أعلم. قوله: (وقلدها) في رواية لهما عن عمرة عن عائشة " ثم قلَّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه. قال ابن التّين: يحتمل أن يكون قول عائشة " ثمّ قلدها بيده " بياناً لحفظها للأمر ومعرفتها به. ويحتمل أن تكون أرادت أنّه - صلى الله عليه وسلم - تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التّقليد , ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المُحرم , لئلا يظنّ أحدٌ أنّه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد

الهدي. قوله: (ثمّ بعث بها إلى البيت) ولهما من وجه آخر عن عمرة عن عائشة " ثم بعث بها مع أَبِي " بفتح الهمزة وكسر الموحّدة الخفيفة. تريد بذلك أباها أبا بكر الصّديق. واستفيد من ذلك وقت البعث. وأنّه كان في سنة تسع عام حجّ أبو بكر بالنّاس. قال ابن التّين: أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصّة , ويحتمل: أن تريد أنّه آخر فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , لأنّه حجّ في العام الذي يليه حجّة الوداع , لئلا يظنّ ظانّ أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام ثمّ نسخ. فأرادت إزالة هذا اللبس وأكملت ذلك بقولها " , فلم يحرم عليه شيء كان له حلاً حتّى نحر الهدي " أي: وانقضى أمره ولَم يحرم وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى , لأنّه إذا انتفى في وقت الشّبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشّبهة أولى. وحاصل اعتراض عائشة على ابن عبّاس , أنّه ذهب إلى ما أفتى به. قياساً للتّولية في أمر الهدي على المباشرة له , فبيّنت عائشة أنّ هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السّنّة الظّاهرة. وفي الحديث من الفوائد: تناول الكبيرِ الشّيءَ بنفسه وإن كان له من يكفيه إذا كان ممّا يهتمّ به , ولا سيّما ما كان من إقامة الشّرائع وأمور الدّيانة. وفيه تعقّب بعض العلماء على بعضٍ، وردّ الاجتهاد بالنّصّ , وأنّ الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التّأسّي به حتّى تثبت الخصوصيّة.

قوله: (فما حرم عليه شيءٌ كان له حلاًّ) ولهما عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة، أنَّ عبد الله بن عباس، قال: من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج، حتى ينحر الهدي، وقد بعثتُ بهديي، فاكتبي إلي بأمرك، قالت عمرة: قالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس , أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلَّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي. وللبخاري عن مسروق أنّه قال: يا أمّ المؤمنين إنّ رجلاً يبعث بالهدي إلى الكعبة , ويجلس في المِصْر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرماً حتّى يحل النّاس .. فذكر الحديث نحوه. ولفظ الطّحاويّ في حديث مسروق , قال: قلت لعائشة: إنّ رجالاً هاهنا يبعثون بالهدي إلى البيت ويأمرون الذي يبعثون معه بمعلم لهم يقلدها في ذلك اليوم فلا يزالون محرمين حتّى يحل النّاس " الحديث. وقال سعيد بن منصور: حدّثنا هشيمٌ حدّثنا يحيى بن سعيد حدّثنا محدّث عن عائشة وقيل لها: إنّ زياداً إذا بعث بالهدي أمسك عمّا يمسك عنه المُحرم حتّى ينحر هديه , فقالت عائشة: أو له كعبةٌ يطوف بها؟!. قال: وحدّثنا يعقوب حدّثنا هشام عن أبيه , بلغ عائشة أنّ زياداً بعث بالهدي , وتجرّد. فقالت: إنْ كنت لأفتل قلائد هدي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -

ثمّ يبعث بها وهو مقيم عندنا. ما يجتنب شيئاً. وروى مالك في " الموطّإ " عن يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير , أنّه رأى رجلاً متجرّداً بالعراق فسأل عنه , فقالوا: إنّه أمر بهديه أن يقلد , قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزّبير فذكرت له ذلك فقال: بدعةٌ وربّ الكعبة. ورواه ابن أبي شيبة عن الثّقفيّ عن يحيى بن سعيد أخبرني محمّد بن إبراهيم , أنّ ربيعة أخبره , أنّه رأى ابن عبّاس - وهو أمير على البصرة في زمان عليّ - مُتجرّداً على منبر البصرة. فذكره. فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك. قال ابن التّين: خالف ابن عبّاس في هذا جميع الفقهاء , واحتجّت عائشة بفعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه , ولعل ابن عبّاس رجع عنه. انتهى. وفيه قصور شديد. فإنّ ابن عبّاس لَم ينفرد بذلك , بل ثبت ذلك عن جماعة من الصّحابة. منهم ابن عمر. رواه ابن أبي شيبة عن ابن عليّة عن أيّوب، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع , أنّ ابن عمر كان إذا بعث بالهدي , يُمسك عمّا يُمسك عنه المُحرم إلاَّ أنّه لا يلبّي. ومنهم قيس بن سعد بن عبادة. أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيّب عنه نحو ذلك. وروى ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن عليّ بن الحسين عن عمر

وعليّ , أنّهما قالا في الرّجل يرسل ببدنته: أنّه يمسك عمّا يمسك عنه المُحرم. وهذا منقطع. وقال ابن المنذر: قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عبّاس والنّخعيّ وعطاء وابن سيرين. وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المُحرم. وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزّبير وآخرون: لا يصير بذلك محرماً. وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار. ومن حجّة الأوّلين: ما رواه الطّحاويّ وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال: كنت جالساً عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقدَّ قميصه من جيبه حتّى أخرجه من رجليه , وقال: إنّي أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا فلبستُ قميصي ونسيتُ , فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث. وهذا لا حجّة فيه لضعف إسناده , إلاَّ أنّ نسبة ابن عبّاس إلى التّفرّد بذلك خطأ. وقد ذهب سعيد بن المسيّب , إلى أنّه لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المُحرم إلاَّ الجماع ليلة جمعٍ. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح. نعم. جاء عن الزّهريّ ما يدلّ على أنّ الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عبّاس. ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه. وأخرجه البيهقيّ من طريقه قال: أوّل من كشف العمى عن النّاس وبيّن لهم السّنّة في ذلك عائشة " فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها , قال:

فلمّا بلغ النّاسَ قولُ عائشة أخذوا به , وتركوا فتوى ابن عبّاس. وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أنّ من أراد النّسك صار بمجرّد تقليده الهدي مُحرماً. حكاه ابن المنذر عن الثّوريّ وأحمد وإسحاق. قال: وقال أصحاب الرّأي: من ساق الهدي وأمّ البيت ثمّ قلَّد وجب عليه الإحرام. قال: وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرماً , ولا يجب عليه شيء. ونقل الخطّابيّ عن أصحاب الرّأي مثل قول ابن عبّاس , وهو خطأٌ عليهم. فالطّحاويّ أعلم بهم منه. ولعل الخطّابيّ ظنّ التّسوية بين المسألتين.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون 239 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّةً غنماً. (¬1) قوله: (أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّةً غنماً) زاد مسلم " فقلّدها " , وفي رواية لهما " كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقلّد الغنم ويقيم في أهله حلالاً ". قال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرّأي تقليدها. زاد غيره: وكأنّهم لَم يبلغهم الحديث. ولَم نجد لهم حجّة إلاَّ قول بعضهم: إنّها تضعف عن التّقليد , وهي حجّةٌ ضعيفة , لأنّ المقصود من التّقليد العلامة , وقد اتّفقوا على أنّها لا تشعر لأنّها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها , والحنفيّة في الأصل يقولون: ليست الغنم من الهدي , فالحديث حجّة عليهم من جهةٍ أخرى. وقال ابن عبد البرّ: احتجّ من لَم ير بإهداء الغنم. بأنّه - صلى الله عليه وسلم - حجّ مرّة واحدة , ولَم يهد فيها غنماً. انتهى. وما أدري ما وجه الحجّة منه , لأنّ حديث الباب دالٌّ على أنّه أرسل بها وأقام , وكان ذلك قبل حجّته قطعاً فلا تعارض بين الفعل والتّرك , لأنّ مجرّد التّرك لا يدلّ على نسخ الجواز. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1614 , 1615 , 1616 , 1617) ومسلم (1321) من طرق عن إبراهيم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها.

ثمّ مَن الذي صرّح من الصّحابة بأنّه لَم يكن في هداياه في حجّته غنمٌ حتّى يسوغ الاحتجاج بذلك؟. ثمّ ساق ابن المنذر من طريق عطاء وعبيد الله بن أبي يزيد وأبي جعفر محمّد بن عليّ وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدّم مقلدةً. ولابن أبي شيبة عن ابن عبّاس نحوه. والمراد بذلك الرّدّ على من ادّعى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها. وأعلَّ بعض المخالفين حديث الباب: بأنّ الأسود تفرّد عن عائشة (¬1) بتقليد الغنم دون بقيّة الرّواة عنها من أهل بيتها وغيرهم. قال المنذري وغيره: وليست هذه بعلة , لأنّه حافظٌ ثقة لا يضرّه التّفرّد. انتهى ولفظ الهدي أعمّ من أن يكون لغنم أو غيرها. فالغنم فرد من أفراد ما يهدى , وقد ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - أهدى الإبل وأهدى البقر. فمن ادّعى اختصاص الإبل بالتّقليد فعليه البيان ¬

_ (¬1) رواية التقليد لَم يذكرها صاحب العمدة فقد اتفقا على روايتها , كما ذكره الشارح.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون 240 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنةً , فقال: اركبها , قال: إنّها بدنةٌ. قال: اركبها , فرأيته راكبها , يساير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي لفظٍ: قال في الثّانية , أو الثّالثة: اركبها , ويلك , أو ويحك. (¬1) قوله: (رأى رجلاً) لَم أقف على اسمه بعد طول البحث. قوله: (يسوق بدنة) كذا في معظم الأحاديث , ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس عن أنس " مرّ ببدنة أو هديّة ". ولأبي عوانة من هذا الوجه " أو هدي " وهو ممّا يوضّح أنّه ليس المراد بالبدنة مجرّد مدلولها اللّغويّ. ولمسلم من طريق المغيرة عن أبي الزّناد عن الأعرج عن أبي هريرة " بينا رجلٌ يسوق بدنة مُقلَّدة ". وكذا في طريق همّام عن أبي هريرة. قوله: (فقال: اركبها) زاد النّسائيّ من طريق سعيد عن قتادة , والجوزقيّ من طريق حميد عن ثابت كلاهما عن أنس " وقد جهده المشي " , ولأبي يعلى من طريق الحسن عن أنس " حافياً " لكنّها ضعيفة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1604 , 2604 , 5808) ومسلم (1322) من طريق مالك , ومسلم (1322) عن المغيرة كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (1619 , 1620) من طريق عكرمة , ومسلم (1322) من طريق همام بن منبّه كلاهما عن أبي هريرة نحوه.

قوله: (يساير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) زاد البخاري من رواية عكرمة عن أبي هريرة " والنعل في عنقها " يحتمل: أن يريد الجنس , ويحتمل: أن يريد الوحدة. أي: النّعل الواحدة. فيكون فيه إشارة إلى من اشترط نعلين , وهو قول الثّوريّ. وقال غيره: تجزئ الواحدة. وقال آخرون: لا تتعيّن النّعل. بل كلّ ما قام مقامها أجزأ حتّى أذن الإداوة. ثمّ قيل: الحكمة في تقليد النّعل. أنّ فيه إشارة إلى السّفر والجدّ فيه؛ فعلى هذا يتعيّن، والله أعلم. وقال ابن المنير في الحاشية: الحكمة فيه أنّ العرب تعتدّ النّعل مركوبة لكونها تقي عن صاحبها وتحمل عنه وعر الطّريق , وقد كنّى بعض الشّعراء عنها بالنّاقة فكأنّ الذي أهدى خرج عن مركوبه لله تعالى حيواناً وغيره كما خرج حين أحرم عن ملبوسه , ومن ثَمَّ استحبّ تقليد نعلين لا واحدةٍ , وهذا هو الأصل في نذر المشي حافياً إلى مكّة قوله: (ويلك في الثّانية , أو في الثّالثة) وقع في رواية همّام عند مسلم " ويلك اركبها ويلك اركبها " , ولأحمد من رواية عبد الرّحمن بن إسحاق والثّوريّ كلاهما عن أبي الزّناد , ومن طريق عجلان عن أبي هريرة. قال: اركبها ويحك. قال: إنّها بدنة. قال: اركبها ويحك. زاد أبو يعلى من رواية الحسن " فركبها " وقد قلنا إنّها ضعيفة ,

لكن تقدَّم في البخاري عن أبي هريرة: فلقد رأيته راكبها يساير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. والنّعل في عنقها. وتبيّن بهذه الطّرق , أنّه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام , ولو كان المراد مدلولها اللّغويّ لَم يحصل الجواب بقوله: إنّها بدنة , لأنّ كونها من الإبل معلوم , فالظّاهر أنّ الرّجل ظنّ أنّه خفي كونها هدياً. فلذلك قال: إنّها بدنة , والحقّ أنّه لَم يخف ذلك على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لكونها كانت مقلدة , ولهذا قال له لَمّا زاد في مراجعته " ويلك ". واستُدل به على جواز ركوب الهدي. سواء كان واجباً أو متطوّعاً به؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - لَم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك , فدلَّ على أنّ الحكم لا يختلف بذلك. وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث عليّ , أنّه سئل: هل يركب الرّجل هديه؟ فقال: لا بأس. قد كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يمرّ بالرّجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه. أي: هدي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. إسناده صالحٌ. وبالجواز مطلقاً , قال عروة بن الزّبير. ونسبه ابن المنذر لأحمد وإسحاق , وبه قال أهل الظّاهر , وهو الذي جزم به النّوويّ في " الرّوضة " تبعاً لأصله في الضّحايا , ونقله في " شرح المهذّب " عن القفّال والماورديّ , ونقل فيه عن أبي حامد والبندنيجيّ وغيرهما تقييده بالحاجة. وقال الرّويانيّ: تجويزه بغير حاجة يخالف النّصّ , وهو الذي حكاه

التّرمذيّ عن الشّافعيّ وأحمد وإسحاق. وأطلق ابن عبد البرّ كراهة ركوبها بغير حاجة عن الشّافعيّ ومالك وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء. وقيّده صاحب " الهداية " من الحنفيّة بالاضطرار إلى ذلك , وهو المنقول عن الشّعبيّ عند ابن أبي شيبة. ولفظه: لا يركب الهدي إلاَّ من لا يجد منه بدّاً. ولفظ الشّافعيّ الذي نقله ابن المنذر. وترجم له البيهقيّ: يركب إذا اضطرّ ركوباً غير فادح. وقال ابن العربيّ عن مالك: يركب للضّرورة فإذا استراح نزل. ومقتضى من قيّده بالضّرورة. أنّ من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلاَّ من ضرورة أخرى. والدّليل على اعتبار هذه القيود الثّلاثة - وهي الاضطرار والرّكوب بالمعروف وانتهاء الرّكوب بانتهاء الضّرورة - ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعاً بلفظ: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتّى تجد ظهراً. فإنّ مفهومه أنّه إذا وجد غيرها تركها. وروى سعيد بن منصور من طريق إبراهيم النّخعيّ قال: يركبها إذا أعيا قدر ما يستريح على ظهرها. وفي المسألة مذهب خامس (¬1): وهو المنع مطلقاً , نقله ابن العربيّ ¬

_ (¬1) والأقوال الأربعة هي. الجواز مطلقاً. والثاني تقييد الجواز عند الحاجة. والثالث تقييد الجواز عند الضرورة. والرابع الكراهة.

عن أبي حنيفة , وشنّع عليه , ولكنّ الذي نقله الطّحاويّ وغيره الجواز بقدر الحاجة إلاَّ أنّه قال: ومع ذلك يضمن ما نقص منها بركوبه. وضمان النّقص وافق عليه الشّافعيّة في الهدي الواجب كالنّذر. ومذهب سادس: وهو وجوب ذلك. نقله ابن عبد البرّ عن بعض أهل الظّاهر , تمسّكاً بظاهر الأمر , ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهليّة من البحيرة والسّائبة. وردّه (¬1) بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانوا كثيراً , ولَم يأمر أحداً منهم بذلك. انتهى. وفيه نظرٌ. لِمَا تقدّم من حديث عليّ , وله شاهد مرسلٌ عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في " المراسيل " عن عطاء: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيّدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها. قلت: ماذا؟ قال: الرّاجل والمتيّع اليسير فإن نتجت حمل عليها ولدها. ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعيّن طريقاً إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك. واختلف المجيزون هل يَحمل عليها متاعَه؟. فمنعه مالك , وأجازه الجمهور. وهل يحمل عليها غيره؟. أجازه الجمهور أيضاً على التّفصيل ¬

_ (¬1) أي: ابن عبد البر رحمه الله.

المتقدّم. ونقل عياض الإجماع على أنّه لا يؤجرها. وقال الطّحاويّ في " اختلاف العلماء ": قال أصحابنا والشّافعيّ: إن احتلب منها شيئاً تصدّق به. فإن أكله تصدّق بثمنه ويركب إذا احتاج فإنّ نقصه ذلك ضمن. وقال مالك: لا يشرب من لبنه. فإن شرب لَم يغرم. ولا يركب إلاَّ عند الحاجة فإن ركب لَم يغرم. وقال الثّوريّ: لا يركب إلاَّ إذا اضطرّ. قوله: (ويلك) قيل إنّ أصل " ويل " وي , وهي كلمة تأوّه فلمّا كثر قولهم وي لفلانٍ وصلوها باللام وقدّروها أنّها منها فأعربوها. وعن الأصمعيّ: ويل للتّقبيح على المخاطب فعله. وقال الرّاغب: ويل قبوح، وقد تستعمل بمعنى التّحسّر. وويح ترحّم. وويس استصغار. وأمّا ما ورد في جهنّم (¬1). فلم يرد أنّه معناه في اللّغة، وإنّما أراد مَن قال الله ذلك فيه فقد استحقّ مقرّاً من النّار. وفي " كتاب من حدّث ونسي " (¬2) عن معتمر بن سليمان قال: قال لي أبي: أنت حدّثتني عنّي عن الحسن. قال: ويح كلمة رحمة. وأكثر أهل اللّغة على أنّ ويل كلمة عذاب وويح كلمة رحمة. وعن ¬

_ (¬1) انظر الحديث رقم (3) في الطهارة. (¬2) للحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله.

اليزيديّ: هما بمعنًى واحد، تقول ويح لزيدٍ وويل لزيدٍ، ولك أن تنصبهما بإضمار فعل كأنّك قلت: ألزمه الله ويلاً أو ويحاً. قلت: وتصرّف البخاريّ يقتضي أنّه على مذهب اليزيديّ في ذلك، فإنّه ذكر في بعض الأحاديث في الباب (¬1) ما ورد بلفظ ويل فقط , وما ورد بلفظ ويح فقط , وما وقع التّردّد فيهما. ولعله رمز إلى تضعيف الحديث الوارد عن عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها في قصّة: لا تجزعي من الويح فإنّه كلمة رحمة، ولكن اجزعي من الويل. أخرجه الخرائطيّ في " مساوئ الأخلاق " بسندٍ واهٍ. وهو آخر حديث فيه. وقال الدّاوديّ: ويل وويح وويس كلمات تقولها العرب عند الذّمّ، قال: وويح مأخوذ من الحزن وويس من الأسى وهو الحزن. وتعقّبه ابن التّين: بأنّ أهل اللّغة إنّما قالوا: ويل كلمة تقال عند الحزن، وأمّا قول ابن عرفة: الويل الحزن. فكأنّه أخذه من أنّ الدّعاء بالويل إنّما يكون عند الحزن. والأحاديث التي ساقها البخاري رحمه الله (¬2). فيها ما اختلف ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في كتاب الأدب من الصحيح " باب ما جاء في قول الرجل: ويلك " فذكر حديث الباب وكذا حديث أنس مثله. وأيضاً حديث أنس: ويحك يا أنجشة. وحديث أبي بكرة: ويلك قطعت عنق أخيك. وأيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - لذي الخويصرة: ويلك من يعدل. " وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمجامع في نهار رمضان: ويحك. وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: ويحك إن شأن الهجرة شديد. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ويلكم أو ويحكم , لا ترجعوا بعدي كفاراً " وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأل عن الساعة: ويلك وما أعددت لها؟. (¬2) انظر التعليق السابق.

الرّواة في لفظه. هل هي ويل أو ويح؟ وفيها ما تردّد الرّاوي , فقال: ويل أو ويح، وفيها ما جزم فيه بأحدهما. ومجموعها يدلّ على أنّ كلاً منهما كلمة توجّع يعرف. هل المراد الذّمّ أو غيره من السّياق؟ فإنّ في بعضها الجزم بويلٍ , وليس حمله على العذاب بظاهرٍ. والحاصل: أنّ الأصل في كلّ منهما ما ذكر، وقد تستعمل إحداهما موضع الأخرى. وقوله " وَيْس " مأخوذ من الأسى , متعقّبٌ لاختلاف تصريف الكلمتين. قال القرطبيّ: قالها له تأديباً لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه , وبهذا جزم ابن عبد البرّ وابن العربيّ. وبالغ حتّى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا قال: ولولا أنّه - صلى الله عليه وسلم - اشترط على ربّه ما اشترط لهلك ذلك الرّجل لا محالة. قال القرطبيّ: ويحتمل أن يكون فهم عنه أنّه يترك ركوبها على عادة الجاهليّة في السّائبة وغيرها فزجره عن ذلك فعلى الحالتين هي إنشاءٌ. ورجّحه عياض وغيره , قالوا: والأمر هنا وإن قلنا إنّه للإرشاد , لكنّه استحقّ الذّمّ بتوقّفه على امتثال الأمر. والذي يظهر أنّه ما ترك الامتثال عناداً , ويحتمل: أن يكون ظنّ أنّه يلزمه غرمٌ بركوبها أو إثمٌ, وأنّ الإذن الصّادر له بركوبها إنّما هو للشّفقة عليه فتوقّف فلمّا أغلظ إليه بادر إلى الامتثال. وقيل: لأنّه كان أشرف على هلكةٍ من الجهد. وويل كلمة تقال لمن

وقع في هلكة , فالمعنى أشرفت على الهلكة فاركب فعلى هذا , هي إخبار. وقيل: هي كلمة تدعم بها العرب كلامها , ولا تقصد معناها كقوله: لا أمّ لك , ويقوّيه ما تقدّم في بعض الرّوايات بلفظ " ويحك " بدل ويلك قال الهرويّ: ويل يقال لمن وقع في هلكة يستحقّها , وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقّها. وفي الحديث تكرير الفتوى والنّدب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر , وزجْر من لَم يبادر إلى ذلك وتوبيخه. وجواز مسايرة الكبار في السّفر , وأنّ الكبير إذا رأى مصلحةً للصّغير لا يأنف عن إرشاده إليها. وقد تمسّك به من أجاز الوقف على النّفس من جهة أنّه إذا جاز له الانتفاع بما أهداه بعد خروجه عن ملكه بغير شرط فجوازه بالشّرط أولى. وقد اعترضه ابن المنير: بأنّ الحديث لا يدلّ إلاَّ عند من يقول إنّ المتكلم داخل في عموم خطابه، وهي من مسائل الخلاف في الأصول. قال: والرّاجح عند المالكيّة تحكيم العرف حتّى يخرج غير المخاطب من العموم بالقرينة. وقال ابن بطّال: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه , لأنّه أخرجه لله وقطعه عن ملكه فانتفاعه بشيءٍ منه رجوع في صدقته.

ثمّ قال: وإنّما يجوز له ذلك إن شرطه في الوقف أو افتقر هو أو ورثته. انتهى. والذي عند الجمهور: جواز ذلك إذا وقفه على الجهة العامّة دون الخاصّة , أمّا الخاصّة. فالوقف على النّفس لا يصحّ عند الشّافعيّة ومن وافقهم. ومن فروع المسألة: لو وقف على الفقراء مثلاً ثمّ صار فقيراً أو أحد من ذرّيّته , هل يتناول ذلك؟. والمختار أنّه يجوز بشرط أن لا يختصّ به لئلا يدّعي أنّه ملكه بعد ذلك.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون 241 - عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - , قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه , وأن أتصدّق بلحمها وجلودها وأجلّتها , وأن لا أعطي الجزّار منها شيئاً. وقال: نحن نعطيه من عندنا. (¬1) قوله: (أنْ أقومَ) أي: عند نحرها للاحتفاظ بها , وللبخاري " بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقمت على البدن " أي: التي أرصدها للهدي. ويحتمل: أن يريد ما هو أعمّ من ذلك. أي: على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك. قوله: (على بُدْنه) البدن بسكون الدال في قراءة الجمهور , وقرأ الأعرج , وهي رواية عن عاصم بضمها , وأصلها من الإبل , وأُلحِقت بها البقر شرعاً. وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سُميت البدن من قِبَل السَّمانة. ولَم يقع في هذه الرّواية عدد البدن , لكن وقع عند البخاري " أنّها مائة بدنة " ولأبي داود من طريق ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: نحر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين بدنة وأمرني فنحرت سائرها. وأصحّ منه ما وقع عند مسلم في حديث جابر الطّويل فإنّ فيه " ثمّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1621 , 1629 , 1630 , 1631 , 2177) ومسلم (1317) من طرق عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليٍ - رضي الله عنه -. وليس عند البخاري قوله: (وقال: نحن نعطيه من عندنا)

انصرف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستّين بدنة , ثمّ أعطى عليّاً فنحر ما غَبَرَ وأشركه في هديه , ثمّ أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدرٍ فطبخت , فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. فعُرف بذلك أنّ البدن كانت مائة بدنة , وأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نحر منها ثلاثاً وستّين , ونحر عليّ الباقي. والجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق , أنّه - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثين , ثمّ أمر عليّاً أن ينحر فنحر سبعاً وثلاثين مثلاً ثمّ نحر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وثلاثين , فإن ساغ هذا الجمع , وإلا فما في الصّحيح أصحّ. قوله: (وأن أتصدّق بلحمها وجلودها وأجلتها) وللبخاري " فأمرني فقسمت لحومها , ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها ". زاد ابن خزيمة في روايته " على المساكين ". قال: المراد بقوله " يقسمها كلها " على المساكين إلاَّ ما أمر به من كل بدنة ببضعة فطبخت كما في حديث جابر يعني الطّويل عند مسلم قوله: (وأجلّتها) في رواية لهما " وجِلالها " بكسر الجيم وتخفيف اللام. جمع جلٍّ بضمّ الجيم , وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساءٍ ونحوه. وأخرج مالكٌ في " الموطّإ " عن نافع , أنّ عبد الله بن عمر كان لا يشقّ جلال بدنه. وعن نافع , أنّ ابن عمر كان يجلل بدنه القباطيّ والحلل , ثمّ يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها إيّاها. وعن مالك أنّه سأل عبد الله بن دينار. ما كان ابن عمر يصنع

بجلال بدنه حين كسيت الكعبة هذه الكسوة؟ قال: كان يتصدّق بها. وقال البيهقيّ بعد أن أخرجه من طريق يحيى بن بكير عن مالك: زاد فيه غيره عن مالك " إلاَّ موضع السّنام " إلى آخر الأثر المذكور. قال المُهلَّب: ليس التّصدّق بجلال البدن فرضاً , وإنّما صنع ذلك ابن عمر , لأنّه أراد أن لا يرجع في شيءٍ أهل به له. ولا في شيء أضيف إليه. انتهى وفائدة شقّ الجل من موضع السّنام , ليظهر الإشعار لئلا يستتر ما تحتها. وروى ابن المنذر من طريق أسامة بن زيدٍ عن نافع , أنّ ابن عمر كان يُجلّل بدنه الأنماط والبرود والحبر حتّى يخرج من المدينة , ثمّ ينزعها فيطويها حتّى يكون يوم عرفة فيلبسها إيّاها حتّى ينحرها , ثمّ يتصدّق بها. قال نافع: وربّما دفعها إلى بني شيبة. قوله: (وأن لا أعطي الجزّار منها شيئاً) وفي رواية للبخاري " ولا يعطي في جزارتها شيئاً " ظاهرهما أن لا يعطي الجزّار شيئاً ألبتّة , وليس ذلك المراد , بل المراد أن لا يعطي الجزّار منها شيئاً. كما وقع عند مسلم وابن خزيمة " ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً " زاد مسلم " وقال: نحن نعطيه من عندنا " قال ابن خزيمة: والنّهي عن إعطاء الجزّار المراد به أن لا يعطي منها عن أجرته. وكذا قال البغويّ في " شرح السّنّة " قال: وأمّا إذا أعطي أجرته

كاملة , ثمّ تصدّق عليه إذا كان فقيراً كما يتصدّق على الفقراء فلا بأس بذلك. وقال غيره: إعطاء الجزّار على سبيل الأجرة ممنوع , لكونه معاوضة , وأمّا إعطاؤه صدقة أو هديّة أو زيادة على حقّه فالقياس الجواز، ولكنّ إطلاق الشّارع ذلك قد يفهم منه منع الصّدقة , لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة. قال القرطبيّ: ولَم يرخّص في إعطاء الجزّار منها في أجرته , إلاَّ الحسن البصريّ وعبد الله بن عبيد بن عمير. واختلف في الجزارة. فقال ابن التّين: الجِزارة بالكسر اسم للفعل , وبالضّمّ اسم للسّواقط , فعلى هذا فينبغي أن يقرأ بالكسر. وبه صحّت الرّواية , فإن صحّت بالضّمّ جاز أن يكون المراد لا يعطي من بعض الجزور أجرة الجزّار. وقال ابن الجوزيّ وتبعه المحبّ الطّبريّ: الجُزارة بالضّمّ اسم لِمَا يعطى كالعمالة وزناً ومعنى , وقيل: هو بالكسر كالحِجامة والخِياطة. وجوّز غيره الفتح. وقال ابن الأثير: الجُزارة بالضّمّ كالعمالة ما يأخذه الجزّار من الذّبيحة عن أجرته، وأصلها أطراف البعير - الرّأس واليدان والرّجلان - سُمِّيت بذلك لأنّ الجزّار كان يأخذها عن أجرته. واستدل به على منع بيع الجلد.

قال القرطبيّ: فيه دليل على أنّ جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم وإعطائها حكمه , وقد اتّفقوا على أنّ لحمها لا يباع , فكذلك الجلود والجلال. وأجازه الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور , وهو وجه عند الشّافعيّة , قالوا: ويصرف ثمنه مصرف الأضحيّة. واستدل أبو ثور: على أنّهم اتّفقوا على جواز الانتفاع به، وكلّ ما جاز الانتفاع به جاز بيعه. وعورض: باتّفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التّطوّع , ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه. وأقوى من ذلك في ردّ قوله: ما أخرجه أحمد في حديث قتادة بن النّعمان مرفوعاً: لا تبيعوا لحوم الأضاحيّ والهدي , وتصدّقوا وكلوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوا , وإن أُطعمتم من لحومها فكلوا إن شئتم. وفي حديث عليّ من الفوائد. سوق الهدي والوكالة في نحر الهدي والاستئجار عليه والقيام عليه وتفرقته والإشراك فيه. وأنّ من وجب عليه شيء لله فله تخليصه ونظيره الزّرع يعطي عشره, ولا يحسب شيئاً من نفقته على المساكين. تنْبيه: ما في هذه الأحاديث من استحباب التّقليد والإشعار وغير ذلك يقتضي أنّ إظهار التّقرّب بالهدي أفضل من إخفائه، والمقرّر أنّ

إخفاء العمل الصّالح غير الفرض أفضل من إظهاره. فإمّا أن يقال: إنّ أفعال الحجّ مبنيّة على الظّهور كالإحرام والطّواف والوقوف. فكان الإشعار والتّقليد كذلك فيخصّ الحجّ من عموم الإخفاء. وإمّا أن يقال: لا يلزم من التّقليد والإشعار إظهار العمل الصّالح؛ لأنّ الذي يهديها يمكنه أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها , ولا يقول: إنّها لفلان؛ فتحصل سنّة التّقليد مع كتمان العمل. وأبعدَ من استدل بذلك على أنّ العمل إذا شرع فيه صار فرضاً. وإمّا أن يقال: إنّ التّقليد جعل علماً لكونها هدياً حتّى لا يطمع صاحبها في الرّجوع فيها.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون 242 - عن زياد بن جبيرٍ , قال: رأيت ابنَ عمر أتى على رَجُلٍ قد أناخ بدنتَه , فنحرها. فقال: ابعثها قياماً مقيّدةً. سنّة محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (عن زياد بن جبير) بجيم وموحّدة مصغّر بصريّ تابعيّ ثقة. ليس له في الصّحيحين سوى هذا الحديث , وحديث آخر أخرجه البخاري في النّذر وفي الصّوم. وقد سبق حديثٌ غير هذا من طريق زيد بن جبير عن ابن عمر (¬2) , وهو غير زياد بن جبير هذا. وليس أخاً له أيضاً , لأنّ زيداً طائيٌّ كوفيٌّ , وزياداً ثقفيٌّ بصريٌّ , لكنّهما اشتركا في الثّقة , وفي الرّواية عن ابن عمر. قوله: (أتى على رجلٍ) لَم أقف على اسمه. قوله: (قد أناخ بدنته ينحرها) زاد أحمد عن إسماعيل بن عليّة عن يونس عن زياد بن جبير " لينحرها بمنًى ". قوله: (ابعثها) أي: أثِرْها. يقال: بعثت النّاقة أثرتها. قوله: (قياماً) أي: عن قيام , وقياماً مصدر بمعنى قائمة , وهي حال مقدّرة أو قوله " ابعثها " أي: أقمها , أو العامل محذوف تقديره ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1627) ومسلم (1320) من طريق يونس عن زياد بن جبير به. (¬2) تقدّم حديثه في المواقيت. انظر حديث ابن عمر الماضي رقم (217).

انحرها. وقد وقع في رواية عند الإسماعيليّ " انحرها قائمة " قوله: (مقيّدة) أي: معقولة الرّجل قائمة على ما بقي من قوائمها. ولأبي داود من حديث جابر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها. وقال سعيد بن منصور: حدّثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير , رأيت ابن عمر ينحر بدنته. وهي معقولة إحدى يديها. وذكر سفيان بن عيينة في " تفسيره ": عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى (اذكروا اسم الله عليها صوافَّ) قال: قياماً. أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة , وأخرجه عبد بن حميد عن أبي نعيم عنه. وقوله " صوافَّ " بالتشديد جمع صافَّة. أي: مصطفة في قيامها. ووقع في " مستدرك الحاكم " من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى " صوافن " أي: قياماً على ثلاث قوائم معقولة , وهي قراءة ابن مسعود " صوافن " بكسر الفاء بعدها نون: جمع صافنة وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. قوله: (سنّةَ محمّدٍ) بنصب سنّة بعاملٍ مضمرٍ كالاختصاص، أو التّقدير: متّبعاً سنّة محمّدٍ. قلت: ويجوز الرّفع , ويدلّ عليه رواية الحربيّ في المناسك بلفظ: فقال له: انحرها قائمة فإنّها سنّة محمّد. وفي هذا الحديث استحباب نحر الإبل على الصّفة المذكورة.

وعن الحنفيّة: يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة. وفيه تعليم الجاهل وعدم السّكوت على مخالفة السّنّة وإن كان مباحاً. وفيه أنّ قول الصّحابيّ من السّنّة كذا مرفوع عند الشّيخين لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما.

باب الغسل للمحرم

باب الغسل للمحرم الحديث الثامن والعشرون 243 - عن عبد الله بن حنينٍ , أنّ عبد الله بن عبّاسٍ والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء , فقال ابن عبّاسٍ: يغسل المُحرم رأسه. وقال المسور: لا يغسل رأسه. قال: فأرسلني ابن عبّاسٍ إلى أبي أيّوب الأنصاريّ - رضي الله عنه - فوجدتُه يغتسل بين القرنين , وهو يُستر بثوبٍ , فسلَّمتُ عليه. فقال: مَن هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنينٍ , أرسلني إليك ابن عبّاسٍ , يسألك: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرمٌ؟ فوضع أبو أيّوب يدَه على الثّوب , فطأطأه , حتّى بدا لي رأسُه. ثمّ قال لإنسانٍ يصبّ عليه الماء: اصبب , فصبّ على رأسه. ثمّ حرّك رأسه بيديه , فأقبل بهما وأدبر. ثمّ قال: هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يغتسل. (¬1) وفي روايةٍ: فقال المسور لابن عبّاسٍ: لا أُماريك أبداً. (¬2) قوله: (أنّ عبد الله بن عبّاس) في رواية ابن جريجٍ (¬3) عن زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه عند أبي عوانة " كنت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1743) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (1205) عن قتية كلاهما عن مالك عن زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه به. (¬2) أخرج هذه الرواية مسلم (1205) من طريق ابن جريج عن زيد بن أسلم به. (¬3) رواية اين جريج. وكذا ابن عيينة الآتية. أخرجها مسلم في صحيحه (1205) , لكن لَم يسق لفظهما. واكتفى بسياق رواية مالك.

مع ابن عبّاس والمسور .. " قوله: (بالأبواء) (¬1) أي: وهما نازلان بها، وفي رواية ابن عيينة عن زيد عند أحمد وإسحاق والحميدي في " مسانيدهم " عنه " بالعرج " وهو بفتح أوّله وإسكان ثانيه: قرية جامعة قريبة من الأبواء. قوله: (إلى أبي أيّوب) زاد ابن جريجٍ. فقال: قل له يقرأ عليك السّلام ابن أخيك عبد الله بن عبّاس. ويسألك. قوله: (بين القرنين) أي: قرني البئر، وكذا هو لبعض رواة الموطّإ (¬2)، وكذا في رواية ابن عيينة، وهما العودان - أي العمودان - المنتصبان لأجل عود البكرة. قوله: (أرسلني إليك عبد الله بن عبّاس يسألك كيف كان إلخ) قال ابن عبد البرّ: الظّاهر أنّ ابن عبّاس كان عنده في ذلك نصّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أخذه عن أبي أيّوب أو غيره، ولهذا قال عبد الله بن حنينٍ لأبي أيّوب: يسألك كيف كان يغسل رأسه؟ ولَم يقل. هل كان يغسل رأسه أو لا؟ على حسب ما وقع فيه اختلاف بين المسور وابن عبّاس. قلت: ويحتمل أن يكون عبد الله بن حنينٍ تصرّف في السّؤال لفطنته، كأنّه لَمّا قال له سله هل يغتسل المُحرم أو لا؟ فجاء فوجده ¬

_ (¬1) سيأتي الكلام على الأبواء. انظر حديث الصعب بن جثمة - رضي الله عنه - الآتي رقم (256). (¬2) أي: أنَّ بعض الرواة عن مالك رووه بلفظ (قرني البئر) وهو كذلك. فقد أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه " (2/ 265) من طريق القعنبي وابن وهب , والنسائي (2665) من طريق قتيبة بهذا اللفظ. وجاءت أيضاً من رواية ابن عيينة كما قال الشارح. عند ابن خزيمة (2650) وغيره.

يغتسل، فهم من ذلك أنّه يغتسل، فأحبّ أن لا يرجع إلاَّ بفائدة فسأله عن كيفيّة الغسل، وكأنّه خصّ الرّأس بالسّؤال لأنّها موضع الإشكال في هذه المسألة , لأنّها محلّ الشّعر الذي يخشى انتتافه بخلاف بقيّة البدن غالباً. قوله: (فطأطأه) أي: أزاله عن رأسه، وفي رواية ابن عيينة " جمع ثيابه إلى صدره حتّى نظرت إليه " وفي رواية ابن جريجٍ " حتّى رأيت رأسه ووجهه ". قوله: (لإنسانٍ) لَم أقف على اسمه. قوله: (هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يغتسل) زاد ابن عيينة (¬1) " فرجعت إليهما فأخبرتهما، فقال المسور لابن عبّاس: لا أماريك أبداً. قوله: (لا أُماريك أبداً). أي: لا أجادلك. وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان، يقال: أمرى فلان فلاناً إذا استخرج ما عنده. قاله ابن الأنباريّ. وأطلق ذلك في المجادلة , لأنّ كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحجّة. وفي هذا الحديث من الفوائد مناظرة الصّحابة في الأحكام، ورجوعهم إلى النّصوص، وقبولهم لخبر الواحد ولو كان تابعيّاً، وأنّ قول بعضهم ليس بحجّةٍ على بعض. ¬

_ (¬1) رواية ابن عيينة. أخرجها مسلم (1205) , لكن لَم يسق لفظها , وإنما اكتفى برواية مالك. ثم رواه مسلم من طريق ابن جريج عن زيد بن أسلم به. وذكر هذه الزيادة.

قال ابن عبد البرّ: لو كان معنى الاقتداء في قوله - صلى الله عليه وسلم - " أصحابي كالنّجوم " (¬1) يراد به الفتوى لَمَا احتاج ابن عبّاس إلى إقامة البيّنة على دعواه , بل كان يقول للمسور: أنا نجم وأنت نجم فبأيّنا اقتدى من بعدنا كفاه. ¬

_ (¬1) قال الشارح في التلخيص الحبير (4/ 190): حديث " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " عبد بن حميد في " مسنده " من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن بن عمر. وحمزة ضعيف جداً , ورواه الدارقطني في " غرائب مالك " من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. وجميل لا يُعرف. ولا أصل له في حديث مالك , ولا من فوقه. وذكره البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر. وعبد الرحيم كذاب , ومن حديث أنس أيضاً , وإسناده واهي , ورواه القضاعي في " مسند الشهاب " له من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشمي. وهو كذاب , ورواه أبو ذر الهروي في " كتاب السنة " من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعاً. وهو في غاية الضعف. قال أبو بكر البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن حزم: هذا خبر مكذوب موضوع باطل. وقال البيهقي في " الاعتقاد " عقب حديث أبي موسى الأشعري الذي أخرجه مسلم بلفظ النجوم أمنة أهل السماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون , وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون. قال البيهقي: روي في حديث موصول بإسناد غير قوي - يعني حديث عبد الرحيم العمى - وفي حديث منقطع - يعني حديث الضحاك بن مزاحم مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء من أخذ بنجم منها اهتدى - قال: والذي رويناه ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه. قلت: صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة. أمَّا في الاقتداء فلا يظهر في حديث أبي موسى. نعم. يمكن أن يتلمح ذلك من معنى الاهتداء بالنجوم , وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن , وظهور البدع , وفشو الفجور في أقطار الأرض. والله المستعان. انتهى كلامه.

ولكنّ معناه كما قال المزنيّ وغيره من أهل النّظر أنّه في النّقل، لأنّ جميعهم عدول. وفيه اعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصّحابة بعضهم بعضاً، وفيه استتار الغاسل عند الغسل، والاستعانة في الطّهارة. وجواز الكلام والسّلام حالة الطّهارة. وجواز غسل المُحرم وتشريبه شعره بالماء ودلكه بيده إذا أمن تناثره. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّ للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك. انتهى. وروي عن مالك. أنّه كره للمحرم أن يغطّي رأسه في الماء، وروى في " الموطّإ " عن نافع , أنّ ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم , إلاَّ من احتلام. واستدل به القرطبيّ على وجوب الدّلك في الغسل. قال: لأنّ الغسل لو كان يتمّ بدونه لكان المُحرم أحقّ بأن يجوز له تركه. ولا يخفى ما فيه. واستُدل به على أنّ تخليل شعر اللحية في الوضوء باقٍ على استحبابه، خلافاً لمَن قال: يكره كالمتولي من الشّافعيّة خشية انتتاف الشّعر، لأنّ في الحديث " ثمّ حرّك رأسه بيده ". ولا فرق بين شعر الرّأس واللحية إلاَّ أن يقال إنّ شعر الرّأس أصلب، والتّحقيق أنّه خلاف الأولى في حقّ بعض دون بعض، قاله السّبكيّ الكبير.

وأخرج مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمّه واسمها مرجانة , سمعت عائشة تسأل عن المُحرم أيحكّ جسده؟ قال: نعم. وليشدّد. وقالت عائشه: لو ربطت يداي. ولَم أجد إلاَّ أن أحكّ برجلي لحككتُ.

باب فسخ الحج إلى العمرة

باب فسخ الحجّ إلى العمرة الحديث التاسع والعشرون 244 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , قال: أهلَّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحجّ. وليس مع أحدٍ منهم هديٌ غير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وطلحة , وقدم عليّ - رضي الله عنه - من اليمن. فقال: أهللت بما أهل به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه: أن يجعلوها عمرةً , فيطوفوا ثمّ يقصّروا ويحلّوا , إلاَّ من كان معه الهدي , فقالوا: ننطلق إلى منىً وذكَرُ أحدِنا يقطر؟ فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت , ولولا أنّ معي الهدي لأحللتُ. وحاضتْ عائشة , فنسكتِ المناسك كلها , غير أنّها لَم تطف بالبيت. فلمّا طهُرت وطافت بالبيت , قالت: يا رسولَ الله , ينطلقون بحجٍّ وعمرةٍ , وأنطلق بحجٍّ. فأمر عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ: أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ. (¬1) قوله: (وليس مع أحدٍ منهم هديٌ غير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وطلحة) هو ابن عبيد الله. هذا مخالف لِمَا رواه أحمد ومسلم وغيرهما من طريق عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة , أنّ الهدي كان مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وذوي اليسار. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1482 , 1493 , 1568 , 1693 , 2371 , 4095 , 6803 , 6933) ومسلم (1216) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر به مطوّلاً ومختصراً. واللفظ للبخاري. وأخرجه مسلم (1213 , 1214 , 1215) من طريق أبي الزبير عن جابر نحوه.

وللبخاري من طريق أفلح عن القاسم بلفظ " ورجال من أصحابه ذوي قوّة ". ويجمع بينهما: بأنّ كلاً منهما ذكر من اطّلع عليه، وقد روى مسلم أيضاً من طريق مسلم القرّي - وهو بضمّ القاف وتشديد الرّاء - عن ابن عبّاس في هذا الحديث " وكان طلحة ممّن ساق الهدي فلم يحلّ ". وهذا شاهد لحديث جابر في ذِكر طلحة في ذلك , وشاهد لحديث عائشة في أنّ طلحة لَم ينفرد بذلك , وداخل في قولها " وذوي اليسار ". ولمسلمٍ من حديث أسماء بنت أبي بكر , أنّ الزّبير كان ممّن كان معه الهدي. قوله: (وقدم عليٌّ من اليمن) في رواية ابن جريجٍ عن عطاء عند مسلم " من سعايته " وللبخاري " بسعايته " بكسر السّين المهملة. يعني: ولايته على اليمن لا بسعاية الصّدقة. قال النّوويّ تبعاً لغيره: لأنّه كان يحرم عليه ذلك كما ثبت في صحيح مسلم في قصّة طلب الفضل بن العبّاس أن يكون عاملاً على الصّدقة، فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّها أوساخ النّاس. والله أعلم قوله: (بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في رواية ابن جريجٍ عن عطاء عن جابر، وعن ابن جريجٍ عن طاوسٍ عن ابن عبّاس في هذا الحديث عند البخاري " فقال أحدهما: يقول لبّيك بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: يقول: لبّيك بحجّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي.

فأقرّه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فجاز الإحرام على الإبهام، لكن لا يلزم منه جواز تعليقه إلاَّ على فعل من يتحقّق أنّه يعرفه كما وقع في حديث الباب. وأمّا مطلق الإحرام على الإبهام. القول الأول: هو جائز , ثمّ يصرفه المُحرم لِمَا شاء , لكونه - صلى الله عليه وسلم - لَم ينه عن ذلك. وهذا قول الجمهور. القول الثاني: عن المالكيّة لا يصحّ الإحرام على الإبهام , وهو قول الكوفيّين. قال ابن المنيّر: وكأنّه مذهب البخاريّ لأنّه أشار بالتّرجمة (¬1) إلى أنّ ذلك خاصّ بذلك الزّمن , لأنّ عليّاً وأبا موسى (¬2) لَم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفيّة الإحرام فأحالاه على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأمّا الآن فقد استقرّت الأحكام وعرفت مراتب الإحرام فلا يصحّ ذلك. والله أعلم. وكأنّه أخذ الإشارة من تقييده بزمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجعلوها عمرة فيطوفوا) في رواية لهما " أَحِلُّوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصّروا، ثم أقيموا حلالاً، حتى إذا كان يوم التروية فأهلِّوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة " أي: اجعلوا الحجّة المفردة التي ¬

_ (¬1) ترجم عليه (باب مَن أهلَّ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) حديث أبي موسى متفق عليه , وقد تقدَّم ذكره قريباً.

أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتّعين، فأطلق على العمرة متعة مجازاً. والعلاقة بينهما ظاهرة. ووقع في رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عند مسلم " فلمّا قدمنا مكّة أمرنا أن نحلّ ونجعلها عمرة ". ونحوه في رواية الباقر عن جابر في الخبر الطّويل عند مسلم. زاد ابن جريجٌ عن عطاء فيه " وأصيبوا النّساء " قال عطاء: ولَم يعزم عليهم , ولكن أحلهنّ لهم، يعني: إتيان النّساء، لأنّ من لازم الإحلال إباحة إتيان النّساء، وإذنه لهم في جماع نسائهم إشارة إلى المبالغة في الإحلال، إذ الجماع يفسد النّسك دون غيره من محرّمات الإحرام، ووقع في رواية حمّاد بن زيد عن ابن جريجٍ في البخاري " فأمرنا فجعلناها عمرة، وأن نحلّ إلى نسائنا. قوله: (ثم يقصروا) إنّما أمرهم بذلك , لأنّهم يهلّون بعد قليل بالحجّ فأخّر الحلق , لأنّ بين دخولهم وبين يوم التّروية أربعة أيّام فقط. قوله: (فقالوا: ننطلق إلى منىً وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ ذلك النّبيّ ..) في رواية لهما عن ابن جريج عن عطاء , فبلغه أنا نقول: لَمَّا لَم يكن بيننا وبين عرفة إلاَّ خمس، أمرنا أن نحل إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المذي، قال: ويقول جابر بيده هكذا. وحركها. وقوله " لَمَّا لَم يكن بيننا وبين عرفة إلاَّ خمس " , أي: أوّلها ليلة الأحد وآخرها ليلة الخميس؛ لأنّ توجّههم من مكّة كان عشيّة

الأربعاء. فباتوا ليلة الخميس بمنًى ودخلوا عرفة يوم الخميس. قوله " فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المذي " في رواية المستمليّ " المنيّ " وكذا عند الإسماعيليّ. ويؤيّده ما وقع في رواية حمّاد بن زيد بلفظ " فيروح أحدنا إلى منًى , وذكره يقطر منيّاً " وإنّما ذكر منًى؛ لأنّهم يتوجّهون إليها قبل توجّههم إلى عرفة. وقوله " ويقول جابر بيده هكذا وحرّكها " أي: أمالها، وفي رواية حمّاد بن زيد بلفظ: فقال جابر بكفّه. أي: أشار بكفّه. قال الكرمانيّ: هذه الإشارة لكيفيّة التّقطّر , ويحتمل أن يكون إلى محلّ التّقطّر , ووقع في رواية الإسماعيليّ قال: يقول جابر: كأنّي أنظر إلى يده يحرّكها ". وهذا يحتمل أن يكون مرفوعاً. قوله: (فقال: لو استقبلت من أمري) زاد في رواية ابن جريج عن عطاء: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لَم أسق الهدي، فحِلِّوا. فحللنا وسمعنا وأطعنا .. الحديث. قوله: (ولولا أنّ معي الهدي لأحللت) في رواية لهما من طريق أبي شهاب عن عطاء " ولكن لا يحل مني حِرامٌ حتى يبلغ الهدي محله. ففعلوا " وقوله " حِرام " بكسر حاء يحلّ. أي: شيء حرام، والمعنى لا يحلّ منّي ما حرم عليّ. ووقع في رواية مسلم " لا يحلّ منّي حراماً " بالنّصب على المفعوليّة.

وعلى هذا فيقرأ يحلّ بضمّ أوّله , والفاعل محذوف تقديره , لا يحلّ طول المكث ونحو ذلك منّي شيئاً حراماً حتّى يبلغ الهدي محلّه، أي: إذا نحر يوم منًى. واستدل به على أنّ من اعتمر فساق هدياً لا يتحلل من عمرته حتّى ينحر هديه يوم النّحر، وقد تقدّم حديث حفصة نحوه. (¬1) ولهما من حديث عائشة من طريق عقيل عن الزّهريّ عن عروة عنها بلفظ " من أحرم بعمرةٍ فأهدى فلا يحلّ حتّى ينحر ". وتأوّل ذلك المالكيّة والشّافعيّة: على أنّ معناه , ومن أحرم بعمرةٍ وأهدى فليهل بالحجّ. ولا يحلّ حتّى ينحر هديه، ولا يخفى ما فيه. قلت: فإنّه خلاف ظاهر الأحاديث المذكورة. وبالله التّوفيق. قوله: (وأنّ عائشة حاضت) في رواية عائشة نفسها كما في الصحيحين " أنّ حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكّة، وفي رواية أبي الزّبير عن جابر عند مسلم , أنّ دخول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليها وشكواها ذلك له كان يوم التّروية. ووقع عند مسلم من طريق مجاهد عن عائشة , أنّ طهرها كان بعرفة " وفي رواية القاسم عنها , وطهرت صبيحة ليلة عرفة حتّى قدمنا منًى، وله من طريقه " فخرجت في حجّتي حتّى نزلنا منًى فتطهّرت، ثمّ طفنا بالبيت " الحديث. واتّفقت الرّوايات كلّها على أنّها طافت طواف الإفاضة من يوم ¬

_ (¬1) تقدَّم برقم (236).

النّحر. واقتصر النّوويّ في " شرح مسلم " على النّقل عن أبي محمّد بن حزم , أنّ عائشة حاضت يوم السّبت ثالث ذي الحجّة وطهرت يوم السّبت عاشره يوم النّحر، وإنّما أخذه ابن حزم من هذه الرّوايات التي في مسلم. ويجمع بين قول مجاهد وقول القاسم: أنّها رأت الطّهر وهي بعرفة , ولَم تتهيّأ للاغتسال إلاَّ بعد أن نزلت منًى، وانقطع الدّم عنها بعرفة وما رأت الطّهر إلاَّ بعد أن نزلت منًى، وهذا أولى. والله أعلم. (¬1) قوله: (فنسكت المناسك كلها , غير أنّها لَم تطف بالبيت) ولهما من حديث عائشة " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ". وهو بفتح التّاء والطّاء المهملة المشدّدة وتشديد الهاء أيضاً. أو هو على حذف إحدى التّاءين، وأصله تتطهّري. ويؤيّده قوله في رواية مسلم " حتّى تغتسلي ". والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطّواف حتّى ينقطع دمها وتغتسل , لأنّ النّهي في العبادات يقتضي الفساد وذلك يقتضي بطلان الطّواف لو فعلته , وفي معنى الحائض الجنب والمحدث. وهو قول الجمهور. وذهب جمعٌ من الكوفيّين: إلى عدم الاشتراط. ¬

_ (¬1) قال الشارح في موضع آخر (1/ 417): قولها (وتطهرت بعرفة) محمول على غسل الإحرام جمعاً بين الروايتين.

قال ابن أبي شيبة: حدّثنا غندر حدّثنا شعبة: سألت الحكم وحمّاداً ومنصوراً وسليمان عن الرّجل يطوف بالبيت على غير طهارة؟ فلم يروا به بأساً. وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعداً ثمّ حاضت أجزأ عنها. وفي هذا تعقُّب على النّوويّ حيث قال في " شرح المهذّب ": انفرد أبو حنيفة بأنّ الطّهارة ليست بشرط في الطّواف , واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدّم إن فعله. انتهى ولَم ينفردوا بذلك كما ترى. فلعله أراد انفرادهم عن الأئمّة الثّلاثة. لكن عند أحمد رواية: أنّ الطّهارة للطّواف واجبة تجبر بالدّم , وعند المالكيّة قول يوافق هذا. تكميل: روي عن مالك في حديث عائشة بزيادة " ولا بين الصّفا والمروة ". قال ابن عبد البرّ: لَم يقله أحدٌ عن مالك إلاَّ يحيى بن يحيى التّميميّ النّيسابوريّ. قلت: فإن كان يحيى حفظه فلا يدلّ على اشتراط الوضوء للسّعي , لأنّ السّعي يتوقّف على تقدّم طواف قبله , فإذا كان الطّواف ممتنعاً امتنع لذلك لا لاشتراط الطّهارة له. وقد روي عن ابن عمر أيضاً قال: تقضي الحائض المناسك كلّها إلاَّ الطّواف بالبيت وبين الصّفا والمروة. أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد

صحيح. قال: وحدّثنا ابن فضيل عن عاصم , قلت لأبي العالية: تقرأ الحائض؟ قال: لا. ولا تطوف بالبيت ولا بين الصّفا والمروة. ولَم يذكر ابن المنذر عن أحدٍ من السّلف اشتراط الطّهارة للسّعي , إلاَّ عن الحسن البصريّ. وقد حكى المجد بن تيميّة من الحنابلة روايةً عندهم مثله. وأمّا ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيحٍ: إذا طافت ثمّ حاضت قبل أن تسعى بين الصّفا والمروة فلتسع. وعن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن مثله. وهذا إسناد صحيح عن الحسن. فلعلَّه يفرّق بين الحائض والمحدث. وقال ابن بطّال: كأنّ البخاريّ فهم أنّ قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: افعلي ما يفعل الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت. أنّ لها أن تسعى , ولهذا قال (¬1): وإذا سعى على غير وضوء. انتهى وهو توجيه جيّد لا يخالف التّوجيه الذي قدّمته. وهو قول الجمهور. وحكى ابن المنذر عن عطاء قولين. فيمن بدأ بالسّعي قبل الطّواف بالبيت. القول الأول: بالإجزاء. قال بعض أهل الحديث. واحتجّ بحديث أسامة بن شريك , أنّ ¬

_ (¬1) أي: في تبويبه حيث قال (باب تقضي الحائض المناسك كلّها. إلاَّ الطواف بالبيت , وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة)

رجلاً سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فقال: سعيت قبل أن أطوف. قال: طف ولا حرج. القول الثاني: قال الجمهور: لا يجزئه , وأوّلوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم. وقبل طواف الإفاضة. قوله: (ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحجٍّ) تمسّك به مَن قال: إنّ عائشة لَمّا حاضت تركت عمرتها واقتصرت على الحجّ، وفي رواية لهما عن الأسود عن عائشة " فحلَّ من لَم يكن ساق الهدي، ونساؤه لَم يسقن الهدي، فأحللن , قالت عائشة: فحضت .. " قوله " فأحللن " أي: وهي منهنّ , لكن منعها من التّحلّل كونها حاضت ليلة دخولهم مكّة. وفي رواية القاسم عنها في الصحيحين بيان ذلك وأنّها بكت , وأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: كوني في حجّك. فظاهره أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تجعل عمرتها حجّاً , ولهذا قالت: يرجع النّاس بحجٍّ وعمرة , وأرجع بحجٍّ. فأعمرها لأجل ذلك من التّنعيم. وقال مالك: ليس العمل على حديث عروة (¬1) قديماً ولا حديثاً. قال ابن عبد البرّ: يريد ليس عليه العمل في رفض العمرة وجعلها حجّاً. بخلاف جعل الحجّ عمرة , فإنّه وقع للصّحابة. واختلف في ¬

_ (¬1) رواية عروة عن عائشة. أخرجها البخاري (317) ومسلم (1211) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عنها. بلفظ: فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي وأهلي بحج. وسيأتي في كلام الشارح.

جوازه مَن بعدهم , لكن أجاب جماعةٌ من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله في البخاري " ارفضي عمرتك " أي: اتركي التّحلّل منها , وأدخلي عليها الحجّ فتصير قارنة. ويؤيّده قوله في رواية لمسلمٍ " وأمسكي عن العمرة " أي: عن أعمالها، وإنّما قالت عائشة " وأرجع بحجٍّ " لاعتقادها أنّ إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمّهات المؤمنين. واستبعد هذا التّأويل: لقولها في رواية عطاء عنها " وأرجع أنا بحجّةٍ ليس معها عمرة " أخرجه أحمد. وهذا يقوّي قول الكوفيّين: أنّ عائشة تركت العمرة وحجّت مفردة. وتمسّكوا في ذلك بقولها في رواية هشام عن أبيه عنها في الصحيحين " دعي عمرتك ". وفي رواية للبخاري " ارفضي عمرتك " ونحو ذلك. واستدلّوا به على أنّ للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتّعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة , وتهلّ بالحجّ مفرداً كما فعلت عائشة. لكن في رواية عطاء عنها ضعف. والرّافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر , أنّ عائشة أهلَّت بعمرةٍ، حتّى إذا كانت بسرف حاضت , فقال لها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أهلي بالحجّ، حتّى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال: قد حللتِ من حجّكِ وعمرتكِ، قالت يا رسولَ الله: إنّي أجد في نفسي

أنّي لَم أطف بالبيت حتّى حججت، قال: فأعمرها من التّنعيم ". ولمسلمٍ من طريق طاوسٍ عنها " فقال لها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: طوافك يسعك لحجّك وعمرتك " فهذا صريح في أنّها كانت قارنة لقوله " قد حللتِ من حجّك وعمرتك ". وإنّما أعمرها من التّنعيم تطييباً لقلبها , لكونها لَم تطف بالبيت لَمّا دخلت معتمرة. وقد وقع في رواية لمسلمٍ: وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سهلاً إذا هويت الشّيء تابعها عليه. قوله: (فأمر عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ , أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ) ولهما من رواية عمرو بن أوس عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أردف عائشة، وأعمرها من التنعيم. وهذا يدلّ على أنّ إعمارها من التّنعيم كان بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من طريق حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبى بكر عن أبيها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا عبد الرّحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التّنعيم. الحديث. ونحوه رواية مالك عند الشيخين ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أرسلني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرّحمن إلى التّنعيم. ورواية الأسود عن عائشة , قال: فاذهبي مع أخيك إلى التّنعيم. ولهما من رواية الأسود والقاسم جميعاً عنها بلفظ " فاخرجي إلى التّنعيم ". وهو صريح بأنّ ذلك كان عن أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

وكلّ ذلك يفسّر قوله في رواية القاسم عنها السّابقة في الصحيحين بلفظ " اخرج بأختك من الحرم فلتهلَّ بعمرة , ثم أفرغا من طوافكما. أنتظركما ها هنا ". وأمّا ما رواه أحمد من طريق ابن أبي مُلَيْكة عنها في هذا الحديث قال: ثمّ أرسل إلى عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال: احملها خلفك حتّى تخرج من الحرم، فوالله ما قال فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التّنعيم. فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخرّاز الرّاوي له عن ابن أبي مُلَيْكة. ويحتمل: أن يكون قوله " فوالله .. إلخ " من كلام من دون عائشة قاله متمسّكاً بإطلاق قوله " فاخرج من الحرم " لكنّ الرّوايات المقيّدة بالتّنعيم مقدّمة على المطلقة فهو أولى , ولا سيّما مع صحّة أسانيدها. والله أعلم. وفي هذا الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفراً وحضراً، وإرداف المُحرم مَحرمه معه. واستدل به على تعيّن الخروج إلى الحلّ لمن أراد العمرة ممّن كان بمكّة، وهو أحد قولي العلماء. القول الثّاني: تصحّ العمرة. ويجب عليه دم لترك الميقات، وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك. واستدل به على أنّ أفضل جهات الحلّ التّنعيم. وتعقّب: بأنّ إحرام عائشة من التّنعيم إنّما وقع لكونه أقرب جهة

الحلّ إلى الحرم، لا أنّه الأفضل. فائدةٌ: زاد أبو داود (¬1) في روايته بعد قوله إلى التّنعيم " فإذا هبطتَ بها من الأكمة فلتحرم , فإنّها عمرة متقبّلة ". وزاد أحمد في رواية له " وذلك ليلة الصّدر " وهو بفتح المهملة والدّال. أي: الرّجوع من منًى، وفي قوله " فإذا هبطت بها " إشارة إلى المكان الذي أحرمت منه عائشة. والتّنعيم: بفتح المثنّاة وسكون النّون وكسر المهملة مكان معروف خارج مكّة، وهو على أربعة أميال من مكّة إلى جهة المدينة. كما نقله الفاكهيّ. وقال المحبّ الطّبريّ: التّنعيم أبعد من أدنى الحلّ إلى مكّة بقليلٍ، وليس بطرف الحلّ , بل بينهما نحو من ميل، ومن أطلق عليه أدنى الحلّ فقد تجوّز. قلت: أو أراد بالنّسبة إلى بقيّة الجهات. وروى الفاكهيّ من طريق عبيد بن عمير قال: إنّما سُمِّي التّنعيم لأنّ الجبل الذي عن يمين الدّاخل يقال له ناعم، والذي عن اليسار يقال له منعّم، والوادي نعمان. وروى الأزرقيّ من طريق ابن جريجٍ , قال: رأيت عطاءً يصف الموضع الذي اعتمرتْ منه عائشة , قال: فأشار إلى الموضع الذي ¬

_ (¬1) هذه الزيادة أخرجها أبو داود في " السنن " (1995) من طريق يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبي بكر عن أبيها به.

ابتنى فيه محمّد بن عليّ بن شافع المسجد الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الخرب. ونقل الفاكهيّ عن ابن جريجٍ وغيره , أنّ ثَمّ مسجدين يزعم أهل مكّة أنّ الخرب الأدنى من الحرم هو الذي اعتمرت منه عائشة. وقيل: هو المسجد الأبعد على الأكمة الحمراء، ورجّحه المحبّ الطّبريّ. وقال الفاكهيّ: لا أعلم إلاَّ أنّي سمعت ابن أبي عمر يذكر عن أشياخه: أنّ الأوّل هو الصّحيح عندهم. تكميل: قال صاحب " الهدى " (¬1): لَم ينقل أنّه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر مدّة إقامته بمكّة قبل الهجرة، ولا اعتمر بعد الهجرة إلاَّ داخلاً إلى مكّة، ولَم يعتمر قطّ خارجاً من مكّة إلى الحلّ ثمّ يدخل مكّة بعمرةٍ كما يفعل النّاس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصّحابة أنّه فعل ذلك في حياته إلاَّ عائشة وحدها. انتهى. وبعد أنْ فعلته عائشة بأمره دلَّ على مشروعيّته. واختلف السّلف في جواز الاعتمار في السّنة أكثر من مرّة. فكرهه مالك. وخالفه مطرّف وطائفة من أتباعه. وهو قول الجمهور. واستثنى أبو حنيفة: يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق، ووافقه ¬

_ (¬1) أي ابن القيّم رحمه الله في كتابه زاد المعاد.

أبو يوسف إلاَّ في يوم عرفة. واستثنى الشّافعيّ: البائت بمنًى لرمي أيّام التّشريق، وفيه وجه اختاره بعض الشّافعيّة , فقال بالجواز مطلقاً كقول الجمهور. والله أعلم. واختلفوا أيضاً. هل يتعيّن التّنعيم لمن اعتمر من مكّة؟ وإذا لَم يتعيّن. هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحلّ أو لا؟. فروى الفاكهيّ وغيره من طريق محمّد بن سيرين قال: بلغنا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهل مكّة التّنعيم. ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممّن هو من أهل مكّة أو غيرها فليخرج إلى التّنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتاً. أي: ميقاتاً من مواقيت الحجّ. قال الطّحاويّ: ذهب قومٌ. إلى أنّه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكّة إلاَّ التّنعيم، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحجّ. وخالفهم آخرون. فقالوا: ميقات العمرة الحلّ , وإنّما أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عائشة بالإحرام من التّنعيم , لأنّه كان أقرب الحلّ من مكّة. ثمّ روى من طريق ابن أبي مُلَيْكة عن عائشة في حديثها قالت: وكان أدنانا من الحرم التّنعيم فاعتمرت منه. قال: فثبت بذلك أنّ ميقات مكّة للعمرة الحلّ، وأنّ التّنعيم وغيره في ذلك سواء.

تكميل: قال البخاري: باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع. أورد فيه حديث عائشة في عمرتها من التنعيم، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن " اخرج بأختك من الحرم فلتهل عمرة ثم افرغا من طوافكما " الحديث. قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة. انتهى. وكأن البخاري لمَّا لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت للوداع بعد طواف العمرة لم يبت الحكم في الترجمة. أيضاً فإن قياس من يقول إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا. ويستفاد من قصة عائشة , أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن - إن قلنا إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع - إن تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع إجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معاً.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون 245 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - , قال: قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقول: لبّيك بالحجّ. فأَمَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلناها عمرةً. (¬1) الحديث الواحد والثلاثون 246 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه صبيحة رابعةٍ. فأمرهم أن يجعلوها عمرةً , فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسولَ الله , أيّ الحل؟ قال: الحِلّ كلّه. (¬2) قوله في حديث جابر: (فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلناها عمرةً) يؤخذ منه فسخ الحجّ إلى العمرة. وقد ذهب الجمهور. إلى أنّه منسوخ. وذهب ابن عبّاس: إلى أنّه محكمٌ , وبه قال أحمد وطائفة يسيرة. لِمَا أخرج البخاري من رواية حبيب عن عطاء عن جابر. وفيه , فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة. وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1495) ومسلم (1216) من طريق أيوب عن مجاهد عن عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (1489 , 3620) ومسلم (1240) من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه -. ولمسلم (1240) من وجهٍ آخر عن أبي العالية عن ابن عباس نحوه.

وهو بالعقبة، وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسولَ الله؟ قال: لا، بل للأبد. وللبخاري " وهو يرمي جمرة العقبة ". وهذا فيه بيان المكان الذي سأل فيه سراقة عن ذلك، ورواية مسلم من طريق ابن جريج عن عطاء عن جابر كذلك. وفي رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عند مسلم: فقام سراقة. فقال: يا رسولَ الله، ألعامنا هذه أمّ للأبد؟ فشبّك أصابعه واحدة في الأخرى , وقال: دخلت العمرة في الحجّ مرّتين، لا بل للأبد أبداً. وسياق مسلم من طريق جعفر بن محمّد يقتضي أنّه قال له ذلك لَمّا أمر أصحابه أن يجعلوا حجّهم عمرة، وبذلك تمسّك مَن قال: إنّ سؤاله كان عن فسخ الحجّ عن العمرة. ويحتمل: أن يكون السّؤال وقع عن الأمرين لتعدّد المكانين. قال النّوويّ: معناه عند الجمهور أنّ العمرة يجوز فعلها في أشهر الحجّ. إبطالاً لِمَا كان عليه الجاهليّة. وقيل: معناه جواز القِران. أي: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحجّ. وقيل: معناه سقط وجوب العمرة، وهذا ضعيف , لأنّه يقتضي النّسخ بغير دليل. وقيل: معناه جواز فسخ الحجّ إلى العمرة، قال: وهو ضعيف.

وتعقّب: بأنّ سياق السّؤال يقوّي هذا التّأويل، بل الظّاهر أنّ السّؤال وقع عن الفسخ , والجواب وقع عمّا هو أعمّ من ذلك حتّى يتناول التّأويلات المذكورة إلاَّ الثّالث. والله أعلم. قوله في حديث ابن عباس: (صبيحة رابعة) أي: يوم الأحد. وفي حديث ابن عبّاس , أنّ خروجه من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة. أخرجه البخاري، وأخرجه هو ومسلم من حديث عائشة مثله. وجزم ابن حزم: بأن خروجه كان يوم الخميس. وفيه نظرٌ , لأنّ أوّل ذي الحجّة كان يوم الخميس قطعاً. لِمَا ثبت وتواتر أنّ وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعيّن أنّ أوّل الشّهر يوم الخميس. فلا يصحّ أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة. لكن ثبت في الصّحيحين عن أنس: صلَّينا الظّهر مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين. فدلَّ على أنّ خروجهم لَم يكن يوم الجمعة، فما بقي إلاَّ أن يكون خروجهم يوم السّبت. ويحمل قول مَن قال " لخمسٍ بقين " أي: إن كان الشّهر ثلاثين فاتّفق أن جاء تسعاً وعشرين فيكون يوم الخميس أوّل ذي الحجّة بعد مضيّ أربع ليالٍ لا خمس، وبهذا تتّفق الأخبار، هكذا جمع الحافظ عماد الدّين بن كثير بين الرّوايات.

وقوي هذا الجمع بقول جابر: إنّه خرج لخمسٍ بقين من ذي القعدة , أو أربع. وكان دخوله - صلى الله عليه وسلم - مكّة صبح رابعة. كما ثبت في حديث عائشة (¬1)، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيّد أنّ خروجه من المدينة كان يوم السّبت كما تقدّم، فيكون مكانه في الطّريق ثمان ليالٍ، وهي المسافة الوسطى. قوله: (مهلين بالحجّ) في رواية مسلم " وهم يلبّون بالحجّ " وهي مفسّرة لقوله مهلين، واحتجّ به مَن قال: كان حجّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مفرداً. وأجاب مَن قال: كان قارناً: بأنّه لا يلزم من إهلاله بالحجّ أن لا يكون أدخل عليه العمرة. قوله: (أن يجعلوها عمرةً , فتعاظم ذلك عندهم) أي: لِمَا كانوا يعتقدونه أوّلاً، وفي رواية مسلم " فكبر ذلك عندهم ". قوله: (أي الحلّ) كأنّهم كانوا يعرفون أنّ للحجّ تحلّلين. فأرادوا بيان ذلك فبيّن لهم أنّهم يتحللون الحلّ كلّه، لأنّ العمرة ليس لها إلاَّ تحلّل واحد، ووقع في رواية الطّحاويّ " أي الحلّ نحلّ؟ قال: الحلّ كلّه. ¬

_ (¬1) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً عن جابر.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون 247 - عن عروة بن الزّبير , قال: سئل أسامة بن زيدٍ - وأنا جالسٌ - كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجّة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العَنَقَ , فإذا وجد فجوةً نصَّ. (¬1) قال المصنِّف: العنق: انبساط السير. والنصُّ: فوق ذلك. قوله: (عن عروة بن الزبير) ابن العوام. قوله: (سئل أسامة (¬2) وأنا جالسٌ) في رواية النّسائيّ من طريق عبد الرّحمن بن القاسم عن مالك عن هشام " وأنا جالس معه ". وفي رواية مسلم من طريق حمّاد بن زيد عن هشام عن أبيه , سئل أسامة وأنا شاهد , أو قال: سألت أسامة بن زيد. قوله: (حين دفع) في رواية يحيى بن يحيى الليثيّ وغيره عن مالك في الموطّإ " حين دفع من عرفة " (¬3). قوله: (العنق) بفتح المهملة والنّون هو السّير الذي بين الإبطاء والإسراع. قال في " المشارق ": هو سيرٌ سهل في سرعة. وقال القزّاز: العنق سير سريع. وقيل: المشي الذي يتحرّك به عنق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1583 , 2837 , 4151) ومسلم (1286) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه به. (¬2) ستأتي ترجمته - رضي الله عنه - إن شاء الله في كتاب اللعان برقم (331). (¬3) وأخرجها مسلم (1286) من طريق حماد عن هشام به. بلفظ: حين أفاض من عرفة.

الدّابّة. وفي " الفائق ": العنق الخطو الفسيح. وانتصب العنق على المصدر المؤكّد من لفظ الفعل. قوله: (فجوة) بفتح الفاء وسكون الجيم المكان المتّسع. ورواه أبو مصعب ويحيى بن بكير وغيرهما عن مالك بلفظ " فرجة " بضمّ الفاء وسكون الرّاء. وهو بمعنى الفجوة قال البخاري - في رواية المستملي وحده -: فجوة: متّسع والجمع فجوات (أي بفتحتين) وفجاء. (أي بكسر الفاء والمدّ). وكذلك ركوة وركاء وركوات. قوله: (نصّ) أي: أسرع , قال أبو عبيد: النّصّ تحريك الدّابّة حتّى يستخرج به أقصى ما عندها , وأصل النّصّ غاية المشي. ومنه نصصت الشّيء رفعته , ثمّ استعمل في ضرب سريع من السّير. زاد البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك فيه. قال هشام: والنص فوق العنق. وكذا بيّن مسلم من طريق حميد بن عبد الرّحمن. وأبو عوانة من طريق أنس بن عياض كلاهما عن هشام , أنّ التّفسير من كلامه. وأدرجه يحيى القطّان فيما أخرجه البخاري , وسفيان فيما أخرجه النّسائيّ , وعبد الرّحيم بن سليمان , ووكيع فيما أخرجه ابن خزيمة كلّهم عن هشام. وقد رواه إسحاق في " مسنده " عن وكيع ففصَلَه , وجعل التّفسير من كلام وكيع , وقد رواه ابن خزيمة من طريق سفيان ففصله ,

وجعل التّفسير من كلام سفيان , وسفيان ووكيع إنّما أخذا التّفسير المذكور عن هشام , فرجع التّفسير إليه. وقد رواه أكثر رواة " الموطّإ " عن مالك فلم يذكروا التّفسير , وكذلك رواه أبو داود الطّيالسيّ عن حمّاد بن سلمة , ومسلم من طريق حمّاد بن زيد كلاهما عن هشام. قال ابن خزيمة: في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الحديث الذي رواه ابن عبّاس عن أسامة أنّه قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتّى أتى جمعاً. أنّه محمول على حال الزّحام دون غيره. انتهى وأشار بذلك إلى ما أخرجه حفص من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عبّاس عن أسامة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أردفه حين أفاض من عرفة , وقال: أيّها النّاس عليكم بالسّكينة فإنّ البرّ ليس بالإيجاف , قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتّى أتى جمعاً .. الحديث. وأخرجه أبو داود , وأخرجه البخاري من حديث ابن عبّاس ليس فيه أسامة. وأخرج مسلم من طريق عطاء عن ابن عبّاس عن أسامة في أثناء حديث قال: فما زال يسير على هيئته حتّى أتى جمعاً " , وهذا يشعر بأنّ ابن عبّاس إنّما أخذه عن أسامة. وقال ابن عبد البرّ: في هذا الحديث كيفيّة السّير في الدّفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصّلاة , لأنّ المغرب لا تصلى إلاَّ مع العشاء بالمزدلفة , فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسّكينة عند الزّحمة ومن الإسراع عند عدم الزّحام.

وفيه أنّ السّلف كانوا يحرصون على السّؤال عن كيفيّة أحواله - صلى الله عليه وسلم - في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون 248 - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجّة الوداع , فجعلوا يسألونه. فقال رجلٌ: لَم أشعر , فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج , وجاء آخر , فقال: لَم أشعر , فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج , فما سئل يومئذٍ عن شيءٍ قدّم ولا أُخِّر إلاَّ قال: افعل ولا حرج. (¬1) قوله: (أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف) وللبخاري من رواية صالح بن كيسان عن الزهري " وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته ". وترجم عليه البخاري في كتاب العلم " باب الفتيا وهو واقف على الدّابّة أو غيرها " ثمّ قال بعد أبواب كثيرة " باب السّؤال والفتيا عند رمي الجمار ". وأورد في كلٍّ من التّرجمتين حديث عبد الله بن عمرو المذكور في هذا الباب، ومثل هذا لا يقع له إلاَّ نادراً. وقد اعترض عليه الإسماعيليّ , بأنّه ليس في شيء من الرّوايات عن مالك (¬2) أنّه كان على دابّة، بل في رواية يحيى القطّان عنه , أنّه جلس في حجّة الوداع فقام رجل. ثمّ قال الإسماعيليّ: فإن ثبت في شيء من الطّرق , أنّه كان على دابّة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (83 , 124 , 1649 , 1650 , 1651 , 6288) ومسلم (1306) من طرق عن الزهري عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. (¬2) رواية مالك هي رواية الباب التي ذكرها المقدسي في العمدة.

فيحمل قوله " جلس " على أنّه ركبها وجلس عليها. قلت: وهذا هو المتعيّن، فقد أورد البخاري رواية صالح بن كيسان بلفظ " وقف على راحلته " وهي بمعنى جلس، والدّابّة تطلق على المركوب من ناقة وفرس وبغل وحمار، فإذا ثبت في الرّاحلة كان الحكم في البقيّة كذلك. ثمّ قال الإسماعيليّ: إنّ صالح بن كيسان تفرّد بقوله " وقف على راحلته ". وليس كما قال، فقد ذكر ذلك أيضاً يونس عند مسلم , ومعمر عند مسلم وأحمد والنّسائيّ كلاهما عن الزّهريّ، وقد أشار البخاري إلى ذلك بقوله " تابعه معمر " أي: في قوله " وقف على راحلته ". ثمّ أورد البخاري حديث عبد الله بن عمرو - وهو ابن العاص - من طريق ابن جريج، بخلاف ما وقع في بعض نسخ العمدة , وشرح عليه ابن دقيق العيد ومن تبعه. على أنّه ابن عمر بضمّ العين. أي: ابن الخطّاب. وأورده البخاري من أربعة طرق عن الزّهريّ عن عيسى بن طلحة، وطلحة هو ابن عبيد الله - أحد العشرة - عن عبد الله، ولَم أره من حديثه إلاَّ بهذا الإسناد. وقد اختلف أصحاب الزّهريّ عليه في سياقه، وأتمّهم عنه سياقاً صالح بن كيسان، ولَم يسق البخاري لفظها، وهي عند أحمد في " مسنده " عن يعقوب. وفيه زيادة على سياق ابن جريجٍ ومالك، وقد

تابعه يونس عن الزّهريّ عند مسلم بزيادةٍ أيضاً سنبيّنها. قوله: (وقف في حجّة الوداع) هو بفتح الحاء ويجوز كسرها , لَم يعيّن المكان ولا اليوم، لكن في رواية مالك في الصحيحين " بمنىً " وكذا في رواية معمر، وللبخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزّهريّ " عند الجمرة ". وفي رواية ابن جريجٍ في الصحيحين " يخطب يوم النّحر " , وفي رواية صالح ومعمر كما تقدّم " على راحلته ". قال عياض: جمع بعضهم بين هذه الرّوايات: بأنّه موقف واحد على أنّ معنى خطب. أي: علَّم النّاس. لا أنّها من خطب الحجّ المشروعة. قال: ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين. أحدهما: على راحلته عند الجمرة , ولَم يقل في هذا خطب. والثّاني: يوم النّحر بعد صلاة الظّهر , وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحجّ يعلم الإمام فيها النّاس ما بقي عليهم من مناسكهم. وصوّب النّوويّ هذا الاحتمال الثّاني. فإن قيل: لا منافاة بين هذا الذي صوّبه وبين الذي قبله. فإنّه ليس في شيء من طرق الحديثين - حديث ابن عبّاس (¬1) وحديث عبد الله ¬

_ (¬1) حديث ابن عبّاس أخرجه البخاري (84 , 1636 , 1648) من طريق عكرمة , والبخاري (1634 , 1635 , 6289) من طريق عطاء , والبخاري (1648) ومسلم (1307) من طريق طاوس كلهم عن ابن عباس - رضي الله عنه -. نحو رواية الباب.

بن عمرو - بيان الوقت الذي خطب فيه من النّهار. قلت: نعم. لَم يقع التّصريح بذلك، لكن في رواية ابن عبّاس " أنّ بعض السّائلين قال: رميتُ بعدما أمسيت " (¬1) وهذا يدلّ على أنّ هذه القصّة كانت بعد الزّوال , لأنّ المساء يطلق على ما بعد الزّوال، وكأنّ السّائل علم أنّ السّنّة للحاجّ أن يرمي الجمرة أوّل ما يقدم ضحًى. فلمّا أخّرها إلى بعد الزّوال سأل عن ذلك. على أنّ حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد لا يعرف له طريقٌ إلاَّ طريق الزّهريّ هذه عن عيسى عنه، الاختلاف فيه من أصحاب الزّهريّ، وغايته أنّ بعضهم ذكر ما لَم يذكره الآخر، واجتمع من مرويّهم. ورواية ابن عبّاس أنّ ذلك كان يوم النّحر بعد الزّوال. وهو على راحلته يخطب عند الجمرة. وإذا تقرّر أنّ ذلك كان بعد الزّوال يوم النّحر تعيّن أنّها الخطبة التي شرعت لتعليم بقيّة المناسك، فليس قوله " خطب " مجازاً عن مجرّد التّعليم بل حقيقة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذٍ رماها , فقد أخرج البخاري من حديث ابن عمر , أنّه - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النّحر بين الجمرات .. فذكر خطبته " فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منًى. ¬

_ (¬1) هذه الرواية. أخرجها البخاري (1636) من طريق عكرمة عن ابن عبّاس به.

قوله: (فقال رجلٌ) لَم أقف على اسمه بعد البحث الشّديد، ولا على اسم أحدٍ ممّن سأل في هذه القصّة، وسأبيّن أنّهم كانوا جماعة. لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطّحاويّ وغيره " كان الأعراب يسألونه "، وكأنّ هذا هو السّبب في عدم ضبط أسمائهم. قوله: (لَم أشعر) أي: لَم أفطن، يقال: شعرت بالشّيء شعوراً إذا فطنت له، وقيل: الشّعور العلم. ولَم يفصح في رواية مالك بمتعلق الشّعور، وقد بيّنه يونس عند مسلم ولفظه " لَم أشعر أنّ الرّمي قبل النّحر فنحرت قبل أن أرمي " وقال آخر " لَم أشعر أنّ النّحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر ". وفي رواية ابن جريجٍ: كنت أحسب أنّ كذا قبل كذا " , وقد تبيّن ذلك في رواية يونس، وزاد في رواية ابن جريجٍ: وأشباه ذلك. ووقع في رواية محمّد بن أبي حفصة عن الزّهريّ عند مسلم " حلقت قبل أن أرمي " وقال آخر " أفضت إلى البيت قبل أن أرمي " وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرّمي أيضاً. فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السّؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذّبح، والحلق قبل الرّمي، والنّحر قبل الرّمي، والإفاضة قبل الرّمي، والأوليان في حديث ابن عبّاس أيضاً، وعند الدّارقطنيّ من حديث ابن عبّاس أيضاً السّؤال عن الحلق قبل الرّمي، وكذا في حديث جابر , وفي حديث أبي سعيد عند الطّحاويّ. وفي حديث عليّ عند أحمد السّؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي

حديثه عند الطّحاويّ السّؤال عن الرّمي والإفاضة معاً قبل الحلق، وفي حديث جابر الذي علَّقه البخاري. ووصله ابن حبّان وغيره السّؤال عن الإفاضة قبل الذّبح، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السّؤال عن السّعي قبل الطّواف. قوله: (اذبح ولا حرج) أي: لا شيء عليه مطلقاً من الإثم، لا في التّرتيب , ولا في ترك الفدية. هذا ظاهره. وقال بعض الفقهاء: المراد نفي الإثم فقط. وفيه نظرٌ. لأنّ في بعض الرّوايات الصّحيحة: ولَم يأمر بكفّارةٍ (¬1) , والسّؤال عن ذلك دالٌّ على أنّ السّائل عرف أنّ الحكم على عكسه. ووظائف يوم النّحر بالاتّفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثمّ نحر الهدي أو ذبحه، ثمّ الحلق أو التّقصير، ثمّ طواف الإفاضة. وفي حديث أنس في الصّحيحين , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتى منًى فأتى الجمرة فرماها، ثمّ أتى منزله بمنًى فنحر، وقال للحالق: خذ. ولأبي داود " رمى ثمّ نحر ثمّ حلق " وقد أجمع العلماء على مطلوبيّة هذا التّرتيب، إلاَّ أنّ ابن الجهم المالكيّ استثنى القارن , فقال: لا يحلق حتّى يطوف، كأنّه لاحظ أنّه ¬

_ (¬1) هذه الرواية لَم يذكرِ الشارح من أخرجها , ولم أرها , وقد تابعه العيني أيضاً على ذكرها. وكأنَّ الشارحَ رحمه الله انتقل ذهنه لحديث ابن عباس عند البخاري في قصة أبي إسرائيل في النذر , ففي بعض الروايات (ولم يأمره بكفارة) كما عند البيهقي وغيره. انظر البدر المنير (9/ 505) والتخليص الحبير (4/ 326).

في عمل العمرة والعمرة يتأخّر فيها الحلق عن الطّواف، وردّ عليه النّوويّ بالإجماع، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك. واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض. فأجمعوا على الإجزاء في ذلك كما قاله ابن قدامة في " المغني " إلاَّ أنّهم اختلفوا في وجوب الدّم في بعض المواضع. القول الأول: قال القرطبيّ: روي عن ابن عبّاس , ولَم يثبت عنه أنّ من قدّم شيئاً على شيء فعليه دم، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنّخعيّ وأصحاب الرّأي. انتهى. وفي نسبة ذلك إلى النّخعيّ وأصحاب الرّأي نظرٌ، فإنّهم لا يقولون بذلك إلاَّ في بعض المواضع كما سيأتي. القول الثاني: قال القرطبي: وذهب الشّافعيّ وجمهور السّلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدّم , لقوله للسّائل " لا حرج " فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معاً، لأنّ اسم الضيق يشملهما. قال الطّحاويّ: ظاهر الحديث يدلّ على التّوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، قال: إلاَّ أنّه يحتمل أن يكون قوله " لا حرج ". أي: لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسياً أو جاهلاً، وأمّا من تعمّد المخالفة فتجب عليه الفدية. وتعقّب: بأنّ وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجباً لبيّنه - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ , لأنّه وقت الحاجة. ولا يجوز تأخيره.

وقال الطّبريّ: لَم يسقط النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحرج إلاَّ وقد أجزأ الفعل، إذ لو لَم يجزئ لأمره بالإعادة , لأنّ الجهل والنّسيان لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه في الحجّ، كما لو ترك الرّمي ونحوه فإنّه لا يأثم بتركه جاهلاً أو ناسياً , لكن يجب عليه الإعادة. والعجب ممّن يحمل قوله " ولا حرج " على نفي الإثم فقط ثمّ يخصّ ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان التّرتيب واجباً يجب بتركه دم فليكن في الجميع , وإلاَّ فما وجه تخصيص بعض دون بعض من تعميم الشّارع الجميع بنفي الحرج. وأمّا احتجاج النّخعيّ ومن تبعه في تقديم الحلق على غيره بقوله تعالى (ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محله) قال: فمن حلق قبل الذّبح أهراق دماً عنه " رواه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح. فقد أجيب: بأنّ المراد ببلوغ محلّه وصوله إلى الموضع الذي يحلّ ذبحه فيه وقد حصل، وإنّما يتمّ ما أراد أن لو قال ولا تحلقوا حتّى تنحروا. واحتجّ الطّحاويّ أيضاً: بقول ابن عبّاس: من قدّم شيئاً من نسكه أو أخّره فليهرق لذلك دماً، قال: وهو أحدُ مَن روى أن لا حرج، فدلَّ على أنّ المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط. وأجيب: بأنّ الطّريق بذلك إلى ابن عبّاس فيها ضعف، فإنّ ابن أبي شيبة أخرجها وفيها إبراهيم بن مهاجر وفيه مقال. وعلى تقدير الصّحّة فيلزم من يأخذ بقول ابن عبّاس أن يوجب

الدّم في كلّ شيء من الأربعة المذكورة. ولا يخصّه بالحلق قبل الذّبح أو قبل الرّمي. وقال ابن دقيق العيد: منع مالك وأبو حنيفة تقديم الحلق على الرّمي والذّبح , لأنّه حينئذٍ يكون حلقاً قبل وجود التّحلّلين، وللشّافعيّ قول مثله. وقد بُني القولان له على أنّ الحلق نسك أو استباحة محظور؟. فإن قلنا: إنّه نسك. جاز تقديمه على الرّمي وغيره , لأنّه يكون من أسباب التّحلّل، وإن قلنا: إنّه استباحة محظور. فلا. قال: وفي هذا البناء نظرٌ، لأنّه لا يلزم من كون الشّيء نسكاً أن يكون من أسباب التّحلّل، لأنّ النّسك ما يثاب عليه، وهذا مالكٌ يرى أنّ الحلق نسك , ويرى أنّه لا يقدّم على الرّمي مع ذلك. وقال الأوزاعيّ: إن أفاض قبل الرّمي أهراق دماً. وقال عياض: اختلف عن مالك في تقديم الطّواف على الرّمي. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنّه يجب عليه إعادة الطّواف، فإن توجّه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم. قال ابن بطّال: وهذا يخالف حديث ابن عبّاس، وكأنّه لَم يبلغه. انتهى. قلت: وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة عن الزّهريّ في حديث عبد الله بن عمرو، وكأنّ مالكاً لَم يحفظ ذلك عن الزّهريّ قوله: (فما سئل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدّم ولا أخّر إلاَّ قال: افعل

ولا حرج) وللبخاري من رواية ابن جريج عن الزهري , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افعل ولا حرج. لهن كلهن. قال الكرماني: اللام في قوله " لهن " متعلقة بقال. أي: قال لأجل هذه الأفعال , أو بمحذوف. أي: قال يوم النحر لأجلهن , أو بقوله " لا حرج " أي: لا حرج لأجلهن. انتهى. ويحتمل: أن تكون اللام بمعنى عن. أي: قال عنهن كلهنّ. وفي رواية يونس عند مسلم وصالح عند أحمد " فما سمعته سئل يومئذٍ عن أمر ممّا ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض أو أشباهها إلاَّ قال: افعلوا ذلك ولا حرج. واحتجّ به وبقوله في رواية مالك " لَم أشعر " بأنّ الرّخصة تختصّ بمن نسي أو جهل لا بمن تعمّد. قال صاحب " المغني " قال الأثرم عن أحمد: إن كان ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالماً فلا , لقوله في الحديث " لَم أشعر ". وأجاب بعض الشّافعيّة: بأنّ التّرتيب لو كان واجباً لَمَا سقط بالسّهو، كالتّرتيب بين السّعي والطّواف فإنّه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السّعي. وأمّا ما وقع في حديث أسامة بن شريك. فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم , ثمّ طاف طواف الإفاضة. فإنّه يصدق عليه أنّه سعى قبل الطّواف. أي: طواف الرّكن.

ولَم يقل بظاهر حديث أسامة إلاَّ أحمد وعطاء , فقالا: لو لَم يطف للقدوم ولا لغيره وقدّم السّعي قبل طواف الإفاضة أجزأه، أخرجه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عنه. وقال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قويّ من جهة أنّ الدّليل دلَّ على وجوب اتّباع الرّسول في الحجّ بقوله " خذوا عنّي مناسككم " وهذه الأحاديث المرخّصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السّائل " لَم أشعر " فيختصّ الحكم بهذه الحالة , وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتّباع في الحجّ. وأيضاً فالحكم إذا رتّب على وصف يمكن أن يكون معتبراً لَم يجز اطّراحه، ولا شكّ أنّ عدم الشّعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة، وقد علق به الحكم فلا يمكن اطّراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه. وأمّا التّمسّك بقول الرّاوي " فما سئل عن شيء إلخ " فإنّه يشعر بأنّ التّرتيب مطلقاً غير مراعًى. فجوابه: أنّ هذا الإخبار من الرّاوي يتعلق بما وقع السّؤال عنه , وهو مطلق بالنّسبة إلى حال السّائل , والمطلق لا يدلّ على أنّ أحد الخاصّين سنّة. فلا يبقى حجّة في حال العمد. والله أعلم. تكميل: قال ابن التّين: هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك , لأنّه خرج جواباً للسّؤال ولا يدخل فيه غيره. انتهى وكأنّه غفل عن قوله في بقيّة الحديث " فما سئل عن شيء قدّم ولا

أخّر " وكأنّه حمل ما أُبهم فيه على ما ذكر، لكنّ قوله في رواية ابن جريجٍ " وأشباه ذلك " يردّ عليه. قد تقدّم فيما حرّرناه من مجموع الأحاديث عدّة صور، وبقيت عدّة صور لَم تذكرها الرّواة إمّا اختصاراً وإمّا لكونها لَم تقع، وبلغت بالتّقسيم أربعاً وعشرين صورة، منها صورة التّرتيب المتّفق عليها. والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد. جواز القعود على الرّاحلة للحاجة، ووجوب اتّباع أفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لكون الذين خالفوها لَمّا علموا سألوه عن حكم ذلك. وفيه أنّ اشتغال العالم بالطّاعة لا يمنع من سؤاله عن العلم ما لَم يكن مستغرقاً فيها، إنّ الكلام في الرّمي وغيره من المناسك جائز، فوقوع السّؤال عند الجمرة أعمّ من أن يكون في حال اشتغاله بالرّمي أو بعد الفراغ منه. واستدل الإسماعيليّ بالخبر , على أنّ التّرتيب قائم مقام اللفظ، أي: بأيّ صيغة ورد ما لَم يقم دليل على عدم إرادته. والله أعلم وحاصله: أنّه لو لَم يفهموا أنّ ذلك هو الأصل لَمَا احتاجوا إلى السّؤال عن حكم تقديم الأوّل على الثّاني إذا ورد الأمر لشيئين معطوفاً بالواو، فيقال: الأصل العمل بتقديم ما قدّم وتأخير ما أخّر حتّى يقوم الدّليل على التّسوية، ولمن يقول بعدم التّرتيب أصلاً أن يتمسّك بهذا الخبر حتّى يقوم دليل على وجوب التّرتيب.

وفيه أنّ سؤال من لا يعرف الحكم عنه في موضع فعله حسن بل واجب عليه؛ لأنّ صحّة العمل متوقّفة على العلم بكيفيّته، وأنّ سؤال العالم على قارعة الطّريق عمّا يحتاج إليه السّائل لا نقص فيه على العالم إذا أجاب ولا لوم على السّائل. ويستفاد منه أيضاً دفع توهّم من يظنّ أنّ في الاشتغال بالسّؤال والجواب عند الجمرة تضييقاً على الرّامين. وهذا وإن كان كذلك لكن يستثنى من المنع ما إذا كان فيما يتعلق بحكم تلك العبادة. والله أعلم.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون 249 - عن عبد الرّحمن بن يزيد النّخعيّ , أنّه حجّ مع ابن مسعودٍ , فرآه رمى الجمرة الكبرى بسبع حَصَيَاتٍ فجعل البيت عن يساره , ومنًى عن يمينه. ثمّ قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (أنّه حجّ مع ابن مسعودٍ. فرآه رمى) ولهما من رواية الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمَن قال: رمى عبد الله من بطن الوادي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنَّ ناساً يرمونها من فوقها؟ فقال: والذي لا إله غيره .. الحديث. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن عطاء , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعلو إذا رمى الجمرة. لكن يمكن الجمع بين هذا وبين قوله " بطن الوادي ": بأنّ التي ترمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة لكونها عند الوادي بخلاف الجمرتين الأخريين. ويوضّح ذلك قوله في الرواية الأخرى في الصحيحين بلفظ " حين رمى جمرة العقبة " وكذا روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمرو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1660 , 1661 , 1662 , 1663) ومسلم (1269) من طرق عن إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن يزيد به. وأخرجه مسلم (1269) من طريق سلمة بن كهيل عن عبد الرحمن نحوه.

بن ميمون عن عمر , أنّه رمى جمرة العقبة في السّنة التي أصيب فيها وفي غيرها من بطن الوادي. ومن طريق الأسود: رأيت عمرَ رمى جمرة العقبة من فوقها. وفي إسناد هذا الثّاني حجّاج بن أرطأة. وفيه ضعف. قوله: (الجمرة الكبرى) في رواية لهما " رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة " وهي الجمرة الكبرى، وليست من منًى , بل هي حدّ منًى من جهة مكّة، وهي التي بايع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الهجرة. والجمرة اسم لمجتمع الحصى سُمِّيت بذلك لاجتماع النّاس بها، يقال: تجمّر بنو فلان إذا اجتمعوا. وقيل: إنّ العرب تسمّي الحصى الصّغار جماراً فسمّيت تسمية الشّيء بلازمه. وقيل: لأنّ آدم أو إبراهيم لَمّا عرض له إبليس فحصبه جَمَر بين يديه أي أسرع فسمّيت بذلك. قوله: (بسبع حصياتٍ) ولهما من رواية الأعمش " فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى بالشجرة اعترضها، فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة " واللفظ للبخاري. وفيه ردّ ما رواه قتادة عن ابن عمر قال: ما أبالي رميت الجمار بستٍّ أو سبعٍ. وأنّ ابن عبّاس أنكر ذلك، وقتادة لَم يسمع من ابن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة.

وروى من طريق مجاهد: من رمى بستٍّ فلا شيء عليه. ومن طريق طاوسٍ: يتصدّق بشيء. وعن مالك والأوزاعيّ: من رمى بأقلّ من سبع وفاته التّدارك يجبره بدمٍ. وعن الشّافعيّة: في ترك حصاة مدّ، وفي ترك حصاتين مدّان، وفي ثلاثة فأكثر دم. وعن الحنفيّة: إن ترك أقل من نصف الجمرات الثّلاث فنصف صاع وإلا فدم. وقوله " اعترضها " أي: الشّجرة يدلّ على أنّه كان هناك شجرة عند الجمرة. وقد روى ابن أبي شيبة عن الثّقفيّ عن أيّوب قال: رأيت القاسم وسالماً ونافعاً يرمون من الشّجرة. ومن طريق عبد الرّحمن بن الأسود , أنّه كان إذا جاوز الشّجرة رمى العقبة من تحت غصن من أغصانها. قوله: (فجعل البيت عن يساره , ومنًى عن يمينه) وقع في رواية أبي صخرة عن عبد الرّحمن بن يزيد: لَمّا أتى عبد الله جمرةَ العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة. أخرجه التّرمذيّ، والذي قبله هو الصّحيح، وهذا شاذّ في إسناده المسعوديّ , وقد اختلط. وبالأوّل (¬1) قال الجمهور. وجزم الرّافعيّ من الشّافعيّة: بأنّه يستقبل الجمرة ويستدبر القبلة. ¬

_ (¬1) أي: برواية الباب الصحيحه

وقيل: يستقبل القبلة , ويجعل الجمرة عن يمينه. وقد أجمعوا على أنّه من حيث رماها جاز. سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها، والاختلاف في الأفضل. قوله: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلى الله عليه وسلم -) قال ابن المنير: خصّ عبد الله سورة البقرة بالذّكر , لأنّها التي ذكر الله فيها الرّمي، فأشار إلى أنّ فعله - صلى الله عليه وسلم - مبيّن لمراد كتاب الله تعالى. قلت: ولَم أعرف موضع ذكر الرّمي من سورة البقرة، والظّاهر أنّه أراد أن يقول: إنّ كثيراً من أفعال الحجّ مذكور فيها فكأنّه , قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه أحكام المناسك، منبّهاً بذلك على أنّ أفعال الحجّ توقيفيّة. وقيل: خصّ البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام. أو أشار بذلك إلى أنّه يشرع الوقوف عندها بقدر سورة البقرة (¬1). والله أعلم ¬

_ (¬1) هذه غفلة من قائلها , فإنَّ الوقوف عند الجمرة الكبرى لا يُشرع لعدم وروده. سواء في يوم العيد أم في أيام التشريق. وإنما الوقوف للدعاء عند الجمرتين الصغرى والوسطى في أيام التشريق. كما في صحيح البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً. وأخرج ابن أبي شيبة (3/ 294) بسند صحيح كما قال الشارح عن عطاء: كان ابن عمر. يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة. ومن المحتمل أن قائل هذا يقصد الوقوف مطلقاً دون تحديد أيِّ الجمرات. والله أعلم.

واستدل بهذا الحديث. وهو القول الأول: على اشتراط رمي الجمرات واحدة واحدة , لقوله " يكبّر مع كلّ حصاة " وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عنّي مناسككم. القول الثاني: خالف في ذلك عطاء وصاحبه أبو حنيفة. فقالا: لو رمى السّبع دفعة واحدة أجزأه. وفيه ما كان الصّحابة عليه من مراعاة حال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في كلّ حركة وهيئة , ولا سيّما في أعمال الحجّ. وفيه التّكبير عند رمي حصى الجمار، وأجمعوا على أنّ من لَم يكبّر فلا شيء عليه فوائد: الأولى: زاد محمّد بن عبد الرّحمن بن يزيد النّخعيّ عن أبيه في هذا الحديث عن ابن مسعود , أنّه لَمّا فرغ من رمي جمرة العقبة قال: اللهمّ اجعله حجّاً مبروراً، وذنباً مغفوراً ". الثانية: تمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النّحر، وأنّ لا يوقف عندها، وترمى ضحىً، ومن أسفلها استحباباً. الثالثة: اختلف في الرمي. فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم. وعند المالكية سنة مؤكدة فيجبر. وعندهم رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه. ومقابله قول بعضهم: إنها إنما تُشرع حفظاً للتكبير فإن تركه وكبَّر أجزأه. حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون 250 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهمّ ارحم المحلقين. قالوا: والمقصّرين يا رسولَ الله , قال: اللهمّ ارحم المحلقين , قالوا: والمقصّرين يا رسولَ الله , قال: والمقصّرين. (¬1) قوله: (قالوا: والمقصّرين يا رسولَ الله) لَم أقف في شيء من الطّرق على الذي تولى السّؤال في ذلك بعد البحث الشّديد. والواو في قوله " والمقصّرين " معطوفة على شيء محذوف تقديره قل والمقصّرين أو قل وارحم المقصّرين، وهو يسمّى العطف التّلقينيّ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - " والمقصّرين " إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلَّل بينهما السّكوت لغير عذر. قوله: (قال: والمقصّرين) في معظم الرّوايات عن مالك عن نافع عن ابن عمر إعادة ذلك الدّعاء للمحلقين مرّتين، وعطف المقصّرين عليهم في المرّة الثّالثة. وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطّأ بإعادة ذلك ثلاث مرّات. نبّه عليه ابن عبد البرّ في " التّقصّي " وأغفله في " التّمهيد " بل قال فيه: أنّهم لَم يختلفوا على مالك في ذلك. وقد راجعت أصل سماعي من " موطّأ يحيى بن بكير " فوجدته كما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1639) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (1301) عن يحيى كلاهما عن مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -

قال في " التّقصّي " وقال الليث عن نافع عند مسلم " رحم الله المحلقين مرّةً أو مرّتين، قالوا: والمقصّرين، قال: والمقصّرين ". والشّكّ فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافقٌ لِمَا رواه مالكٌ. وقال عبيد الله بالتّصغير وهو العمريّ، وروايته عند مسلم من رواية عبد الوهّاب الثّقفيّ عنه حدّثني نافع , وقال في الرابعة: والمقصّرين. باللفظ الذي علَّقه البخاريّ. وأخرجه مسلم أيضاً عن محمّد بن عبد الله بن نميرٍ عن أبيه عنه بلفظ: رحم الله المحلقين قالوا: والمقصّرين. فذكر مثل رواية مالكٍ سواءً. وزاد: قال: رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصّرين يا رسولَ الله، قال: والمقصّرين. وبيان أنّ كونها في الرّابعة , أنّ قوله " والمقصّرين " معطوفٌ على مقدّرٍ تقديره يرحم الله المحلقين، وإنّما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاث مرّاتٍ صريحاً فيكون دعاؤه للمقصّرين في الرّابعة. وقد رواه أبو عوانة في " مستخرجه " من طريق الثّوريّ عن عبيد الله بلفظ " قال في الثّالثة: والمقصّرين. والجمع بينهما واضحٌ: بأنّ مَن قال في الرّابعة فعلى ما شرحناه، ومَن قال في الثّالثة أراد أنّ قوله " والمقصّرين " معطوفٌ على الدّعوة الثّالثة، أو أراد بالثّالثة مسألة السّائلين في ذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يراجع بعد ثلاثٍ كما ثبت، ولو لَم يدع لهم بعد ثالث مسألةٍ ما سألوه ذلك. وأخرجه أحمد من طريق أيّوب عن نافعٍ بلفظ " اللهمّ اغفر

للمحلقين. قالوا: وللمقصّرين - حتّى قالها ثلاثاً أو أربعاً - ثمّ قال: والمقصّرين " ورواية من جزم مقدّمةٌ على رواية من شكّ. وأخرجه الشيخان من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة نحوه وفيه " قالها ثلاثاً. أي: اللهم غفر للمحلقين , قال: وللمقصرين " وهذه الرّواية شاهدةٌ أنّ عبيد الله العمريّ حفظ الزّيادة. واختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك. فقال ابن عبد البرّ: لَم يذكر أحدٌ من رواة نافع عن ابن عمر أنّ ذلك كان يوم الحديبية، وهو تقصير وحذف، وإنّما جرى ذلك يوم الحديبية حين صدّ عن البيت، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عبّاس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشيّ بن جنادة وغيرهم. ثمّ أخرج حديث أبي سعيد بلفظ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثاً وللمقصّرين مرّة. وحديث ابن عبّاس بلفظ " حلق رجال يوم الحديبية وقصّر آخرون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحم الله المحلقين .. الحديث. وحديث أبي هريرة من طريق محمّد بن فضيلٍ عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عنه , ولَم يسق لفظه بل قال: فذكر معناه. وتجوّز في ذلك , فإنّه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع , ولَم يقع في شيء من طرقه التّصريح بسماعه لذلك من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولو وقع لقطعنا بأنّه كان في حجّة الوداع , لأنّه شهدها ولَم يشهد الحديبية.

ولَم يسق ابن عبد البرّ عن ابن عمر في هذا شيئاً، ولَم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطّرق عنه (¬1) , لكن من مجموع الأحاديث عنه أنّ ذلك كان في حجّة الوداع كما يومئ إليه صنيع البخاريّ، فقد ذكر في الباب لابن عمر ثلاثة أحاديث , ولأبي هريرة حديثاً , ولابن عبّاس حديثاً (¬2). فالحديث الأوّل: لابن عمر من طريق شعيب بن أبي حمزة قال: قال نافع: كان ابن عمر يقول: حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجّته. وهو طرف من حديث طويل. والحديث الثّاني: لابن عمر حديث الباب في الدّعاء للمحلقين. والحديث الثّالث: لابن عمر من طريق جويريّة بن أسماء عن نافع , أنّ عبد الله - وهو ابن عمر - قال: حلق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وطائفة من أصحابه وقصّر بعضهم. وكأنّ البخاريّ لَم يقع له على شرطه التّصريح بمحلّ الدّعاء ¬

_ (¬1) وقع التعيين في مسند الإمام أحمد (4897) عن عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الحديبية: اللهم اغفر للمحلقين .. الحديث. وله طريق أخرى في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 389) وذكَرَ قصةَ حبسِهم في الحديبية. لكن في سنده موسى بن عبيدة. وهو ضعيف. (¬2) حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (1641) ومسلم أيضاً (1302) بلفظ حديث ابن عمر في العمدة. أمَّا حديث ابن عباس فرواه البخاري (1643) عنه عن معاوية - رضي الله عنه - قال: قصَّرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص.

للمحلقين فاستنبط من الحديث الأوّل والثّالث أنّ ذلك كان في حجّة الوداع , لأنّ الأوّل صرّح بأنّ حلاقه وقع في حجّته , والثّالث لَم يصرّح بذلك , إلاَّ أنّه بيّن فيه أنّ بعض الصّحابة حلق , وبعضهم قصّر , وقد أخرجه البخاري في " المغازي " من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: حلق في حجّة الوداع وأناسٌ من أصحابه. وقصّر بعضهم. وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافعٍ مثل حديث جويريّة سواء. وزاد فيه , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يرحم الله المحلقين. فأشعر ذلك بأنّ ذلك وقع في حجّة الوداع. وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البرّ. أخرجه أيضاً الطّحاويّ من طريق الأوزاعيّ. وأحمد وابن أبي شيبة وأبو داود الطّيالسيّ من طريق هشام الدّستوائيّ كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم الأنصاريّ عن أبي سعيد، وزاد فيه أبو داود: أنّ الصّحابة حلقوا يوم الحديبية. إلاَّ عثمان وأبا قتادة. وأمّا حديث ابن عبّاس. فأخرجه ابن ماجه من طريق ابن إسحاق حدّثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه , وهو عند ابن إسحاق في " المغازي " بهذا الإسناد , وأنّ ذلك كان بالحديبية، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه. وأمّا حديث حبشيّ بن جنادة. فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولَم يعيّن المكان، وأخرجه أحمد من هذا الوجه. وزاد في

سياقه " عن حبشيّ - وكان ممّن شهد حجّة الوداع -. فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنّه كان في حجّة الوداع. وأمّا قول ابن عبد البرّ فَوَهْم , فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرّة في " السّنن " ومن طريق الطّبرانيّ في " الأوسط " ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في " المغازي ". وورد تعيين حجّة الوداع من حديث أبي مريم السّلوليّ عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أمّ الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثّقفيّ عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أمّ عمارة عند الحارث. فالأحاديث التي فيها تعيين حجّة الوداع أكثر عدداً وأصحّ إسناداً. ولهذا قال النّوويّ عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأمّ الحصين: هذه الأحاديث تدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت في حجّة الوداع. قال: وهو الصّحيح المشهور. وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأنّ ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في " النّهاية " ثمّ قال النّوويّ: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين. انتهى وقال عياض: كان في الموضعين. ولذا قال ابن دقيق العيد: أنّه الأقرب. قلت: بل هو المتعيّن لتظاهر الرّوايات بذلك في الموضعين كما قدّمناه، إلاَّ أنّ السّبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية , كان

بسبب توقّف من توقّف من الصّحابة عن الإحلال لِمَا دخل عليهم من الحزن لكونهم مُنعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك , فخالفهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصالح قريشاً على أن يرجع من العام المقبل، والقصّة مشهورة. أخرجها البخاري. فلمّا أمرهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالإحلال توقّفوا، فأشارت أمّ سلمة أن يحلّ هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم , وقصّر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممّن اقتصر على التّقصير. وقد وقع التّصريح بهذا السّبب في حديث ابن عبّاس المشار إليه قبل , فإنّ في آخره عند ابن ماجه وغيره أنّهم , قالوا: يا رسولَ الله: ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرّحمة؟ قال: لأنّهم لَم يشكّوا. وأمّا السّبب في تكرير الدّعاء للمحلقين في حجّة الوداع. فقال ابن الأثير في " النّهاية ": كان أكثر من حجّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يسق الهدي، فلمّا أمرهم أن يفسخوا الحجّ إلى العمرة ثمّ يتحللوا منها ويحلقوا رءوسهم شقّ عليهم، ثمّ لَمّا لَم يكن لهم بدّ من الطّاعة كان التّقصير في أنفسهم أخفّ من الحلق ففعله أكثرهم، فرجّح النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى. وفيما قاله نظرٌ. وإن تابعه عليه غير واحد، لأنّ المتمتّع يستحبّ في حقّه أنّ يقصّر في العمرة ويحلق في الحجّ إذا كان ما بين النّسكين متقارباً، وقد كان ذلك في حقّهم كذلك. والأولى ما قاله الخطّابيّ وغيره: إنّ عادة العرب أنّها كانت تحبّ

توفير الشّعر والتّزيّن به، وكان الحلق فيهم قليلاً. وربّما كانوا يرونه من الشّهرة ومن زيّ الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التّقصير. وفي حديث الباب من الفوائد. أنّ التّقصير يجزئ عن الحلق، وهو مجمعٌ عليه إلاَّ ما روي عن الحسن البصريّ , أنّ الحلق يتعيّن في أوّل حجّة، حكاه ابن المنذر بصيغة التّمريض. وقد ثبت عن الحسن خلافه. قال ابن أبي شيبة: حدّثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لَم يحجّ قطّ، فإن شاء حلق وإن شاء قصّر. نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النّخعيّ قال: إذا حجّ الرّجل أوّل حجّة حلق، فإن حجّ أخرى فإن شاء حلق , وإن شاء قصّر. ثمّ روى عنه أنّه قال: كانوا يحبّون أن يحلقوا في أوّل حجّة وأوّل عمرة. انتهى. وهذا يدلّ على أنّ ذلك للاستحباب لا للّزوم. نعم عند المالكيّة والحنابلة. أنّ محلّ تعيين الحلق والتّقصير أن لا يكون المُحرم لبّد شعره أو ضفّره أو عقصه، وهو قول الثّوريّ والشّافعيّ في القديم والجمهور. وهذا القول الأول. القول الثاني: قال في الجديد وفاقاً للحنفيّة: لا يتعيّن إلاَّ إن نذره , أو كان شعره خفيفاً لا يمكن تقصيره , أو لَم يكن له شعر فيمرّ الموسى

على رأسه. وأغرب الخطّابيّ. فاستدل بهذا الحديث لتعيّن الحلق لمن لبّد، ولا حجّة فيه. وفيه أنّ الحلق أفضل من التّقصير. ووجهه أنّه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذّلة , وأدلّ على صدق النّيّة، والذي يقصّر يبقي على نفسه شيئاً ممّا يتزيّن به، بخلاف الحالق فإنّه يشعر بأنّه ترك ذلك لله تعالى. وفيه إشارة إلى التّجرّد، ومن ثَمَّ استحبّ الصّلحاء إلقاء الشّعور عند التّوبة. والله أعلم. وأمّا قول النّوويّ تبعاً لغيره في تعليل ذلك: بأنّ المقصّر يُبقي على نفسه الشّعر الذي هو زينة. والحاجّ مأمور بترك الزّينة , بل هو أشعث أغبر. ففيه نظرٌ، لأنّ الحلق إنّما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتّقشّف فإنّه يحلّ له عقبه كلّ شيء إلاَّ النّساء في الحجّ خاصّة. واستدل بقوله " المحلقين " على مشروعيّة حلق جميع الرّأس , لأنّه الذي تقتضيه الصّيغة , وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد. واستحبّه الكوفيّون والشّافعيّ، ويجزئ البعض عندهم. واختلفوا فيه: فعن الحنفيّة الرّبع، إلاَّ أبا يوسف , فقال: النّصف. وقال الشّافعيّ: أقلّ ما يجب حلق ثلاث شعرات. وفي وجه لبعض أصحابه. شعرة واحدة.

والتّقصير كالحلق فالأفضل أن يقصّر من جميع شعر رأسه، ويستحبّ أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ، هذا للشّافعيّة , وهو مرتّب عند غيرهم على الحلق، وهذا كلّه في حقّ الرّجال. وأمّا النّساء فالمشروع في حقّهنّ التّقصير بالإجماع، وفيه حديث لابن عبّاس عند أبي داود ولفظه: ليس على النّساء حلق، وإنّما على النّساء التّقصير. وللتّرمذيّ من حديث عليّ: نهى أن تحلق المرأة رأسها. وقال جمهور الشّافعيّة: لو حلقت أجزأها ويكره. وقال القاضيان أبو الطّيّب وحسين: لا يجوز، والله أعلم. وفي الحديث أيضاً مشروعيّة الدّعاء لمن فعل ما شرع له، وتكرار الدّعاء لمن فعل الرّاجح من الأمرين المخيّر فيهما , والتّنبيه بالتّكرار على الرّجحان وطلب الدّعاء لمن فعل الجائز. وإن كان مرجوحاً. تكمله: قال البخاري: باب الحلق والتقصير عند الإحلال. ثم أورد حديث الباب. وأحاديث حلاقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته. قال ابن المنير في الحاشية: أفهم البخاري بهذه الترجمة أنَّ الحلقَ نسكٌ لقوله " عند الإحلال " وما يصنع عند الإحلال , وليس هو نفس التحلّل , وكأنه استدلَّ على ذلك بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لفاعله , والدعاء يُشعر بالثواب , والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات , وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك , لأنَّ المباحات لا

تتفاضل. والقول بأنَّ الحلقَ نسكٌ قول الجمهور إلاَّ رواية مُضعَّفة عن الشافعي أنه استباحة محظور. وقد أوهم كلام بن المنذر أنَّ الشافعي تفرَّد بها. لكن حُكيت أيضاً عن عطاء وعن أبي يوسف , وهي رواية عن أحمد , وعن بعض المالكية.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون 251 - عن عائشة رضي الله عنها , قالت: حججنا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النّحر , فحاضت صفيّة. فأراد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرّجل من أهله. فقلت: يا رسولَ الله , إنّها حائضٌ , قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسولَ الله , إنّها قد أفاضت يوم النّحر قال: اخرجوا. (¬1) وفي لفظٍ: قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: عقرى , حلقى. أطافتْ يوم النّحر؟ قيل: نعم , قال: فانفري. (¬2) قوله: (فحاضت صفيّة) أي: في أيّام منًى، ولهما من رواية الأسود عن عائشة " أنّ حيضها كان ليلة النّفر "، زاد الحكم عن إبراهيم عن الأسود عند مسلم: لَمّا أراد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن ينفر إذا صفيّة على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال: عقرى. الحديث. وهذا يشعر بأنّ الوقت الذي أراد منها ما يريد الرّجل من أهله كان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1646) ومسلم (1211) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به. وأخرجه البخاري (4140) ومسلم (1211) من طريق الزهري عن أبي سلمة وعروة عن عائشة نحوه. وأخرجه البخاري (1670 , 322) ومسلم (1211) من طريق القاسم وعمرة عن عائشة نحوه. (¬2) أخرجه البخاري (1673 , 1682 , 5019 , 5805) ومسلم (1211) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة به.

بالقرب من وقت النّفر من منىً. واستشكله بعضهم بناء على ما فهمه , أنّ ذلك كان وقت الرّحيل، وليس ذلك بلازمٍ لاحتمال أن يكون الوقت الذي أراد منها ما أراد سابقاً على الوقت الذي رآها فيه على باب خبائها الذي هو وقت الرّحيل، بل ولو اتّحد الوقت لَم يكن ذلك مانعاً من الإرادة المذكورة. قوله: (أحابستنا) أي: مانعتنا من التّوجّه من مكّة في الوقت الذي أردنا التّوجّه فيه، ظنّاً منه - صلى الله عليه وسلم - أنّها ما طافت طواف إفاضة، وإنّما قال ذلك , لأنّه كان لا يتركها ويتوجّه، ولا يأمرها بالتّوجّه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتّى تطهر وتطوف , وتحلّ الحلّ الثّاني. قوله: (قالوا) ولهما من رواية الأسود عن عائشة ولفظه: أَمَا كنتِ طفتِ يوم النحر؟ قالت (أي صفيّة): بلى. وهذا مُشكل , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - إن كان علِم أنّها طافت طواف الإفاضة. فكيف يقول أحابستنا هي؟ وإن كان ما علِم. فكيف يريد وقاعها قبل التّحلّل الثّاني؟. ويجاب عنه: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - ما أراد ذلك منها إلاَّ بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهنّ. فكان بانياً على أنّها قد حلت، فلمّا قيل له: إنّها حائض جوّز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتّى منعها من طواف الإفاضة فاستفهم عن ذلك , فأعلمته عائشة أنّها طافت معهنّ فزال عنه ما خشيه من ذلك والله أعلم.

وفي الصحيحين من طريق عمرة عن عائشة أنّه قال لهم: لعلها تحبسنا، أَلَم تكن طافت معكنّ؟ قالوا: بلى. وسأذكر بقيّة اختلاف ألفاظ هذه القصّة إن شاء الله تعالى قوله: (اخرجوا) في رواية عمرة " قال: اخرجي " وفي رواية الزّهريّ عن عروة عن عائشة في البخاري " فلتنفر " وفي رواية الأسود " فلا بأس انفري ". ومعانيها متقاربه , ولهما من رواية القاسم عن عائشة " فلا إذاً " أي: فلا حبس علينا حينئذٍ، أي: إذا أفاضت فلا مانع لنا من التّوجّه , لأنّ الذي يجب عليها قد فعلته. والمراد بها كلّها الرّحيل من منًى إلى جهة المدينة. قوله: (عقرى , حلقى) بالفتح فيهما ثم السكون وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز في اللغة التنوين. وصوبه أبو عبيد، لأنَّ معناه الدعاء بالعقر والحلق، كما يقال سقيا ورعيا ونحو ذلك من المصادر التي يدعى بها. وذكر في الأمثال: أنه في كلام العرب بالمد وفي كلام المحدّثين بالقصر. وعلى الأول هو نعت لا دعاء. ثم معنى عقرى عقرها الله. أي جرحها , وقيل: جعلها عاقراً لا تلد، وقيل: عقر قومها. ومعنى حلقى. حلق شعرها وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في

حلقها، أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم. وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العربي في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا: قاتله الله , وتربت يداه ونحو ذلك. قال القرطبي وغيره: شتان بين قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا لصفية , وبين قوله لعائشة لَمَّا حاضت منه في الحج: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم. لِمَا يشعر به من الميل لها والحنو عليها بخلاف صفية. قلت: وليس فيه دليل على اتّضاع قدر صفية عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام. فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفاً على ما فاتها من النسك فسلَّاها بذلك. وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله فأبدت المانع فناسب كلاًّ منهما ما خاطبها به في تلك الحالة. وفي حديث الباب. أنّ طواف الإفاضة ركن، ويُسمى أيضاً طواف الصدر وطواف الركن. وأنّ الطّهارة شرط لصحّة الطّواف. وأنّ طواف الوداع واجب كما سيأتي. واستدل به على أنّ أمير الحاجّ يلزمه أنّ يؤخّر الرّحيل لأجل من تحيض ممّن لَم تطف للإفاضة. وتعقّب: باحتمال أن تكون إرادته - صلى الله عليه وسلم - تأخير الرّحيل إكراماً لصفيّة كما احتبس بالنّاس على عقد عائشة.

وأمّا الحديث الذي أخرجه البزّار من حديث جابر , وأخرجه البيهقيّ في " فوائده " من طريق أبي هريرة مرفوعاً: أميران وليسا بأميرين: من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتّى تدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تحجّ أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الرّكن فليس لهم أن ينصرفوا حتّى تطهر أو تأذن لهم. فلا دلالة فيه على الوجوب - إن كان صحيحاً - فإنّ في إسنادِ كلٍّ منهما ضعفاً شديداً. وقد ذكر مالك في " الموطّإ ": أنّه يلزم الجمّال أن يحبس لها إلى انقضاء أكثر مدّة الحيض، وكذا على النّفساء. واستشكله ابن الموّاز: بأنّ فيها تعريضاً للفساد كقطع الطّريق. وأجاب عياض: بأنّ محلّ ذلك مع أمن الطّريق كما أنّ محلّه أنّ كون مع المرأة محرم قال ابن المنذر: قال عامّة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع. وروينا عن عمر بن الخطّاب وابن عمر وزيد بن ثابت , أنّهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضاً لطواف الوداع. وكأنّهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لَم يسقط عنها. ثمّ أسند عن عمر بإسنادٍ صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال: طافت امرأة بالبيت يوم النّحر ثمّ حاضت، فأمر عمر بحبسها بمكّة بعد أن ينفر النّاس حتّى تطهر وتطوف بالبيت.

قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر (¬1) وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة. يشير إلى ماتضمّنه حديث عائشة , وما أخرجه البخاري من طريق أيوب عن عكرمة , أنَّ أهل المدينة سألوا ابن عباس - رضي الله عنه -، عن امرأة طافت ثم حاضت؟ قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد , قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا، فقدموا المدينة، فسألوا، فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية. وللإسماعيلي عن عبد الوهاب عن أيوب. وفيه فأخبرتهم أنّ عائشة قالت لصفيّة. أفي الخَيْبة أنت؟ إنّك لحابستنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ذاك؟ قالت عائشة: صفيّة حاضت، قيل إنّها قد أفاضت، قال: فلا إذاً. فرجعوا إلى ابن عبّاس فقالوا: وجدنا الحديث كما حدّثتناه. وللطيالسي من طريق قتادة عن عكرمة قال: اختلف ابن عبّاس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت , وقد طافت بالبيت يوم النّحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت، وقال ابن عبّاس: تنفر إن شاءت، فقالت الأنصار: لا نتابعك يا ابن عبّاس وأنت تخالف زيداً، فقال: سلوا صاحبتكم أمّ سليمٍ - يعني فسألوها - فقالت: حضت بعدما طفت بالبيت فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أنفر، وحاضت صفيّة , فقالت لها عائشة: حبستنا فأمرها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن تنفر. وقد روى هذه القصّة طاوسٌ عن ابن عبّاس متابعاً لعكرمة، ¬

_ (¬1) رجوع ابن عمر - رضي الله عنه -. سيأتي إن شاء الله في شرح حديث ابن عبّاس الآتي.

أخرجه مسلم والنّسائيّ والإسماعيليّ من طريق الحسن بن مسلم عن طاوس: كنت مع ابن عبّاس إذ قال له زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عبّاس: أمّا لا. فسل فلانة الأنصاريّة. هل أمرها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فرجع إليه , فقال: ما أراك إلاَّ قد صدقت. لفظ مسلم. وللنّسائي " كنت عند ابن عبّاس فقال له زيد بن ثابت: أنت الذي تفتي؟ وقال فيه: فسألها، ثمّ رجع وهو يضحك فقال: الحديث كما حدّثتني. وللإسماعيليّ بعد قوله أنت الذي .. إلخ. قال: نعم. قال: فلا تُفْتِ بذلك. قال: فسل فلانة. والباقي نحو سياق مسلم، وزاد في إسناده عن ابن جريجٍ , قال: وقال عكرمة بن خالد عن زيد وابن عبّاس نحوه , وزاد فيه: فقال ابن عبّاس: سل أمّ سليمٍ وصواحبها. هل أمرهنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك؟ فسألهنّ، فقلن: قد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وقد عرف برواية عكرمة الماضية أنّ الأنصاريّة هي أمّ سليمٍ، وأمّا صواحبها فلم أقف على تسميتهنّ. وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمّد: كان الصّحابة يقولون. إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت، إلاَّ عمر فإنّه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت. وقد وافق عمرَ على رواية ذلك عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غيرُه، فروى أحمد وأبو داود والنّسائيّ والطّحاويّ - واللفظ لأبي داود - من طريق

الوليد بن عبد الرّحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثّقفيّ. قال: أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النّحر ثمّ تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت. فقال الحارث: كذلك أفتاني - وفي رواية أبي داود " هكذا حدّثني - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". واستدل الطّحاويّ: بحديث عائشة وبحديث أمّ سليمٍ على نسخ حديث الحارث في حقّ الحائض. قال المُهلَّب: فيه شاهد لتصديق النّساء فيما يدّعينه من الحيض. لكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يؤخّر السّفر , ويحبس من معه لأجل حيض صفيّة، ولَم يمتحنها في ذلك ولا أكذبها. وقال ابن المنيّر: لَمّا رتّب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على مجرّد قول صفيّة إنّها حائض تأخيره السّفر أخذ منه تعدّي الحكم إلى الزّوج، فتصدّق المرأة في الحيض والحمل باعتبار رجعة الزّوج وسقوطها وإلحاق الحمل به. وقال إسماعيل القاضي: دلَّت الآية (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) أنَّ المرأة المعتدة مُؤتمنةٌ على رحمها من الحمل والحيض إلاَّ أن تأتي من ذلك بما يعرف كذبها فيه. وقد أخرج الحاكم في " المستدرك " من حديث أبي بن كعب: إنَّ من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. هكذا أخرجه موقوفا في تفسير سورة الأحزاب. ورجاله رجال الصحيح.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون 252 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: أُمر النّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيت , إلاَّ أنّه خفّف عن المرأة الحائض. (¬1) قوله: (أُمر النّاس) كذا في رواية سفيان عن عبد الله بن طاوسٍ عن أبيه , على البناء لِمَا لَم يُسمّ فاعله , والمراد به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكذا قوله " خفّف ". وقد رواه سفيان أيضاً عن سليمان الأحول عن طاوسٍ فصرّح فيه بالرّفع , ولفظه عن ابن عبّاس قال: كان النّاس ينصرفون في كلّ وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينفرنّ أحد حتّى يكون آخر عهده بالبيت. أخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرّقهما. فكأنّ طاوساً حدّث به على الوجهين، ولهذا وقع في رواية كلّ من الرّاويين عنه ما لَم يقع في رواية الآخر. قوله: (خفّف عن المرأة الحائض) فيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكّد به وللتّعبير في حقّ الحائض بالتّخفيف، والتّخفيف لا يكون إلاَّ من أمر مؤكّد. قال النّوويّ: طواف الوداع واجب يلزم بتركه دم على الصّحيح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1668) ومسلم (1328) من طريق سفيان عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

عندنا. وهو قول أكثر العلماء. وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنّة لا شيء في تركه. انتهى والذي رأيته في " الأوسط " لابن المنذر , أنّه واجب للأمر به , إلاَّ أنّه لا يجب بتركه شيء. واستدل به على أنّ الطّهارة شرط لصحّة الطّواف، كما تقدم البحث فيه تكميل: أخرج البخاري من طريق وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: رُخِّص للحائض أن تنفر إذا أفاضت. قال (أي طاوس): وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعدُ: تنفر. إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهن. هذا من مراسيل الصّحابة، وكذا ما أخرجه النّسائيّ والتّرمذيّ وصحَّحه والحاكم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: من حجّ فليكن آخر عهده بالبيت، إلاَّ الحيّض رخّص لهنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإنّ ابن عمر لَم يسمعه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وسنوضّح ذلك، فعند النّسائيّ من طريق إبراهيم بن ميسرة عن طاوسٍ عن ابن عمر , أنّه كان يقول قريباً من سنتين عن الحائض: لا تنفر حتّى يكون آخر عهدها بالبيت. ثمّ قال بعدُ: إنّه رخّص للنّساء. وله وللطّحاويّ من طريق عقيل عن الزّهريّ عن طاوسٍ , أنّه سمع ابن عمر يُسأل عن النّساء إذا حضن قبل النّفر , وقد أفضن يوم النّحر فقال: إنّ عائشة كانت تذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخصة لهنّ ,

وذلك قبل موته بعامٍ ". وفي رواية الطّحاويّ " قبل موت ابن عمر بعامٍ ". وروى ابن أبي شيبة , أنّ ابن عمر كان يقيم على الحائض سبعة أيّام حتّى تطوف طواف الوداع. قال الشّافعيّ: كأنّ ابن عمر سمع الأمر بالوداع , ولَم يسمع الرّخصة أوّلاً , ثمّ بلغته الرّخصة فعمل بها.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون 253 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: استأذن العبّاس بن عبد المطّلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يبيت بمكّة ليالي منىً من أجل سقايته. فأذن له. (¬1) قوله: (استأذن العبّاس بن عبد المطّلب) وللبخاري من رواية عيسى بن يونس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: رخّص للعبّاس .. " وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنًى , وأنّه من مناسك الحجّ لأنّ التّعبير بالرّخصة يقتضي أنّ مقابلها عزيمة , وأنّ الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لَم توجد أو ما في معناها لَم يحصل الإذن. القول الأول: بالوجوب قال الجمهور. القول الثاني: في قول للشّافعيّ ورواية عن أحمد وهو مذهب الحنفيّة. أنّه سنّة. ووجوب الدّم بتركه مبنيّ على هذا الخلاف , ولا يحصل المبيت إلاَّ بمعظم الليل. وهل يختصّ الإذن بالسّقاية وبالعبّاس , أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم؟. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1553 , 1656 , 1657 , 1658) ومسلم (1315) من طرق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر به.

فقيل: يختصّ الحكم بالعبّاس وهو جمود. وقيل: يدخل معه آله. وقيل: قومه وهم بنو هاشم. وقيل: كلّ من احتاج إلى السّقاية فله ذلك. ثمّ قيل أيضاً: يختصّ الحكم بسقاية العبّاس حتّى لو عملت سقاية لغيره لَم يرخّص لصاحبها في المبيت لأجلها. ومنهم: من عمّمه. وهو الصّحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشّاربين. (¬1) وهل يختصّ ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره؟. محلّ احتمال. وجزم الشّافعيّة: بإلحاق من له مال يخاف ضياعه , أو أمر يخاف فوته , أو مريض يتعاهده بأهل السّقاية. كما جزم الجمهور بإلحاق الرّعاء خاصّة، وهو قول أحمد واختاره ابن المنذر، أعني الاختصاص بأهل السّقاية والرّعاء لإبلٍ. والمعروف عن أحمد. اختصاص العبّاس بذلك , وعليه اقتصر صاحب المغني. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (1554) عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها، فقال: اسقني، قال: يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح. ثم قال: لولا أن تُغلبوا لنزلت، حتى أضع الحبل على هذه؟ يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه.

وقال المالكيّة: يجب الدّم في المذكورات سوى الرّعاء، قالوا: وهنّ ترك المبيت بغير عذر وجب عليه دم عن كلّ ليلة. وقال الشّافعيّ: عن كلّ ليلة إطعام مسكين، وقيل عنه: التّصدّق بدرهم. وعن الثّلاث دم. وهي رواية عن أحمد، والمشهور عنه وعن الحنفيّة. لا شيء عليه. وفي الحديث أيضاً استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام , وبدار من استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة. والمراد بأيّام منًى ليلة الحادي عشر واللتين بعده، ووقع في رواية روح عن ابن جريجٍ عن عبيد الله عند أحمد " أنّ مبيت تلك الليلة بمنًى "، وكأنّه عنى ليلة الحادي عشر , لأنّها تَعقُب يوم الإفاضة، وأكثر النّاس يفيضون يوم النّحر ثمّ في الذي يليه. وهو الحادي عشر. والله أعلم قوله: (من أجل سقايته) قال الفاكهيّ: حدّثنا أحمد بن محمّد حدّثنا الحسن بن محمّد بن عبيد الله حدّثنا ابن جريجٍ عن عطاء قال: سقاية الحاجّ زمزم. وقال الأزرقيّ: كان عبد مناف يحمل الماء في الرّوايا والقرب إلى مكّة ويسكبه في حياض من أدمٍ بفناء الكعبة للحجّاج، ثمّ فعله ابنه هاشم بعده، ثمّ عبد المطّلب؛ فلمّا حفر زمزم كان يشتري الزّبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي النّاس. قال ابن إسحاق: لَمّا ولي قصيّ بن كلاب أمر الكعبة كان إليه

الحجابة والسّقاية واللواء والرّفادة ودار النّدوة، ثمّ تصالح بنوه على أنّ لعبد مناف السّقاية والرّفادة والبقيّة للأخوين. ثمّ ذكر نحو ما تقدّم , وزاد: ثمّ ولي السّقاية من بعد عبد المطّلب ولده العبّاس - وهو يومئذٍ من أحدث إخوته سنّاً - فلم تزل بيده حتّى قام الإسلام وهي بيده، فأقرّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، فهي اليوم إلى بني العبّاس. وروى الفاكهيّ من طريق الشّعبيّ قال: تكلم العبّاس وعليّ وشيبة بن عثمان في السّقاية والحجابة، فأنزل الله عزّ وجل (أجعلتم سقاية الحاجّ) الآية إلى قوله: (حتّى يأتي الله بأمره) قال: حتّى تفتح مكّة ". ومن طريق ابن أبي مُلَيْكة عن ابن عبّاس , أنّ العبّاس لَمّا مات. أراد عليٌّ أن يأخذ السّقاية، فقال له طلحة: أشهد لرأيت أباه يقوم عليها، وأنّ أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك بعرفة. قال: فكفّ عليٌّ عن السّقاية. ومن طريق ابن جريجٍ قال: قال العبّاس: يا رسولَ الله. لو جمعت لنا الحجابة والسّقاية، فقال: إنّما أعطيتكم ما تُرْزَءون , ولَم أعطكم ما تَرزُؤون. الأوّل: بضمّ أوّله وسكون الرّاء وفتح الزّاي. والثّاني: بفتح أوّله وضمّ الزّاي، أي: أعطيتكم ما ينقصكم لا ما تنقصون به النّاس. وروى الطّبرانيّ والفاكهيّ حديث السّائب المخزوميّ , أنّه كان يقول: اشربوا من سقاية العبّاس فإنّه من السّنّة.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون 254 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - , قال: جمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمعٍ , لكل واحدةٍ منهما إقامةٌ. ولَم يسبّح بينهما , ولا على إثر واحدةٍ منهما. (¬1) قوله: (بجمعٍ) بفتح الجيم وسكون الميم أي: المزدلفة , وسمّيت جمعاً , لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء وازدلف إليها أي دنا منها. وروي عن قتادة: أنّها سُمِّيت جمعاً لأنّها يجمع فيها بين الصّلاتين. وقيل: وصفت بفعل أهلها لأنّهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله. أي: يتقرّبون إليه بالوقوف فيها. وسمّيت المزدلفة: إمّا لاجتماع النّاس بها , أو لاقترابهم إلى منًى , أو لازدلاف النّاس منها جميعاً , أو للنّزول بها في كل زلفة من الليل , أو لأنّها منزلة وقربة إلى الله , أو لازدلاف آدم إلى حوّاء بها. قوله: (بإقامةٍ) (¬2) لَم يذكر الأذان , وسيأتي البحث فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1589) من طريق ابن أبي ذئب , ومسلم (1288) من طريق مالك كلاهما عن الزهري عن سالم بن عمر عن أبيه به. واللفظ للبخاري. ولمسلم (1288) من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه نحوه. (¬2) ولمسلم (1288) من طريق الحكم وسلمة بن كهيل وأبي إسحاق عن سعيد بن جبير. قال: أفضنا مع ابن عمر حتى أتينا جمعاً، فصلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة، ثم انصرف، فقال: هكذا صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان. وهو صريحٌ في الاقتصار على إقامة واحدةٍ للصلاتين جميعاً. وقد اضطرب النقل عن ابن عمر في ذلك على روايات متعدّدة موفوعة يعسر الجمع بينها لتعذّر التعدّد , إلاّ ما كان من فعله غير مرفوع. ولذا قال ابن القيم في " تهذيب السنن " (5/ 286): وهذه الروايات صحيحة عنه فيسقط الأخذ بها لاختلافها واضطرابها. قلت: ولعّله من أجل هذا الاضطراب. قال الشارح كما سيأتي بعد ذِكره للخلاف: وقد جاء عن ابن عمر كلّ واحدٍ من هذه الصّفات.

قوله: (ولَم يسبّح بينهما) أي: لَم يتنفّل وقوله: (ولا على إثر كل واحدة منهما) أي: عقبها ويستفاد منه أنّه ترك التّنفّل عقب المغرب وعقب العشاء , ولَمّا لَم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرّح بأنّه لَم يتنفّل بينهما بخلاف العشاء فإنّه يحتمل أن يكون المراد , أنّه لَم يتنفّل عقبها , لكنّه تنفّل بعد ذلك في أثناء الليل , ومن ثَمَّ قال الفقهاء: تؤخّر سنّة العشاءين عنهما. ونقل ابن المنذر الإجماعَ على ترك التّطوّع بين الصّلاتين بالمزدلفة , لأنّهم اتّفقوا على أنّ السّنّة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة , ومن تنفّل بينهما لَم يصحّ أنّه جمع بينهما. انتهى. ويعكّر على نقل الاتّفاق فعل ابن مسعود. فأخرج البخاري من طريق زهير عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: حجَّ عبد الله - رضي الله عنه - فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريباً من ذلك، فأمر رجلاً فأذن وأقام، ثم صلَّى المغرب، وصلَّى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشَّى، ثم أمر أرى فأذّن وأقام - قال عمرو: لا أعلم الشك إلاَّ من زهير- ثم صلَّى العشاء ركعتين ... وفيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله " , وفي رواية له عن إسرائيل عن أبي إسحاق " فصلَّى الصلاتين كل صلاةٍ وحدها بأذان

وإقامة، والعَشاء بينهما. وفي حديث ابن مسعود: مشروعيّة الأذان والإقامة لكلّ من الصّلاتين إذا جمع بينهما. قال ابن حزم: لَم نجده مرويّاً عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ولو ثبت عنه لقلت به. ثمّ أخرج من طريق عبد الرّزّاق عن أبي بكر بن عيّاش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: قال أبو إسحاق: فذكرته لأبي جعفر محمّد بن عليّ. فقال: أمّا نحن أهل البيت فهكذا نصنع. قال ابن حزم: وقد روي عن عمر من فعله. قلت: أخرجه الطّحاويّ بإسناد صحيح عنه. ثمّ تأوّله بأنّه محمول على أنّ أصحابه تفرّقوا عنه فأذّن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم , ولا يخفى تكلّفه , ولو تأتّي له ذلك في حقّ عمر - لكونه كان الإمام الذي يقيم للنّاس حجّهم - لَم يتأتّ له في حقّ ابن مسعود , لأنّه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذّن لهم , وقد أخذ بظاهره مالك. وهو اختيار البخاريّ. وروى ابن عبد البرّ عن أحمد بن خالد (¬1) , أنّه كان يتعجّب من ¬

_ (¬1) ابن يزيد بن محمد بن سالم بن سليمان , يُعرف بابن الجبَّاب بباءين بموحدة من أسفل , كان يبيع الجباب. يكني أبا عمر. قرطبي. كان بالأندلس إمامَ وقته غير مدافع في الفقه والحديث والعبادة ضابطاً متقناً خيراً فاضلاً ورعاً منقبضاً متقشفاً جمع علوماً جمة حافظاً عالماً. قال أبو عمر بن عبد البر: لَم يكن بالأندلس أفقه منه ومن قاسم بن محمد بن قاسم. انتهى من الديباج المذهّب لابن فرحون.

مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود - وهو من رواية الكوفيّين - مع كونه موقوفاً ومع كونه لَم يروه , ويترك ما روى عن أهل المدينة وهو مرفوع. قال ابن عبد البرّ: وأعجب أنا من الكوفيّين حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة. وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة , وتركوا ما رووا في ذلك عن ابن مسعود , مع أنّهم لا يعدلون به أحداً. قلت: الجواب عن ذلك. أنّ مالكاً اعتمد على صنيع عمر في ذلك , وإن كان لَم يروه في " الموطّإ ". واختار الطّحاويّ ما جاء عن جابر يعني في حديثه الطّويل الذي أخرجه مسلم " أنّه جمع بينهما بأذان واحدٍ وإقامتين ". وهذا قول الشّافعيّ في القديم ورواية عن أحمد , وبه قال ابن الماجشون وابن حزمٍ. وقوّاه الطّحاويّ بالقياس على الجمع بين الظّهر والعصر بعرفة. وقال الشّافعيّ في الجديد والثّوريّ وهو رواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط. وهو ظاهر حديث أسامة في الصحيحين حيث قال: فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ , فأقام المغرب ثمّ أناخ النّاس ولَم يحلّوا حتّى أقام العشاء. وقد جاء عن ابن عمر كلّ واحدٍ من هذه الصّفات. أخرجه الطّحاويّ وغيره , وكأنّه كان يراه من الأمر الذي يتخيّر فيه الإنسان , وهو المشهور عن أحمد.

باب المحرم يأكل من صيد الحلال

باب المُحرم يأكل من صيد الحلال الحديث الأربعون 255 - عن أبي قتادة الأنصاريّ - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجّاً , فخرجوا معه. فصرف طائفةً منهم - فيهم أبو قتادة - وقال: خذوا ساحل البحر , حتّى نلتقي. فأخذوا ساحلَ البحرِ , فلمّا انصرفوا أحرموا كلّهم إلاَّ أبا قتادة فلم يُحرم , فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمرَ وحشٍ , فحمل أبو قتادة على الحمر. فعقَرَ منها أتاناً , فنزلنا فأكلنا من لحمها , ثمّ قلنا: أنأكل لحم صيدٍ , ونحن محرمون؟ , فحملنا ما بقي من لحم الأَتان فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فسألناه عن ذلك؟ فقال: أمنكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها , أو أشار إليها؟ قالوا: لا , قال: فكُلُوا ما بقي من لحمها. (¬1) وفي روايةٍ: قال: هل معكم منه شيءٌ؟ فقلت: نعم. فناولته العضد , فأكل منها. قوله: (خرج حاجّاً) قال الإسماعيليّ: هذا غلطٌ، فإنّ القصّة كانت في عُمرةٍ، وأمّا الخروج إلى الحجّ فكان في خلق كثير , وكان كلّهم على الجادّة لا على ساحل البحر. ولعلَّ الرّاوي أراد خرج محرماً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1725 , 1726 , 1728 , 2431 , 2699 , 3918 , 5090 , 5091) ومسلم (1196) من طرق عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه. وأخرجه البخاري (1727 , 2757 , 5172 , 5173) ومسلم (1196) من طريق نافع مولى أبي قتادة , ومسلم (1196) من طريق عطاء بن يسار كلاهما عن أبي قتادة.

فعبّر عن الإحرام بالحجّ غلطاً. قلت: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السّائغ. وأيضاً فالحجّ في الأصل قصد البيت فكأنّه قال خرج قاصداً للبيت، ولهذا يقال للعمرة الحجّ الأصغر. ثمّ وجدت الحديث من رواية محمّد بن أبي بكر المقدّميّ (¬1) عن أبي عوانة عن عثمان بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه بلفظ " خرج حاجّاً أو معتمراً " أخرجه البيهقيّ، فتبيّن أنّ الشّكّ فيه من أبي عوانة. وقد جزم يحيى بن أبي كثير (¬2) بأنّ ذلك كان في عمرة الحديبية. وهذا هو المعتمد. وقوله " بالحديبية " أصحّ من رواية الواقديّ من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة , أنّ ذلك كان في عمرة القضيّة. قوله: (أحرموا كلّهم , إلاَّ أبا قتادة , فلم يحرم) وللبخاري من رواية علي بن المبارك عن يحيى " انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولَم أحرم، فأنبئنا بعدو بغَيْقَة، فتوجهنا نحوهم " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج حديث الباب بلفظه. البخاري (1728) عن موسى بن إسماعيل. ومسلم (1169) عن أبي كامل الجحدري كلاهما عن أبي عوانة به. بلفظ الحج. دون شكٍّ. (¬2) رواية يحيى بن أبي كثير في الصحيحين عنه عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه. ولفظه " انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ... " زاد مسلم " فأهلُّوا بعمرةٍ غيري. (¬3) وتمامه " فبصر أصحابي بحمار وحش، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرتُ فرأيته، فحملتُ عليه الفرس فطعنته فأثبته، فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا منه، ثم لحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخشينا أن نقتطع، أرفع فرسي شأواً وأسير عليه شأواً، فلقيتُ رجلاً من بني غفار في جوف الليل، فقلت: أين تركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: تركته بتعهن، وهو قائل السقيا، فلحقتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيته، فقلت: يا رسول الله، إن أصحابك أرسلوا يقرءون عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وإنهم قد خشوا أن يقتطعهم العدو دونك فانظرهم، ففعل، فقلت: يا رسول الله. إنَّا اصَّدْنا حمار وحش، وإنَّ عندنا فاضلة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: كلوا. وهم محرمون.

ولمسلم " فأحرم أصحابي ولَم أحرم ". وفي هذا السّياق حذف بيّنتْهُ رواية الباب. وبيّنّ المطّلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور مكان صرفهم. ولفظه " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى إذا بلغنا الرّوحاء ". وقوله " بغيقة " أي: في غيقة. وهو بفتح الغين المعجمة بعدها ياء ساكنة ثمّ قاف مفتوحة ثمّ هاء. قال السّكونيّ: هو ماء لبني غفار بين مكّة والمدينة، وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلبة يصبّ فيه ماء رضوى. ويصبّ هو في البحر. وحاصل القصّة: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خرج في عمرة الحديبية فبلغ الرّوحاء - وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلاً - أخبروه بأنّ عدوّاً من المشركين بوادي غيقة يخشى منهم أن يقصدوا غرّته، فجهّز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرّهم، فلمّا أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأحرموا إلاَّ هو فاستمرّ هو حلالاً , لأنّه إمّا لَم يجاوز الميقات , وإمّا لَم يقصد العمرة. وبهذا يرتفع الإشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم , قال: كنت

أسمع أصحابنا يتعجّبون من هذا الحديث , ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات وهو غير محرم؟ ولا يدرون ما وجهه. قال: حتّى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد فيها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحرمنا، فلمّا كنّا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة , وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه في وجهٍ. الحديث. قال: فإذا أبو قتادة. إنّما جاز له ذلك لأنّه لَم يخرج يريد مكّة. قلت: وهذه الرّواية التي أشار إليها تقتضي أنّ أبا قتادة لَم يخرج مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وليس كذلك لِمَا بيّناه. ثمّ وجدت في صحيح ابن حبّان والبزّار من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة على الصّدقة , وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون حتّى نزلوا بعسفان " فهذا سبب آخر، ويحتمل جمعهما. والذي يظهر أنّ أبا قتادة إنّما أخّر الإحرام , لأنّه لَم يتحقّق أنّه يدخل مكّة فساغ له التّأخير. وقد استدل بقصّة أبي قتادة: على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لَم يرد حجّاً ولا عمرة، وقيل: كانت هذه القصّة قبل أن يؤقِّت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المواقيت. وأمّا قول عياض ومن تبعه: إنّ أبا قتادة لَم يكن خرج مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من المدينة , وإنّما بعثه أهل المدينة إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلمونه أنّ بعض العرب قصدوا الإغارة على المدينة، فهو ضعيف مخالف لِمَا ثبت في

هذه الطّريق الصّحيحة طريق عثمان بن موهب (¬1) كما أشرت إليها قبل. قوله: (إلاَّ أبا قتادة) كذا للكشميهنيّ، ولغيره " إلاَّ أبو قتادة " بالرّفع، ووقع بالنّصب عند مسلم وغيره من هذا الوجه. قال ابن مالك في " التّوضيح ": حقّ المستثنى بإلا من كلام تامّ موجب أن ينصب مفرداً كان أو مكمّلاً معناه بما بعده، فالمفرد نحو قوله تعالى (الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلاَّ المتّقين) والمكمّل نحو (إنّا لمنجّوهم أجمعين إلاَّ امرأته قدّرنا إنّها لمن الغابرين) ولا يعرف أكثر المتأخّرين من البصريّين في هذا النّوع إلاَّ النّصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعاً بالابتداء مع ثبوت الخبر ومع حذفه، فمن أمثلة الثّابت الخبر قول أبي قتادة " أحرموا كلّهم إلاَّ أبو قتادة لَم يحرم " فإلَّا بمعنى لكن، وأبو قتادة مبتدأ ولَم يحرم خبره. ونظيره من كتاب الله تعالى (ولا يلتفت منكم أحدٌ، إلاَّ امرأتك إنّه مصيبها ما أصابهم) فإنّه لا يصحّ أن يجعل امرأتك بدلاً من أحد لأنّها لَم تسِر معهم فيتضمّنها ضمير المخاطبين. وتكلف بعضهم: بأنّه وإن لَم يسِرْ بها لكنّها شعرت بالعذاب فتبعتهم , ثمّ التفتتْ فهلكت. قال: وهذا على تقدير صحّته لا يوجب دخولها في المخاطبين، ومن أمثلة المحذوف الخبر قوله - صلى الله عليه وسلم -: كلّ أمّتي معافًى إلاَّ المجاهرون " أي: ¬

_ (¬1) طريق عبد الله بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة. هي التي اعتمدها المقدسيّ في العمدة.

لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، ومنه من كتاب الله تعالى قول تعالى (فشربوا منه إلاَّ قليلٌ منهم) أي لكن قليل منهم لَم يشربوا. قال: وللكوفيّين في هذا الثّاني مذهب آخر. وهو أن يجعلوا " إلاَّ " حرف عطف وما بعدها معطوف على ما قبلها. انتهى. وفي نسبة الكلام المذكور لابن أبي قتادة دون أبي قتادة نظرٌ، فإنّ سياق الحديث ظاهر في أنّ قوله قول أبي قتادة حيث قال: إنّ أباه أخبره أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجّاً فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة - إلى أن قال - أحرموا كلّهم إلاَّ أبو قتادة ". وقول أبي قتادة " فيهم أبو قتادة " من باب التّجريد، وكذا قوله " إلاَّ أبو قتادة " ولا حاجة إلى جعله من قول ابنه , لأنّه يستلزم أن يكون الحديث مرسلاً. ومن توجيه الرّواية المذكورة. وهي قوله " إلاَّ أبو قتادة " , أن يكون على مذهب من يقول: عليّ بن أبو طالب. قوله: (فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُرَ وحشٍ) في رواية أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة عند البخاري: فرأوا حماراً وحشيّاً قبل أن يراه أبو قتادة، فلمّا رأوه تركوه حتّى رآه فركب. ففيه أنّ رؤيته له كانت متأخّرة عن رؤية أصحابه , وفي رواية يحيى بن أبي كثير " فبينما أبي مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض. فنظرت فإذا أنا بحمار وحش ". وفي رواية عليّ بن المبارك عن يحيى " فبصر أصحابي بحمار وحش ,

فجعل بعضهم يضحك إلى بعض " زاد في رواية أبي حازم " وأحبّوا لو أنّي أبصرته ". هكذا في جميع الطّرق والرّوايات. ووقع في رواية العذريّ في مسلم " فجعل بعضهم يضحك إليَّ " فشدّدت الياء من إليّ. قال عياض: وهو خطأ وتصحيف، وإنّما سقط عليه لفظة " بعض "، ثمّ احتجّ لضعفها بأنّهم لو ضحكوا إليه لكانت أكبر إشارة , وقد قال لهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: هل منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ قالوا: لا. وإذا دلَّ المُحرم الحلال على الصّيد لَم يأكل منه اتّفاقاً، وإنّما اختلفوا في وجوب الجزاء. انتهى. وتعقّبه النّوويّ: بأنّه لا يمكن ردّ هذه الرّواية لصحّتها وصحّة الرّواية الأخرى، وليس في واحدة منهما دلالة ولا إشارة، فإنّ مجرّد الضّحك ليس فيه إشارة. قال بعض العلماء: وإنّما ضحكوا تعجّباً من عروض الصّيد ثمّ ولا قدرة لهم عليه. قلت: قوله. فإنّ مجرّد الضّحك ليس فيه إشارة صحيحٌ، ولكن لا يكفي في ردّ دعوى القاضي، فإنّ قوله " يضحك بعضهم إلى بعض " هو مجرّد ضحك، وقوله " يضحك بعضهم إليّ " فيه مزيد أمر على مجرّد الضّحك، والفرق بين الموضعين أنّهم اشتركوا في رؤيته فاستووا في ضحك بعضهم إلى بعض، وأبو قتادة لَم يكن رآه فيكون ضحك بعضهم إليه بغير سبب باعثاً له على التّفطّن إلى رؤيته.

ويؤيّد ما قال القاضي , ما وقع في رواية أبي النّضر عن مولى أبي قتادة كما في البخاري بلفظ: إذ رأيت النّاس متشوّفين لشيءٍ فذهبت أنظر فإذا هو حمار وحش، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: لا ندري , فقلت: هو حمار وحش. فقالوا: هو ما رأيت. ووقع في حديث أبي سعيد عند البزّار والطّحاويّ وابن حبّان في هذه القصّة " وجاء أبو قتادة وهو حِلٌّ فنكّسوا رءوسهم كراهية أن يحدّوا أبصارهم له فيفطن فيراه ". فكيف يظنّ بهم مع ذلك أنّهم ضحكوا إليه؟ فتبيّن أنّ الصّواب ما قال القاضي. وفي قول الشّيخ: قد صحّت الرّواية. نظرٌ، لأنّ الاختلاف في إثبات هذه اللفظة وحذفها لَم يقع في طريقين مختلفين، وإنّما وقع في سياق إسناد واحد ممّا عند مسلم، فكان مع من أثبت لفظ " بعض " زيادة علم سالمة من الإشكال فهي مقدّمة. وبيّن محمّد بن جعفر في روايته عن أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة كما في البخاري , أنّ قصّة صيده للحمار كانت بعد أن اجتمعوا بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ونزلوا في بعض المنازل ولفظه: كنت يوماً جالساً مع رجال من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في منزل في طريق مكّة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نازل أمامنا , والقوم محرمون وأنا غير محرم. وبيّن في هذه الرّواية السّبب الموجب لرؤيتهم إيّاه دون أبي قتادة بقوله " فأبصروا حماراً وحشيّاً وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبّوا لو أنّي أبصرته، والتفتّ فأبصرته ".

ووقع في حديث أبي سعيد المذكور أنّ ذلك وقع وهُم بعسفان. وفيه نظرٌ، والصّحيح ما جاء في الصحيحين من طريق صالح بن كيسان عن أبي محمّد مولى أبي قتادة عنه قال: كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة، ومنّا المُحرم وغير مُحرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش " الحديث. والقاحة بقافٍ ومهملة خفيفة بعد الألف، وادٍ على نحو ميل من السّقيا إلى جهة المدينة، ويقال لواديها وادي العباديد. وقد بيّن البخاري أنّها من المدينة على ثلاث أي: ثلاث مراحل. قال عياض: رواه النّاس بالقاف إلاَّ القابسيّ فضبطوه عنه بالفاء، وهو تصحيف. قلت: ووقع عند الجوزقيّ من طريق عبد الرّحمن بن بشر عن سفيان عن صالح بن كيسان " بالصّفاح " بدل القاحة، والصّفاح بكسر المهملة بعدها فاء وآخره مهملة. وهو تصحيف , فإنّ الصّفاح موضع بالرّوحاء، وبين الرّوحاء وبين السّقيا مسافة طويلة. وقد تقدّم أنّ الرّوحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثمّ التقوا بالقاحة وبها وقع له الصّيد المذكور، وكأنّه تأخّر هو ورفقته للرّاحة أو غيرها وتقدّمهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى السّقيا حتّى لحقوه. وقوله " فنظرت " هذا فيه التفات، فإنّ السّياق الماضي يقتضي أن يقول فنظر لقوله " فبينا أبي مع أصحابه " فالتّقدير: قال أبي: فنظرت

، وهذا يؤيّد الرّواية الموصولة. قوله: (فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً) في هذا السّياق زيادة على جميع الرّوايات , لأنّها متّفقة على إفراد الحمار بالرّؤية. وأفادت هذه الرّواية , أنّه من جملة الحمر , وأنّ المقتول كان أتاناً. أي أنثى، فعلى هذا في إطلاق الحمار عليها تجوّز. وفي رواية يحيى بن أبي كثير " فحملت عليه فطعنته فأثبتّه. فاستعنتُ بهم فأبوا أن يعينونني ". وفي رواية محمّد بن جعفر عن أبي حازم " فقمت إلى الفرس فأسرجته ثمّ ركبت ونسيت السّوط والرّمح , فقلت لهم: ناولوني السّوط والرّمح. فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيءٍ، فغضبت فنزلت فأخذتهما ثمّ ركبت ". وفي رواية فضيل بن سليمان " فركب فرساً له يقال له الجرادة , فسألهم أن يناولوه سوطه فأبوا فتناوله ". وفي رواية أبي النّضر " وكنت نسيت سوطي فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه، فنزلت فأخذته. وفي رواية أبي محمد نافع مولى أبي قتادة عنه عند البخاري " فقالوا: لا نعينك بشيء إنا محرمون " ووقع عند النّسائيّ من طريق شعبة عن عثمان بن موهب، وعند ابن أبي شيبة عن طريق عبد العزيز بن رفيع، وأخرج مسلم إسنادهما كلاهما عن أبي قتادة " فاختلس من بعضهم سوطاً ".

والرّواية الأولى أقوى، ويمكن أن يجمع بينهما بأنّه رأى في سوط نفسه تقصيراً فأخذ سوط غيره، واحتاج إلى اختلاسه , لأنّه لو طلبه منه اختياراً لامتنع. وفي قولهم " إنّا محرمون " دلالة على أنّهم كانوا قد علموا أنّه يحرم على المُحرم الإعانة على قتل الصّيد. قوله: (فعقر منها أتاناً) في رواية أبي محمد " ثم أتيت الحمار من وراء أكمةٍ فعقرته " , في رواية يحيى بن أبي كثير " فطعنته فأثبتّه " بالمثلثة ثمّ الموحّدة ثمّ المثنّاة. أي: جعلته ثابتاً في مكانه لا حراك به , وفي رواية أبي حازم " فشددت على الحمار فعقرته , ثمّ جئت به وقد مات ". وفي رواية أبي النّضر " حتّى عقرته فأتيت إليهم , فقلت لهم: قوموا فاحتملوا، فقالوا: لا نمسّه، فحملته حتّى جئتهم به ". قوله: (فنزلنا فأكلنا من لحمها. ثمّ قلنا: أنأكل لحم صيدٍ , ونحن محرمون) في رواية يحيى بن أبي كثير " فأكلنا من لحمه " وفي رواية فضيل عن أبي حازم " فأكلوا فندموا ". وفي رواية محمّد بن جعفر عن أبي حازم " فوقعوا يأكلون منه، ثمّ إنّهم شكّوا في أكلهم إيّاه وهم حُرُمٌ فرحنا وخبّأت العضد معي ". وفي رواية مالك عن أبي النّضر " فأكل منه بعضهم , وأبى بعضهم ". وفي حديث أبي سعيد " فجعلوا يشوون منه " وفي رواية المطّلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور " فظللنا نأكل منه ما شئنا طبيخاً

وشواء , ثمّ تزوّدنا منه " وفي رواية أبي محمد " فقال بعضهم: كلوا , وقال بعضهم: لا تأكلوا ". والظاهر أنهم أكلوا أول ما أتاهم به , ثم طرأ عليهم الشكّ. قوله: (فحملنا ما بقي من لحم الأتان) في رواية أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة عند البخاري " فرحنا وخبّأت العضد معي " وفيه " معكم منه بشيءٍ؟ فناولته العضد فأكلها حتّى تعرّقها " , ولهما من رواية أبي حازم قال " معنا رجله، فأخذها فأكلها ". وفي رواية المطّلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور " قد رفعنا لك الذّراع، فأكل منها ". قوله: (قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها , أو أشار إليها؟ قالوا: لا) وفي رواية مسلم " هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيءٍ؟ " وله من طريق شعبة عن عثمان " هل أشرتم أو أعنتم أو اصطدتم؟ " ولأبي عوانة من هذا الوجه " أشرتم أو اصطدتم أو قتلتم؟ ". اتّفقوا على تحريم الإشارة إلى الصّيد ليصطاد، وعلى سائر وجوه الدّلالات على المُحرم، لكن قيّده أبو حنيفة. بما إذا لَم يمكن الاصطياد بدونها. واختلفوا في وجوب الجزاء على المُحرم إذا دلَّ الحلال على الصّيد بإشارةٍ أو غيرها أو أعان عليه. القول الأول: قال الكوفيّون وأحمد وإسحاق: يضمن المُحرم

ذلك. القول الثاني: قال مالك والشّافعيّ: لا ضمان عليه كما لو دلَّ الحلال حلالاً على قتل صيد في الحرم. قالوا: ولا حجّة في حديث الباب، لأنّ السّؤال عن الإعانة والإشارة إنّما وقع ليبيّن لهم. هل يحلّ لهم أكله أو لا؟ ولَم يتعرّض لذكر الجزاء. واحتجّ الموفّق: بأنّه قول عليّ وابن عبّاس , ولا نعلم لهما مخالفاً من الصّحابة. وأجيب: بأنّه اختلف فيه على ابن عبّاس، وفي ثبوته عن عليٍّ نظرٌ، ولأنّ القاتل انفرد بقتله باختياره مع انفصال الدّالّ عنه. فصار كمن دلَّ محرماً أو صائماً على امرأة فوطئها. فإنّه يأثم بالدّلالة , ولا يلزمه كفّارة ولا يفطر بذلك. قوله: (قال: فكلوا ما بقي من لحمها) ولهما من رواية أبي محمد عن أبي قتادة " فقال: كلوه حلال " ولمسلم " هو حلال فكلوه ". وصيغة الأمر هنا للإباحة لا للوجوب، لأنّها وقعت جواباً عن سؤالهم عن الجواز لا عن الوجوب، فوقعت الصّيغة على مقتضى السّؤال. ولَم يذكر في هذه الرّواية أنّه - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحمها، وذكره في روايتي أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة كما تراه , ولَم يذكر ذلك أحدٌ من الرّواة عن عبد الله بن أبي قتادة غيره، ووافقه صالح بن حسّان عند

أحمد وأبي داود الطّيالسيّ وأبي عوانة. ولفظه " فقال: كلوا وأطعموني " وكذا لَم يذكرها أحدٌ من الرّواة عن أبي قتادة نفسه إلَّا المطّلب عند سعيد بن منصور. ووقع لنا من رواية أبي محمّد وعطاء بن يسار وأبي صالح , كما في البخاري في الصّيد، ومن رواية أبي سلمة بن عبد الرّحمن عند إسحاق، ومن رواية عبادة بن تميم وسعد بن إبراهيم عند أحمد. وتفرّد معمرٌ عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة بزيادةٍ مضادّة لروايتي أبي حازم كما أخرجه إسحاق وابن خزيمة والدّارقطنيّ من طريقه , وقال في آخره: فذكرتُ شأنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقلت: إنّما اصطدته لك. فأمر أصحابه فأكلوه، ولَم يأكل منه حين أخبرته أنّي اصطدته له. قال ابن خزيمة وأبو بكر النّيسابوريّ والدّارقطنيّ والجوزقيّ: تفرّد بهذه الزّيادة معمر. قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزّيادة محفوظة احتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يعلمه أبو قتادة أنّه اصطاده من أجله، فلمّا أعلمه امتنع. انتهى وفيه نظرٌ: لأنّه لو كان حراماً ما أقرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنّه صاده لأجله. ويحتمل: أن يكون ذلك لبيان الجواز، فإنّ الذي يحرم على المُحرم إنّما هو الذي يعلم أنّه صيد من أجله، وأمّا إذا أتي بلحمٍ لا يدري ألحم

صيد أو لا فحمله على أصل الإباحة فأكل منه. لَم يكن ذلك حراماً على الآكل. وعندي بعد ذلك فيه وقفة، فإنّ الرّوايات المتقدّمة ظاهرة في أنّ الذي تأخّر هو العضد، وأنّه - صلى الله عليه وسلم - أكلها حتّى تعرّقها. أي: لَم يبق منها إلاَّ العظم، ووقع عند البخاريّ في الهبة " حتّى نفدها " أي: فرّغها، فأيّ شيء يبقى منها حينئذٍ حتّى يأمر أصحابه بأكله. لكنّ رواية أبي محمّد عن أبي قتادة في البخاري في الصّيد " أبقي معكم شيء منه؟ قلت: نعم , قال: كلوا، فهو طعمة أطعمكموها الله " فأشعر بأنّه بقي منها غير العضد، والله أعلم. وسيأتي البحث في حكم ما يصيده الحلال بالنّسبة إلى المُحرم في الصعب بن جثّامة الذي يليه إن شاء الله تعالى. وفي حديث أبي قتادة من الفوائد: أنّ تمنّي المُحرم أن يقع من الحلال الصّيد ليأكل المُحرم منه لا يقدح في إحرامه، وأنّ الحلال إذا صاد لنفسه جاز للمحرم الأكل من صيده، وهذا يقوّي من حمل الصّيد في قوله تعالى (وحرّم عليكم صيد البرّ) على الاصطياد. وفيه الاستيهاب من الأصدقاء وقبول الهديّة من الصّديق. وقال عياض: عندي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - طلب من أبي قتادة ذلك تطييباً لقلب من أكل منه , بياناً للجواز بالقول والفعل لإزالة الشّبهة التي حصلت لهم.

وفيه تسمية الفرس، وألحق البخاري به الحمار فترجم له في الجهاد (¬1). وقال ابن العربيّ: قالوا: تجوز التّسمية لِمَا لا يعقل، وإن كان لا يتفطّن له ولا يجيب إذا نودي، مع أنّ بعض الحيوانات ربّما أدمن على ذلك بحيث يصير يميّز اسمه إذا دعي به. وفيه إمساك نصيب الرّفيق الغائب ممّن يتعيّن احترامه أو ترجى بركته أو يتوقّع منه ظهور حكم تلك المسألة بخصوصها. وفيه تفريق الإمام أصحابه للمصلحة، واستعمال الطّليعة في الغزو. وفيه أنّ عقر الصّيد ذكاته. وجواز الاجتهاد في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن العربيّ: هو اجتهاد بالقرب من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا في حضرته. وفيه العمل بما أدّى إليه الاجتهاد ولو تضادّ المجتهدان , ولا يعاب واحد منهما على ذلك لقوله: فلم يعب ذلك علينا. (¬2) وكأنّ الآكل تمسّك بأصل الإباحة، والممتنع نظر إلى الأمر الطّارئ. وفيه الرّجوع إلى النّصّ عند تعارض الأدلة، وركض الفرس في الاصطياد، والاستعانة بالفارس، وحمل الزّاد في السّفر، والرّفق ¬

_ (¬1) فقال في الجهاد " باب اسم الفرس والحمار " ولفظه (حتى رآه أبو قتادة، فركب فرساً له يقال له الجرادة ..) وقد تقدَّم ذكرها في الشرح. (¬2) ظاهر كلام الشارح أن هذه العبارة أعني (فلم يعب ..) ضمن حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - , لكنّي لَم أرها نصَّاً في الحديث عند من أخرجه. إلاَّ أنها صحيحة من حيث المعنى , وقد جاءت هذه العبارة في قضايا كثيرة في السنة.

بالأصحاب والرّفقاء في السّير. واستعمال الكناية في الفعل كما تستعمل في القول , لأنّهم استعملوا الضّحك في موضع الإشارة لِمَا اعتقدوه من أنّ الإشارة لا تحلّ , وفيه ذكر الحكم مع الحكمة في قوله " إنّما هي طعمة أطعمكموها الله " تكملة: لا يجوز للمحرم قتل الصّيد إلاَّ إن صال عليه فقتله دفعاً فيجوز، ولا ضمان عليه. والله أعلم.

الحديث الواحد والأربعون

الحديث الواحد والأربعون 256 - عن الصّعب بن جثّامة الليثيّ - رضي الله عنه - , أنّه أهدى إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشيّاً , وهو بالأبواء , أو بودّان فردّه عليه. فلمّا رأى ما في وجهي , قال: إنّا لَم نردّه عليك إلاَّ أنّا حرمٌ. (¬1) وفي لفظٍ لمسلمٍ " رجل حمارٍ ". وفي لفظٍ " شقّ حمار " وفي لفظٍ. " عجُز حمارٍ ". (¬2) قال المصنِّف: وجه هذا الحديث أنه ظنَّ أنه صِيد لأجله. والمُحرم لا يأكل ما صِيد لأجله. قوله: (عن الصّعب بن جثّامة الليثيّ - رضي الله عنه -) لَم يختلف على مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس , في سياقه معنعناً , وأنّه من مسند الصّعب , إلاَّ ما وقع في " موطّأ ابن وهب " فإنّه قال في روايته عن ابن عبّاس , إنّ الصّعب بن جثّامة أهدى. فجعله من مسند ابن عبّاس. نبّه على ذلك الدّارقطنيّ في " الموطّآت " , وكذا أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. قال: أهدى الصّعب. والمحفوظ في حديث مالك الأوّل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1729 , 2434 , 2456) ومسلم (1193) من طرق - منهم مالك - عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب - رضي الله عنه - (¬2) أخرجه مسلم (1193) من طرق عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: أهدى الصعب.

وللبخاري من طريق شعيب عن الزّهريّ قال: أخبرني عبيد الله , أنّ ابن عبّاس أخبره , أنّه سمع الصّعب - وكان من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخبر أنّه أهدى. والصّعب بفتح الصّاد وسكون العين المهملتين بعدها موحّدة، وأبوه جثّامة بفتح الجيم وتثقيل المثلثة. وهو من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وكان ابن أخت أبي سفيان بن حرب، أمّه زينب بنت حرب بن أُميَّة، وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبين عوف بن مالك. (¬1) قوله: (حماراً وحشيّاً) لَم تختلف الرّواة عن مالك في ذلك، وتابعه عامّة الرّواة عن الزّهريّ، وخالفهم ابن عيينة عن الزّهريّ فقال " لحم حمار وحش " أخرجه مسلم. لكن بيّن الحميديّ - صاحب ¬

_ (¬1) ويقال: مات في خلافة أبي بكر , ويقال: في آخر خلافة عمر، قاله ابن حبّان. ويقال: مات في خلافة عثمان، وشهد فتح إصطخر، فقد روى ابن السّكن من طريق صفوان ابن عمرو حدثني راشد بن سعد، قال: لَمَّا فتحت إصطخر نادى مناد: ألا إنّ الدجال قد خرج، فلقيهم الصّعب بن جثّامة، قال: لقد سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يخرج الدّجّال حتّى يذهل النّاس عن ذكره .. الحديث. قال ابن السّكن: إسناده صالح. قلت: فيه إرسال، وهو يردُّ على من قال: إنه مات في خلافة أبي بكر. وقال ابن مندة: كان الصّعب ممن شهد فتح فارس. وقال يعقوب بن سفيان: أخطأ من قال: إن الصّعب بن جثّامة مات في خلافة أبي بكر خطأ بيّنا، فقد روى ابن إسحاق عن عمر بن عبد اللَّه , أنه حدّثه عن عروة، قال: لَمَّا ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة كانوا خمسة، منهم: الصّعب بن جثّامة. الإصابة بتجوز.

سفيان - أنّه كان يقول في هذا الحديث " حمار وحش " ثمّ صار يقول " لحم حمار وحش " فدلَّ على اضطرابه فيه. وقد توبع على قوله " لحم حمار وحش " من أوجه فيها مقال. منها: ما أخرجه الطّبرانيّ من طريق عمرو بن دينار عن الزّهريّ , لكنّ إسناده ضعيف، وقال إسحاق في " مسنده ": أخبرنا الفضل بن موسى عن محمّد بن عمرو بن علقمة عن الزّهريّ. فقال " لحم حمار ". وقد خالفه خالد الواسطي عن محمّد بن عمرو , فقال " حمار وحش " كالأكثر. وأخرجه الطّبرانيّ من طريق ابن إسحاق عن الزّهريّ , فقال " رِجْل حمار وحش " وابن إسحاق حسن الحديث , إلاَّ أنّه لا يُحتجّ به إذا خولف. ويدلّ على وهْم مَن قال فيه عن الزّهريّ ذلك , قول ابن جريجٍ: قلت للزّهريّ: الحمار عقير؟ قال: لا أدري. أخرجه ابن خزيمة وابن عوانة في صحيحيهما. وقد جاء عن ابن عبّاس من وجه آخر , أنّ الذي أهداه الصّعب لحم حمار , فأخرجه مسلم من طريق الحاكم عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. قال: أهدى الصّعب إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رِجل حمار. وفي رواية عنده " عجُز حمار وحش يقطر دماً " وأخرجه أيضاً من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد قال تارة " حمار وحش " وتارة " شقّ حمار ". ويقوّي ذلك: ما أخرجه مسلم أيضاً من طريق طاوسٍ عن ابن

عبّاس قال: قدم زيد بن أرقم، فقال له عبد الله بن عبّاس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أُهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام؟ قال: أُهدي له عضو من لحم صيد فردّه , وقال: إنّا لا نأكله، إنّا حرم. وأخرجه أبو داود وابن حبّان من طريق عطاء عن ابن عبّاس أنّه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فذكره. واتّفقت الرّوايات كلّها على أنّه ردّه عليه، إلاَّ ما رواه ابن وهب والبيهقيّ من طريقه بإسنادٍ حسن من طريق عمرو بن أُميَّة , أنّ الصّعب أهدى للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عجُز حمار وحش , وهو بالجحفة , فأكل منه وأكل القوم. قال البيهقيّ: إن كان هذا محفوظاً. فلعله ردّ الحيّ وقَبِل اللحم. قلت: وفي هذا الجمع نظرٌ لِمَا بيّنته، فإن كانت الطّرق كلّها محفوظة فلعله ردّه حيّاً , لكونه صِيد لأجله , وردّ اللحم تارة لذلك وقَبِلَه تارة أخرى حيث علم أنّه لَم يصد لأجله. وقد قال الشّافعيّ في " الأمّ ": إن كان الصّعب أهدى له حماراً حيّاً فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حيّ , وإن كان أهدى له لحماً فقد يحتمل أن يكون علم أنّه صيد له. ونقل التّرمذيّ عن الشّافعيّ , أنّه ردّه لظنّه أنّه صيد من أجله. فتركه على وجه التّنزّه. ويحتمل: أن يُحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أُميَّة على وقت آخر وهو حال رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من مكّة.

ويؤيّده: أنّه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة , وفي غيرها من الرّوايات بالأبواء أو بودّان. وقال القرطبيّ: يحتمل أن يكون الصّعب أحضر الحمار مذبوحاً , ثمّ قطع منه عضواً بحضرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقدّمه له، فمَن قال: أهدى حماراً , أراد بتمامه مذبوحاً حيّاً، ومَن قال: لحم حمار , أراد ما قدّمه للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: ويحتمل أن يكون مَن قال حماراً. أطلق وأراد بعضه مجازاً. قال: ويحتمل أنّه أهداه له حيّاً فلمّا ردّه عليه ذكّاه , وأتاه بعضوٍ منه ظانّاً أنّه إنّما ردّه عليه لمعنىً يختصّ بجملته، فأعلمه بامتناعه أنّ حكم الجزء من الصّيد حكم الكلّ. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرّوايات. وقال النّوويّ: ترجم البخاريّ بكون الحمار حيّاً (¬1)، وليس في سياق الحديث تصريح بذلك، وكذا نقلوا هذا التّأويل عن مالك، وهو باطل , لأنّ الرّوايات التي ذكرها مسلم صريحة في أنّه مذبوح. انتهى وإذا تأمّلت ما تقدّم لَم يحسن إطلاقه بطلان التّأويل المذكور , ولا سيّما في رواية الزّهريّ التي هي عمدة هذا الباب. وقد قال الشّافعيّ في " الأمّ ": حديث مالك أنّ الصّعب أهدى حماراً , أثبت من حديث من روى , أنّه أهدى لحم حمار ¬

_ (¬1) قال البخاري: باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لَم يَقبل.

وقال التّرمذيّ: روى بعض أصحاب الزّهريّ في حديث الصّعب " لحم حمار وحش " وهو غير محفوظ. قوله: (بالأبواء) بفتح الهمزة وسكون الموحّدة وبالمدّ: جبل من عمل الفرع بضمّ الفاء والرّاء بعدها مهملة. قيل: سُمِّي الأبواء لوبائه على القلب. وقيل: لأنّ السّيول تتبوّؤه. أي: تحلّه. والأبواء وودَّان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية قوله: (أو بودّان) شكّ من الرّاوي، وهو بفتح الواو وتشديد الدّال وآخرها نون موضع بقرب الجحفة. وقد سبق في حديث عمرو بن أُميَّة , أنّه كان بالجحفة، وودّان أقرب إلى الجحفة من الأبواء , فإنّ من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرين ميلاً، ومن ودّان إلى الجحفة ثمانية أميال. وبالشّكّ جزم أكثر الرّواة. وجزم ابن إسحاق وصالح بن كيسان عن الزّهريّ بودّان. وجزم معمر وعبد الرّحمن بن إسحاق ومحمّد بن عمرو. بالأبواء. والذي يظهر لي أنّ الشّكّ فيه من ابن عبّاس , لأنّ الطّبرانيّ أخرج الحديث من طريق عطاء عنه , على الشّكّ أيضاً. قوله: (فلمّا رأى ما في وجهه) في رواية شعيب " فلمّا عرف في وجهي ردَّه هديّتي ". وفي رواية الليث عن الزّهريّ عند التّرمذيّ " فلمّا رأى ما في وجهه من الكراهية " وكذا لابن خزيمة من طريق ابن جريجٍ المذكورة.

قوله: (إنّا لَم نردّه عليك) في رواية شعيب وابن جريجٍ " ليس بنا ردّ عليك " وفي رواية عبد الرّحمن بن إسحاق عن الزّهريّ عند الطّبرانيّ " إنّا لَم نردّه عليك كراهية له , ولكنّا حرم ". قال عياض: ضبطناه في الرّوايات " لَم نردّه " بفتح الدّال، وأبى ذلك المحقّقون من أهل العربيّة , وقالوا: الصّواب أنّه بضمّ الدّال , لأنّ المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها له ضمّة الهاء بعدها. قال: وليس الفتح بغلطٍ , بل ذكره ثعلب في الفصيح. نعم تعقّبوه عليه بأنّه ضعيف، وأوهم صنيعه أنّه فصيح، وأجازوا أيضاً الكسر. وهو أضعف الأوجه. قلت: ووقع في رواية الكشميهنيّ بفكّ الإدغام " لَم نردده " بضمّ الأولى وسكون الثّانية ولا إشكال فيه. قوله: (إلاَّ أنّا حُرُم) زاد صالح بن كيسان عند النّسائيّ " لا نأكل الصّيد " وفي رواية سعيد عن ابن عبّاس " لولا أنّا محرمون لقبلناه منك " واستدل بهذا الحديث على تحريم الأكل من لحم الصّيد على المُحرم مطلقاً , لأنّه اقتصر في التّعليل على كونه محرماً فدلَّ على أنّه سبب الامتناع خاصّة، وهو قول عليّ وابن عبّاس وابن عمر والليث والثّوريّ وإسحاق لحديث الصّعب هذا. ولِمَا أخرجه أبو داود وغيره من حديث عليٍّ , أنّه قال لناسٍ من

أشجع: أتعلمون أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى له رجلٌ حمارَ وحشٍ وهو محرم فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم. لكن يعارض هذا الظّاهر. ما أخرجه مسلم أيضاً من حديث طلحة , أنّه أهدي له لحم طير وهو محرم، فَوَقَفَ مَن أَكَلَه , وقال: أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديث أبي قتادة المذكور في الباب قبله , وحديث عمير بن سلمة , أنّ البهزيّ أهدى للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ظبياً وهو محرم، فأمر أبا بكر أن يقسمه بين الرّفاق. أخرجه مالك وأصحاب السّنن وصحَّحه ابن خزيمة وغيره. وبالجواز مطلقاً. قال الكوفيّون وطائفة من السّلف. وجمع الجمهور بين ما اختلف من ذلك , بأنّ أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثمّ يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرّدّ محمولة على ما صاده الحلال لأجل المُحرم. قالوا: والسّبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصّعب , إنّ الصّيد لا يحرم على المرء إذا صيد له إلاَّ إذا كان محرماً، فبيّن الشّرط الأصليّ وسكت عمّا عداه فلم يدلّ على نفيه، وقد بيّنه في الأحاديث الأخر. ويؤيّد هذا الجمع حديث جابر مرفوعاً: صيد البرّ لكم حلال ما لَم تصيدوه أو يصاد لكم. أخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ وابن خزيمة. قلت: وقد تقدّم أنّ عند النّسائيّ من رواية صالح ابن كيسان: إنّا حرم لا نأكل الصّيد. فبيّن العلتين جميعاً.

وجاء عن مالك تفصيل آخر: بين ما صِيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه , أو بعد إحرامه فلا. وعن عثمان. التّفصيل بين ما يصاد لأجله من المُحرمين فيمتنع عليه , ولا يمتنع على محرم آخر. وقال ابن المنير في الحاشية: حديث الصّعب يشكل على مالك , لأنّه يقول: ما صيد من أجل المُحرم يحرم على المُحرم وعلى غير المُحرم، فيمكن أن يقال قوله " فردّه عليه " لا يستلزم أنّه أباح له أكله، بل يجوز أن يكون أمره بإرساله إن كان حيّاً , وطرحه إن كان مذبوحاً. فإنّ السّكوت عن الحكم لا يدلّ على الحكم بضدّه. وتعقّب: بأنّه وقت البيان فلو لَم يجز له الانتفاع به لَم يردّه عليه أصلاً إذ لا اختصاص له به. وفي حديث الصّعب الحكم بالعلامة لقوله " فلمّا رأى ما في وجهي " وفيه جواز ردّ الهديّة لعلةٍ، وترجم له البخاري " من ردّ الهديّة لعلةٍ " فإنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بيّن العلة في عدم قبوله هديّته لكونه كان محرماً، والمُحرم لا يأكل ما صيد لأجله. واستنبط منه المُهلَّب ردّ هديّة من كان ماله حراماً أو عرف بالظّلم. وفيه الاعتذار عن ردّ الهديّة تطييباً لقلب المهدي، وأنّ الهبة لا تدخل في الملك إلاَّ بالقبول، وأنّ قدرته على تملّكها لا تصيّره مالكاً لها، وأنّ على المُحرم أن يرسل ما في يده من الصّيد الممتنع عليه اصطياده.

تكملة: قال ابن بطّال: اتّفق أئمّة الفتوى من أهل الحجاز والعراق وغيرهم , على أنّ المُحرم إذا قتل الصّيد عمداً أو خطأ فعليه الجزاء وهذا القول الأول. القول الثاني: خالف أهل الظّاهر وأبو ثور وابن المنذر من الشّافعيّة في الخطأ، وتمسّكوا بقوله تعالى (متعمّداً) فإنّ مفهومه أنّ المخطئ بخلافه، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد. القول الثالث: عكس الحسن ومجاهد فقالا: يجب الجزاء في الخطأ دون العمد , فيختصّ الجزاء بالخطأ والنّقمة بالعمد. وعنهما: يجب الجزاء على العامد أوّل مرّة، فإن عاد كان أعظم لائمة وعليه النّقمة لا الجزاء. قال الموفّق في " المغني ": لا نعلم أحداً خالف في وجوب الجزاء على العامد غيرهما. واختلفوا في الكفّارة. فقال الأكثر: هو مخيّر كما هو ظاهر الآية. وقال الثّوريّ: يقدّم المثل فإنّ لَم يجد أطعم فإن لَم يجد صام. وقال سعيد بن جبير: إنّما الطّعام والصّيام فيما لا يبلغ ثمن الصّيد. واتّفق الأكثر على تحريم أكل ما صاده المُحرم. وقال الحسن والثّوري وأبو ثور وطائفة: يجوز أكله، وهو كذبيحة السّارق، وهو وجه للشّافعيّة. وقال الأكثر أيضاً: إنّ الحكم في ذلك ما حكم به السّلف لا

يتجاوز ذلك، وما لَم يحكموا فيه يستأنف فيه الحكم، وما اختلفوا فيه يجتهد فيه. وقال الثّوريّ: الاختيار في ذلك للحكمين في كلّ زمن. وقال مالك: يستأنف الحكم، والخيار إلى المحكوم عليه، وله أن يقول للحَكَمَين لا تحكما عليّ إلاَّ بالإطعام. وقال الأكثر: الواجب في الجزاء نظير الصّيد من النّعم. وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة , ويجوز صرفها في المثل. وقال الأكثر: في الكبير كبير وفي الصّغير صغير، وفي الصّحيح صحيح وفي الكسير كسير. وخالف مالك فقال: في الكبير والصّغير كبير , وفي الصّحيح والمعيب صحيح. واتّفقوا على أنّ المراد بالصّيد ما يجوز أكله للحلال من الحيوان الوحشيّ , وأن لا شيء فيما يجوز قتله. واختلفوا في المتولد. فألحقه الأكثر بالمأكول، ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة جدّاً فلنقتصر على هذا القدر هنا.

كتاب البيوع

كتاب البيوع البيوع جمع بيعٍ، وجمع لاختلاف أنواعه. والبيع نقل ملكٍ إلى الغير بثمنٍ، والشّراء قبوله، ويطلق كل منهما على الآخر. وأجمع المسلمون على جواز البيع , والحكمة تقتضيه لأنّ حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالباً , وصاحبه قد لا يبذله له. ففي تشريع البيع وسيلةٌ إلى بلوغ الغرض من غير حرجٍ. وقول الله تعالى (وأحلَّ اللهُ البيع وحرّم الرّبا) أصلٌ في جواز البيع، وللعلماء فيها أقوال. القول الأول: وهو أصحّها أنّه عامٌّ مخصوص، فإنّ اللفظ لفظُ عموم يتناول كل بيع فيقتضي إباحة الجميع، لكن قد منع الشّارع بيوعاً أخرى وحرّمها , فهو عامٌّ في الإباحة مخصوصٌ بما لا يدل الدّليل على منعه. القول الثاني: عامٌّ أريد به الخصوص. القول الثالث: مجملٌ بيّنته السّنّة. وكل هذه الأقوال تقتضي أنّ المفرد المحلى بالألف واللام يعمّ. القول الرّابع: أنّ اللام في البيع للعهد , وأنّها نزلت بعد أن أباح الشّرع بيوعاً وحرّم بيوعاً فأريد بقوله: (وأحل الله البيع) أي: الذي أحله الشّرع من قبل. ومباحث الشّافعيّ وغيره تدلُّ على أنّ البيوع الفاسدة تسمّى بيعاً

وإن كانت لا يقع بها الحنث لبناء الأيمان على العرف , وقوله تعالى (إلَّا أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم) تدلُّ على إباحة التّجارة في البيوع الحالة. وأوّلها في البيوع المؤجّلة

الحديث الأول

الحديث الأول 257 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنه قال: إذا تبايع الرجلان، فكل واحدٍ منهما بالخِيَار، ما لَم يتفرَّقا، وكانا جميعاً، أو يخيّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولَم يترك واحدٌ منهما البيع فقد وجب البيع. (¬1) الحديث الثاني 258 - وما في معناه من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيّعان بالخِيَار ما لَم يتفرّقا , أو قال حتى يتفرّقا , فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما. (¬2) قوله: (إذا تبايع الرجلان) وللبخاري " إنّ المتبايعين بالخِيَار " كذا للأكثر، وحكى ابن التّين (¬3) في رواية القابسيّ " إنّ المتبايعان " قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2001 , 2003 , 2005 , 2006) ومسلم (1531) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (2007) ومسلم (1531) من طريق عمرو بن دينار , والبخاري (1020) من طريق سالم بن عبد الله كلاهما عن ابن عمر مختصراً. (¬2) أخرجه البخاري (1973 , 1976 , 2002 , 2004 , 2008) ومسلم (1532) من طريق قتادة عن صالح أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (1532) من طريق أبي التياح عن عبد الله بن الحارث به. (¬3) هو عبدالواحد بن التين , سبق ترجمته (1/ 151)

وهي لغةٌ. وفي رواية أيّوب عن نافع في البخاري " البيّعان " بتشديد التّحتانيّة. والبيّع بمعنى البائع كضيّقٍ وضائقٍ وصيّن وصائن , وليس كبيّنٍ وبائنٍ فإنّهما متغايران كقيّمٍ وقائمٍ. واستعمال البيّع في المشتري. إمّا على سبيل التّغليب , أو لأنّ كلا منهما بائعٌ. قوله: (فكل واحدٍ منهما بالخِيَار) الخِيَار بكسر الخاء اسمٌ من الاختيار أو التّخيير، وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه. وهو خِيَاران: خِيَار المجلس وخِيَار الشّرط، وزاد بعضهم خِيَار النّقيصة، وهو مندرجٌ في الشّرط فلا يزاد. وروى البيهقيّ من طريق أبي علقمة الغرويّ عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً " الخِيَار ثلاثة أيّام " وهذا كأنّه مختصرٌ من الحديث الذي رواه أحمد (¬1) من طريق محمّد بن إسحاق عن نافع: كان رجلٌ من الأنصار. ¬

_ (¬1) طريق ابن إسحاق عن نافع. عزاها الشارح رحمه الله في باب " كم يجوز الخِيَار " لأصحاب السنن , ثم عزاه في باب " ما يكره من الخداع في البيع " لأحمد. وهو الصواب , وهو الذي أثبتّه هنا. وإنما رواه ابن ماجه في " السنن " (2355) من طريق عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو. وهي رواية الدارقطني والبيهقي كما ذكر الشارح. وقد أخرج القصّةَ الخمسةُ عن أنس - رضي الله عنه -. نحوه. وأصل القصة عند البخاري (2011) ومسلم (1533) عن ابن عمر , أنَّ رجلاً ذكَرَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدع في البيوع، فقال: إذا بايعتَ فقل لا خلابة. قال الشارح (4/ 337): قوله (لا خلابة) بكسر المعجمة وتخفيف اللام. أي: لا خديعة. ولا لنفي الجنس. أي: لا خديعة في الدين , لأنَّ الدين النصيحة.

زاد ابن الجارود في " المنتقى " من طريق سفيان عن نافعٍ , أنّه حبّان بن منقذٍ، وهو بفتح المهملة والموحّدة الثّقيلة. ورواه الدّارقطنيّ من طريق عبد الأعلى , والبيهقيّ من طريق يونس بن بكير كلاهما عن ابن إسحاق به. وزاد فيه. قال ابن إسحاق: فحدّثني محمّد بن يحيى بن حبّان قال: هو جدّي منقذ بن عمرو. وكذلك رواه ابن منده من وجه آخر عن ابن إسحاق. زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى عنه " ثمّ أنت بالخِيَار في كل سلعةٍ ابتعتها ثلاث ليالٍ، فإن رضيت فأمسِك , وإن سخطت فاردُد , فبقي حتّى أدرك زمان عثمان - وهو ابن مائةٍ وثلاثين سنةً - فكثر النّاس في زمن عثمان، وكان إذا اشترى شيئاً فقيل له: إنّك غُبنت فيه رجع به , فيشهد له الرّجل من الصّحابة بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد جعله بالخِيَار ثلاثاً. فيردّ له دراهمه. قال ابن العربيّ: وأمّا ما روي عن عمر , أنّه كُلّم في البيع فقال: ما أجد لكم شيئاً أوسع ممّا جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبّان بن منقذ ثلاثة أيّام. فمداره على ابن لهيعة , وهو ضعيفٌ. انتهى. وهو كما قال. أخرجه الطّبرانيّ والدّارقطنيّ وغيرهما من طريقه.

وبه احتجّ للحنفيّة والشّافعيّة , في أنّ أمد الخِيَار ثلاثة أيّام من غير زيادة , لأنّه حكمٌ ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على أقصى ما ورد فيه. ويؤيّده جعل الخِيَار في المصرّاة ثلاثة أيّامٍ، واعتبار الثّلاث في غير موضع. وأغرب بعض المالكيّة , فقال: إنّما قصره على ثلاثٍ , لأنّ معظم بيعه كان في الرّقيق، وهذا يحتاج إلى دليلٍ. ولا يكفي فيه مجرّد الاحتمال. وأنكر مالكٌ التّوقيت في خِيَار الشّرط ثلاثة أيّام بغير زيادة , وإن كانت في الغالب يمكن الاختيار فيها، لكن لكل شيء أمدٌ بحسبه يتخيّر فيه، فللدّابّة مثلاً والثّوب يوم أو يومان , وللجارية جمعةٌ , وللدّار شهرٌ. وقال الأوزاعيّ: يمتدّ الخِيَار شهراً وأكثر بحسب الحاجة إليه. وقال الثّوريّ: يختصّ الخِيَار بالمشتري , ويمتدّ له إلى عشرة أيّام وأكثر، ويقال إنّه انفرد بذلك. وذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمّد وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ وآخرون. إلى أنّه لا أَمَدَ لمدّة خِيَار الشّرط , بل البيع جائزٌ والشّرط لازمٌ إلى الوقت الذي يشترطانه. وهو اختيار ابن المنذر، وقد صحّ القول بامتداد الخِيَار عن عمر وغيره. فإن شرطا أو أحدهما الخِيَار مطلقاً.

القول الأول: قال الأوزاعيّ وابن أبي ليلى: هو شرطٌ باطلٌ والبيع جائزٌ. القول الثاني: قال الثّوريّ والشّافعيّ وأصحاب الرّأي: يبطل البيع أيضاً. القول الثالث: قال أحمد وإسحاق: للذي شرط الخِيَار أبداً. قوله: (ما لَم يتفرقا) في رواية النّسائيّ " يفترقا " بتقديم الفاء، ونقل ثعلب عن الفضل بن سلمة: افترقا بالكلام , وتفرّقا بالأبدان. وردّه ابن العربيّ بقوله تعالى (وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب) فإنّه ظاهرٌ في التّفرّق بالكلام لا أنّه بالاعتقاد. وأجيب: بأنّه من لازمه في الغالب , لأنّ من خالف آخر في عقيدته كان مستدعياً لمفارقته إيّاه ببدنه. ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والحقّ حمل كلام الفضل على الاستعمال بالحقيقة، وإنّما استعمل أحدهما في موضع الآخر اتّساعاً. وفي رواية أيّوب عن نافعٍ في البخاري " ما لَم يتفرّقا , أو يقل أحدهما لصاحبه: اختر " وهو ظاهرٌ في حصر لزوم البيع بهذين الأمرين. القول الأول: فيه دليلٌ على إثبات خِيَار المجلس , وفي البخاري عن نافع , قال: كان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يُعجبه فارق صاحبه ". وللترمذي من طريق بن فضيل عن يحيى بن سعيد: وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعاً - وهو قاعد - قام ليجب له.

ولمسلم من طريق ابن جريج قال: أملى عليَّ نافع. فذكر الحديث. وفيه قال نافع: وكان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله. قام فمشى هنيهة , ثم رجع إليه. فحَمَله على التّفرّق بالأبدان، وكذلك أبو برزة الأسلميّ، ولا يُعرف لهما مخالفٌ من الصّحابة. قال الشافعي في الأم: أخبرنا ابن عيينة عن عبد الله بن طاوس عن أبيه. قال: خيَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً بعد البيع. قال: وكان أبي يحلف ما الخيار إلَّا بعد البيع. وروى ابن أبي شيبة عن جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة وعطاء , قالا: البيّعان بالخيار حتى يتفرَّقا عن رضا. ونقل ابن المنذر القول بخِيَار المجلس أيضاً. عن سعيد بن المسيّب والزّهريّ وابن أبي ذئبٍ من أهل المدينة، وعن الحسن البصريّ والأوزاعيّ وابن جريجٍ وغيرهم. وبالغ ابن حزمٍ فقال: لا نعلم لهم مخالفاً من التّابعين إلَّا النّخعيّ وحده , وروايةً مكذوبةً عن شُريح، والصّحيح عنه القول به. وأشار إلى ما رواه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن حجّاج عن الحكم عن شُريح قال: إذا تكلَّم الرّجل بالبيع فقد وجب البيع. وإسناده ضعيفٌ لأجل حجّاجٍ. وهو ابن أرطاة. القول الثاني: خالف في ذلك إبراهيم النّخعيّ. فروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عنه قال: البيع جائزٌ وإن لَم

يتفرّقا. ورواه سعيد بن منصور عنه بلفظ " إذا وجبت الصّفقة فلا خِيَار ". وبذلك قال المالكيّة إلَّا ابن حبيبٍ والحنفيّة كلّهم. وقد ذهبوا في الجواب عن حديْثَي الباب فرقاً: فمنهم: من ردّه , لكونه معارضاً لِمَا هو أقوى منه. ومنهم: من صحَّحه. ولكن أوّله على غير ظاهره. فقالت طائفةٌ منهم: هو منسوخٌ بحديث " المسلمون على شروطهم " والخِيَار بعد لزوم العقد يفسد الشّرط، وبحديث التّحالف عند اختلاف المتبايعين , لأنّه يقتضي الحاجة إلى اليمين. وذلك يستلزم لزوم العقد. ولو ثبت الخِيَار لكان كافياً في رفع العقد، وبقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) والإشهاد إن وقع بعد التّفرّق لَم يطابق الأمر , وإن وقع قبل التّفرّق لَم يصادف محلاًّ. ولا حجّة في شيءٍ من ذلك , لأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدّليلين مهما أمكن لا يُصار معه إلى التّرجيح، والجمع هنا ممكنٌ بين الأدلة المذكورة بغير تعسّفٍ ولا تكلّفٍ. وقالت طائفة: هو من رواية مالكٍ وقد عمل بخلافه , فدلَّ على أنّه عارضه ما هو أقوى منه، والرّاوي إذا عمل بخلاف ما روى دلَّ على وهْن المرويّ عنده. وتعقّب: بأنّ مالكاً لَم يتفرّد به، فقد رواه غيره وعمل به , وهم أكثر عدداً روايةً وعملاً. وقد خصَّ كثيرٌ من محقّقي أهل الأصول الخلاف المشهور - فيما إذا

عمل الرّاوي بخلاف ما روى - بالصّحابة دون ما جاء بعدهم، ومن قاعدتهم أنّ الرّاوي أعلم بما روى، وابن عمر هو راوي الخبر , وكان يفارق إذا باع ببدنه فاتّباعه أولى من غيره. وقالت طائفةٌ: هو معارَضٌ بعمل أهل المدينة، ونقل ابن التّين عن أشهب بأنّه مخالفٌ لعمل أهل مكّة أيضاً. وتعقّب: بأنّه قال به ابن عمر ثمّ سعيد بن المسيّب ثمّ الزّهريّ ثمّ ابن أبي ذئبٍ كما مضى، وهؤلاء من أكابر علماء أهل المدينة في أعصارهم , ولا يُحفظ عن أحدٍ من علماء المدينة القول بخلافه سوى عن ربيعة. وأمّا أهل مكّة فلا يُعرف أحدٌ منهم القول بخلافه، فقد سبق عن عطاءٍ وطاوسٍ وغيرهما من أهل مكّة. وقد اشتدّ إنكار ابن عبد البرّ وابن العربيّ على من زعم من المالكيّة , أنّ مالكاً ترك العمل به لكون عمل أهل المدينة على خلافه. قال ابن العربيّ: إنّما لَم يأخذ به مالكٌ , لأنّ وقت التّفرّق غير معلومٍ فأشبه بيوع الغرر كالملامسة. وتعقّب: بأنّه يقول بخِيَار الشّرط ولا يحدّه بوقتٍ معيّنٍ، وما ادّعاه من الغرر موجودٌ فيه , وبأنّ الغرر في خِيَار المجلس معدومٌ , لأنّ كلاً منهما متمكّنٌ من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو بالفعل فلا غرر. وقالت طائفةٌ: هو خبرُ واحدٍ فلا يعمل به إلَّا فيما تعمّ به البلوى. ورُدّ: بأنّه مشهورٌ فيعمل به كما ادّعوا نظير ذلك في خبر القهقهة في

الصّلاة وإيجاب الوتر. وقال آخرون: هو مخالفٌ للقياس الجليّ في إلحاق ما قبل التّفرّق بما بعده. وتعقّب: بأنّ القياس مع النّصّ فاسد الاعتبار. وقال آخرون: التّفرّق بالأبدان محمولٌ على الاستحباب تحسيناً للمعاملة مع المسلم لا على الوجوب. وقال آخرون: هو محمولٌ على الاحتياط للخروج من الخلاف وكلاهما على خلاف الظّاهر. وقالت طائفةٌ: المراد بالتّفرّق في الحديث التّفرّق بالكلام كما في عقد النّكاح والإجارة والعتق. وتعقّب: بأنّه قياسٌ مع ظهور الفارق , لأنّ البيع ينقل فيه ملك رقبة المبيع ومنفعته بخلاف ما ذكر. وقال ابن حزمٍ: سواءٌ قلنا التّفرّق بالكلام أو بالأبدان. فإنّ خِيَار المجلس بهذا الحديث ثابتٌ، أمّا حيث قلنا التّفرّق بالأبدان فواضحٌ، وحيث قلنا بالكلام فواضح أيضاً، لأنّ قول أحد المتبايعين مثلاً بعتَكَه بعشرةٍ , وقول الآخر بل بعشرين مثلاً افتراقٌ في الكلام بلا شكٍّ، بخلاف ما لو قال: اشتريته بعشرةٍ فإنّهما حينئذٍ متوافقان , فيتعيّن ثبوت الخِيَار لهما حين يتّفقان لا حين يتفرّقان وهو المدّعى. وقالت طائفة: المراد بالمتبايعين المتساومان. ورُدّ: بأنّه مجازٌ والحمل على الحقيقة أو ما يقرب منها أولى.

واحتجّ الطّحاويّ بآياتٍ وأحاديث استعمل فيها المجاز , وقال: من أنكر استعمال لفظ البائع في السّائم فقد غفل عن اتّساع اللّغة. وتعقّب: بأنّه لا يلزم من استعمال المجاز في موضعٍ طرده في كلّ موضعٍ، فالأصل من الإطلاق الحقيقة حتّى يقوم الدّليل على خلافه. وقالوا أيضاً: وقت التّفرّق في الحديث هو ما بين قول البائع: بعتك هذا بكذا وبين قول المشتري: اشتريت، قالوا: فالمشتري بالخِيَار في قوله اشتريت أو تركه والبائع بالخِيَار إلى أن يوجب المشتري، وهكذا حكاه الطّحاويّ عن عيسى بن أبان منهم، وحكاه ابن خويزمندادٍ عن مالكٍ. قال عيسى بن أبان: وفائدته تظهر فيما لو تفرّقا قبل القبول فإنّ القبول يتعذّر. وتعقّب: بأنّ تسميتهما متبايعين قبل تمام العقد مجازٌ أيضاً، فأجيب: بأنّ تسميتهما متبايعين بعد تمام العقد مجازٌ أيضاً، لأنّ اسم الفاعل في الحال حقيقةٌ وفيما عداه مجازٌ، فلو كان الخِيَار بعد انعقاد البيع لكان لغير البيّعين , والحديث يردّه فتعيّن حمل التّفرّق على الكلام. وأجيب: بأنّه إذا تعذّر الحمل على الحقيقة تعيّن المجاز، وإذا تعارض المجازان فالأقرب إلى الحقيقة أولى. وأيضاً فالمتبايعان لا يكونان متبايعين حقيقةً إلَّا في حين تعاقدهما، لكنّ عقدهما لا يتمّ إلَّا بأحد أمرين. الأول: إمّا بإبرام العقد.

الثاني: التّفرّق على ظاهر الخبر , فصحّ أنّهما متعاقدان ما داما في مجلس العقد، فعلى هذا تسميتهما متبايعين حقيقةٌ بخلاف حمل المتبايعين على المتساومين. فإنّه مجازٌ باتّفاقٍ. وقالت طائفةٌ: التّفرّق يقع بالأقوال كقوله تعالى (وإن يتفرّقا يغن الله كلاً من سعته). وأجيب: بأنّه سُمي بذلك لكونه يفضي إلى التّفرّق بالأبدان. قال البيضاويّ (¬1): ومن نفى خِيَار المجلس ارتكب مجازين بحمله التّفرّق على الأقوال وحمله المتبايعين على المتساومين، وأيضاً فكلام الشّارع يصان عن الحمل عليه، لأنّه يصير تقديره إنّ المتساومين إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لَم يعقداه , وهو تحصيل الحاصل , لأنّ كل أحد يعرف ذلك. ويقال لمن زعم أنّ التّفرّق بالكلام: ما هو الكلام الذي يقع به التّفرّق، أهو الكلام الذي وقع به العقد أم غيره؟ فإن كان غيره فما هو؟ فليس بين المتعاقدين كلامٌ غيره , وإن كان هو ذلك الكلام بعينه لزم أن يكون الكلام الذي اتّفقا عليه. وتمّ بيعهما به هو الكلام الذي افترقا به وانفسخ بيعهما به. وهذا في غاية الفساد. وقال آخرون: العمل بظاهر الحديث متعذّرٌ فيتعيّن تأويله، وبيان تعذّره أنّ المتبايعين إن اتّفقا في الفسخ أو الإمضاء لَم يثبت لواحدٍ منهما ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي , سبق ترجمته (1/ 191)

على الآخر خِيَار، وإن اختلفا فالجمع بين الفسخ والإمضاء جمعٌ بين النّقضين. وهو مستحيلٌ. وأجيب: بأنّ المراد أنّ لكلٍّ منهما الخِيَار في الفسخ، وأمّا الإمضاء فلا احتياج إلى اختياره فإنّه مقتضى العقد والحال يفضي إليه مع السّكوت بخلاف الفسخ. وقال آخرون: حديث ابن عمر هذا وحكيم بن حزام معارَضٌ بحديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعاً: البيّعان بالخِيَار ما لَم يتفرّقا إلَّا أن تكون صفقة خِيَار، ولا يحلّ له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله. قال ابن العربيّ: ظاهر هذه الزّيادة مخالفٌ لأوّل الحديث في الظّاهر، فإن تأوّلوا الاستقالة فيه على الفسخ تأوّلنا الخِيَار فيه على الاستقالة , وإذا تعارض التّأويلان فزع إلى التّرجيح، والقياس في جانبنا. وتعقّب: بأنّ حمل الاستقالة على الفسخ أوضح من حمل الخِيَار على الاستقالة، لأنّه لو كان المراد حقيقة الاستقالة لَم تمنعه من المفارقة , لأنّها لا تختصّ بمجلس العقد، وقد أثبت في أوّل الحديث الخِيَار ومدّه إلى غاية التّفرّق، ومن المعلوم أنّ من له الخِيَار لا يحتاج إلى الاستقالة فتعيّن حملها على الفسخ. وعلى ذلك حَملَه التّرمذيّ وغيره من العلماء فقالوا: معناه لا يحلّ له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع , لأنّ العرب تقول:

استقلت ما فات عنّي إذا استدركه، فالمراد بالاستقالة فسخ النّادم منهما للبيع. وحملوا نفي الحلّ على الكراهة , لأنّه لا يليق بالمروءة وحسن معاشرة المسلم، إلَّا أنّ اختيار الفسخ حرامٌ. قال ابن حزمٍ: احتجاجهم بحديث عمرو بن شعيبٍ على التّفرّق بالكلام لقوله فيه " خشية أن يستقيله " لكون الاستقالة لا تكون إلَّا بعد تمام البيع، وصحّة انتقال الملك تستلزم أن يكون الخبر المذكور لا فائدة له لأنّه يلزم من حمل التّفرّق على القول إباحة المفارقة، خشي أن يستقيله أو لَم يخش. وقال بعضهم: التّفرّق بالأبدان في الصّرف قبل القبض يبطل العقد. فكيف يثبت العقد ما يبطله؟. وتعقّب: باختلاف الجهة وبالمعارضة بنظيره، وذلك أنّ النّقد وترك الأجل شرطٌ لصحّة الصّرف وهو يفسد السّلم عندهم. واحتجّ الطّحاويّ بقول ابن عمر " ما أدركت الصّفقة حيّاً مجموعاً فهو من مال المبتاع " (¬1) ¬

_ (¬1) علّقه البخاري في " صحيحه ". ووصله الدارقطني (4/ 6) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (13/ 256) من حديث حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قال ابن حجر في " التغليق " (3/ 243): صحيح الإسناد. وقال في " الفتح " (4/ 352): قوله (ما أدركت الصفقة) أي: العقد. (حياً) أي بمهملة وتحتانية مثقلة مجموعاً. أي لم يتغير عن حالته فهو من المبتاع. أي من المشتري. وإسناد الإدراك إلى العقد مجاز. أي ما كان عند العقد موجوداً وغير منفصل. قال الطحاوي: ذهب ابن عمر إلى أنَّ الصفقة إذا أدركت شيئاً حياً فهلك بعد ذلك عند البائع فهو من ضمان المشتري , فدلَّ على أنه كان يرى أنَّ البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة بالأبدان. انتهى وما قاله ليس بلازم , وكيف يحتج بأمر محتمل في معارضة أمر مصرَّح به؟ فابن عمر قد تقدم عنه التصريح بأنه كان يرى الفرقة بالأبدان. والمنقول عنه هنا: يحتمل أن يكون قبل التفرق بالأبدان , ويحتمل أن يكون بعده فحمله على ما بعده أولى جمعا بين حديثيه. وقال ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبداً واحتبسه بالثمن فهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن. فقال سعيد بن المسيب وربيعة: هو على البائع , وقال سليمان بن يسار: هو على المشتري. ورجع إليه مالك بعد أنْ كان أخذ بالأول , وتابعه أحمد وإسحاق وأبو ثور , وقال بالأول الحنفية والشافعية. والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع. فمن اشترطه في كل شيء جعله من ضمان البائع , ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري. والله أعلم. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس في ذلك تفصيلاً قال: إن قال البائع: لا أعطيكه حتى تنقدني الثمن فهلك فهو من ضمان البائع , وإلَّا فهو من ضمان المشتري. وقد فسر بعض الشراح المبتاع في أثر ابن عمر بالعين المبيعة وهو جيد. وقد سئل الإمام أحمد. عمن اشترى طعاماً فطلب من يحمله فرجع فوجده قد احترق؟ فقال هو من ضمان المشتري. وأورد أثر ابن عمر المذكور بلفظ فهو من مال المشتري. وفرَّع بعضهم على ذلك أنَّ المبيع إذا كان معيناً دخل في ضمان المشتري بمجرد العقد - ولو لم يقبض - بخلاف ما يكون في الذمة فإنه لا يكون من ضمان المشتري إلَّا بعد القبض. كما لو اشترى قفيزاً من صبرة. والله أعلم

وتعقّب: بأنّهم يخالفونه. أمّا الحنفيّة فقالوا: هو من مال البائع ما لَم يره المبتاع أو ينقله. والمالكيّة قالوا: إن كان غائباً غيبةً بعيدةً فهو من البائع وأنّه لا حجّة فيه , لأنّ الصّفقة فيه محمولةٌ على البيع الذي انبرم. لا على ما لَم ينبرم جمعاً بين كلاميه.

وقال بعضهم: معنى قوله " حتّى يتفرّقا ". أي: حتّى يتوافقا يقال للقوم: على ماذا تفارقتم.؟ أي: على ماذا اتّفقتم؟. وتعقّب: بما ورد في بقيّة حديث ابن عمر في جميع طرقه , ولا سيّما في طريق الليث. (¬1) وقال بعضهم: حديث " البيّعان بالخِيَار " جاء بألفاظٍ مختلفةٍ. فهو مضطربٌ لا يحتجّ به. وتعقّب: بأنّ الجمع بين ما اختلف من ألفاظه ممكنٌ بغير تكلّفٍ ولا تعسّفٍ فلا يضرّه الاختلاف، وشرط المضطرب أن يتعذّر الجمع بين مختلف ألفاظه. وليس هذا الحديث من ذلك. وقال بعضهم: لا يتعيّن حمل الخِيَار في هذا الحديث على خِيَار الفسخ، فلعله أريد به خِيَار الشّراء أو خِيَار الزّيادة في الثّمن أو المثمّن. وأجيب: بأنّ المعهود في كلامه - صلى الله عليه وسلم - حيث يطلق الخِيَار. إرادة خِيَار الفسخ كما في حديث المصرّاة , وكما في حديث الذي يخدع في البيوع. وأيضاً فإذا ثبت أنّ المراد بالمتبايعين المتعاقدان فبعد صدور العقد لا خِيَار في الشّراء ولا في الثّمن. وقال ابن عبد البرّ: قد أكثَرَ المالكيّة والحنفيّة من الاحتجاج لردّ هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره لا يحصل منه شيءٌ. ¬

_ (¬1) طريق الليث هي رواية العمدة التي اعتمدها المقدسي , وقد اتفق الشيخان على إخراجها.

وحكى ابن السّمعانيّ في " الاصطلاح " عن بعض الحنفيّة قال: البيع عقدٌ مشروعٌ بوصفٍ وحكمٍ، فوصفه اللّزوم وحكمه الملك، وقد تمّ البيع بالعقد فوجب أن يتمّ بوصفه وحكمه، فأمّا تأخير ذلك إلى أن يفترقا فليس عليه دليل , لأنّ السّبب إذا تمّ يفيد حكمه، ولا ينتفي إلَّا بعارضٍ ومن ادّعاه فعليه البيان. وأجاب: أنّ البيع سبب للإيقاع في النّدم والنّدم يحوج إلى النّظر فأثبت الشّارع خِيَار المجلس نظراً للمتعاقدين ليسلما من النّدم، ودليله خِيَار الرّؤية عندهم وخِيَار الشّرط عندنا. قال: ولو لزم العقد بوصفه وحكمه لَما شرعت الإقالة، لكنّها شرعت نظراً للمتعاقدين إلَّا أنّها شرعت لاستدراك ندمٍ ينفرد به أحدهما فلم تجب، وخِيَار المجلس شرع لاستدراك ندمٍ يشتركان فيه فوجب. قوله: (وكانا جميعاً) تأكيدٌ لذلك. قوله: (أو يخيّر أحدهما الآخر) أي: فينقطع الخِيَار. قوله: (فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع) أي: وبطل الخِيَار وإن لَم يتفرّقا. وفي رواية مالك عن نافع في الصحيحين " ما لَم يتفرّقا إلَّا بيع الخِيَار " أي: فلا يحتاج إلى التفرق. وقد اختلف العلماء في المراد بقوله في حديث مالك " إلَّا بيع الخِيَار " القول الأول: قال الجمهور. به جزم الشّافعيّ: هو استثناءٌ من

امتداد الخِيَار إلى التّفرّق، والمراد أنّهما إن اختارا إمضاء البيع قبل التّفرّق لزم البيع حينئذٍ وبطل اعتبار التّفرّق، فالتّقدير إلَّا البيع الذي جرى فيه التّخاير. قال النّوويّ (¬1): اتّفق أصحابنا على ترجيح هذا التّأويل وأبطل كثيرٌ منهم ما سواه وغلطوا قائله. انتهى. ورواية الليث ظاهرةٌ جدّاً في ترجيحه. القول الثاني: هو استثناءٌ من انقطاع الخِيَار بالتّفرّق. القول الثالث: المراد بقوله " أو يخيّر (¬2) أحدهما الآخر " أي: فيشترط الخِيَار مدّةً معيّنةً فلا ينقضي الخِيَار بالتّفرّق بل يبقى حتّى تمضي المدّة. حكاه ابن عبد البرّ عن أبي ثورٍ، ورجح الأوّل بأنّه أقل في الإضمار. وتعيّنه رواية النّسائيّ من طريق إسماعيل - قيل هو ابن أُميَّة , وقيل غيره - عن نافعٍ , بلفظ " إلَّا أن يكون البيع كان عن خِيَار. فإن كان البيع عن خِيَار وجب البيع " القول الرابع: هو استثناء من إثبات خِيَار المجلس، والمعنى أو يخيّر أحدهما الآخر فيختار في خِيَار المجلس فينتفي الخِيَار. وهذا أضعف هذه الاحتمالات. ¬

_ (¬1) هو يحيى بن شرف , سبق ترجمته (1/ 22) (¬2) في المطبوع من الفتح (أو يفرق ..) وهي غريبة , ولعل الصواب ما أثبتّه , وهو الموافق للفظ الحديث. والله أعلم.

القول الخامس: قوله " إلَّا أن يكون بيع خِيَار " أي: هما بالخِيَار ما لَم يتفرّقا إلَّا أن يتخايرا - ولو قبل التّفرّق - وإلا أن يكون البيع بشرط الخِيَار - ولو بعد التّفرّق - وهو قولٌ يجمع التّأويلين الأوّلين. ويؤيّده رواية عبد الرّزّاق عن سفيان (¬1) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر حيث قال فيه " إلَّا بيع الخِيَار أو يقول لصاحبه اختر " إن حملنا " أو " على التّقسيم لا على الشّكّ. قوله: (وإن تفرقا بعد أن تبايعا, ولَم يترك واحدٌ منهما البيع) أي: لَم يفسخه. قوله: (فقد وجب البيع) أي: بعد التّفرّق، وهذا ظاهرٌ جدّاً في انفساخ البيع بفسخ أحدهما. قال الخطّابيّ (¬2): هذا أوضح شيءٍ في ثبوت خِيَار المجلس، وهو مبطلٌ لكل تأويلٍ مخالفٍ لظاهر الحديث، وكذلك قوله في آخره " وإن تفرّقا بعد أن تبايعا " فيه البيان الواضح أنّ التّفرّق بالبدن هو القاطع للخِيَار، ولو كان معناه التّفرّق بالقول لخلا الحديث عن فائدةٍ. انتهى. ¬

_ (¬1) وقد أخرجه البخاري في " الصحيح " (2113) عن محمد بن يوسف عن سفيان به. دون قوله " أو يقول لصاحبه: اختر " وكذا أخرجه مسلم (3936) من طريق إسماعيل بن جعفر عن ابن دينار. دون الزيادة. (¬2) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

وقد أقدم الدّاوديّ (¬1) على ردّ هذا الحديث المتّفق على صحّته بما لا يقبل منه , فقال: قول الليث في هذا الحديث " وكانا جميعاً .. إلخ " ليس بمحفوظٍ , لأنّ مقام الليث في نافعٍ ليس كمقام مالكٍ ونظرائه. انتهى وهو ردٌّ لِما اتّفق الأئمّة على ثبوته بغير مستندٍ، وأيّ لومٍ على من روى الحديث مفسّراً لأحد محتملاته حافظاً من ذلك ما لَم يحفظه غيره مع وقوع تعدّد المجلس، فهو محمولٌ على أنّ شيخهم حدّثهم به تارة مفسّراً وتارة مختصراً. تنبيهٌ: قوله " أو يخيّر أحدهما الآخر " بإسكان الرّاء من " يخيّر " عطفاً على قوله " ما لَم يتفرّقا " , ويحتمل: نصب الرّاء على أنّ " أو " بمعنى " إلَّا أن " كما تقدّم قريباً مثله في قوله " أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر " قوله في الحديث الآخر: (عن حكيم بن حزام) بن خويلد الأسدي. (¬2) ¬

_ (¬1) هو أحمد بن نصر , سبق ترجمته (1/ 312) (¬2) ابن أخي خديجة زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ويكنى أبا خالد له حديث في الكتب السّتة. قال موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزّبير: سمعت حكيم بن حزام يقول: ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة. وأنا أعقل حين أراد عبد المطلب أنْ يذبح عبد اللَّه ابنه. وحكى الزّبير بن بكّار , أنّ حكيماً ولد في جوف الكعبة، قال: وكان من سادات قريش، وكان صديق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل المبعث، وكان يودّه ويحبه بعد البعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح. وكان من المؤلفة. وشهد حنيناً وأعطي من غنائمها مائة بعير، ثم حسن إسلامه، وكان قد شهد بدرا مع الكفّار، ونجا مع من نجا، فكان إذا اجتهد في اليمين قال: والّذي نجّاني يوم بدر. وفي الصّحيح , أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشياء كنت أفعلها في الجاهلية ألي فيها أجر؟ قال: أسلمت على ما سلف لك من خير. وكان من العلماء بأنساب قريش وأخبارها. مات سنة 50، وقيل سنة 54، وقيل: 58 , وقيل سنة 60. وهو ممن عاش 120 سنة شطرها في الجاهلية في الإسلام. قال البخاري في " التاريخ ": مات سنة 60، وهو ابن 120 سنة. قاله إبراهيم بن المنذر، ثم أسند من طريق عمر بن عبد اللَّه بن عروة، عن عروة، قال: مات لعشر سنوات من خلافة معاوية. قال في الإصابة بتجوز.

قوله: (البيّعان) بفتح الموحّدة وتشديد التّحتانيّة. أي: البائع والمشتري. قوله: (بالْخِيَار) أي: بخِيَار المجلس. وتقدّم الكلام عليه مستوفى في حديث ابن عمر الماضي. قوله: (ما لَم يتفرّقا) في رواية همّامٍ عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام عند البخاري " ما لَم يفترقا " , وزاد " قال همام: وجدت في كتابي " يختار ثلاث مرار .. ". وفي رواية سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر، وعن عطاء عن ابن عبّاس مرفوعاً " ما لَم يفارقه صاحبه , فإن فارقه فلا خِيَار له " وقد اختلف القائلون بأنّ المراد أن يتفرّقا بالأبدان , هل للتّفرّق المذكور حدٌّ ينتهى إليه؟. والمشهور الرّاجح من مذهب العلماء في ذلك أنّه موكولٌ إلى العرف، فكل ما عدّ في العرف تفرّقاً حكم به وما لا فلا.

وقوله: " يختار ثلاث مرار " أشار أبو داود: إلى أنّ همّاماً تفرّد بذلك عن أصحاب قتادة، ووقع عند أحمد عن عفّان عن همّام قال: وجدت في كتابي الخِيَار ثلاث مرار. ولَم يصرّح همّامٌ بمن حدّثه بهذه الزّيادة. فإن ثبتت فهي على سبيل الاختيار. وقد أخرجه الإسماعيليّ وجه آخر عن حبّان بن هلالٍ. فذكر هذه الزّيادة في آخر الحديث. قوله: (فإن صدقا وبيّنا) أي: صدق البائع في إخبار المشترى مثلاً , وبيّن العيب إن كان في السّلعة، وصدق المشتري في قدر الثّمن مثلاً , وبيّن العيب إن كان في الثّمن، ويحتمل: أن يكون الصّدق والبيان بمعنىً واحدٍ , وذِكْر أحدهما تأكيدٌ للآخر. قوله: (مُحقت بركةُ بيعِهما) وللبخاري من رواية همام " وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحاً ربحاً ويمحقا بركة بيعهما ". وفي الحديث حصول البركة لهما إن حصل منهما الشّرط وهو الصّدق والتّبيين، ومَحْقُها إن وجد ضدّهما وهو الكذب والكتم. وهل تحصل البركة لأحدهما إذا وجد منه المشروط دون الآخر؟. ظاهر الحديث يقتضيه، ورجّحه ابن أبي جمرة. ويحتمل: أن يعود شؤم أحدهما على الآخر بأن تنزع البركة من المبيع إذا وجد الكذب أو الكتم من كل واحدٍ منهما، وإن كان الأجر ثابتاً للصّادق المبيّن، والوزر حاصلٌ للكاذب الكاتم. وفي الحديث أنّ الدّنيا لا يتمّ حصولها إلَّا بالعمل الصّالح، وأنّ شؤم المعاصي يذهب بخير الدّنيا والآخرة.

تكميل: روى أحمد وابن ماجه والحاكم من طريق عبد الرّحمن بن شماسة - بكسر المعجمة وتخفيف الميم وبعد الألف مهملةٌ - عن عقبة مرفوعاً بلفظ: المسلم أخو المسلم، ولا يحلُّ لمسلمٍ باع من أخيه بيعاً فيه غشٌّ إلَّا بيّنه له. وفي رواية أحمد " يعلم فيه عيباً " وإسناده حسنٌ. وروى التّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه وابن الجارود وابن منده كلهم من طريق عبد المجيد بن أبي يزيد قال: قال لي العدَّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قلت: بلى فأخرج لي كتاباً. هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبداً أو أمةً لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم. قوله " بيع المسلم المسلم ". فيه أنّه ليس من شأن المسلم الخديعة قوله " لا داء " أي: لا عيب، والمراد به الباطن سواء ظهر منه شيءٌ أم لا. كوجع الكبد والسّعال. قاله المطرّزيّ. وقال ابن المنيّر (¬1) في الحاشية: قوله " لا داء " أي: يكتمه البائع، وإلا فلو كان بعبدٍ داءٌ وبيّنه البائع لكان من بيع المسلم للمسلم، ومحصّله أنّه لَم يرد بقوله لا داء نفي الدّاء مطلقاً بل نفي داءٍ مخصوصٍ. وهو ما لَم يطّلع عليه. قوله " ولا خبثة " بكسر المعجمة وبضمّها وسكون الموحّدة بعدها ¬

_ (¬1) هو علي بن محمد الاسكندراني , سبق ترجمته (2/ 378)

مثلثةٌ. أي: مسبيّاً من قوم لهم عهد. قاله المطرّزيّ. وقيل: المراد الأخلاق الخبيثة كالإباق، وقال صاحب " العين " الرّيبة. وقيل: المراد الحرام كما عبّر عن الحلال بالطّيّب. وقال ابن العربيّ: الدّاء ما كان في الخلق بالفتح والخبثة ما كان في الخلق بالضّمّ، والغائلة سكوت البائع على ما يعلم من مكروهٍ في المبيع. قوله " ولا غائلة " بالمعجمة , أي: ولا فجور، وقيل: المراد الإباق. وقال ابن بطّال (¬1): هو من قولهم اغتالني فلانٌ. إذا احتال بحيلةٍ يتلف بها مالي. ¬

_ (¬1) ((هو علي بن خلف , سبق ترجمته (1/ 34)

باب ما ينهي عنه من البيوع

باب ما يُنهي عنه من البيوع الحديث الثالث 259 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المنابذة - وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يَقْلِبه، أو ينظر إليه - ونهى عن الْملامسة، والْملامسة - لمس الرجل الثوب لا ينظر إليه -. (¬1) قوله: (نهى عن المنابذة) وعند الشيخين من طريق يونس عن الزّهريّ بلفظ " والملامسة لمس الرّجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنّهار ولا يقلبه إلَّا بذلك , والمنابذة أن ينبذ الرّجل إلى الرّجل ثوبه , وينبذ الآخر بثوبه , ويكون بيعهما عن غير نظر ولا تراضٍ ". ولأبي عوانة من طريقٍ أخرى عن يونس " وذلك أن يتبايع القوم السّلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها , أو يتنابذ القوم السّلع كذلك " فهذا من أبواب القمار. وفي رواية ابن ماجه من طريق سفيان عن الزّهريّ " والمنابذة أن يقول: ألق إليّ ما معك وأُلقي إليك ما معي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2037 , 5482) ومسلم (1512) من طرق عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبي سعيد - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (2040) من طريق معمر. و (5927) من طريق سفيان كلاهما عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. مختصراً دون تفسير.

وللنّسائيّ حديث أبي هريرة " الملامسة أن يقول الرّجل للرّجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحدٌ منهما إلى ثوب الآخر , ولكن يلمسه لمساً، والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك، يشتري كل واحد منهما من الآخر , ولا يدري كل واحدٍ منهما كم مع الآخر ونحو ذلك. وقد وقع التّفسير أيضاً عند أحمد من طريق معمر (¬1) عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد. أخرجه عن عبد الرّزّاق عنه. وفي آخره " والمنابذة أن يقول: إذا نبذت هذا الثّوب فقد وجب البيع. والملامسة أن يلمسَ بيده , ولا ينشره , ولا يقلبه إذا مسّه وجب البيع ". ولمسلمٍ من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة " أمّا الملامسة فأن يلمس كل واحدٍ منهما ثوب صاحبه بغير تأمّلٍ، والمنابذة أن ينبذ كل واحدٍ منهما ثوبه إلى الآخر لَم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه ". وقد أخرجه البخاري من هذا الوجه. وليس فيه التّفسير. وهذا التّفسير الذي في حديث أبي هريرة , أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة , لأنّها مفاعلةٌ فتستدعي وجود الفعل من الجانبين. واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صورٍ. وهي أوجهٌ للشّافعيّة. ¬

_ (¬1) طريق معمر. أخرجها البخاري كما تقدم , لكن ليس فيها تفسيرٌ.

أصحّها: أن يأتي بثوبٍ مطويٍّ أو في ظلمةٍ فيلمسه المستام , فيقول له صاحب الثّوب: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسُك مقام نظرك ولا خِيَار لك إذا رأيته، وهذا هو موافقٌ للتّفسيرين اللذين في الحديث. الثّاني: أن يجعلا نفس اللمس بيعاً بغير صيغةٍ زائدةٍ. الثّالث: أن يجعلا اللمس شرطاً في قطع خِيَار المجلس وغيره. والبيع على التّأويلات كلها باطل. ومأخذ الأوّل: عدم شرط رؤية المبيع , واشتراط نفي الخِيَار. ومأخذ الثّاني: اشتراط نفي الصّيغة في عقد البيع. فيؤخذ منه بطلان بيع المعاطاة مطلقاً، لكن من أجاز المعاطاة قيّدها بالمحقّرات أو بما جرت فيه العادة بالمعاطاة، وأمّا الملامسة والمنابذة عند من يستعملهما فلا يخصّهما بذلك. فعلى هذا يجتمع بيع المعاطاة مع الملامسة والمنابذة في بعض صور المعاطاة، فلمن يجيز بيع المعاطاة أن يخصّ النّهي في بعض صور الملامسة والمنابذة عمّا جرت العادة فيه بالمعاطاة. وعلى هذا يحمل قول الرّافعيّ: إنّ الأئمّة أجروا في بيع الملامسة والمنابذة الخلاف الذي في المعاطاة. والله أعلم. ومأخذ الثّالث: شرط نفي خِيَار المجلس، وهذه الأقوال هي التي اقتصر عليها الفقهاء، ونُخرج ممّا ذكرناه من طرق الحديث زيادةً على ذلك. وأمّا المنابذة. فاختلفوا فيها أيضاً على ثلاثة أقوال , وهي أوجهٌ

للشّافعيّة. أصحّها: أن يجعلا نفس النّبذ بيعاً كما تقدّم في الملامسة , وهو الموافق للتّفسير في الحديث المذكور. والثّاني: أن يجعلا النّبذ بيعاً بغير صيغة. والثّالث: أن يجعلا النّبذ قاطعاً للخِيَار. واختلفوا في تفسير النّبذ. فقيل: هو طرح الثّوب كما وقع تفسيره في الحديث المذكور. وقيل: هو نبذ الحصاة، والصّحيح أنّه غيره. وقد روى مسلم " النّهي عن بيع الحصاة " من حديث أبي هريرة. واختلف في تفسير بيع الحصاة. فقيل: هو أن يقول بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة ويرمي حصاةً، أو من هذه الأرض ما انتهت إليه في الرّمي. وقيل: هو أن يشترط الخِيَار إلى أن يرمي الحصاة. والثّالث: أن يجعلا نفس الرّمي بيعاً. وقوله في الحديث " لمس الثّوب لا ينظر إليه " استُدل به. وهو القول الأول. على بطلان بيع الغائب. وهو قول الشّافعيّ في الجديد. القول الثاني: عن أبي حنيفة. يصحّ مطلقاً ويثبت الخِيَار إذا رآه , وحكي عن مالك والشّافعيّ أيضاً. القول الثالث: عن مالكٍ. يصحّ إن وصفه وإلَّا فلا، وهو قول الشّافعيّ في القديم وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأهل الظّاهر، واختاره

البغويّ والرّويانيّ من الشّافعيّة , وإن اختلفوا في تفاصيله. ويؤيّده قوله في رواية أبي عوانة التي قدّمتها " لا ينظرون إليها , ولا يخبرون عنها " وفي الاستدلال لذلك وفاقاً وخلافاً طول. واستُدل به. وهو القول الأول: على بطلان بيع الأعمى مطلقاً , وهو قول معظم الشّافعيّة حتّى من أجاز منهم بيع الغائب , لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك , فيكون كبيع الغائب مع اشتراط نفي الخِيَار. القول الثاني: يصحّ إذا وصفه له غيره , وبه قال مالك وأحمد. القول الثالث: عن أبي حنيفة. يصحّ مطلقاً على تفاصيل عندهم أيضاً. تنبيهان: الأوّل: وقع عند ابن ماجه. أنّ التّفسير من قول سفيان بن عيينة , وهو خطأٌ من قائله , بل الظّاهر أنّه قول الصّحابيّ كما سأبيّنه بعد. الثّاني: حديث أبي هريرة " نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الملامسة والمنابذة " أخرجه البخاريّ عنه من طرق , ثالثها طريق حفص بن عاصم عنه , وهو في مواقيت الصّلاة , ولَم يذكر في شيءٍ من طرقه عنه تفسير المنابذة والملامسة. وقد وقع تفسيرهما في رواية مسلم والنّسائيّ كما تقدّم. وظاهر الطّرق كلها أنّ التّفسير من الحديث المرفوع، لكن وقع في رواية النّسائيّ ما يشعر بأنّه من كلام من دون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولفظه "

وزعم: أنّ الملامسة أن يقول .. إلخ ". فالأقرب أن يكون ذلك من كلام الصّحابيّ لبُعد أن يعبّر الصّحابيّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلفظ زعم، ولوقوع التّفسير في حديث أبي سعيد الخدريّ من قوله أيضاً كما تقدّم

الحديث الرابع

الحديث الرابع 260 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: لا تلقّوا الرّكبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ، ولا تُصرّوا الإبل والغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النّظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمرٍ. (¬1) وفي لفظ: هو بالخِيَار ثلاثاً. (¬2) قوله: (لا تلقّوا الرّكبان) ولمسلم " لا يتلقّى الرّكبان لبيعٍ " خرج مخرج الغالب في أنّ من يجلب الطّعام يكونون عدداً ركباناً، ولا مفهومَ له بل لو كان الجالب عدداً مشاة أو واحداً راكباً أو ماشياً لَم يختلف الحكم. ولهما من رواية أبي حازم عن أبي هريرة " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التلقي " , وظاهره منع التّلقّي مطلقاً سواء كان قريباً أم بعيداً، سواء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2043) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (1515) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (2041) من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج. فذكر التصرية فقط. وأخرجه البخاري (2033 , 2044 , 2052 , 2054 , 2574 , 2577) ومسلم (1515 , 1524) من طرق أخرى عن أبي هريرة. مختصراً ومطولاً. (¬2) أخرجه مسلم (1524) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه أيضاً (1524) من طريق قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة. وذكره البخاري معلّقاً. كما سيأتي مفصّلاً في الشرح.

كان لأجل الشّراء منهم أم لا. وقوله " لبيع " يشمل البيع لهم والبيع منهم، ويفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتّلقّي. فلو تلقّى الرّكبان أحد للسّلام أو الفرجة , أو خرج لحاجةٍ له فوجدهم فبايعهم , هل يتناوله النّهي؟. فيه احتمال، فمن نَظَرَ إلى المعنى لَم يفترق عنده الحكم بذلك , وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، وشرط بعض الشّافعيّة في النّهي أن يبتدئ المتلقّي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقّي لَم يدخل في النّهي. وذكر إمام الحرمين (¬1) في صورة التّلقّي المحرّم: أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل. وذكر المتولي فيها , أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدّخول. وذكر أبو إسحاق الشّيرازيّ: أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم. وقد يؤخذ من هذه التّقييدات إثبات الخِيَار لمن وقعت له ولو لَم يكن هناك تلقٍّ، لكن صرّح الشّافعيّة: أنّ كون إخباره كذباً ليس شرطاً لثبوت الخِيَار , وإنّما يثبت له الخِيَار إذا ظهر الغبن , فهو المعتبر وجوداً وعدماً. وجزم البخاري. بأنّ البيع مردود بناءً على أنّ النّهي يقتضي الفساد، لكن محل ذلك عند المحقّقين فيما يرجع إلى ذات المنهيّ عنه. لا ما إذا ¬

_ (¬1) هو عبدالملك الجويني , سبق ترجمته (1/ 283)

كان يرجع إلى أمرٍ خارجٍ عنه. فيصحّ البيع ويثبت الخِيَار بشرطه الآتي ذكره. وأمّا كون صاحبه عاصياً آثماً والاستدلال عليه بكونه خداعاً فصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون البيع مردوداً , لأنّ النّهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل بشيءٍ من أركانه وشرائطه , وإنّما هو لدفع الإضرار بالرّكبان والقول ببطلان البيع صار إليه بعض المالكيّة وبعض الحنابلة، ويمكن أن يحمل قول البخاريّ , أنّ البيع مردود على ما إذا اختار البائع ردّه فلا يخالف الرّاجح. وقد تعقّبه الإسماعيليّ , وألزمه التّناقض ببيع المصرّاة , فإنّ فيه خداعاً ومع ذلك لَم يبطل البيع، وبكونه فصل في بيع الحاضر للبادي بين أن يبيع له بأجرٍ أو بغير أجر، واستدل عليه أيضاً بحديث حكيم بن حزام الماضي في بيع الخِيَار ففيه " فإن كذّبا وكتما محقت بركة بيعهما ". قال: فلم يبطل بيعهما بالكذب والكتمان للعيب، وقد ورد بإسنادٍ صحيحٍ " أنّ صاحب السّلعة إذا باعها لمن تلقّاه يصير بالخِيَار إذا دخل السّوق " ثمّ ساقه من حديث أبي هريرة. قال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التّلقّي. وكرهه الجمهور. قلت: الذي في كتب الحنفيّة يكره التّلقّي في حالتين: الحالة الأولى: أن يضرّ بأهل البلد.

الثانية: أن يلتبس السّعر على الواردين. ثمّ اختلفوا: فقال الشّافعيّ: مَن تلقّاه فقد أساء وصاحب السّلعة بالخِيَار، وحجّته حديث أيّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلقّي الجلب، فإن تلقّاه فاشتراه فصاحبه بالخِيَار إذا أتى السّوق ". قلت: وهو حديثٌ أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وصحَّحه ابن خزيمة من طريق أيّوب، وأخرجه مسلم من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ " لا تلقّوا الجلب، فمن تلقّاه فاشترى منه فإذا أتى سيّده السّوق فهو بالخِيَار " وقوله " فهو بالخِيَار " أي: إذا قدم السّوق وعلم السّعر. وهل يثبت له مطلقاً أو بشرط أن يقع له في البيع غبنٌ؟ وجهان. أصحّهما الأوّل. وبه قال الحنابلة، وظاهره أيضاً أنّ النّهي لأجل منفعة البائع وإزالة الضّرر عنه وصيانته ممّن يخدعه. قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السّوق لا على نفع ربّ السّلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيّون والأوزاعيّ قال: والحديث حجّة للشّافعيّ لأنّه أثبت الخِيَار للبائع لا لأهل السّوق. انتهى. واحتجّ مالك بحديث ابن عمر في البخاري " ولا تلقّوا السّلع حتّى يهبط بها إلى السّوق " تكميل: أخرج البخاري عن ابن عمر قال: كنّا نتلقّى الرّكبان

فنشترى منهم الطّعام، فنهانا النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتّى يبلغ به سوق الطّعام. قال البخاري: هذا في أعلى السّوق، يبيّنه حديث عبيد الله. أراد البخاريّ بذلك. الرّدّ على من استدل به على جواز تلقّي الرّكبان , لإطلاق قول ابن عمر " كنّا نتلقّى الرّكبان " ولا دلالة فيه، لأنّ معناه أنّهم كانوا يتلقّونهم في أعلى السّوق. كما في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في البخاري بلفظ: كانوا يبتاعون الطّعام في أعلى السّوق فيبيعونه في مكانهم، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه في مكانه حتّى ينقلوه. وقد صرّح مالك في روايته عن نافعٍ في البخاري بقوله " ولا تلقّوا السّلع حتّى يهبط بها السّوق " فدلَّ على أنّ التّلقّي الذي لَم ينه عنه إنّما هو ما بلغ السّوق، والحديث يفسّر بعضه بعضاً. وادّعى الطّحاويّ التّعارض في هاتين الرّوايتين , وجمع بينهما بوقوع الضّرر لأصحاب السّلع وعدمه، قال: فيحمل حديث النّهي على ما إذا حصل الضّرر، وحديث الإباحة على ما إذا لَم يحصل. ولا يخفى رجحان الجمع الذي جمع به البخاريّ. والله أعلم. قوله: (ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ) في رواية ابن المسيب عن أبي هريرة في الصحيحين " ولا يبع المرء على بيع أخيه " , ولمسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن ابن عمر " لا يبع الرّجل على بيع

أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه (¬1)، إلَّا أن يأذن له ". وقوله: " إلَّا أن يأذن له ". يحتمل: أن يكون استثناء من الحكمين كما هو قاعدة الشّافعيّ. ويحتمل: أن يختصّ بالأخير. ويؤيّد الثّاني: رواية البخاري من طريق ابن جريج عن نافعٍ عن ابن عمر بلفظ " نهى أن يبيع الرّجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرّجل على خطبة أخيه، حتّى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب ". ومن ثَمَّ نشأ خلاف للشّافعيّة: هل يختصّ ذلك بالنّكاح , أو يلتحق به البيع في ذلك؟ والصّحيح عدم الفرق. وقد أخرجه النّسائيّ من وجهٍ آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ " لا يبيع الرّجل على بيع أخيه حتّى يبتاع أو يذر " وللبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ " وأن يستام الرّجل على سوم أخيه " وأخرجه مسلم في حديث نافعٍ عن ابن عمر أيضاً. وذِكْر " المسلم " لكونه أقرب إلى امتثال الأمر من غيره، وفي ذِكْره إيذان بأنّه لا يليق به أن يستأثر على مسلمٍ مثله. وظاهر التّقييد بأخيه أن يختصّ ذلك بالمسلم. وبه قال الأوزاعيّ وأبو عبيد بن حربويه من الشّافعيّة. ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله الكلامُ مستوفى عن الخطبة في حديث أبي هريرة " في النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه " برقم (277). في باب الشروط في البيع.

وأصرح من ذلك رواية مسلمٍ من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ " لا يسوم المسلم على سوم المسلم " وقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين المسلم والذّمّيّ: وذِكْرُ الأخِ خرج للغالب فلا مفهوم له. قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشّراء على الشّراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعةً في زمن الخِيَار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمعٌ عليه. وأمّا السّوم: فصورته أن يأخذ شيئاً ليشتريه فيقول له: ردّه لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استردّه لأشتريه منك بأكثر. ومحلّه بعد استقرار الثّمن وركون أحدهما إلى الآخر. فإن كان ذلك صريحاً. فلا خلاف في التّحريم. وإن كان ظاهراً. ففيه وجهان للشّافعيّة. ونقل ابن حزم اشتراط الرّكون عن مالكٍ , وقال: إنّ لفظ الحديث لا يدل عليه. وتعقّب: بأنّه لا بدّ من أمرٍ مبيّنٍ لموضع التّحريم في السّوم، لأنّ السّوم في السّلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم اتّفاقاً كما نقله ابن عبد البرّ. فتعيّن أنّ السّوم المحرّم ما وقع فيه قدرٌ زائدٌ على ذلك. وقد استثنى بعض الشّافعيّة من تحريم البيع والسّوم على الآخر. ما إذا لَم يكن المشتري مغبوناً غبناً فاحشاً، وبه قال ابن حزمٍ. واحتجّ

بحديث " الدّين النّصيحة " , لكن لَم تنحصر النّصيحة في البيع والسّوم فله أن يعرّفه أنّ قيمتها كذا وأنّك إن بعتها بكذا مغبون من غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين. وذهب الجمهور: إلى صحّة البيع المذكور مع تأثيم فاعله. وعند المالكيّة والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظّاهر. والله أعلم. قوله: (ولا تناجشوا) ذكره بصيغة التّفاعل , لأنّ التّاجر إذا فعل لصاحبه ذلك كان بصدد أن يفعل له مثله. والنجش: بفتح النّون والمشهور أنّه بفتح الجيم. وحكى المطرّزيّ فيه السّكون. وهو في اللغة تنفير الصّيد واستثارته من مكانه ليصاد، يقال نجشت الصّيد أنجشه بالضّمّ نجشاً. وفي الشّرع , الزّيادة في ثمن السّلعة ممّن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمّي بذلك , لأنّ النّاجش يثير الرّغبة في السّلعة , ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختصّ بذلك النّاجش. وقد يختصّ به البائع كمن يخبر بأنّه اشترى سلعة بأكثر ممّا اشتراها به ليغرّ غيره بذلك كما سيأتي من كلام الصّحابيّ. وقال ابن قتيبة: النّجش الختل والخديعة، ومنه قيل للصّائد ناجش , لأنّه يختل الصّيد , ويحتال له. وأخرج عبد الرّزّاق من طريق عمر بن عبد العزيز , أنّ عاملاً له

باع سبياً , فقال له: لولا أنّي كنت أزيد فأنفقه لكان كاسداً، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل، فبعث منادياً ينادي: إنّ البيع مردود , وإنّ البيع لا يحل. وأخرج البخاري عن إبراهيم السكسكي عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطى فيها ما لَم يعط فنزلت (إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) قال ابن أبي أوفى: النّاجش آكل رباً خائنٌ. أورده من طريق يزيد بن هارون عن السّكسكيّ. وقد أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن يزيد , مقتصرين على الموقوف , وأخرجه الطّبرانيّ من وجهٍ آخر عن ابن أبي أوفى مرفوعاً , لكن قال " ملعون " بدل خائن. وأطلق ابن أبي أوفى على مَن أخبر بأكثر ممّا اشترى به أنّه ناجشٌ لمشاركته لمن يزيد في السّلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير , فاشتركا في الحكم لذلك , وكونه آكل رباً بهذا التّفسير. وكذلك يصحّ على التّفسير الأوّل , إن واطأه البائع على ذلك وجعل له عليه جعلاً , فيشتركان جميعاً في الخيانة. وقد اتّفق أكثر العلماء على تفسير النّجش في الشّرع بما تقدّم. وقيّد ابن عبد البرّ وابن العربيّ وابن حزم التّحريم بأن تكون الزّيادة المذكورة فوق ثمن المثل. قال ابن العربيّ: فلو أنّ رجلاً رأى سلعة رجلٍ تباع بدون قيمتها

فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لَم يكن ناجشاً عاصياً , بل يؤجر على ذلك بنيّته، وقد وافقه على ذلك بعض المتأخّرين من الشّافعيّة. وفيه نظرٌ. إذ لَم تتعيّن النّصيحة في أن يوهم أنّه يريد الشّراء وليس من غرضه , بل غرضه أن يزيد على من يريد الشّراء أكثر ممّا يريد أن يشتري به، فللذي يريد النّصيحة مندوحة عن ذلك أن يعلم البائع بأنّ قيمة سلعتك أكثر من ذلك ثمّ هو باختياره بعد ذلك. ويحتمل: أن لا يتعيّن عليه إعلامه بذلك حتّى يسأله للحديث الآتي " دعوا النّاس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه " والله أعلم. قال ابن بطّال: أجمع العلماء على أنّ النّاجش عاصٍ بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك. ونقل ابن المنذر عن طائفةٍ من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظّاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه. والمشهور عند المالكيّة في مثل ذلك ثبوت الخِيَار. وهو وجهٌ للشّافعيّة قياساً على المصرّاة، والأصحّ عندهم صحّة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفيّة وقال الرّافعيّ: أطلق الشّافعيّ في " المختصر " تعصية النّاجش، وشرط في تعصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالماً بالنّهي. وأجاب الشّارحون: بأنّ النّجش خديعة , وتحريم الخديعة واضح

لكل أحدٍ وإن لَم يعلم هذا الحديث بخصوصه، بخلاف البيع على بيع أخيه فقد لا يشترك فيه كلّ أحد. واستشكل الرّافعيّ الفرق بأنّ البيع على بيع أخيه إضرار , والإضرار يشترك في علم تحريمه كلّ أحد، قال: فالوجه تخصيص المعصية في الموضعين بمن علم التّحريم. انتهى. وقد حكى البيهقيّ في " المعرفة " و " السّنن " عن الشّافعيّ تخصيص التّعصية في النّجش أيضاً بمن علم النّهي. فظهر أنّ ما قاله الرّافعيّ بحثاً منصوصٌ، ولفظ الشّافعيّ: النّجش أن يحضر الرّجل السّلعة تباع فيعطي بها الشّيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السّوّام فيعطون بها أكثر ممّا كانوا يعطون لو لَم يسمعوا سومه، فمن نَجَشَ فهو عاصٍ بالنّجش إن كان عالماً بالنّهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نجش عليه. قوله: (ولا يبع حاضرٌ لبادٍ) وللبخاري من رواية أبي حازم عن أبي هريرة " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التّلقّى، وأن يبتاع المهاجر للأعرابىّ " المراد بالمهاجر الحضريّ، وأطلق عليه ذلك على عرف ذلك الزّمان. والمعنى أنّ الأعرابيّ إذا جاء السّوق ليبتاع شيئاً لا يتوكّل له الحاضر , لئلا يحرم أهل السّوق نفعاً ورفقاً، وإنّما له أن ينصحه ويشير عليه. ويحتمل: أن يكون المراد بقوله " أن يبتاع " أن يبيع فيوافق الرواية

الماضية (¬1). قوله: (ولا تُصرّوا الإبل) بضمّ أوّله وفتح ثانيه بوزن تزكّوا. يقال: صرّى يصرّي تصرية كزكّى يزكّي تزكية. والإبل بالنّصب على المفعوليّة، وقيّده بعضهم بفتح أوّله وضمّ ثانيه. والأوّل أصحّ. لأنّه من صريت اللبن في الضّرع إذا جمعته , وليس من صررت الشّيء إذا ربطته، إذ لو كان منه لقيل مصرورة أو مصرّرة ولَم يقل مصرّاة، على أنّه قد سُمع الأمران في كلام العرب. قال الأغلب: رأت غلاماً قد صرى في فقرته ... ماء الشّباب عنفوان سيرته وقال مالك بن نويرة: فقلتُ لقومي هذه صدقاتكم ... مصرّرة أخلافها لَم تحرّر وضبطه بعضهم: بضمّ أوّله وفتح ثانيه لكن بغير واوٍ على البناء للمجهول , والمشهور الأوّل. قال البخاري: المصرّاة التي صُري لبنها وحقن فيه وجمع فلم يحلب , وأصل التّصرية حبس الماء يقال: منه صريت الماء إذا حبسته " وهذا التّفسير قول أبي عبيد وأكثر أهل اللغة. ¬

_ (¬1) أي: رواية الباب بلفظ البيع ". وسيأتي إن شاء الله الكلام على مسألة بيع الحاضر للباد مستوفى في شرح حديث ابن عباس بعد حديثين رقم (263).

وقال الشّافعيّ: هو ربط أخلاف النّاقة أو الشّاة وترك حلبها حتّى يجتمع لبنها فيكثر , فيظنّ المشتري أنّ ذلك عادتها , فيزيد في ثمنها لِما يرى من كثرة لبنها. قوله: (الإبل والغنم) لَم يذكر البقر، إلَّا أنّها في معنى الإبل والغنم في الحكم خلافاً لداود، وإنّما اقتصر عليهما لغلبتهما عندهم. وظاهر النّهي تحريم التّصرية سواء قصد التّدليس أم لا. وللشيخين من طريق أبي حازم عن أبي هريرة " نهى عن التّصرية " وبهذا جزم بعض الشّافعيّة. وعلَّله بما فيه من إيذاء الحيوان. لكن أخرج النّسائيّ حديث الباب من طريق سفيان عن أبي الزّناد عن الأعرج بلفظ " لا تصرّوا الإبل والغنم للبيع " , وله من طريق أبي كثير السّحيميّ عن أبي هريرة: إذا باع أحدكم الشّاة أو اللقحة فلا يحفّلها. وهذا هو الرّاجح. وعليه يدل تعليل الأكثر بالتّدليس، ويجاب عن التّعليل بالإيذاء بأنّه ضرر يسير لا يستمرّ فيغتفر لتحصيل المنفعة. قوله: (فمن ابتاعها) أي: من اشتراها بعد التّحفيل. زاد عبيد الله بن عمر (¬1) عن أبي الزّناد " فهو بالخِيَار ثلاثة أيّام " أخرجه الطّحاويّ. وسيأتي ذكر من وافقه على ذلك. ¬

_ (¬1) حديث الباب أخرجه الشيخان من طريق مالك عن أبي الزناد به. وله طرق أخرى سيأتي ذكرها في كلام الشارح.

وابتداء هذه المدّة من وقت بيان التّصرية وهو قول الحنابلة. وعند الشّافعيّة أنّها من حين العقد. وقيل: من التّفرّق، ويلزم عليه أن يكون الغرر أوسع من الثّلاث في بعض الصّور , وهو ما إذا تأخّر ظهور التّصرية إلى آخر الثّلاث، ويلزم عليه أيضاً أن تحسب المدّة قبل التّمكّن من الفسخ. وذلك يفوّت مقصود التّوسّع بالمدّة. قوله: (فهو بخير النّظرين) أي: الرّأيين. قوله: (بعد أن يَحلبها) وللبخاري من رواية الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج " بخير النظرين بعد إن يحتلبها " كذا في الأصل. وهو بكسر إن على أنّها شرطيّة وجزْم يحتلبها. ولابن خزيمة والإسماعيليّ من طريق أسيد بن موسى عن الليث " بعد أن يحتلبها " بفتح أن ونصب يحتلبها. وظاهر الحديث. أنّ الخِيَار لا يثبت إلَّا بعد الحلب، والجمهور على أنّه إذا علم بالتّصرية ثبت له الخِيَار ولو لَم يحلب، لكن لَمَّا كانت التّصرية لا تعرف غالباً إلَّا بعد الحلب ذكر قيداً في ثبوت الخِيَار، فلو ظهرت التّصرية بغير الحلب فالخِيَار ثابت. قوله: (إن رضيها أمسكها) في رواية جعفر بن ربيعة " إن شاء أمسك " أي: أبقاها على ملكه وهو يقتضي صحّة بيع المصرّاة وإثبات الخِيَار للمشتري. فلو اطّلع على عيبٍ بعد الرّضا بالتّصرية فردّها هل يلزم الصّاع؟

فيه خلاف. والأصحّ عند الشّافعيّة وجوب الرّدّ، ونقلوا نصّ الشّافعيّ على أنّه لا يردّ، وعند المالكيّة قولان. قوله: (وإن سخطها ردّها) في رواية جعفر بن ربيعة " وإن شاء ردّها " وظاهره اشتراط الفور وقياساً على سائر العيوب، لكنّ الرّواية التي فيها أنّ له الخِيَار ثلاثة أيّامٍ مقدّمةٌ على هذا الإطلاق، ونقل أبو حامد والرّويانيّ فيه نصّ الشّافعيّ. وهو قول الأكثر. وأجاب من صحّح الأوّل: بأنّ هذه الرّواية محمولةٌ على ما إذا لَم يعلم أنّها مصرّاة إلَّا في الثّلاث لكون الغالب أنّها لا تعلم فيما دون ذلك. قال ابن دقيق العيد (¬1): والثّاني أرجح , لأنّ حكم التّصرية قد خالف القياس في أصل الحكم لأجل النّصّ فيطرد ذلك , ويتّبع في جميع موارده. قلت: ويؤيّده أنّ في بعض روايات أحمد والطّحاويّ من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة " فهو بأحد النّظرين: بالخِيَار إلى أن يحوزها أو يردّها " وسيأتي. قوله: (وصاعاً من تمر) في رواية جعفر بن ربيعة " وصاع تمر " والواو عاطفة للصّاع على الضّمير في ردّها، ويجوز أن تكون الواو ¬

_ (¬1) هو محمد بن علي , سبق ترجمته (1/ 12)

بمعنى مع , ويستفاد منه فوريّة الصّاع مع الرّدّ. ويجوز أن يكون مفعولاً معه، ويعكّر عليه قول جمهور النّحاة: إنّ شرط المفعول معه أن يكون فاعلاً. فإن قيل: التّعبير بالرّدّ في المصرّاة واضح. فما معنى التّعبير بالرّدّ في الصّاع؟. فالجواب: أنّه مثل قول الشّاعر: علفتها تبناً وماءً بارداً. أي: علفتها تبناً وسقيتها ماءً بارداً، ويجعل علفتها مجازاً عن فعلٍ شاملٍ للأمرين. أي: ناولتها، فيحمل الرّدّ في الحديث على نحو هذا التّأويل. واستدل به على وجوب ردّ الصّاع مع الشّاة إذا اختار فسخ البيع، فلو كان اللبن باقياً ولَم يتغيّر فأراد ردّه. هل يلزم البائع قبوله؟. فيه وجهان. أصحّهما لا، لذهاب طراوته ولاختلاطه بما تجدّد عند المبتاع، والتّنصيص على التّمر يقتضي تعيينه كما سيأتي. قال البخاري: ويُذكر عن أبى صالحٍ ومجاهدٍ والوليد بن رباحٍ وموسى بن يسارٍ عن أبى هريرة عن النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - صاع تمرٍ. وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من طعامٍ وهو بالخِيَار ثلاثاً. وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من تمرٍ. ولَم يذكر ثلاثاً، والتّمر أكثر. انتهى يعني: أنّ أبا صالح ومن بعده وقع في رواياتهم تعيين التّمر. فأمّا رواية أبي صالح , فوصلها أحمد ومسلم من طريق سهيل بن

أبي صالح عن أبيه بلفظ " من ابتاع شاةً مصرّاةً فهو فيها بالخِيَار ثلاثة أيّامٍ. فإن شاء أمسكها وإن شاء ردّها وردّ معها صاعاً من تمر " وأمّا رواية مجاهدٍ. فوصلها البزّار، قال مغلطاي: لَم أرها إلَّا عنده. قلت: قد وصلها أيضاً الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق محمّد بن مسلم الطّائفيّ عن ابن أبي نجيح، والدّارقطنيّ من طريق ليث بن أبي سليم كلاهما عن مجاهد، وأوّل رواية ليث " لا تبيعوا المصرّاة من الإبل والغنم " الحديث. وليث ضعيف , وفي محمّد بن مسلم أيضاً لينٌ وأمّا رواية الوليد بن رباح - وهو بفتح الرّاء وبالموحّدة - فوصلها أحمد بن منيع في " مسنده " بلفظ " من اشترى مصرّاة فليردّ معها صاعاً من تمرٍ ". وأمّا رواية موسى بن يسار - وهو بالتّحتانيّة والمهملة - فوصلها مسلم بلفظ " من اشترى شاةً مصرّاةً فلينقلب بها فليحلبها فإن رضي بها أمسكها , وإلا ردّها ومعها صاعٌ من تمر " وسياقه يقتضي الفوريّة. وقول البخاري: وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من طعامٍ وهو بالخِيَار ثلاثاً , وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من تمر " ولَم يذكر ثلاثاً " أمّا رواية من رواه بلفظ الطّعام والثّلاث. فوصلها مسلم والتّرمذيّ من طريق قرّة بن خالد عنه بلفظ " من اشترى مصرّاة فهو بالخِيَار ثلاثة أيّامٍ. فإنْ ردّها ردّ معها صاعاً من

طعامٍ لا سمراء " وأخرجه أبو داود من طريق حمّاد بن سلمة عن هشام وحبيب وأيّوب عن ابن سيرين نحوه. وأمّا رواية من رواه بلفظ التّمر دون ذكر الثّلاث. فوصلها أحمد من طريق معمر عن أيّوب عن ابن سيرين بلفظ " من اشترى شاةً مصرّاةً فإنّه يحلبها فإن رضيها أخذها وإلا ردّها وردّ معها صاعاً من تمر " وقد رواه سفيان عن أيّوب فذكر الثّلاث , أخرجه مسلم من طريقه بلفظ: من اشترى شاةً مصرّاةً فهو بخير النّظرين ثلاثة أيّامٍ. إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها وصاعاً من تمرٍ لا سمراء. ورواه بعضهم عن ابن سيرين بذكر الطّعام , ولَم يقل ثلاثاً. أخرجه أحمد والطّحاويّ من طريق عون عن ابن سيرين وخلاس بن عمرو كلاهما عن أبي هريرة بلفظ " من اشترى لقحة مصرّاة أو شاة مصرّاة فحلبها. فهو بأحد النّظرين بالخِيَار إلى أن يحوزها أو يردّها وإناءً من طعام ". فحصلنا عن ابن سيرين على أربع روايات: ذِكْر التّمر والثّلاث، وذِكْر التّمر بدون الثّلاث، والطّعام بدل التّمر كذلك. والذي يظهر في الجمع بينها , أنّ من زاد الثّلاث معه زيادة علم وهو حافظ، ويُحمل الأمر فيمن لَم يذكرها على أنّه لَم يحفظها أو اختصرها , وتُحمل الرّواية التي فيها الطّعام على التّمر.

وقد روى الطّحاويّ من طريق أيّوب عن ابن سيرين , أنّ المراد بالسّمراء الحنطة الشّأُميَّة. وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسّان عن ابن سيرين " لا سمراء " يعني الحنطة. وروى ابن المنذر من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين , أنّه سمع أبا هريرة يقول: لا سمراء، تمر ليس ببرٍّ. فهذه الرّوايات تبيّن أنّ المراد بالطّعام التّمر، ولَمّا كان المتبادر إلى الذّهن أنّ المراد بالطّعام القمح نفاه بقوله " لا سمراء ". لكن يعكّر على هذا الجمع ما رواه البزّار من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين بلفظ " إن ردّها ردّها ومعها صاعٌ من برٍّ، لا سمراء ". وهذا يقتضى أنّ المنفيّ في قوله " لا سمراء " حنطة مخصوصة وهي الحنطة الشّأُميَّة. فيكون المثبت لقوله " من طعام " أي: من قمح. ويحتمل: أن يكون راويه رواه بالمعنى الذي ظنّه مساوياً، وذلك أنّ المتبادر من الطّعام البرّ. فظنّ الرّاوي أنّه البُرّ فعبّر به، وإنّما أطلق لفظ الطّعام على التّمر , لأنّه كان غالب قوت أهل المدينة. فهذا طريق الجمع بين مختلف الرّوايات عن ابن سيرين في ذلك. لكن يعكّر على هذا ما رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن رجلٍ من الصّحابة نحو حديث الباب. وفيه " فإن ردّها ردّ معها صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من تمر " فإنّ ظاهره يقتضي التّخيير بين التّمر والطّعام , وأنّ الطّعام غير التّمر.

ويحتمل: أن تكون " أو " شكّاً من الرّاوي لا تخييراً. وإذا وقع الاحتمال في هذه الرّوايات لَم يصحّ الاستدلال بشيءٍ منها فيرجع إلى الرّوايات التي لَم يختلف فيها - وهي التّمر - فهي الرّاجحة , كما أشار إليه البخاريّ. وأمّا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ " إن ردّها ردّ معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً " ففي إسناده ضعف. وقد قال ابن قدامة: إنّه متروك الظّاهر بالاتّفاق. وقول البخاري " والتّمر أكثر " أي: أنّ الرّوايات النّاصّة على التّمر أكثر عدداً من الرّوايات التي لَم تنصّ عليه أو أبدلته بذكر الطّعام. فقد رواه بذكر التّمر - غير من تقدّم ذكره - ثابت بن عياض كما عند البخاري , وهمّام بن منبّه عند مسلم , وعكرمة وأبو إسحاق عند الطّحاويّ , ومحمّد بن زياد عند التّرمذيّ , والشّعبيّ عند أحمد وابن خزيمة كلّهم عن أبي هريرة. وأمّا رواية من رواه بذكر الإناء , فيفسّرها رواية من رواه بذكر الصّاع. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم. وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف لهم من الصّحابة، وقال به من التّابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده , ولَم يفرّقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلاً أو كثيراً، ولا بين أن يكون التّمر قوت تلك البلد أم لا.

وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفيّة. وفي فروعها آخرون. أمّا الحنفيّة فقالوا: لا يردّ بعيب التّصرية ولا يجب ردّ صاع من التّمر، وخالفهم زفر , فقال بقول الجمهور إلَّا أنّه قال: يتخيّر بين صاع تمرٍ أو نصف صاع برٍّ، وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في روايةٍ إلَّا أنّهما قالا: لا يتعيّن صاع التّمر بل قيمته، وفي روايةٍ عن مالك وبعض الشّافعيّة كذلك , لكن قالوا: يتعيّن قوت البلد قياساً على زكاة الفطر. وحكى البغويّ: أن لا خلاف في المذهب أنّهما لو تراضيا بغير التّمر من قوتٍ أو غيره كفى، وأثبت ابن كجّ الخلاف في ذلك. وحكى الماورديّ وجهين فيما إذا عجَزَ عن التّمر. هل تلزمه قيمته ببلده أو بأقرب البلاد التي فيها التّمر إليه؟ وبالثّاني. قال الحنابلة واعتذر الحنفيّة عن الأخذ بحديث المصرّاة بأعذارٍ شتّى: الاعتذار الأول: منهم: من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة. ولَم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصّحابة فلا يؤخذ بما رواه مخالفاً للقياس الجليّ. وهو كلامٌ آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غنىً عن تكلّف الرّدّ عليه. وقد ترك أبو حنيفة القياس الجليّ لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التّمر ومن القهقهة في الصّلاة وغير ذلك.

وأظنّ أنّ لهذه النّكتة أورد البخاريّ حديث ابن مسعود (¬1) عقب حديث أبي هريرة إشارة منه إلى أنّ ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة , فلولا أنّ خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لَمَا خالف ابن مسعود القياس الجليّ في ذلك. وقال ابن السّمعانيّ في " الاصطلام ": التّعرّض إلى جانب الصّحابة علامة على خذلان فاعله , بل هو بدعة وضلالة، وقد اختصّ أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له كما عند البخاري وفيه قوله: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق بالأسواق , وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشهد إذا غابوا , وأحفظ إذا نسوا. الحديث. ثمّ مع ذلك لَم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل. فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، وأخرجه الطّبرانيّ من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقيّ في الخلافيّات من حديث عمرو بن عوف المزنيّ، وأخرجه أحمد من رواية رجلٍ من الصّحابة لَم يسمّ. ¬

_ (¬1) ولفظه عند البخاري (2149) عن ابن مسعود قال: من اشترى شاة محفلةً، فردّها. فليردّ معها صاعاً. ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُلقى البيوع. قال الحافظ في الفتح (4/ 456): التحفيل بالمهملة والفاء التجميع، قال أبو عبيد: سميت بذلك لأنَّ اللبن يكثر في ضرعها، وكل شيء كثرته فقد حفّلته , تقول: ضرع حافل. أي: عظيم. واحتفل القوم إذا كثر جمعهم. ومنه سمي المحفل.

وقال ابن عبد البرّ: هذا الحديث مُجمعٌ على صحّته وثبوته من جهة النّقل , واعتلَّ من لَم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها. الاعتذار الثاني: منهم مَن قال: هو حديث مضطرب. لذكر التّمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى، واعتباره بالصّاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارةً وبالإناء أخرى. والجواب: أنّ الطّرق الصّحيحة لا اختلاف فيها كما تقدّم، والضّعيف لا يُعل به الصّحيح. الاعتذار الثالث: منهم مَن قال: هو معارضٌ لعموم القرآن كقوله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به). وأجيب: بأنّه من ضمان المتلفات لا العقوبات، والمتلفات تضمن بالمثل وبغير المثل. الاعتذار الرابع: منهم مَن قال: هو منسوخ. وتعقّب: بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النّسخ مع مدّعيه , لأنّهم اختلفوا في النّاسخ. فقيل ناسخه: حديث النّهي عن بيع الدّين بالدّين، وهو حديثٌ أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر. ووجه الدّلالة منه أنّ لبن المصرّاة يصير ديناً في ذمّة المشتري، فإذا ألزم بصاعٍ من تمر نسيئة صار ديناً بدينٍ، وهذا جواب الطّحاويّ. وتعقّب: بأنّ الحديث ضعيف باتّفاق المحدّثين، وعلى التّنزّل فالتّمر إنّما شرع في مقابل الحلب سواء كان اللبن موجوداً أو غير

موجودٍ فلم يتعيّن في كونه من الدّين بالدّين. وقيل ناسخه: حديث " الخراج بالضّمان " وهو حديثٌ أخرجه أصحاب السّنن عن عائشة. ووجه الدّلالة منه أنّ اللبن فضلة من فضلات الشّاة ولو هلكت لكان من ضمان المشتري فكذلك فضلاتها تكون له. فكيف يغرم بدلها للبائع؟ حكاه الطّحاويّ أيضاً. وتعقّب: بأنّ حديث المصرّاة أصحّ منه باتّفاقٍ. فكيف يقدّم المرجوح على الرّاجح؟ ودعوى كونه بعده لا دليل عليها، وعلى التّنزال فالمشتري لَم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه , بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد. ولَم يدخل في العقد فليس بين الحديثين على هذا تعارضٌ. وقيل ناسخه: الأحاديث الواردة في رفع العقوبة بالمال، وقد كانت مشروعةً قبل ذلك كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه في مانع الزّكاة: فإنّا آخذوها وشطر ماله. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه " في الذي يسرق من الجرين: يغرم مثليه " وكلاهما في السّنن. وهذا جواب عيسى بن أبان، فحديث المصرّاة من هذا القبيل , وهي كلها منسوخة. وتعقّبه الطّحاويّ: بأنّ التّصرية إنّما وجدت من البائع، فلو كان من ذلك الباب للزمه التّغريم، والفرض أنّ حديث المصرّاة يقتضي

تغريم المشتري فافترقا. وقيل ناسخه: حديث " والبيّعان بالخِيَار ما لَم يتفرّقا " وهذا جواب محمّد بن شجاع. ووجه الدّلالة منه أنّ الفرقة تقطع الخِيَار فثبت أن لا خِيَار بعدها إلَّا لمن استثناه الشّارع بقوله " إلَّا بيع الخِيَار ". وتعقّبه الطّحاويّ: بأنّ الخِيَار الذي في المصرّاة من خِيَار الرّدّ بالعيب، وخِيَار الرّدّ بالعيب لا تقطعه الفرقة، ومن الغريب أنّهم لا يقولون بخِيَار المجلس ثمّ يحتجّون به فيما لَم يرد فيه. الاعتذار الخامس: منهم مَن قال: هو خبرٌ واحدٌ لا يفيد إلَّا الظّنّ، وهو مخالفٌ لقياس الأصول المقطوع به فلا يلزم العمل به. وتعقّب: بأنّ التّوقّف في خبر الواحد إنّما هو في مخالفة الأصول لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنّما خالف قياس الأصول بدليل أنّ الأصول الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس، والكتاب والسّنّة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما. فالسّنّة أصل والقياس فرع. فكيف يردّ الأصل بالفرع؟ بل الحديث الصّحيح أصل بنفسه. فكيف يقال إنّ الأصل يخالف نفسه؟. وعلى تقدير التّسليم. يكون قياس الأصول يفيد القطع وخبر الواحد لا يفيد إلَّا الظّنّ، فتناول الأصل لا يخالف هذا الخبر الواحد غير مقطوعٍ به لجواز استثناء محله عن ذلك الأصل. قال ابن دقيق العيد: وهذا أقوى متمسّكٍ به في الرّدّ على هذا المقام.

وقال ابن السّمعانيّ: متى ثبت الخبر صار أصلاً من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصلٍ آخر , لأنّه إن وافقه فذاك , وإن خالفه فلا يجوز ردّ أحدهما , لأنّه ردٌّ للخبر بالقياس , وهو مردودٌ باتّفاقٍ , فإنّ السّنّة مقدّمةٌ على القياس بلا خلاف، إلى أن قال: والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة , لكنّها ليست لازمةً , لأنّ السّنّة الثّابتة مقدّمة عليها. والله تعالى أعلم. وعلى تقدير التّنزّل فلا نسلم أنّه مخالفٌ لقياس الأصول , لأنّ الذي ادّعوه عليه من المخالفة بيّنوها بأوجه: أحدها: أنّ المعلوم من الأصول أنّ ضمان المثليّات بالمثل والمتقوّمات بالقيمة، وهاهنا إن كان اللبن مثليّاً فليضمن باللبن , وإن كان متقوّماً فليضمن بأحد النّقدين، وقد وقع هنا مضموناً بالتّمر فخالف الأصل. والجواب: منع الحصر، فإنّ الحرّ يضمن في ديته بالإبل وليست مثلاً ولا قيمة. وأيضاً فضمان المثل بالمثل ليس مطّرداً فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذّرت المماثلة كمن أتلف شاة لبوناً كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبناً آخر لتعذّر المماثلة. ثانيها: أنّ القواعد تقتضي أن يكون المضمون مقدّرَ الضّمان بقدر التّالف وذلك مختلف، وقد قدّر هنا بمقدارٍ واحدٍ وهو الصّاع فخرج عن القياس. والجواب: منع التّعميم في المضمونات كالموضحة فأرشها مقدّر مع

اختلافها بالكبر والصّغر، والغرّة مقدّرة في الجنين مع اختلافه، والحكمة في ذلك أنّ كل ما يقع فيه التّنازع فليقدّر بشيءٍ معيّنٍ لقطع التّشاجر، وتقدّم هذه المصلحة على تلك القاعدة فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتّى يوجب نظيره على المشتري، ولو عرف مقداره فوكل إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لأفضى إلى النّزاع والخصام، فقطع الشّارع النّزاع والخصام وقدّره بحدٍّ لا يتعدّيانه فصلاً للخصومة. وكان تقديره بالتّمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنّه كان قوتهم إذ ذاك كاللبن وهو مكيلٌ كاللبن ومقتاتٌ فاشتركا في كون كل واحدٍ منهما مطعوماً مقتاتاً مكيلاً، واشتركا أيضاً في أنّ كُلاً منهما يقتات به بغير صنعة ولا علاج. ثالثها: أنّ اللبن التّالف إن كان موجوداً عند العقد , فقد ذهب جزءٌ من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرّدّ , فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه. وإن كان مختلطاً فما كان منه موجوداً عند العقد وما كان حادثاً لَم يجب ضمانه. والجواب: أن يقال إنّما يمتنع الرّدّ بالنّقص إذا لَم يكن لاستعلام العيب , وإلا فلا يمتنع. وهنا كذلك. رابعها: أنّه خالف الأصول في جعل الخِيَار فيه ثلاثاً مع أنّ خِيَار العيب لا يقدّر بالثّلاث. وكذا خِيَار المجلس عند من يقول به. وخِيَار الرّؤية عند من يثبته،

والجواب: بأنّ حكم المصرّاة انفرد بأصله عن مماثلةٍ فلا يستغرب أن ينفرد بوصفٍ زائدٍ على غيره، والحكمة فيه أنّ هذه المدّة هي التي يتبيّن بها لبن الخلقة من اللبن المجتمع بالتّدليس غالباً فشرعت لاستعلام العيب، بخلاف خِيَار الرّؤية والعيب فلا يتوقّف على مدّة، وأمّا خِيَار المجلس فليس لاستعلام العيب، فظهر الفرق بين الخِيَار في المصرّاة وغيرها. خامسها: أنّه يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوّض فيما إذا كانت قيمة الشّاة صاعاً من تمرٍ فإنّها ترجع إليه من الصّاع الذي هو مقدار ثمنها. والجواب: أنّ التّمر عوضٌ عن اللبن لا عن الشّاة فلا يلزم ما ذكروه. سادسها: أنّه مخالفٌ لقاعدة الرّبا فيما إذا اشترى شاةً بصاعٍ. فإذا استردّ معها صاعاً فقد استرجع الصّاع الذي هو الثّمن , فيكون قد باع شاةً وصاعاً بصاع. والجواب: أنّ الرّبا إنّما يعتبر في العقود لا الفسوخ، بدليل أنّهما لو تبايعا ذهباً بفضّةٍ لَم يجز أن يتفرّقا قبل القبض، فلو تقايلا في هذا العقد بعينه جاز التّفرّق قبل القبض. سابعها: أنّه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجوداً، والأعيان لا تضمن بالبدل إلَّا مع فواتها كالمغصوب. والجواب: أنّ اللبن وإن كان موجوداً لكنّه تعذّر ردّه، لاختلاطه

باللبن الحادث بعد العقد وتعذّر تمييزه فأشبه الآبق بعد الغصب فإنّه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذّر الرّدّ. ثامنها: أنّه يلزم منه إثبات الرّدّ بغير عيبٍ ولا شرط، أمّا الشّرط فلم يوجد وأمّا العيب فنقصان اللبن لو كان عيباً لثبت به الرّدّ من غير تصريةٍ والجواب: أنّ الخِيَار يثبت بالتّدليس كمن باع رحىً دائرةً بما جمعه لها بغير علم المشتري فإذا اطّلع عليه المشتري كان له الرّدّ، وأيضاً فالمشتري لَمَّا رأى ضرعاً مملوءاً لبناً ظنّ أنّه عادةٌ لها فكأنّ البائع شرط له ذلك فتبيّن الأمر بخلافه. فثبت له الرّدّ لفقد الشّرط المعنويّ , لأنّ البائع يظهر صفة المبيع تارةً بقوله وتارةً بفعله فإذا أظهر المشتري على صفةٍ فبان الأمر بخلافها كان قد دلَّس عليه , فشرع له الخِيَار. وهذا هو محض القياس ومقتضى العدل، فإنّ المشتري إنّما بذل ماله بناءً على الصّفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشّارع الخِيَار للرّكبان إذا تلقّوا واشتري منهم قبل أن يهبطوا إلى السّوق ويعلموا السّعر , وليس هناك عيبٌ ولا خلفٌ في شرط. ولكن لِمَا فيه من الغشّ والتّدليس. الاعتذار السادس: منهم مَن قال: الحديث صحيح لا اضطراب فيه ولا عِلَّة ولا نسخ , وإنّما هو محمولٌ على صورةٍ مخصوصةٍ , وهو ما إذا اشترى شاةً بشرط أنّها تحلب مثلاً خمسة أرطالٍ وشرط فيها الخِيَار فالشّرط فاسد، فإن اتّفقا على إسقاطه في مدّة الخِيَار صحّ العقد وإن لَم

يتّفقا بطل العقد ووجب ردّ الصّاع من التّمر , لأنّه كان قيمة اللبن يومئذٍ وتعقّب: بأنّ الحديث ظاهرٌ في تعليق الحكم بالتّصرية، وما ذكره هذا القائل يقتضي تعليقه بفساد الشّرط سواء وجدت التّصرية أم لا فهو تأويلٌ متعسّفٌ. وأيضاً فلفظ الحديث لفظ عموم، وما ادّعوه على تقدير تسليمه فردٌ من أفراد ذلك العموم , فيحتاج من ادّعى قصر العموم عليه الدّليل على ذلك ولا وجود له. قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث أصل في النّهي عن الغشّ، وأصل في ثبوث الخِيَار لمن دلس عليه بعيب، وأصلٌ في أنّه لا يفسد أصل البيع، وأصل في أن مدّة الخِيَار ثلاثة أيّامٍ، وأصلٌ في تحريم التّصرية وثبوت الخِيَار بها. وقد روى أحمد وابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعاً: بيع المحفّلات خلابة , ولا تحل الخلابة لمسلم. وفي إسناده ضعفٌ. قد رواه ابن أبي شيبة وعبد الرّزّاق موقوفاً بإسنادٍ صحيحٍ. وروى ابن أبي شيبة من طريق قيس بن أبي حازم قال: كان يقال: التّصرية خلابة. وإسناده صحيح واختلف القائلون به في أشياء. المسألة الأولى: لو كان عالماً بالتّصرية هل يثبت له الخِيَار؟. فيه وجه للشّافعيّة.

ويرجّح أنّه لا يثبت رواية عكرمة عن أبي هريرة في هذا الحديث عند الطّحاويّ فإنّ لفظه " من اشترى مصرّاة ولَم يعلم أنّها مصرّاة " الحديث. ولو صار لبن المصرّاة عادةً واستمرّ على كثرته هل له الرّدّ؟. فيه وجه لهم أيضاً خلافاً للحنابلة في المسألتين المسألة الثانية: لو تحفّلت بنفسها أو صرّها المالك لنفسه , ثمّ بدا له فباعها فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف: فمن نَظَرَ إلى المعنى أثبته , لأنّ العيب مُثبِتٌ للخِيَار , ولا يشترط فيه تدليس للبائع. ومن نَظَرَ إلى أنّ حكم التّصرية خارج عن القياس. خصّه بمورده - وهو حالة العمد - فإنّ النّهي إنّما تناولها فقط. المسألة الثالثة: لو كان الضّرع مملوءاً لحماً وظنّه المشتري لبناً فاشتراها على ذلك , ثمّ ظهر له أنّه لحم هل يثبت له الخِيَار؟. فيه وجهان حكاهما بعض المالكيّة. المسألة الرابعة: لو اشترى غير المصرّاة , ثمّ اطّلع على عيبٍ بها بعد حلبها، فقد نصّ الشّافعيّ على جواز الرّدّ مجّاناً , لأنّه قليلٌ غير معتنىً بجمعه. وقيل: يردّ بدل اللبن كالمصرّاة، وقال البغويّ: يردّ صاعاً من تمر تكميل: في البخاري من رواية ثابت مولى عبد الرّحمن بن زيدٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اشترى غنماً مصرّاةً فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاعٌ من

تمرٍ ". قوله " حلبتها " بسكون اللام على أنّه اسم الفعل. ويجوز الفتح على إرادة المحلوب، وظاهره أنّ التّمر مقابل للحلبة. وزعم ابن حزمٍ: أنّ التّمر في مقابلة الحلب لا في مقابلة اللبن , لأنّ الحلبة حقيقة في الحلب مجازٌ في اللبن والحمل على الحقيقة أولى , فلذلك قال: يجب ردّ التّمر واللبن معاً. وشذّ بذلك عن الجمهور. وقوله " ففي حلبتها صاع من تمر ". القول الأول. ظاهره أنّ صاع التّمر في مقابل المصرّاة سواء كانت واحدة أو أكثر لقوله " من اشترى غنماً " ثمّ قال " ففي حلبتها صاع من تمر ". ونقله ابن عبد البرّ عمّن استعمل الحديث، وابن بطّال عن أكثر العلماء، وابن قدامة عن الشّافعيّة والحنابلة. القول الثاني: عن أكثر المالكيّة يردّ عن كل واحدة صاعاً. حتّى قال المازريّ: من المستبشع أن يغرم متلف لبن ألف شاةٍ كما يغرم متلف لبن شاةٍ واحدةٍ. وأجيب: بأنّ ذلك مغتفر بالنّسبة إلى ما تقدّم من أنّ الحكمة في اعتبار الصّاع , قطع النّزاع فجعل حدّاً يرجع إليه عند التّخاصم فاستوى القليل والكثير. ومن المعلوم أنّ لبن الشّاة الواحدة أو النّاقة الواحدة يختلف اختلافاً متبايناً، ومع ذلك فالمعتبر الصّاع سواء قل اللبن أم كثر،

فكذلك هو معتبرٌ سواء قلّت المصرّاة أو كثرت. والله تعالى أعلم.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 261 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن بيع حَبَل الْحبَلَة، وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها. (¬1). قال المصنف: قيل: إنه كان يبيع الشارف - وهي الكبيرة المُسنة - بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته. قوله: (بيع حبل الحبلة) بفتح المهلة والموحّدة. وقيل في الأوّل بسكون الموحّدة وغلطه عياضٌ (¬2)، وهو مصدر حبلت تحبل حبلاً. والحبلة جمع حابل مثل ظلمة وظالم وكتبة وكاتب. والهاء فيه للمبالغة. وقيل: للإشعار بالأنوثة وقد ندر فيه امرأةٌ حابلةٌ فالهاء فيه للتّأنيث، وقيل: حبلة مصدر يسمّى به المحبول. قال أبو عبيد: لا يقال لشيءٍ من الحيوان حبلت إلَّا الآدميّات , إلَّا ما ورد في هذا الحديث. وأثبته صاحب " المحكم " قولاً، فقال: اختلف أهي للإناث عامّة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2036) عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - به. وأخرجه البخاري (2137 , 3630) ومسلم (1514) من طرق أخرى عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) هو القاضي عياض بن موسى , سبق ترجمته (1/ 103)

أم للآدميّات خاصّة. وأنشد في التّعميم قول الشّاعر: أو ذيخة حبلى مجحّ مقرب وفي ذلك تعقّب على نقل النّوويّ. اتّفاق أهل اللغة على التّخصيص. قوله: (وكان) أي: بيع حبل الحبلة قوله: (بيعاً يتبايعه أهل الجاهليّة إلخ) كذا وقع هذا التّفسير في " الموطّأ " متّصلاً بالحديث، قال الإسماعيليّ: وهو مدرجٌ. يعني: أنّ التّفسير من كلام نافع، وكذا ذكر الخطيب في المدرج. وللبخاري عن موسى بن إسماعيل التّبوذكيّ عن جويرية. التّصريح بأنّ نافعاً هو الذي فسّره , لكن لا يلزم من كون نافعٍ فسرّه لجويرية أن لا يكون ذلك التّفسير ممّا حمله عن مولاه ابن عمر. فأخرجه الشيخان من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: كان أهل الجاهليّة يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج النّاقة ما في بطنها ثمّ تحمل التي نتجت، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فظاهر هذا السّياق أنّ هذا التّفسير من كلام ابن عمر , ولهذا جزم ابن عبد البرّ بأنّه من تفسير ابن عمر. وقد أخرجه مسلم من رواية الليث والتّرمذيّ والنّسائيّ من رواية أيّوب كلاهما عن نافعٍ بدون التّفسير، وأخرجه أحمد والنّسائيّ وابن ماجه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر. بدون التّفسير أيضاً.

قوله: (الجزور) بفتح الجيم وضمّ الزّاي. هو البعير ذكراً كان أو أنثى، إلَّا أنّ لفظه مؤنّثٌ , تقول: هذه الجزور وإن أردت ذكراً. فيحتمل: أن يكون ذكره في الحديث قيداً فيما كان أهل الجاهليّة يفعلونه فلا يتبايعون هذا البيع إلَّا في الجزور أو لحم الجزور. ويحتمل: أن يكون ذكر على سبيل المثال، وأمّا في الحكم فلا فرق بين الجزور وغيرها في ذلك. قوله: (إلى أن تُنتج) بضمّ أوّله وفتح ثالثه. أي: تلد ولداً والنّاقة فاعل، وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة الفعل المسند إلى المفعول وهو حرفٌ نادرٌ. قوله: (ثمّ تُنتج التي في بطنها) أي: ثمّ تعيش المولودة حتّى تكبر ثمّ تلد، وهذا القدر زائد على رواية عبيد الله بن عمر فإنّه اقتصر على قوله " ثمّ تحمل التي في بطنها ". ورواية جويرية أخصر منهما. ولفظه " أن تنتج النّاقة ما في بطنها ". القول الأول: بظاهر هذه الرّواية قال سعيد بن المسيّب. فيما رواه عنه مالك، وقال به مالك والشّافعيّ وجماعة، وهو أن يبيع بثمنٍ إلى أن يلد ولد النّاقة. القول الثاني: قال بعضهم: أن يبيع بثمنٍ إلى أن تحمل الدّابّة وتلد ويحمل ولدها، وبه جزم أبو إسحاق في " التّنبيه " فلم يشترط وضع حمل الولد كرواية مالك. ولَم أر من صرّح بما اقتضته رواية جويرية. وهو الوضع فقط، وهو

في الحكم مثل الذي قبله، والمنع في الصّور الثّلاث للجهالة في الأجل ومن حقّه على هذا التّفسير أن يذكر في السّلم. القول الثالث: قال أبو عبيدة وأبو عبيد وأحمد وإسحاق وابن حبيب المالكيّ وأكثر أهل اللغة. وبه جزم التّرمذيّ: هو بيع ولد نتاج الدّابّة. والمنع في هذا من جهة أنّه بيعٌ معدومٌ ومجهولٌ وغير مقدورٍ على تسليمه فيدخل في بيوع الغرر، ولذلك صدّر البخاريّ بذكر الغرر في التّرجمة " باب بيع الغرر وحبل الحبلة " لكنّه أشار إلى التّفسير الأوّل بإيراد الحديث في كتاب السّلم أيضاً " باب السلم إلى أن تنتج الناقة " ورجّح الأوّل. لكونه موافقاً للحديث , وإن كان كلام أهل اللغة موافقاً للثّاني. لكن قد روى الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق عن نافعٍ عن ابن عمر ما يوافق الثّاني. ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر قال: إنّ أهل الجاهليّة كانوا يتبايعون ذلك البيع يبتاع الرّجل بالشّارف حبل الحبلة فنهوا عن ذلك. وقال ابن التّين: محصّل الخلاف هل المراد البيع إلى أجلٍ أو بيع الجنين؟. وعلى الأوّل. هل المراد بالأجل ولادة الأمّ أو ولادة ولدها؟. وعلى الثّاني. هل المراد بيع الجنين الأوّل أو بيع جنين الجنين؟ فصارت أربعة أقوالٍ. انتهى وحكى صاحب " المحكم " قولاً آخر , أنّه بيع ما في بطون الأنعام،

وهو أيضاً من بيوع الغرر، لكن هذا إنّما فسّر به سعيد بن المسيّب - كما رواه مالك في " الموطّأ " - بيع المضامين، وفسّر به غيره بيع الملاقيح. واتّفقت هذه الأقوال - على اختلافها - على أنّ المراد بالحبلة جمع حابل أو حابلة من الحيوان، إلَّا ما حكاه صاحب " المحكم " وغيره عن ابن كيسان أنّ المراد بالحبلة الكرمة، وأنّ النّهي عن بيع حبلها. أي: حملها قبل أن تبلغ كما نهى عن بيع ثمر النّخلة قبل أن تزهى، وعلى هذا فالحبْلة بإسكان الموحّدة. وهو خلاف ما ثبتت به الرّوايات، لكن حكي في الكرمة فتح الباء. وادّعى السّهيليّ تفرّد ابن كيسان به، وليس كذلك. فقد حكاه ابن السّكّيت في " كتاب الألفاظ " ونقله القرطبيّ (¬1) في " المفهم " عن أبي العبّاس المبرّد، والهاء على هذا للمبالغة وجهاً واحداً. ويؤخذ من الحديث ترك جواز السّلم إلى أجل غير معلوم. ولو أسند إلى شيء يعرف بالعادة، خلافاً لمالك ورواية عن أحمد. تكميل: عطْفُ البخاريِّ بيع حبل الحبلة على بيع الغرر من عطف الخاصّ على العامّ، ولَم يذكر في الباب بيع الغرر صريحاً. وكأنّه أشار إلى ما أخرجه أحمد من طريق ابن إسحاق حدّثني نافع , وابن حبّان من طريق سليمان التّيميّ عن نافعٍ عن ابن عمر قال: نهى ¬

_ (¬1) هو صاحب المفهم أحمد بن عمر , سبق ترجمته (1/ 26)

النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر. وقد أخرج مسلم النّهي عن بيع الغرر من حديث أبي هريرة وابن ماجه من حديث ابن عبّاس , والطّبرانيّ من حديث سهل بن سعد. ولأحمد من حديث ابن مسعود رفعه: لا تشتروا السّمك في الماء فإنّه غررٌ. وشراء السّمك في الماء نوع من أنواع الغرر، ويلتحق به الطّير في الهواء والمعدوم والمجهول والآبق ونحو ذلك. قال النّوويّ: النّهي عن بيع الغرر أصلٌ من أصول البيع. فيدخل تحته مسائل كثيرة جدّاً، ويُستثنى من بيع الغرر أمران. أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعاً. فلو أفرد لَم يصحّ بيعه. الثّاني: ما يتسامح بمثله. إمّا لحقارته أو للمشقّة في تمييزه وتعيينه. فمن الأوّل: بيع أساس الدّار، والدّابّة التي في ضرعها اللبن، والحامل. ومن الثّاني: الجبّة المحشوّة والشّرب من السّقاء. قال (¬1): وما اختلف العلماء فيه مبنيٌّ على اختلافهم في كونه حقيراً أو يشقّ تمييزه أو تعيينه. فيكون الغرر فيه كالمعدوم فيصحّ البيع وبالعكس. وقال: ومِن بيوع الغرر ما اعتاده النّاس من الاستجرار من الأسواق بالأوراق مثلاً فإنّه لا يصحّ , لأنّ الثّمن ليس حاضراً فيكون ¬

_ (¬1) أي: النووي.

من المعاطاة , ولَم توجد صيغةٌ يصحّ بها العقد، وروى الطّبريّ عن ابن سيرين بإسنادٍ صحيحٍ. قال: لا أعلم ببيع الغرر بأساً. قال ابن بطّال: لعله لَم يبلغه النّهي , وإلَّا فكل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد لَم يصحّ، وكذلك إذا كان لا يصحّ غالباً، فإن كان يصحّ غالباً كالثّمرة في أوّل بدوّ صلاحها أو كان مستمرّاً تبعاً كالحمل مع الحامل جاز لقلة الغرر. ولعل هذا هو الذي أراده ابن سيرين. لكن منع من ذلك. ما رواه ابن المنذر عنه , أنّه قال: لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحداً. فهذا يدل على أنّه يرى بيع الغرر إن سلم في المال. والله أعلم.

الحديث السادس

الحديث السادس 262 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نَهى البائع والمُبتاع. (¬1) قوله: (نهى عن بيع الثمرة) الثّمار بالمثلثة جمع ثمرةٍ بالتّحريك , وهي أعمّ من الرّطب وغيره، ولَم يجزم البخاري بحكمٍ في المسألة لقوّة الخلاف فيها. وقد اختلف في ذلك على أقوال: القول الأول: يبطل مطلقاً. وهو قول ابن أبي ليلى والثّوريّ، ووهم من نقل الإجماع على البطلان. القول الثاني: يجوز مطلقاً ولو شرط التّبقية. وهو قول يزيد بن أبي حبيب، ووهم من نقل الإجماع فيه أيضاً. القول الثالث: إنّ شرط القطع لَم يبطل وإلا بطل , وهو قول الشّافعيّ وأحمد والجمهور. ورواية عن مالك. القول الرابع: يصحّ إن لَم يشترط التّبقية , والنّهي فيه محمول على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2082) ومسلم (1534) من طرق عن نافع عن ابن عمر. وأخرجه البخاري (1415) ومسلم (1534) من طريق شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنه -. نحوه. وللبخاري (2072) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه نحوه. وذكره معلّقاً (2087).

بيع الثّمار قبل أن توجد أصلاً. وهو قول أكثر الحنفيّة. القول الخامس: هو على ظاهره , لكنّ النّهي فيه للتّنزيه وحديث زيد بن ثابت في البخاري معلقاً (¬1): قال: كان النّاس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثّمار، فإذا جدّ النّاس وحضر تقاضيهم , قال المبتاع: إنّه أصاب الثّمر الدّمان , أصابه مراضٌ , أصابه قشامٌ عاهاتٌ يحتجّون بها , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا كثرت عنده الخصومة في ذلك: فإمّا لا. فلا يتبايعوا حتّى يبدو صلاح الثّمر. كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم " يدل للأخير، وقد يحمل على الثّاني قوله: (حتى يبدو صلاحها) مقتضاه جواز بيعها بعد بدوّ الصّلاح مطلقاً سواءٌ اشترط الإبقاء أم لَم يشترط، لأنّ ما بعد الغاية مخالفٌ لِمَا قبلها، وقد جعل النّهي ممتدّاً إلى غاية بدوّ الصّلاح، والمعنى فيه أن تؤمن فيها الغاية وتغلب السّلامة فيثق المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بدوّ الصّلاح فإنّه بصدد الغرر. ¬

_ (¬1) قال البخاري (2193) وقال اللّيث: عن أبي الزّناد: كان عروة بن الزّبير يحدّث عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري من بني حارثة , أنّه حدّثه عن زيد بن ثابتٍ .. فذكره. ثم قال: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابتٍ , أنّ زيد بن ثابتٍ لَم يكن يبيع ثمار أرضه حتّى تطلع الثّريّا. فيتبيّن الأصفر من الأحمر. قال الحافظ في " الفتح " (4/ 498): لَم أره موصولاً من طريق اللّيث، وقد رواه سعيد بن منصور عن أبي الزّناد عن أبيه نحو حديث اللّيث , ولكن بالإسناد الثّاني دون الأوّل، وأخرجه أبو داود والطّحاويّ من طريق يونس بن يزيد عن أبي الزّناد بالإسناد الأوّل دون الثّاني، وأخرجه البيهقيّ من طريق يونس بالإسنادين معاً. اهـ

وقد أخرج مسلمٌ الحديث من طريق أيّوب عن نافعٍ. فزاد في الحديث " حتّى يأمن العاهة ". وفي رواية يحيى بن سعيدٍ عن نافعٍ بلفظ " وتذهب عنه الآفة ببدوّ صلاحه حمرته وصفرته ". وهذا التّفسير من قول ابن عمر بيّنه مسلمٌ في روايته من طريق شعبة عن عبد الله بن دينارٍ عن ابن عمر. فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته. وروى أبو داود من طريق عطاءٍ عن أبي هريرة مرفوعاً قال: إذا طلع النّجم صباحاً رفعت العاهة عن كل بلدٍ. وفي رواية أبى حنيفة عن عطاءٍ " رفعت العاهة عن الثّمار ". والنّجم هو الثّريّا، وطلوعها صباحاً يقع في أوّل فصل الصّيف , وذلك عند اشتداد الحرّ في بلاد الحجاز وابتداء نضج الثّمار؛ فالمعتبر في الحقيقة النّضج وطلوع النّجم علامةٌ له، وقد بيّنه حديث زيد بن ثابت بقوله " ويتبيّن الأصفر من الأحمر ". وروى أحمد من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة , سألت ابن عمر عن بيع الثّمار , فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثّمار حتّى تذهب العاهة. قلت: ومتى ذلك؟ قال: حتّى تطلع الثّريّا. وإلى الفرق بين ما قبل ظهور الصّلاح وبعده , ذهب الجمهور. وعن أبي حنيفة: إنّما يصحّ بيعها في هذه الحالة حيث لا يشترط الإبقاء، فإن شرطه لَم يصحّ البيع. وحكى النّوويّ في " شرح مسلمٍ " عنه. أنّه أوجب شرط القطع في هذه الصّورة.

وتعقّب: بأنّ الذي صرّح به أصحاب أبي حنيفة , أنّه صحّح البيع حالة الإطلاق قبل بدوّ صلاحٍ وبعده، وأبطله بشرط الإبقاء قبله وبعده، وأهل مذهبه أعرف به من غيرهم. واختلف السّلف في قوله " حتّى يبدو صلاحها ". هل المراد به جنس الثّمار حتّى لو بدا الصّلاح في بستانٍ من البلد مثلاً جاز بيع ثمرة جميع البساتين. وإن لَم يبد الصّلاح فيها، أو لا بدّ من بدوّ الصّلاح في كل بستانٍ على حدةٍ، أو لا بدّ من بدوّ الصّلاح في كل جنسٍ على حدةٍ أو في كل شجرةٍ على حدةٍ؟ على أقوالٍ: والأوّل: قول الليث، وهو عند المالكيّة بشرط أن يكون الصّلاح متلاحقاً. والثّاني: قول أحمد، وعنه روايةٌ كالرّابع. والثّالث: قول الشّافعيّة. ويمكن أن يؤخذ ذلك من التّعبير ببدوّ الصّلاح , لأنّه دالٌ على الاكتفاء بمسمّى الإزهار من غير اشتراط تكامله فيؤخذ منه الاكتفاء بزهو بعض الثّمرة وبزهو الشّجرة مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة، ولولا حصول المعنى لكان تسميتها مزهيةً بإزهاء بعضها قد لا يكتفى به لكونه على خلاف الحقيقة. وأيضاً فلو قيل بإزهاء الجميع لأدّى إلى فساد الحائط أو أكثره، وقد منّ الله تعالى بكون الثّمار لا تطيب دفعةً واحدةً ليطول زمن التّفكّه بها.

قوله: (نهى البائع والمبتاع) أمّا البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأمّا المشتري فلئلا يضيّع ماله ويساعد البائع على الباطل. وفيه أيضاً قطع النّزاع والتّخاصم. تكميل: قال البخاري " باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه، وقد وجب فيه العشر أو الصّدقة فأدّى الزّكاة من غيره أو باع ثماره ولَم تجب فيه الصّدقة. وقول النّبىّ - صلى الله عليه وسلم -: لا تبيعوا الثّمرة حتّى يبدو صلاحها " فلم يحظر البيع بعد الصّلاح على أحدٍ ولَم يخصّ من وجب عليه الزّكاة ممّن لَم تجب " انتهى ظاهر سياق هذه التّرجمة , أنّ البخاري يرى جواز بيع الثّمرة بعد بدوّ الصّلاح ولو وجبت فيها الزّكاة بالخرص مثلاً لعموم قوله " حتّى يبدو صلاحها " وهو أحد قولي العلماء. القول الثّاني: لا يجوز بيعها بعد الخرص لتعلّق حقّ المساكين بها، وهو أحد قولي الشّافعيّ. وقائل هذا حمل الحديث على الجواز بعد الصّلاح وقبل الخرص جمعاً بين الحديثين. وقوله " فأدّى الزّكاة من غيره " , لأنّه إذا باع بعد وجوب الزّكاة فقد فعل أمراً جائزاً كما تقدّم. فتعلقت الزّكاة بذمّته فله أن يعطيها من غيره , أو يخرج قيمتها على رأي من يجيزه. وهو اختيار البخاريّ كما سبق. وأمّا قوله " ولَم يخصّ من وجبت عليه الزّكاة ممّن لَم تجب " فيتوقّف

على مقدّمةٍ أخرى , وهي أنّ الحقّ يتعلق بالصّلاح، وظاهر القرآن يقتضي أنّ وجوب الإيتاء إنّما هو يوم الحصاد على رأي من جعلها في الزّكاة، إلَّا أن يقال: إنّما تعرّضت الآية لبيان زمن الإيتاء لا لبيان زمان الوجوب. والظّاهر. أنّ البخاريّ اعتمد في تصحيح هذه المقدّمة استعمال الخرص عند الصّلاح لتعلق حق المساكين، فطواها بتقديمه حكم الخرص فيما سبق أشار إلى ذلك ابن رشيد. وقال ابن بطّال: أراد البخاريّ الرّدّ على أحد قولي الشّافعيّ بفساد البيع كما تقدّم، وقال أبو حنيفة: المشتري بالخِيَار. ويؤخذ العشر منه ويرجع هو على البائع، وعن مالك: العشر على البائع إلَّا أن يشترطه على المشتري وهو قول الليث، وعن أحمد الصّدقة على البائع مطلقاً. وهو قول الثّوريّ والأوزاعيّ. والله أعلم.

الحديث السابع

الحديث السابع 263 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل وما تزهي؟ قال: حتى تحمرّ، قال: أرأيتَ إذا منع الله الثمرة، بِمَ يستحلُّ أحدُكم مالَ أَخيه. (¬1) قوله: (نهى عن بيع الثمار) وللبخاري من رواية ابن المبارك عن حميد الطّويل عن أنسٍ " نهى أن تباع ثمرة النّخل حتّى تزهو " كذا وقع التّقييد بالنّخل في هذه الطّريق، وأطلق في غيرها. ولا فرق في الحكم بين النّخل وغيره , وإنّما ذكر النّخل لكونه كان الغالب عندهم. قوله: (حتى تزهي) في رواية إسماعيل بن جعفر عن حميد في الصحيحين " نهى عن بيع ثمر النّخل حتّى تزهو " يقال: زها النّخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وقوله " حتّى تزهي " وهو من أزهى يزهي إذا احمرّ أو اصفرّ. قال الخطّابيّ: هذه الرّواية هي الصّواب. فلا يقال في النّخل تزهو. إنّما يقال تزهي لا غير. وأثبت غيره ما نفاه فقال: زها إذا طال واكتمل، وأزهى إذا احمرّ واصفرّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1417 , 2083 , 2085 , 2086 , 2094) ومسلم (4061) من طرق عن حميد عن أنس - رضي الله عنه -. وهذا لفظ مالك.

قوله: (قيل: وما تزهي؟) لَم يسمّ السّائل في هذه الرّواية (¬1) ولا المسئول أيضاً، وقد رواه النّسائيّ من طريق عبد الرّحمن بن القاسم عن مالكٍ بلفظ " قيل: يا رسولَ الله: وما تزهي؟ قال: تحمرّ ". وهكذا أخرجه الطّحاويّ من طريق يحيى بن أيّوب وأبو عوانة من طريق سليمان بن بلالٍ كلاهما عن حميدٍ. وظاهره الرّفع , ورواه إسماعيل بن جعفرٍ عن حميدٍ عند البخاري موقوفاً على أنسٍ. وفيه " قلنا لأنسٍ: ما زهوها؟ قال: تحمرّ وتصفر , أرأيت إن منع .. " وفي رواية مسلمٍ من هذا الوجه " فقلت لأنسٍ " وكذلك رواه أحمد عن يحيى القطّان عن حميدٍ , لكن قال: قيل لأنسٍ: ما تزهو؟. قوله: (قال: حتى تحمرّ) في رواية هشيم بن بشير عن حميد عند البخاري " قيل: وما يزهو؟ قال: يحمارّ أو يصفارّ " (¬2) قوله: (أرأيت إذا منع الله الثمرة ..) هكذا صرّح مالكٌ برفع هذه الجملة، وتابعه محمّد بن عبّادٍ عن الدّراورديّ عن حميدٍ مقتصراً على هذه الجملة الأخيرة، وجزم الدّارقطنيّ وغير واحدٍ من الحفّاظ بأنّه أخطأ فيه، وبذلك جزم ابن أبي حاتمٍ في " العلل " عن أبيه وأبي زرعة. والخطأ في رواية عبد العزيز من محمّد بن عبّاد، فقد رواه إبراهيم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1417) عن قتيبة , و (2198) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (4061) من طريق ابن وهب كلهم عن مالك به. واختصره قتيبة. (¬2) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في حديث جابر - رضي الله عنه - بعد حديثين رقم (266).

بن حمزة عن الدّراورديّ كرواية إسماعيل بن جعفرٍ الآتي ذكرها. ورواه معتمر بن سليمان وبشر بن المفضّل عن حميدٍ فقال فيه " قال: أفرأيت إلخ " قال: فلا أدري أنسٌ قال: بِمَ يستحل , أو حدّث به عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " أخرجه الخطيب في " المدرج " ورواه إسماعيل بن جعفرٍ عن حميدٍ فعطفه على كلام أنسٍ في تفسير قوله " تزهي " وظاهره الوقف. وأخرجه الجوزقيّ من طريق يزيد بن هارون , والخطيب من طريق أبي خالدٍ الأحمر كلاهما عن حميدٍ بلفظ " قال أنسٌ: أرأيت إن منع الله الثّمرة " الحديث. ورواه ابن المبارك وهشيمٌ عند البخاري عن حميدٍ , فلم يذكر هذا القدر المختلف فيه، وتابعهما جماعةٌ من أصحاب حميدٍ عنه على ذلك. قلت: وليس في جميع ما تقدّم ما يمنع أن يكون التّفسير مرفوعاً، لأنّ مع الذي رفعه زيادةٌ على ما عند الذي وقفه، وليس في رواية الذي وقفه ما ينفي قول من رفعه. وقد روى مسلمٌ من طريق أبي الزّبير عن جابرٍ ما يقوّي رواية الرّفع في حديث أنسٍ ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو بعتَ من أخيك ثَمَراً فأصابته عاهةٌ فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئاً، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حقٍّ؟. واستدل بهذا على وضع الجوائح في الثّمر يشترى بعد بدوّ صلاحه , ثمّ تصيبه جائحةٌ. فقال مالكٌ: يضع عنه الثّلث.

وقال أحمد وأبو عبيدٍ: يضع الجميع. وقال الشّافعيّ والليث والكوفيّون: لا يرجع على البائع بشيءٍ , وقالوا: إنّما ورد وضع الجائحة فيما إذا بيعت الثّمرة قبل بدوّ صلاحها بغير شرط القطع , فيحمل مطلق الحديث في رواية جابرٍ. على ما قيّد به في حديث أنسٍ. والله أعلم واستدل الطّحاويّ بحديث أبي سعيدٍ: أصيب رجلٌ في ثمارٍ ابتاعها فكثر دينه، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: تصدّقوا عليه. فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال: خذوا ما وجدتم. وليس لكم إلَّا ذلك. أخرجه مسلمٌ وأصحاب السّنن. قال: فلمّا لَم يبطل دين الغرماء بذهاب الثّمار , وفيهم باعتها ولَم يؤخذ الثّمن منهم , دلَّ على أنّ الأمر بوضع الجوائح ليس على عمومه. والله أعلم. قوله: (بِمَ يستحل أحدكم مال أخيه؟) أي: لو تلف الثّمر لانتفى في مقابلته العوض فكيف يأكله بغير عوضٍ؟. وفيه إجراء الحكم على الغالب، لأنّ تطرّق التّلف إلى ما بدا صلاحه ممكنٌ، وعدم التّطرّق إلى ما لَم يبد صلاحه ممكنٌ، فأنيط الحكم بالغالب في الحالتين.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 264 - وعن عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنه - , قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُتلقّى الرّكبان، وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ، قال: فقلت لابن عباسٍ: ما قوله حاضرٌ لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمساراً. (¬1) قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُتلقّى الرّكبان) زاد الكشميهني (¬2) " للبيع " وتقدّم الكلام عليه (¬3). قوله: (وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ) قال ابن المنير وغيره: حمل البخاري النّهي عن بيع الحاضر للبادي على معنىً خاصٍّ وهو البيع بالأجر أخذاً من تفسير ابن عبّاس، وقوّى ذلك بعموم أحاديث " الدّين النّصيحة " (¬4) , لأنّ الذي يبيع بالأجرة لا يكون غرضه نصح البائع غالباً , وإنّما غرضه تحصيل الأجرة. فاقتضى ذلك إجازة بيع الحاضر للبادي بغير أجرةٍ من باب النّصيحة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2050 , 2055 , 2154) ومسلم (1521) من طرق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وقوله: فقلت لابن عباسٍ: ما قوله. إلخ. السائل هو طاوس بن كيسان اليماني. (¬2) هو أبو الهيثم محمد بن مكي , سبق ترجمته (1/ 32) (¬3) انظر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدّم برقم (261). (¬4) أخرجه مسلم في الصحيح (205) من حديث تميم الداري - رضي الله عنه - , ومنها أيضاً ما أورده البخاري (2157) في الباب من حديث جرير , قال: بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شهادة أن لا إله إلَّا الله ... وفيه. والنصح لكل مسلم.

قلت: ويؤيده ما رواه أحمد من حديث عطاء بن السّائب عن حكيم بن أبى يزيد عن أبيه حدّثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوا النّاس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرّجل الرّجل فلينصح له " ورواه البيهقيّ من طريق عبد الملك بن عمير عن أبي الزّبير عن جابر مرفوعاً مثله. وقد أخرجه مسلم من طريق أبي خيثمة عن أبي الزّبير بلفظ " لا يبيع حاضرٌ لبادٍ , دعوا النّاس يرزق الله بعضهم من بعض " وكذلك ما أخرجه أبو داود من طريق سالمٍ المكّيّ , أنّ أعرابيّاً حدّثه أنّه قدم بحلوبةٍ له على طلحة بن عبيد الله، فقال له: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولكن اذهب إلى السّوق فانظر من يبايعك فشاورني حتّى آمرك وأنهاك. ورخّص عطاء في بيع الحاضر للبادي، فروى عبد الرّزّاق عن الثّوريّ عن عبد الله بن عثمان. أي: ابن خثيمٍ عن عطاء بن أبي رباح قال: سألته عن أعرابيٍّ أبيع له؟ فرخّص لي. وأمّا ما رواه سعيد بن منصور من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ قال: إنّما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضرٌ لبادٍ , لأنّه أراد أن يصيب المسلمون غرّتهم، فأمّا اليوم فلا بأس. فقال عطاء: لا يصلح اليوم. فقال مجاهد. ما أرى أبا محمّد إلَّا لو أتاه ظئر له من أهل البادية إلَّا سيبيع له. فالجمع بين الرّوايتين عن عطاءٍ: أن يُحمل قوله هذا على كراهة

التّنزيه , ولهذا نسب إليه مجاهد ما نسب، وأخذ بقول مجاهدٍ في ذلك أبو حنيفة. وتمسّكوا بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - " الدّين النّصيحة " وزعموا أنّه ناسخٌ لحديث النّهي. وحمل الجمهور حديث " الدّين النّصيحة " على عمومه , إلَّا في بيع الحاضر للبادي , فهو خاصٌّ فيقضى على العامّ، والنّسخ لا يثبت بالاحتمال. وجمع البخاريّ بينهما: بتخصيص النّهي بمن يبيع له بالأجرة كالسّمسار، وأمّا من ينصحه فيعلمه بأنّ السّعر كذا مثلاً فلا يدخل في النّهي عنده. والله أعلم قوله: (لا يكون له سمساراً) بمهملتين. هو في الأصل القيّم بالأمر والحافظ له، ثمّ استعمل في متولي البيع والشّراء لغيره. وفي هذا التّفسير تعقّب على من فسّر الحاضر بالبادي , بأنّ المراد نهي الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئاً يحتاج إليه أهل البلد. فهذا مذكور في كتب الحنفيّة. وقال غيرهم: صورته أن يجيء البلد غريبٌ بسلعته يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه بلديٌّ فيقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التّدريج بأغلى من هذا السّعر، فجعلوا الحكم منوطاً بالبادي ومن شاركه في معناه. قال: وإنّما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فألحق به من

يشاركه في عدم معرفة السّعر الحاضر وإضرار أهل البلد بالإشارة عليه بأن لا يبادر بالبيع، وهذا تفسير الشّافعيّة والحنابلة. وجعل المالكيّة البداوة قيداً، وعن مالكٍ لا يلتحق بالبدويّ في ذلك إلَّا من كان يشبهه، قال: فأمّا أهل القرى الذين يعرفون أثمان السّلع والأسواق , فليسوا داخلين في ذلك. قال ابن المنذر: اختلفوا في هذا النّهي. فالجمهور أنّه على التّحريم , بشرط العلم بالنّهي , وأن يكون المتاع المجلوب ممّا يحتاج إليه , وأن يعرض الحضريّ ذلك على البدويّ، فلو عرضه البدويّ على الحضريّ لَم يمنع. وزاد بعض الشّافعيّة عموم الحاجة , وأن يظهر ببيع ذلك المتاع السّعة في تلك البلد. قال ابن دقيق العيد: أكثر هذه الشّروط تدور بين اتّباع المعنى أو اللفظ، والذي ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظّهور والخفاء فحيث يظهر يخصّص النّصّ أو يعمّم، وحيث يخفى فاتّباع اللفظ أولى، فأمّا اشتراط أن يلتمس البلديّ ذلك فلا يقوى لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإنّ الضّرر الذي علل به النّهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلديّ وعدمه، وأمّا اشتراط أن يكون الطّعام ممّا تدعو الحاجة إليه فمتوسّط بين الظّهور وعدمه، وأمّا اشتراط ظهور السّعة فكذلك أيضاً لاحتمال أن يكون المقصود مجرّد تفويت الرّبح والرّزق على أهل البلد، وأمّا اشتراط العلم بالنّهي فلا إشكال فيه.

وقال السّبكيّ: شرط حاجة النّاس إليه معتبر، ولَم يذكر جماعةٌ عمومها وإنّما ذكره الرّافعيّ تبعاً للبغويّ. ويحتاج إلى دليل. واختلفوا أيضاً فيما إذا وقع البيع مع وجود الشّروط المذكورة. هل يصحّ مع التّحريم أو لا يصحّ؟ على القاعدة المشهورة. وقوله في تفسير المنع لبيع الحاضر للبادي " أن لا يكون له سمساراً " مفهومه أنّه يجوز أن يكون سمساراً في بيع الحاضر للحاضر , ولكن شرط الجمهور أن تكون الأجرة معلومة. وعن أبي حنيفة , إن دفع له ألفاً على أن يشتري بها بزّاً بأجرة عشرة فهو فاسد، فإن اشترى فله أجرة المثل ولا يجوز ما سمّى من الأجرة. وعن أبي ثور , إذا جعل له في كلّ ألف شيئاً معلوماً لَم يجز , لأنّ ذلك غير معلوم فإن عمل فله أجر مثله. وحجّة من منع: أنّها إجارة في أمر لأمد غير معلوم، وحجّة من أجازه أنّه إذا عيّن له الأجرة كفى ويكون من باب الجعالة. والله أعلم. تكميل: روى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين وإبراهيم قالا: لا بأس بأجر السّمسار إذا اشترى يداً بيدٍ. وروى ابن أبي شيبة: سئل عطاء عن السّمسرة فقال: لا بأس بها. وكأنّ البخاري (¬1) أشار إلى الرّدّ على من كرهها، وقد نقله ابن ¬

_ (¬1) ترجم البخاري " باب أجر السمسرة " ثم ذكر عن هؤلاء جوازه , ثم أعقبه بحديث ابن عباس حديث الباب.

المنذر عن الكوفيّين. وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء، عن ابن عباس , أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل الرجل الثوب , فيقول: بعه بكذا وكذا فما ازددت فلك. وهذه أجر سمسرة , لكنّها مجهولة. ولذلك لَم يُجزها الجمهور. وقالوا: إن باع له على ذلك فله أجر مثله. وحمل بعضهم إجازة ابن عبّاس على أنّه أجراه مجرى المُقارض، وبذلك أجاب أحمد وإسحاق. ونقل ابن التّين: أنّ بعضهم شرط في جوازه أن يعلم النّاس ذلك الوقت أنّ ثمن السّلعة يساوي أكثر ممّا سمّى له. وتعقّبه: بأنّ الجهل بمقدار الأجرة باقٍ.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 265 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُزابنة: أن يبيع ثمر حائطه، إن كان نخلاً: بتمرٍ كيلاً، وإن كرماً، أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيلٍ طعامٍ، نهى عن ذلك كله. (¬1) قوله: (المُزابنة) بالزّاي والموحّدة والنّون، مفاعلة من الزّبن بفتح الزّاي وسكون الموحّدة وهو الدّفع الشّديد، ومنه سمّيت الحرب الزّبون لشدّة الدّفع فيها. وقيل: للبيع المخصوص المزابنة , لأنّ كلّ واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقّه، أو لأنّ أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه، وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع. قوله: (أن يبيع ثمر) بالمثلثة وتحريك الميم، وفي رواية مسلم " والمزابنة بيع ثمر النّخل " وهو المراد هنا، وليس المراد التّمر من غير النّخل فإنّه يجوز بيعه بالتّمر بالمثنّاة والسّكون، وإنّما وقع النّهي عن الرّطب بالتّمر لكونه متفاضلاً من جنسه. أورد البخاري حديث ابن عمر من رواية ابنه سالم (¬2) ومن رواية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2063 , 2083 , 2091) ومسلم (1542) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. مختصراً ومطولاً. وهذا لفظ الليث بن سعد. (¬2) رواية سالم بلفظ " لا تبيعوا الثّمر حتّى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثّمر بالتّمر "

نافعٍ كلاهما عنه، ثمّ حديث أبي سعيد في ذلك (¬1). وفي طريق نافع تفسير المزابنة، وظاهره أنّها من المرفوع. ومثله في حديث أبي سعيد في الباب، وأخرجه مسلم من حديث جابر كذلك. ويؤيّد كونه مرفوعاً , رواية سالم. وإن لَم يتعرّض فيها لذكر المزابنة، وعلى تقدير أن يكون التّفسير من هؤلاء الصّحابة فهم أعرف بتفسيره من غيرهم. وقال ابن عبد البرّ: لا مخالف لهم في أنّ مثل هذا مزابنة، وإنّما اختلفوا. هل يلتحق بذلك كلّ ما لا يجوز إلَّا مثلاً بمثلٍ. فلا يجوز فيه كيل بجزاف ولا جزاف بجزاف؟ فالجمهور على الإلحاق. وقيل: يختصّ ذلك بالنّخل والكرم. والله أعلم. قوله: (حائطه) أي: البستان. قوله: (إنْ كان نخلاً بتمرٍ) بالمثنّاة والسّكون. قوله: (كيلاً) في حديث أبي سعيد في الصحيحين " والمزابنة اشتراء الثّمر بالتّمر في رؤوس النّخل كيلاً " وذِكْر الكيل ليس بقيدٍ في هذه الصّورة , بل لأنّه صورة المبايعة التي وقعت إذ ذاك فلا مفهوم له لخروجه على سببٍ أوّله مفهومٌ، لكنّه مفهوم الموافقة , لأنّ المسكوت عنه أولى بالمنع من المنطوق، ويستفاد منه أنّ معيار التّمر والزّبيب الكيل. ¬

_ (¬1) سيأتي ذكره قريباً إن شاء الله.

قوله: (وإن كرماً، أن يبيعه بزبيب كيلاً) في رواية مسلم " وبيع العنب بالزّبيب كيلاً " والكرم بفتح الكاف وسكون الرّاء , هو شجر العنب , والمراد منه هنا نفس العنب كما أوضحته رواية مسلم. وهذا أصل المزابنة. وألحق الشّافعيّ بذلك كلّ بيعٍ مجهولٍ بمجهولٍ، أو بمعلومٍ من جنسٍ يجري الرّبا في نقده. قال: وأمّا مَن قال: أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعاً مثلاً فما زاد فلي وما نقص فعليّ فهو من القمار. وليس من المزابنة. قلت: لكن أخرج البخاري من طريق أيّوب عن نافعٍ عن ابن عمر " والمزابنة أن يبيع الثّمر بكيلٍ إن زاد فلي , وإن نقص فعليّ ". فثبت أنّ من صور المزابنة أيضاً هذه الصّورة من القمار، ولا يلزم من كونها قماراً أن لا تسمّى مزابنة. ومن صور المزابنة أيضاً بيع الزّرع بالحنطة كيلاً، وقد رواه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافعٍ بلفظ " والمزابنة بيع ثمر النّخل بالتّمر كيلاً، وبيع العنب بالزّبيب كيلاً، وبيع الزّرع بالحنطة كيلاً ". وأخرج البخاري هذه الزّيادة من طريق الليث عن نافعٍ. وقال مالك: المزابنة كلّ شيءٍ من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده إذا بيع بشيءٍ مسمّىً من الكيل وغيره، سواء كان من جنسٍ يجري الرّبا في نقده أم لا. وسبب النّهي عنه ما يدخله من القمار والغرر.

قال ابن عبد البرّ: نَظَرَ مالكٌ إلى معنى المزابنة لغة - وهي المدافعة - ويدخل فيها القمار والمخاطرة، وفسّر بعضهم المزابنة بأنّها بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه، وهو خطأٌ فالمغايرة بينهما ظاهرة في حديث ابن عمر عند البخاري , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الثّمر حتّى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثّمر بالتّمر. وقيل: هي المزارعة على الجزء. وقيل: غير ذلك. والذي تدل عليه الأحاديث في تفسيرها أولى. واستدل بأحاديث الباب على تحريم بيع الرّطب باليابس منه ولو تساويا في الكيل والوزن , لأنّ الاعتبار بالتّساوي إنّما يصحّ حالة الكمال , والرّطب قد ينقص إذا جفّ عن اليابس نقصاً لا يتقدّر. وهو قول الجمهور. وعن أبي حنيفة: الاكتفاء بالمساواة حالة الرّطوبة، وخالفه صاحباه في ذلك لصحّة الأحاديث الواردة في النّهي عن ذلك. وأصرح من ذلك حديث سعد بن أبي وقّاصٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرّطب بالتّمر فقال: أينقص الرّطب إذا جفّ؟ قالوا نعم، قال: فلا إذاً. أخرجه مالك وأصحاب السّنن وصحَّحه التّرمذيّ وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم. وفيه جواز تسمية العنب كرماً، وقد ورد النّهي عنه كما في البخاري من رواية معمر عن الزّهريّ عن أبي سلمة بلفظ: لا تسمّوا العنب كرماً. وهي رواية ابن سيرين عن أبي هريرة عند مسلم، وعنده من

طريق همّام عن أبي هريرة: لا يقل أحدكم للعنب الكرم، إنّما الكرم الرّجل المسلم. وله من حديث وائل بن حجرٍ: لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا العنب والحبلة. ويُجمع بينهما: بحمل النّهي على التّنزيه , ويكون ذكره هنا لبيان الجواز، وهذا كلّه بناءً على أنّ تفسير المزابنة من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وعلى تقدير كونه موقوفاً فلا حجّة على الجواز. فيحمل النّهي على حقيقته. واختلف السّلف: هل يُلحق العنب أو غيره بالرّطب في العرايا؟. القول الأول: لا. وهو قول أهل الظّاهر , واختاره بعض الشّافعيّة. منهم المحبّ الطّبريّ. القول الثاني: يلحق العنب خاصّةً. وهو مشهور مذهب الشّافعيّ. القول الثالث: يلحق كل ما يدّخر. وهو قول المالكيّة. القول الرابع: يلحق كل ثمرةٍ وهو منقولٌ عن الشّافعيّ أيضاً. قوله: (وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيلٍ طعامٍ) قال ابن بطّالٍ: أجمع العلماء على أنّه لا يجوز بيع الزّرع قبل أن يقطع بالطّعام، لأنّه بيع مجهولٍ بمعلومٍ، وأمّا بيع رطب ذلك بيابسه بعد القطع وإمكان المماثلة. فالجمهور لا يجيزون بيع شيءٍ من ذلك بجنسه لا متفاضلاً ولا متماثلاً. انتهى. واحتجّ الطّحاويّ لأبي حنيفة في جواز بيع الزّرع الرّطب بالحبّ اليابس , بأنّهم أجمعوا على جواز بيع الرّطب بالرّطب مثلاً بمثلٍ , مع

أنّ رطوبة أحدهما ليست كرطوبة الآخر , بل تختلف اختلافاً متبايناً. وتعقّب: بأنّه قياسٌ في مقابلة النّصّ فهو فاسدٌ، وبأنّ الرّطب بالرّطب وإن تفاوت لكنّه نقصانٌ يسيرٌ فعفي عنه لقلته بخلاف الرّطب بالتّمر فإنّ تفاوته تفاوتٌ كثيرٌ، والله أعلم.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 266 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , قال: نهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وأن لا تباع إلَّا بالدينار والدّرهم، إلَّا العرايا. (¬1) قال المصنف: المحاقلة: الحِنطة في سُنبلها بحنطة. قوله: (المخابرة) قال ابن الأعرابيّ اللغويّ: إنّ أصل المخابرة معاملة أهل خيبر، فاستعمل ذلك حتّى صار إذا قيل خابرهم , عرف أنّه عاملهم نظير معاملة أهل خيبر. (¬2) قوله: (والمحاقلة) قال أبو عبيدٍ: هو بيع الطّعام في سنبله بالبرّ مأخوذٌ من الحقل، وقال الليث: الحقل الزّرع إذا تشعّب من قبل أن يغلظ سوقه، والمنهيّ عنه بيع الزّرع قبل إدراكه. وقيل: بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها. وقيل: بيع ما في رءوس النّخل بالتّمر. وعن مالكٍ هو كراء الأرض بالحنطة أو بكيل طعامٍ أو إدامٍ. والمشهور أنّ المحاقلة كراء الأرض ببعض ما تنبت. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1416 , 2077 , 2252) ومسلم (1536) من طرق عن عطاء بن أبي رباح (زاد مسلم في بعض رواياته أبا الزبير) عن جابر به. (¬2) سيأتي الكلام عليها إن شاء الله في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - برقم (293) في الكلام على المزارعة.

وسيأتي البحث فيه إن شاء الله. (¬1) قوله: (وعن المُزابنة) تقدّم الكلام عليه في الحديث السابق. قوله: (وعن بيع الثمرة) الثمر بفتح المثلّثة. أي: الرطب. قوله: (حتى يبدو صلاحها) في رواية لهما: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يطيب. وفي رواية لهما من وجه آخر عن سعيد بن ميناء عن جابر بلفظ " نهى النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الثّمرة حتّى تشقّح. فقيل: ما تشقح؟ قال: تحمارّ وتصفارّ ويؤكل منها ". قوله " حتّى تشقح " بضمّ أوّله من الرّباعيّ. يقال: أشقح ثمر النّخل إشقاحاً إذا احمرّ أو اصفرّ، والاسم الشّقح. بضمّ المعجمة وسكون القاف بعدها مهملةٌ، وذكره مسلمٌ من وجهٍ آخر عن جابرٍ بلفظ " حتّى تشقه " فأبدل من الحاء هاءً لقربها منها. وقوله " فقيل: وما تشقح؟ " هذا التّفسير من قول سعيد بن ميناء راوي الحديث، بيّن ذلك أحمد في روايته لهذا الحديث عن بهز بن أسدٍ عن سليم بن حيّان , أنّه هو الذي سأل سعيد بن ميناء عن ذلك فأجابه بذلك، وكذلك أخرجه مسلمٌ من طريق بهز، وأخرجه الإسماعيليّ من طريق عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سليم بن حيّان , فقال في روايته: قلت لجابرٍ: ما تشقح .. إلخ. فظهر أنّ السّائل عن ذلك هو سعيدٌ، والذي فسّره هو جابرٌ. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق.

وقد أخرج مسلمٌ الحديث من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الوليد عن جابرٍ مطوّلاً وفيه " وأن يشتري النّخل حتّى يشقه، والإشقاء أن يحمرّ أو يصفرّ. أو يؤكل منه شيءٌ. وفي آخره. فقال زيدٌ: فقلت لعطاءٍ: أسمعت جابراً يذكر هذا عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. وهو يحتمل: أن يكون مراده بقوله هذا جميع الحديث فيدخل فيه التّفسير، ويحتمل: أن يكون مراده أصل الحديث لا التّفسير فيكون التّفسير من كلام الرّاوي، وقد ظهر من رواية ابن مهديٍّ أنّه جابرٌ. والله أعلم. وممّا يقوّي كونه مرفوعاً وقوع ذلك في حديث أنسٍ أيضاً (¬1). وفيه دليلٌ على أنّ المراد ببدوّ الصّلاح قدرٌ زائدٌ على ظهور الثّمرة، وسبب النّهي عن ذلك خوف الغرر لكثرة الجوائح فيها، وقد بيّن ذلك في حديث أنسٍ الماضي " فإذا احمرّت وأُكل منها أمنت العاهة عليها " أي: غالباً. وقوله " تحمارّ وتصفارّ " قال الخطّابيّ: لَم يرد بذلك اللون الخالص من الصّفرة والحمرة، وإنّما أراد حمرةً أو صفرةً بكمودةٍ فلذلك قال: تحمارّ وتصفارّ , قال: ولو أراد اللون الخالص لقال تحمرّ وتصفرّ. وقال ابن التّين: التّشقيح تغيّر لونها إلى الصّفرة والحمرة، فأراد بقوله تحمارّ وتصفارّ ظهور أوائل الحمرة والصّفرة قبل أن تشبع، قال ¬

_ (¬1) تقدّم حديث أنس - رضي الله عنه - في العمدة. رقم (263).

: وإنّما يقال تفعال في اللون الغير المتمكّن إذا كان يتلوّن. وأنكر هذا بعض أهل اللغة وقال: لا فرق بين تحمرّ وتصفرّ وتحمارّ وتصفارّ، ويحتمل: أن يكون المراد المبالغة في احمرارها واصفرارها، كما تقرّر أنّ الزّيادة تدل على التّكثير والمبالغة. قوله: (وأن لا تباع إلَّا بالدينار والدّرهم) قال ابن بطّال: إنّما اقتصر على الذّهب والفضّة لأنّهما جل ما يتعامل به النّاس، وإلا فلا خلاف بين الأمّة في جواز بيعه بالعروض يعني بشرطه. قوله: (إلَّا العرايا) زاد الطحاوي " فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخّص فيها " أي: فيجوز بيع الرّطب فيها بعد أن يخرص ويعرف قدره بقدر ذلك من الثّمر كما سيأتي البحث فيه (¬1). قال ابن المنذر: ادّعى الكوفيّون أنّ بيع العرايا منسوخ بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثّمر بالتّمر , وهذا مردود , لأنّ الذي روى النّهي عن بيع الثّمر بالتّمر هو الذي روى الرّخصة في العرايا فأثبت النّهي والرّخصة معاً. قلت: ورواية سالم الماضية في البخاري تدل على أنّ الرّخصة في بيع العرايا وقع بعد النّهي عن بيع الثّمر بالتّمر، ولفظه عن ابن عمر مرفوعاً: ولا تبيعوا الثّمر بالتّمر. قال: وعن زيد بن ثابت , أنّه - صلى الله عليه وسلم - رخّص بعد ذلك في بيع العريّة. ¬

_ (¬1) سيأتي الكلام إن شاء الله مفصّلاً بعد حديثين في " باب العرايا "

وهذا هو الذي يقتضيه لفظ الرّخصة , فإنّها تكون بعد منعٍ، وكذلك بقيّة الأحاديث التي وقع فيها استثناء العرايا بعد ذكر بيع الثّمر بالتّمر.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 267 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريّ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغيّ، وحلوان الكاهن. (¬1) الحديث الثاني عشر 268 - عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثمن الكلب خبيثٌ، ومهر البغيّ خبيثٌ، وكسب الْحجّام خبيثٌ. (¬2) قوله: (نهى عن ثمن الكلب). القول الأول: ظاهر النّهي تحريم بيعه، وهو عامّ في كل كلب معلَّماً كان أو غيره ممّا يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومِن لازم ذلك أن لا قيمة على مُتلِفه، وبذلك قال الجمهور. القول الثاني: قال مالك: لا يجوز بيعه وتجب القيمة على متلفه، وعنه كالجمهور. القول الثالث: وعن مالك كقول أبي حنيفة يجوز , وتجب القيمة. القول الرابع: قال عطاء والنّخعيّ: يجوز بيع كلب الصّيد دون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2122 , 2162 , 5031 , 5428) ومسلم (1567) من طرق عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) حديث رافع لَم يروه البخاري. كما نبّه عليه الزركشيُّ وغيره. وإنما انفرد بإخراجه مسلم (1568) من طريق السائب بن يزيد عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -.

غيره , وروى أبو داود من حديث ابن عبّاس مرفوعاً: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب , وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفّه تراباً. وإسناده صحيح. وروى أيضاً بإسنادٍ حسن عن أبي هريرة مرفوعاً: لا يحل ثمن الكلب , ولا حلوان الكاهن , ولا مهر البغيّ. والعلة في تحريم بيعه عند الشّافعيّ نجاسته مطلقاً , وهي قائمة في المعلم وغيره، وعلة المنع عند من لا يرى نجاسته النّهي عن اتّخاذه والأمر بقتله , ولذلك خصّ منه ما أذن في اتّخاذه. ويدل عليه حديث جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلَّا كلب صيد. أخرجه النّسائيّ بإسنادٍ رجاله ثقات إلَّا أنّه طعن في صحّته. وقد وقع في حديث ابن عمر عند ابن أبي حاتم بلفظ " نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضارياً " يعني ممّا يصيد. وسنده ضعيف، قال أبو حاتم: هو منكر. وفي رواية لأحمد " نهى عن ثمن الكلب , وقال: طعمة جاهليّة " ونحوه للطّبرانيّ من حديث ميمونة بنت سعد. وقال القرطبيّ: مشهور مذهب مالك جواز اتّخاذ الكلب وكراهية بيعه ولا يفسخ إن وقع، وكأنّه لَمَّا لَم يكن عنده نجساً وأذن في اتّخاذه لمنافعه الجائزة كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشّرع نهى عن بيعه تنزيهاً لأنّه ليس من مكارم الأخلاق.

قال: وأمّا تسويته في النّهي بينه وبين مهر البغيّ وحلوان الكاهن فمحمول على الكلب الذي لَم يؤذن في اتّخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنّهي في هذه الثّلاثة في القدر المشترك من الكراهة أعمّ من التّنزيه والتّحريم، إذ كان واحد منهما منهيّاً عنه , ثمّ تؤخذ خصوصيّة كل واحد منهما من دليل آخر، فإنّا عرفنا تحريم مهر البغيّ وحلوان الكاهن من الإجماع لا من مجرّد النّهي، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه إذ قد يعطف الأمر على النّهي والإيجاب على النّفي قوله: (ومهر البغيّ) وهو ما تأخذه الزّانية على الزّنا. سمّاه مهراً مجازاً. والبغيّ: بفتح الموحّدة وكسر المعجمة وتشديد التّحتانيّة. وهو فعيل بمعنى فاعلة , وجمع البغيّ بغايا، والبغاء بكسر أوّله الزّنا والفجور، وأصل البغاء الطّلب غير أنّه أكثر ما يستعمل في الفساد، يستوي في لفظه المذكّر والمؤنّث. قال الكرمانيّ (¬1): وقيل وزنه فعول، لأنّ أصله بغوي أبدلت الواو ياء ثمّ كسرت الغين لأجل الياء التي بعدها. واستُدل به على أنّ الأمة إذا أكرهت على الزّنا فلا مهر لها، وفي وجه للشّافعيّة يجب للسّيّد ¬

_ (¬1) هو محمد بن يوسف , سبق ترجمته (1/ 18)

قوله: (وحلوان) وهو حرام بالإجماع لِمَا فيه من أخذ العوض على أمر باطل، وفي معناه التّنجيم والضّرب بالحصى وغير ذلك ممّا يتعاناه العرّافون من استطلاع الغيب. والحلوان مصدر حلوته حلواناً إذا أعطيته، وأصله من الحلاوة شبّه بالشّيء الحلو من حيث إنّه يأخذه سهلاً بلا كلفة ولا مشقّة , يقال: حلوته إذا أطعمته الحلو، والحلوان أيضاً الرّشوة، والحلوان أيضاً أخذ الرّجل مهر ابنته لنفسه. قوله: (الكاهن) الكهانة بفتح الكاف ويجوز كسرها ادّعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيها استراق السّمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن. والكاهن لفظ يطلق على العرّاف، والذي يضرب بالحصى، والمنجّم، ويطلق على من يقوم بأمرٍ آخر ويسعى في قضاء حوائجه. وقال في " المحكم ": الكاهن القاضي بالغيب. وقال في " الجامع ": العرب تسمّي كل من أذن بشيءٍ قبل وقوعه كاهناً. وقال الخطّابيّ: الكهنة قوم لهم أذهان حادّة ونفوس شرّيرة وطباع ناريّة، فألفتهم الشّياطين لِمَا بينهم من التّناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه. وكانت الكهانة في الجاهليّة فاشية خصوصاً في العرب لانقطاع النّبوّة فيهم. وهي على أصناف: الأول: ما يتلقّونه من الجنّ، فإنّ الجنّ كانوا يصعدون إلى جهة

السّماء فيركب بعضهم بعضاً إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقّاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلمّا جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السّماء من الشّياطين، وأرسلت عليهم الشّهب، فبقي من استراقهم ما يتخطّفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشّهاب، إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى (إلَّا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب). وكانت إصابة الكهّان قبل الإسلام كثيرة جدّاً كما جاء في أخبار شقّ وسطيح ونحوهما، وأمّا في الإسلام فقد ندر ذلك جدّاً حتّى كاد يضمحل ولله الحمد. ثانيها: ما يخبر الجنّيّ به من يواليه بما غاب عن غيره ممّا لا يطّلع عليه الإنسان غالباً، أو يطّلع عليه من قرب منه لا من بعد. ثالثها: ما يستند إلى ظنّ وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض النّاس قوّة مع كثرة الكذب فيه. رابعها: ما يستند إلى التّجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السّحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزّجر والطّرق والنّجوم، وكل ذلك مذموم شرعاً. وورد في ذمّ الكهانة. ما أخرجه أصحاب السّنن وصحَّحه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه " من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول , فقد كفر بما أنزل على محمّد " , وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصينٍ. أخرجهما البزّار بسندين جيّدين ولفظهما " من أتى كاهناً ".

وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن الرّواة من سمّاها حفصة - بلفظ: من أتى عرّافاً. وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسندٍ جيّد، لكن لَم يصرّح برفعه، ومثله لا يقال بالرّأي، ولفظه: من أتى عرّافاً أو ساحراً أو كاهناً. واتّفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلَّا حديث مسلم فقال فيه: لَم يقبل لهما صلاة أربعين يوماً. ووقع عند الطّبرانيّ من حديث أنس بسندٍ ليّن مرفوعاً بلفظ: من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول , فقد برئ ممّا أنزل على محمّد، ومن أتاه غير مصدّق له لَم تقبل صلاته أربعين يوماً. والأحاديث الأُوَل مع صحّتها وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصّلاة وتارة بالتّكفير، فيحمل على حالين من الآتي. أشار إلى ذلك القرطبيّ والعرّاف: بفتح المهملة وتشديد الرّاء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضربٍ من فعل أو قول. قوله في حديث رافع - رضي الله عنه -: (ثمن الكلب خبيثٌ، ومهر البغيّ خبيثٌ) تقدّم في الحديث الذي قبله قوله: (وكسب الحجّام خبيثٌ) اختلف العلماء في هذه المسألة. القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنّه حلال.

واحتجّوا بحديث ابن عبّاس في الصحيحين قال: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطى الحجّام أجره , وللبخاري " ولو علم كراهية لَم يعطه " , ولمسلم " ولو كان سحتاً لَم يعطه النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وقالوا: هو كسب فيه دناءة وليس بمحرّمٍ، فحملوا الزّجر عنه على التّنزيه. ومنهم: من ادّعى النّسخ , وأنّه كان حراماً ثمّ أبيح. وجنح إلى ذلك الطّحاويّ، والنّسخ لا يثبت بالاحتمال. القول الثاني: ذهب أحمد وجماعة إلى الفرق بين الحرّ والعبد. فكرهوا للحرّ الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها , ويجوز له الإنفاق على الرّقيق والدّوابّ منها وأباحوها للعبد مطلقاً. وعمدتهم حديث محيّصة , أنّه سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الحجّام فنهاه، فذكر له الحاجة. فقال: اعلفه نواضحك. أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السّنن. ورجاله ثقات. وذكر ابن الجوزيّ: أنّ أجر الحجّام إنّما كره لأنّه من الأشياء التي تجب للمسلم على المسلم إعانة له عند الاحتياج له، فما كان ينبغي له أن يأخذ على ذلك أجراً. وجمع ابن العربيّ بين قوله - صلى الله عليه وسلم - " كسب الحجّام خبيث " وبين " إعطائه الحجّام أجرته " بأنّ محل الجواز ما إذا كانت الأجرة على عمل معلوم، ويحمل الزّجر على ما إذا كان على عمل مجهول.

باب العرايا وغير ذلك

باب العرايا وغير ذلك هي جمع عريّةٍ , وهي عطيّة ثمر النّخل دون الرّقبة. كان العرب في الجدب يتطوّع أهل النّخل بذلك على من لا ثمر له كما يتطوّع صاحب الشّاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطيّة اللبن دون الرّقبة، قاله حسّان بن ثابت فيما ذكر ابن التّين , وقال غيره: هي لسويد بن الصّلت: ليست بسنهاءٍ ولا رجبيّةٍ ... ولكن عرايا في السّنين الجوائح ومعنى " سنهاء " أن تحمل سنةً دون سنة , و " الرّجبيّة " التي تدعم حين تميل من الضّعف، والعريّة فعيلة بمعنى مفعولة أو فاعلة. يقال: عرّى النّخل بفتح العين والرّاء بالتّعدية يعروها إذا أفردها عن غيرها، بأن أعطاها لآخر على سبيل المنحة ليأكل ثمرها. وتبقى رقبتها لمعطيها. ويقال: عريت النّخل بفتح العين وكسر الرّاء تعرى على أنّه قاصرٌ , فكأنّها عريت عن حكم أخواتها واستثبتت بالعطيّة.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 269 - عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخّص لصاحب العريّة أن يبيعها بخرصها. (¬1) ولمسلم: بخرصها تمراً، يأكلونها رُطباً. (¬2) قوله: (عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله عنه -) بن الضحاك بن زيد بن لوذان من بني مالك بن النجار. كاتب الوحي , وأحد فقهاء الصحابة. مات سنة خمس وأربعين (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2064 , 2076 , 2070 , 2251) ومسلم (1539) من طرق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (2072) ومسلم (1539) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه عن زيد - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (1539) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر عن زيد به. (¬3) أبو سعيد. وقيل: أبو ثابت. وقيل غير ذلك في كنيته. استصغر يوم بدر. ويقال: إنه شهد أحداً، ويقال: أول مشاهده الخندق، وكانت معه راية بني النّجار يوم تبوك. وكانت أولاً مع عمارة بن حزم، فأخذها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - منه فدفعها لزيد بن ثابت، فقال: يا رسول اللَّه، بلغك عني شيء؟ قال: لا، ولكنّ القرآن مقدّم. وكان زيد من علماء الصحابة، وكان هو الّذي تولّى قسم غنائم اليرموك. وهو الّذي جمع القرآن في عهد أبي بكر، ثبت ذلك في الصّحيح. وقال له أبو بكر: إنك شابّ عاقل لا نتّهمك. وروى البخاريّ تعليقاً، والبغويّ، وأبو يعلى موصولاً، عن أبي الزّناد عن خارجة بن زيد عن أبيه، قال: أُتي بي النّبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة، فقيل هذا من بني النّجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك، فقال: تعلَّم كتاب يهود، فإنّي ما آمنهم على كتابي. ففعلت، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الشّعبي، قال: ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسك ابن عباس بالرّكاب. فقال: تنحّ يا ابن عم رسول اللَّه. قال: لا هكذا نفعل بالعلماء والكبراء. وعن أنس قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: أفرضكم زيد. ورواه أحمد بإسناد صحيح: وقيل، إنه معلول. وروى البغويّ عن ابن عبّاس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمّد أنّ زيد بن ثابت كان من الرّاسخين في العلم. مات زيد سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين. وقيل سنة إحدى أو اثنتين أو خمس وخمسين، وفي خمس وأربعين قول الأكثر. الإصابة بتجوز.

قوله: (رخّص لصاحب العريّة) بفتح المهملة وكسر الرّاء وتشديد التّحتانيّة الجمع عرايا، وقد ذكرنا تفسيرها لغة. وللشيخين من رواية سالم عن أبيه عن زيد بن ثابتٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخّص بعد ذلك في بيع العريّة بالرّطب أو بالتّمر، ولَم يرخّص في غيره. قوله " رخّص بعد ذلك " أي: بعد النّهي عن بيع التّمر بالثّمر. وهذا من أصرح ما ورد في الرّدّ على من حمل من الحنفيّة النّهي عن بيع الثّمر بالتّمر على عمومه , ومنع أن يكون بيع العرايا مستثنىً منه , وزعم أنّهما حكمان مختلفان وردا في سياقٍ واحدٍ. وكذلك من زعم منهم كما حكاه ابن المنذر عنهم , أنّ بيع العرايا منسوخ بالنّهي عن بيع الثّمر بالتّمر , لأنّ المنسوخ لا يكون بعد النّاسخ. قوله " بالرّطب أو بالتّمر " كذا عند البخاريّ ومسلم من رواية عقيل عن الزّهريّ عن سالم بلفظ " أو ".

وهي محتملةٌ أن تكون للتّخيير , وأن تكون للشّكّ. وأخرجه النّسائيّ والطّبرانيّ من طريق صالح بن كيسان , والبيهقيّ من طريق الأوزاعيّ كلاهما عن الزّهريّ بلفظ " بالرّطب وبالتّمر , ولَم يرخّص في غير ذلك ". هكذا ذكره بالواو , وهذا يؤيّد كون " أو " بمعنى التّخيير لا الشّكّ بخلاف ما جزم به النّوويّ. وكذلك أخرجه أبو داود من طريق الزّهريّ أيضاً عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه. وإسناده صحيح، وليس هو اختلافاً على الزّهريّ , فإنّ ابن وهبٍ رواه عن يونس عن الزّهريّ بالإسنادين. أخرجهما النّسائيّ وفرّقهما. وإذا ثبتت هذه الرّواية , كانت فيها حجّة للوجه الصّائر إلى جواز بيع الرّطب المخروص على رءوس النّخل بالرّطب المخروص أيضاً على الأرض , وهو رأي ابن خيران من الشّافعيّة. وقيل: لا يجوز , وهو رأي الإصطخريّ وصحَّحه جماعة. وقيل: إن كانا نوعاً واحداً لَم يجز إذ لا حاجة إليه، وإن كان نوعين جاز , وهو رأي أبي إسحاق وصحَّحه ابن أبي عصرون. وهذا كلّه فيما إذا كان أحدهما على النّخل والآخر على الأرض. وقيل: ومثله ما إذا كانا معاً على النّخل. وقيل: إنّ محله فيما إذا كانا نوعين. وفي ذلك فروعٌ أخر يطول ذكرها. وصرّح الماورديّ بإلحاق البسر في ذلك بالرّطب.

قوله: (أن يبيعها بخرصها) زاد الطّبرانيّ عن عليّ بن عبد العزيز عن القعنبيّ - شيخ البخاريّ فيه - عن مالك عن نافع " كيلاً " ومثله للبخاري من رواية موسى بن عقبة عن نافع، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالكٍ فقال " بخرصها من التّمر " , ونحوه للبخاري من رواية يحيى بن سعيد عن نافعٍ في كتاب الشّرب. ولمسلمٍ من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد بلفظ: رخّص في العريّة يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً. ومن طريق الليث عن يحيى بن سعيد بلفظ " رخّص في بيع العريّة بخرصها تمراً ". قال يحيى: العريّة أن يشتري الرّجل تمر النّخلات بطعام أهله رطباً بخرصها تمراً. وهذه الرّواية تبيّن أنّ في رواية سليمان إدراجاً، وأخرجه الطّبرانيّ من طريق حمّاد بن سلمة عن أيّوب وعبيد الله بن عمر عن نافعٍ بلفظ: رخّص في العرايا، النّخلة والنّخلتان يوهبان للرّجل فيبيعهما بخرصهما تمراً. زاد فيه " يوهبان للرّجل " وليس بقيدٍ عند الجمهور. كما سيأتي شرحه. واختلف في المراد بالعرية شرعاً. فقال مالك: العريّة أن يعري الرّجل الرّجل النّخلة , ثمّ يتأذّى بدخوله عليه فرخّص له - أي للواهب - أن يشتريها منه بتمر ". رواه ابن عبد البرّ من طريق ابن وهبٍ عن مالك.

وروى الطّحاويّ من طريق ابن نافع عن مالكٍ: أنّ العريّة النّخلة للرّجل في حائط غيره، وكانت العادة أنّهم يخرجون بأهليهم في وقت الثّمار إلى البساتين فيكره صاحب النّخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول له: أنا أعطيك بخرص نخلتك تمراً فرخّص له في ذلك. ومن شرط العريّة عند مالك. أولاً. أنّها لا تكون بهذه المعاملة إلَّا مع المُعرَى خاصّةً لِما يدخل على المالك من الضّرر بدخول حائطه، أو ليدفع الضّرر عن الآخر بقيام صاحب النّخل بالسّقي والكلف. ثانياً. أن يكون البيع بعد بدوّ الصّلاح. ثالثاً. أن يكون بتمر مؤجّل. وخالفه الشّافعيّ في الشّرط الأخير , فقال: يشترط التّقابض. وروى الإمام أحمد في حديث سفيان بن حسين عن الزّهريّ عن سالمٍ عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعاً في العرايا , قال سفيان بن حسين: العرايا نخلٌ كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها. فرخّص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التّمر. وهذه إحدى الصّور الآتية. واحتجّ لمالكٍ في قصر العريّة على ما ذكره بحديث سهل بن أبي حثمة عند البخاري , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثّمر بالتّمر، ورخّص في العريّة أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً. فتمسّك بقوله " أهلها " والظّاهر أنّه الذي أعراها , ويحتمل: أن

يراد بالأهل من تصير إليه بالشّراء. والأحسن في الجواب: أنّ حديث سهل دلَّ على صورة من صور العريّة , وليس فيه التّعرّض لكون غيرها ليس عريّة , وحكي عن الشّافعيّ تقييدها بالمساكين على ما في حديث سفيان بن حسين وهو اختيار المزنيّ. وأنكر الشّيخ أبو حامد نقله عن الشّافعيّ، ولعل مستند من أثبته ما ذكره الشّافعيّ في " اختلاف الحديث " عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنّ الرّطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضّة يشترون بها منه وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم، فرخّص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التّمر يأكلونها رطباً. قال الشّافعيّ: وحديث سفيان يدل لهذا، فإنّ قوله " يأكله أهلها رطباً " يشعر بأنّ مشتري العريّة يشتريها ليأكلها وأنّه ليس له رطبٌ يأكله غيرها، ولو كان المرخّص له في ذلك صاحب الحائط يعني كما قال مالك , لكان لصاحب الحائط في حائطه من الرّطب ما يأكله غيرها ولَم يفتقر إلى بيع العريّة. وقال ابن المنذر: هذا الكلام لا أعرف أحداً ذكره غير الشّافعيّ. وقال السّبكيّ: هذا الحديث لَم يذكر الشّافعيّ إسناده، وكلّ من ذكره إنّما حكاه عن الشّافعيّ، ولَم يجد البيهقيّ في " المعرفة " له إسناداً، قال: ولعل الشّافعيّ أخذه من السّير، يعني سير الواقديّ.

قال: وعلى تقدير صحّته فليس فيه حجّة للتّقييد بالفقير , لأنّه لَم يقع في كلام الشّارع وإنّما ذكره في القصّة. فيحتمل: أن تكون الرّخصة وقعت لأجل الحاجة المذكورة. ويحتمل: أن يكون للسّؤال فلا يتمّ الاستدلال مع إطلاق الأحاديث المنصوصة من الشّارع. وقد اعتبر هذا القيد الحنابلة مضموماً إلى ما اعتبره مالك، فعندهم لا تجوز العريّة إلَّا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشتري إلى الرّطب. ثمّ إنّ صور العريّة كثيرة: منها: أن يقول الرّجل لصاحب حائط: بعني ثمر نخلاتٍ بأعيانها بخرصها من التّمر. فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التّمر ويسلم إليه النّخلات بالتّخلية فينتفع برطبها. ومنها: أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر نخلاتٍ معلومة من حائطه، ثمّ يتضرّر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري منه رطبها بقدر خرصه بتمرٍ يعجّله له. ومنها: أن يهبه إيّاها فيتضرّر الموهوب له بانتظار صيرورة الرّطب تمراً ولا يحبّ أكلها رطباً لاحتياجه إلى التّمر فيبيع ذلك الرّطب بخرصه من الواهب أو من غيره بتمرٍ يأخذه معجّلاً. ومنها: أن يبيع الرّجل تمر حائطه بعد بدوّ صلاحه , ويستثني منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عفّ له عن خرصها

في الصّدقة. وسمّيت عرايا لأنّها أعريت من أن تخرص في الصّدقة فرخّص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التّمر من رطب تلك النّخلات بخرصها. ومنها: أن يعري رجلاً تمر نخلاتٍ يبيح له أكلها والتّصرّف فيها، وهذه هبة مخصوصة. ومنها: أن يعري عامل الصّدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة لا يخرصها في الصّدقة. وهاتان الصّورتان من العرايا لا يبيع فيها. وجميع هذه الصّور صحيحة عند الشّافعيّ والجمهور. وقصر مالك العريّة في البيع على الصّورة الثّانية، وقصرها أبو عبيد على الصّورة الأخيرة من صور البيع , وزاد أنّه رخّص لهم أن يأكلوا الرّطب ولا يشتروه لتجارة ولا ادّخار. ومنع أبو حنيفة صور البيع كلّها وقصر العريّة على الهبة، وهو أن يُعري الرّجل تمر نخلة من نخله ولا يسلم ذلك له , ثمّ يبدو له في ارتجاع تلك الهبة فرخّص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرّطب بخرصه تمراً، وحمله على ذلك أخذه بعموم النّهي عن بيع الثّمر بالتّمر.

وتعقّب: بالتّصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر كما تقدّم (¬1) وفي حديث غيره. وحكى الطّحاويّ عن عيسى بن أبان من أصحابهم: أنّ معنى الرّخصة أنّ الذي وهبت له العريّة لَم يملكها , لأنّ الهبة لا تملك إلَّا بالقبض، فلمّا جاز له أن يعطي بدلها تمراً - وهو لَم يملك المبدل منه حتّى يستحقّ البدل - كان ذلك مستثنىً , وكان رخصة. وقال الطّحاويّ: بل معنى الرّخصة فيه أنّ المرء مأمورٌ بإمضاء ما وعد به ويعطي بدله ولو لَم يكن واجباً عليه، فلمّا أذن له أن يحبس ما وعد به ويعطي بدله ولا يكون في حكم من أخلف وعده ظهر بذلك معنى الرّخصة. واحتجّ لمذهبه بأشياء تدل على أنّ العريّة العطيّة. ولا حجّة في شيءٍ منها , لأنّه لا يلزم من كون أصل العريّة العطيّة أن لا تطلق العريّة شرعاً على صورٍ أخرى. قال ابن المنذر: الذي رخّص في العريّة هو الذي نهى عن بيع الثّمر بالتّمر في لفظٍ واحدٍ من رواية جماعةٍ من الصّحابة، قال: ونظير ذلك الإذن في السّلم مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبع ما ليس عندك ". قال: فمن أجاز المُسلَم مع كونه مستثنىً من بيع ما ليس عندك ومنع العريّة مع كونها مستثناةً من بيع الثّمر بالتّمر فقد تناقض. ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن عمر - رضي الله عنه - برقم (265) وأيضاً حديث جابر - رضي الله عنه - برقم (266)

وأمّا حملهم الرّخصة على الهبة فبعيدٌ مع تصريح الحديث بالبيع واستثناء العرايا منه، فلو كان المراد الهبة لَمَا استثنيت العريّة من البيع، ولأنّه عبّر بالرّخصة والرّخصة لا تكون إلَّا بعد ممنوع , والمنع إنّما كان في البيع لا الهبة , وبأنّ الرّخصة قيّدت بخمسة أوسق أو ما دونها والهبة لا تتقيّد , لأنّهم لَم يفرّقوا في الرّجوع في الهبة بين ذي رحمٍ وغيره، وبأنّه لو كان الرّجوع جائزاً فليس إعطاؤه بالتّمر بدل الرّطب , بل هو تجديد هبة أخرى فإنّ الرّجوع لا يجوز فلا يصحّ تأويلهم. تكميل: قال البخاري قبل إيراد حديث الباب " باب الرّجل يكون له ممرٌّ، أو شربٌ في حائطٍ أو في نخلٍ. قال النّبىّ - صلى الله عليه وسلم -: من باع نخلاً بعد أن تؤبّر فثمرتها للبائع " (¬1) فللبائع الممرّ والسّقي حتّى يرفع , وكذلك ربّ العريّة. قال ابن المنير: وجه دخول هذه التّرجمة في الفقه: التّنبيه على إمكان اجتماع الحقوق في العين الواحدة، هذا له الملك وهذا له الانتفاع، وهو مأخوذٌ من استحقاق البائع الثّمرة دون الأصل فيكون له حقّ الاستطراق لاقتطافها في أرضٍ مملوكةٍ لغيره، وكذلك صاحب العريّة. قال: وعندنا خلافٌ فيمن يسقي العريّة، هل هو على الواهب أو الموهوبة له؟ وكذلك سقي الثّمرة المستثناة في البيع قيل على البائع , ¬

_ (¬1) سيأتي شرحه بعد الحديث الآتي إن شاء الله.

وقيل على المشتري، فلا تغترّ بنقل ابن بطّالٍ الإجماع في ذلك. انتهى

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 270 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رخّص في بيع العرايا في خمسة أوسقٍ، أو دون خمسة أوسقٍ (¬1). قوله: (رخّص) كذا للأكثر بالتّشديد وللكشميهنيّ " أرخص ". قوله: (في بيع العرايا) أي في بيع ثمر العرايا لأنّ العريّة هي النّخلة والعرايا جمع عريّة كما تقدّم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قوله: (في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق) شكّ من الرّاوي، بيّن مسلم في روايته أنّ الشّكّ فيه من داود بن الحصين، وللبخاري من وجهٍ آخر عن مالك مثله. وذكر ابن التّين تبعاً لغيره: أنّ داود تفرّد بهذا الإسناد , قال: وما رواه عنه إلَّا مالك بن أنس. والوسق ستّون صاعاً بالاتفاق. كما تقدّم في الزكاة (¬2) وقد اعتبر مَن قال بجواز بيع العرايا بمفهوم هذا العدد ومنعوا ما زاد عليه. واختلفوا في جواز الخمسة لأجل الشّكّ المذكور. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2078 , 2253) عن عبد الله بن عبد الوهاب ويحيى بن قزعة , ومسلم (1536) عن القعنبي ويحيى بن يحيى كلهم عن مالك عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى بن أبي أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2) انظر حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - في كتاب الزكاة برقم (177)

والخلاف عند المالكيّة والشّافعيّة، والرّاجح عند المالكيّة الجواز في الخمسة فما دونها، وعند الشّافعيّة الجواز فيما دون الخمسة ولا يجوز في الخمسة، وهو قول الحنابلة وأهل الظّاهر. فمأخذ المنع: أنّ الأصل التّحريم وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ منه بما يتحقّق منه الجواز ويلغي ما وقع فيه الشّكّ. وسبب الخلاف: أنّ النّهي عن بيع المزابنة , هل ورد متقدّماً ثمّ وقعت الرّخصة في العرايا، أو النّهي عن بيع المزابنة وقع مقروناً بالرّخصة في بيع العرايا؟ فعلى الأوّل: لا يجوز في الخمسة للشّكّ في رفع التّحريم. وعلى الثّاني: يجوز للشّكّ في قدر التّحريم، ويرجّح الأوّل رواية سالمٍ المذكورة في الحديث قبله. واحتجّ بعض المالكيّة: بأنّ لفظة " دون " صالحةٌ لجميع ما تحت الخمسة، فلو عملنا بها للزم رفع هذه الرّخصة. وتعقّب: بأنّ العمل بها ممكنٌ بأن يحمل على أقل ما تصدّق عليه , وهو المفتى به في مذهب الشّافعيّ. وقد روى التّرمذيّ حديث الباب من طريق زيد بن الحباب عن مالكٍ عن داود عن أبي سفيان عن أبي هريرة بلفظ " أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق " ولَم يتردّد في ذلك. وزعم المازريّ: أنّ ابن المنذر ذهب إلى تحديد ذلك بأربعة أوسق لوروده في حديث جابر من غير شكٍّ فيه فتعيّن طرح الرّواية التي وقع

فيها الشّكّ والأخذ بالرّواية المتيقّنة، قال: وألزم المزنيُّ الشّافعيَّ القول به. انتهى وفيما نقله نظرٌ. أمّا ابن المنذر فليس في شيءٍ من كتبه ما نقله عنه , وإنّما فيه ترجيح القول الصّائر إلى أنّ الخمسة لا تجوز , وإنّما يجوز ما دونها، وهو الذي ألزم المزنيّ أن يقول به الشّافعيّ كما هو بيّنٌ من كلامه. وقد حكى ابن عبد البرّ هذا القول عن قومٍ قال: واحتجّوا بحديث جابر، ثمّ قال: ولا خلاف بين الشّافعيّ ومالك ومن اتّبعهما في جواز العرايا في أكثر من أربعة أوسق ممّا لَم يبلغ خمسة أوسق , ولَم يثبت عندهم حديث جابر. قلت: حديث جابر الذي أشار إليه. أخرجه الشّافعيّ وأحمد وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم أخرجوه كلهم من طريق ابن إسحاق حدّثني محمّد بن يحيى بن حبّان عن عمّه واسع بن حبّان عن جابر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها , يقول: الوسق والوسقين والثّلاثة والأربع. لفظ أحمد. وترجم عليه ابن حبّان " الاحتياط أن لا يزيد على أربعة أوسق ". وهل الذي قاله يتعيّن المصير إليه، وأمّا جعله حدّاً لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح. واحتجّ بعضهم لمالكٍ بقول سهل بن أبي حثمة: إنّ العريّة تكون

ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة. أخرجه الطّبريّ من طريق الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن سهل , ولا حجّة فيه لأنّه موقوف. ومن فروع هذه المسألة: ما لو زاد في صفقةٍ على خمسة أوسق فإنّ البيع يبطل في الجميع. وخرَّج بعض الشّافعيّة من جواز تفريق الصّفقة أنّه يجوز. وهو بعيدٌ لوضوح الفرق. ولو باع ما دون خمسة أوسق في صفقةٍ , ثمّ باع مثلها البائع بعينه للمشتري بعينه في صفقةٍ أخرى. جاز عند الشّافعيّة على الأصحّ، ومنعه أحمد وأهل الظّاهر، والله أعلم.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 271 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من باع نخلاً قد أُبّرت فثمرتها للبائع، إلَّا أن يشترط المُبتاع. (¬1) ولمسلم (¬2): من ابتاع عبداً فماله للذي باعه، إلَّا أن يشترط المبتاع. (¬3) قوله: (من باع نخلاً) النّخل اسم جنسٍ يذكّر ويؤنّث. والجمع نخيلٌ قوله: (قد أُبِّرت) في رواية الليث عن نافع عند الشيخين " أيّما امرئٍ أبّر نخلاً ثمّ باع أصلها ". وقوله " أبرت " ضمّ الهمزة وكسر الموحّدة مخفّفاً على المشهور , ومشدّداً والرّاء مفتوحةٌ , يقال: أبرت النّخل آبره أبراً بوزن أكلت الشّيء آكله أكلاً. ويقال: أبّرته بالتّشديد أؤبّره تأبيراً، بوزن علمته أعلمه تعليماً. والتّأبير التّشقيق والتّلقيح , ومعناه شقّ طلع النّخلة الأنثى ليذرّ فيه شيءٌ من طلع النّخلة الذّكر، والحكم مستمرٌّ بمجرّد التّشقيق ولو لَم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2090 , 2092 , 2567) ومسلم (1543) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) كذا قال! وظاهر كلامه أنه من أفراد مسلم. وسيأتي تعقيب الشارح عليه. (¬3) أخرجه البخاري (2250) ومسلم (1543) من طرق عن الزهري عن سالم عن أبيه عن ابن عمر. فذكر حديث النخل ثم حديث العبد.

يضع فيه شيئاً. وروى مسلمٌ من حديث طلحة قال: مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقومٍ على رءوس النّخل , فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقّحونه يجعلون الذّكر في الأنثى فيلقح .. الحديث. وقال القرطبيّ: إبار كل شيءٍ بحسب ما جرت العادة أنّه إذا فعل فيه نبتت الثّمرةُ ثمرتَه وانعقدت فيه، ثمّ قد يعبّر به عن ظهور الثّمرة وعن انعقادها. وإن لَم يفعل فيها شيءٌ. القول الأول: استدل بمنطوقه: على أنّ من باع نخلاً وعليها ثمرةٌ مؤبّرةٌ لَم تدخل الثّمرة في البيع , بل تستمرّ على ملك البائع. وبمفهومه: على أنّها إذا كانت غير موبّرةٍ أنّها تدخل في البيع وتكون للمشتري. وبذلك قال جمهور العلماء. القول الثاني: خالفهم الأوزاعيّ وأبو حنيفة , فقالا: تكون للبائع قبل التّأبير وبعده. القول الثالث: عكَسَ ابن أبي ليلى , فقال: تكون للمشتري مطلقاً. وهذا كله عند إطلاق بيع النّخل من غير تعرّضٍ للثّمرة، فإن شرطها المشتري بأن قال: اشتريت النّخل بثمرتها كانت للمشتري، وإن شرطها البائع لنفسه قبل التّأبير كانت له. وخالف مالكٌ , فقال: لا يجوز شرطها للبائع. فالحاصل أنّه يستفاد من منطوقه حكمان , ومن مفهومه حكمان. أحدهما: بمفهوم الشّرط. والآخر: بمفهوم الاستثناء.

قال القرطبيّ: القول بدليل الخطاب يعني بالمفهوم في هذا ظاهرٌ , لأنّه لو كان حكم غير المؤبّرة حكم المؤبّرة لكان تقييده بالشّرط لغواً لا فائدة فيه. تنبيهٌ: لا يشترط في التّأبير أن يؤبّره أحدٌ، بل لو تأبّر بنفسه لَم يختلف الحكم عند جميع القائلين به قوله: (إلَّا أن يشترط المبتاع) المراد بالمبتاع المشتري بقرينة الإشارة إلى البائع بقوله " من باع ". وقد استدل بهذا الإطلاق على أنّه يصحّ اشتراط بعض الثّمرة كما يصحّ اشتراط جميعها , وكأنّه قال: إلَّا أن يشترط المبتاع شيئاً من ذلك , وهذه هي النّكتة في حذف المفعول. وانفرد ابن القاسم , فقال: لا يجوز له شرط بعضها. واستدل به على أنّ المؤبّر يخالف في الحكم غير المؤبّر. وقال الشّافعيّة: لو باع نخلةً بعضها مؤبّرٌ وبعضها غير مؤبّرٍ فالجميع للبائع، وإن باع نخلتين فكذلك يشترط اتّحاد الصّفقة، فإن أفرد فلكلٍّ حكمه. ويشترط كونهما في بستانٍ واحدٍ، فإن تعدّد فلكلٍّ حكمه. ونصّ أحمد. على أنّ الذي يؤبّر للبائع والذي لا يؤبّر للمشتري. وجعل المالكيّة الحكم للأغلب. وفي الحديث: جواز التّأبير , وأنّ الحكم المذكور مختصٌّ بإناث النّخل دون ذكوره , وأمّا ذكوره فللبائع نظراً إلى المعنى، ومن

الشّافعيّة من أخذ بظاهر التّأبير فلم يفرّق بين أنثى وذكرٍ. واختلفوا فيما لو باع نخلةً وبقيت ثمرتها له , ثمّ خرج طلعٌ آخر من تلك النّخلة. القول الأول: قال ابن أبي هريرة: هو للمشتري , لأنّه ليس للبائع إلَّا ما وجد دون ما لَم يوجد. القول الثاني: قال الجمهور: هو للبائع لكونه من ثمرة المؤبّرة دون غيرها. ويستفاد من الحديث أنّ الشّرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يفسد البيع , فلا يدخل في النّهي عن بيعٍ وشرطٍ. واستدل الطّحاويّ. بحديث الباب على جواز بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها؛ واحتجّ به لمذهبه الذي حكيناه في ذلك. وقد تعقّبه البيهقيّ وغيره: بأنّه يستدل بالشّيء في غير ما ورد فيه حتّى إذا جاء ما ورد فيه استدل بغيره عليه كذلك، فيستدل لجواز بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها بحديث التّأبير، ولا يعمل بحديث التّأبير، بل لا فرق عنده كما تقدّم في البيع قبل التّأبير وبعده. فإنّ الثّمرة في ذلك للمشتري سواءٌ شرطها البائع لنفسه أو لَم يشترطها. والجمع بين حديث التّأبير وحديث النّهي عن بيع الثّمرة قبل بدوّ الصّلاح سهلٌ , بأنّ الثّمرة في بيع النّخل تابعةٌ للنّخل , وفي حديث النّهي مستقلةٌ، وهذا واضحٌ جدّاً، والله أعلم بالصّواب. تكميل: قال ابن بطّالٍ: ذهب الجمهور إلى منع من اشترى النّخل

وحده أن يشتري ثمره قبل بدوّ صلاحه في صفقةٍ أخرى، بخلاف ما لو اشتراه تبعاً للنّخل فيجوز. وروى ابن القاسم عن مالكٍ الجواز مطلقاً. قال: والأوّل أولى لعموم النّهي عن ذلك. مسألة: من باع أرضاً محروثةً وفيها زرعٌ فالزّرع للبائع، والخلاف في هذه كالخلاف في النّخل، ويؤخذ منه أنّ من أجر أرضاً وله فيها زرع , أنّ الزّرع للمؤجر لا للمستأجر إن تصوّرت صورة الإجارة. قوله: (ولمسلم) ثبتت قصّة العبد في هذا الحديث في جميع نسخ البخاريّ، وصنيع صاحب العمدة يقتضي أنّها من أفراد مسلمٍ , وكأنّه لَمَّا نَظَرَ كتاب البيوع من البخاريّ فلم يجده فيه توهّم أنّها من إفراد مسلم. واعتذر الشّارح ابن العطّار عن صاحب العمدة , فقال: هذه الزّيادة أخرجها الشّيخان من رواية سالمٍ عن أبيه عن عمر، قال: فالمصنّف لَمَّا نسب الحديث لابن عمر احتاج أن ينسب الزّيادة لمسلمٍ وحده. انتهى ملخّصاً. وبالغ شيخنا ابن الملقّن في الرّدّ عليه , لأنّ الشّيخين لَم يذكرا في طريقِ سالمٍ عمرَ بل هو عندهما جميعاً عن ابن عمر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة عمر، لكن مسلم والبخاريّ ذكراه في البيوع والشّرب , فتعيّن أنّ سبب وهْم المقدسيّ ما ذكرتُه.

وقال النّوويّ في شرح مسلم: لَم تقع هذه الزّيادة في حديث نافعٍ عن ابن عمر , وذلك لا يضرّ. فإنّ سالماً ثقة , بل هو أجلّ من نافع فزيادته مقبولة. وقد أشار النّسائيّ والدّارقطنيّ إلى ترجيح رواية نافعٍ. وهي إشارةٌ مردودةٌ. انتهى. قلت: أمّا نفي تخريجها فمردود , فإنّها ثابتة عند البخاريّ من رواية ابن جريج عن ابن أبي مُلَيكة عن نافعٍ , لكن باختصار (¬1). وأمّا الاختلاف بين سالم ونافع. فإنّما هو في رفعها ووقفها لا في إثباتها ونفيها , فسالم رفع الحديثين جميعاً , ونافع رفع حديث النّخل عن ابن عمر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ووقف حديثَ العبدِ على ابن عمر عن عمر، وقد رجّح مسلم ما رجّحه النّسائيّ. وقال أبو داود وتبعه ابن عبد البرّ: وهذا أحد الأحاديث الأربعة التي اختلف فيها سالم ونافع. قال أبو عمر: اتّفقا على رفع حديث النّخل , وأمّا قصّة العبد فرفعها سالم ووقفها نافع على عمر، ورجّح البخاريّ رواية سالمٍ في رفع الحديثين. ونقل ابن التّين عن الدّاوديّ: هو وهْمٌ من نافع , والصّحيح ما رواه سالم مرفوعاً في العبد والثّمرة. ¬

_ (¬1) ولفظه عند (2203) " عن ابن أبى مُلَيكة عن نافع مولى ابن عمر , أنَّ أيُّما نخلٍ بيعت قد أبرت لَم يذكر الثمر، فالثمر للذي أبرها، وكذلك العبد والحرث. سمَّى له نافع هؤلاء الثلاث "

قال ابن التّين: لا أدري من أين أدخل الوهم على نافعٍ مع إمكان أن يكون عمر قال ذلك - يعني على جهة الفتوى - مستنداً إلى ما قاله النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتصحّ الرّوايتان. قلت: قد نقل التّرمذيّ في " الجامع " عن البخاريّ تصحيح الرّوايتين، ونقل عنه في " العلل " ترجيح قول سالمٍ. قوله: (من ابتاع عبداً فماله للذي باعه، إلَّا أن يشترط المبتاع) قال ابن دقيق العيد: استدل به لمالكٍ على أنّ العبد يملك لإضافة الملك إليه باللام، وهي ظاهرةٌ في الملك. قال غيره: يؤخذ منه أنّ العبد إذا ملّكه سيّده مالاً فإنّه يملكه، وبه قال مالك وكذا الشّافعيّ في القديم , لكنّه إذا باعه بعد ذلك رجع المال لسيّده إلَّا أن يشترطه المبتاع. وقال أبو حنيفة وكذا الشّافعيّ في الجديد: لا يملك العبد شيئاً أصلاً , والإضافة للاختصاص والانتفاع كما يقال: السّرج للفرس. ويؤخذ من مفهومه: أنّ من باع عبداً ومعه مال وشرطه المبتاع أنّ البيع يصحّ، لكن بشرط أن لا يكون المال ربويّاً فلا يجوز بيع العبد ومعه دراهم بدراهم قاله الشّافعيّ. وعن مالكٍ لا يمنع لإطلاق الحديث، وكأنّ العقد إنّما وقع على العبد خاصّة، والمال الذي معه لا مدخل له في العقد. واختلف فيما إذا كان المال ثياباً. والأصحّ. أنّ لها حكم المال، وقيل: تدخل عملاً بالعرف، وقيل:

يدخل ساتر العورة فقط. وقال الباجيّ: إنْ شرطه المشتري للعبد صحّ مطلقاً، وإن شرط بعضه أو لنفسه فروايتان. وقال المازريّ.: إن زال ملك السّيّد عن عبده ببيعٍ أو معاوضةٍ فالمال للسّيّد , إلَّا أن يشترطه المبتاع، وعن بعض التّابعين كالحسن يتبع العبد، والحديث حجّة على قائل هذا. وإن زال بالعتق ونحوه فالمال للعبد إلَّا أن يشترطه السّيّد، وإن زال بالهبة ونحوها فروايتان. قال القرطبيّ: أرجحهما إلحاقها بالبيع. وكذا إن سلمه في الجناية. وفي الحديث: جواز الشّرط الذي لا ينافي مقتضى العقد، قال الكرمانيّ: قوله: " وله مال " إضافة المال إلى العبد مجاز كإضافة الثّمرة إلى النّخلة.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 272 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه (¬1). وفي لفظ: حتى يقبضه. (¬2) وعن ابن عباس مثله. (¬3) قوله: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) اتّفقوا على منع بيع الطّعام قبل قبضه , ولمسلمٍ من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: وأحسب كل شيءٍ بمنزلة الطّعام. وهذا من تفقّه ابن عبّاس. ومال ابن المنذر: إلى اختصاص ذلك بالطّعام. واحتجّ باتّفاقهم على أنّ من اشترى عبداً فأعتقه قبل قبضه أنّ عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك. وتعقّب: بالفارق وهو تشوّف الشّارع إلى العتق. وللبخاري عن طاوس عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع الرّجل (¬1) أخرجه البخاري (2017 , 2019 , 2029 , 2058 , 2059) ومسلم (1526) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وللبخاري (2024 , 2030) ومسلم (1526) عن الزهري عن سالم عن أبيه نحوه (¬2) أخرجه البخاري (2026) ومسلم (1526) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثله. (¬3) أخرجه البخاري (2025 , 2028) ومسلم (1525) من طريق طاوس عن ابن عباس.

طعاماً حتّى يستوفيه , قلت لابن عبّاسٍ: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطّعام مرجّأٌ. معناه أنّه استفهم عن سبب هذا النّهي , فأجابه ابن عبّاس بأنّه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخّر المبيع في يد البائع , فكأنّه باعه دراهم بدراهم. ويبيّن ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم , قال طاوس: قلت لابن عبّاس: لِمَ؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذّهب والطّعام مرجأ , أي: فإذا اشترى طعاماً بمائة دينار مثلاً ودفعها للبائع ولَم يقبض منه الطّعام , ثمّ باع الطّعام لآخر بمائة وعشرين ديناراً وقبضها والطّعام في يد البائع. فكأنّه باع مائة دينارٍ بمائة وعشرين ديناراً. وعلى هذا التّفسير. لا يختصّ النّهي بالطّعام، ولذلك قال ابن عبّاس: لا أحسب كل شيءٍ إلَّا مثله. ويؤيّده حديث زيد بن ثابت: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السّلع حيث تبتاع حتّى يحوزها التّجّار إلى رحالهم. أخرجه أبو داود وصحَّحه ابن حبّان. قال القرطبيّ: هذه الأحاديث حجّة على عثمان البَتِّي (¬1) حيث أجاز ¬

_ (¬1) وفي نقل الشارح الاتفاق على المنع , دليل على أنه لَم يأبه بمخالفة عثمان البتي لمعارضته لصريح الحديث. تنبيه: وقغ في المطبوع (الليثي). وهو تصحيف. والبتي هو عثمان بن مسلم أبو عمرو البصري. أحد فقهاء البصرة القدماء , روى عن أنس والشعبي , وعنه شعبة والثوري , كان يبيع البتوت - جمع بت وهو كساء غليظ - فنُسب إليها. قال يحيى بن معين: مات سنة 143 هـ.

بيع كل شيءٍ قبل قبضه، وقد أخذ بظاهرها مالك , فحمل الطّعام على عمومه وألحق بالشّراء جميع المعاوضات. وأَلْحَقَ الشّافعيّ وابن حبيبٍ وسحنونٌ بالطّعام كل ما فيه حقّ توفيةٍ. وزاد أبو حنيفة والشّافعيّ فعدّياه إلى كل مشترى، إلَّا أنّ أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل. واحتجّ الشّافعيّ: بحديث عبد الله بن عمر وقال: نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لَم يضمن. أخرجه التّرمذيّ. قلت: وفي معناه حديث حكيم بن حزام أخرجه أصحاب السّنن بلفظ " قلت: يا رسولَ الله. يأتيني الرّجل فيسألني البيع ليس عندي، أبيعه منه ثمّ أبتاعه له من السّوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك " وأخرجه التّرمذيّ مختصراً. ولفظه " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندي ". قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقول: أبيعك عبداً أو داراً معيّنةً وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها. ثانيهما: أن يقول: هذه الدّار بكذا، على أن أشتريها لك من

صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها. انتهى وقصّة حكيمٍ موافقةٌ للاحتمال الثّاني. وفي صفة القبض عن الشّافعيّ تفصيل: فما يتناول باليد كالدّراهم والدّنانير والثّوب فقبضه بالتّناول، وما لا ينقل كالعقار والثّمر على الشّجر فقبضه بالتّخلية. وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنّقل إلى مكانٍ لا اختصاص للبائع به. وفيه قولٌ إنّه يكفي فيه التّخلية. واختلفوا في الإعتاق. فالجمهور على أنّه يصحّ الإعتاق ويصير قبضاً سواءٌ كان للبائع حقّ الحبس بأن كان الثّمن حالاً ولَم يدفع أم لا , والأصحّ في الوقف أيضاً صحّته. وفي الهبة والرّهن خلافٌ. والأصحّ عند الشّافعيّة فيهما أنّهما لا يصحّان، وحديث ابن عمر في قصّة البعير الصّعب (¬1) حجّةٌ لمقابله. ويمكن الجواب عنه: بأنّه يحتمل أن يكون ابن عمر كان وكيلاً في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2115) عن ابن عمر - رضي الله عنه -، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بَكْرٍ صعبٍ لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: بعنيه، قال: هو لك يا رسولَ الله، قال: بعنيه فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر، تصنع به ما شئت "

القبض قبل الهبة , وهو اختيار البغويّ قال: إذا أذن المشتري للموهوب له في قبض المبيع كفى وتمّ البيع وحصلت الهبة بعده، لكن لا يلزم من هذا اتّحاد القابض والمقبض , لأنّ ابن عمر كان راكب البعير حينئذٍ. وقد احتجّ به للمالكيّة والحنفيّة في أنّ القبض في جميع الأشياء بالتّخلية. وعند الشّافعيّة والحنابلة تكفي التّخلية في الدّور والأراضي وما أشبهها دون المنقولات. وقال ابن قدامة: ليس في الحديث تصريحٌ بالبيع، فيحتمل أن يكون قول عمر " هو لك " أي: هبةً، وهو الظّاهر فإنّه لَم يذكر ثمناً. قلت: وفيه غفلةٌ عن قوله في الحديث " فباعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث عند البخاريّ " فاشتراه " فعلى هذا فهو بيعٌ، وكون الثّمن لَم يُذكر لا يلزم أن يكون هبةً مع التّصريح بالشّراء، وكما لَم يذكر الثّمن يحتمل أن يكون القبض المشترط وقع وإن لَم ينقل. قال المحبّ الطّبريّ: يحتمل أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ساقه بعد العقد كما ساقه أوّلاً، وسوقه قبضٌ له , لأنّ قبض كل شيءٍ بحسبه. قوله: (حتى يقبضه) في قوله حتّى يقبضه زيادة في المعنى على قوله " حتّى يستوفيه " , لأنّه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري , بل يحبسه عنده لينقده الثّمن مثلاً.

تكميل: أخرج الشيخان عن سالم بن عبد الله، أنّ أباه، قال: قد رأيت النّاس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ابتاعوا الطّعام جزافاً، يُضربون في أن يبيعوه في مكانهم، وذلك حتّى يؤووه إلى رحالهم. وبه قال الجمهور، لكنّهم لَم يخصّوه بالجزاف , ولا قيّدوه بالإيواء إلى الرّحال. أمّا الأوّل: فلما ثبت من النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل، وورد التّنصيص على المكيل من وجهٍ آخر عن ابن عمر مرفوعاً. أخرجه أبو داود وأمّا الثّاني: فلأنّ الإيواء إلى الرّحال خرج مخرج الغالب. وفي بعض طرق مسلمٍ عن ابن عمر: كنّا نبتاع الطّعام فيبعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه. وفرَّق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل: فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه. وبه قال الأوزاعيّ وإسحاق. واحتجّ لهم: بأنّ الجزاف مرئيٌ فتكفي فيه التّخلية، والاستيفاء إنّما يكون في مكيلٍ أو موزون، وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعاً: من اشترى طعاماً بكيلٍ أو وزنٍ فلا يبيعه حتّى يقبضه. ورواه أبو داود والنّسائيّ بلفظ: نهى أن يبيع أحد طعاماً اشتراه بكيلٍ حتّى يستوفيه. والدّارقطنيّ من حديث جابر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطّعام

حتّى يجري فيه الصّاعان , صاع البائع والمشتري. ونحوه للبزّار من حديث أبي هريرة بإسنادٍ حسنٍ وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئاً مكايلة أو موازنة فقبضه جزافاً فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس. ومن اشترى مكايلة وقبضه ثمّ باعه لغيره لَم يجز تسليمه بالكيل الأوّل حتّى يكيله على من اشتراه ثانياً، وبذلك كله قال الجمهور. وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأوّل مطلقاً. وقيل: إن باعه بنقدٍ جاز بالكيل الأوّل , وإن باعه بنسيئةٍ لَم يجز بالأوّل. والأحاديث المذكورة تردّ عليه. وقوله " جزافاً " مثلثة الجيم والكسر أفصح.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 273 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , يقول وهو بمكة عام الفتح: إنّ الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يارسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنّه يُطلى بها السّفن ويُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرامٌ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إنّ الله لَمَّا حرّم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه. (¬1) قال المصنف: جملوه: أي أذابوه. قوله: (وهو بمكّة عام الفتح) فيه بيان تاريخ ذلك؛ وكان ذلك في رمضان سنة ثمان من الهجرة، ويحتمل: أن يكون التّحريم وقع قبل ذلك , ثمّ أعاده - صلى الله عليه وسلم - ليسمعه من لَم يكن سمعه. قوله: (إنّ الله ورسوله حرّم) هكذا وقع في الصّحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد , وكان الأصل " حرَّما ". فقال القرطبيّ: إنّه - صلى الله عليه وسلم - تأدّب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين، لأنّه من نوع ما ردّ به على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما. كذا قال، ولَم تتّفق الرّواة في هذا الحديث على ذلك , فإنّ في بعض طرقه في الصّحيح (¬2) " إنّ الله حرّم " ليس فيه " ورسوله ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2121 , 4045 , 4357) ومسلم (1581) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر - رضي الله عنه -. (¬2) كذا أطلق الشارح رحمه الله. ومراده أحد الصحيحين , ولَم أر فيهما الاقتصار على قوله (إن الله حرَّم) ولعلَّه وقع في نسخة الشارح. وقد أخرجه أبو داود (3486) عن قتيبة ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن جابر. بهذا اللفظ المذكور. وأخرجه البخاري (2121) مسلم (1581) كلاهما عن قتيبة. وفيه " ورسوله " ورواه مسلم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن يزيد به. ولَم يسق لفظه. كما نبّه عليه الشارح. وقد أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه " (4348) من طريق عبد الحميد به. وليس فيه. ورسوله. ورواه ابن الجارود في " المنتقى " (578) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (4468) من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الليث به. وليس فيه ورسوله

وفي رواية لابن مردويه من وجه آخر عن الليث " إنّ الله ورسوله حرّما " وقد صحّ حديث أنس في النّهي عن أكل الحمر الأهليّة " إنّ الله ورسوله ينهيانكم " ووقع في رواية النّسائيّ في هذا الحديث " ينهاكم ". والتّحقيق: جواز الإفراد في مثل هذا، ووجهه الإشارة إلى أنّ أمر النّبيّ ناشئٌ عن أمر الله، وهو نحو قوله: (والله ورسوله أحقّ أن يرضوه) والمختار في هذا أنّ الجملة الأولى حذفت لدلالة الثّانية عليها، والتّقدير عند سيبويه: والله أحقّ أن يرضوه، ورسوله أحقّ أن يرضوه، وهو كقول الشّاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرّأي مختلف وقيل: أحقّ أن يرضوه خبر عن الاسمين، لأنّ الرّسول تابع لأمر الله. قوله: (الخمر) سيأتي الكلام مستوفى في الأشربة إن شاء الله.

قوله: (والميتة) بفتح الميم ما زالت عنه الحياة لا بذكاةٍ شرعيّة، والميتة بالكسر الهيئة وليست مراداً هنا، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على تحريم بيع الميتة، ويستثنى من ذلك السّمك والجراد. قوله: (والخنزير) بوزن غربيبٍ ونونه أصليّةٌ , وقيل: زائدةٌ. وهو مختار الجوهريّ. قال ابن التين: شذَّ بعضُ الشافعية فقال: لا يُقتل الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة. قال: والجمهور على جواز قتله مطلقاً. قوله: (والأصنام) جمع صنم , قال الجوهريّ: هو الوثن، وقال غيره: الوثن ما له جثّة، والصّنم ما كان مصوّراً، فبينهما عموم وخصوص وجهيٌّ، فإن كان مصوّراً فهو وثن وصنم. قوله: (فقيل: يا رسولَ الله) لَم أقف على تسمية القائل، وفي رواية عبد الحميد الآتية " فقال رجلٌ ". قوله: (أرأيت شحوم الميتة , فإنّه يطلى بها السّفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها النّاس) أي: فهل يحل بيعها لِمَا ذكر من المنافع فإنّها مقتضية لصحّة البيع. قوله: (فقال: لا هو حرام) أي: البيع، هكذا فسّره بعض العلماء كالشّافعيّ ومن اتّبعه. ومنهم من حمل قوله " هو حرام " على الانتفاع فقال: يحرم الانتفاع بها. وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة أصلاً عندهم إلَّا ما خصّ بالدّليل , وهو الجلد المدبوغ.

واختلفوا فيما يتنجّس من الأشياء الطّاهرة. القول الأول: الجمهور على الجواز. القول الثاني: قال أحمد وابن الماجشون: لا ينتفع بشيءٍ من ذلك. واستدل الخطّابيّ على جواز الانتفاع بإجماعهم على أنّ من ماتت له دابّة ساغ له إطعامها لكلاب الصّيد. فكذلك يسوغ دهن السّفينة بشحم الميتة ولا فرق. قوله: (ثمّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود .. إلخ) وسياقه مشعر بقوّة ما أوّله الأكثر أنّ المراد بقوله " هو حرام " البيع لا الانتفاع. وروى أحمد والطّبرانيّ من حديث ابن عمر مرفوعاً: الويل لبني إسرائيل، إنّه لَمَّا حرّمت عليهم الشّحوم باعوها فأكلوا ثمنها، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام. ولأحمد والطّبرانيّ من حديث تميمٍ الدّاريّ مرفوعاً: إنّ الخمر حرامٌ شراؤها وثمنها. قال أحمد: حدّثنا أبو عاصم الضّحّاك بن مخلدٍ عن عبد الحميد بن جعفر أخبرني يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن جابر. ولفظه: يقول عام الفتح: إنّ الله حرّم بيع الخنازير وبيع الميتة وبيع الخمر وبيع الأصنام، قال رجلٌ: يا رسولَ الله. فما ترى في بيع شحوم الميتة؟ فإنّها تدهن بها السّفن والجلود ويستصبح بها. فقال: قاتل الله يهود .. الحديث. وأخرجه مسلم عن أبي موسى عن أبي عاصم. ولَم يسبق

لفظه , بل قال مثل حديث الليث (¬1). والظّاهر أنّه أراد أصل الحديث، وإلا ففي سياقه بعض مخالفة فظهر بهذه الرّواية أنّ السّؤال وقع عن بيع الشّحوم وهو يؤيّد ما قرّرناه. ويؤيّده أيضاً ما أخرجه أبو داود من وجه آخر عن ابن عبّاس , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال - وهو عند الرّكن -: قاتل الله اليهود، إنّ الله حرّم عليهم الشّحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه " قال جمهور العلماء: العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النّجاسة فيتعدّى ذلك إلى كل نجاسة، ولكنّ المشهور عند مالك طهارة الخنزير. والعلة في منع بيع الأصنام عدم المنفعة المباحة، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها جاز بيعها عند بعض العلماء من الشّافعيّة وغيرهم. والأكثر على المنع حملاً للنّهي على ظاهره، والظّاهر أنّ النّهي عن بيعها للمبالغة في التّنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصّلبان التي تعظّمها النّصارى , ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته. وأجمعوا على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير. ¬

_ (¬1) المقصود بحديث الليث رواية العمدة هنا.

ورخّص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير للخرز. حكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ وأبي يوسف وبعض المالكيّة. فعلى هذا فيجوز بيعه. ويستثنى من الميتة عند بعض العلماء , ما لا تَحلّه الحياة كالشّعر والصّوف والوبر , فإنّه طاهر فيجوز بيعه. وهو قول أكثر المالكيّة والحنفيّة، وزاد بعضهم العظم والسّنّ والقرن والظّلف. وقال بنجاسة الشّعور الحسن والليث والأوزاعيّ. ولكنّها تطهر عندهم بالغسل، وكأنّها متنجّسة عندهم بما يتعلق بها من رطوبات الميتة لا نجسة العين، ونحوه قول ابن القاسم في عظم الفيل: إنّه يطهر إذا سلق بالماء. قوله: (إنّ الله لَمَّا حرّم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه) ... سيأتي الكلام عليه مستوفى إن شاء الله (¬1) ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في كتاب الأشربة رقم (397).

باب السلم

باب السّلم السّلم بفتحتين: السّلف وزناً ومعنىً. وذكر الماورديّ أنّ السّلف لغة أهل العراق , والسّلم لغة أهل الحجاز، وقيل: السّلف تقديم رأس المال والسّلم تسليمه في المجلس. فالسّلف أعمّ. والسّلم شرعاً: بيع موصوف في الذّمّة، ومن قيّده بلفظ السّلم زاده في الحدّ، ومن زاد فيه ببدلٍ يعطى عاجلاً. فيه نظرٌ , لأنّه ليس داخلاً في حقيقته. واتّفق العلماء على مشروعيّته إلَّا ما حكي عن ابن المسيّب. واختلفوا في بعض شروطه. واتّفقوا على أنّه يشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غررٍ جوّز للحاجة أم لا؟.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 274 ـ عن عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنه - , قال: قدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيءٍ، فليسلف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ. (¬1) قوله: (قدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة) القدوم كان في شهر ربيع الأوّل بلا خلاف. وفي صحيح البخاري " فتلقّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة , فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف , وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول " وهذا هو المعتمد. وشذّ مَن قال يوم الجمعة، وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب " قدِمَها لهلال ربيع الأوّل " أي: أوّل يوم منه. وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق " قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل " ونحوه عند أبي معشر، لكن قال ليلة الاثنين، ومثله عن ابن البرقيّ، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم. وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق " قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2124 , 2125 , 2126 , 2135) ومسلم (1604) من طرق عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

وعند أبي سعيد في " شرف المصطفى " من طريق أبي بكر بن حزم " قدم لثلاث عشرة من ربيع الأوّل ". وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال. وعنده من حديث عمر " ثمّ نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأوّل " كذا فيه , ولعله كان فيه " خلتا " ليوافق رواية جرير بن حازم، وعند الزّبير في " أخبار المدينة " عن ابن شهاب: في نصف ربيع الأوّل. وقيل: كان قدومه في سابعه، وجزم ابن حزم: بأنّه خرج من مكّة لثلاث ليالٍ بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبيّ: إنّه خرج من الغار ليلة الاثنين أوّل يوم من ربيع الأوّل. فإن كان محفوظاً. فلعلَّ قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأوّل، وإذا ضمّ إلى قول أنس: إنّه أقام بقباء أربع عشرة ليلة , خرج منه أنّ دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه. لكنّ الكلبيَّ جزم: بأنّه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه , فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليالٍ فقط. وبه جزم ابن حبّان فإنّه قال: أقام بها الثّلاثاء والأربعاء والخميس , يعني: وخرج يوم الجمعة، فكأنّه لَم يعتدّ بيوم الخروج. وكذا قال موسى بن عقبة: إنّه أقام فيهم ثلاث ليالٍ. فكأنّه لَم يعتدّ بيوم الخروج، ولا الدّخول. وعن قوم من بني عمرو بن عوف , أنّه أقام فيهم اثنين وعشرين

يوماً. حكاه الزّبير بن بكّار، وفي مرسل عروة بن الزّبير ما يقرُب منه. والأكثر أنّه قدم نهاراً، ووقع في رواية مسلم ليلاً، ويجمع بأنّ القدوم كان آخر الليل فدخل نهاراً. قوله: (وهم يُسلفون في الثمار السنتين والثلاث) وللبخاري من طريق ابن علية عن ابن أبي نجيح " العام والعامين أو قال: عامين أو ثلاثة شك إسماعيل " يعني ابن عليّة. ولَم يشكّ سفيان (¬1) فقال " وهم يسلفون في التّمر السّنتين والثّلاث ". وقوله " عامين " وقوله " السّنتين " منصوب إمّا على نزع الخافض , أو على المصدر. قوله: (من أسلف في شيءٍ) وفي رواية ابن عليّة " من سلَّف في تمر " بالتشديد , والأُولى أشمل. وقوله " في شيء " أخذ منه جواز السّلم في الحيوان إلحاقاً للعدد بالكيل. والمخالف فيه الحنفيّة. وقال بصحته الحسن. فأخرج سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عن الحسن , أنّه كان لا يرى بأساً بالسّلف في الحيوان إذا كان شيئاً معلوماً إلى أجل معلوم. ¬

_ (¬1) هو كما الشارح ففي البخاري لَم يشك سفيان , لكن في صحيح مسلم (1604) حدثنا يحيى بن يحيى وعمرو الناقد (واللفظ ليحيى) قال عمرو: حدثنا. وقال يحيى: أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين.

قوله: (في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ) أي: فيما يوزن , والواو بمعنى أو. والمراد اعتبار الكيل فيما يكال , والوزن فيما يوزن. واتّفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل كصاع الحجاز وقفيز العراق وإردبّ مصر، بل مكاييل هذه البلاد في نفسها مختلفة , فإذا أطلق صرف إلى الأغلب. قال ابن بطّال: أجمعوا على أنّه إن كان في السّلم ما يكال أو يوزن فلا بدّ فيه من ذكر الكيل المعلوم والوزن المعلوم، فإن كان فيما لا يكال ولا يوزن فلا بدّ فيه من عدد معلوم. قلت: أو ذرع معلوم، والعدد والذّرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما وهو عدم الجهالة بالمقدار، ويجري في الذّرع ما تقدّم شرطه في الكيل والوزن من تعيين الذّراع لأجل اختلافه في الأماكن. وأجمعوا على أنّه لا بدّ من معرفة صفة الشّيء المسلم فيه صفة تميّزه عن غيره، وكأنّه لَم يذكر في الحديث , لأنّهم كانوا يعملون به , وإنّما تعرّض لذكر ما كانوا يهملونه. قوله: (إلى أجلٍ معلومٍ) أخرج الشّافعيّ من طريق أبي حسّان الأعرج عن ابن عبّاس قال: أشهد أنّ السّلف المضمون إلى أجل مسمّىً قد أحله الله في كتابه وأذن فيه. ثمّ قرأ (يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمّىً فاكتبوه). وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وصحَّحه. وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عبّاس قال:

لا تسلف إلى العطاء , ولا إلى الحصاد , واضرب أجلاً. ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عبّاس بلفظٍ: إذا سمّيت في السّلم قفيزاً وأجلاً فلا بأس. وأخرج عبد الرّزّاق من طريق نبيح - بنونٍ وموحّدة ومهملة مصغّر - وهو العنزيّ - بفتح المهملة والنّون ثمّ الزّاي - الكوفيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: السّلم بما يقوم به السّعر رباً، ولكن أسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأخرج مالك في " الموطّأ " عن نافع عن ابن عمر قال: لا بأس أن يسلف الرّجل في الطّعام الموصوف بسعرٍ معلوم إلى أجل معلوم , ما لَم يكن ذلك في زرع لَم يبد صلاحه أو ثمرة لَم يبد صلاحها. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع نحوه. وروى ابن أبي شيبة من طريق الثّوريّ عن أبي إسحاق عن الأسود قال: سألته عن السّلم في الطّعام , فقال: لا بأس به، كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأجاز السّلمَ الحالَّ الشّافعيّة، وذهب الأكثر إلى المنع. وحمل مَن أجاز الأمر في قوله " إلى أجل معلوم " على العلم بالأجل فقط، فالتّقدير عندهم من أسلم إلى أجل فليسلم إلى أجل معلوم لا مجهول، وأمّا السّلم لا إلى أجل فجوازه بطريق الأولى , لأنّه إذا جاز مع الأجل وفيه الغرر. فمع الحال أولى لكونه أبعد عن الغرر. وتعقّب: بالكتابة.

وأجيب: بالفرق , لأنّ الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالباً. واستدلَّ بقول ابن عبّاس الماضي " لا تسلف إلى العطاء " لاشتراط تعيين وقت الأجل بشيءٍ لا يختلف، فإنّ زمن الحصاد يختلف ولو بيومٍ , وكذلك خروج العطاء , ومثله قدوم الحاجّ، وأجاز ذلك مالك ووافقه أبو ثور. واختار ابن خزيمة من الشّافعيّة تأقيته إلى الميسرة. واحتجّ بحديث عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهوديّ ابعث لي ثوبين إلى الميسرة. وأخرجه النّسائيّ، وطعن ابن المنذر في صحّته بما وهم فيه. والحقّ أنّه لا دلالة فيه على المطلوب , لأنّه ليس في الحديث إلَّا مجرّد الاستدعاء فلا يمتنع أنّه إذا وقع العقد قيّد بشروطه , ولذلك لَم يصف الثّوبين. فائدة: أخرج البخاري عن أبي البختريّ سألت ابن عمر - رضي الله عنه - عن السّلم في النّخل , فقال: نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثّمر حتّى يصلح .. , وسألت ابن عبّاسٍ , فقال: نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النّخل حتّى يأكل أو يؤكل وحتّى يوزن , قلت: وما يوزن؟ قال رجلٌ عنده: حتّى يحرز. واستدل به على جواز السّلم في النّخل المعيّن من البستان المعيّن , لكن بعد بدوّ صلاحه. وهو قول المالكيّة.

وقد روى أبو داود وابن ماجه من طريق النّجرانيّ عن ابن عمر قال: لا يُسلم في نخل قبل أن يطلع، فإنّ رجلاً أسلم في حديقة نخلٍ قبل أن تطلع فلم تطلع ذلك العام شيئاً، فقال المشتري: هو لي حتّى تطلع، وقال البائع: إنّما بعتك هذه السّنة، فاختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: اردد عليه ما أخذت منه , ولا تسلموا في نخلٍ حتّى يبدو صلاحه. وهذا الحديث فيه ضعف. ونقل ابن المنذر اتّفاق الأكثر على منع السّلم في بستان معيّن , لأنّه غرر. وقد حمل الأكثر الحديث المذكور على السّلم الحال، وقد روى ابن حبّان والحاكم والبيهقيّ من حديث عبد الله بن سلام في قصّة إسلام زيد بن سعنة - بفتح السّين المهملة وسكون العين المهملة بعدها نون - أنّه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً إلى أجل معلوم من حائط بني فلان؟. قال: لا أبيعك من حائط مسمّىً، بل أبيعك أوسقاً مسمّاة إلى أجل مسمّىً.

باب الشروط في البيع

باب الشروط في البيع الحديث التاسع عشر 275 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءتني بريرة، فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أوقيّةٌ، فأعينيني، فقلت: إن أحبّ أهلك أن أعدّها لهم، ويكون ولاؤكِ لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت: لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلَّا أن يكون لهم الولاء، فسمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرت عائشة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فما بال رجالٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ، وإن كان مائة شرطٍ، قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2047 , 2060 , 2399 , 2421 , 2422 , 2424 , 2568 , 2579) ومسلم (1504) من طريق هشام بن عروة وكذا الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري (444 , 2425 , 2584) من طريق عمرة , و (2426 ,2576) من طريق أيمن الحبشي كلاهما عن عائشة نحوه. تنبيه: هذا الحديث يختلف عن حديث عائشة الآتي برقم (304) فمخارج الحديثين مختلفة. كما سيأتي تخريجه. وعليه فذِكر أطراف الحديث الآتي مع هذا الحديث لا يصحّ كما صنع الدكتور البغا ومحمد عبد الباقي.

قوله: (جاءتني بريرة) هي بفتح الموحّدة بوزن فعيلة، مشتقّة من البرير وهو ثمر الأراك. وقيل: إنّها فعيلة من البرّ بمعنى مفعولة كمبرورةٍ، أو بمعنى فاعلة كرحيمةٍ، هكذا وجّهه القرطبيّ. والأوّل أولى , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - غيّر اسم جويرية. وكان اسمها برّة (¬1). وقال: لا تزكّوا أنفسكم. (¬2) فلو كانت بريرة من البرّ لشاركتها في ذلك. وكانت بريرة لناسٍ من الأنصار كما وقع عند أبي نعيم، وقيل: لناسٍ من بني هلال. قاله ابن عبد البرّ، ويمكن الجمع. وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق كما في حديث الإفك، وعاشت إلى خلافة معاوية، وتفرّست في عبد الملك بن مروان أنّه يلي الخلافة فبشّرته بذلك. وروى هو ذلك عنها (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2140) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. وقوله (لا تزكوا أنفسكم) قاله في بنت زينب كما سيأتي. (¬2) أخرجه مسلم (2142) من حديث زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها. (¬3) أخرج الطبراني في " الكبير " (24/ 205) وأبونعيم في " المعرفة " (7538) من طريق عبد الخالق بن زيد بن واقد حدثني أبي أن عبد الملك بن مروان حدثهم، قال: كنت أجالس بريرة بالمدينة قبل أنْ أَلِي هذا الأمر. فكانت تقول: يا عبد الملك. إني لأرى فيك خصالاً لخليق أن تلي هذه الأمة. فإن وليته فاحذر الدماء , فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه مِن مسلم بغير حق. قال الهيثمي في " المجمع " (3/ 298): وفيه عبد الخالق بن زيد بن واقد. وهو ضعيف.

قوله: (كاتبت أهلي على تسع أواقٍ) وللبخاري معلقاً. وقال الليث عن يونس عن ابن شهابٍ، قال عروة: قالت عائشة: وعليها خمسة أواقٍ نجّمت عليها في خمس سنين .. " (¬1). وقد وقع في هذه الرّواية المعلَّقة مخالفة للرّوايات , فالمشهور ما في رواية هشام بن عروة عن أبيه " أنّها كاتبت على تسع أواقٍ في كلّ عام أوقيّة " وكذا في رواية ابن وهب عن يونس عند مسلم. وقد جزم الإسماعيليّ , بأنّ الرّواية المعلَّقة غلطٌ. ويمكن الجمع: بأنّ التّسع أصلٌ , والخمس كانت بقيت عليها، وبهذا جزم القرطبيّ والمحبّ الطّبريّ. ويعكّر عليه قوله في رواية قتيبة عن الليث عند البخاري " ولَم تكن أدّت من كتابتها شيئاً ". ويجاب: بأنّها كانت حصلت الأربع أواقٍ قبل أن تستعين عائشة، ثمّ جاءتها وقد بقي عليها خمس. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح " (5/ 230): وصله الذهلي في الزهريات عن أبي صالح كاتب الليث عن الليث , والمحفوظ رواية الليث له عن ابن شهاب نفسه بغير واسطة , وأخرجه البخاري ومسلم كلاهما عن قتيبة عن الليث , وكذلك أخرجه النسائي والطحاوي وغيرهما من طريق ابن وهب عن رجالٍ من أهل العلم. منهم يونس والليث كلهم عن ابن شهاب , وهذا هو المحفوظ أنَّ يونس رفيق الليث فيه لا شيخه , ووقع التصريح بسماع الليث له من ابن شهاب عند أبي عوانة من طريق مروان بن محمد , وعند النسائي من طريق ابن وهب كلاهما عن الليث. انتهى

وقال القرطبيّ: يجاب. بأنّ الخمس هي التي كانت استحقّت عليها بحلول نجومها من جملة التّسع الأواقي المذكورة في حديث هشام، ويؤيّده قوله في رواية عمرة عن عائشة عند البخاري " فقال أهلها: إن شئت أعطيت ما يبقى ". وذكر الإسماعيليّ: أنّه رأى في الأصل المسموع على الفربريّ في هذه الطّريق أنّها كاتبت على خمسة أوساق , وقال: إن كان مضبوطاً فهو يدفع سائر الأخبار. قلت: لَم يقع في شيءٍ من النّسخ المعتمدة التي وقفنا عليها إلَّا الأواقي، وكذا في نسخة النّسفيّ عن البخاريّ، وكان يمكن على تقدير صحّته أن يجمع بأنّ قيمة الأوساق الخمسة تسع أواقٍ، لكن يعكّر عليه قوله " في خمس سنين " فيتعيّن المصير إلى الجمع الأوّل. فائدة: روى ابن إسحاق عن خاله عبد الله بن صبيح - بفتح المهملة - عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزّى، فسألته الكتابة فأبى، فنزلت: (والذين يبتغون الكتاب) الآية " أخرجه ابن السّكن وغيره في ترجمة صبيح في الصّحابة. قوله: (فأعينيني) كذا للأكثر بصيغة الأمر للمؤنّث من الإعانة، وفي رواية الكشميهنيّ " فأعيتني " بصيغة الخبر الماضي من الإعياء، والضّمير للأواقي، وهو متّجه المعنى، أي: أعجَزَتني عن تحصيلها. وفي رواية حمّاد بن سلمة عن هشام عند ابن خزيمة وغيره " فأعتقيني " بصيغة الأمر للمؤنّث بالعتق، إلَّا أنّ الثّابت في طريق

مالك وغيره عن هشام الأوّل. قوله: (فقلت: إنْ أحبّ أهلكِ أنْ أعدّها لهم، ويكون ولاؤكِ لي فعلتُ) كذا في هذه الرّواية، وهي نظير رواية الليث عن ابن شهاب في الصحيحين " ارجعي إلى أهلك. فإن أحبّوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت " وظاهره أنّ عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال المكاتبة. ولَم يقع ذلك إذ لو وقع ذلك لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقها غيرها. وقد رواه أبو أسامة عن هشام بلفظٍ يزيل الإشكال , فقال بعد قوله " أن أعدّها لهم عدّةً واحدةً: وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت ". وكذلك رواه وهيب عن هشام. فعرف بذلك أنّها أرادت أن تشتريها شراء صحيحاً ثمّ تعتقها إذ العتق فرع ثبوت الملك، ويؤيّده قوله في بقيّة حديث الليث عن الزّهريّ " فقال - صلى الله عليه وسلم -: ابتاعي فأعتقي " وهو يفسّر قوله في رواية مالك عن هشام " خذيها ". ويوضّح ذلك أيضاً قوله في طريق أيمن عن عائشة عند البحاري: دخلت على بريرة وهي مكاتبة , فقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم. وقوله في حديث ابن عمر عند البخاري أيضاً " أرادت عائشة أن تشتري جاريةً فتعتقها ". وبهذا يتّجه الإنكار على موالي بريرة، إذ وافقوا عائشة على بيعها , ثمّ أرادوا أن يشترطوا أن يكون الولاء لهم.

ويؤيّده قوله في رواية أيمن المذكورة " قالت: لا تبيعوني حتّى تشترطوا ولائي " , وفي رواية الأسود في البخاري عن عائشة " اشتريت بريرة لأعتقها، فاشترط أهلُها ولاءَها " , وفي الصحيحين من طريق القاسم عن عائشة , أنّها أرادت أن تشتري بريرة , وأنّهم اشترطوا ولاءها. والمراد بالأهل هنا السّادة، والأهل في الأصل الآل، وفي الشّرع من تلزم نفقته على الأصحّ عند الشّافعيّة. قوله: (فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت: لهم، فأبوا عليها) في رواية الليث " فأبوا , وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل , ويكون ولاؤك لنا. هو من الحسبة بكسر المهملة. أي: تحتسب الأجر عند الله , ولا يكون لها ولاءٌ. قوله: (فجاءت من عندهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم , فأبوا إلَّا أن يكون لهم الولاء، فسمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في رواية الليث " فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية هشام " فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألني فأخبرته ". وفي رواية أيمن عند البخاري " فسمع بذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو بلغه " زاد البخاري من هذا الوجه فقال: ما شأن بريرة؟. ولمسلمٍ من رواية أبي أسامة، ولابن خزيمة من رواية حمّاد بن سلمة كلاهما عن هشام " فجاءتني بريرة والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جالس , فقالت

لي فيما بيني وبينها: ما أراد أهلها؟ فقلت: لاها الله إذاً، ورفعت صوتي وانتهرتها، فسمع ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسألني فأخبرته " لفظ ابن خزيمة. وكأن عائشة عرفت الحكم في ذلك. قوله: (خذيها واشترطي لهم الولاء) في رواية الليث " ابتاعي فأعتقي " وهو كقوله في حديث ابن عمر: " لا يمنعك ذلك " (¬1). وليس في ذلك شيءٌ من الإشكال الذي وقع في رواية هشام عن أبيه في الصحيحين " خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء " قال ابن عبد البرّ وغيره: كذا رواه أصحاب هشام عن عروة وأصحاب مالك عنه عن هشام. واستشكل صدور الإذن منه - صلى الله عليه وسلم - في البيع على شرطٍ فاسدٍ. واختلف العلماء في ذلك: فمنهم. من أنكر الشّرط في الحديث، فروى الخطّابيّ في " العالم " بسنده إلى يحيى بن أكثم , أنّه أنكر ذلك. وعن الشّافعيّ في " الأمّ " الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرّحة بالاشتراط لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وروايات غيره قابلة للتّأويل. وأشار غيره إلى أنّه روي بالمعنى الذي وقع له، وليس كما ظنّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (2562) من حديث ابن عمر , قال: أرادت عائشة أم المؤمنين أن تشتري جارية لتعتقها، فقال أهلها: على أن ولاءها لنا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق.

وأثبت الرّواية آخرون , وقالوا: هشام ثقةٌ حافظٌ، والحديث متّفقٌ على صحّته فلا وجه لردّه. ثمّ اختلفوا في توجيهها: الوجه الأول: زعم الطّحاويّ: أنّ المزنيّ حدّثه به عن الشّافعيّ بلفظ " وأشرطي " بهمزة قطع بغير تاءٍ مثنّاة، ثمّ وجّهه بأنّ معناه: أظهري لهم حكم الولاء. والإشراط الإظهار. قال أوس بن حجر: فأشرط فيها نفسه وهو معصمٌ. أي: أظهر نفسه. انتهى وأنكر غيره الرّواية. والذي في " مختصر المزنيّ " و " الأمّ " وغيرهما عن الشّافعيّ كرواية الجمهور " واشترطي " بصيغة أمر المؤنّث من الشّرط. الوجه الثاني: حكى الطّحاويّ أيضاً: تأويل الرّواية التي بلفظ " اشترطي " وأنّ اللام في قوله: " اشترطي لهم " بمعنى " على " كقوله تعالى: (وإن أسأتم فلها) وهذا هو المشهور عن المزنيّ. وجزم به عنه الخطّابيّ، وهو صحيحٌ عن الشّافعيّ أسنده البيهقيّ في " المعرفة " من طريق أبي حاتمٍ الرّازيّ عن حرملة عنه. وحكى الخطّابيّ عن ابن خزيمة: أنّ قول يحيى بن أكثم غلط، والتّأويل المنقول عن المزنيّ لا يصحّ. وقال النّوويّ: تأويل اللام بمعنى على هنا ضعيف، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - أنكر الاشتراط، ولو كانت بمعنى على لَم ينكره.

فإن قيل: ما أنكر إلَّا إرادة الاشتراط في أوّل الأمر، فالجواب: أنّ سياق الحديث يأبى ذلك. وضعّفه أيضاً ابن دقيق العيد , وقال: اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النّافع، بل على مطلق الاختصاص، فلا بدّ في حملها على ذلك من قرينةٍ. الوجه الثالث: الأمر في قوله: " اشترطي " للإباحة، وهو على جهة التّنبيه على أنّ ذلك لا ينفعهم فوجوده وعدمه سواءٌ، وكأنّه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم. ويقوّي هذا التّأويل. قوله في رواية أيمن عند البخاري " اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا " الوجه الرابع: قيل: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعلمَ النّاسَ بأنّ اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلمّا أرادوا أن يشترطوا ما تقدّم لهم العلم ببطلانه أطلق الأمر مريداً به التّهديد على مآل الحال كقوله: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وكقول موسى: (ألقُوا ما أنتم ملقون) أي: فليس ذلك بنافعكم، وكأنّه يقول: اشترطي لهم فسيعلمون أنّ ذلك لا ينفعهم. ويؤيّده قوله حين خطبهم " ما بال رجال يشترطون شروطاً إلخ " فوبّخهم بهذا القول مشيراً إلى أنّه قد تقدّم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لَم يتقدّم بيان ذلك لبدأ ببيان الحكم في الخطبة لا بتوبيخ الفاعل، لأنّه كان يكون باقياً على البراءة الأصليّة. الوجه الخامس: قيل: الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر

وباطنه النّهي كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) الوجه السادس: قال الشّافعيّ في " الأمّ ": لَمَّا كان من اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصياً , وكانت في المعاصي حدود وآداب , وكان من أدب العاصين أن يعطّل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك ويرتدع به غيرهم كان ذلك من أيسر الأدب. الوجه السابع: وقال غيره: معنى " اشترطي " اتركي مخالفتهم فيما شرطوه ولا تظهري نزاعهم فيما دعوا إليه مراعاة لتنجيز العتق لتشوّف الشّارع إليه، وقد يعبّر عن التّرك بالفعل كقوله تعالى: (وما هم بضارّين به من أحدٍ إلَّا بإذن الله) أي: نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسّحر. قال ابن دقيق العيد: وهذا وإن كان محتملاً. إلَّا أنّه خارج عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السّياق. الوجه الثامن: قال النّوويّ: أقوى الأجوبة أنّ هذا الحكم خاصٌّ بعائشة في هذه القضيّة , وأنّ سببه المبالغة في الرّجوع عن هذا الشّرط لمخالفته حكم الشّرع، وهو كفسخ الحجّ إلى العمرة كان خاصّاً بتلك الحجّة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحجّ. ويستفاد منه ارتكاب أخفّ المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدّهما. وتعقّب: بأنّه استدلال بمختلفٍ فيه على مختلفٍ فيه. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ التّخصيص لا يثبت إلَّا بدليلٍ، ولأنّ الشّافعيّ نصّ على خلاف هذه المقالة.

الوجه التاسع: قال ابن الجوزيّ: ليس في الحديث أنّ اشتراط الولاء والعتق كان مقارناً للعقد. فيحمل على أنّه كان سابقاً للعقد فيكون الأمر بقوله: " اشترطي " مجرّد الوعيد ولا يجب الوفاء به. وتعقّب: باستبعاد أنّه - صلى الله عليه وسلم - يأمر شخصاً أن يعد مع علمه بأنّه لا يفي بذلك الوعد. الوجه العاشر: أغرب ابن حزم فقال: كان الحكم ثابتاً بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزاً فيه، ثمّ نسخ ذلك الحكم بخطبته - صلى الله عليه وسلم - وبقوله: إنّما الولاء لمن أعتق. ولا يخفى بُعدُ ما قال، وسياق طرق هذا الحديث تدفع في وجه هذا الجواب. والله المستعان. الوجه الحادي عشر: قال الخطّابيّ: وجه هذا الحديث أنّ الولاء لَمَّا كان كلحمة النّسب، والإنسان إذا ولد له ولدٌ ثبت له نسبه ولا ينتقل نسبه عنه ولو نسب إلى غيره، فكذلك إذا أعتق عبداً ثبت له ولاؤه ولو أراد نقل ولائه عنه أو أذن في نقله عنه لَم ينتقل، فلم يعبأ باشتراطهم الولاء. الوجه الثاني عشر: قيل: اشترطي ودعيهم يشترطون ما شاءوا ونحو ذلك , لأنّ ذلك غير قادح في العقد , بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأخّر إعلامهم بذلك ليكون ردّه وإبطاله قولاً شهيراً يخطب به على المنبر ظاهراً، إذ هو أبلغ في النّكير وأوكد في التّعبير. انتهى

وهو يؤوّل إلى أنّ الأمر فيه. بمعنى الإباحة كما تقدّم. قوله: (فما بال رجالٍ) أي: ما حالهم. قوله: (يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) المراد بكتاب الله في الحديث المرفوع حكمه، وهو أعمّ من أن يكون نصّاً أو مستنبطاً، وكلّ ما كان ليس من ذلك فهو مخالف لِما في كتاب الله. وقال ابن بطّال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنّة رسوله أو إجماع الأمّة. وقال ابن خزيمة: ليس في كتاب الله. أي: ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه، لا أنّ كل من شرط شرطاً لَم ينطق به الكتاب يبطل، لأنّه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشّرط، ويشترط في الثّمن شروط من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك فلا يبطل. وقال النّوويّ: قال العلماء الشّروط في البيع أقسامٌ. أحدها: يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه. الثّاني: شرطٌ فيه مصلحة كالرّهن وهما جائزان اتّفاقاً. الثّالث: اشتراط العتق في العبد. وهو جائزٌ عند الجمهور لحديث عائشة وقصّة بريرة. الرّابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطلٌ. وقال القرطبيّ: قوله: " ليس في كتاب الله " أي: ليس مشروعاً في كتاب الله تأصيلاً ولا تفصيلاً، ومعنى هذا أنّ من الأحكام ما يؤخذ

تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصّلاة، ومنها ما أصّل أصله كدلالة الكتاب على أصليّة السّنّة والإجماع وكذلك القياس الصّحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلاً فهو مأخوذٌ من كتاب الله تأصيلاً. وقال الخطّابيّ: ليس المراد أنّ ما لَم ينصّ عليه في كتاب الله فهو باطل، فإنّ لفظ " الولاء لمن أعتق " من قوله - صلى الله عليه وسلم - لكنّ الأمر بطاعته في كتاب الله فجاز إضافة ذلك إلى الكتاب. وتعقّب: بأنّ ذلك لو جاز لجازت إضافة ما اقتضاه كلام الرّسول - صلى الله عليه وسلم - إليه، والجواب عنه: أنّ تلك الإضافة إنّما هي بطريق العموم لا بخصوص المسألة المعيّنة، وهذا مصيرٌ من الخطّابيّ إلى أنّ المراد بكتاب الله هنا القرآن، ونظير ما جنح إليه ما قاله ابن مسعود لأمّ يعقوب في قصّة الواشمة: مالي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله. ثمّ استدل على كونه في كتاب الله بقوله تعالى (وما آتاكم الرّسول فخذوه) (¬1). ويحتمل: أن يكون المراد بقوله هنا " في كتاب الله " أي: في حكم الله، سواء ذكر في القرآن أم في السّنّة. أو المراد بالكتاب المكتوب. أي: في اللوح المحفوظ. قوله: (ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ) في رواية ¬

_ (¬1) قصة أم يعقوب مع ابن مسعود - رضي الله عنه - , أخرجها الشيخان.

الليث " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له " قوله: (وإن كان مائة شرطٍ) في رواية الليث " وإن شرط مائة مرّة ". قال النّوويّ: معنى قوله: " ولو اشترط مائة شرط " أنّه لو شرط مائة مرّة توكيداً فهو باطلٌ. ويؤيّده قوله رواية: " وإنْ شرط مائة مرّة " وإنّما حمله على التّأكيد , لأنّ العموم في قوله: " كلّ شرط " وفي قوله: " من اشترط شرطاً " دالٌ على بطلان جميع الشّروط المذكورة , فلا حاجة إلى تقييدها بالمائة , فإنّها لو زادت عليها كان الحكم كذلك لِما دلت عليها الصّيغة. نعم. رواية أيمن عن عائشة في البخاري بلفظ " فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط " وإن احتمل التّأكيد , لكنّه ظاهرٌ في أنّ المراد به التّعدّد، وذِكر المائة على سبيل المبالغة. والله أعلم. وقال القرطبيّ: قوله " ولو كان مائة شرط ": خرج مخرج التّكثير، يعني أنّ الشّروط الغير المشروعة باطلة ولو كثرت، ويستفاد منه أنّ الشّروط المشروعة صحيحة. وسيأتي التّنصيص على ذلك في كتاب إن شاء الله تعالى. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر حديث جابر - رضي الله عنه - الآتي , وكذا حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - الآتي في النكاح رقم (312)

قوله: (قضاء الله أحقّ) أي: بالاتّباع من الشّروط المخالفة له. قوله: (وشرط الله أوثق) أي: باتّباع حدوده التي حدّها، وليست المفاعلة هنا على حقيقتها إذ لا مشاركة بين الحقّ والباطل، وقد وردت صيغة أفعل لغير التّفضيل كثيراً. ويحتمل أن يقال: ورد ذلك على ما اعتقدوه من الجواز. قوله: (ونّما الولاء لمن أعتق) يستفاد منه أنّ كلمة " إنّما " للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمّا عداه. ولولا ذلك لَمَا لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره. واستدل بمفهومه على أنّه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه وبينه محالفة خلافاً للحنفيّة، ولا للملتقط خلافاً لإسحاق. ويستفاد من منطوقه إثبات الولاء لمن أعتق سابيه خلافاً لمَن قال: يصير ولاؤه للمسلمين، ويدخل فيمن أعتق عتق المسلم للمسلم وللكافر، وبالعكس ثبوت الولاء للمعتق. تنبيهٌ: زاد النّسائيّ من طريق جرير بن عبد الحميد عن هشام بن عروة في آخر هذا الحديث " فخيّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين زوجها وكان عبداً " وهذه الزّيادة أخرجها البخاري من حديث ابن عبّاس. ويأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، مع ذكر الخلاف في زوجها هل كان حرّاً أو عبداً؟. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة رضي الله عنها آخر حديثٍ في البيوع. رقم (304).

وفي حديث بريرة هذا من الفوائد سوى ما سبق. جواز المكاتبة بالسّنّة تقريرًا لحكم الكتاب، وقد روى ابن أبي شيبة في " الأوائل " بسندٍ صحيح , أنّها أوّل كتابة كانت في الإسلام. ويردّ عليه قصّة سلمان، فيجمع بأنّ أوّليّته في الرّجال وأوّليّة بريرة في النّساء. وقد قيل: إنّ أوّل مكاتب في الإسلام أبو أُميَّة عبد عمر، وادّعى الرّويانيّ أنّ الكتابة لَم تكن تعرف في الجاهليّة وخولف. وفيه جواز كتابة الأمة كالعبد، وجواز كتابة المتزوّجة ولو لَم يأذن الزّوج، وأنّه ليس له منعها من كتابتها ولو كانت تؤدّي إلى فراقها منه، كما أنّه ليس للعبد المتزوّج منع السّيّد من عتق أمته التي تحته وإن أدّى ذلك إلى بطلان نكاحها. ويستنبط من تمكينها من السّعي في مال الكتابة أنّه ليس عليها خدمته. وفيه جواز سعي المكاتبة وسؤالها واكتسابها وتمكين السّيّد لها من ذلك، ولا يخفى أنّ محلّ الجواز إذا عرفت جهة حلّ كسبها. وفيه البيان بأنّ النّهي الوارد عن كسب الأمة محمول على من لا يعرف وجه كسبها، أو محمول على غير المكاتبة. وفيه أنّ للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة , ولا يشترط في ذلك عجَزَه خلافاً لمن شرطه. وفيه جواز السّؤال لمن احتاج إليه من دينٍ أو غرمٍ أو نحو ذلك.

وفيه أنّه لا بأس بتعجيل مال الكتابة. وفيه جواز المساومة في البيع وتشديد صاحب السّلعة فيها، وأنّ المرأة الرّشيدة تتصرّف لنفسها في البيع وغيره ولو كانت مزوّجةً خلافاً لمن أبى ذلك، وأنّ من لا يتصرّف بنفسه فله أن يقيم غيره مقامه في ذلك، وأنّ العبد إذا أذن السّيّد له في التّجارة جاز تصرّفه. وفيه جواز رفع الصّوت عند إنكار المنكر، وأنّه لا بأس لمن أراد أن يشتري للعتق أن يظهر ذلك لأصحاب الرّقبة ليتساهلوا له في الثّمن , ولا يعدّ ذلك من الرّياء. وفيه إنكار القول الذي لا يوافق الشّرع وانتهار الرّسول فيه. وفيه أنّ الشّيء إذا بيع بالنّقد كانت الرّغبة فيه أكثر ممّا لو بيع بالنّسيئة، وأنّ للمرء أن يقضي عنه دينه برضاه. وفيه جواز دخول النّساء الأجانب بيت الرّجل سواءٌ كان فيه أم لا وفيه أنّ المكاتبة لا يلحقها في العتق ولدها ولا زوجها. وفيه جواز الشّراء بالنّسيئة، وأنّ المكاتب لو عجّل بعض كتابته قبل المحلّ على أن يضع عنه سيّده الباقي لَم يجبر السّيّد على ذلك. وجواز الكتابة على قدر قيمة العبد وأقلّ منها وأكثر، لأنّ بين الثّمن المنجّز والمؤجّل فرقاً، ومع ذلك فقد بذلت عائشة المؤجّل ناجزاً فدلَّ على أنّ قيمتها كانت بالتّأجيل أكثر ممّا كوتبت به وكان أهلها باعوها بذلك. وفيه أنّ المراد بالخير في قوله تعالى: (إن علمتم فيهم خيراً) القوّة

على الكسب، والوفاء بما وقعت الكتابة عليه، وليس المراد به المال. ويؤيّد ذلك أنّ المال الذي في يد المكاتب لسيّده. فكيف يكاتبه بماله؟، لكن من يقول: إنّ العبد يملك. لا يَرِدُ عليه هذا. وقد نقل عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالخير المال مع أنّه يقول إنّ العبد لا يملك، فنسب إلى التّناقض، والذي يظهر أنّه لا يصحّ عنه أحد الأمرين. واحتجّ غيره: بأنّ العبد مال سيّده والمال الذي معه لسيّده. فكيف يكاتبه بماله؟ وقال آخرون: لا يصحّ تفسير الخير بالمال في الآية , لأنّه لا يقال فلان لا مال فيه , وإنّما يقال لا مال له أو لا مال عنده، فكذا إنّما يقال فيه وفاء وفيه أمانةٌ وفيه حسن معاملةٍ. ونحو ذلك. وفي الحديث أيضاً جواز كتابة من لا حرفة له. وفاقاً للجمهور، واختلف عن مالك وأحمد , وذلك أنّ بريرة جاءت تستعين على كتابتها ولَم تكن قضت منها شيئاً، فلو كان لها مال أو حرفة لَما احتاجت إلى الاستعانة , لأنّ كتابتها لَم تكن حالة. كذا قيل. وفيه نظرٌ , لأنّه لا يلزم من طلبها من عائشة الإعانة على حالها أن يكون لا مال لها ولا حرفة، وقد وقع عند الطّبريّ من طريق أبي الزّبير عن عروة , أنّ عائشة ابتاعت بريرة مكاتبة وهي لَم تقض من كتابتها شيئاً. وتقدّمت الزّيادة من وجه آخر. وفيه جواز أخذ الكتابة من مسألة النّاس، والرّدّ على من كره ذلك وزعم أنّه أوساخ النّاس.

وفيه مشروعيّة معونة المكاتبة بالصّدقة، وعند المالكيّة رواية , أنّه لا يجزئ عن الفرض. وفيه جواز الكتابة بقليل المال وكثيره، وجواز التّأقيت في الدّيون في كلّ شهر مثلاً كذا من غير بيان أوّله أو وسطه، ولا يكون ذلك مجهولاً , لأنّه يتبيّن بانقضاء الشّهر الحلول. كذا قال ابن عبد البرّ , وفيه نظرٌ , لاحتمال أن يكون قول بريرة: " في كلّ عام أوقيّة " أي: في غرّته مثلاً، وعلى تقدير التّسليم فيمكن التّفرقة بين الكتابة والدّيون، فإنّ المكاتب لو عجَزَ حل لسيّده ما أخذ منه بخلاف الأجنبيّ. وقال ابن بطّال: لا فرق بين الدّيون وغيرها، وقصّة بريرة محمولة على أنّ الرّاوي قصّر في بيان تعيين الوقت وإلا يصير الأجل مجهولاً. وقد نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن السّلف إلَّا إلى أجل معلوم. وفيه أنّ العدّ في الدّراهم الصّحاح المعلومة الوزن يكفي عن الوزن، وأنّ المعاملة في ذلك الوقت كانت بالأواقي، والأوقيّة أربعون درهماً كما تقدّم في الزّكاة. وزعم المحبّ الطّبريّ: أنّ أهل المدينة كانوا يتعاملون بالعدّ إلى مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ثمّ أمروا بالوزن. وفيه نظرٌ. لأنّ قصّة بريرة متأخّرة عن مقدمه بنحوٍ من ثمان سنين، لكن يحتمل قول عائشة " أعدّها لهم عدّة واحدة " أي: أدفعها لهم، وليس مرادها حقيقة العدّ.

ويؤيّده قولها في طريق عمرة عن عائشة في البخاري " أن أصبّ لهم ثمنك صبّة واحدة ". وفيه جواز البيع على شرط العتق بخلاف البيع بشرط أن لا يبيعه لغيره ولا يهبه مثلاً، وأنّ من الشّروط في البيع ما لا يبطل ولا يضرّ البيع. في الحديث. وهو القول الأول: جواز بيع المكاتب إذا رضي وإن لَم يكن عاجزاً عن أداء نجم قد حلَّ عليه، لأنّ بريرة لَم تقل إنّها عجَزَت ولا استفصلها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول أحمد وربيعة والأوزاعيّ والليث وأبي ثور وأحد قولي الشّافعيّ ومالك، واختاره ابن جريجٍ وابن المنذر وغيرهما على تفاصيل لهم في ذلك. القول الثاني: منعه أبو حنيفة والشّافعيّ في أصحّ القولين وبعض المالكيّة. وأجابوا عن قصّة بريرة بأنّها عجَزَت نفسها. واستدلوا باستعانة بريرة عائشة في ذلك، وليس في استعانتها ما يستلزم العجَزَ، ولا سيّما مع القول بجواز كتابة من لا مال عنده ولا حرفة له. قال ابن عبد البرّ: ليس في شيء من طرق حديث بريرة أنّها عجَزَت عن أداء النّجم، ولا أخبرت بأنّه قد حل عليها شيء، ولَم يرد في شيء من طرقه استفصال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لها عن شيء من ذلك.

ومنهم من أوّل قولها: " كاتبت أهلي " فقال: معناه راودتهم واتّفقت معهم على هذا القدر , ولَم يقع العقد بعد، ولذلك بيعت، فلا حجّة فيه على بيع المكاتب مطلقاً، وهو خلاف ظاهر سياق الحديث. قاله القرطبيّ. ويقوّي الجواز أيضاً: أنّ الكتابة عتق بصفةٍ فيجب أن لا يعتق إلَّا بعد أداء جميع النّجوم، كما لو قال أنت حرٌّ إن دخلت الدّار فلا يعتق إلَّا بعد تمام دخولها، ولسيّده بيعه قبل دخولها. ومن المالكيّة من زعم أنّ الذي اشترته عائشة كتابة بريرة لا رقبتها وقد تقدّم ردّه، وقيل: إنّهم باعوا بريرة بشرط العتق، وإذا وقع البيع بشرط العتق صحّ على أصحّ القولين عند الشّافعيّة والمالكيّة، وعن الحنفيّة يبطل. وفيه جواز مناجاة المرأة دون زوجها سرّاً إذا كان المناجي ممّن يؤمن، وأنّ الرّجل إذا رأى شاهد الحال يقتضي السّؤال عن ذلك سأل وأعان، وأنّه لا بأس للحاكم أن يحكم لزوجته ويشهد. وفيه قبول خبر المرأة ولو كانت أمة، ويؤخذ منه حكم العبد بطريق الأولى. وفيه أنّ عقد الكتابة قبل الأداء لا يستلزم العتق، وأنّ بيع الأمة ذات الزّوج ليس بطلاقٍ. وفيه البداءة في الخطبة بالحمد والثّناء، وقول أمّا بعد فيها، والقيام فيها، وجواز تعدّد الشّروط لقوله: " مائة شرط " وأنّ الإيتاء الذي أمر به السّيّد ساقط عنه إذا باع مكاتبه للعتق.

وفيه أن لا كراهة في السّجع في الكلام إذا لَم يكن عن قصد ولا متكلفاً. وفيه أنّ للمكاتب حالة فارق فيها الأحرار والعبيد. وفيه أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يظهر الأمور المهمّة من أمور الدّين ويعلنها ويخطب بها على المنبر لإشاعتها، ويراعي مع ذلك قلوب أصحابه، لأنّه لَم يعيّن أصحاب بريرة بل قال: " ما بال رجال " , ولأنّه يؤخذ من ذلك تقرير شرع عامّ للمذكورين وغيرهم في الصّورة المذكورة وغيرها. وهذا بخلاف قصّة عليّ في خِطبته بنت أبي جهل فإنّها كانت خاصّة بفاطمة فلذلك عيّنها (¬1). وفيه حكاية الوقاع لتعريف الأحكام، وأنّ اكتساب المكاتب له لا لسيّده، وجواز تصرّف المرأة الرّشيدة في مالها بغير إذن زوجها، ومراسلتها الأجانب في أمر البيع والشّراء كذلك، وجواز شراء السّلعة للرّاغب في شرائها بأكثر من ثمن مثلها , لأنّ عائشة بذلت ما قرّر نسيئة على جهة النّقد مع اختلاف القيمة بين النّقد والنّسيئة. وفيه جواز استدانة من لا مال له عند حاجته إليه. ويؤخذ من مشروعيّة نجوم الكتابة البيع إلى أجلٍ والاستقراض ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3729) مسلم (2449) عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال: إن علياً خطب بنت أبي جهل. فسمعتْ بذلك فاطمة. فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا عليٌ ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعته حين تشهد، يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني. وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله، عند رجلٍ واحدٍ. فترك عليٌ الخطبةَ.

ونحو ذلك، وفيه إلحاق الإماء بالعبيد لأنّ الآية طاهرة في الذّكور، وفيه جواز كتابة أحد الزّوجين الرّقيقين، ويلحق به جواز بيع أحدهما دون الآخر. ويؤخذ منه أنّ المكاتب عبد ما بقي عليه شيء، فيتفرّع منه إجراء أحكام الرّقيق كلّها في النّكاح والجنايات والحدود وغيرها. وقد أكثر بسردها من جمعوا الفوائد المستنبطة من حديث بريرة. ومن ذلك أنّ من أدّى أكثر نجومه لا يعتق تغليبًا لحكم الأكثر، وأنّ من أدّى من النّجوم بقدر قيمته يعتق، وأنّ من أدّى بعض نجومه لَم يعتق منه بقدر ما أدّى، لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أذن في شراء بريرة من غير استفصال. وروى ابن أبي شيبة وابن سعد من طريق عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة فرفعت صوتي، فقالت: سليمان؟ فقلت: سليمان. فقالت: أدّيت ما بقي عليك من كتابتك؟ قلت: نعم. إلَّا شيئًا يسيرًا. قالت: ادخل، فإنّك عبد ما بقي عليك شيء. وروى الطّحاويّ من طريق ابن أبي ذئب عن عمران بن بشير عن سالم هو مولى النّضريين أنّه قال لعائشة: ما أراك إلَّا ستحتجبين منّي، فقالت: ما لك؟ فقال: كاتبت، فقالت: إنّك عبد ما بقي عليك شيء. وروى الشّافعيّ وسعيد بن منصور من طريق ابن أبي نجيح عن

مجاهد , أنّ زيد بن ثابت قال في المكاتب: هو عبد ما بقي عليه درهم ". وروى مالك عن نافع , أنّ عبد الله بن عمر كان يقول في المكاتب: هو عبد ما بقي عليه شيء. وقد روي ذلك مرفوعًا. أخرجه أبو داود والنّسائيّ من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه وصحَّحه الحاكم، وأخرجه ابن حبّان من وجهٍ آخر عن عبد الله بن عمرو. في أثناء حديث، وهو قول الجمهور. ويؤيّده قصّة بريرة، لكن إنّما تتمّ الدّلالة منه لو كانت بريرة أدّت من كتابتها شيئًا فقد قرّرنا أنّها لَم تكن أدّت منها شيئًا. وكان فيه خلاف عن السّلف: فعن عليّ: إذا أدّى الشّطر فهو غريمٌ. وعنه: يعتق منه بقدر ما أدّى. وعن ابن مسعود: لو كاتبه على مائتين وقيمته مائة فأدّى المائة عتق. وعن عطاء: إذا أدّى ثلاثة أرباع كتابته عتق. وروى النّسائيّ عن ابن عبّاس مرفوعًا: المكاتب يعتق منه بقدر ما أدّى. ورجال إسناده ثقات، لكن اختلف في إرساله ووصله. وحجّة الجمهور حديث عائشة وهو أقوى، ووجه الدّلالة منه أنّ بريرة بيعت بعد أن كاتبت، ولو كان المكاتب يصير بنفس الكتابة حرًّا لامتنع بيعها. وفيه جواز بيع المكاتب والرّقيق بشرط العتق، وأنّ سيّد المكاتب لا

يمنعه من الاكتساب , وأنّ اكتسابه من حين الكتابة يكون له جواز سؤال المكاتب من يعينه على بعض نجومه وإن لَم تحلّ، وأنّ ذلك لا يقتضي تعجيزه. وجواز سؤال ما لا يضطرّ السّائل إليه في الحال، وجواز الاستعانة بالمرأة المزوّجة، وجواز تصرّفها في مالها بغير إذن زوجها، وبذل المال في طلب الأجر حتّى في الشّراء بالزّيادة على ثمن المثل بقصد التّقرّب بالعتق، وجواز السّؤال في الجملة لمن يتوقّع الاحتياج إليه فتحمل الأخبار الواردة في الزّجر عن السّؤال على الأولويّة. وفيه جواز سعي المرقوق في فكاك رقبته ولو كان بسؤال من يشتري ليعتق وإن أضرّ ذلك بسيّده لتشوّف الشّارع إلى العتق. وفيه بطلان الشّروط الفاسدة في المعاملات وصحّة الشّروط المشروعة لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: كلّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ويؤخذ منه أنّ من استثنى خدمة المرقوق عند بيعه لَم يصحّ شرطه، وأنّ من شرط شرطًا فاسدًا لَم يستحقّ العقوبة إلَّا إن علم بتحريمه وأصرّ عليه، وأنّ سيّد المكاتب لا يمنعه من السّعي في تحصيل مال الكتابة. ولو كان حقّه في الخدمة ثابتًا، وأنّ المكاتب إذا أدّى نجومه من الصّدقة لَم يردّها السيّد وإذا أدّى نجومه قبل حلولها كذلك. ويؤخذ منه أنّه يعتق أخذًا من قول موالي بريرة " إن شاءت أن تحتسب عليك " فإنّ ظاهره في قبول تعجيل ما اتّفقوا على تأجيله ومن لازمه حصول العتق، ويؤخذ منه أيضًا أنّ من تبرّع عن المكاتب بما

عليه عتق. واستدل به على عدم وجوب الوضع عن المكاتب لقول عائشة " أعدّها لهم عدّة واحدة " ولَم ينكر. وأجيب بجواز قصد دفعهم لها بعد القبض. وفيه جواز إبطال الكتابة وفسخ عقدها إذا تراضى السّيّد والعبد، وإن كان فيه إبطال التّحرير لتقرير بريرة على السّعي بين عائشة ومواليها في فسخ كتابتها لتشتريها عائشة. وفيه أنّ من وقع منه ما ينكر استحبّ عدم تعيينه؛ وأنّ استعمال السّجع في الكلام لا يكره إلَّا إذا قصد إليه ووقع متكلفًا. وفيه جواز اليمين فيما لا تجب فيه ولا سيّما عند العزم على فعل شيء، وأنّ لغو اليمين لا كفّارة فيه لأنّ عائشة حلفت أن لا تشترط ثمّ قال لها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اشترطي ولَم ينقل كفّارة. وفيه مناجاة الاثنين بحضرة الثّالث في الأمر يستحي منه المناجي ويعلم أنّ من ناجاه يعلم الثّالث به , ويستثنى ذلك من النّهي الوارد فيه. وفيه جواز سؤال الثّالث عن المناجاة المذكورة إذا ظنّ أنّ له تعلقًا به , وجواز إظهار السّرّ في ذلك , ولا سيّما إن كان فيه مصلحة للمناجي. وفيه جواز المساومة في المعاملة والتّوكيل فيها ولو للرّقيق، واستخدام الرّقيق في الأمر الذي يتعلق بمواليه وإن لَم يأذنوا في ذلك بخصوصه.

وفيه ثبوت الولاء للمرأة المعتقة فيستثنى من عموم الولاء لحمة كلحمة النّسب فإنّ الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث بخلاف النّسب. وفيه أنّ الكافر يرث ولاء عتيقه المسلم وإن كان لا يرث قريبه المسلم، وأنّ الولاء لا يباع ولا يوهب (¬1). ويؤخذ منه أنّ معنى قوله في الرّواية الأخرى " الولاء لمن أعطى الورق " أنّ المراد بالمعطى المالك لا من باشر الإعطاء مطلقًا فلا يدخل الوكيل. ويؤيّده قوله في رواية الثّوريّ عند أحمد " لمن أعطى الورق وولي النّعمة " (¬2) وفيه أنّه يجوز لمن سئل قضاء حاجةٍ أن يشترط على الطّالب ما يعود عليه نفعه , لأنّ عائشة شرطت أن يكون لها الولاء إذا أدّت الثّمن دفعةً واحدةً. وفيه جواز أداء الدّين على المدين وأنّه يبرأ بأداء غيره عنه وافتاء الرجل زوجته فيما لها فيه حظٌّ وغرضٌ إذا كان حقًّا , وجواز حكم الحاكم لزوجته بالحقّ. وجواز قول مشتري الرّقيق اشتريته لأعتقه ترغيبًا للبائع في تسهيل البيع , وجواز المعاملة بالدّراهم والدّنانير عددًا إذا كان قدرها ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الآتي برقم (305) (¬2) تقدَّم ذكر هذه الرواية. وهي عند البخاري أيضاً.

بالكتابة معلومًا لقولها " أعدّها " ولقولها " تسع أواقٍ ". ويستنبط منه جواز بيع المعاطاة , وفيه جواز عقد البيع بالكتابة لقوله خذيها. ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ في حديث الهجرة: قد أخذتها بالثّمن. (¬1). وفيه أنّ حقّ الله مقدّمٌ على حقّ الآدميّ لقوله " شرط الله أحقّ وأوثق " , ومثله الحديث الآخر " دين الله أحقّ أن يقضى ". وفيه جواز الاشتراك في الرّقيق لتكرّر ذكر أهل بريرة في الحديث , وفي روايةٍ " كانت لناسٍ من الأنصار ". ويحتمل: مع ذلك الوحدة وإطلاق ما في الخبر على المجاز. وفيه أنّ الأيدي ظاهرةٌ في الملك وأنّ مشتري السّلعة لا يسأل عن أصلها إذا لَم تكن ريبةً. وفيه استحباب إظهار أحكام العقد للعالم بها إذا كان العاقد يجهلها , وفيه أنّ حكم الحاكم لا يغيّر الحكم الشّرعيّ. فلا يحلُّ حرامًا ولا عكسه. وفيه قبول خبر الواحد الثّقة وخبر العبد والأمة وروايتهما. وفيه أنّ البيان بالفعل أقوى من القول وجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والمبادرة إليه عند الحاجة. وفيه أنّ الحاجة إذا اقتضت بيان حكمٍ عامٍّ وجب إعلانه أو ندب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (2138) ومواضع أخرى. من حديث عائشة.

بحسب الحال. وفيه جواز الرّواية بالمعنى والاختصار من الحديث والاقتصار على بعضه بحسب الحاجة فإنّ الواقعة واحدةٌ , وقد رويت بألفاظٍ مختلفةٍ. وزاد بعض الرّواة ما لَم يذكر الآخر , ولَم يقدح ذلك في صحّته عند أحد من العلماء وفيه تنبيه صاحب الحقّ على ما وجب له إذا جهله واستقلال المكاتب بتعجيز نفسه , وإطلاق الأهل على السّادة وإطلاق العبيد على الأرقّاء , وأنّ مال الكتابة لا حدّ لأكثره قال ابن بطّال: أكثر النّاس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتّى بلغوها نحو مائة وجه. وقال النّوويّ: صنّف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد منها فذكرا أشياء. قلت: ولَم أقف على تصنيف ابن خزيمة، ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه " تهذيب الآثار " ولخّصت منه ما تيسّر بعون الله تعالى. وقد بلغ بعض المتأخّرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة أكثرها مستبعد متكلف، كما وقع نظير ذلك الذي صنّف في الكلام على حديث المجامع في رمضان فبلغ به ألف فائدة وفائدة.

الحديث العشرون

الحديث العشرون 276 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , أنه كان يسير على جملٍ له فأعيا، فأراد أن يُسيّبه، قال: فلحقني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار سيراً لَم يسر مثله قطّ، ثم قال: بِعْنِيه بأوقيّةٍ، قلت: لا، ثم قال: بِعْنِيه، فبعته بأوقيّةٍ، واستثنيت حُملانه إلى أهلي، فلمَّا بلغتُ أتيته بالجمل، فنقَدَني ثمنَه، ثم رجعت فأرسل في إثري , فقال: أتراني ما كستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودارهمك، فهو لك. (¬1) قوله: (أنّه كان يسير على جمل له فأعيا) أي: تعب قوله: (فأراد أن يسيّبه) أي: يطلقه. وليس المراد أن يجعله سائبة لا يركبه أحد كما كانوا يفعلون في الجاهليّة , لأنّه لا يجوز في الإسلام، ففي أوّل رواية مغيرة عن الشّعبيّ في البخاري " غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاحق بي , وتحتي ناضح لي قد أعيا فلا يكاد يسير ". والنّاضح - بنونٍ ومعجمة ثمّ مهملة - هو الجمل الذي يستقى عليه. سمّي بذلك لنضحه بالماء حال سقيه. ووقع عند البزّار من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2255 , 2569 , 2805 , 4791 , 4947 , 4749) ومسلم (715) من طرق عن الشعبي عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (432 , 1991 , 2185 , 2264 , 2338 , 2463 , 2706 , 2921 , 2923 , 3826 , 4792) ومسلم (715) من طرق عدّة عن جابر - رضي الله عنه - مختصراً ومطوّلاً.

طريق أبي المتوكّل عن جابر , أنّ الجمل كان أحمر. واختلف في تعيين هذه الغزوة. فقال داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم عن جابر " اشتراه بطريق تبوك , أحسبه قال: بأربع أواقٍ " (¬1) فجزم بزمان القصّة وشكّ في مقدار الثّمن. فأمّا جزمه بأنّ القصّة وقعت في طريق تبوك فوافقه على ذلك عليُّ بنُ زيد بن جدعان عن أبي المتوكّل عن جابر , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بجابرٍ في غزوة تبوك. فذكر الحديث، وقد أخرجه البخاري من وجه آخر عن أبي المتوكّل فقال: في بعض أسفاره. ولَم يعيّنه، وكذا أبهمه أكثر الرّواة عن جابر. ومنهم مَن قال: كنت في سفر , ومنهم مَن قال: كنت في غزوة تبوك. ولا منافاة بينهما. وفي رواية أبي المتوكّل في البخاري " لا أدري غزوة أو عمرة ". ويؤيّد كونه كان في غزوة , قوله في آخر رواية أبي عوانة عن مغيرة عند البخاري " فأعطاني الجمل وثمنه وسهمي مع القوم. لكن جزم ابن إسحاق عن وهب بن كيسان في روايته المشار إليها قبل , بأنّ ذلك كان في غزوة ذات الرّقاع من نخل، وكذا أخرجه ¬

_ (¬1) رواية داود عن عبيد الله. علَّقها البخاري في " صحيحه ". ولَم يذكر الشارح رحمه الله مَن وصلها لا في الفتح , ولا تغليق التعليق. ولَم أجدها. أمّا رواية ابن جدعان. فهي في مسند الإمام أحمد (23/ 177)

الواقديّ من طريق عطيّة بن عبد الله بن أنيس عن جابر. وهي الرّاجحة في نظري , لأنّ أهل المغازي أضبط لذلك من غيرهم. وأيضاً فقد وقع في رواية الطّحاويّ , أنّ ذلك وقع في رجوعهم من طريق مكّة إلى المدينة، وليست طريق تبوك ملاقية لطريق مكّة بخلاف طريق غزوة ذات الرّقاع. وأيضاً فإنّ في كثير من طرقه أنّه - صلى الله عليه وسلم - سأله في تلك القصّة " هل تزوّجت؟ قال: نعم، قال: أتزوّجت بكراً أم ثيّباً " الحديث، وفيه اعتذاره بتزوّجه الثّيّب بأنّ أباه استشهد بأحدٍ وترك أخواته فتزوّج ثيّباً لتمشّطهنّ وتقوم عليهنّ، فأشعر بأنّ ذلك كان بالقرب من وفاة أبيه، فيكون وقوع القصّة في ذات الرّقاع أظهر من وقوعها في تبوك، لأنّ ذات الرّقاع كانت بعد أحد بسنةٍ واحدة على الصّحيح، وتبوك كانت بعدها بسبع سنين. والله أعلم. وجزم البيهقيّ في " الدّلائل " بما قال ابن إسحاق. قوله: (فلحقني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه) في رواية زكريا عن الشعبي عند البخاري " فمرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فضربه فدعا له " كذا فيه بالفاء فيهما كأنّه عقّب الدّعاء له بضربه. ولمسلمٍ وأحمد من هذا الوجه " فضربه برجله ودعا له ". وفي رواية يونس بن بكيرٍ عن زكريّا عند الإسماعيليّ " فضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا له , فمشى مشية ما مشى قبل ذلك مثلها " , وفي

رواية مغيرة المذكورة " فزجره ودعا له ". وفي رواية عطاء وغيره عن جابر في البخاري " فمرّ بي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَن هذا؟ قلت: جابر بن عبد الله قال: ما لك؟ قلت: إنّي على جمل ثفال. فقال: أمعك قضيب؟ قلت: نعم. قال: أعطنيه، فأعطيته فضربه فزجره فكان من ذلك المكان من أوّل القوم ". وللنّسائيّ من هذا الوجه " فأزحف فزجره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فانبسط حتّى كان أمام الجيش ". وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر في البخاري " فتخلف. فنزل فحجنه بمحجنةٍ , ثمّ قال: اركب، فركبت، فقد رأيته أَكُفّه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " , وعند أحمد من هذا الوجه " فقلت: يا رسولَ الله أبطأ بي جملي هذا، قال: أنخه، وأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ قال: أعطني هذه العصا أو اقطع لي عصا من شجرة ففعلت، فأخذها فنخسه بها نخسات , فقال: اركب، فركبت. وللطّبرانيّ من رواية زيد بن أسلم عن جابر " فأبطأ عليّ حتّى ذهب النّاس، فجعلت أرقبه ويهمّني شأنه، فإذا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أجابر؟ قلت: نعم. قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ عليّ جملي، فنفث فيها - أي العصا - ثمّ مجّ من الماء في نحره ثمّ ضربه بالعصا فوثب ". ولابن سعد من هذا الوجه " ونضح ماء في وجهه ودبره وضربه بعصيّةٍ فانبعث، فما كدت أمسكه " وفي رواية أبي الزّبير عن جابر عند مسلم " فكنت بعد ذلك أحبس

خطامه لأسمع حديثه " وله من طريق أبي نضرة عن جابر " فنخسه ثمّ قال: اركب بسم الله " زاد في رواية مغيرة المذكورة " فقال: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخيرٍ، قد أصابته بركتك ". (¬1) قوله: (ثمّ قال: بعنيه بأوقيّةٍ: قلت: لا) في رواية أحمد " فكرهت أن أبيعه " وفي رواية مغيرة المذكورة " قال: أتبيعنيه؟ فاستحييت , ولَم يكن لنا ناضح غيره، فقلت: نعم ". وللنّسائيّ من هذا الوجه " وكانت لي إليه حاجة شديدة ". ولأحمد من رواية نبيح - وهو بالنّون والموحّدة والمهملة مصغّر - وفي رواية عطاء , قال: بعنيه، قلت: بل هو لك يا رسولَ الله، قال: بعنيه. زاد النّسائيّ من طريق أبي الزّبير قال: اللهمّ اغفر له، اللهمّ ارحمه. ولابن ماجه من طريق أبي نضرة عن جابر , فقال: أتبيع ناضحك هذا والله يغفر لك؟. زاد النّسائيّ من هذا الوجه " وكانت كلمة ¬

_ (¬1) وقع في رواية أبي المتوكل عن جابر في البخاري (2706) قال جابر: فأقبلنا وأنا على جملٍ لي أرْمك ليس فيه شِيَة، والناس خلفي، فبينا أنا كذلك إذ قام علي، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا جابر. استمسك فضربه بسوطه ضربة، فوثب البعير مكانه، فقال: أتبيع الجمل؟ الحديث. قال ابن حجر في الفتح (6/ 81): قوله (ليس فيها شِيَة) بكسر المعجمة وفتح التحتانية الخفيفة. أي: علامة. والمراد أنه ليس فيه لمعة من غير لونه. ويحتمل: أن يريد ليس فيه عيب , ويؤيده قوله " والناس خلفي فبينا أنا كذلك إذ قام عليَّ " , لأنه يشعر بأنه أراد أنه كان قوياً في سيره لا عيب فيه من جهة ذلك حتى كأنه صار قدام الناس فطرأ عليه حينئذ الوقوف.

تقولها العرب: افعل كذا والله يغفر لك ". ولأحمد , قال سليمان - يعني بعض رواته -: فلا أدري كم من مرّة. يعني قال له: والله يغفر لك. وللنّسائيّ من طريق أبي الزّبير عن جابر: استغفَرَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة البعير خمساً وعشرين مرّة. وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر عند أحمد " أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: بل أهبه لك. قال: لا، ولكن بعنيه ". وفي كلّ ذلك ردّ لقول ابن التّين: إنّ قوله " لا " ليس بمحفوظٍ في هذه القصّة. قوله: (ثم قال: بعنيه، فبعته بأوقيّةٍ) في رواية زكريا " بعنيه بوقيّةٍ " وفي رواية سالم عن جابر عند أحمد " فقال بعنيه، قلت: هو لك، قال: قد أخذته بوقيّةٍ ". ولابن سعد وأبي عوانة من هذا الوجه " فلمّا أكثر عليّ قلت: إنّ لرجلٍ عليّ أوقيّة من ذهب هو لك بها، قال: نعم ". وقال أبو إسحاق عن سالم عن جابر " بمائتي درهم " , وفي رواية أبي نضرة عن جابر " اشتراه بعشرين ديناراً " رواه ابن ماجه من طريق الجريريّ عنه بلفظ " فما زال يزيدني ديناراً ديناراً حتّى بلغ عشرين ديناراً " وأخرجه مسلم والنّسائيّ من طريق أبي نضرة فأبهم الثّمن. والوقيّة من الفضّة كانت في عُرف ذلك الزّمان أربعين درهماً. وفي عُرف النّاس بعد ذلك عشرة دراهم.

وفي عُرف أهل مصر اليوم اثنا عشر درهماً. وفي رواية ابن إسحاق عن وهب عند أحمد وأبي يعلى والبزّار مطوّلة. وفيها , قال: قد أخذته بدرهمٍ، قلت: إذاً تغبنني يا رسولَ الله، قال: فبدرهمين؟ قلت: لا، فلم يزل يرفع لي حتّى بلغ أوقيّة. الحديث. وكذا عبيد الله عن وهب عند البخاري " فاشتراه منّي بأوقية ". وتابعه زيد بن أسلم عن جابر في ذكر الأوقيّة. عند البيهقيّ. وللبخاري من رواية ابن جريجٍ عن عطاء وغيره عن جابر: أخذته بأربعة دنانير ". وقال البخاري: وهذا يكون أوقيّة على حساب الدّينار بعشرةٍ. انتهى قصَد به الجمع بين الرّوايتين، وهو كما قال بناء على أنّ المراد بالأوقيّة. أي: من الفضّة وهي أربعون درهماً. وقوله: " الدّينار " مبتدأ , وقوله: " بعشرة " خبره. أي: دينار ذهب بعشرة دراهم فضّة. ونسب شيخنا ابن الملقّن هذا الكلام إلى رواية عطاء , ولَم أر ذلك في شيء من الطّرق لا في البخاريّ ولا في غيره، وإنّما هو من كلام البخاريّ. قال البخاري: ولَم يبيّن الثّمن مغيرة عن الشّعبيّ عن جابر، وابن المنكدر وأبو الزّبير عن جابر. انتهى

قوله " وابن المنكدر " معطوف على مغيرة، وأراد أنّ هؤلاء الثّلاثة لَم يعيّنوا الثّمن في روايتهم. فأمّا رواية مغيرة ففي البخاري , وليس فيها ذكر الثّمن، وكذا أخرجه مسلم والنّسائيّ وغيرهما. وأمّا ابن المنكدر , فوصله الطّبرانيّ. وليس فيه التّعيين أيضاً. وأمّا أبو الزّبير فوصله النّسائيّ. ولَم يعيّن الثّمن، لكن أخرجه مسلم فعيّن الثّمن. ولفظه " فبعته منه بخمس أواقٍ، قلت: على أنّ لي ظهره إلى المدينة " وكذلك أخرجه ابن سعد، وروّيناه في " فوائد تمّام " من طريق سلمة بن كهيل عن أبي الزّبير فقال فيه: " أخذته منك بأربعين درهماً ". قال البخاري: وقول الشّعبيّ: بأوقيّةٍ أكثر. انتهى أي: موافقة لغيره من الأقوال، والحاصل من الرّوايات أوقيّة وهي رواية الأكثر، وأربعة دنانير وهي لا تخالفها كما تقدّم، وأوقيّة ذهب وأربع أواقٍ وخمس أواقٍ ومائتا درهم وعشرون ديناراً. هذا ما ذكر البخاري. ووقع عند أحمد والبزّار من رواية عليّ بن زيد عن أبي المتوكّل " ثلاثة عشر ديناراً ". وقد جمع عياض وغيره بين هذه الرّوايات , فقال: سبب الاختلاف أنّهم رووا بالمعنى، والمراد أوقيّة الذّهب، والأربع أواقٍ والخمس بقدر ثمن الأوقيّة الذّهب، والأربعة دنانير مع العشرين ديناراً محمولة

على اختلاف الوزن والعدد، وكذلك رواية الأربعين درهماً مع المائتي درهم، قال: وكأنّ الإخبار بالفضّة عمّا وقع عليه العقد، وبالذّهب عمّا حصل به الوفاء أو بالعكس. انتهى ملخّصاً. وقال الدّاوديّ: المراد أوقيّة ذهب، ويحمل عليها قول من أطلق، ومَن قال خمس أواقٍ أو أربع أراد من فضّة وقيمتها يومئذٍ أوقيّة ذهب. قال: ويحتمل أن يكون سبب الاختلاف ما وقع من الزّيادة على الأوقيّة، ولا يخفى ما فيه من التّعسّف. قال القرطبيّ: اختلفوا في ثمن الجمل اختلافاً لا يقبل التّلفيق، وتكلّف ذلك بعيد عن التّحقيق، وهو مبنيّ على أمر لَم يصحّ نقله , ولا استقام ضبطه، مع أنّه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، وإنّما تحصّل من مجموع الرّوايات أنّه باعه البعير بثمنٍ معلوم بينهما , وزاده عند الوفاء زيادة معلومة، ولا يضرّ عدم العلم بتحقيق ذلك. قال الإسماعيليّ: ليس اختلافهم في قدر الثّمن بضارٍّ، لأنّ الغرض الذي سبق الحديث لأجله بيان كرمه - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه وحنوّه على أصحابه وبركة دعائه وغير ذلك، ولا يلزم من وهْم بعضهم في قدر الثّمن توهينه لأصل الحديث. قلت: وما جنح إليه البخاريّ من التّرجيح أقعد، وبالرّجوع إلى التّحقيق أسعد، فليعتمد ذلك. وبالله التّوفيق. قوله: (واستثنيت حُملانه إلى أهلي) الْحُملان بضمّ المهملة الحمل

والمفعول محذوف، أي: استثنيت حمله إيّاي، وقد رواه الإسماعيليّ بلفظ " واستثنيت ظهره إلى أن نقدم ". ولأحمد من طريق شريك عن مغيرة " اشترى منّي بعيراً على أن يفقرني ظهره سفري ذلك ". وللبيهقي من رواية يحيى بن أبي كثير عن شعبة عن مغيرة " أفقرني ظهره " بتقديم الفاء على القاف. أي: حملني على فقاره، والفقار عظام الظّهر. وفي رواية إسحاق بن إبراهيم عن جرير عن مغيرة: فبعته على أنّ لي فقار ظهره حتّى أبلغ المدينة " وهذه الرّواية في البخاري، وهي دالة على الاشتراط، بخلاف رواية شعبة عن مغيرة فإنّها لا تدلّ عليه، وقد رواه أبو عوانة عن مغيرة عند النّسائيّ بلفظٍ محتمل قال فيه: " قال: بعنيه ولك ظهره حتّى تقدم ". ووافق زكريّا على ذكر الاشتراط فيه يسارٌ عن الشّعبيّ , أخرجه أبو عوانة في " صحيحه " بلفظ " فاشترى منّي بعيراً على أنّ لي ظهره حتّى أقدم المدينة. وللبخاري عن عطاء وغيره عن جابر ولفظه " قال: بعنيه، قلت: هو لك، قال: قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة " وليس فيها أيضاً دلالة على الاشتراط. وللبيهقيّ من طريق المنكدر بن محمّد بن المنكدر عن أبيه عن جابر: شرط لي ظهره إلى المدينة " ورواه الطّبرانيّ من طريق عثمان بن محمّد الأخنسيّ عن محمّد بن المنكدر بلفظ " فبعته إيّاه وشرطته - أي ركوبه

- إلى المدينة ". وللطّبرانيّ والبيهقيّ من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جابر: ولك ظهره حتّى ترجع " وقال أبو الزّبير عن جابر: أفقرناك ظهره إلى المدينة " رواه البيهقيّ من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوب عن أبي الزّبير به. وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ " فبعته منه بخمس أواقٍ، قلت: على أنّ لي ظهره إلى المدينة؟ قال: ولك ظهره إلى المدينة " وللنّسائيّ من طريق ابن عيينة عن أيّوب قال: قد أخذته بكذا وكذا. وقد أعرتك ظهره إلى المدينة. وقال الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر " تبلغ به إلى أهلك " رواه أحمد ومسلم وعبد بن حميدٍ وغيرهم. وهذا لفظ عبد بن حميدٍ، ولفظ ابن سعد والبيهقيّ " تبلغ عليه إلى أهلك ". ولفظ مسلم " فتبلغ عليه إلى المدينة " ولفظ أحمد " قد أخذته بوقيّةٍ، اركبه، فإذا قدمت فائتنا به " وهي متقاربة. قال البخاري: الاشتراط أكثر وأصحّ عندي. انتهى أي: أكثر طرقاً وأصحّ مخرجاً. وأشار بذلك إلى أنّ الرّواة اختلفوا عن جابر في هذه الواقعة. هل وقع الشّرط في العقد عند البيع , أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحةً من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد شرائه على طريق العارية؟. وأصرح ما وقع في ذلك رواية النّسائيّ المذكورة، لكن اختلف فيها

حمّاد بن زيد وسفيان بن عيينة، وحمّاد أعرف بحديث أيّوب من سفيان. والحاصل أنّ الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عدداً من الذين خالفوهم , وهذا وجه من وجوه التّرجيح فيكون أصحّ. ويترجّح أيضاً: بأنّ الذين رووه بصيغة الاشتراط معهم زيادة وهم حفّاظ فتكون حجّة. وليس رواية من لَم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره، لأنّ قوله " لك ظهره " و " أفقرناك ظهره " و " تبلغ عليه " لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك. وقد رواه عن جابر بمعنى الاشتراط أيضاً أبو المتوكّل عند أحمد. ولفظه " فبعني ولك ظهره إلى المدينة " لكن أخرجه البخاري من طريق أخرى عن أبي المتوكّل , فلم يتعرّض للشّرط إثباتاً ولا نفياً، ورواه أحمد من هذا الوجه بلفظ " أتبيعني جملك؟ قلت: نعم. قال: أقدم عليه المدينة ". ورواه أحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر بلفظ " فاشترى منّي بعيراً فجعل لي ظهره حتّى أقدم المدينة " ورواه ابن ماجه وغيره من طريق أبي نضرة عن جابر بلفظ " فقلت: يا رسولَ الله هو ناضحك إذا أتيت المدينة ". ورواه أيضاً عن جابر نبيح العنزيّ عند أحمد , فلم يذكر الشّرط ولفظه " قد أخذته بوقيّةٍ، قال: فنزلت إلى الأرض فقال: مالك؟

قلت: جملك. قال: اركب، فركبت حتّى أتيت المدينة ". ورواه أيضاً من طريق وهب بن كيسان عن جابر فلم يذكر الشّرط. قال فيه " حتّى بلغ أوقيّة، قلت: قد رضيت؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته. ثمّ قال: يا جابر هل تزوّجت؟ " الحديث. وما جنح إليه البخاري من ترجيح رواية الاشتراط. هو الجاري على طريقة المحقّقين من أهل الحديث , لأنّهم لا يتوقّفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف إلَّا إذا تكافأت الرّوايات، وهو شرط الاضطراب الذي يُردّ به الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان التّرجيح. قال ابن دقيق العيد: إذا اختلفت الرّوايات , وكانت الحجّة ببعضها دون بعض توقّف الاحتجاج بشرط تعادل الرّوايات، أمّا إذا وقع التّرجيح لبعضها بأن تكون رواتها أكثر عدداً أو أتقن حفظاً فيتعيّن العمل بالرّاجح، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالأقوى، والمرجوح لا يمنع التّمسّك بالرّاجح. وقد جنح الطّحاويّ إلى تصحيح الاشتراط , لكن تأوّله: بأنّ البيع المذكور لَم يكن على الحقيقة لقوله في آخره " أتراني ماكستك إلخ ". قال: فإنّه يشعر بأنّ القول المتقدّم لَم يكن على التّبايع حقيقة. وردّه القرطبيّ: بأنّه دعوى مجرّدة وتغيير وتحريف لا تأويل. قال: وكيف يصنع قائله في قوله: " بعته منك بأوقيّةٍ " بعد المساومة؟ وقوله: " قد أخذته " وغير ذلك من الألفاظ المنصوصة

في ذلك. واحتجّ بعضهم: بأنّ الرّكوب إن كان من مال المشتري فالبيع فاسد , لأنّه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كان من ماله ففاسد , لأنّ المشتري لَم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنّما ملكها لأنّها طرأت في ملكه. وتعقّب: بأنّ المنفعة المذكورة قدّرت بقدرٍ من ثمن المبيع , ووقع البيع بما عداها، ونظيره من باع نخلاً قد أبّرت واستثنى ثمرتها، والممتنع إنّما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أمّا لو علماه معاً فلا مانع، فيحمل ما وقع في هذه القصّة على ذلك. وأغرب ابن حزم: فزعم أنّه يؤخذ من الحديث أنّ البيع لَم يتمّ , لأنّ البائع بعد عقد البيع مخيّر قبل التّفرّق، فلمّا قال في آخره " أتراني ماكستك " دلَّ على أنّه كان اختار ترك الأخذ، وإنّما اشترط لجابرٍ ركوب جمل نفسه، فليس فيه حجّة لمن أجاز الشّرط في البيع. ولا يخفى ما في هذا التّأويل من التّكلف. وقال الإسماعيليّ: قوله " ولك ظهره " وعدٌ قام مقام الشّرط , لأنّ وعده لا خلف فيه وهبته لا رجوع فيها لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرّواة أن يعبّر عنه بالشّرط، ولا يلزم أن يجوز ذلك في حقّ غيره. وحاصله: أنّ الشّرط لَم يقع في نفس العقد وإنّما وقع سابقاً أو لاحقاً، فتبرّع بمنفعته أوّلاً كما تبرّع برقبته آخراً.

ووقع في كلام القاضي أبي الطّيّب الطّبريّ من الشّافعيّة , أنّ في بعض طرق هذا الخبر " فلمّا نقدني الثّمن شرطت حملاني إلى المدينة " واستدلَّ بها على أنّ الشّرط تأخّر عن العقد. لكن لَم أقف على الرّواية المذكورة، وإن ثبتت فيتعيّن تأويلها على أنّ معنى " نقدني الثّمن " أي: قرّره لي واتّفقا على تعيينه، لأنّ الرّوايات الصّحيحة صريحة في أنّ قبضه الثّمن إنّما كان بالمدينة. وكذلك يتعيّن تأويل رواية الطّحاويّ " أتبيعني جملك هذا إذا قدمنا المدينة بدينارٍ " الحديث، فالمعنى أتبيعني بدينارٍ أُوفيكه إذا قدمنا المدينة. وقال المُهلَّب (¬1): ينبغي تأويل ما وقع في بعض الرّوايات من ذكر الشّرط على أنّه شرطُ تفضِّل لا شرط في أصل البيع ليوافق رواية من روى " أفقرناك ظهره " و " أعرتك ظهره " وغير ذلك ممّا تقدّم. قال: ويؤيّده أنّ القصّة جرت كلّها على وجه التّفضّل والرّفق بجابرٍ، ويؤيّده أيضاً قول جابر " هو لك، قال: لا بل بعنيه " فلم يقبل منه إلَّا بثمنٍ رفقاً به. وسبق الإسماعيليُّ إلى نحو هذا، وزعم: أنّ النّكتة في ذكر البيع , أنّه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبرّ جابراً على وجه لا يحصل لغيره طمع في مثله , ¬

_ (¬1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).

فبايعه في جمله على اسم البيع ليتوفّر عليه برّه , ويبقى البعير قائماً على ملكه فيكون ذلك أهنأ لمعروفه. قال: وعلى هذا المعنى أمره بلالاً أن يزيده على الثّمن زيادة مهمّة في الظّاهر، فإنّه قصد بذلك زيادة الإحسان إليه من غير أن يحصل لغيره تأميل في نظير ذلك. وتعقّب: بأنّه لو كان المعنى ما ذكر لكان الحال باقياً في التّأميل المذكور عند ردّه عليه البعير المذكور والثّمن معاً. وأجيب: بأنّ حالة السّفر غالباً تقتضي قلة الشّيء بخلاف حالة الحضر فلا مبالاة عند التّوسعة من طمع الآمل. وأقوى هذه الوجوه في نظري ما تقدّم نقله عن الإسماعيليّ من أنّه وعْدٌ حلَّ محلّ الشّرط. وأبدى السّهيليّ في قصّة جابر مناسبة لطيفة غير ما ذكره الإسماعيليّ، ملخّصها: أنّه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أخبر جابراً بعد قتل أبيه بأُحدٍ أنّ الله أحياه. وقال: ما تشتهي فأزيدك. أكّد - صلى الله عليه وسلم - الخبر بما يشتهيه فاشترى منه الجمل - وهو مطيّته - بثمنٍ معلوم، ثمّ وفّر عليه الجمل والثّمن وزاده على الثّمن، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم بثمنٍ هو الجنّة , ثمّ ردّ عليهم أنفسهم وزادهم كما قال تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة). قوله: (فلمّا بلغت) في رواية زكريا " فلمّا قدمنا " زاد مغيرة عن الشّعبيّ كما في البخاري " فلمّا دنونا من المدينة استأذنته فقال:

تزوّجت بكراً أم ثيّباً ". وزاد فيه " فقدمت المدينة فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني ". ووقع عند أحمد من رواية نبيح المذكورة " فأتيت عمّتي بالمدينة فقلت لها: أَلَم تري أنّي بعت ناضحنا، فما رأيتها أعجبها ذلك ". وجزم ابن نقطة (¬1) بأنّ خاله جدّ - بفتح الجيم وتشديد الدّال - ابن قيس، وأمّا عمّته فاسمها هند بنت عمرو، ويحتمل: أنّهما جميعاً لَم يعجبهما بيعه , لأنّه لَم يكن عنده ناضح غيره. وأخرجه البخاري من هذا الوجه بلفظ " ثمّ قال: ائت أهلك، فتقدّمت النّاس إلى المدينة ". وفي رواية وهب بن كيسان فيه أيضاً " وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قبلي، وقدمت بالغداة فجئت إلى المسجد فوجدته , فقال: الآن قدمت؟ قلتُ: نعم، قال: فدع الجمل. وادخل فصلِّ ركعتين ". ¬

_ (¬1) وقع في مطبوع الفتح (لقطة) باللام بدل النون. وهو تصحيف. قال الذهبي في " السير " (22/ 347): ابن نقطة الامام العالم الحافظ المتقن الرحَّال معين الدين أبو بكر محمد بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع بن أبي نصر البغدادي الحنبلي. ولد بعد السبعين وخمس مئة. وكان أبوه من الزُّهّاد، فعني أبو بكر بالحديث، وجمع وألف. وكان ثقة، حسن القراءة، جيد الكتابة، مثبتاً فيما يقوله، له سمت ووقار، وفيه ورع وصلاح وعفة وقناعة , سئل عنه الضياء، فقال: حافظ دين ثقة ذو مروءة وكرم , وصنف كتاب " التقييد في معرفة رواة الكتب والمسانيد ". وألف مستدركاً على " الاكمال " لابن ماكولا يدلُّ على سعة معرفته. سئل أبو بكر عن نقطة، فقال: هي جارية عُرِفنا بها، ربَّتْ شجاعاً جدنا. توفي أبو بكر في الثاني والعشرين من صفر سنة 629. كهلاً.

وظاهرهما التّناقض، لأنّ في إحداهما أنّه تقدّم النّاس إلى المدينة , وفي الأخرى أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قدم قبله. فيحتمل في الجمع بينهما أن يقال: أنّه لا يلزم من قوله " فتقدّمت النّاس " أن يستمرّ سبقه لهم لاحتمال أن يكونوا لحقوه بعد أن تقدّمهم. إمّا لنزوله لراحةٍ أو نوم أو غير ذلك، ولعله امتثل أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يدخل ليلاً فبات دون المدينة , واستمرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أن دخلها سحراً , ولَم يدخلها جابر حتّى طلع النّهار، والعلم عند الله تعالى. قوله: (أتيته بالجمل) في رواية مغيرة " فلمّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة غدوت إليه بالبعير " , ولأبي المتوكّل عن جابر كما في البخاري " فدخلت - يعني المسجد - إليه وعقلتُ الجمل , فقلت: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل , ويقول: جملنا، فبعث إليّ أواقٍ من ذهب , ثمّ قال: استوفيت الثّمن؟ قلتُ: نعم ". قوله: (فنقدني ثمنه، ثم رجعت) في رواية زكريا " ونقدني ثمنه ثمّ انصرفت " وفي رواية مغيرة عند البخاري " فأعطاني ثمنَ الجملِ والجملَ وسهمي مع القوم " وفي روايته أيضاً في الجهاد " فأعطاني ثمنه وردّه عليّ ". وهي كلّها بطريق المجاز , لأنّ العطيّة إنّما وقعت له بواسطة بلال كما رواه مسلم من هذا الوجه " فلمّا قدمت المدينة , قال لبلالٍ: أعطه أوقيّة من ذهب وزده، قال: فأعطاني أوقيّة وزادني قيراطاً، فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث، وفيه ذكر أخذ أهل الشّام له

يوم الحرّة، ونحوه للبخاري من طريق عطاء وغيره عن جابر. ولأحمد وأبي عوانة من طريق وهب بن كيسان " فوالله ما زال ينمي ويزيد عندنا ونرى مكانه من بيتنا , حتّى أصيب أمس فيما أصيب للنّاس يوم الحرّة " وفي رواية أبي الزّبير عن جابر عند النّسائيّ " فقال: يا بلال أعطه ثمنه، فلمّا أدبرت دعاني فخفت أن يردّه عليّ فقال: هو لك ". وفي رواية وهب بن كيسان في البخاري " فأمر بلالاً أن يزن لي أوقيّة فوزن بلال وأرجح لي في الميزان، فانطلقت حتّى وليت , فقال: ادع جابراً، فقلت: الآن يردّ عليّ الجمل، ولَم يكن شيء أبغض إليّ منه , فقال: خذ جملك ولك ثمنه " وهذه الرّواية مشكلة مع قوله عند الشيخين " ولَم يكن لنا ناضح غيره " , وقوله " وكانت لي إليه حاجة شديدة , ولكنّي استحييت منه " ومع تنديم خاله له على بيعه. ويمكن الجمع: بأنّ ذلك كان في أوّل الحال، وكان الثّمن أوفر من قيمته , وعرف أنّه يمكن أن يشتري به أحسن منه , ويبقى له بعض الثّمن فلذلك صار يكره ردّه عليه. ولأحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر , فلمّا أتيته دفع إليّ البعير , وقال: هو لك، فمررت برجلٍ من اليهود فأخبرته فجعل يعجب , ويقول: اشترى منك البعير ودفع إليك الثّمن , ثمّ وهبه لك؟ قلت: نعم.

قوله: (فقال: أتراني ما كسْتُك لآخذ جملَك؟، خذ جملَك ودارهمَك، فهو لك) في رواية زكريا عند البخاري " ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك فهو مالك " كذا وقع هنا، وقد رواه عليّ بن عبد العزيز عن أبي نعيم - شيخ البخاريّ فيه - بلفظ " أتراني إنّما ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك هما لك " أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " عن الطّبرانيّ عنه. وكذا أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن زكريّا، لكن قال في آخره " فهو لك ". وعليها اقتصر صاحب " العمدة ". ووقع لأحمد عن يحيى القطّان عن زكريّا بلفظ " فقال: أظننت حين ماكستك أذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه فهما لك " وهذه الرّواية وكذلك رواية البخاريّ توضّح أنّ اللام في قوله " لآخذ " للتّعليل وبعدها همزة ممدودة. ووقع لبعض رواة مسلم كما حكاه عياض " لا " بصيغة النّفي " خذ " بصيغة الأمر، ويلزم عليه التّكرار في قوله: " خذ جملك " وقوله: " ماكستك " هو من المماكسة. أي: المناقصة في الثّمن، وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع. كما تقدّم. قال ابن الجوزيّ: هذا من أحسن التّكرّم، لأنّ من باع شيئاً فهو في الغالب محتاج لثمنه، فإذا تعوّض من الثّمن بقي في قلبه من المبيع أسف على فراقه كما قيل: وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... نفائس من ربّ بهنّ ضنين

فإذا ردّ عليه المبيع مع ثمنه ذهب الهمّ عنه , وثبت فرحه وقضيت حاجته، فكيف مع ما انضمّ إلى ذلك من الزّيادة في الثّمن؟. وفي الحديث جواز المساومة لمن يعرض سلعته للبيع، والمماكسة في المبيع قبل استقرار العقد، وابتداء المشتري بذكر الثّمن، وأنّ القبض ليس شرطاً في صحّة البيع، وأنّ إجابة الكبير بقول " لا " جائز في الأمر الجائز، والتّحدّث بالعمل الصّالح للإتيان بالقصّة على وجهها لا على وجه تزكية النّفس وإرادة الفخر. وفيه تفقّد الإمام والكبير لأصحابه وسؤاله عمّا ينزل بهم، وإعانتهم بما تيسّر من حال أو مال أو دعاء، وتواضعه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه جواز ضرب الدّابّة للسّير وإن كانت غير مكلفة، ومحلّه ما إذا لَم يتحقّق أنّ ذلك منها من فرط تعب وإعياء. وفيه توقير التّابع لرئيسه. وفيه الوكالة في وفاء الدّيون، والوزن على المشتري، والشّراء بالنّسيئة. وفيه ردّ العطيّة قبل القبض لقول جابر " هو لك، قال: لا بل بعنيه " وفيه جواز إدخال الدّوابّ والأمتعة إلى رحاب المسجد وحواليه. واستدل من ذلك على طهارة أبوال الإبل، ولا حجّة فيه. وفيه المحافظة على ما يتبرّك به لقول جابر: لا تفارقني الزّيادة. وفيه جواز الزّيادة في الثّمن عند الأداء، والرّجحان في الوزن لكن برضا المالك، وهي هبة مستأنفة حتّى لو ردّت السّلعة بعيبٍ مثلاً لَم

يجب ردّها، أو هي تابعة للثّمن حتّى تردّ فيه احتمال. وفيه فضيلة لجابرٍ حيث ترك حظّ نفسه وامتثل أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له ببيع جمله مع احتياجه إليه. وفيه معجَزَة ظاهرة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وجواز إضافة الشّيء إلى من كان مالكه قبل ذلك باعتبار ما كان. واستدل به على صحّة البيع بغير تصريح بإيجابٍ ولا قبول، لقوله فيه: " قال بعنيه بأوقيّةٍ، فبعته " ولَم يذكر صيغة. ولا حجّة فيه , لأنّ عدم الذّكر لا يستلزم عدم الوقوع. وقد وقع في رواية عطاء عند البخاري " قال بعنيه، قال: قد أخذته بأربعة دنانير " فهذا فيه القبول، ولا إيجاب فيه، وفي رواية جرير عند البخاري " قال بل بعنيه، قلت: لرجلٍ عليّ أوقيّة ذهب فهو لك بها، قال: قد أخذته " ففيه الإيجاب والقبول معاً. وأبين منها رواية ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عند أحمد , قلت: قد رضيت، قال: نعم، قلت: فهو لك بها، قال: قد أخذته ". فيستدلّ بها على الاكتفاء في صيغ العقود بالكنايات. تكميل: آلَ أمر جمل جابر هذا لِمَا تقدّم له من بركة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى مآلٍ حسن. فرأيت في ترجمة جابر من " تاريخ ابن عساكر " (¬1) بسنده إلى أبي الزّبير عن جابر قال: فأقام الجمل عندي زمان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ¬

_ (¬1) هو علي بن الحسن , سبق ترجمته (1/ 114)

وعمر، فعجَزَ، فأتيت به عمر فعرف قصّته , فقال: اجعله في إبل الصّدقة وفي أطيب المراعي، ففعل به ذلك إلى أن مات.

الحديث الواحد والعشرون

الحديث الواحد والعشرون 277 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبع الرّجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها. (¬1) قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبع الرّجل على بيع أخيه) تقدّم الكلام عليه (¬2) قوله: (ولا يخطب) بالجزم على النّهي، أي: وقال لا يخطب. ويجوز الرّفع على أنّه نفي، وسياق ذلك بصيغة الخبر أبلغ في المنع. ويجوز النّصب عطفاً على قوله " يبيع " على أنّ لا في قوله " ولا يخطب " زائدة. قوله: (على خطبة) بالكسر , وهو التّكلم في النّكاح , وأما في الجمعة والعيد وغيرهما فبضم أوله قوله: (أخيه) زاد البخاري من رواية الأعرج عن أبي هريرة " حتّى ينكح أو يترك ". وأخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر بلفظ " حتّى يذر ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2033 , 2052 , 2574) ومسلم (1513) من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وانظر حديثه المتقدّم (260). ولمسلم (1408) من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة نحوه. (¬2) انظر حديث أبي هريرة رقم (260).

وقد أخرجه أبو الشّيخ في " كتاب النّكاح " من طريق عبد الوارث عن هشام بن حسّان عن محمّد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ " حتّى ينكح أو يدع " وإسناده صحيح. (¬1) وقوله " حتّى ينكح " أي: حتّى يتزوّج الخاطب الأوّل فيحصل اليأس المحض وقوله " أو يترك " أي: الخاطب الأوّل التّزويج فيجوز حينئذٍ للثّاني الخطبة، فالغايتان مختلفتان: الأولى: ترجع إلى اليأس. والثّانية: ترجع إلى الرّجاء. ونظير الأولى , قوله تعالى (حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط). قال الجمهور: هذا النّهي للتّحريم. وقال الخطّابيّ: هذا النّهي للتّأديب , وليس بنهي تحريم يبطل العقد عند الفقهاء. كذا قال، ولا ملازمة بين كونه للتّحريم وبين البطلان عند الجمهور , بل هو عندهم للتّحريم , ولا يبطل العقد. بل حكى النّوويّ: أنّ النّهي فيه للتّحريم بالإجماع. ولكن اختلفوا في شروطه: فقال الشّافعيّة والحنابلة: محلّ التّحريم ما إذا صرّحت المخطوبة أو ¬

_ (¬1) وهو عند مسلم في " صحيحه " (1408) من رواية أبي أسامة عن هشام. لكن بدون هذه الزيادة.

وليّها الذي أذنت له حيث يكون إذنها معتبراً بالإجابة، فلو وقع التّصريح بالرّدّ فلا تحريم. فلو لَم يعلم الثّاني بالحال فيجوز الهجوم على الخطبة , لأنّ الأصل الإباحة , وعند الحنابلة في ذلك روايتان. وإن وقعت الإجابة بالتّعريض كقولها: لا رغبة عنك. فقولان عند الشّافعيّة، الأصحّ وهو قول المالكيّة والحنفيّة: لا يحرم أيضاً. وإذا لَم تردّ , ولَم تقبل فيجوز , والحجّة فيه قول فاطمة (¬1): خطبني معاوية وأبو جهم. فلم ينكر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك عليهما , بل خطبها لأسامة. وأشار النّوويّ وغيره: إلى أنّه لا حجّة فيه لاحتمال أن يكونا خطبا معاً , أو لَم يعلم الثّاني بخطبة الأوّل، والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أشار بأسامة ولَم يخطب، وعلى تقدير أن يكون خطب فكأنّه لَمَّا ذكر لها ما في معاوية وأبي جهم ظهر منها الرّغبة عنهما. فخطبها لأسامة. وحكى التّرمذيّ عن الشّافعيّ , أنّ معنى حديث الباب إذا خطب الرّجل المرأة فرضيت به وركنت إليه فليس لأحدٍ أن يخطب على خطبته، فإذا لَم يعلم برضاها ولا ركونها فلا بأس أن يخطبها. والحجّة فيه قصّة فاطمة بنت قيس , فإنّها لَم تخبره برضاها بواحدٍ منهما , ولو أخبرته بذلك لَم يشر عليها بغير من اختارت فلو لَم توجد ¬

_ (¬1) حديث فاطمة رضي الله عنها سيأتي إن شاء الله في كتاب الطلاق برقم (324)

منها إجابة ولا ردّ. فقطع بعض الشّافعيّة بالجواز، ومنهم من أجرى القولين، ونصّ الشّافعيّ في البكر على أنّ سكوتها رضاً بالخاطب. وعن بعض المالكيّة , لا تمنع الخطبة إلَّا على خطبة من وقع بينهما التّراضي على الصّداق. وإذا وُجدت شروط التّحريم , ووقع العقد للثّاني. القول الأول: قال الجمهور: يصحّ مع ارتكاب التّحريم. القول الثاني: قال داود: يفسخ النّكاح قبل الدّخول وبعده، وعند المالكيّة خلاف كالقولين. القول الثالث: قال بعضهم: يفسخ قبله لا بعده. وحجّة الجمهور: أنّ المنهيّ عنه الخطبة , والخطبة ليست شرطاً صحّة النّكاح. فلا يفسخ النّكاح بوقوعها غير صحيحة. وحكى الطّبريّ: أنّ بعض العلماء قال: أنّ هذا النّهي منسوخ بقصّة فاطمة بنت قيس، ثمّ ردّه وغلَّطه: بأنّها جاءت مستشيرة فأشير عليها بما هو الأولى , ولَم يكن هناك خطبة على خطبة كما تقدّم، ثمّ إنّ دعوى النّسخ في مثل هذا غلط، لأنّ الشّارع أشار إلى عِلَّة النّهي في حديث عقبة بن عامر بالأخوّة، وهي صفة لازمة وعلة مطلوبة للدّوام فلا يصحّ أن يلحقها النّسخ. والله أعلم. واستدلّ به على أنّ الخاطب الأوّل إذا أذن للخاطب الثّاني في التّزويج ارتفع التّحريم، ولكن هل يختصّ ذلك بالمأذون له , أو يتعدّى لغيره؟ لأنّ مجرّد الإذن الصّادر من الخاطب الأوّل دالٌ على

إعراضه عن تزويج تلك المرأة , وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها. الظّاهر الثّاني , فيكون الجواز للمأذون له بالتّنصيص ولغير المأذون له بالإلحاق، ويؤيّده قوله في الحديث " أو يترك ". وصرّح الرّويانيّ من الشّافعيّة: بأنّ محلّ التّحريم إذا كانت الخطبة من الأوّل جائزة، فإن كانت ممنوعة كخطبة المعتدّة لَم يضرّ الثّاني بعد انقضاء العدّة أن يخطبها. وهو واضح , لأنّ الأوّل لَم يثبت له بذلك حقّ. واستدل بقوله " على خطبة أخيه " أنّ محلّ التّحريم إذا كان الخاطب مسلماً , فلو خطب الذّمّيّ ذمّيّة فأراد المسلم أن يخطبها جاز له ذلك مطلقاً، وهو قول الأوزاعيّ ووافقه من الشّافعيّة ابن المنذر وابن جويريّة والخطّابيّ. ويؤيّده قوله في أوّل حديث عقبة بن عامر عند مسلم: المؤمن أخو المؤمن فلا يحلّ للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه , ولا يخطب على خطبته حتّى يذر. وقال الخطّابيّ: قطَعَ اللهُ الأخوّةَ بين الكافر والمسلم. فيختصّ النّهي بالمسلم. وقال ابن المنذر: الأصل في هذا الإباحة حتّى يرد المنع، وقد ورد المنع مقيّداً بالمسلم فبقي ما عدا ذلك على أصل الإباحة. وذهب الجمهور: إلى إلحاق الذّمّيّ بالمسلم في ذلك , وأنّ التّعبير بأخيه خرّج على الغالب فلا مفهوم له، وهو كقوله تعالى (ولا تقتلوا

أولادكم) وكقوله (وربائبكم اللاتي في حجوركم) ونحو ذلك. وبناه بعضهم على أنّ هذا المنهيّ عنه. هل هو من حقوق العقد واحترامه , أو من حقوق المتعاقدين؟ فعلى الأوّل , فالرّاجح ما قال الخطّابيّ. وعلى الثّاني , فالرّاجح ما قال غيره. وقريبٌ من هذا البناء. اختلافهم في ثبوت الشّفعة للكافر , فمن جعلها من حقوق الملك أثبتها له , ومن جعلها من حقوق المالك منع. وقريبٌ من هذا البحث ما نقل عن ابن القاسم صاحب مالك , أنّ الخاطب الأوّل إذا كان فاسقاً جاز للعفيف أن يخطب على خطبته، ورجّحه ابن العربيّ منهم , وهو متّجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة فيكون الفاسق غير كفء لها فتكون خطبته كلا خطبة. ولَم يعتبرِ الجمهور ذلك إذا صدرت منها علامة القبول، وقد أطلق بعضهم الإجماع على خلاف هذا القول. ويلتحق بهذا ما حكاه بعضهم من الجواز. إذا لَم يكن الخاطب الأوّل أهلاً في العادة لخطبة تلك المرأة. كما لو خطب سُوقيّ بنتَ ملِكٍ , وهذا يرجع إلى التّكافؤ. واستدل به على تحريم خطبة المرأة على خطبة امرأة أخرى إلحاقاً لحكم النّساء بحكم الرّجال. وصورته أن ترغب امرأة في رجل وتدعوه إلى تزويجها فيجيبها ,

فتجيء امرأة أخرى فتدعوه وترغّبه في نفسها وتزهّده في التي قبلها، وقد صرّحوا باستحباب خطبة أهل الفضل من الرّجال. ولا يخفى أنّ محلّ هذا إذا كان المخطوب عزم أن لا يتزوّج إلَّا بواحدةٍ، فأمّا إذا جمع بينهما فلا تحريم. قوله: (ولا تسأل المرأة طلاق) في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة عند البخاري " لا يحل لمرأة تسأل " وأخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق ابن الجنيد عن عبيد الله بن موسى - شيخ البخاريّ فيه - بلفظ " لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها ". وكذلك أخرجه البيهقيّ من طريق أبي حاتم الرّازيّ عن عبيد الله بن موسى , لكن قال " لا ينبغي " بدل " لا يصلح " وقال " لتكفئ " وقوله " لا يحلُّ " ظاهر في تحريم ذلك، وهو محمول على ما إذا لَم يكن هناك سبب يجوّز ذلك. كريبةٍ في المرأة لا ينبغي معها أن تستمرّ في عصمة الزّوج , ويكون ذلك على سبيل النّصيحة المحضة أو لضررٍ يحصل لها من الزّوج أو للزّوج منها , أو يكون سؤالها ذلك بعوضٍ وللزّوج رغبة في ذلك فيكون كالخلع مع الأجنبيّ , إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة. وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النّهي على النّدب، فلو فعل ذلك لَم يفسخ النّكاح. وتعقّبه ابن بطّال: بأنّ نفي الحلّ صريح في التّحريم، ولكن لا يلزم

منه فسخ النّكاح، وإنّما فيه التّغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولترض بما قسم الله لها. قوله: (أختها) قال النّوويّ: معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبيّة أن تسأل رجلاً طلاق زوجته , وأن يتزوّجها هي فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبّر عن ذلك بقوله " تكفئ ما في صحفتها ". قال: والمراد بأختها غيرها. سواء كانت أختها من النّسب أو الرّضاع أو الدّين، ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لَم تكن أختاً في الدّين , إمّا لأنّ المراد الغالب , أو أنّها أختها في الجنس الآدميّ. وحمل ابن عبد البرّ الأختَ هنا على الضّرّة , فقال: فيه من الفقه أنّه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرّتها لتنفرد به. وهذا يمكن في الرّواية التي وقعت بلفظ " لا تسأل المرأة طلاق أختها "، وأمّا الرّواية التي فيها لفظ الشّرط فظاهرها أنّها في الأجنبيّة. ويؤيّده. قوله فيها " ولتنكح " أي: ولتتزوّج الزّوج المذكور من غير أن يشترط أن يطلق التي قبلها. وعلى هذا فالمراد هنا بالأخت الأخت في الدّين. ويؤيّده زيادة ابن حبّان في آخره من طريق أبي كثير عن أبي هريرة بلفظ " لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها. فإنّ المسلمة أخت المسلمة ".

وقد تقدّم نقل الخلاف عن الأوزاعيّ وبعض الشّافعيّة , أنّ ذلك مخصوص بالمسلمة، وبه جزم أبو الشّيخ في " كتاب النّكاح "، ويأتي مثله هنا. ويجيء على رأي ابن القاسم. أن يستثنى ما إذا كان المسئول طلاقها فاسقة، وعند الجمهور لا فرق. قوله: (لتكفأ ما في إنائها) في رواية أبي سلمة " لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها " وهو يفسّر المراد بقوله " تكتفئ " (¬1) وهو بالهمز افتعال من كفأت الإناء إذا قلبته , وأفرغت ما فيه، وكذا يكفأ وهو بفتح أوّله وسكون الكاف وبالهمز. وجاء أكفأت الإناء إذا أملته. وهو في رواية ابن المسيّب " لتكفئ " بضمّ أوّله من أكفأت. وهي بمعنى أمَلْتُه. ويقال: بمعنى أكببته أيضاً، والمراد بالصّحفة ما يحصل من الزّوج كما تقدّم من كلام النّوويّ. وقال صاحب النّهاية: الصّحفة إناء كالقصعة المبسوطة، قال: وهذا مثلٌ، يريد الاستئثار عليها بحظّها فيكون كمن قلب إناء غيره في إنائه. وقال الطّيبيّ (¬2): هذه استعارة مستملحة تمثيليّة، شبّه النّصيب ¬

_ (¬1) هذه الرواية عند مسلم بلفظ (لتكتفئ). ورواية الباب التي أثبتها المقدسي هي رواية البخاري. وهي من رواية ابن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) هو الحسن بن محمد , سبق ترجمته (1/ 23)

والبخت بالصّحفة وحظوظها وتمتّعاتها بما يوضع في الصّحفة من الأطعمة اللذيذة، وشبّه الافتراق المسبّب عن الطّلاق باستفراغ الصّحفة عن تلك الأطعمة، ثمّ أدخل المشبّه في جنس المشبّه به واستعمل في المشبّه ما كان مستعملاً في المشبّه به. تكميل: زاد البخاري من رواية الأعرج عن أبي هريرة بعد قوله لتستفرغ صحفتها " ولتنكح فإنما لها ما قُدِّر لها ". قوله " ولتنكح " بكسر اللام وبإسكانها وبسكون الحاء على الأمر. ويحتمل: النّصب عطفاً على قوله " لتكتفئ " فيكون تعليلاً لسؤال طلاقها، ويتعيّن على هذا كسر اللام. ثمّ يحتمل: أنّ المراد ولتنكح ذلك الرّجل من غير أن تتعرّض لإخراج الضّرّة من عصمته , بل تكِلَ الأمر في ذلك إلى ما يقدّره الله، ولهذا ختم بقوله " فإنّما لها ما قدّر لها " إشارة إلى أنّها - وإن سألت ذلك وألحّت فيه , واشترطته - فإنّه لا يقع من ذلك إلَّا ما قدّره الله، فينبغي أن لا تتعرّض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرّد إرادتها، وهذا ممّا يؤيّد أنّ الأخت من النّسب أو الرّضاع لا تدخل في هذا. ويحتمل: أن يكون المراد ولتنكح غيره وتعرض عن هذا الرّجل. أو المراد ما يشمل الأمرين، والمعنى ولتنكح من تيسّر لها فإن كانت التي قبلها أجنبيّة فلتنكح الرّجل المذكور , وإن كانت أختها فلتنكح غيره، والله أعلم

باب الربا والصرف

باب الربا والصرف قال الله عزّ وجل (يا أيّها الذين آمنوا لا تأكلوا الرّبا أضعافاً مضاعفةً .. الآية) , وروى مالك عن زيد بن أسلم في تفسير الآية , قال: كان الرّبا في الجاهليّة أن يكون للرّجل على الرّجل حقٌّ إلى أجلٍ، فإذا حلَّ قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذ , وإلَّا زاده في حقّه , وزاده الآخر في الأجل. وروى الطّبريّ من طريق عطاء , ومن طريق مجاهدٍ نحوه، ومن طريق قتادة , إنّ ربا أهل الجاهليّة يبيع الرّجل البيع إلى أجل مسمّى، فإذا حلَّ الأجل - ولَم يكن عند صاحبه قضاءٌ - زاد , وأخّر عنه. والرّبا مقصورٌ، وحكي: مدّه. وهو شاذٌّ، وهو من ربا يربو فيكتب بالألف، ولكن قد وقع في خطّ المصحف بالواو. وأصل الرّبا الزّيادة. إمّا في نفس الشّيء كقوله تعالى (اهتزّت وربت). وإمّا في مقابلةٍ كدرهمٍ بدرهمين، فقيل: هو حقيقةٌ فيهما. وقيل: حقيقةٌ في الأوّل مجازٌ في الثّاني. زاد ابن سريج , أنّه في الثّاني حقيقةٌ شرعيّةٌ، ويطلق الرّبا على كل بيعٍ محرّمٍ. والصرف: بيع الدّراهم بالذّهب أو عكسه، وسمّي به: لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التّفاضل فيه. وقيل: من الصّريف. وهو تصويتهما في الميزان.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون 278 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا، إلَّا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً، إلَّا هاء وهاء، والبرّ بالبرّ رباً، إلَّا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا، إلَّا هاء وهاء. (¬1) قوله: (عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) ولهما عن مالك بن أوس , أنه التمس صرفاً بمائة دينار , فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني , فأخذ الذهب يقلبها في يده. ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة , وعمر يسمع ذلك , فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالورق .. فذكره. قوله: (الذهب بالذهب) وللبخاري عن عبد الله بن يوسف أخبرنا مالكٌ عن ابن شهابٍ بلفظ " الذهب بالورق ". (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2027) ومسلم (1586) من طريق سفيان , والبخاري (2062) ومسلم (1586) من طريق الليث , والبخاري (2065) من طريق مالك كلهم عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) وقع في طبعة البغا في رواية مالك (الذهب بالذهب) وهي خطأ كما قال ابن عبد البر هنا , ووافقه ابن حجر. أمّا رواية ابن عيينة. فذكرها البخاريُّ , ولم يذكرها مسلم. ففي طبعة البغا (الذهب بالذهب) أمّا في الفتح (الذهب بالورق). قال ابن حجر: هكذا رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه , وهي رواية أكثر أصحاب الزهري، وقال بعضهم فيه: الذهب بالذهب. انتهى أمَّا رواية الليث فساقها مسلم بلفظ (الذهب بالورق) ولم يذكرها البخاري أصلاً.

قال ابن عبد البرّ: لَم يختلف على مالك فيه , وحمله عنه الحفّاظ حتّى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعيّ عن مالك، وتابعه معمر والليث وغيرهما، وكذلك رواه الحفّاظ عن ابن عيينة. وشذّ أبو نعيم عنه فقال " الذّهب بالذّهب " كذلك رواه ابن إسحاق عن الزّهريّ. انتهى. ويجوز في قوله " الذّهب بالورق " الرّفع. أي: بيع الذّهب بالورق. فحذف المضاف للعلم به، أو المعنى الذّهب يباع بالذّهب. ويجوز النّصب. أي: بيعوا الذّهب. والذّهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والذّهب يذكّر ويؤنّث. فيقال ذهبٌ وذهبةٌ. والوَرِق: الفضّة. وهو بفتح الواو وكسر الرّاء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما، وقيل: بكسر الواو المضروبة وبفتحها المال، والمراد هنا جميع أنواع الفضّة مضروبةً وغير مضروبةٍ. قوله: (إلَّا هاء وهاء) بالمدّ فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسّكون، وحكي: القصر بغير همز. وخطّأها الخطّابيّ. وردّ عليه النّوويّ , وقال: هي صحيحةٌ , لكن قليلة. والمعنى خذ وهات، وحكي " هاك " بزيادة كاف مكسورة , ويقال " هاء " بكسر الهمزة بمعنى هات , وبفتحها بمعنى خذ بغير تنوين.

وقال ابن الأثير: هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيّعين: هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر " إلَّا يداً بيد " يعني مقابضةً في المجلس. وقيل: معناه خذ وأعط، قال: وغير الخطّابيّ يجيز فيها السّكون على حذف العوض , ويتنزّل منزلة " ها " التي للتّنبيه. وقال ابن مالك: ها اسم فعلٍ بمعنى خذ، وإن وقعت بعد إلَّا فيجب تقدير قولٍ قبله يكون به محكيّاً , فكأنّه قيل: ولا الذّهب بالذّهب إلَّا مقولاً عنده من المتبايعين هاء وهاء. وقال الخليل: كلمةٌ تستعمل عند المناولة، والمقصود من قوله " هاء وهاء " أن يقول كل واحدٍ من المتعاقدين لصاحبه: هاء فيتقابضان في المجلس. قال ابن مالك: حقّها أن لا تقع بعد إلَّا كما لا يقع بعدها خذ. قال: فالتّقدير لا تبيعوا الذّهب بالورق إلَّا مقولاً بين المتعاقدين هاء وهاء. واستدل به على اشتراط التّقابض في الصّرف في المجلس. وهو قول أبي حنيفة والشّافعيّ. وعن مالكٍ: لا يجوز الصّرف إلَّا عند الإيجاب بالكلام، ولو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر لَم يصحّ تقابضهما، ومذهبه أنّه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصّرف سواء كانا في المجلس أو تفرّقا. وحمَلَ قولَ عمر " لا يفارقه " على الفور حتّى لو أخّر الصّيرفيّ

القبض حتّى يقوم إلى قعر دكّانه ثمّ يفتح صندوقه لَمَا جاز. قوله: (والبرّ بالبرّ ربا ... إلخ) بضمّ الموحّدة ثمّ راء من أسماء الحنطة. والشّعير بفتح أوّله معروف , وحكي: جواز كسره. واستدل به على أنّ البرّ والشّعير صنفان. وهو قول الجمهور. وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعيّ , فقالوا: هما صنف واحد. قال ابن عبد البرّ: فيه أنّ النّسيئة لا تجوز في بيع الذّهب بالورق، وإذا لَم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنّسيئة , فأحرى أن لا يجوز في الذّهب بالذّهب وهو جنسٌ واحدٌ، وكذا الورق بالورق، يعني إذا لَم تكن رواية ابن إسحاق ومن تابعه محفوظةً فيؤخذ الحكم من دليل الخطاب. وقد نقل ابن عبد البرّ وغيره الإجماع على هذا الحكم، أي: التّسوية في المنع بين الذّهب بالذّهب وبين الذّهب بالورق فيستغنى حينئذٍ بذلك عن القياس.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون 279 - وعن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلَّا مثلاً بمثلٍ، ولا تُشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلَّا مثلاً بمثلٍ، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجزٍ. (¬1) وفي لفظ: إلَّا يداً بيدٍ. (¬2) وفي لفظ: إلَّا وزناً بوزنٍ، مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ. (¬3) قوله: (عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه -) ولمسلم من طريق الليث عن نافع , أنّ ابن عمر قال له رجلٌ من بني ليث: إنّ أبا سعيد الخدريّ يأثر هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليثيُّ حتّى دخل على أبي سعيد الخدريّ فقال: إنّ هذا أخبرني أنّك تخبر , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الورق بالورق إلَّا مثلاً بمثل. الحديث، فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه , فقال: أبصرتْ عينايَ وسمعتْ أذنايَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , يقول: لا تبيعوا الورق بالورق إلَّا مثلاً بمثل. الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2068) ومسلم (1584) من طريق مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (1584) من طريق الليث وغيره عن نافع عن أبي سعيد به. (¬3) أخرجه مسلم (1584) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي سعيد - رضي الله عنه -

ولمسلمٍ من طريق أبي نضرة في هذه القصّة لابن عمر مع أبي سعيد , إنّ ابن عمر نهى عن ذلك بعد أن كان أفتى به لَمَّا حدّثه أبو سعيد بنهي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب) يدخل في الذّهب جميع أصنافه , من مضروبٍ ومنقوشٍ , وجيّدٍ ورديءٍ , وصحيحٍ ومكسّرٍ , وحليٍّ وتبر , وخالص ومغشوش، ونقل النّوويّ تبعاً لغيره في ذلك الإجماع. قوله: (إلَّا مثلا بمثل) هو مصدرٌ في موضع الحال , أي: الذّهب يباع بالذّهب موزوناً بموزون، أو مصدر مؤكّد. أي: يوزن وزناً بوزن، وزاد مسلم في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي سعيد " إلَّا وزناً بوزنٍ مثلاً بمثلٍ سواء بسواء ". قوله: (ولا تُشفّوا) بضمّ أوّله وكسر الشّين المعجمة وتشديد الفاء. أي: تفضّلوا، وهو رباعيّ من أشفّ، والشّفّ بالكسر الزّيادة، وتطلق على النّقص. قوله: (ولا تبيعوا منها غائباً بناجزٍ) بنون وجيم وزاي. مؤجّلاً بحال، أي: والمراد بالغائب أعمّ من المؤجّل كالغائب عن المجلس مطلقاً. مؤجّلاً كان أو حالاً , والنّاجز الحاضر. قال ابن بطّال: فيه حجّةٌ للشّافعيّ في قوله: من كان له على رجلٍ دراهم ولآخر عليه دنانير لَم يجز أن يقاصّ أحدهما الآخر بما له , لأنّه يدخل في معنى بيع الذّهب بالورق ديناً، لأنّه إذا لَم يجز غائب بناجز

الحديث الرابع والعشرون

فأحرى أن لا يجوز غائبٌ بغائب. وأمّا الحديث الذي أخرجه أصحاب السّنن عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع: أبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير. فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك , فقال: لا بأس به إذا كان بسعر يومه , ولَم تفترقا وبينكما شيء. فلا يدخل في بيع الذّهب بالورق ديناً، لأنّ النّهي بقبض الدّراهم عن الدّنانير لَم يقصد إلى التّأخير في الصّرف. قاله ابن بطّالٍ. واستُدلّ بقوله " مثلاً بمثلٍ " على بطلان البيع بقاعدة مدّ عجوة , وهو أن يبيع مدّ عجوة وديناراً بدينارين مثلاً. وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد. في ردّ البيع في القلادة التي فيها خرز وذهب حتّى تُفصلَ. أخرجه مسلم (¬1)، وفي رواية أبي داود " فقلتُ: إنّما أردت الحجارة، فقال: لا حتّى تميّز بينهما ". الحديث الرابع والعشرون ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1591) عن فضالة بن عبيد الأنصاري قال: أُتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب - وهي من المغانم تباع - فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده , ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب وزناً بوزن. وفي رواية له: اشتريت يوم خيبر قلادة بإثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز , ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تباع حتى تفصل.

280 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , قال: جاء بلالٌ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بتمرٍ برنيٍّ، فقال له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا؟ قال بلالٌ: كان عندي تمرٌ رديءٌ، فبعت منه صاعين بصاعٍ ليطعم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: أوّه، أوّه! عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيعٍ آخر، ثم اشتر به. (¬1) قوله: (جاء بلال إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بتمر برنيّ) بفتح الموحّدة وسكون الرّاء بعدها نون ثمّ تحتانيّة مشدّدة ضربٌ من التّمر معروف، قيل له ذلك , لأنّ كل تمرة تشبه البرنيّة. وقد وقع عند أحمد مرفوعاً: خير تمراتكم البرنيّ، يذهب الدّاء , ولا داء فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2188) ومسلم (1594) من طريق معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير عن عقبة بن عبد الغفور عن أبي سعيد - رضي الله عنه -. ولمسلم (1594) من وجهين آخرين عن أبي سعيد نحوه مختصراً. هذا الحديث يشتبه كثيراً بما أخرجه البخاري (2201) ومسلم (1593) عن سعيد بن المسيب , أن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة حدَّثاه , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري واستعمله على خيبر , فقدم بتمر جنيب , فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكلَّ تمر خيبر هكذا؟. قال: لا والله يا رسولَ الله. إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعلوا , ولكن مثل بمثل , أو بيعوا هذا , واشتروا بثمنه من هذا , وكذلك الميزان. وهي قصة أخرى كما قال ابن عبد البر وابن حجر , وهو ظاهر السياقين. فصاحب خيبر هو سواد بن غزيّة كما جاء مصرّحاً باسمه عند أبي عوانة والدارقطني. أما حديث الباب فهو بلال. والمعنى واحد.

قوله: (كان عندي) في رواية الكشميهنيّ " عندنا " (¬1). قوله: (رديء) بالهمزة وزن عظيم. قوله: (لنُطعم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) بالنّون المضمومة، ولغير أبي ذرّ (¬2) بالتّحتانيّة المفتوحة والعين مفتوحة أيضاً، وفي رواية مسلم " لمطعم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " بالميم. قوله: (أوّه أوّه) كلمة تقال عند التّوجّع - وهي مشدّدة الواو مفتوحة. وقد تكسر والهاء ساكنة - وربّما حذفوها، ويقال بسكون الواو وكسر الهاء، وحكى بعضهم مدّ الهمزة بدل التّشديد. قال ابن التّين: إنّما تأوّه ليكون أبلغ في الزّجر، وقاله. إمّا للتّألم من هذا الفعل , وإمّا من سوء الفهم. قوله: (عين الرّبا) وللبخاري " عين الرّبا عين الرّبا " كذا فيه بالتّكرار مرّتين. ووقع في مسلم مرّة واحدة، ومراده بعين الرّبا نفسه. قوله: (لا تفعل , ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيعٍ آخر، ثم اشتر به) في رواية مسلم " ولكن إذا أردت أن تشتري التّمر فبعه ببيعٍ آخر , ثمّ اشتره ". وبينهما مغايرة , لأنّ التّمر في رواية الباب المراد به التّمر الرّديء , ¬

_ (¬1) وكذا عند مسلم (1594) أي " عندنا " وكذا في طبعة البغا. (¬2) هو عبد بن أحمد الهروي , سبق ترجمته (1/ 114).

والضّمير في به يعود إلى التّمر. أي: بالتّمر الرّديء والمفعول محذوف. أي: اشتر به تمراً جيّداً. وأمّا رواية مسلم فالمراد بالتّمر الجيّد، والضّمير في قوله " ثمّ اشتره " للجيّد. وفي الحديث البحث عمّا يستريب به الشّخص حتّى ينكشف حاله. وفيه النّصّ على تحريم ربا الفضل. واهتمام الإمام بأمر الدّين وتعليمه لمن لا يعلمه، وإرشاده إلى التّوصّل إلى المباحات وغيرها، واهتمام التّابع بأمر متبوعه. وفيه أنّ صفقة الرّبا لا تصحّ، ولمسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد في نحو هذه القصّة فقال " هذا الرّبا فردّه ". وعند الطّبريّ من طريق سعيد بن المسيّب عن بلال قال: كان عندي تمرٌ دونٌ، فابتعت منه تمراً أجود منه. الحديث. وفيه , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: هذا الرّبا بعينه، انطلِق فردّه على صاحبه , وخذ تمرك وبعه بحنطةٍ أو شعير , ثمّ اشتر به من هذا التّمر , ثمّ جئني به. قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين أهل العلم فيه , كلٌ يقول على أصله: إنّ كل ما دخله الرّبا من جهة التّفاضل فالكيل والوزن فيه واحدٌ، ولكن ما كان أصله الكيل لا يباع إلَّا كيلاً وكذا الوزن، ثمّ ما كان أصله الوزن لا يصحّ أن يباع بالكيل، بخلاف ما كان أصله الكيل. فإنّ بعضهم يجيز فيه الوزن , ويقول: إنّ المماثلة تدرك بالوزن في كل شيءٍ.

قال: وأجمعوا على أنّ التّمر بالتّمر لا يجوز بيع بعضه ببعضٍ إلَّا مثلاً بمثلٍ، وسواءٌ فيه الطّيّب والدّون، وأنّه كله على اختلاف أنواعه جنسٌ واحدٌ. انتهى وفي الحديث قيام عذر من لا يعلم التّحريم حتّى يعلمه. وفيه جواز الرّفق بالنّفس وترك الحمل على النّفس لاختيار أكل الطّيّب على الرّديء خلافاً لمن منع ذلك من المتزهّدين. واستدل به على جواز بيع العيّنة وهو أن يبيع السّلعة من رجلٍ بنقدٍ , ثمّ يشتريها منه بأقل من الثّمن , لأنّه لَم يخصّ بقوله " ثمّ اشتر بالدّراهم جنيباً " (¬1) غيرَ الذي باع له الجمع. وتعقّب: بأنّه مطلقٌ. والمطلق لا يشمل , ولكن يشيع فإذا عمل به في صورةٍ سقط الاحتجاج به فيما عداها. ولا يصحّ الاستدلال به على جواز الشّراء ممّن باعه تلك السّلعة بعينها. وقيل: إنّ وجه الاستدلال به لذلك من جهة ترك الاستفصال، ولا يخفى ما فيه. وقال القرطبيّ: استدل بهذا الحديث من لَم يقل بسدّ الذّرائع، لأنّ بعض صور هذا البيع يؤدّي إلى بيع التّمر بالتّمر متفاضلاً ويكون الثّمن لغواً. ¬

_ (¬1) هذه الرواية من حديث أبي سعيد وأبي هريرة المتقدّم في التعليق السابق. لَمَّا كان معناهما واحداً دمجت الشرحين جميعاً.

قال: ولا حجّة في هذا الحديث , لأنّه لَم ينصّ على جواز شراء التّمر الثّاني ممّن باعه التّمر الأوّل، ولا يتناوله ظاهر السّياق بعمومه بل بإطلاقه , والمطلق يحتمل التّقييد إجمالاً فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأدنى دليلٍ كافٍ، وقد دلَّ الدّليل على سدّ الذّرائع , فلتكن هذه الصّورة ممنوعةً. واستدل بعضهم على الجواز: بما أخرجه سعيد بن منصورٍ من طريق ابن سيرين , أنّ عمر خطب , فقال: إنّ الدّرهم بالدّرهم سواءٌ بسواءٍ يداً بيدٍ، فقال له ابن عوفٍ: فنعطي الجنيب ونأخذ غيره؟ قال: لا، ولكن ابتع بهذا عرضاً فإذا قبضته وكان له فيه نيّةٌ فاهضم ما شئت , وخذ أيّ نقدٍ شئت. واستدل أيضاً بالاتّفاق على أنّ من باع السّلعة التي اشتراها ممّن اشتراها منه بعد مدّةٍ فالبيع صحيحٌ , فلا فرق بين التّعجيل في ذلك والتّأجيل، فدلَّ على أنّ المعتبر في ذلك وجود الشّرط في أصل العقد وعدمه , فإن تشارطا على ذلك في نفس العقد فهو باطلٌ، أو قبله ثمّ وقع العقد بغير شرطٍ فهو صحيحٌ. ولا يخفى الورع. وقال بعضهم: ولا يضرّ إرادة الشّراء إذا كان بغير شرطٍ، وهو كمن أراد أن يزني بامرأةٍ ثمّ عدل عن ذلك فخطبها وتزوّجها فإنّه عدل عن الحرام إلى الحلال بكلمة الله التي أباحها، وكذلك البيع. والله أعلم. وفي الحديث جواز الوكالة في البيع وغيره.

وفيه أنّ البيوع الفاسدة تردّ. وفيه حجّةٌ على مَن قال إنّ بيع الرّبا جائزٌ بأصله من حيث إنّه بيعٌ , ممنوعٌ بوصفه من حيث إنّه رباً، فعلى هذا يسقط الرّبا , ويصحّ البيع. قاله القرطبيّ. قال: ووجه الرّدّ أنّه لو كان كذلك لَمَا ردّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الصّفقة، ولأمره بردّ الزّيادة على الصّاع.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون 281 - عن أبي المنهال، قال: سألت البراء بن عازبٍ وزيد بن أرقم - رضي الله عنهم - عن الصّرف، فكل واحدٍ منهما يقول: هذا خيرٌ منّي، وكلاهما يقول: نَهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق ديناً. (¬1) الحديث السادس والعشرون 282 - عن أبي بكرة - رضي الله عنه - , قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلَّا سواء بسواءٍ، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب، كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة، كيف شئنا، قال: فسأله رجلٌ، فقال: يداً بيد؟ فقال: هكذا سمعت. (¬2) قوله: (عن أبي المنهال) أبو المنهال المذكور في هذا الإسناد غير أبي المنهال صاحب أبي برزة الأسلميّ في حديث المواقيت (¬3). واسم هذا عبد الرّحمن بن مطعمٍ , واسم صاحب أبي برزة سيّار بن سلامة. قوله: (عن الصّرف) أي: بيع الدّراهم بالذّهب أو عكسه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1955 , 2070 , 2365 , 3724) ومسلم (1589) من طرق عن أبي المنهال به. (¬2) أخرجه البخاري (2066 , 2071) ومسلم (1590) من طريق يحيى بن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم برقم (53)

وسمّي به: لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التّفاضل فيه. وقيل: من الصّريف وهو تصويتهما في الميزان. وفي الصحيحين من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال: باع شريك لي دراهم - أي بذهب - في السّوق نسيئة، فقلت: سبحان الله. أيصلح هذا؟ فقال: لقد بعتها في السّوق فما عابه عليَّ أحدٌ، فسألت البراء بن عازب. فذكره. وللصرف شرطان: الأول: منع النّسيئة مع اتّفاق النّوع واختلافه. وهو المجمع عليه. الثاني: منع التّفاضل في النّوع الواحد منهما , وهو قول الجمهور. وخالف فيه ابن عمر ثمّ رجع، وابن عبّاس , واختلف في رجوعه. فروى مسلم عن أبي نضرة , قال: سألت ابن عمر وابن عبّاسٍ عن الصّرف. فلم يرَيَا به بأساً , فإنّي لقاعدٌ عند أبي سعيدٍ الخدريّ. فسألته عن الصّرف , فقال: ما زاد فهو رباً فأنكرت ذلك لقولهما , فقال: لا أحدّثك إلَّا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , جاءه صاحب نخله بصاعٍ من تمرٍ طيّبٍ , وكان تمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذا اللون , فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّى لك هذا؟. قال: انطلقت بصاعين فاشتريت به هذا الصّاع , فإنّ سعرَ هذا في السّوق كذا وسعر هذا كذا , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويلك أربيتَ. إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعةٍ , ثمّ اشتر بسلعتك أيّ تمرٍ شئت , قال أبو سعيدٍ: فالتّمر بالتّمر أحقّ أن يكون رباً أم الفضّة بالفضّة؟ قال:

فأتيت ابن عمر بعد فنهاني , ولَم آت ابن عبّاسٍ , قال: فحدّثني أبو الصّهباء , أنّه سأل ابن عبّاسٍ عنه بمكّة , فكرِهَه. وقد روى الحاكم من طريق حيّان العدويّ - وهو بالمهملة والتّحتانيّة - سألت أبا مجلز عن الصّرف , فقال: كان ابن عبّاس لا يرى به بأساً زماناً من عمره ما كان منه عيناً بعين يداً بيد، وكان يقول: إنّما الرّبا في النّسيئة , فلقيه أبو سعيد. فذكر القصّة والحديث، وفيه: التّمر بالتّمر والحنطة بالحنطة والشّعير بالشّعير والذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة يداً بيدٍ مثلاً بمثل، فمن زاد فهو رباً، فقال ابن عبّاس: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشدّ النّهي. واتّفق العلماء على صحّة حديث أسامة " لا ربا إلَّا في النسيئة ". واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد (¬1) الوجه الأول: منسوخ، لكنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال. الوجه الثاني: المعنى في قوله " لا رباً " الرّبا الأغلظ الشّديد التّحريم المتوعّد عليه بالعقاب الشّديد كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلَّا زيدٌ. مع أنّ فيها علماء غيره، وإنّما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل. وأيضاً فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنّما هو بالمفهوم، ¬

_ (¬1) لأبي سعيد - رضي الله عنه - حديثان تقدّما قبل حديث أبي المنهال , وكلاهما يدلاّن على تحريم ربا الفضل.

فيقدّم عليه حديث أبي سعيد لأنّ دلالته بالمنطوق. ويُحمل حديث أسامة على الرّبا الأكبر كما تقدّم. والله أعلم. الوجه الثالث: قال الطّبريّ: معنى حديث أسامة " لا رباً إلَّا في النّسيئة " إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يداً بيد رباً. جمعاً بينه وبين حديث أبي سعيد. قوله: (هذا خير منّي) في رواية سفيان المذكورة. قال: فالْقَ زيدَ بن أرقم فاسأله فإنّه كان أعظمنا تجارة، فسألته. فذكره. وفي رواية الحميديّ في " مسنده " من هذا الوجه عن سفيان , فقال: صدق البراء. وللبخاري من وجهٍ آخر عن أبي المنهال بلفظ " إن كان يداً بيدٍ فلا بأس، وإن كان نسيئاً فلا يصلح " , وله أيضاً من وجه آخر عن أبي المنهال " ما كان يداً بيدٍ فخذوه , وما كان نسيئةً فردّوه ". واستدل به على جواز تفريق الصّفقة , فيصحّ الصّحيح منها ويبطل ما لا يصحّ. وفيه نظرٌ , لاحتمال أن يكون أشار إلى عقدين مختلفين. ويؤيّد هذا الاحتمال ما أخرجه البخاري من وجهٍ آخر عن أبي المنهال قال: باع شريك لي دراهم في السّوق نسيئة إلى الموسم " فذكر الحديث. وفيه: قدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نتبايع هذا البيع , فقال: ما كان يداً بيدٍ فليس به بأس، وما كان نسيئةً فلا يصلح. فعلى هذا فمعنى قوله: " ما كان يداً بيدٍ فخذوه " أي: ما وقع لكم

فيه التّقابض في المجلس فهو صحيحٌ فأمضوه، وما لَم يقع لكم فيه التّقابض فليس بصحيحٍ فاتركوه، ولا يلزم من ذلك أن يكونا جميعاً في عقدٍ واحدٍ. وفي الحديث ما كان عليه الصّحابة من التّواضع، وإنصاف بعضهم بعضاً، ومعرفة أحدهم حقّ الآخر، واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم. فائدة: البيع كله إمّا بالنّقد أو بالعرض حالاً أو مؤجّلاً، فهي أربعة أقسام: فبيع النّقد إمّا بمثله وهو المراطلة، أو بنقدٍ غيره وهو الصّرف. وبيع العرض بنقدٍ يسمّى النّقد ثمناً والعرض عوضاً، وبيع العرض بالعرض يسمّى مقايضة. والحلول في جميع ذلك جائز. وأمّا التّأجيل , فإن كان النّقد بالنّقد مؤخّراً فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخّراً فهو السّلم، وإن كانا مؤخّرين فهو بيع الدّين بالدّين وليس بجائزٍ إلَّا في الحوالة عند من يقول إنّها بيع، والله أعلم. قوله: (عن أبي بكرة) اسمه نفيع بن الحارث. وكان مولى الحارث بن كلدة الثقفي فتدلَّى من حصن الطائف ببكرة فكُنِّي أبا بكرة لذلك. أخرج ذلك الطبراني بسند لا بأس به من حديث أبي بكرة. وكان ممن نزل من حصن الطائف من عبيدهم فأسلم. وروى ابن

أبي شيبة وأحمد من حديث ابن عباس قال: أعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف كلَّ من خرج إليه من رقيق المشركين. وأخرجه ابن سعد مرسلاً من وجه آخر. فوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفضة بالفضة) تقدّم حكمه. قوله: (وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا) وللبخاري " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلَّا سواء بسواء والفضة بالفضة إلَّا سواء بسواء , وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم ". وساقه أبو عوانة في " مستخرجه " , فقال في آخره " والفضّة بالذّهب كيف شئتم يداً بيد ". واشتراط القبض في الصّرف متّفق عليه، وإنّما وقع الاختلاف في التّفاضل بين الجنس الواحد. واستدل به على بيع الرّبويّات بعضها ببعضٍ إذا كان يداً بيد. وأصرح منه حديث عبادة بن الصّامت عند مسلم بلفظ " فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم ".

باب الرهن وغيره

باب الرهن وغيره (¬1) قال الله تعالى " وإن كنتم على سفرٍ ولَم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضةٌ " والرّهن بفتح أوّله وسكون الهاء: في اللغة الاحتباس من قولهم رهن الشّيء إذا دام وثبت، ومنه: (كل نفسٍ بما كسبت رهينة). وفي الشّرع: جعل مال وثيقة على دين. ويطلق أيضاً على العين المرهونة تسميةً للمفعول باسم المصدر. وأمّا الرُّهُن بضمّتين فالجمع، ويجمع أيضاً على رهانٍ بكسر الرّاء ككتب وكتاب، وقرئ بهما. والتّقييد بالسّفر في الآية خرج للغالب , فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيّته في الحضر , وهو قول الجمهور. واحتجّوا له من حيث المعنى , بأنّ الرّهن شرع توثقة على الدّين لقوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضاً) فإنّه يشير إلى أنّ المراد بالرّهن الاستيثاق، وإنّما قيّده بالسّفر لأنّه مظنّة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب. وخالف في ذلك مجاهد والضّحّاك فيما نقله الطّبريّ عنهما. فقالا: لا يُشرع إلَّا في السّفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل ¬

_ (¬1) هكذا اكتفى المقدسيّ رحمه الله بقوله " وغيره " ولَم يبوّب للأحاديث الآتية حتى باب اللقطة فإنه بوّب له , وقد رأيت من الحَسَنِ ذكر باب لكل ما يخص الأحاديث اعتماداً على تبويبات البخاري رحمه الله.

الظّاهر. وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرّهن في الحضر لَم يكن له ذلك، وإن تبرّع به الرّاهن جاز، وحمل حديث أنس في البخاري , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن درعاً له بالمدينة عند يهوديّ. على ذلك.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون 283 - عن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهوديٍّ طعاماً، ورهنه درعاً من حديدٍ. (¬1) قوله: (اشترى من يهوديٍّ) وللبخاري من طريق هشام الدّستوائيّ عن قتادة عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: رهن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - درعاً له بالمدينة عند يهوديٍّ. وأَخذَ منه شعيراً لأهله ". وهذا اليهوديّ هو أبو الشّحم (¬2)، بيّنه الشّافعيّ , ثمّ البيهقيّ من طريق جعفر بن محمّد عن أبيه , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رهن درعاً له عند أبي الشّحم اليهوديّ رجلٍ من بني ظفر في شعير. وأبو الشّحم - بفتح المعجمة وسكون المهملة - اسمه كنيته، وظفر - بفتح الظّاء والفاء - بطن من الأوس , وكان حليفاً لهم. وضبطه بعض المتأخّرين بهمزةٍ موحّدةٍ ممدودة ومكسورة اسم الفاعل من الإباء، وكأنّه التبس عليه بأبي اللحم الصّحابيّ. وكان قدر الشّعير المذكور ثلاثين صاعاً كما في البخاري من حديث ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1962 , 1990، 2088، 2133، 2134، 2256، 2374، 2378، 2759، 4197) ومسلم (1603) من طرق عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) هذا مصير من الشارح رحمه الله بأنَّ حديث أنس وعائشة متّحدان , ولذا لَمَّا جاء إلى شرح حديث عائشة في اسم اليهودي , قال: تقدّم التعريف به في الباب الذي قبله (أي حديث أنس).

عائشة , وكذلك رواه أحمد وابن ماجه والطّبرانيّ وغيرهم من طريق عكرمة عن ابن عبّاس. وأخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ من هذا الوجه فقالا: " بعشرين " ولعله كان دون الثّلاثين فجبر الكسر تارةً , وألغى أخرى. ووقع لابن حبّان من طريق شيبان عن قتادة عن أنس " أنّ قيمة الطّعام كانت ديناراً " , وزاد أحمد من طريق شيبان في آخره " فما وجد ما يفتكّها به حتّى مات ". قوله: (طعاماً) زاد الشيخان في رواية لهما " إلى أجل ". ولهما أيضاً " بنسيئةٍ " بكسر المهملة والمدّ. أي: بالأجل. وفي صحيح ابن حبّان من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش , أنّه سنة. وللبخاري من طريق سفيان عن الأعمش , قالت: توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ بثلاثين صاعاً من شعيرٍ. قال ابن بطّال: الشّراء بالنّسيئة جائز بالإجماع. انتهى تكميل: قال البخاري " باب من اشترى بالدّين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته " أي: فهو جائز، وكأنّه يشير إلى ضعف ما جاء عن ابن عبّاس مرفوعاً " لا أشتري ما ليس عندي ثمنه " وهو حديث أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سماك عن عكرمة عنه , في أثناء حديث تفرّد به شريك عن سماك , واختلف في وصله وإرساله. ثمّ أورد فيه حديث جابر " في شراء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منه جمله في السّفر

وقضائه ثمنه في المدينة (¬1)، وهو مطابقٌ للرّكن الثّاني من التّرجمة. وحديث عائشة في شرائه - صلى الله عليه وسلم - من اليهوديّ الطّعام إلى أجل، وهو مطابقٌ للرّكن الأوّل. قال ابن المنير: وجه الدّلالة منه أنّه - صلى الله عليه وسلم - لو حضره الثّمن ما أخّره , وكذا ثمن الطّعام لو حضره لَم يرتّب في ذمّته ديناً، لِمَا عُرف من عادته الشّريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزمه إخراجه. قوله: (ورهنه درعاً من حديدٍ) الدّرع بكسر المهملة يذكّر ويؤنّث , وجمعه أدراع. وهو القميص المتّخذ من الزّرد. (¬2) ووقع في البخاري من طريق الثّوريّ عن الأعمش بلفظ: توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونةٌ. وفي حديث أنسٍ عند أحمد " فما وجد ما يفتكّها به " وفيه دليلٌ على أنّ المرادَ بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: نفس المؤمن معلقةٌ بدينه حتّى يقضى عنه ". وهو حديث صحَّحه ابن حبّان وغيره , مَن لَم يترك عند صاحب الدّين ما يحصل له به الوفاء , وإليه جنح الماورديّ. ¬

_ (¬1) حديث جابر - رضي الله عنه - تقدّم برقم (278) (¬2) الزَّرْد والزَّرَد حِلَقُ المِغْفَر والدرع والزَّرَدةُ حَلْقَة الدرع والسَّرْدُ ثقْبها , والجمع زرود , والزَّرَّادُ صانعها , وقيل: الزاي في ذلك كله بدل من السين في السَّرْد والسَّرَّاد , والزَّرْد مثل السَّرْد وهو تداخل حِلَق الدرع بعضها في بعض , والزرَد بالتحريك الدرع. اللسان (3/ 194)

وقيل: هذا محله في غير نفس الأنبياء. فإنّها لا تكون معلقةً بدينٍ فهي خصوصيّةٌ. وذكر ابن الطّلاع في " الأقضية النّبويّة " أنّ أبا بكر افتكّ الدّرع بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لكن روى ابن سعد عن جابر , أنّ أبا بكر قضى عِدات النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وأنّ عليّاً قضى ديونه. وروى إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن الشّعبيّ مرسلاً , أنّ أبا بكر افتكّ الدّرع , وسلَّمها لعليّ بن أبي طالب. وأمّا من أجاب: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - افتكّها قبل موته , فمعارَض بحديث عائشة رضي الله عنها. وفي الحديث الرّدّ على مَن قال: إنّ الرّهن في السّلم لا يجوز، وقد أخرج الإسماعيليّ من طريق ابن نمير عن الأعمش " أنّ رجلاً قال لإبراهيم النّخعيّ: إن سعيد بن جبير يقول: إنّ الرّهن في السّلم هو الرّبا المضمون، فردّ عليه إبراهيم بهذا الحديث. قال المُوفّق: رويت كراهة ذلك عن ابن عمر والحسن والأوزاعيّ وإحدى الرّوايتين عن أحمد، ورخّص فيه الباقون. والحجّة فيه قوله تعالى (إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمّىً فاكتبوه - إلى أن قال - فرهانٌ مقبوضةٌ) , واللفظ عامّ فيدخل السّلم في عمومه , لأنّه أحد نوعي البيع. واستدل لأحمد بما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره.

ووجه الدّلالة منه أنّه لا يأمن هلاك الرّهن في يده بعدوانٍ فيصير مستوفياً لحقّه من غير المسلم فيه. وروى الدّارقطنيّ من حديث ابن عمر رفعه: من أسلف في شيء فلا يشترط على صاحبه غير قضائه. وإسناده ضعيف , ولو صحّ فهو محمول على شرط ينافي مقتضى العقد. وفيه جواز معاملة الكفّار فيما لَم يتحقّق تحريم عين المتعامل فيه , وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة من أكثر ماله حرام. وفيه جواز بيع السّلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لَم يكن حربيّاً. وفيه ثبوت أملاك أهل الذّمّة في أيديهم , وجواز الشّراء بالثّمن المؤجّل واتّخاذ الدّروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنّه غير قادحٍ في التّوكّل، وأنّ قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها. قاله ابن المنير. وأنّ أكثر قوت ذلك العصر الشّعير. قاله الدّاوديّ. وأنّ القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه. حكاه ابن التّين. وفيه ما كان عليه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من التّواضع والزّهد في الدّنيا والتّقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادّخار حتّى احتاج إلى رهن درعه، والصّبر على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه لصبرهنّ معه على ذلك، وفيه غير ذلك ممّا مضى

ويأتي. قال العلماء: الحكمة في عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن معاملة مياسير الصّحابة إلى معاملة اليهود إمّا لبيان الجواز، أو لأنّهم لَم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم , أو خشي أنّهم لا يأخذون منه ثمناً , أو عوضاً. فلم يرد التّضييق عليهم، فإنّه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك وأكثر منه , فلعله لَم يطلعهم على ذلك , وإنّما أطلع عليه من لَم يكن موسراً به ممّن نقل ذلك. والله أعلم.

باب الحوالة

باب الحوالة الحوالة بفتح الحاء وقد تكسر. مشتقّة من التّحويل أو من الحئول، تقول حال عن العهد إذا انتقل عنه حئولاً. وهي عند الفقهاء نقل دين من ذمّة إلى ذمّة. واختلفوا. هل هي بيع دين بدينٍ رخّص فيه فاستثني من النّهي عن بيع الدّين بالدّين، أو هي استيفاء؟. وقيل: هي عقد إرفاق مستقل. ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر، والمحال عليه عند بعض شذّ. ويشترط أيضاً تماثل الحقّين في الصّفات، وأن يكون في شيء معلوم. ومنهم من خصّها بالنّقدين ومنعها في الطّعام , لأنّه بيع طعام قبل أن يستوفى.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون 284 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطل الغنيّ ظلمٌ، وإذا أتبع أحدكم على مليءٍ فليتبع. (¬1) قوله: (عن أبي هريرة) رواه همّام والأعرج عن أبي هريرة، ورواه ابن عمر وجابر مع أبي هريرة. قوله: (مطل الغنيّ ظلم) في رواية ابن عيينة عن أبي الزّناد عند النّسائيّ وابن ماجه " المطل ظلم الغنيّ " والمعنى أنّه من الظّلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التّنفير عن المطل. وقد رواه الجوزقيّ من طريق همّام عن أبي هريرة بلفظ " إنّ من الظّلم مطل الغنيّ " وهو يفسّر الذي قبله. وأصل المطل المدّ، قال ابن فارس: مطلت الحديدة أمطلها مطلاً إذا مددتها لتطول. وقال الأزهريّ: المطل المدافعة، والمراد هنا تأخير ما استحقّ أداؤه بغير عذر. والغنيّ مختلف في تفريعه , ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2166) من طريق مالك , والبخاري (2167) ومسلم (1564) من طريق سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (2270) ومسلم (1564) من وجه آخر عن معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فأخّره - ولو كان فقيراً - كما سيأتي البحث فيه. وهل يتّصف بالمطل من ليس القدر الذي استحقّ عليه حاضراً عنده , لكنّه قادر على تحصيله بالتّكسّب مثلاً؟. أطلق أكثر الشّافعيّة عدم الوجوب. وصرّح بعضهم بالوجوب مطلقاً. وفصّل آخرون. بين أن يكون أصل الدّين وجب بسببٍ يعصى به فيجب وإلا فلا. وقوله " مطل الغنيّ " هو من إضافة المصدر للفاعل عند الجمهور. والمعنى أنّه يحرم على الغنيّ القادر أن يمطل بالدّين بعد استحقاقه بخلاف العاجز. وقيل: هو من إضافة المصدر للمفعول، والمعنى أنّه يجب وفاء الدّين - ولو كان مستحقّه غنيّاً - ولا يكون غناه سبباً لتأخير حقّه عنه، وإذا كان كذلك في حقّ الغنيّ فهو في حقّ الفقير أولى، ولا يخفى بعد هذا التّأويل. قوله: (وإذا أتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع) المشهور في الرّواية واللغة كما قال النّوويّ: إسكان المثنّاة في " أتبع " وفي " فليتبع " وهو على البناء للمجهول مثل إذا أعلم فليعلم، تقول تبعت الرّجل بحقّي أتبعه تباعة بالفتح إذا طلبته. وقال القرطبيّ: أمّا أتبع فبضمّ الهمزة وسكون التّاء مبنيّاً لمالم يسمّ فاعله عند الجميع، وأمّا فليتبع فالأكثر على التّخفيف، وقيّده بعضهم

بالتّشديد، والأوّل أجود. انتهى. وما ادّعاه من الاتّفاق على أتبع. يردّه قول الخطّابيّ: إنّ أكثر المحدّثين يقولونه بتشديد التّاء , والصّواب التّخفيف. ومعنى قوله " أتبع فليتبع " أي: أحيل فليحتل، وقد رواه بهذا اللفظ (¬1) أحمد عن وكيع عن سفيان الثّوريّ عن أبي الزّناد. وأخرج البيهقيّ مثله من طريق مُعلَّى بن منصور عن ابن أبي الزّناد عن أبيه. وأشار إلى تفرّد مُعلَّى بذلك. (¬2) ولَم يتفرّد به كما تراه، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ " فإذا أُحلت على مليء فاتّبعه " وهذا بتشديد التّاء بلا خلاف. والمليء , بالهمز مأخوذ من الملاء. يقال ملؤ الرّجل بضمّ اللام. أي: صار مليّاً. وقال الكرمانيّ: المليّ كالغنيّ لفظاً ومعنىً، فاقتضى أنّه بغير همز. وليس كذلك فقد قال الخطّابيّ: أنّه في الأصل بالهمز ومن رواه بتركها فقد سهّله. والأمر في قوله " فليتبع ". ¬

_ (¬1) أي بلفظ الإحالة. ولفظه عند أحمد (9973) " ومن أُحيل على مليءٍ فليحتل " (¬2) وقع في المطبوع: يعلى بن منصور عن أبي الزناد عن أبيه. وهو خطأ. والصواب ما أثبتّه. قال البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 117). عقِب رواية مُعلَّى: ورواه محمد بن الصباح الدولابي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد باللفظ الذي رواه مالك. انتهى. ومقصوده برواية مالك. أي: رواية العمدة هنا.

القول الأول: للاستحباب عند الجمهور، ووهِم من نقل فيه الإجماع. القول الثاني: هو أمر إباحة وإرشاد. وهو شاذّ. القول الثالث: حمله أكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير وأهل الظّاهر على ظاهره. وعبارة الخرقيّ: ومن أحيل بحقّه على مليء فواجب عليه أن يحتال. تنبيهٌ: ادّعى الرّافعيّ أنّ الأشهر في الرّوايات " وإذا أتبع " وأنّهما جملتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى. وزعم بعض المتأخّرين أنّه لَم يرد إلَّا بالواو. وغفل عمّا في صحيح البخاريّ هنا , فإنّه بالفاء في جميع الرّوايات، وهو كالتّوطئة والعلة لقبول الحوالة، أي: إذا كان المطل ظلماً فليقبل من يحتال بدينه عليه، فإنّ المؤمن من شأنه أن يحترز عن الظّلم فلا يمطل. نعم. رواه مسلم بالواو , وكذا البخاريّ في الباب الذي بعده , لكن قال " ومن أتبع " ومناسبة الجملة للتي قبلها أنّه لَمَّا دلَّ على أنّ مطل الغنيّ ظلم عقّبه بأنّه ينبغي قبول الحوالة على المليء لِمَا في قبولها من دفع الظّلم الحاصل بالمطل، فإنّه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال دون المحيل ففي قبول الحوالة إعانة على كفّه عن الظّلم. وفي الحديث الزّجر عن المطل، واختلف. هل يعدّ فعله عمداً

كبيرة أم لا؟. فالجمهور. على أنّ فاعله يفسق. لكن هل يثبت فسقه بمطله مرّة واحدة أم لا؟. قال النّوويّ: مقتضى مذهبنا اشتراط التّكرار، وردّه السّبكيّ في " شرح المنهاج " بأنّ مقتضى مذهبنا عدمه. واستدل بأنّ منع الحقّ بعد طلبه وابتغاء العذر عن أدائه كالغصب والغصب كبيرة، وتسميته ظلماً يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التّكرار. نعم لا يحكم عليه بذلك إلَّا بعد أن يظهر عدم عذره. انتهى. واختلفوا هل يفسق بالتّأخير مع القدرة قبل الطّلب أم لا؟. فالذي يشعر به حديث الباب التّوقّف على الطّلب , لأنّ المطل يشعر به، ويدخل في المطل كل من لزمه حقّ كالزّوج لزوجته والسّيّد لعبده والحاكم لرعيّته وبالعكس. واستدل به على أنّ العاجز عن الأداء لا يدخل في الظّلم، وهو بطريق المفهوم لأنّ تعليق الحكم بصفةٍ من صفات الذّات يدل على نفي الحكم عن الذّات عند انتفاء تلك الصّفة، ومن لَم يقل بالمفهوم أجاب: بأنّ العاجز لا يسمّى ماطلاً، وعلى أنّ الغنيّ الذي ماله غائب عنه لا يدخل في الظّلم، وهل هو مخصوص من عموم الغنيّ , أو ليس هو في الحكم بغنيٍّ؟. الأظهر الثّاني , لأنّه في تلك الحالة يجوز إعطاؤه من سهم الفقراء

من الزّكاة، فلو كان في الحكم غنيّاً لَم يجز ذلك. واستنبط منه أنّ المعسر لا يحبس , ولا يطالب حتّى يوسر. قال الشّافعيّ: لو جازت مؤاخذته لكان ظالماً، والفرض أنّه ليس بظالمٍ لعجَزَه. وقال بعض العلماء: له أن يحبسه. وقال آخرون: له أن يلازمه. واستُدلّ به على أنّ الحوالة إذا صحّت ثمّ تعذّر القبض بحدوث حادث كموتٍ أو فلسٍ لَم يكن للمحتال الرّجوع على المحيل، لأنّه لو كان له الرّجوع لَم يكن لاشتراط الغنى فائدة، فلمّا شرطت علم أنّه انتقل انتقالاً لا رجوع له كما لو عوّضه عن دينه بعوضٍ , ثمّ تلف العوض في يد صاحب الدّين فليس له رجوع. وقال الحنفيّة: يرجع عند التّعذّر، وشبّهوه بالضّمان. وأخرج ابن أبي شيبة والأثرم - واللفظ له - عن قتادة والحسن , أنّهما سُئلا عن رجل احتال على رجل فأفلس، قالا: إنْ كان مليّاً يوم احتال عليه فليس له أن يرجع. وقيّده أحمد , بما إذا لَم يعلم المحتال بإفلاس المحال عليه. وعن الحَكَم: لا يرجع إلَّا إذا مات المحال عليه. وعن الثّوريّ: يرجع بالموت , وأمّا بالفلس فلا يرجع إلَّا بمحضر المحيل والمحال عليه. وقال أبو حنيفة: يرجع بالفلس مطلقاً سواء عاش أو مات , ولا

يرجع بغير الفلس. وقال مالك: لا يرجع إلَّا إن غرّه كأن علم فلس المحال عليه , ولَم يعلمه بذلك. وقال الحسن وشريحٌ وزفر: الحوالة كالكفالة فيرجع على أيّهما شاء، وبه يشعر إدخال البخاريّ أبواب الكفالة في كتاب الحوالة. وذهب الجمهور إلى عدم الرّجوع مطلقاً. واحتجّ الشّافعيّ: بأنّ معنى قول الرّجل أحلته وأبرأني حوّلت حقّه عنّي وأثبتّه على غيري. وذكر أنّ محمّد بن الحسن احتجّ لقوله (¬1) بحديث عثمان , أنّه قال في الحوالة أو الكفالة: يرجع صاحبها لا توى (أي: لا هلاك) على مُسلمٍ " قال: فسألته عن إسناده. فذكره عن رجل مجهول عن آخر معروف. لكنّه منقطع بينه وبين عثمان. فبطل الاحتجاج به من أوجه. قال البيهقيّ: أشار الشّافعيّ بذلك إلى ما رواه شعبة عن خليد بن جعفر عن معاوية بن قرّة عن عثمان، فالمجهول خليد , والانقطاع بين معاوية بن قرّة وعثمان، وليس الحديث مع ذلك مرفوعاً، وقد شكّ راويه. هل هو في الحوالة أو الكفالة؟. واستُدل به على ملازمة المماطل وإلزامه بدفع الدّين والتّوصّل إليه بكل طريق وأخذه منه قهراً. ¬

_ (¬1) أي: لقول أبي حنيفة المتقدّم , فهو يوافق شيخه في هذه المسألة.

واستُدل به على اعتبار رضا المحيل والمحتال دون المحال عليه , لكونه لَم يذكر في الحديث، وبه قال الجمهور. وعن الحنفيّة: يشترط أيضاً، وبه قال الإصطخريّ من الشّافعيّة. وفيه الإرشاد إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب لأنّه زجر عن المماطلة. وهي تؤدّي إلى ذلك. فائدة: أخرج أحمد وإسحاق في " مسنديهما " وأبو داود والنّسائيّ من حديث عمرو بن الشّريد بن أوس الثّقفيّ عن أبيه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: لَيُّ الواجد يُحل عرضه وعقوبته. وإسناده حسن، وذكر الطّبرانيّ أنّه لا يروى إلَّا بهذا الإسناد. الليّ بالفتح المطل، لوى يلوي. والواجد بالجيم الغنيّ، من الوجد بالضّمّ بمعنى القدرة. ويحل بضمّ أوّله. أي: يجوّز وصفه بكونه ظالماً. قال سفيان: عرضه يقول مطلني , وعقوبته الحبس.

باب الفلس

باب الفلس الحديث التاسع والعشرون 285 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس، فهو أحقّ به من غيره. (¬1) قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هو شكٌّ من أحد رواته , وأظنّه من زهير، فإنّي لَم أر في رواية أحد ممّن رواه عن يحيى بن سعيد - مع كثرتهم فيه - التّصريح بالسّماع، وهذا مشعر بأنّه كان لا يرى الرّواية بالمعنى أصلاً. قوله: (من أدرك ماله بعينه) استدل به على أنّ شرط استحقاق صاحب المال دون غيره أن يجد ماله بعينه لَم يتغيّر , ولَم يتبدّل، وإلَّا فإن تغيّرت العين في ذاتها بالنّقص مثلاً , أو في صفةٍ من صفاتها فهي أسوةٌ للغرماء. وأصرح منه رواية مسلم من طريق ابن أبي حسين عن أبي بكر بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2272) ومسلم (1559) من طريق يحيى بن سعيد , ومسلم (1559) من طريق ابن أبي حسين كلاهما عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (1559) من وجهين آخرين عن بشير بن نهيك وعراك عن أبي هريرة نحوه

محمّد بن عمرو بن حزمٍ. بلفظ: إذا وجد عنده المتاع ولَم يفرّقه. ووقع في رواية مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث مرسلاً: أيّما رجلٍ باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه , ولَم يقبض البائع من ثمنه شيئاً , فوجده بعينه فهو أحقّ به. فمفهومه أنّه إذا قبض من ثمنه شيئاً كان أسوة الغرماء , وبه صرّح ابن شهاب فيما رواه عبد الرّزّاق عن معمرٍ عنه، وهذا - وإن كان مرسلاً - فقد وصله عبد الرّزّاق في " مصنّفه " عن مالك , لكنّ المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزّهريّ، وقد وصله الزّبيديّ عن الزّهريّ , أخرجه أبو داود وابن خزيمة وابن الجارود. ولابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز - أحد رواة هذا الحديث - قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه أحقّ به من الغرماء إلَّا أن يكون اقتضى من ماله شيئاً فهو أسوة الغرماء. وإليه يشير اختيار البخاريّ لاستشهاده بأثر عثمان (¬1) , وكذلك رواه عبد الرّزّاق عن طاوس وعطاء صحيحاً. وبذلك قال جمهورُ مَن أخذ بعموم حديث الباب. إلَّا أنّ للشّافعيّ ¬

_ (¬1) قال البخاري في " الصحيح " (2/ 845) وقال سعيد بن المسيب: قضى عثمان من اقتضى من حقه قبل أن يُفلس فهو له , ومن عرف بعينه فهو أحق به. قال ابن حجر (5/ 78): وصله أبو عبيد في " كتاب الأموال " والبيهقي بإسناد صحيح إلى سعيد , ولفظه " أفلس مولى لأم حبيبة فاختصم فيه إلى عثمان فقضى " فذكره. وقال فيه " قبل أن يبين إفلاسه " بدل قوله " قبل أن يفلس "، والباقي سواء.

قولاً هو الرّاجح في مذهبه , أن لا فرق بين تغيّر السّلعة أو بقائها، ولا بين قبض بعض ثمنها أو عدم قبض شيءٍ منه , على التّفاصيل المشروحة في كتب الفروع. قوله: (عند رجلٍ أو إنسان) شكٌّ من الرّاوي أيضاً. قوله: (قد أفلس) أي: تبيّن إفلاسه. والمفلس شرعاً من تزيد ديونه على موجوده. سُمّي مفلساً: لأنّه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير إشارةً إلى أنّه صار لا يملك إلَّا أدنى الأموال وهي الفلوس. أو سُمّي بذلك: لأنّه يمنع التّصرّف إلَّا في الشّيء التّافه كالفلوس , لأنّهم ما كانوا يتعاملون بها إلَّا في الأشياء الحقيرة. أو سُمّي لأنّه صار إلى حالةٍ لا يملك فيها فلساً، فعلى هذا فالهمزة في أفلس للسّلب. قوله: (فهو أحقّ به من غيره) أي: كائناً من كان وارثاً وغريماً. وبهذا قال جمهور العلماء. وهو القول الأول. القول الثاني: خالف الحنفيّة: فتأوّلوه لكونه خبر واحد خالف الأصول، لأنّ السّلعة صارت بالبيع ملكاً للمشتري ومن ضمانه، واستحقاق البائع أخذها منه نقضٌ لملكه. وحملوا الحديث على صورةٍ , وهي ما إذا كان المتاع وديعة أو عاريّة أو لقطة. وتعقّب: بأنّه لو كان كذلك لَم يقيّد بالفلس ولا جعل أحقّ بها لِما

يقتضيه صيغة أفعل من الاشتراك، وأيضاً فما ذكروه ينتقض بالشّفعة. وأيضاً فقد ورد التّنصيص في حديث الباب على أنّه في صورة المبيع، وذلك فيما رواه سفيان الثّوريّ في " جامعه ". وأخرجه من طريقه ابن خزيمة وابن حبّان وغيرهما عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد بلفظ " إذا ابتاع الرّجل سلعةً ثمّ أفلس وهي عنده بعينها فهو أحقّ بها من الغرماء ". ولابن حبّان من طريق هشام بن يحيى المخزوميّ عن أبي هريرة بلفظ " إذا أفلس الرّجل فوجد البائع سلعته " والباقي مثله. ولمسلمٍ في رواية ابن أبي حسين المشار إليها قبل " إذا وجد عنده المتاع أنّه لصاحبه الذي باعه ". وفي مرسل ابن أبي مُلَيكة عند عبد الرّزّاق " من باع سلعةً من رجلٍ لَم ينقده , ثمّ أفلس الرّجل فوجدها بعينها. فليأخذها من بين الغرماء " وفي مرسل مالكٍ المشار إليه " أيّما رجلٍ باع متاعاً ". وكذا هو عند من قدّمنا أنّه وصله. فظهر أنّ الحديث واردٌ في صورة البيع، ويلتحق به القرض وسائر ما ذكر من باب الأولى. تنبيهٌ: وقع في الرّافعيّ سياق الحديث بلفظ الثّوريّ الذي قدّمته. فقال السّبكيّ في " شرح المنهاج ": هذا الحديث أخرجه مسلم بهذا اللفظ , وهو صريحٌ في المقصود , فإنّ اللفظ المشهور. أي: الذي في البخاريّ عامٌّ أو محتمل، بخلاف لفظ البيع فإنّه نصٌّ لا احتمال فيه.

وهو لفظ مسلم، قال: وجاء بلفظه بسندٍ آخر صحيحٍ. انتهى واللفظ المذكور ما هو في صحيح مسلمٍ , وإنّما فيه ما قدّمته. والله المستعان. وحمله بعض الحنفيّة أيضاً على ما إذا أفلس المشتري قبل أن يقبض السّلعة. وتعقّب: بقوله في حديث الباب " عند رجل " ولابن حبّان من طريق سفيان الثّوريّ عن يحيى بن سعيد " ثمّ أفلس وهي عنده ". وللبيهقيّ من طريق ابن شهاب عن يحيى " إذا أفلس الرّجل وعنده متاع " فلو كان لَم يقبضه ما نصّ في الخبر على أنّه عنده. واعتذارهم بكونه خبر واحدٍ فيه نظرٌ، فإنّه مشهورٌ من غير هذا الوجه، أخرجه ابن حبّان من حديث ابن عمر. وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد وأبو داود من حديث سمرة. وإسناده حسن. وقضى به عثمان وعمر بن عبد العزيز كما مضى , وبدون هذا يخرج الخبر عن كونه فرداً غريباً. قال ابن المنذر: لا نعرف لعثمان في هذا مخالفاً من الصّحابة. وتعقّب: بما روى ابن أبي شيبة عن عليّ , أنّه أسوة الغرماء. وأجيب: بأنّه اختلف على عليٍّ في ذلك بخلاف عثمان. وقال القرطبيّ في " المفهم ": تعسّف بعض الحنفيّة في تأويل هذا الحديث بتأويلاتٍ لا تقوم على أساس. وقال النّوويّ: تأوّله بتأويلاتٍ ضعيفةٍ مردودةٍ. انتهى.

واختلف القائلون في صورةٍ. وهي ما إذا مات ووُجدت السّلعة. القول الأول: قال الشّافعيّ: الْحُكم كذلك , وصاحب السّلعة أحقّ بها من غيره. القول الثاني: قال مالك وأحمد: هو أسوة الغرماء. واحتجّا بما في مرسل مالكٍ " وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء " وفرّقوا بين الفلس والموت. بأنّ الميّت خربت ذمّته فليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك، بخلاف المفلس. واحتجّ الشّافعيّ: بما رواه من طريق عمر بن خلدة - قاضي المدينة - عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه " وهو حديث حسنٌ يحتجّ بمثله. أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه وصحَّحه الحاكم، وزاد بعضهم في آخره " إلَّا أن يترك صاحبه وفاء ". ورجّحه الشّافعيّ على المرسل. وقال: يحتمل أن يكون آخره من رأي أبي بكر بن عبد الرّحمن , لأنّ الذين وصلوه عنه لَم يذكروا قضيّة الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة , وغيره لَم يذكروا ذلك، بل صرّح ابن خلدة عن أبي هريرة بالتّسوية بين الإفلاس والموت فتعيّن المصير إليه , لأنّها زيادةٌ من ثقة. وجزم ابن العربيّ المالكيّ: بأنّ الزّيادة التي في مرسل مالكٍ من قول الرّاوي. وجمع الشّافعيّ أيضاً بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما

إذا مات مفلساً , وحديث أبي بكر بن عبد الرّحمن على ما إذا مات مليئاً. والله أعلم. ومن فروع المسألة: ما إذا أراد الغرماء , أو الورثة إعطاء صاحب السّلعة الثّمن. فقال مالك: يلزمه القبول. وقال الشّافعيّ وأحمد: لا يلزمه ذلك لِما فيه من المنّة، ولأنّه ربّما ظهر غريم آخر فزاحمه فيما أخذ. وأغرب ابن التّين فحكى عن الشّافعيّ أنّه قال: لا يجوز له ذلك، ليس له إلَّا سلعته. ويلتحق بالمبيع المؤجّر. فيرجع مكتري الدّابّة أو الدّار إلى عين دابّته وداره ونحو ذلك، وهذا هو الصّحيح عن الشّافعيّة والمالكيّة. وإدراج الإجارة في هذا الحكم متوقّف على أنّ المنافع يُطلق عليها اسم المتاع أو المال، أو يقال اقتضى الحديث أن يكون أحقّ بالعين , ومن لوازم ذلك الرّجوع في المنافع فثبت بطريق اللزوم. واستدل به على حلول الدّين المؤجّل بالفلس من حيث إنّ صاحب الدّين أدرك متاعه بعينه فيكون أحقّ به، ومن لوازم ذلك أن يجوز له المطالبة بالمؤجّل. وهو قول الجمهور. لكنّ الرّاجح عند الشّافعيّة أنّ المؤجّل لا يحل بذلك , لأنّ الأجل حقّ مقصود له فلا يفوت. واستدل به على أنّ لصاحب المتاع أن يأخذه , وهو الأصحّ من قولي

العلماء. والقول الآخر: يتوقّف على حكم الحاكم كما يتوقّف ثبوت الفلس. واستدل به على فسخ البيع إذا امتنع المشتري من أداء الثّمن مع قدرته بمطلٍ أو هربٍ قياساً على الفلس بجامع تعذّر الوصول إليه حالاً، والأصحّ من قولي العلماء أنّه لا يفسخ. واستدل به على أنّ الرّجوع إنّما يقع في عين المتاع دون زوائده المنفصلة , لأنّها حدثت على ملك المشتري. وليست بمتاع البائع. والله أعلم.

باب الشفعة

باب الشفعة الشّفعة: بضمّ المعجمة وسكون الفاء. وغلط من حرّكها. وهي مأخوذة لغة من الشّفع وهو الزّوج. وقيل: من الزّيادة. وقيل: من الإعانة. وفي الشّرع: انتقال حصّة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبيّ بمثل العوض المسمّى. ولَم يختلف العلماء في مشروعيّتها , إلَّا ما نقل عن أبي بكر الأصمّ من إنكارها.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون 286 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , قال: جعل , وفي لفظ: قضى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالشّفعة في كل مالٍ لَم يُقسم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِّفت الطّرق فلا شفعة. (¬1) قوله: (في كل مالٍ لَم يُقسم) وللبخاري من رواية عبد الواحد بن زيادٍ وهشام بن يوسف عن معمرٍ عن الزهري " كل ما لَم يقسم ". وله أيضاً من رواية عبد الرّزّاق عن معمرٍ " كل مالٍ " , وكذا قال عبد الرّحمن بن إسحاق عن الزّهريّ، أخرجه مسدّدٌ في " مسنده " عن بشر بن المفضّل عنه. ووقع عند السّرخسيّ (¬2) في رواية عبد الرّزّاق , وفي رواية عبد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2099 , 2100 , 2101 , 2138 , 2363 , 2364 , 6575) من طرق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرج مسلم (1608) من طريق أبي الزبير عن جابر. دون قوله: فإذا وقعت .. الخ وسيذكر الشارح لفظه. (¬2) ابن حمويه. الامام المحدث الصدوق المسند، أبو محمد، عبد الله بن أحمد بن حمويه خطيب سرخس. سمع في سنة 316 الصحيح " من أبي عبد الله الفربري , حدَّث عنه: الحافظ أبو ذر الهروي وغيره. قال أبو ذر: قرأت عليه وهو ثقة، صاحب أصول حسان. قلت: له جزء مفرد، عدَّ فيه أبواب " الصحيح " وما في كل باب من الاحاديث. فأورد ذلك الشيخ محيي الدين النواوي في أول شرحه لصحيح البخاري. مولده في سنة 293. وقال أبو يعقوب القراب: توفي لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 381 هـ. قاله الذهبي في السير (16/ 493).بتجوّز.

الواحد في الموضعين " كل مالٍ ". وللباقين (¬1) " كل ما " في رواية عبد الواحد , و " كل مالٍ " في رواية عبد الرّزّاق. وقد رواه إسحاق عن عبد الرّزّاق بلفظ " قضى بالشّفعة في الأموال ما لَم تقسم " وهو يرجّح رواية غير السّرخسيّ. وقوله " كل ما لَم يقسم " يشعر باختصاص الشّفعة بما يكون قابلاً للقسمة بخلاف اللفظ " كل مال لَم يقسم " قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرّفت الطّرق فلا شفعة) أي: بيّنت مصارف الطّرق وشوارعها، كأنّه من التّصرّف أو من التّصريف. وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتقّ من الصِّرف بكسر المهملة الخالص من كل شيء. وهذا الحديث أصل في ثبوت الشّفعة، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الزّبير عن جابر بلفظ " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشّفعة في كل شرك لَم يقسم رَبْعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتّى يؤذن شريكه: فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولَم يؤذنه فهو أحقّ به ". وقد تضمّن هذا الحديث ثبوت الشّفعة في المشاع، وصدره يشعر بثبوتها في المنقولات، وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار وبما فيه العقار. وقد أخذ بعمومها في كل شيء. مالك في رواية، وهو قول عطاء. ¬

_ (¬1) أي رواة صحيح البخاري غير السرخسي.

وعن أحمد: تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات. وروى البيهقيّ من حديث ابن عبّاس مرفوعاً " الشّفعة في كل شيء " ورجاله ثقات إلَّا أنّه أُعلَّ بالإرسال، وأخرج الطّحاويّ له شاهداً من حديث جابر بإسنادٍ لا بأس برواته. قال عياض: لو اقتصر في الحديث على القطعة الأولى لكانت فيه دلالة على سقوط شفعة الجوار، ولكن أضاف إليها صرف الطّرق، والمترتّب على أمرين لا يلزم منه ترتّبه على أحدهما. واستدل به على عدم دخول الشّفعة فيما لا يقبل القسمة، وعلى ثبوتها لكل شريك. وعن أحمد: لا شفعة لذمّيٍّ. وعن الشّعبيّ: لا شفعة لمن لَم يسكن المصر. وفيه جواز قسمة الأرض والدّار، وإلى جوازه ذهب الجمهور صغرت الدّار أو كبرت، واستثنى بعضهم التي لا ينتفع بها لو قسمت فتمتنع قسمتها. وحديث جابر صريح في اختصاص الشّفعة بالشّريك. وحديث أبي رافع في البخاري " الجار أحقّ بسقبه " (¬1) مصروف الظّاهر اتّفاقاً , لأنّه يقتضي أن يكون الجار أحقّ من كل أحدٍ حتّى من ¬

_ (¬1) بفتح المهملة والقاف بعدها موحدة، والسقب بالسين المهملة وبالصاد أيضاً , ويجوز فتح القاف وإسكانها: القرب والملاصقة. قاله الحافظ.

الشّريك، والذين قالوا بشفعة الجار قدّموا الشّريك مطلقاً ثمّ المشارك في الطّريق (¬1). ثمّ الجار على من ليس بمجاور، فعلى هذا فيتعيّن تأويل قوله " أحقّ " بالحمل على الفضل أو التّعهّد ونحو ذلك. واحتجّ من لَم يقل بشفعة الجوار أيضاً: بأنّ الشّفعة ثبتت على خلاف الأصل لمعنىً معدوم في الجار , وهو أنّ الشّريك ربّما دخل عليه شريكه فتأذّى به فدعت الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضّرر بنقص قيمة ملكه، وهذا لا يوجد في المقسوم. والله أعلم. تكميل: قال البخاري في " صحيحه ": قال بعض النّاس الشّفعة للجوار. ثمّ عمد إلى ما شدّده فأبطله، وقال: إن اشترى داراً فخاف أن يأخذ الجار بالشّفعة، فاشترى سهماً من مائة سهمٍ، ثمّ اشترى الباقى، وكان للجار الشّفعة فى السّهم الأوّل، ولا شفعة له فى باقى الدّار، وله أن يحتال فى ذلك. انتهى قال ابن بطّال: أصل هذه المسألة , أنّ رجلاً أراد شراء دار فخاف ¬

_ (¬1) لحديث جابر - رضي الله عنه - , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الجار أحق بشفعة جاره. يُنتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً. أخرجه الإمام أحمد (3/ 303) والدارمي رقم (2627) وأبو داود (3518) والترمذي (1369) وابن ماجه (2494) والبيهقي (6/ 106) وغيرهم من طريق عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه به. قال ابن حجر في الدراية: قال الترمذي لا نعلم مَن رواه إلَّا عبدالملك , وقد تكلَّم شعبة فيه لأجل هذا الحديث , قال الشافعي: نخاف أن لا يكون محفوظاً , وقال أحمد: هو منكر , وقال يحيى بن سعيد: أنكره الناس عليه , ويقال: إنه رأي عطاءٍ أدرجه عبدالملك. انتهى

أن يأخذها جاره بالشّفعة، فسأل أبا حنيفة كيف الحيلة في إسقاط الشّفعة؟ فقال له: اشتر منها سهماً واحداً من مائة سهم فتصير شريكاً لمالكها، ثمّ اشتر منه الباقي فتصير أنت أحقّ بالشّفعة من الجار , لأنّ الشّريك في المشاع أحقّ من الجار، وإنّما أمره بأن يشتري سهماً من مائة سهم لعدم رغبة الجار شراء السّهم الواحد لحقارته وقلة انتفاعه به، قال: وهذا ليس فيه شيء من خلاف السّنّة. وإنّما أراد البخاريّ إلزامهم التّناقض , لأنّهم احتجّوا في شفعة الجار بحديث " الجار أحقّ بسقبه " ثمّ تحيّلوا في إسقاطها بما يقتضي أن يكون غير الجار أحقّ بالشّفعة من الجار. انتهى. والمعروف عند الحنفيّة , أنّ الحيلة المذكورة لأبي يوسف. وأمّا محمّد بن الحسن فقال: يكره ذلك أشدّ الكراهية , لأنّ الشّفعة شرعت لدفع الضّرر عن الشّفيع فالذي يحتال لإسقاطها بمنزلة القاصد إلى الإضرار بالغير وذلك مكروه، ولا سيّما إن كان بين المشتري وبين الشّفيع عداوة ويتضرّر من مشاركته. ثمّ إنّ محل هذا إنّما هو فيمن احتال قبل وجوب الشّفعة , أمّا بعده كمَن قال للشّفيع: خذ هذا المال ولا تطالبني بالشّفعة , فرضي وأخذ , فإنّ شفعته تبطل اتّفاقاً. انتهى. تنبيهٌ: حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أنّ قوله " فإذا وقعت الحدود إلخ " مُدرج من كلام جابر. وفيه نظرٌ , لأنّ الأصل أنّ كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتّى

يثبت الإدراج بدليلٍ. وقد نقل صالح بن أحمد عن أبيه , أنّه رجّح رفعها.

باب الوقف

باب الوقف الحديث الواحد والثلاثون 287 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: أصاب عمرُ أرضاً بخيبر، فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسولَ الله، إني أصبت أرضاً بخيبر. لَم أصب مالاً قطّ هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: إن شئتَ حبَّست أصلها وتصدَّقتَ بها، قال: فتصدَّق بها عمر، غير أنّه لا يُباعُ أصلُها، ولا يُورث، ولا يُوهب، قال: فتصدَّق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من ولِيها، أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً، غير متموّلٍ فيه. (¬1) وفي لفظ: غير متأثّلٍ. (¬2) قوله: (عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أصاب عمر) كذا لأكثر الرّواة عن نافع، ثمّ عن ابن عون جعلوه في مسند ابن عمر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2586 , 2613، 2620، 2621، 2625) ومسلم (1632) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) هذه الرواية وقعت في البخاري (2586) من طريق الأنصاري , ومسلم (1632) من طريق سليم بن أخضر كلاهما عن ابن عون عن نافع. فذكر الحديث. ثم قال: فحدَّثت بهذا الحديث محمد بن سيرين. فلمَّا بلغتُ هذا المكان " غير متمول فيه " قال محمد: غير متأثل مالاً. وللبخاري (2189) عن عمرو بن دينار , قال: في صدقة عمر - رضي الله عنه -: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقا غير متأثل مالاً. فكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر يهدي لناسٍ من أهل مكة كان ينزل عليهم.

لكن أخرجه مسلم والنّسائيّ من رواية سفيان الثّوريّ , والنّسائيّ من رواية أبي إسحاق الفزاريّ كلاهما عن عبد الله بن عون، والنّسائيّ من رواية سعيد بن سالم عن عبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع عن ابن عمر عن عمر. جعله من مسند عمر، والمشهور الأوّل. قوله: (أرضاً بخيبر) وللبخاري في رواية صخر بن جويرية عن نافع , أنّ اسمها ثَمْغ، وكذا لأحمد من رواية أيّوب " أنّ عمر أصاب أرضاً من يهود بني حارثة يقال لها ثَمْغ " ونحوه في رواية سعيد بن سالم المذكورة، وكذا للدّارقطنيّ من طريق الدّراورديّ عن عبد الله بن عمر، وللطّحاويّ من رواية يحيى بن سعيد. وروى عمر بن شبّة بإسنادٍ صحيح عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم , أنّ عمر رأى في المنام ثلاث ليالٍ أن يتصدّق بثمغ. وللنّسائيّ من رواية سفيان عن عبد الله بن عمر , جاء عمر فقال: يا رسولَ الله إنّي أصبت مالاً لَم أصب مالاً مثله قطّ , كان لي مائة رأس فاشتريت بها مائة سهم من خيبر من أهلها. فيحتمل: أن تكون ثمغ من جملة أراضي خيبر , وأنّ مقدارها كان مقدار مائة سهم من السّهام التي قسمها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين من شهد خيبر. وهذه المائة السّهم غير المائة السّهم التي كانت لعمر بن الخطّاب بخيبر التي حصلها من جزئه من الغنيمة وغيره. وسيأتي بيان ذلك في صفة كتاب وقف عمر من عند أبي داود وغيره.

وذكر عمر بن شبّة بإسنادٍ ضعيف عن محمّد بن كعب , أنّ قصّة عمر هذه كانت في سنة سبع من الهجرة. وثَمْغ: بفتح المثلثة وسكون الميم بعدها معجمة. ومنهم من فتح الميم. حكاه المنذريّ. قال أبو عبيد البكريّ: هي أرض تلقاء المدينة كانت لعمر. قوله: (أنفس عندي منه) أي: أجود، والنّفيس الجيّد المغتبط به، يقال: نفس بفتح النّون وضمّ الفاء نفاسة. وقال الدّاوديّ: سمّي نفيساً , لأنّه يأخذ بالنّفس. وفي رواية صخر بن جويرية " إنّي استفدت مالاً وهو عندي نفيس , فأردت أن أتصدّق به " وقد تقدّم في مرسل أبي بكر بن حزم , أنّه رأى في المنام الأمر بذلك. ووقع في رواية للدّارقطنيّ إسنادها ضعيف , أنّ عمر قال: يا رسولَ الله إنّي نذرت أن أتصدّق بمالي. ولَم يثبت هذا. وإنّما كان صدقة تطوّع كما سأوضّحه من حكاية لفظ كتاب الوقف المذكور إن شاء الله تعالى. قوله: (فما تأمرني به) في رواية يحيى بن سعيد " أنّ عمر استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يتصدّق ". قوله: (إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها) أي: بمنفعتها، وبيّن ذلك ما في رواية عبيد الله بن عمر " احبس أصلها وسبّل ثمرتها " وفي رواية يحيى بن سعيد " تصدّق بثمره وحبّس أصله ".

قوله: (فتصدّق بها عمر , أنّه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب) زاد في رواية مسلم من هذا الوجه " ولا تبتاع ". زاد الدّارقطنيّ من طريق عبد الله بن عمر عن نافع " حبيس ما دامت السّماوات والأرض ". كذا لأكثر الرّواة عن نافع، ولَم يختلف فيه عن ابن عون إلَّا ما وقع عند الطّحاويّ من طريق سعيد بن سفيان الجحدريّ عن ابن عون. فذكره بلفظ صخر بن جويرية الآتي، والجحدريّ إنّما رواه عن صخر لا عن ابن عون. قال السّبكيّ: اغتبطت بما وقع في رواية يحيى بن سعيد عن نافع عند البيهقيّ " تصدّق بثمره وحبّس أصله. لا يباع ولا يورث " وهذا ظاهره أنّ الشّرط من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخلاف بقيّة الرّوايات. فإنّ الشّرط فيها ظاهره أنّه من كلام عمر. قلت: رواه البخاري من طريق صخر بن جويرية عن نافع بلفظ: فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: تصدّق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره. وهي أتمّ الرّوايات وأصرحها في المقصود. فعزوها إلى البخاريّ أولى، وقد علَّقه البخاريّ في المزارعة بلفظ: قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمر: تصدّق بأصله لا يباع ولا يوهب , ولكن لينفق ثمره فتصدّق به. وحكيت هناك. أنّ الدّاوديّ الشّارح أنكر هذا اللفظ، ولَم يظهر لي إذ ذاك سبب إنكاره، ثمّ ظهر لي أنّه بسبب التّصريح برفع الشّرط إلى

النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، على أنّه ولو كان الشّرط من قول عمر فما فعله إلَّا لِمَا فهمه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له: احبس أصلها وسبّل ثمرتها. وقوله: " تصدّق " صيغة أمر , وقوله: " فتصدّق " بصيغة: الفعل الماضي. قوله: (فتصدق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف) جميع هؤلاء الأصناف إلَّا الضّيف هم المذكورون في آية الزّكاة. وقوله " وفي القربى " يحتمل: أن يكون فيمن ذكر في الخمس. ويحتمل: أن يكون المراد بهم قربى الواقف، وبهذا الثّاني جزم القرطبيّ. والضّيف معروف: وهو من نزل بقومٍ يريد القِرَى. قوله: (أن يأكل منها بالمعروف) قال القرطبيّ: جرت العادة بأنّ العامل يأكل من ثمرة الوقف، حتّى لو اشترط الواقف أنّ العامل لا يأكل منه يستقبح ذلك منه. والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة. وقيل: القدر الذي يدفع به الشّهوة. وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله، والأولى أولى. قوله: (أو يطعم) في رواية صخر " أو يؤكل " بإسكان الواو وهي بمعنى يطعم. زاد البخاري عن عمرو بن دينار: فكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر، يهدي لناسٍ من أهل مكّة كان ينزل عليهم.

وإنّما كان ابن عمر يهدي منه أخذاً بالشّرط المذكور , وهو أن يطعم صديقه. ويحتمل: أن يكون إنّما يطعمهم من نصيبه الذي جعل له أن يأكل منه بالمعروف فكان يوفّره ليهدي لأصحابه منه. قوله: (غير متموّل فيه) في رواية الأنصاريّ عند البخاري " غير متموّل به " (¬1) والمعنى غير متّخذ منها مالاً. أي: ملكاً، والمراد أنّه لا يتملك شيئاً من رقابها، و " مالاً " منصوب على التّمييز. وزاد الأنصاريّ وسليم (¬2). قال: فحدّثت به ابن سيرين فقال: غير متأثّل مالاً. والقائل " فحدّثت به " هو ابن عون راويه عن نافع، بيّن ذلك الدّارقطنيّ من طريق أبي أسامة عن ابن عون , قال: ذكرت حديث نافع لابن سيرين فذكره، زاد سليم: قال ابن عون: وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أنّ فيه " غير متأثّل مالاً ". وفي رواية التّرمذيّ من طريق ابن عليّة عن ابن عون , حدّثني رجلٌ ¬

_ (¬1) كذا قال الشارح. والذي في رواية الأنصاري - وهو محمد بن عبد الله - في آخر الشروط (2737) في ط البغا. وفي فتح الباري ط السلفية " غير متموّل " فقط , أما زيادة " به " فهي في رواية صخر بن جويرية في البخاري (2764). ولا أدري أهو وهمٌ من الحافظ. أم اختلاف في الرواية. قال الشارح في الفتح (6/ 489): الأنصاري المذكور أحد شيوخ البخاري أخرج عنه عدة أحاديث بغير واسطة منها حديث أبي بكر في أنصبة الزكاة , وأخرج عنه في مواضع بواسطة , وكان الأنصاري المذكور قاضي البصرة , وقد تمذهب للكوفيين في الأوقاف , وصنَّف في الكلام على هذا الحديث جزءاً مفرداً. انتهى (¬2) أي: ابن أخضر. وروايته عند مسلم كما تقدَّم في التخريج.

أنّه قرأها في قطعة أديم أحمر , قال ابن عليّة: وأنا قرأتها عند ابن عبيد الله بن عمر كذلك. وقد أخرج أبو داود صفة كتاب وقف عمر من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ , قال: نسخها لي عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله بن عمر. فذكره. وفيه " غير متأثّل " والمتأثّل. بمثنّاةٍ ثمّ مثلثة مشدّدة بينهما همزة هو المتّخذ، والتّأثّل اتّخاذ أصل المال حتّى كأنّه عنده قديم، وأثلة كلّ شيء أصله. قال الشّاعر: وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي (¬1) واشتراط نفي التّأثّل يقوّي ما ذهب إليه مَن قال: المراد من قوله: " يأكل بالمعروف " حقيقة الأكل , لا الأخذ من مال الوقف بقدر العمالة. قاله القرطبيّ. وزاد أحمد من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوب فذكر الحديث، قال حمّاد: وزعم عمرو بن دينار , أنّ عبد الله بن عمر , كان يهدي إلى عبد الله بن صفوان من صدقة عمر. وكذا رواه عمر بن شبّة من طريق حمّاد بن زيد عن عمر. وزاد عمر بن شبّة عن يزيد بن هارون عن ابن عون في آخر هذا الحديث " وأوصى بها عمر إلى حفصة أمّ المؤمنين , ثمّ إلى الأكابر من آل عمر " ونحوه في رواية عبيد الله بن عمر عند الدّارقطنيّ، وفي ¬

_ (¬1) البيت لامرئ القيس. وصدره. ولكنّما أسعى لمجدٍ مؤثّلٍ ..

رواية أيّوب عن نافع عند أحمد " يليه ذوو الرّأي من آل عمر ". فكأنّه كان أوّلاً شرَطَ أنّ النّظر فيه لذوي الرّأي من أهله , ثمّ عيّن عند وصيّته لحفصة، وقد بيّن ذلك عمر بن شبّة عن أبي غسّان المدنيّ , قال: هذه نسخة صدقة عمر أخذتها من كتابه الذي عند آل عمر فنسختها حرفاً حرفاً. هذا ما كتب عبدُ الله - عمرُ (¬1) أمير المؤمنين - في ثَمْغ، أنّه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفّيت فإلى ذوي الرّأي من أهلها. قلت: فذكر الشّرط كلّه نحو الذي تقدّم في الحديث المرفوع. ثمّ قال: والمائة وسق الذي أطعمني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فإنّها مع ثمغ على سننه الذي أمرت به، وإن شاء وليُّ ثَمْغٍ أن يشتري من ثمره رقيقاً يعملون فيه فعل. وكتب معيقيب , وشهد عبد الله بن الأرقم. وكذا أخرج أبو داود في روايته نحو هذا. وذكرا جميعاً كتاباً آخر نحو هذا الكتاب، وفيه من الزّيادة " وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه صدقة كذلك " وهذا يقتضي , أنّ عمر إنّما كتب كتاب وقفه في خلافته , لأنّ معيقيباً كان كاتبه في زمن خلافته، وقد وصفه فيه بأنّه أمير المؤمنين. فيحتمل: أن يكون وقفه في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - باللفظ , وتولى هو ¬

_ (¬1) عمر بدلٌ من (عبد اللهُ)

النّظر عليه إلى أن حضرته الوصيّة فكتب حينئذٍ الكتاب. ويحتمل: أن يكون أخّر وقفيّته , ولَم يقع منه قبل ذلك إلَّا استشارته في كيفيّته. وقد روى الطّحاويّ وابن عبد البرّ من طريق مالك عن ابن شهاب قال: قال عمر: لولا أنّي ذكرتُ صدقتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددتُها. فهذا يشعر بالاحتمال الثّاني , وأنّه لَم ينجّز الوقف إلَّا عند وصيّته. واستدل الطّحاويّ: بقول عمر هذا لأبي حنيفة وزفر , في أنّ إيقاف الأرض لا يمنع من الرّجوع فيها، وأنّ الذي منع عمر من الرّجوع كونه ذكره للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فكره أن يفارقه على أمر ثمّ يخالفه إلى غيره. ولا حجّة فيما ذكره من وجهين: أحدهما: أنّه منقطع , لأنّ ابن شهاب لَم يدرك عمر. ثانيهما: أنّه يحتمل ما قدّمته. ويحتمل: أن يكون عمر كان يرى بصحّة الوقف ولزومه إلَّا إن شرط الواقف الرّجوع فله أن يرجع. وقد روى الطّحاويّ عن عليٍّ مثل ذلك فلا حجّة فيه لمَن قال: بأنّ الوقف غير لازم مع إمكان هذا الاحتمال. وإن ثبت هذا الاحتمال كان حجّة لمَن قال: بصحّة تعليق الوقف. وهو عند المالكيّة , وبه قال ابن سريج. وقال: تعود منافعه بعد المدّة المعيّنة إليه ثمّ إلى ورثته، فلو كان التّعليق مآلاً صحّ اتّفاقاً كما لو قال: وقفته على زيد سنة ثمّ على الفقراء.

وحديث عمر هذا أصل في مشروعيّة الوقف. قال أحمد: حدّثنا حمّاد - هو ابن خالد - حدّثنا عبد الله - هو العمريّ - عن نافع عن ابن عمر قال: أوّل صدقة - أي موقوفة - كانت في الإسلام صدقة عمر. وروى عمر بن شبّة عن عمرو بن سعد بن معاذ. قال: سألنا عن أوّل حبس في الإسلام , فقال المهاجرون: صدقة عمر، وقال الأنصار: صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي إسناده الواقديّ. وفي " مغازي الواقديّ " , أنّ أوّل صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق - بالمعجمة مصغّر - التي أوصى بها إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فوقفها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال التّرمذيّ: لا نعلم بين الصّحابة والمتقدّمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين. انتهى وجاء عن شُريح , أنّه أنكر الحبس، ومنهم من تأوّله. وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه إلَّا زفر بن الهذيل , فحكى الطّحاويّ عن عيسى بن أبانٍ قال: كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا , فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدّثه به ابن عليّة، فقال: هذا لا يسع أحداً خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به , فرجع عن بيع الوقف حتّى صار كأنّه لا خلاف فيه بين أحد. انتهى. ومع حكاية الطّحاويّ هذا فقد انتصر كعادته , فقال: قوله في قصّة

عمر " حبّس الأصل وسبّل الثّمرة " لا يستلزم التّأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدّة اختياره لذلك. انتهى. ولا يخفى ضعف هذا التّأويل، ولا يفهم من قوله: " وقفت وحبست " إلَّا التّأبيد حتّى يصرّح بالشّرط عند من يذهب إليه، وكأنّه لَم يقف على الرّواية التي فيها " حبيس ما دامت السّموات والأرض ". قال القرطبيّ: ردّ الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه، وأحسن ما يعتذر به عمّن ردّه ما قاله أبو يوسف , فإنّه أعلم بأبي حنيفة من غيره. وأشار الشّافعيّ إلى أنّ الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي: وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أنّ ذلك وقع في الجاهليّة، وحقيقة الوقف شرعاً ورود صيغة تقطع تصرّف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به، وتثبت صرف منفعته في جهة خير. وفي حديث الباب من الفوائد: جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرّد من غير كنية ولا لقب. وفيه جواز إسناد الوصيّة، والنّظر على الوقف للمرأة وتقديمها على من هو من أقرانها من الرّجال. وفيه إسناد النّظر إلى من لَم يسمّ إذا وصف بصفةٍ معيّنة تميّزه، وأنّ الواقف يلي النّظر على وقفه إذا لَم يسنده لغيره. قال الشّافعيّ: لَم يزل العدد الكثير من الصّحابة فمن بعدهم يلون

أوقافهم، نقل ذلك الألوف عن الألوف لا يختلفون فيه. وفيه استشارة أهل العلم والدّين والفضل في طرق الخير سواء كانت دينيّة أو دنيويّة، وأنّ المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور. وفيه فضيلة ظاهرة لعمر لرغبته في امتثال قوله تعالى: (لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون). وفيه فضل الصّدقة الجارية، وصحّة شروط الواقف واتّباعه فيها، وأنّه لا يشترط تعيين المصرف لفظاً. وفيه أنّ الوقف لا يكون إلَّا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، فلا يصحّ وقف ما لا يدوم الانتفاع به كالطّعام. وفيه أنّه لا يكفي في الوقف لفظ الصّدقة سواء قال: تصدّقت بكذا أو جعلته صدقة حتّى يضيف إليها شيئاً آخر لتردّد الصّدقة بين أن تكون تمليك الرّقبة أو وقف المنفعة فإذا أضاف إليها ما يميّز أحد المحتملين صحّ، بخلاف ما لو قال: وقفت أو حبست , فإنّه صريح في ذلك على الرّاجح. وقيل: الصّريح الوقف خاصّة. وفيه نظرٌ. لثبوت التّحبيس في قصّة عمر هذه، نعم. لو قال: تصدّقت بكذا على كذا وذكر جهة عامّة صحّ. وتمسّك: من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدّقت بهذا بما وقع في حديث الباب من قوله " فتصدّق بها عمر " ولا حجّة في ذلك لِمَا قدّمته من أنّه

أضاف إليها " لا تباع ولا توهب ". ويحتمل أيضاً: أن يكون قوله " فتصدّق بها عمر " راجعاً إلى الثّمرة على حذف مضاف. أي: فتصدّق بثمرتها , فليس فيه متعلق لمن أثبت الوقف بلفظ الصّدقة مجرّداً , وبهذا الاحتمال الثّاني جزم القرطبيّ. وفيه جواز الوقف على الأغنياء. لأنّ ذوي القربى والضّيف لَم يقيّد بالحاجة , وهو الأصحّ عند الشّافعيّة. وفيه أنّ للواقف أن يشترط لنفسه جزءاً من ريع الموقوف , لأنّ عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف , ولَم يستثن إن كان هو النّاظر أو غيره فدلَّ عن صحّة الشّرط، وإذا جاز في المبهم الذي تعيّنه العادة كان فيما يعيّنه هو أجوز. ويستنبط منه صحّة الوقف على النّفس. وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد في الأرجح عنه، وقال به من المالكيّة ابن شعبان. وجمهورهم (¬1) على المنع , إلَّا إذا استثنى لنفسه شيئاً يسيراً بحيث لا يتّهم أنّه قصد حرمان ورثته، ومن الشّافعيّة ابن سريج وطائفة. وصنّف فيه محمّد بن عبد الله الأنصاريّ شيخ البخاريّ جزءاً ضخماً , واستدل له بقصّة عمر هذه، وبقصّة راكب البدنة. (¬2) وبحديث ¬

_ (¬1) أي: المالكية. (¬2) انظر حديث أبي هريرة في الزكاة (240)

أنس في أنّه - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفيّة , وجعل عتقها صداقها. ووجه الاستدلال به أنّه أخرجها عن ملكه بالعتق , وردّها إليه بالشّرط. وسيأتي البحث فيه في النّكاح (¬1). وبقصّة عثمان الآتية (¬2). واحتجّ المانعون: بقوله في حديث الباب " سبّل الثّمرة " وتسبيل الثّمرة تمليكها للغير والإنسان لا يتمكّن من تمليك نفسه لنفسه. وتعقّب: بأنّ امتناع ذلك غير مستحيل ومنعه تمليكه لنفسه إنّما هو لعدم الفائدة والفائدة في الوقف حاصلة , لأنّ استحقاقه إيّاه ملكاً غير استحقاقه إيّاه وقفاً , ولا سيّما إذا ذكر له مالاً آخر فإنّه حكم آخر يستفاد من ذلك الوقف. واحتجّوا أيضاً: بأنّ الذي يدلّ عليه حديث الباب , أنّ عمر اشترط لناظر وقفه أن يأكل منه بقدر عمالته , ولذلك منعه أن يتّخذ لنفسه منه مالاً , فلو كان يؤخذ منه صحّة الوقف على النّفس لَم يمنعه من الاتّخاذ، وكأنّه اشترط لنفسه أمراً لو سكت عنه لكان يستحقّه ¬

_ (¬1) انظره في باب الصداق برقم (320) (¬2) أي: ما ذكره البخاري معلقاً (2778). ووصله الدارقطني والإسماعيلي , أنَّ عثمان - رضي الله عنه - حين حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم الله، ولا أنشد إلَّا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ألستم تعلمون أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حفر رُومة فله الجنة؟ فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال: من جهَّز جيش العسرة فله الجنة؟ فجهزتهم، قال: فصدَّقوه بما قال. وللترمذي من وجه آخر عنه قال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وليس فيها ماء يستعذب غير بئر رومة , فقال: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي " الحديث

لقيامه، وهذا على أرجح قولي العلماء أنّ الواقف إذا لَم يشترط للنّاطر قدر عمله جاز له أن يأخذ بقدر عمله. ولو اشترط الواقف لنفسه النّظر , واشترط أجرة؟. ففي صحّة هذا الشّرط عند الشّافعيّة خلاف، كالهاشميّ إذا عمل في الزّكاة. هل يأخذ من سهم العاملين.؟ والرّاجح الجواز. ويؤيّده حديث عثمان (¬1) واستدل به على جواز الوقف على الوارث في مرض الموت , فإن زاد على الثّلث ردّ , وإن خرج منه لزم، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد , لأنّ عمر جعل النّظر بعده لحفصة وهي ممّن يرثه , وجعل لمن ولي وقفه أن يأكل منه. وتعقّب: بأنّ وقف عمر صدر منه في حياة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , والذي أوصى به إنّما هو شرط النّظر. واستدل به على أنّ الواقف إذا شرط للنّاظر شيئاً أخذه وإن لَم يشترطه له لَم يجز إلَّا إن دخل في صفة أهل الوقف كالفقراء والمساكين. فإن كان على معيّنين ورضوا بذلك جاز. واستدل به على أنّ تعليق الوقف لا يصحّ , لأنّ قوله: " حبّس الأصل " يناقض تأقيته. وعن مالك وابن سريج: يصحّ. واستدل بقوله: " لا تباع " على أنّ الوقف لا يناقل به. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق.

وعن أبي يوسف: أنّ شرط الواقف أنّه إذا تعطّلت منافعه بيع وصرف ثمنه في غيره ويوقف في ما سمّي في الأوّل، وكذا إن شرط البيع إذا رأى الحظّ في نقله إلى موضع آخر. واستدل به على وقف المشاع , لأنّ المائة سهم التي كانت لعمر بخيبر لَم تكن منقسمة. وفيه أنّه لا سراية في الأرض الموقوفة بخلاف العتق , ولَم ينقل أنّ الوقف سرى من حصّة عمر إلى غيرها من باقي الأرض. وحكى بعض المتأخّرين عن بعض الشّافعيّة أنّه حكم فيه بالسّراية. وهو شاذّ منكر. واستدل به على أنّ خيبر فتحت عنوة. وقد اختلف هل كان عنوة أو صلحاً؟. وفي حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سبى النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية فأعتقها وتزوّجها " (¬1) التّصريح بأنّه كان عنوة , وبه جزم ابن عبد البرّ، ورَدّ على مَن قال فتُحت صلحاً. قال: وإنّما دخلت الشّبهة على مَن قال: فتحت صلحاً بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، وهو ضربٌ من الصّلح , لكن لَم يقع ذلك إلَّا بحصارٍ وقتالٍ. انتهى. والذي يظهر. أنّ الشّبهة في ذلك قول ابن عمر , إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قاتل ¬

_ (¬1) حديث أنس في عتق صفيّة سيأتي إن شاء الله في النكاح.

أهل خيبر فغلب على النّخل وألجأهم إلى القصر , فصالحوه على أن يجلوا منها وله الصّفراء والبيضاء والحلقة , ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيّبوا " الحديث. وفي آخره " فسبى نساءهم وذراريّهم، وقسم أموالهم للنّكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم , فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها " الحديث أخرجه أبو داود والبيهقيّ وغيرهما، وكذلك أخرجه أبو الأسود في " المغازي " عن عروة. فعلى هذا كان قد وقع الصّلح، ثمّ حدث النّقض منهم فزال أثر الصّلح، ثمّ منّ عليهم بترك القتل وإبقائهم عمّالاً بالأرض ليس لهم فيها ملكٌ، ولذلك أجلاهم عمر كما في البخاري، فلو كانوا صولحوا على أرضهم لَم يجلوا منها. والله أعلم. وقد احتجّ الطّحاويّ على أنّ بعضها فتح صلحاً: بما أخرجه هو وأبو داود من طريق بشير بن يسارٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قسم خيبر , عزل نصفها لنوائبه وقسم نصفها بين المسلمين ". وهو حديث اختلف في وصله وإرساله، وهو ظاهرٌ في أنّ بعضها فتح صلحاً، والله أعلم.

باب الهبة

باب الهبة الهبة: بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحّدة. تطلق بالمعنى الأعمّ على أنواع الإبراء، وهو هبة الدّين ممّن هو عليه. والصّدقة: وهي هبة ما يتمحّض به طلب ثواب الآخرة. والهديّة: وهي ما يكرم به الموهوب له. ومن خصّها بالحياة أخرج الوصيّة , وهي تكون أيضاً بالأنواع الثّلاثة. وتطلق الهبة بالمعنى الأخصّ على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرّف الهبة بأنّها تمليك بلا عوض. وصنيع البخاري محمول على المعنى الأعمّ , لأنّه أدخل فيها الهدايا.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون 288 - عن عمر - رضي الله عنه - , قال: حَمَلْتُ على فرسٍ في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننتُ أنه يبيعه برُخْصٍ، فسألت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تشْتَرْه، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهمٍ، فإنّ العائد في هبته، كالعائد في قيئه. (¬1) قوله: (حملتُ على فرسٍ) زاد القعنبيّ في الموطّأ " عتيق " (¬2) والعتيق الكريم الفائق من كل شيء. وهذا الفرس. أخرج ابن سعد عن الواقديّ بسنده عن سهل بن سعد في تسمية خيل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: وأهدى تميم الدّاريّ له فرساً يقال له الورد , فأعطاه عمر فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع. الحديث. فعُرف بهذا تسميته وأصله. ولا يعارضه ما أخرجه مسلم. ولَم يسق لفظه. وساقه أبو عوانة في " مستخرجه " من طريق عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن ابن عمر , أنّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1419 , 2480 , 2493 , 2841) ومسلم (1620) من طرق عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (1620) من طريق سفيان وروح بن القاسم عن زيد بن أسلم به. وأخرجه البخاري (1418) ومواضع أخرى , ومسلم (1620) من وجه آخر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنه - نحوه. وسيأتي عند مسلم من جه آخر. (¬2) وهذه الزيادة عند مسلم في صحيحه (1620) عن القعنبي عن مالك به.

عمر حمل على فرسٍ في سبيل الله فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً. لأنّه يُحمل على أنّ عمر لَمَّا أراد أن يتصدّق به , فوّض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختيار من يتصدّق به عليه أو استشاره فيمن يحمله عليه , فأشار به عليه فنُسبت إليه العطيّة لكونه أمره بها. قوله: (في سبيل الله) ظاهره أنّه حمله عليه حملَ تمليكٍ ليجاهد به. إذ لو كان حمل تحبيسٍ لَم يجز بيعه. وقيل: بلغ إلى حالةٍ لا يمكن الانتفاع به فيما حبس فيه , وهو مفتقرٌ إلى ثبوت ذلك. ويدل على أنّه تمليك قوله: " العائد في هبته " ولو كان حبساً لقال في حبسه أو وقفه. وعلى هذا فالمراد بسبيل الله الجهاد , لا الوقف. فلا حجّة فيه لمن أجاز بيع الموقوف إذا بلغ غايةً لا يتصوّر الانتفاع به فيما وقف له. قوله: (فأضاعه) أي: لَم يحسن القيام عليه , وقصّر في مؤونته وخدمته. وقيل: أي: لَم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته. وقيل: معناه استعمله في غير ما جعل له. والأوّل أظهر: ويؤيّده رواية مسلمٍ من طريق روح بن القاسم عن زيد بن أسلم عن أبيه " فوجده قد أضاعه , وكان قليل المال " فأشار إلى عِلَّة ذلك وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه. قوله: (لا تشتره ولا تعد في صدقتك , وإن أعطاكه بدرهم) ولهما

من رواية نافع عن ابن عمر " فوجده يباع " , وسمّى الشّراء عوداً في الصّدقة , لأنّ العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري. فأطلق على القدر الذي يسامح به رجوعاً. وأشار إلى الرّخص بقوله: " وإن أعطاكه بدرهمٍ ". ويستفاد من قوله: " وإن أعطاكه بدرهمٍ " أنّ البائع كان قد ملكه , ولو كان محبساً كما ادّعاه من تقدّم ذكره , وجاز بيعه لكونه صار لا ينتفع به فيما حبس له لَمَا كان له أن يبيعه إلَّا بالقيمة الوافرة , ولا كان له أن يسامح منها بشيءٍ ولو كان المشتري هو المحبس. والله أعلم. وقد استشكله الإسماعيليّ , وقال: إذا كان شرط الواقف ما تقدّم ذكره في حديث ابن عمر في وقف عمر لا يباع أصله ولا يوهب (¬1) , فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب؟ وكيف لا ينهى بائعه أو يمنع من بيعه؟. قال: فلعلَّ معناه أنّ عمر جعله صدقة يعطيها من يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعطاءه فأعطاها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الرّجل المذكور فجرى منه ما ذكر , ويستفاد من التّعليل المذكور أيضاً أنّه لو وجده مثلاً يباع بأغلى من ثمنه لَم يتناوله النّهي. قوله: (فإنّ العائد في صدقته إلخ). حمل الجمهور هذا النّهي في صورة الشّراء على التّنزيه , فيكون ¬

_ (¬1) انظر الحديث الماضي.

التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء مما يستقذر. وحمله قومٌ على التّحريم. قال القرطبيّ وغيره: وهو الظّاهر. ثمّ الزّجر المذكور مخصوص بالصّورة المذكورة وما أشبهها كالكفارة والنذر وغيرهما من القربات , لا ما إذا ردّه إليه الميراث مثلاً. قال الطّبريّ: يخصّ من عموم هذا الحديث , من وهب بشرط الثّواب ومن كان والداً، والموهوب ولده والهبة التي لَم تقبض والتي ردّها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كلّ ذلك. وأمّا ما عدا ذلك كالغنيّ يثيب الفقير ونحو من يصل رحمه فلا رجوع لهؤلاء , قال: وممّا لا رجوع فيه مطلقاً الصّدقة يراد بها ثواب الآخرة. وقد استشكل ذكر عمر مع ما فيه من إذاعة عمل البرّ وكتمانه أرجح. وأجيب: بأنّه تعارض عنده المصلحتان - الكتمان وتبليغ الحكم الشّرعيّ - فرجّح الثّاني فعمل به. وتعقّب: بأنّه كان يمكن أن يقول: حمل رجل على فرسٍ مثلاً ولا يقول: حملت فيجمع بين المصلحتين. والظّاهر: أنّ محلّ رجحان الكتمان إنّما هو قبل الفعل وعنده، وأمّا بعد وقوعه فلعل الذي أعطيه أذاع ذلك فانتفى الكتمان , ويضاف إليه أنّ في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيداً لصحّة الحكم المذكور , لأنّ الذي تقع له القصّة أجدر بضبطها ممّن ليس عنده إلَّا وقوعها بحضوره , فلمّا أمن ما يخشى من الإعلان بالقصد صرّح بإضافة الحكم إلى نفسه.

ويحتمل: أن يكون محلّ ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان العجب والرّياء. أمّا من أمن من ذلك كعمر فلا. وفي الحديث كراهة الرّجوع في الصّدقة , وفضل الحمل في سبيل الله والإعانة على الغزو بكل شيءٍ، وأنّ الحمل في سبيل الله تمليكٌ , وأنّ للمحمول بيعه والانتفاع بثمنه من جهة أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أقرّ المحمول عليه على التّصرّف فيه بالبيع وغيره , فدلَّ على تقوية ما ذهب إليه طاوسٌ من أنّ للآخذ التّصرّف في المأخوذ. وقال ابن المنير: كل من أخذ مالاً من بيت المال على عمل إذا أهمل العمل يردّ ما أخذ، وكذا الأخذ على عمل لا يتأهّل له، ويحتاج إلى تأويل ما ذهب إليه عمر في الأمر المذكور بأن يحمل على الكراهة، وقد قال سعيد بن المسيّب: من أعان بشيءٍ في الغزو فإنّه للذي يعطاه إذا بلغ رأس المغزى، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. وروى مالك في " الموطّأ " عن ابن عمر: إذا بلغتَ وادي القرى فشأنك به. أي: تصرّف فيه، وهو قول الليث والثّوريّ قال ابن بطّال: ما كان من الحمل على الخيل تمليكاً للمحمول عليه بقوله: هو لك , فهو كالصّدقة، فإذا قبضها لَم يجز الرّجوع فيها وما كان منه تحبيساً في سبيل الله فهو كالوقف لا يجوز الرّجوع فيه عند الجمهور، وعن أبي حنيفة. أنّ الحبس باطلٌ في كل شيءٍ. انتهى. تكميل: بوّب البخاري على الحديث " باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت ".

ووجه أخْذِ ذلك من حديث الباب المشتمل على قصّة فرس عمر , أنّها دالة على صحّة وقف المنقولات فيلحق به ما في معناه من المنقولات إذا وجد الشّرط وهو تحبيس العين، فلا تباع ولا توهب بل ينتفع بها، والانتفاع في كلّ شيء بحسبه. (¬1) ¬

_ (¬1) هكذا وافق الشارحُ البخاريّ على الاستدلال بالحديث. ولَم يعترض عليه , مع أن الشارح استبعد القولَ القائل بأنَّ صدقة عمر كانت وقْفاً. وردّ على قائله.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون 289 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العائد في هبته، كالعائد في قَيْئِه. (¬1) وفي لفظ: فإنّ الذي يعود في صدقته، كالكلب يقيء ثم يعود في قَيْئِه. (¬2) قوله: (العائد في هبته، كالعائد في قيئه) أي: العائد في هبته إلى الموهوب وهو كقوله تعالى: (أو لتعودنّ في ملتنا). زاد أبو داود في آخره " قال همّام قال قتادة: ولا أعلم القيء إلَّا حراماً. وللبخاري من رواية عكرمة عن ابن عباس " ليس لنا مثل السّوء، الذي يعود ... " أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتّصف بصفةٍ ذميمةٍ يشابهنا فيها أخسّ الحيوانات في أخسّ أحوالها , قال الله سبحانه وتعالى: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السّوء , ولله المثل الأعلى) ولعلَّ هذا أبلغ في الزّجر عن ذلك وأدل على التّحريم ممّا لو قال مثلاً: لا تعودوا في الهبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2449) ومسلم (1622) من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (2479 , 6574) من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس نحوه. (¬2) أخرجه البخاري (2478) ومسلم (1622) من طرق عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم.

وإلى القول بتحريم الرّجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء إلَّا هبة الوالد لولده جمعاً بين هذا الحديث. وحديث النّعمان الآتي. وقال الطّحاويّ: وقوله: " لا يحل " لا يستلزم التّحريم وهو كقوله: " لا تحل الصّدقة لغنيّ " وإنّما معناه. لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجة وأراد بذلك التّغليظ في الكراهة. قال: وقوله: " كالعائد في قيئه " وإن اقتضى التّحريم لكون القيء حراماً , لكنّ الزّيادة في الرّواية الأخرى. وهي قوله " كالكلب " تدلُّ على عدم التّحريم , لأنّ الكلب غير متعبّدٍ فالقيء ليس حراماً عليه، والمراد التّنزيه عن فعلٍ يشبه فعل الكلب. وتعقّب: باستبعاد ما تأوّله ومنافرة سياق الأحاديث له , وبأنّ عرف الشّرع في مثل هذه الأشياء المبالغة في الزّجر كقوله: من لعب بالنّردشير فكأنّما غمس يده في لحم خنزير. (¬1) قوله: (كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) هذا التّمثيل وقع في طريق سعيد بن المسيّب عن ابن عباس أيضاً عند مسلم. أخرجه من رواية أبي جعفر - محمّد الباقر - عنه بلفظ " مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثمّ يرجع في قيئه فيأكله ". وله في رواية بكيرٍ عن سعيد " إنّما مثل الذي يتصدّق بصدقةٍ ثمّ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " الصحيح " (2660) من حديث بريدة - رضي الله عنه -. مرفوعاً.

يعود في صدقته كمثل الكلب يقيء ثمّ يأكل قيئه. وفيه ذمّ العائد في هبته على الإطلاق، فدخل فيه الزّوج والزّوجة تمسّكاً بعمومه. وأخرج الطّحاويّ عن إبراهيم النخعي قال: إذا وهبتْ المرأة لزوجها أو وهب الرّجل لامرأته فالهبة جائزة، وليس لواحدٍ منهما أن يرجع في هبته. وروى عبد الرّزّاق عن الثّوريّ عن عبد الرّحمن بن زياد , أنّ عمر بن عبد العزيز قال مثل قول إبراهيم. وروى ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزّهريّ: فيمَن قال لامرأته: هبي لي بعض صداقك أو كله، ثمّ لَم يمكث إلَّا يسيراً حتّى طلَّقها فرجعت فيه، قال: يردّ إليها إن كان خلَبَها، وإن كانت أعطته عن طيب نفسٍ ليس في شيءٍ من أمره خديعةٌ، جاز , قال الله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً فكلوه}. وقوله فيه " خلبها " بفتح المعجمة واللام والموحّدة. أي: خدعها. وروى عبد الرّزّاق عن معمر عن الزّهريّ قال: رأيت القضاة يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها ولا يقيلون الزّوج فيما وهب لامرأته. والجمع بينهما: أنّ رواية معمر عنه منقولة، ورواية يونس عنه اختياره، وهو التّفصيل المذكور بين أن يكون خدعها فلها أن ترجع أو لا فلا، وهو قول المالكيّة إن أقامت البيّنة على ذلك. وقيل: يقبل قولها في ذلك مطلقاً.

وإلى عدم الرّجوع من الجانبين مطلقاً ذهب الجمهور. وإلى التّفصيل الذي نقله الزّهريّ ذهب شُريح. فروى عبد الرّزّاق والطحاويّ من طريق محمّد بن سيرين , أنّ امرأة وهبت لزوجها هبة ثمّ رجعت فيها، فاختصما إلى شُريح فقال للزّوج: شاهداك أنّها وهبت لك من غير كُره ولا هوان، وإلَّا فيمينها لقد وهبت لك عن كره وهوان. وعند عبد الرزاق بسندٍ منقطعٍ عن عمر , أنّه كتب إنّ النّساء يعطين رغبة ورهبة، فأيّما امرأه أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت. قال الشّافعيّ: لا يردّ شيئاً إذا خالعها ولو كان مضرّاً بها، لقوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به). قال ابن بطّالٍ: إذا قبض الموهوب له هبةً فهو مالكٌ لها , فإذا حال عليها الحول عنده وجبت عليه الزّكاة فيها عند الجميع , وأمّا الرّجوع فلا يكون عند الجمهور إلَّا فيما يوهب للولد , فإن رجع فيها الأب بعد الحول وجبت فيها الزّكاة على الابن. قلت: فإن رجع فيها قبل الحول صحّ الرّجوع ويستأنف الحول , فإن كان فعل ذلك ليريد إسقاط الزّكاة سقطت وهو آثمٌ مع ذلك. وعلى طريقة من يبطل الحيل مطلقاً لا يصحّ رجوعه لثبوت النّهي عن الرّجوع في الهبة , ولا سيّما إذا قارن ذلك التّحيّل في إسقاط الزّكاة.

وذهب الجمهور ومنهم الشّافعيّ. إلى أنّ الزّكاة تجب على المتّهب (¬1) مدّة مكث المال عنده. ¬

_ (¬1) وقع في مطبوع الفتح (المنتهب) بزيادة نون , وهو خطأ , والصواب ما أثبتُّه. والمتهب هو من طلب الهبةَ من آخر.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون 290 - عن النّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه - , قال: تصدّق عليَّ أَبِي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فانطلق أَبِي إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفعلتَ هذا بولدك كلهم , قال: لا، قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم، فرجع أَبِي، فردّ تلك الصّدقة. وفي لفظ قال: فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جورٍ. (¬1) وفي لفظ: فأشهد على هذا غيري. (¬2) قوله: (عن النّعمان بن بشير) (¬3) كذا لأكثر أصحاب الزّهريّ، وأخرجه النّسائيّ من طريق الأوزاعيّ عن ابن شهاب , أنّ محمّد بن النّعمان وحميد بن عبد الرّحمن حدّثاه عن بشير بن سعد " جعله من مسند بشير فشذّ بذلك، والمحفوظ أنّه عنهما عن النّعمان. وقد روى هذا الحديثَ عن النّعمان عددٌ كثيرٌ من التّابعين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2447 , 2507) ومسلم (1623) من طرق عن عامر الشعبي عن النعمان بن بشير به. وأخرجه البخاري (2446) ومسلم (1623) من طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير حدّثاه عن النعمان - رضي الله عنه -. نحوه. وأخرجه مسلم (1623) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن النعمان نحوه. (¬2) أخرجه مسلم (1623) من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن النعمان به. (¬3) تقدمت ترجمته في كتاب الصلاة رقم (76).

منهم عروة بن الزّبير عند مسلم والنّسائيّ وأبي داود، وأبو الضّحى عند النّسائيّ وابن حبّان وأحمد والطّحاويّ، والمفضّل بن المُهلَّب عند أحمد وأبي داود والنّسائيّ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبي عوانة، والشّعبيّ في الصّحيحين وأبي داود وأحمد والنّسائيّ وابن ماجه وابن حبّان وغيرهم، ورواه عن الشّعبيّ عدد كثير أيضاً. وسأذكر ما في رواياتهم من الفوائد الزّائدة على هذه الطّريق مفصّلاً إن شاء الله تعالى. قوله: (تصدَّق عليَّ أَبِي) والد النّعمان. هو ابن سعد بن ثعلبة بن الجلاس - بضمّ الجيم وتخفيف اللام – الخزرجيّ، صحابيّ شهير من أهل بدر وشهد غيرها. ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال: إنّه أوّل من بايع أبا بكر من الأنصار، وقيل: عاش إلى خلافة عمر. قوله: (ببعض ماله) في رواية مالك عن الزهري عند الشيخين " أنّ أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني غلاماً " بفتح النّون والمهملة، والنّحلة: بكسر النّون وسكون المهملة العطيّة بغير عوض. وفي رواية الشّعبيّ في البخاري " أعطاني أبي عطيّة، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتّى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيّة ".

وللبخاري من طريق أبي حبّان عن الشّعبيّ سبب سؤالها شهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولفظه " عن النّعمان قال: سألت أمّي أبي بعض الموهبة لي من ماله ". زاد مسلم والنّسائيّ من هذا الوجه " فالتوى بها سنة " أي: مطلها. وفي رواية ابن حبّان من هذا الوجه " بعد حولين ". ويجمع بينهما: بأنّ المدّة كانت سنة وشيئاً فجبر الكسر تارة وألغى أخرى. قال (¬1): ثمّ بدا له فوهبها لي، فقالت له: لا أرضى حتّى تشهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأخذ بيدي وأنا غلام ". ولمسلمٍ من طريق داود بن أبي هند عن الشّعبيّ عن النّعمان " انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ويجمع بينهما: بأنّه أخذ بيده فمشى معه بعض الطّريق وحمله في بعضها لصغر سنّه، أو عبّر عن استتباعه إيّاه بالحمل. وقد تبيّن من رواية مالك , أنّ العطيّة كانت غلاماً، وكذا في رواية ابن حبّان المذكورة، وكذا لأبي داود من طريق إسماعيل بن سالم عن الشّعبيّ، ولمسلمٍ في رواية عروة وحديث جابر معاً. ووقع في رواية أبي حريز - بمهملةٍ وراء ثمّ زاي بوزنٍ عظيمٍ - عند ¬

_ (¬1) كذا فيه. ولم يذكر الشارح من أخرجها. وهي في صحيح البخاري (2507) في كتاب الشهادات. من طريق أبي حيان عن الشعبي عن النعمان به.

ابن حبّان والطّبرانيّ عن الشّعبيّ , أنّ النّعمان خطب بالكوفة فقال: إنّ والدي بشير بن سعد أتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّ عمرة بنت رواحة نفست بغلامٍ، وإنّي سمّيته النّعمان، وإنّها أبت أن تربّيه حتّى جعلت له حديقةً من أفضل مال هو لي , وأنّها قالت: أشهد على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا أشهد على جورٍ. وجمع ابن حبّان بين الرّوايتين: بالحمل على واقعتين. إحداهما: عند ولادة النّعمان , وكانت العطيّة حديقة. والأخرى: بعد أن كبُر النّعمان , وكانت العطيّة عبداً. وهو جمع لا بأس به، إلَّا أنّه يعكّر عليه أنّه يبعد أن ينسى بشير بن سعد - مع جلالته - الحكمَ في المسألة حتّى يعود إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيستشهده على العطيّة الثّانية بعد أن قال له في الأولى " لا أشهد على جورٍ ". وجوّز ابن حبّان: أن يكون بشير ظنّ نسخ الحكم. وقال غيره: يحتمل أن يكون حمل الأمر الأوّل على كراهة التّنزيه، أو ظنّ أنّه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد , لأنّ ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد. ثمّ ظهر لي وجه آخر من الجمع يسلم من هذا الخدش , ولا يحتاج إلى جوابٍ. وهو أنّ عمرة لَمَّا امتنعت من تربيته إلَّا أن يهب له شيئاً يخصّه به وهبه الحديقة المذكورة تطييباً لخاطرها، ثمّ بدا له فارتجعها , لأنّه لَم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو

سنتين , ثمّ طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاماً ورضيت عمرة بذلك، إلَّا أنّها خشيت أن يرتجعه أيضاً , فقالت له: أشهد على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تريد بذلك تثبيت العطيّة وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للإشهاد مرّة واحدة وهي الأخيرة. وغاية ما فيه أنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ بعض، أو كان النّعمان يقصّ بعض القصّة تارة ويقصّ بعضها أخرى، فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه، والله أعلم. قوله: (فقالت أُمّي عمرة بنت رواحة) ابن ثعلبة الخزرجيّة أخت عبد الله بن رواحة الصّحابيّ المشهور. ووقع عند أبي عوانة من طريق عون بن عبد الله أنّها بنت عبد الله بن رواحة. والصّحيح الأوّل، وبذلك ذكرها ابن سعد وغيره وقالوا: كانت ممّن بايع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من النّساء. وفيها يقول قيس بن الخطيم بفتح المعجمة: وعمرة من سروات النّسا ... ء تنفح بالمسك أردانها قوله: (أفعلتَ هذا بولدك كلهم , قال: لا) وفي رواية مالك " فقال: أكل ولدك نحلت مثله ". زاد في رواية أبي حيّان عند مسلم " فقال: ألك ولد سواه؟ قال: نعم , فقال: أكلهم وهبت له هذا؟ قال: لا ". وقال مسلم لَمَّا رواه من طريق الزّهريّ: أمّا يونس ومعمر فقالا: أَكلَّ بنيك. وأمّا الليث وابن عيينة فقالا: أَكلَّ ولدك.

وله من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشّعبيّ فقال: ألك بنون سواه؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل هذا؟ قال: لا , وفي رواية ابن القاسم في " الموطّآت للدّارقطنيّ عن مالك " قال: لا والله يا رسولَ الله ". قلت: ولا منافاة بينهما , لأنّ لفظ الولد يشمل ما لو كانوا ذكوراً، أو إناثاً وذكوراً، وأمّا لفظ البنين فإن كانوا ذكوراً فظاهر , وإن كانوا إناثاً وذكوراً فعلى سبيل التّغليب؛ ولَم يذكر ابن سعد لبشيرٍ - والد النّعمان - ولداً غير النّعمان، وذكر له بنتاً اسمها أُبيّة بالموحّدة تصغير أبٍ. قوله: (قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي، فردّ تلك الصّدقة) في رواية مالك عن الزهري " قال: فارجعه " ولمسلمٍ من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب " قال: فاردده ". وله وللنّسائيّ من طريق عروة مثله، وفي رواية الشّعبيّ " قال: فرجع فردّ عطيّته " ولمسلمٍ " فردّ تلك الصّدقة " قوله: (فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جورٍ , وفي لفظ: فأشهد على هذا غيري) في رواية أبي حيّان عند البخاري " قال: لا تشهدني على جور " , ومثله لمسلمٍ من رواية عاصم عن الشّعبيّ , وفي حديث جابر " فليس يصلح هذا , وإنّي لا أشهد إلَّا على حقٍّ ". ولعبد الرّزّاق من طريق طاوسٍ مرسلاً " لا أشهد إلَّا على الحقّ،

لا أشهد بهذه " (¬1) وفي رواية عروة عند النّسائيّ " فكره أن يشهد له ". وفي رواية المغيرة عن الشّعبيّ عند مسلم " اعدلوا بين أولادكم في النّحل، كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ ". وفي رواية مجالد عن الشّعبيّ عند أحمد " إنّ لبنيك عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرّك أن يكونوا إليك في البرّ سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذاً ". ولأبي داود من هذا الوجه " إنّ لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، كما أنّ لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك ". وللنّسائيّ من طريق أبي الضّحى " ألا سوّيت بينهم " , وله ولابن حبّان من هذا الوجه " سوّ بينهم " واختلاف الألفاظ في هذه القصّة الواحدة يرجع إلى معنىً واحدٍ. وقد تمسّك به من أوجب السّويّة في عطيّة الأولاد، وبه صرّح البخاريّ، وهو قول طاوسٍ والثّوريّ وأحمد وإسحاق، وقال به بعض المالكيّة. ثمّ المشهور عن هؤلاء أنّها باطلة. وعن أحمد: تصحّ، ويجب أن يرجع. وعنه: يجوز التّفاضل إن كان له سببٌ، كأن يحتاج الولد لزمانته ¬

_ (¬1) ولهذه الزيادة أعني (إلَّا على الحق) شاهدٌ من حديث جابر - رضي الله عنه - أخرجه مسلم في " صحيحه " (1624) , وأبو داود (3545) وغيرهما.

ودينه أو نحو ذلك دون الباقين. وقال أبو يوسف: تجب التّسوية إن قصد بالتّفضيل الإضرار. وذهب الجمهور إلى أنّ التّسوية مستحبّة، فإن فضّل بعضاً صحّ وكره. واستحبّت المبادرة إلى التّسوية أو الرّجوع، فحملوا الأمر على النّدب والنّهي على التّنزيه. ومن حجّة من أوجبه: أنّه مقدّمة الواجب , لأنّ قطع الرّحم والعقوق محرّمان فما يؤدّي إليهما يكون محرّماً , والتّفضيل ممّا يؤدّي إليهما. ثمّ اختلفوا في صفة التّسوية. القول الأول: قال محمّد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشّافعيّة والمالكيّة. العدل أن يعطي الذّكر حظّين كالميراث. واحتجّوا بأنّه حظّها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتّى مات. القول الثاني: لا فرق بين الذّكر والأنثى، وظاهر الأمر بالتّسوية يشهد له. واستأنسوا بحديث ابن عبّاس رفعه " سوّوا بين أولادكم في العطيّة، فلو كنت مفضّلاً أحداً لفضّلت النّساء " أخرجه سعيد بن منصور والبيهقيّ من طريقه. وإسناده حسن. وأجاب: من حمل الأمر بالتّسوية على النّدب عن حديث النّعمان بأجوبةٍ:

أحدها: أنّ الموهوب للنّعمان كان جميع مال والده ولذلك منعه، فليس فيه حجّة على منع التّفضيل. حكاه ابن عبد البرّ عن مالك. وتعقّبه: بأنّ كثيراً من طرق حديث النّعمان صرّح بالبعضيّة. وقال القرطبيّ: ومن أبعد التّأويلات أنّ النّهي إنّما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون، وكأنّه لَم يسمع في نفس هذا الحديث , أنّ الموهوب كان غلاماً وأنّه وهبه له لَمَّا سألته الأمّ الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يعلم منه على القطع أنّه كان له مال غيره. ثانيها: أنّ العطيّة المذكورة لَم تنجز، وإنّما جاء بشير يستشير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأشار عليه بأن لا تفعل فترك. حكاه الطّحاويّ. وفي أكثر طرق حديث الباب ما ينابذه. ثالثها: أنّ النّعمان كان كبيراً , ولَم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرّجوع، ذكره الطّحاويّ. وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضاً خصوصاً قوله: " ارجعه " فإنّه يدل على تقدّم وقوع القبض. والذي تضافرت عليه الرّوايات أنّه كان صغيراً , وكان أبوه قابضاً له لصغره، فأمر بردّ العطيّة المذكورة بعدما كانت في حكم المقبوض. رابعها: أنّ قوله: " ارجعه " دليل على الصّحّة، ولو لَم تصحّ الهبة لَم يصحّ الرّجوع، وإنّما أمره بالرّجوع لأنّ للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده - وإن كان الأفضل خلاف ذلك - لكن استحباب التّسوية

رجح على ذلك فلذلك أمره به. وفي الاحتجاج بذلك نظرٌ. والذي يظهر أنّ معنى قوله: " ارجعه " أي: لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدّم صحّة الهبة. خامسها: أنّ قوله: " أشهد على هذا غيري " إذن بالإشهاد على ذلك، وإنّما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنّه قال: لا أشهد لأنّ الإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنّما من شأنه أن يحكم، حكاه الطّحاويّ أيضاً، وارتضاه ابن القصّار. وتعقّب: بأنّه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمّل الشّهادة ولا من أدائها إذا تعيّنت عليه، وقد صرّح المحتجّ بهذا أنّ الإمام إذا شهد عند بعض نوّابه جاز. وأمّا قوله إنّ قوله: " أشهد " صيغة إذنٍ فليس كذلك، بل هو للتّوبيخ لِمَا يدل عليه بقيّة ألفاظ الحديث، وبذلك صرّح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبّان: قوله: " أشهد " صيغة أمر. والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة: " اشترطي لهم الولاء " انتهى. سادسها: التّمسّك بقوله: " ألا سوّيت بينهم " على أنّ المراد بالأمر الاستحباب وبالنّهي التّنزيه. وهذا جيّدٌ. لولا ورود تلك الألفاظ الزّائدة على هذه اللفظة، ولا سيّما أنّ تلك الرّواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضاً حيث قال:

" سوّ بينهم ". سابعها: وقع عند مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أنّ المحفوظ في حديث النّعمان " قاربوا بين أولادكم لا سوّوا ". وتعقّب: بأنّ المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التّسوية. ثامنها: في التّشبيه الواقع في التّسوية بينهم بالتّسوية منهم في برّ الوالدين قرينة تدل على أنّ الأمر للنّدب، لكن إطلاق الجور على عدم التّسوية، والمفهوم من قوله: " لا أشهد إلَّا على حقّ " وقد قال في آخر الرّواية التي وقع فيها التّشبيه " قال: فلا إذاً ". تاسعها: عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على عدم التّسوية قرينة ظاهرة في أنّ الأمر للنّدب. فأمّا أبو بكر. فرواه الموطّأ بإسنادٍ صحيح عن عائشة , أنّ أبا بكر قال لها في مرض موته " إنّي كنت نحلتكِ نُحلاً فلو كنت احتزتيه لكان لك، وإنّما هو اليوم للوارث ". وأمّا عمر. فذكر الطّحاويّ وغيره: أنّه نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده. وقد أجاب عروة عن قصّة عائشة: بأنّ إخوتها كانوا راضين بذلك، ويجاب بمثل ذلك عن قصّة عمر. عاشر الأجوبة: أنّ الإجماع انعقد على جواز عطيّة الرّجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم، ذكره ابن عبد البرّ.

ولا يخفى ضعفه , لأنّه قياس مع وجود النّصّ. وزعم بعضهم أنّ معنى قوله: " لا أشهد على جور " أي: لا أشهد على ميل الأب لبعض الأولاد دون بعض. وفي هذا نظرٌ لا يخفى، ويردّه قوله في الرّواية " لا أشهد إلَّا على الحقّ ". وحكى ابن التّين عن الدّاوديّ: أنّ بعض المالكيّة احتجّ بالإجماع على خلاف ظاهر حديث النّعمان، ثمّ ردّه عليه. واستدلَّ به أيضاً على أنّ للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه وكذلك الأمّ، وهو قول أكثر الفقهاء. إلَّا أنّ المالكيّة فرّقوا بين الأب والأمّ , فقالوا: للأمّ أن ترجع إن كان الأب حيّاً دون ما إذا مات، وقيّدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لَم يستحدث ديناً أو ينكح، وبذلك قال إسحاق. وقال الشّافعيّ: للأب الرّجوع مطلقاً. وقال أحمد: لا يحل لواهبٍ أن يرجع في هبته مطلقاً. وقال الكوفيّون: إن كان الموهوب صغيراً لَم يكن للأب الرّجوع، وكذا إن كان كبيراً وقبضها، قالوا: وإن كانت الهبة لزوجٍ من زوجته أو بالعكس أو لذي رحمٍ لَم يجز الرّجوع في شيء من ذلك. ووافقهم إسحاق في ذي الرّحم , وقال: للزّوجة أن ترجع بخلاف الزّوج. والاحتجاج لكل واحدٍ من ذلك يطول.

وحجّة الجمهور في استثناء الأب , أنّ الولد وماله لأبيه (¬1) فليس في الحقيقة رجوعاً، وعلى تقدير كونه رجوعاً فربّما اقتضته مصلحة التّأديب، ونحو ذلك. وحديث الباب ظاهر في الجواز. وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عبّاس وابن عمر " لا يحلُّ لرجلٍ يعطي عطيّةً أو يهب هبة فيرجع فيها , إلَّا الوالد فيما يعطي ولده " ورجاله ثقات. وفي الحديث أيضاً النّدب إلى التّآلف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشّحناء أو يورث العقوق للآباء، وأنّ عطيّة الأب لابنه الصّغير في حجره لا تحتاج إلى قبض. وأنّ الإشهاد فيها يغني عن القبض. وقيل: إن كانت الهبة ذهباً أو فضّة فلا بدّ من عزلها وإفرازها. وفيه كراهة تحمّل الشّهادة فيما ليس بمباحٍ , وأنّ الإشهاد في الهبة ¬

_ (¬1) للحديث المشهور " أنت ومالك لأبيك ". قال الشارح في " الفتح " (5/ 260): أخرجه ابن ماجه من حديث جابر، قال الدارقطني: غريب تفرد به عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ويوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن ابن المنكدر. وقال ابن القطان: إسناده صحيح. وقال المنذري: رجاله ثقات. وله طريق أخرى عن جابر عند الطبراني في " الصغير " والبيهقي في " الدلائل " فيها قصة مطولة. وفي الباب عن عائشة في " صحيح ابن حبان " وعن سمرة وعن عمر كلاهما عند البزار، وعن ابن مسعود عند الطبراني، وعن ابن عمر عند أبي يعلى، فمجموع طرقه لا تحطُّه عن القوة، وجواز الاحتجاج به. انتهى من الفتح.

مشروع وليس بواجبٍ. وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزّوجات دون بعض وإن وجبت التّسوية بينهم في غير ذلك. وفيه أنّ للإمام الأعظم أن يتحمّل الشّهادة، وتظهر فائدتها إمّا ليحكم في ذلك بعلمه عند من يجيزه، أو يؤدّيها عند بعض نوّابه. وفيه مشروعيّة استفصال الحاكم والمفتي عمّا يحتمل الاستفصال، لقوله " ألك ولد غيره , فلمّا قال: نعم , قال: أفكلهم أعطيت مثله. فلمّا قال: لا , قال: لا أشهد. فيفهم منه أنّه لو قال: نعم لشهد. وفيه جواز تسمية الهبة صدقة، وأنّ للإمام كلاماً في مصلحة الولد، والمبادرة إلى قبول الحقّ، وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال. وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتّنطّع، لأنّ عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لِمَا رجع فيه، فلمّا اشتدّ حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه. وقال المُهلَّب: فيه أنّ للإمام أن يردّ الهبة والوصيّة ممّن يعرف منه هروباً عن بعض الورثة، والله أعلم.

باب الحرث والمزارعة

باب الحرث والمزارعة قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) وروى الشيخان عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلَّا كان له به صدقة. ولا شكَّ أنَّ الآية تدل على إباحة الزرع من جهة الامتنان به , والحديث يدل على فضله بالقيد الذي ذكره البخاري (¬1). وقال ابن المنير: أشار البخاري إلى إباحة الزرع , وأنَّ من نهى عنه كما ورد عن عمر فمحلُّه ما إذا شغل الحرث عن الحرب ونحوه من الأمور المطلوبة , وعلى ذلك يُحمل حديث أبي أمامة الباهلي، أنه قال: ورأى سكَّة وشيئاً من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يدخل هذا بيتَ قومٍ إلَّا أدخله الله الذل. أخرجه البخاري. والمزارعة مفاعلة من الزرع. وفي الحديث فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض. ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها. وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة. ¬

_ (¬1) بوب عليه: باب فضل الزرع والغرس إذا أُكل منه .. ثم ذكر الآية والحديث.

وحمْلُ ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين. فمنه حديث ابن مسعود مرفوعاً: لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا. الحديث. (¬1) قال القرطبي: يجمع بينه وبين حديث أنس بحمله على الاستكثار , والاشتغال به عن أمر الدين , وحمل حديث أنس على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها , وتحصيل ثوابها. وفي رواية لمسلم " إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة " ومقتضاه أن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه , ولو مات زارعه أو غارسه , ولو انتقل ملكه إلى غيره. قال الطيبي: نكَّر مسلماً وأوقعه في سياق النفي , وزاد مِن الاستغراقية , وعمَّ الحيوان ليدل على سبيل الكناية على أنَّ أيَّ مُسلم كان حراً أو عبداً مطيعاً أو عاصياً يعمل أي عمل من المباح ينتفع بما عمله أيَّ حيوان كان يرجع نفعه إليه , ويثاب عليه. وفيه جواز نسبة الزرع إلى الآدمي , وقد ورد في المنع منه حديث غير قوي. أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: لا يقل أحدكم زرعت , ولكن ليقل حرثت. ألم تسمع لقول الله تعالى ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 377) والترمذي في " السنن " (2328) والطيالسي (379) من طريق المغيرة بن سعد الأخرم عن أبيه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. مرفوعاً. وصححه الحاكم (4/ 322) وابن حبان (710). وقال الترمذي: حديث حسن.

(أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون). ورجاله ثقات إلَّا أن مسلم بن أبي مسلم الجرمي. قال فيه ابن حبان: ربما أخطأ. وروى عبد بن حميد من طريق أبي عبد الرحمن السلمي بمثله من قوله غير مرفوع.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون 291 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر، على شطر ما يخرج منها، من ثمرٍ أو زرعٍ. (¬1) قوله: (عامل أهل خيبر) وللبخاري " أعطى خيبرَ اليهودَ، على أن يعملوها ويزرعوها ". في الحديث. وهو القول الأول: مشاركة الذمي في المزارعة , وأُلحق المشرك به , لأنّه إذا استأمن صار في معنى الذّمّيّ. القول الثاني: خالف في الجواز الثّوريّ والليث وأحمد وإسحاق، وبه قال مالك , إلَّا أنّه أجازه إذا كان يتصرّف بحضرة المسلم. وحجّتهم: خشية أن يدخل في مال المسلم ما لا يحل كالرّبا وثمن الخمر والخنزير. واحتجّ الجمهور: بمعاملة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر، وإذا جاز في المزارعة جاز في غيرها، وبمشروعيّة أخذ الجزية منهم مع أنّ في أموالهم ما فيها. قوله: (على شطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ) هذا الحديث هو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2165 , 2203، 2204، 2206، 2366، 2571، 4002) ومسلم (1551) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

عمدة من أجاز المزارعة والمخابرة لتقرير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لذلك , واستمراره على عهد أبي بكر إلى أن أجلاهم عمر كما في البخاري. وروى عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري قال: أخبرنا قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر: ما بالمدينة أهل بيتِ هجرةٍ إلَّا يزرعون على الثلث والربع. وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق أخرى إلى أبي جعفر الباقر , أنه سئل عن المزارعة بالثلث والربع. فقال: إني إن نظرتُ في آل أبي بكر وآل عمر وآل علي وجدتهم يفعلون ذلك. وروى ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن صليع عن عليٍّ , أنه لم ير بأساً بالمزارعة على النصف. وروى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق موسى بن طلحة قال: كان سعد بن مالك وابن مسعود يزارعان بالثلث والربع. ورواه سعيد بن منصور من هذا الوجه بلفظ , أنَّ عثمان بن عفان أقطع خمسةً من الصحابة الزبير وسعداً وابن مسعود وخباباً وأسامة بن زيد، قال: فرأيت جاريَّ ابن مسعود وسعداً يعطيان أرضيهما بالثلث. وروى ابن أبي شيبة من طريق خالد الحذاء , أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطاة. أن يزارع بالثلث والربع. وروّينا في " الخراج ليحيى بن آدم " بإسناده إلى عمر بن عبد العزيز , أنه كتب إلى عامله: انظر ما قبلكم من أرض فأعطوها بالمزارعة على

النصف وإلَّا فعلى الثلث حتى تبلغ العشر. فإن لم يزرعها أحدٌ فامنحها، وإلَّا فأنفق عليها من مال المسلمين، ولا تبيرن قبلك أرضاً. وروى عبد الرزاق عن القاسم بن محمد , والنسائي عن ابن سيرين , وابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير. جواز المزارعة. وروى ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد , أنّ عمر أجلى أهل نجران واليهود والنّصارى. واشترى بياض أرضهم وكرومهم، فعامل عمر النّاس , إن هم جاءوا بالبقر والحديد من عندهم فلهم الثّلثان ولعمر الثّلث، وإن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشّطر، وعاملهم في النّخل على أنّ لهم الخمس وله الباقي، وعاملهم في الكرم على أنّ لهم الثّلث وله الثّلثان. وهذا مرسل. وأخرجه البيهقيّ من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن عمر بن عبد العزيز قال: لَمَّا استخلف عمر أجلى أهل نجران وأهل فدك وتيماء وأهل خيبر، واشترى عقارهم وأموالهم، واستعمل يعلى بن منية فأعطى البياض - يعني بياض الأرض - على إن كان البذر .. نحوه. وقد استشكل هذا الصّنيع: بأنّه يقتضي جواز بيعتين في بيعة، لأنّ ظاهره وقوع العقد على إحدى الصّورتين من غير تعيين. ويحتمل: أن يراد بذلك التّنويع والتّخيير قبل العقد ثمّ يقع العقد على أحد الأمرين، أو أنّه كان يرى ذلك جعالة فلا يضرّه.

نعم. في إيراد البخاري (¬1) هذا الأثر وغيره في " باب المزارعة بالشطر ونحوه " ما يقتضي أنّه يرى أنّ المزارعة والمخابرة بمعنىً واحد، وهو وجه للشّافعيّة. والوجه الآخر. أنّهما مختلفا المعنى: فالمزارعة العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من المالك، والمخابرة مثلها , لكن البذر من العامل. وقد أجازهما أحمد في رواية، ومن الشّافعيّة ابن خزيمة وابن المنذر والخطّابيّ. وقال ابن سريج بجواز المزارعة , وسكت عن المخابرة. وعكسه الجوريّ من الشّافعيّة، وهو المشهور عن أحمد. وقال الباقون: لا يجوز واحدٌ منهما، وحملوا الآثار الواردة في ذلك على المساقاة. واستدُلّ بالحديث على جواز المساقاة في النّخل والكرم وجميع الشّجر الذي من شأنه أن يثمر بجزءٍ معلوم يجعل للعامل من الثّمرة، وبه قال الجمهور. ¬

_ (¬1) أورد البخاري جميع الآثار التي تقدّمت معلّقةً في الباب المذكور. ثم أورد حديث ابن عمر حديث الباب. قال ابن حجر في " الفتح " (5/ 11): أراد بسياق هذه الآثار الإشارة إلى أنَّ الصحابة لم يُنقل عنهم خلافٌ في الجواز خصوصاً أهل المدينة، فيلزم مَن يقدم عملهم على الأخبار المرفوعة أن يقولوا بالجواز على قاعدتهم. انتهى

وخصّه الشّافعيّ في الجديد بالنّخل والكرم، وألحق المقل بالنّخل لشبهه به. وخصّه داود بالنّخل. وقال أبو حنيفة وزفر: لا يجوز بحالٍ لأنّها إجارة بثمرةٍ معدومة أو مجهولة. وأجاب من جوّزه: بأنّه عقد على عمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة؛ لأنّ المضارب يعمل في المال بجزءٍ من نمائه وهو معدوم ومجهول، وقد صحّ عقد الإجارة مع أنّ المنافع معدومة فكذلك هنا. وأيضاً فالقياس في إبطال نصّ أو إجماع مردود. وأجاب بعضهم عن قصّة خيبر: بأنّها فتحت صلحاً، وأقرّوا على أنّ الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثّمرة، فكان ذلك يؤخذ بحقّ الجزية فلا يدلّ على جواز المساقاة. وتعقّب: بأنّ معظم خيبر فتح عنوة (¬1) وبأنّ كثيراً منها قسم بين الغانمين، وبأنّ عمر أجلاهم منها. فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها. واستدل من أجازه في جميع الثّمر: بأنّ في بعض طرق حديث الباب " بشطر ما يخرج منها من نخل وشجر " وفي رواية حمّاد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر في حديث الباب " على أنّ لهم الشّطر من كلّ زرع ونخل وشجر " وهو عند البيهقيّ من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) تقدّم الكلام عليه في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في وقف أبيه عمر - رضي الله عنه -. رقم (278)

واستدل بقوله " على شطر ما يخرج منها " , لجواز المساقاة بجزءٍ معلوم لا مجهول. واستدل به على جواز إخراج البذر من العامل أو المالك لعدم تقييده في الحديث بشيءٍ من ذلك. واحتجّ من منع: بأنّ العامل حينئذٍ كأنّه باع البذر من صاحب الأرض بمجهولٍ من الطّعام نسيئة. وهو لا يجوز. وأجاب من أجازه: بأنّه مستثنىً من النّهي عن بيع الطّعام بالطّعام نسيئة جمعاً بين الحديثين. وهو أولى من إلغاء أحدهما. وأشار البخاري: إلى أنّه لَم يقع في شيء من طرق هذا الحديث مقيّداً بسنين معلومة. وقد ترجم له " إذا قال ربّ الأرض: أُقرّك ما أَقرّك الله , ولَم يذكر أجلاً معلوماً فهما على تراضيهما " وساق الحديث. وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: نقرّكم ما شئنا. (¬1) هو ظاهر فيما ترجم له. وفيه دليل. وهو القول الأول: على جواز دفع النّخل مساقاة والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة , فيكون للمالك أن يخرج العامل متى شاء، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2213) ومسلم (1551) من حديث ابن عمر , أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين، وأراد إخراج اليهود منها، فسألتِ اليهودُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرّهم بها، أن يكفوا عملها، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نُقرّكم بها على ذلك ما شئنا، فقرُّوا بها. حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.

وقد أجاز ذلك من أجاز المخابرة والمزارعة. القول الثاني: قال أبو ثور: إذا أطلقا حمل على سنة واحدة. القول الثالث: عن مالك: إذا قال: ساقيتك كلّ سنة بكذا جاز , ولو لَم يذكر أمداً , وحمل قصّة خيبر على ذلك. واتّفقوا على أنّ الكري لا يجوز إلَّا بأجلٍ معلوم , وهو من العقود اللازمة.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون 292 - عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - , قال: كنا أكثر الأنصار حقلاً، قال: وكنا نكري الأرض على أنّ لنا هذه، ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولَم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم ينهنا. (¬1) الحديث السابع والثلاثون 293 - ولمسلم عن حنظلة بن قيسٍ: قال: سألت رافع بن خديجٍ عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، ولَم يكن للناس كراءٌ إلَّا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيءٌ معلومٌ مضمونٌ، فلا بأس به. (¬2) قال المصنف: الماذيانات: الأنهار الكبار. والجداول: نهر صغير. قوله: (عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -) بن رافع الأنصاري. (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2202 , 2207 , 2573) ومسلم (1547) من طرق عن يحيى بن سعيد عن حنظلة بن قيس الزرقي عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -. وللحديث طرق أخرى عن رافع في البخاري (2214 , 2218 , 3789) ومسلم (1547 , 1548). زاد بعضهم: عن رافع عن عمه ظهير. (¬2) أخرجه مسلم (1547) والبخاري أيضاً (2220) من طريق ربيعة بن عبد الرحمن عن حنظلة به. واللفظ لمسلم. واختصره البخاري , لكن قال عن رافع حدّثني عماي. (¬3) أبو عبد اللَّه. أو أبو خديج. عُرض على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فاستصغره، وأجازه يوم أحد، فخرج بها وشهد ما بعدها. استوطن المدينة إلى أن انتقضت جراحته في أول سنة 74 فمات، وهو ابن 86 سنة , وكان عريف قومه بالمدينة. كذا قال الواقديّ في وفاته. وقد ثبت , أنَّ ابن عمر صلّى عليه، وصرَّح بذلك الواقديّ. وابن عمر في أول سنة أربع كان بمكة عقب قتل ابن الزبير، ثم مات من الجرح الّذي أصابه من زجّ الرمح، فكأن رافعاً تأخّر حتى قدم ابن عمر المدينة فمات فصلّى عليه، ثم مات ابن عمر بعده، أو مات رافع في أثناء سنة ثلاث قبل أن يحجّ ابن عمر، فإنه ثبت أن ابن عمر شهد جنازته. وقال يحيى بن بكير: مات أول سنة 73، فهذا شبه. وأما البخاريّ فقال: مات في زمن معاوية. وهو المعتمد، وما عداه واه , وأرّخه ابن قانع سنة 59. وأخرج ابن شاهين من طريق محمد بن يزيد عن رجاله: أصاب رافعاً سهم يوم أحد فقال له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: إنْ شئت نزعت السّهم وتركت القطيفة، وشهدت لك يوم القيامة أنّك شهيد. فلمَّا كانت خلافة عثمان انتقض به ذلك الجرح فمات منه. كذا قال. والصّواب خلافة معاوية كما تقدم، ويحتمل أن يكون بين الانتقاض والموت مدّة.

قوله: (كنا أكثر الأنصار حقلاً) وللبخاري " أكثر أهل المدينة " وقوله فيه " حقلا " هو بفتح المهملة وسكون القاف. وأصل الحقل القراح الطّيّب، وقيل: الزّرع إذا تشعّب ورقه من قبل أن يغلظ سوقه، ثمّ أطلق على الزّرع. واشتقّ منه المحاقلة فأطلقت على المزارعة. قوله: (وكنا نكري الأرض على أنّ لنا هذه، ولهم هذه , فربما أخرجت هذه ولَم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك) وللبخاري " فربّما أخرجتْ ذِه , ولَم تخرج ذِه " بكسر المعجمة وسكون الهاء إشارة إلى القطعة. والنّهي الوارد عن كراء الأرض محمولٌ على ما إذا أكريت بشيءٍ مجهول وهو قول الجمهور، أو بشيءٍ ممّا يخرج منها ولو كان معلوماً،

وليس المراد النّهي عن كرائها بالذّهب أو الفضّة. وبالغ ربيعة. فقال: لا يجوز كراؤها إلَّا بالذّهب أو الفضّة. وخالف في ذلك طاووس (¬1) وطائفة قليلة. فقالوا: لا يجوز كراء الأرض مطلقاً، وذهب إليه ابن حزم , وقوّاه. واحتجّ له بالأحاديث المطلقة في ذلك. (¬2) وحديث الباب دالٌ على ما ذهب إليه الجمهور. ¬

_ (¬1) هذا ذهول من الشارح رحمه الله , فقد نقل الشارح نفسه عن طاووس ما رواه النسائي (3873) عن عمرو بن دينار، قال: كان طاووس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة، ولا يرى بالثلث والربع بأساً، فقال له مجاهد: اذهب إلى ابن رافع بن خديج فاسمع منه حديثه، فقال: إني والله لو أعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ما فعلته، ولكن حدثني من هو أعلم منه ابن عباس، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم ينه عنها , إنما قال: لأنْ يمنح أحدكم أخاه أرضه خيرٌ من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً. وأصله في صحيح البخاري (2330) ومسلم (1550) بلفظ: كان طاوس يخابر .. مختصراً قلتُ: وهذا ظاهر أنَّ طاوساً يرى كراهته بالذهب والفضة وجوازه بالثلث والربع. وعليه فيصلح أن يكون قولاً رابعاً. والله أعلم (¬2) أي: الأحاديث التي أطلقت النهي عن كراء الأرض دون تفصيل. فمنها ما أخرجه البخاري (2165) ومسلم (1547) عن نافع. قال: ذهبت مع ابن عمر إلى رافع بن خديج حتى أتاه بالبلاط , فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع. ومنها ما أخرجه البخاري (2215) ومسلم (1536) عن جابر - رضي الله عنه - قال: كانت لرجالٍ منا فُضُول أرضين , فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه. ولمسلم (1549) عن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزارعة. وغيرها. وقد أجاب عنها الشارح.

وقد أطلق ابن المنذر. أنّ الصّحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذّهب والفضّة، ونقل ابن بطّال اتّفاق فقهاء الأمصار عليه. وقد روى أبو داود عن سعد بن أبي وقّاص قال: كان أصحاب المزارع يكرونها بما يكون على المساقي من الزّرع، فاختصموا في ذلك، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُكروا بذلك , وقال: أكروا بالذّهب والفضّة. ورجاله ثقات، إلَّا أنّ محمّد بن عكرمة المخزوميّ لَم يرو عنه إلَّا إبراهيم بن سعد. وأمّا ما رواه التّرمذيّ من طريق مجاهد عن رافع بن خديج. في النّهي عن كراء الأرض ببعض خراجها أو بدراهم. فقد أعلَّه النّسائيّ , بأنّ مجاهداً لَم يسمعه من رافع. قلت: وراويه أبو بكر بن عيّاش في حفظه مقال، وقد رواه أبو عوانة - وهو أحفظ منه - عن شيخه فيه. فلم يذكر الدّراهم. وقد روى مسلم من طريق سليمان بن يسار عن رافع بن خديج في حديثه " ولَم يكن يومئذٍ ذهبٌ ولا فضّةٌ " ثمّ اختلف الجمهور في جواز كرائها بجزءٍ ممّا يخرج منها. فمَن قال بالجواز حمل أحاديث النّهي على التّنزيه. وعليه يدلّ قول ابن عبّاس في البخاري , إنّ النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - لَم ينه عنه , ولكن قال: أَنْ يمنح أحدكم أخاه خيرٌ له من أَنْ يأخذ شيئاً معلوماً. وللترمذي: ولكن أراد أن يرفق بعضهم ببعض. وقوله: " لَم ينه عنه " أي: عن إعطاء الأرض بجزءٍ ممّا يخرج منها،

ولَم يرد ابن عبّاس بذلك نفي الرّواية المثبتة للنّهي مطلقاً، وإنّما أراد أنّ النّهي الوارد عنه ليس على حقيقته , وإنّما هو على الأولويّة. وقيل المراد: أنّه لَم ينه عن العقد الصّحيح , وإنّما نهى عن الشّرط الفاسد، لكن قد وقع في رواية التّرمذيّ " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يحرّم المزارعة ". وهي تقوّي ما أوّلته. ومن لَم يجز إجارتها بجزءٍ ممّا يخرج منها , قال: النّهي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها , أو شرط ما ينبت على النّهر لصاحب الأرض لِمَا في كلّ ذلك من الغرر والجهالة. وقال مالك: النّهي محمول على ما إذا وقع كراؤها بالطّعام أو التّمر , لئلا يصير من بيع الطّعام بالطّعام. قال ابن المنذر: ينبغي أن يحمل ما قاله مالك على ما إذا كان المكرى به من الطّعام جزءاً ممّا يخرج منها، فأمّا إذا اكتراها بطعامٍ معلوم في ذمّة المكتري أو بطعامٍ حاضر يقبضه المالك فلا مانع من الجواز. والله أعلم. قوله: (سألت رافع بن خديجٍ عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به .. إلخ). وللبخاري: عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج، قال: حدثني عمَّايَ، أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ينبت على الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض. فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم.

والإربعاء: جمع ربيع وهو النهر الصغير. والمعنى أنهم كانوا يكرون الأرض ويشترطون لأنفسهم ما ينبت على الأنهار. وقول رافع: ليس به بأس. يحتمل: أن يكون ذلك. قاله رافع باجتهاده. ويحتمل: أن يكون علم ذلك بطريق التّنصيص على جوازه، أو علم أنّ النّهي عن كراء الأرض ليس على إطلاقه , بل بما إذا كان بشيءٍ مجهول ونحو ذلك، فاستنبط من ذلك جواز الكراء بالذّهب والفضّة. ويرجّح كونه مرفوعاً ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ بإسنادٍ صحيح من طريق سعيد بن المسيّب عن رافع بن خديج قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنّما يزرع ثلاثة: رجل له أرض، ورجل منح أرضاً، ورجل اكترى أرضاً بذهبٍ أو فضّة ". لكن بيّن النّسائيّ من وجه آخر , أنّ المرفوع منه النّهي عن المحاقلة والمزابنة , وأنّ بقيّته مدرج من كلام سعيد بن المسيّب، وقد رواه مالك في " الموطّأ " والشّافعيّ عنه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيّب. قوله: (الماذيانات) بكسر الذال ويجوز فتحها. قيل: هي السواقي الصغار , وقيل: الأنهار الكبار

قوله: (وأقبال الجداول) أي: وقت سيلها. (¬1) ¬

_ (¬1) قال النووي في " شرح مسلم " (10/ 198): الماذيانات بذال معجمة مكسورة ثم ياء مثناه تحت ثم الف ثم نون ثم الف ثم مثناة فوق. هذا هو المشهور , وحكى القاضي عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم , وهي مسايل المياه. وقيل: ما ينبت على حافتي مسيل الماء , وقيل: ما ينبت حول السواقي. وهي لفظة مُعربة ليست عربية. وأما قوله " وإقبال " فبفتح الهمزة أي: أوائلها ورؤسها. والجداول جمع جدول وهو النهر الصغير كالساقية. انتهى كلامه رحمه الله.

باب العمرى

باب العُمرى الحديث الثامن والثلاثون 294 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قضى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمرى أنها لمن وهبت له. (¬1) وفي لفظ: من أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع للذي أعطاها، لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث. وقال جابرٌ: إنما العُمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها. (¬2) وفي لفظ لمسلمٍ: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه. (¬3) قوله: (قضى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمرى) العُمرى بضمّ المهملة وسكون الميم مع القصر، وحكي: ضمّ الميم مع ضمّ أوّله , وحكي: فتح أوّله مع السّكون مأخوذ من العمر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4282) ومسلم (1625) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر - رضي الله عنه - (¬2) أخرجه مسلم (1625) من طريق الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه مسلم (1625) من طريق أبي خيثمة وغيره عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - به.

والرُّقبى بوزنها مأخوذة من المراقبة , لأنّهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة فيعطي الرّجل الدّار ويقول له: أعمرتك إيّاها. أي: أبحتها لك مدّة عمرك فقيل لها: عمرى لذلك , وكذا قيل لها: رُقبى , لأنّ كلاً منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه , وكذا ورثته فيقومون مقامه في ذلك هذا أصلها لغة. أمّا شرعاً. فالجمهور على أنّ العُمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخذ , ولا ترجع إلى الأوّل , إلَّا إن صرّح باشتراط ذلك. وذهب الجمهور: إلى صحّة العُمرى , إلَّا ما حكاه أبو الطّيّب الطّبريّ عن بعض النّاس والماورديّ عن داود وطائفة. لكنّ ابن حزمٍ قال بصحّتها. وهو شيخ الظّاهريّة ثمّ اختلفوا إلى ما يتوجّه التّمليك. القول الأول: الجمهور أنّه يتوجّه إلى الرّقبة كسائر الهبات حتّى لو كان المعمّر عبداً فأعتقه الموهوب له نفذ بخلاف الواهب القول الثاني: يتوجّه إلى المنفعة دون الرّقبة , وهو قول مالك والشّافعيّ في القديم. وهل يسلك به مسلك العاريّة أو الوقف؟ روايتان عند المالكيّة. القول الثالث: عن الحنفيّة التّمليك في العُمرى يتوجّه إلى الرّقبة , وفي الرُّقبى إلى المنفعة , وعنهم أنّها باطلة قوله: (أنها لمن وُهبت له) هو بفتح " أنّها " أي: قضى بأنّها , وفي رواية الزّهريّ عن أبي سلمة عند مسلم " أيّما رجلٍ أعمر عمرى له

ولعقبه , فإنّها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها , لأنّه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث " هذا لفظه من طريقٍ مالك عن الزّهريّ. وله نحوه من طريق ابن جريجٍ عن الزّهريّ , وله من طريق الليث عنه: فقد قطع قوله حقّه فيها , وهي لمن أعمر ولعقبه. ولَم يذكر التّعليل الذي في آخره. وله من طريق معمرٍ عنه " إنّما العُمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك فأمّا الذي قال: هي لك ما عشت " فإنّها ترجع إلى صاحبها , قال معمر: كان الزّهريّ يفتي به , ولَم يذكر التّعليل أيضاً. وبيّن من طريق ابن أبي ذئب عن الزّهريّ , أنّ التّعليل من قول أبي سلمة. وقد أوضحته في كتاب " المدرج ". وأخرجه مسلم من طريق أبي الزّبير عن جابر قال: جعل الأنصار يعمرون المهاجرين. فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها. فإنّه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيّاً وميّتاً ولعقبه. فيجتمع من هذه الرّوايات ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: " هي لك ولعقبك " فهذا صريح في أنّها للموهوب له ولعقبه. ثانيها: أن يقول: " هي لك ما عشت فإذا متّ رجعت إليّ " فهذه عاريّة مؤقّتة وهي صحيحة. فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى. وقد بيّنتْ هذه والتي قبلها رواية الزّهريّ. وبه قال أكثر العلماء ,

ورجّحه جماعة من الشّافعيّة. والأصحّ عند أكثرهم. لا ترجع إلى الواهب. واحتجّوا: بأنّه شرطٌ فاسدٌ فألغي , وسأذكر الاحتجاج لذلك آخر الشرح. ثالثها: أن يقول: أعمرتكها ويطلق، فرواية أبي الزّبير هذه تدل على أنّ حكمها حكم الأوّل , وأنّها لا ترجع إلى الواهب. وهو قول الشّافعيّ في الجديد والجمهور. وقال في القديم: العقد باطل من أصله. وعنه كقول مالكٍ. وقيل: القديم عن الشّافعيّ كالجديد. وقد روى النّسائيّ , أنّ قتادة حكى , أنّ سليمان بن هشام بن عبد الملك سأل الفقهاء عن هذه المسألة. أعني صورة الإطلاق. فذكر له قتادة عن الحسن وغيره أنّها جائزةٌ , وذكر له حديث أبي هريرة , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: العُمرى جائزة. قال: وذكر له عن عطاءٍ عن جابر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك (¬1) قال: فقال الزّهريّ: إنّما العُمرى. أي: الجائزة إذا أعمر له ولعقبه من بعده , فإذا لَم يجعل عقبه من بعده كان للذي يجعل شرطه. ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (2626) ومسلم (4289) من طريق قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة به. دون القصّة. وأخرجاه من طريق قتادة عن عطاء عن جابر. دون القصة.

قال قتادة: واحتجّ الزّهريّ بأنّ الخلفاء لا يقضون بها , فقال عطاء: قضى بها عبد الملك بن مروان. وإطلاق الجواز في هذه الرّواية لا يفهم منه غير الحل أو الصّحّة، وأمّا حمله على الماضي للذي يعاطاها , وهو الذي حمله عليه قتادة فيحتاج إلى قدر زائد على ذلك. وقد أخرج النّسائيّ من طريق محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً: لا عمرى، فمن أعمر شيئاً فهو له. وهو يشهد لِما فهمه قتادة. تكميل: العُمرى والرُّقبى متّحدا المعنى. وهو قول الجمهور. ومنَعَ الرُّقبى مالكٌ وأبو حنيفة ومحمّد، ووافق أبو يوسف الجمهور. وقد روى النّسائيّ بإسنادٍ صحيح عن ابن عبّاس موقوفاً: العُمرى والرُّقبى سواء. وله من طريق إسرائيل عن عبد الكريم عن عطاء قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العُمرى والرُّقبى. قلت: وما الرُّقبى؟ قال: يقول الرّجل للرّجل هي لك حياتك، فإن فعلتم فهو جائز. هكذا أخرجه مرسلاً. وأخرجه من طريق ابن جريج عن عطاء عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر مرفوعاً: لا عُمرى ولا رُقبى، فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو له حياته ومماته. رجاله ثقات، لكن اختلف في سماع حبيب له من ابن عمر: فصرّح به النّسائيّ من طريق، ومعناه في طريق أخرى.

وقال الماورديّ: اختلفوا إلى ماذا يوجّه النّهي؟. والأظهر. أنّه يتوجّه إلى الحكم. وقيل: يتوجّه إلى اللفظ الجاهليّ والحكم المنسوخ. وقيل: النّهي إنّما يمنع صحّة ما يفيد المنهيّ عنه فائدة، أمّا إذا كان صحّة المنهيّ عنه ضرراً على مرتكبه فلا يمنع صحّته كالطّلاق في زمن الحيض، وصحّة العُمرى ضرر على المُعمِر، فإنّ ملكه يزول بغير عوض؟. هذا كله إذا حُمل النّهي على التّحريم، فإنْ حُمل على الكراهة أو الإرشاد لَم يحتج إلى ذلك، والقرينة الصّارفة ما ذكر في آخر الحديث من بيان حكمه. ويصرّح بذلك قوله: " العُمرى جائزة " , وللتّرمذيّ من طريق أبي الزّبير عن جابر رفعه " العُمرى جائزة لأهلها، والرُّقبى جائزة لأهلها " والله أعلم. قال بعض الحذّاق: إجازة العُمرى والرُّقبى بعيدٌ عن قياس الأصول، ولكنّ الحديث مقدّم، ولو قيل بتحريمهما للنّهي، وصحّتهما للحديث لَم يبعد، وكأنّ النّهي لأمرٍ خارج وهو حفظ الأموال، ولو كان المراد فيهما المنفعة كما قال مالك لَم ينه عنهما. والظّاهر أنّه ما كان مقصود العرب بهما إلَّا تمليك الرّقبة بالشّرط المذكور، فجاء الشّرع بمراغمتهم فصحّح العقد على نعت الهبة المحمودة، وأبطل الشّرط المضادّ لذلك فإنّه يشبه الرّجوع في الهبة،

وقد صحّ النّهي عنه , وشبّه بالكلب يعود في قيئه. وقد روى النّسائيّ من طريق أبي الزّبير عن ابن عبّاس رفعه " العُمرى لمن أعمرها والرُّقبى لمن أرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه ". فشرط الرّجوع المقارن للعقد مثل الرّجوع الطّارئ بعده فنهى عن ذلك، وأمر أن يبقيها مطلقاً أو يخرجها مطلقاً، فإن أخرجها على خلاف ذلك بطل الشّرط وصحّ العقد مراغمة له. وهو نحو إبطال شرط الولاء.

باب المظالم

باب المظالم المظالم: جمع مظلمة مصدر ظلم يظلم , واسمٌ لِما أخذ بغير حق. والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي , والغصب أخذ حق الغير بغير حق. الحديث التاسع والثلاثون 295 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يَمنعنَّ جارٌ جاره، أن يغرز خشبه في جداره، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأَرمينّ بها بين أكتافكم. (¬1) قوله: (ولا يمنع) بالجزم على أنّ " لا " ناهية، ولأبي ذرّ بالرّفع على أنّه خبر بمعنى النّهي، ولأحمد " لا يمنعنّ " بزيادة نون التّوكيد. وهي تؤيّد رواية الجزم. قوله: (جارٌ جاره .. إلخ). استُدل به. وهو القول الأول: على أنّ الجدار إذا كان لواحدٍ وله جارٌ فأراد أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2331) من طريق عبد الله بن مسلمة , ومسلم (1609) من طريق يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (1609) من طرق أخرى عن الزهري به. وللبخاري (5304) من طريق عكرمة عن أبي هريرة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فم القربة أو السقاء، وأنْ يمنع جارَه أن يغرز خشبه في داره.

يضع جذعه عليه جاز. سواء أذن المالك أم لا، فإن امتنع أجبر. وبه قال أحمد وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث , وابن حبيب من المالكيّة والشّافعيّ في القديم. القول الثاني: عن الشافعي في الجديد قولان. أشهرهما اشتراط إذن المالك , فإن امتنع لَم يجبر. وهو قول الحنفيّة. وحملوا الأمر في الحديث على النّدب، والنّهي على التّنزيه جمعاً بينه وبين الأحاديث الدّالة على تحريم مال المسلم إلَّا برضاه. وفيه نظرٌ كما سيأتي. وجزم التّرمذيّ وابن عبد البرّ عن الشّافعيّ بالقول القديم , وهو نصّه في البويطيّ. قال البيهقيّ: لَم نجد في السّنن الصّحيحة ما يعارض هذا الحكم إلَّا عمومات لا يستنكر أن نخصّها , وقد حمله الرّاوي على ظاهره، وهو أعلم بالمراد بما حدث به، يشير إلى قول أبي هريرة " ما لي أراكم عنها معرضين ". قوله: (أن يغرز خشبه في جداره) بصيغة الجمع , ولمسلم " خشبةً ". قال ابن عبد البرّ: روي اللفظان في " الموطّأ " (¬1) والمعنى واحد , لأنّ المراد بالواحد الجنس. انتهى ¬

_ (¬1) انظر تخريج حديث الباب.

وهذا الذي يتعيّن للجمع بين الرّوايتين، وإلَّا فالمعنى قد يختلف باعتبار أنّ أمر الخشبة الواحدة أخفّ في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير. وروى الطّحاويّ عن جماعةٍ من المشايخ أنّهم رووه بالإفراد. وأنكر ذلك عبد الغنيّ بن سعيد فقال: النّاس كلهم يقولونه بالجمع إلَّا الطّحاويّ، واختلاف الرّواة في الصّحيح يردّ على عبد الغنيّ بن سعيد إلَّا إن أراد خاصّاً من النّاس كالذين روى عنهم الطّحاويّ. فله اتّجاه. قوله: (ثمّ يقول أبو هريرة) في رواية ابن عيينة عن الزهري عند أبي داود " فنكّسوا رءوسهم " ولأحمد " فلمّا حدّثهم أبو هريرة بذلك طأطئوا رءوسهم ". قوله: (عنها) أي: عن هذه السّنّة أو عن هذه المقالة. قوله: (لأرمينّ بها) في رواية أبي داود " لألقينّها " أي: لأشيعنّ هذه المقالة فيكم ولأقرّعنّكم بها كما يضرب الإنسان بالشّيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته. قوله: (بين أكتافكم) قال ابن عبد البرّ: رويناه في " الموطّأ " بالمثنّاة وبالنّون. والأكناف بالنّون جمع كنف بفتحها وهو الجانب. قال الخطّابيّ: معناه إن لَم تقبلوا هذا الحكم , وتعملوا به راضين لأجعلنّها. أي: الخشبة على رقابكم كارهين. قال: وأراد بذلك المبالغة.

وبهذا التّأويل جزم إمام الحرمين تبعاً لغيره , وقال: إنّ ذلك وقع من أبي هريرة حين كان يلي إمرة المدينة. وقد وقع عند ابن عبد البرّ من وجهٍ آخر " لأرمينّ بها بين أعينكم وإن كرهتم " وهذا يرجّح التّأويل المتقدّم. واستدل المُهلَّب من المالكيّة بقول أبي هريرة " ما لي أراكم عنها معرضين " بأنّ العمل كان في ذلك العصر على خلاف ما ذهب إليه أبو هريرة، قال: لأنّه لو كان على الوجوب لَمَا جهل الصّحابة تأويله , ولا أعرضوا عن أبي هريرة حين حدّثهم به، فلولا أنّ الحكم قد تقرّر عندهم بخلافه لَمَا جاز عليهم جهل هذه الفريضة فدلَّ على أنّهم حملوا الأمر في ذلك على الاستحباب. انتهى. وما أدري من أين له أنّ المعرضين كانوا صحابةً , وأنّهم كانوا عدداً لا يجهل مثلهم الحكم، ولِمَ لا يجوِّز أن يكون الذين خاطبهم أبو هريرة بذلك كانوا غير فقهاء، بل ذلك هو المتعيّن، وإلَّا فلو كانوا صحابةً أو فقهاء ما واجههم بذلك. وقد قوّى الشّافعيّ في القديم القول بالوجوب: بأنّ عمر قضى به , ولَم يخالفه أحد من أهل عصره فكان اتّفاقاً منهم على ذلك. انتهى. ودعوى الاتّفاق هنا أولى من دعوى المُهلَّب، لأنّ أكثر أهل عصر عمر كانوا صحابة، وغالب أحكامه منتشرة لطول ولايته، وأبو هريرة إنّما كان يلي إمرة المدينة نيابة عن مروان في بعض الأحيان. وأشار الشّافعيّ إلى ما أخرجه مالكٌ. ورواه هو عنه بسندٍ صحيحٍ

, أنّ الضّحّاك بن خليفة سأل محمّد بن مسلمة أن يسوق خليجاً له فيمرّ به في أرض محمّد بن مسلمة، فكلَّمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرّنّ به ولو على بطنك. فحمل عمر الأمر على ظاهره وعدّاه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه. وفي دعوى العمل على خلافه نظرٌ. فقد روى ابن ماجه والبيهقيّ من طريق عكرمة بن سلمة , أنّ أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما. إنْ غَرَزَ أحدٌ في جداره خشباً , فأقبل مجمّع بن جارية ورجال كثيرٌ من الأنصار فقالوا: نشهد أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال .. الحديث. فقال الآخر: يا أخي قد علمتُ أنّك مقضيٌّ لك عليّ وقد حلفت، فاجعل أسطواناً دون جداري فاجعل عليه خشبك. وروى إسحاق (¬1) في " مسنده " والبيهقيّ من طريقه عن يحيى بن جعدة أحد التّابعين قال: أراد رجلٌ أن يضع خشبةً على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه، فإذا مَن شئتَ من الأنصار يحدّثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه نهاه أن يمنعه فجُبر على ذلك. وقيّد بعضهم الوجوب: بما إذا تقدّم استئذان الجار في ذلك. مستنداً إلى ذكر الإذن في بعض طرقه , وهو في رواية ابن عيينة عند أبي ¬

_ (¬1) أي: ابن راهويه. والأثر في سنن البيهقي (6/ 114) من طريقه. تنبيه: وقع في المطبوع (ابن إسحاق) وهو خطأٌ

داود وعقيلٍ أيضاً وأحمد عن عبد الرّحمن بن مهديّ عن مالك " من سأله جاره " وكذا لابن حبّان من طريق الليث عن مالك , وكذا لأبي عوانة من طريق زياد بن سعد عن الزّهريّ، وأخرجه البزّار من طريق عكرمة عن أبي هريرة. ومنهم: من حمل الضّمير في جداره على صاحب الجذع. أي: لا يمنعه أن يضع جذعه على جدار نفسه ولو تضرّر به من جهة منع الضّوء مثلاً. ولا يخفى بُعدُه. وقد تعقّبه ابن التّين: بأنّه إحداث قولٍ ثالثٍ في معنى الخبر , وقد ردّه أكثر أهل الأصول. وفيما قال نظرٌ؛ لأنّ لهذا القائل أن يقول: هذا ممّا يستفاد من عموم النّهي , لا أنّه المراد فقط. والله أعلم. ومحل الوجوب عند مَن قال به. أن يحتاج إليه الجار , ولا يضع عليه ما يتضرّر به المالك , ولا يقدّم على حاجة المالك، ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى نقب الجدار أو لا، لأنّ رأس الجذع يسدّ المنفتح ويقوّي الجدار.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون 296 - عن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ظلم من الأرض قِيدَ شبرٍ، طوّقه من سبع أرضين. (¬1) قوله: (من ظلم من الأرض قيد شبرٍ) وللبخاري من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن سهل عن سعيد بن زيد " من ظلم من الأرض شيئاً " وفي رواية عروة عن سعيد بن زيد في الصحيحين: من أخذ شبراً من الأرض ظلماً. والقِيد: بكسر القاف وسكون التّحتانيّة. أي: قدره , وكأنّه ذكر الشّبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد. قوله: (طُوّقه) بضمّ أوّله على البناء للمجهول، وفي رواية عروة " فإنّه يطوّقه " ولأبي عوانة والجوزقيّ في حديث أبي هريرة " جاء به مقلده ". قوله: (من سبع أرضين) بفتح الرّاء ويجوز إسكانها. قال الخطّابيّ قوله: " طوّقه " له وجهان: أحدهما: أنّ معناه أنّه يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطّوق في عنقه، لا أنّه طوقٌ حقيقةً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2321 , 3023) ومسلم (1612) من طريق يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم، أنَّ أبا سلمة حدَّثه، وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض، وأنه دخل على عائشة فذكر ذلك لها، فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ظلم. فذكرته.

الثّاني: معناه أنّه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين. أي: فتكون كل أرضٍ في تلك الحالة طوقاً في عنقه. انتهى. وهذا يؤيّده حديث ابن عمر في البخاري بلفظ " خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " وقيل معناه كالأوّل، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقاً ويعظم قدر عنقه حتّى يسع ذلك. كما ورد في غلظ جلد الكافر (¬1). ونحو ذلك. وقد روى الطّبريّ وابن حبّان من حديث يعلى بن مرّة مرفوعاً: أيّما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض كلَّفه الله أن يحفره حتّى يبلغ آخر سبع أرضين، ثمّ يطوّقه يوم القيامة حتّى يقضى بين النّاس. ولأبي يعلى بإسنادٍ حسنٍ عن الحكم بن الحارث السّلميّ مرفوعاً " من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين ". ونظير ذلك في حديث أبي هريرة في حقّ من غلَّ بعيراً جاء يوم القيامة يحمله. (¬2) ويحتمل: أن يكون المراد بقوله: " يطوّقه " يُكلّف أن يجعله له ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2851) عن أبي هريرة مرفوعاً: ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد , وغلظ جلده مسيرة ثلاث. (¬2) أخرجه البخاري (1402). ومسلم (4839) عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فذكر الغلول فعظَّمه وعظَّم أمره , ثم قال: لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء يقول: يا رسولَ الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين ... الحديث.

طوقاً ولا يستطيع ذلك فيعذّب بذلك، كما جاء في حقّ من كذب في منامه كلف أن يعقد شعيرة. (¬1) ويحتمل: أن يكون التّطويق تطويق الإثم، والمراد به أنّ الظّلم المذكور لازمٌ له في عنقه لزوم الإثم، ومنه قوله تعالى " ألزمناه طائره في عنقه ". بالوجه الأوّل جزم أبو الفتح القشيريّ , وصحَّحه البغويّ. ويحتمل: أن تتنوّع هذه الصّفات لصاحب هذه الجناية , أو ينقسم أصحاب هذه الجناية , فيعذّب بعضهم بهذا , وبعضهم بهذا بحسب قوّة المفسدة وضعفها. وقد روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ حسنٍ من حديث أبي مالك الأشعريّ: أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يسرقه رجلٌ فيطوّقه من سبع أرضين. وفي الحديث تحريم الظّلم والغصب وتغليظ عقوبته، وإمكان غصب الأرض , وأنّه من الكبائر. قاله القرطبيّ. وكأنّه فرّعه على أنّ الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد، وأنّ من ملك أرضاً ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من حفر تحتها سرباً أو بئراً بغير رضاه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6635) عن ابن عباس - رضي الله عنه - رفعه: من تحلَّم بحلم لم يره. كُلف أنْ يعقدَ بين شعيرتين، ولن يفعل .. الحديث.

وفيه أنّ من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارةٍ ثابتةٍ وأبنية ومعادن وغير ذلك، وأنّ له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لَم يضرّ بمن يجاوره. وفيه أنّ الأرضين السّبع متراكمة لَم يفتق بعضها من بعضٍ , لأنّها لو فتقت لاكتفي في حقّ هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عمّا تحتها. أشار إلى ذلك الدّاوديّ. وفيه أنّ الأرضين السّبع طباق كالسّموات، وهو ظاهر قوله تعالى: (ومن الأرض مثلهنّ) خلافاً لمَن قال: إنّ المراد بقوله سبع أرضين سبعة أقاليم , لأنّه لو كان كذلك لَم يطوّق الغاصب شبراً من إقليمٍ آخر. قاله ابن التّين. وهو والذي قبله مبنيّ على أنّ العقوبة متعلقة بما كان بسببها وإلَّا مع قطع النّظر عن ذلك لا تلازم بين ما ذكروه. تكميل: قال الله تعالى (الله الذي خلق سبع سمواتٍ ومن الأرض مثلهنّ). قال الدّاوديّ: فيه دلالة على أنّ الأرضين بعضها فوق بعض مثل السّماوات , ونقل عن بعض المتكلمين أنّ المثليّة في العدد خاصّة وأنّ السّبع متجاورة، وحكى ابن التّين. عن بعضهم أنّ الأرض واحدة، قال: وهو مردود بالقرآن والسّنّة. قلت: لعله القول بالتّجاور، وإلا فيصير صريحاً في المخالفة. ويدل للقول الظّاهر ما رواه ابن جرير من طريق شعبة عن عمرو

بن مرّة عن أبي الضّحى عن ابن عبّاس في هذه الآية (ومن الأرض مثلهنّ) قال: في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض من الخلق، هكذا أخرجه مختصراً , وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم والبيهقيّ من طريق عطاء بن السّائب عن أبي الضّحى مطوّلاً وأوّله " أي سبع أرضين في كل أرض آدم كآدمكم , ونوح كنوحكم , وإبراهيم كإبراهيمكم , وعيسى كعيسى , ونبيّ كنبيّكم. قال البيهقيّ: إسناده صحيح، إلَّا أنّه شاذّ بمرّة. وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عبّاس قال: لو حدّثكم بتفسير هذه الآية لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها. ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس نحوه. وزاد " وهنّ مكتوبات بعضهنّ على بعض " وظاهر قوله تعالى (ومن الأرض مثلهنّ) يردّ أيضاً على أهل الهيئة قولهم أن لا مسافة بين كل أرض وأرض وإن كانت فوقها، وأنّ السّابعة صمّاء لا جوف لها، وفي وسطها المركز وهي نقطة مقدّرة متوهّمة، إلى غير ذلك من أقوالهم التي لا برهان عليها. وقد روى أحمد والتّرمذيّ من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إنّ بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأنّ سُمك كل سماء كذلك، وأنّ بين كل أرض وأرض خمسمائة عام " وأخرجه إسحاق بن راهويه والبزّار من حديث أبي ذرّ نحوه.

ولأبي داود والتّرمذيّ من حديث العبّاس بن عبد المطّلب مرفوعاً " بين كل سماء وسماء إحدى أو اثنتان وسبعون سنة ". وجمع بين الحديثين بأنّ اختلاف المسافة بينهما باعتبار بطء السّير وسرعته. فالخمسمائة على السير البطيء كسير الماشي على هينته , وتحمل السبعين على السير السريع كسير السعاة. ولولا التحديد بالزيادة على السبعين لحملنا السبعين على المبالغة فلا تنافي الخمسمائة.

باب اللقطة

باب اللقطة اللقطة الشّيء الذي يلتقط، وهو بضمّ اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدّثين، وقال عياض: لا يجوز غيره. وقال الزّمخشريّ في الفائق: اللقطة بفتح القاف والعامّة تسكّنها. كذا قال، وقد جزم الخليل بأنّها بالسّكون قال: وأمّا بالفتح فهو اللاقط. وقال الأزهريّ: هذا الذي قاله هو القياس , ولكنّ الذي سمع من العرب , وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح. وقال ابن برّي: التّحريك للمفعول نادر فاقتضى أنّ الذي قاله الخليل هو القياس. وفيها لغتان أيضاً: لقاطةٌ بضمّ اللام، ولقطة بفتحها. وقد نظم الأربعة ابن مالك حيث قال: لقاطةٌ ولقطةٌ ولقطه ... ولقطةٌ ما لاقطٌ قد لقطه ووجّه بعض المتأخّرين فتح القاف في المأخوذ أنّه للمبالغة. وذلك لمعنىً فيها اختصّت به، وهو أنّ كلّ من يراها يميل لأخذها فسمّيت باسم الفاعل لذلك.

الحديث الواحد والأربعون

الحديث الواحد والأربعون 297 - عن زيد بن خالدٍ الجُهنيّ - رضي الله عنه - , قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُقطة الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءَها وعفاصَها، ثم عرّفها سنة، فإن لَم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدّها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها؟ دعها فإنّ معها حذاءَها وسقاءَها، ترِد الماء، وتأكلُ الشجر، حتى يجدَها ربُّها، وسألَه عن الشاة، فقال: خُذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. (¬1) قوله: (عن زيد بن خالدٍ الجُهنيّ - رضي الله عنه -) (¬2) قوله: (سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري من رواية سفيان عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن " جاء أعرابيّ ". وفي رواية مالك عن ربيعة في الصحيحين " جاء رجلٌ ". وزعم ابن بشكوال. وعزاه لأبي داود وتبعه بعض المتأخّرين: أنّ السّائل المذكور هو بلال المؤذّن، ولَم أر عند أبي داود في شيءٍ من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (91 , 2243 , 2295 , 2296 , 2297 , 2304 , 2306 , 4986 , 5761) ومسلم (1722) من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وكذا يحيى بن سعيد كلاهما عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد - رضي الله عنه -. ولمسلم (1722) من وجهٍ آخر عن بسر بن سعيد عن زيد خالد نحوه مختصراً. (¬2) مختلف في كنيته أبو زرعة وأبو عبد الرحمن وأبو طلحة. شهد الحديبية , وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. قال ابن البرقي وغيره: مات سنة 78 بالمدينة. وله 85 , وقيل: مات سنة 68 , وقيل مات قبل ذلك في خلافة معاوية بالمدينة. قاله في الإصابة.

النّسخ شيئاً من ذلك. وفيه بُعدٌ أيضاً , لأنّه لا يوصف بأنّه أعرابيّ. وقيل: السّائل هو الرّاوي. وفيه بعدٌ أيضاً لِما ذكرناه. ومستند مَن قال ذلك ما رواه الطّبرانيّ من وجهٍ آخر عن ربيعة بهذا الإسناد فقال فيه " إنّه سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". لكن رواه أحمد من وجهٍ آخر عن زيد بن خالد فقال فيه , أنّه سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أو أنّ رجلاً سأل. على الشّكّ. وأيضاً فإنّ في رواية ابن وهب (¬1) المذكورة عن زيد بن خالد " أتى رجلٌ وأنا معه " فدلَّ هذا على أنّه غيره , ولعله نسب السّؤال إلى نفسه لكونه كان مع السّائل. ثمّ ظفرتُ بتسمية السّائل , وذلك فيما أخرجه الحميديّ والبغويّ وابن السّكن والباروديّ والطّبرانيّ كلّهم من طريق محمّد بن معن الغفاريّ عن ربيعة عن عقبة بن سويد الجهنيّ عن أبيه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة؟ فقال: عرّفها سنةً ثمّ أوثق وعاءها. فذكر الحديث. وقد ذكر أبو داود طرفاً منه تعليقاً. ولَم يسق لفظه. وكذلك ¬

_ (¬1) رواية ابن وهب. أخرجها مسلم (1722) عنه عن مالك وسفيان وعمرو بن الحارث عن ربيعة به.

البخاريّ في " تاريخه ". وهو أولى ما يفسّر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد. وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطّبرانيّ من حديث أبي ثعلبة الخشنيّ قال: قلت: يا رسولَ الله. الورق يوجد عند القرية؟، قال: عرّفها حولاً. الحديث، وفيه سؤاله عن الشّاة والبعير وجوابه. وهو في أثناء حديث طويلٍ. أخرج أصله النّسائيّ. وقيل: هو عمير والد مالك , وروى الإسماعيليّ في " الصّحابة " من طريق مالك بن عمير عن أبيه , أنّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة؟ فقال: إن وجدتَ من يعرفها فادفعها إليه. الحديث. وإسناده واهٍ جدّاً. وروى الطّبرانيّ من حديث الجارود العبديّ قال: قلت: يا رسولَ الله اللقطة نجدها؟، قال: أنشدها , ولا تكتم ولا تغيّب. الحديث. قوله: (عن لقطة الذهب والفضة) في رواية سفيان " فسأله عمّا يلتقطه " في أكثر الرّوايات أنّه سأل عن اللقطة، زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث " الذّهب والفضّة ". وهو كالمثال وإلَّا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ مثلاً وغير ذلك ممّا يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة , وفي إعطائه الحكم المذكور. ووقع لأبي داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه بلفظ " وسئل عن اللقطة ".

قوله: (اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرّفها سنةً) في رواية الثوري " عرّفها سنةً ثمّ اعرف عفاصها ووكاءها " وفي رواية العقديّ عن سليمان بن بلال في البخاري " اعرف وكاءها أو قال: عفاصها ". ولمسلمٍ من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد " فاعرف عفاصَها ووعاءَها وعددَها " زاد فيه العدد كما في حديث أبيّ بن كعب. ووقع في رواية مالك كما في الصحيحين " اعرف عفاصها ووكاءها , ثمّ عرّفها سنة ". ووافقه الأكثر. نعم. وافق الثّوريّ. ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ " عرّفها حولاً، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلَّا اعرف وكاءها وعفاصها ثمّ اقبضها في مالك " الحديث. وهو يقتضي أنّ التّعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات. ورواية الثوري. تقتضي أنّ التّعريف يسبق المعرفة. وقال النّوويّ: يجمع بينهما بأن يكون مأموراً بالمعرفة في حالتين، فيعرّف العلامات أوّل ما يلتقط حتّى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدّم، ثمّ بعد تعريفها سنةً إذا أراد أن يتملكها فيعرّفها مرّة أخرى تعرّفاً وافياً محقّقاً. ليعلم قدرها وصفتها فيردّها إلى صاحبها. قلت: ويحتمل أن تكون " ثمّ " في الرّوايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيباً , ولا تقتضي تخالفاً يحتاج إلى الجمع. ويقوّيه كون المخرج واحداً والقصّة واحدة , وإنّما يحسّن ما تقدّم أن

لو كان المخرج مختلفاً فيحمل على تعدّد القصّة، وليس الغرض إلَّا أن يقع التّعرّف والتّعريف مع قطع النّظر عن أيّهما أسبق. واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء. ظهرهما: الوجوب لظاهر الأمر. وقيل: يستحبّ. وقال بعضهم: يجب عند الالتقاط، ويستحبّ بعده. قوله: (وكاءها) بكسر الواو ما يربط به. قوله: (وعفاصها) العفاص بكسر المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف مهملة: الوعاء الذي تكون فيه النّفقة جلداً كان أو غيره. وقيل له العفاص أخذاً من العفص وهو الثّني , لأنّ الوعاء يثنى على ما فيه. وقد وقع في " زوائد المسند " لعبد الله بن أحمد من طريق الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة في حديث أُبَيّ " وخِرْقتَها " بدل عفاصها , والعفاص أيضاً الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأمّا الذي يدخل فم القارورة من جلدٍ أو غيره فهو الصّمام بكسر الصّاد المهملة. قلت: فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثّاني , وحيث لَم يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الأوّل، والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النّفقة. ويلتحق بما ذكر حفظ الجنس والصّفة والقدر والكيل فيما يكال , والوزن فيما يوزن , والذّرع فيما يذرع.

وقال جماعةٌ من الشّافعيّة: يستحبّ تقييدها بالكتابة خوف النّسيان. واختلفوا فيما إذا عرّف بعض الصّفات دون بعض بناءً على القول بوجوب الدّفع لمن عرّف الصّفة. قال ابن القاسم: لا بدّ من ذكر جميعها. وكذا قال أصبغ. لكن قال: لا يشترط معرفة العدد. وقول ابن القاسم , أقوى لثبوت ذكر العدد في الرّواية الأخرى وزيادة الحافظ حجّة. قوله: (عرّفها) بالتّشديد وكسر الرّاء. أي: اذكرها للنّاس. قال العلماء: محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له نفقةٌ أو نحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئاً من الصّفات. وقوله: (سنة) أي: متوالية فلو عرّفها سنة متفرّقة لَم يكف كأن يعرّفها في كل سنةٍ شهراً فيصدق أنّه عرّفها سنةً في اثنتي عشرة سنةً. وقال العلماء: يعرّفها في كل يومٍ مرّتين , ثمّ مرّةً ثمّ في كل أسبوعٍ , ثمّ في كل شهر، ولا يشترط أن يعرّفها بنفسه , بل يجوز بوكيله , ويعرّفها في مكان سقوطها وفي غيره. وجمع بعضهم بين حديث أُبيّ بن كعب (¬1) وحديث زيد بن خالد ¬

_ (¬1) حديث أُبَيٍّ - رضي الله عنه - أخرجه البخاري (2426 , 2437) ومسلم (1723) من طريق سلمة سمعت سويد بن غفلة، قال: لقيت أبيَّ بن كعب - رضي الله عنه -، فقال: أخذت صرة مائة دينار، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: عرِّفها حولاً، فعرَّفتها حولاً، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرِّفها حولاً فعرِّفتها، فلم أجد، ثم أتيته ثلاثاً، فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها، فاستمتعت، فلقيته بعد بمكة، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولا واحداً. قال الحافظ في " الفتح " (5/ 99) قوله: " فلقيته بعدُ بمكة " القائل شعبة. والذي قال " لا أدري " هو شيخه سلمة بن كهيل، وقد بيّنه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل. واختصر الحديث، قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاماً واحداً. وقد بينه أبو داود الطيالسي في " مسنده " أيضاً , فقال في آخر الحديث: قال شعبة: فلقيت سلمة بعد ذلك فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولاً واحداً ". وأغرب ابن بطال فقال: الذي شكَّ فيه هو أُبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة. انتهى ولَم يصب في ذلك. وإنْ تبعه جماعةٌ منهم المنذري، بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لَمَّا استثبته فيه شعبة، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعةٌ، وفيه هذه الزيادة، وأخرجها مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة. وقال: قالوا في حديثهم جميعا " ثلاثة أحوال " إلَّا حماد بن سلمة. فإن في حديثه عامين أو ثلاثة. انتهى

فإنّه لَم يختلف عليه (¬1) في الاقتصار على سنةٍ واحدةٍ. فقيل: يحمل حديث أُبيّ بن كعب على مزيد الورع عن التّصرّف في اللقطة والمبالغة في التّعفّف عنها، وحديث زيد على ما لا بدّ منه، أو لاحتياج الأعرابيّ واستغناء أُبيٍّ. قال المنذريّ: لَم يقل أحدٌ من أئمّة الفتوى أنّ اللقطة تُعرّف ثلاثة أعوام، إلَّا شيء جاء عن عمر. انتهى. ¬

_ (¬1) أي: حديث زيد بن خالد - رضي الله عنه -.

وقد حكاه الماورديّ عن شواذّ من الفقهاء. وحكى بن المنذر عن عمر أربعة أقوال: يعرّفها ثلاثة أحوال، عاماً واحداً , ثلاثة أشهر، ثلاثة أيّام. ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها. وزاد ابن حزمٍ عن عمر قولاً خامساً. وهو أربعة أشهر. وجزم ابن حزم وابن الجوزيّ: بأنّ هذه الزّيادة غلطٌ (¬1). قال: والذي يظهر أنّ سلمة أخطأ فيها ثمّ تثبّت واستذكر واستمرّ على عامٍ واحدٍ، ولا يؤخذ إلَّا بما لَم يشكّ فيه راويه. وقال ابن الجوزيّ: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - عرف أنّ تعريفها لَم يقع على الوجه الذي ينبغي، فأمر أبيّاً بإعادة التّعريف كما قال للمسيء صلاته " ارجع فصل فإنّك لَم تصل " انتهى. ولا يخفى بُعدُ هذا على مثل أبيٍّ - رضي الله عنه - مع كونه من فقهاء الصّحابة وفضلائهم. وقد حكى صاحب الهداية من الحنفيّة: رواية عندهم أنّ الأمر في التّعريف مفوّضٌ لأمر الملتقط، فعليه أن يعرّفها إلى أن يغلب على ظنّه أنّ صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، والله أعلم. قوله: (فإن لَم تُعرف فاستنفقها) في رواية الثوري " فإن جاء أحدٌ يخبرك بها , وإلَّا فاستنفقها " جواب الشّرط محذوف تقديره فأدّها ¬

_ (¬1) أي: تعريف اللقظة ثلاث سنوات في حديث أبيِّ بنِ كعب - رضي الله عنه -. انظر التعليق السابق.

إليه. وفي رواية محمّد بن يوسف عن سفيان كما في البخاري أيضاً " فإن جاء أحدٌ يخبرك بعفاصها ووكائها ". وفي رواية مالك عن ربيعة " ثمّ عرّفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا شأنك بها " فيه حذف تقديره فإن جاء صاحبها فأدّها إليه , وإن لَم يجئ فشأنك بها , فحذف من هذه الرّواية جواب الشّرط الأوّل , وشرط " إن " الثّانية والفاء من جوابها. قاله ابن مالك وفي حديث أبيٍّ في الصحيحين بلفظ " فإن جاء صاحبها وإلَّا استمتع بها " وإنّما وقع الحذف من بعض الرّواة دون بعض، وفي رواية لهما في حديث أبيّ بلفظ " فاستمتع بها " بإثبات الفاء في الجواب الثّاني. ومضى من رواية الثّوريّ عن ربيعة بلفظ " وإلا فاستنفقها " ومثله ما في الصحيحين من رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بلفظ " ثمّ استنفق بها، فإن جاء ربّها فأدّها إليه " ولمسلمٍ من طريق ابن وهب المُقدَّم ذكرها " فإذا لَم يأت لها طالبٌ فاستنفقها ". واستدل به على أنّ اللاقط يملكها بعد انقضاء مدّة التّعريف، وهو ظاهر نصّ الشّافعيّ فإنّ قوله: " شأنك بها " تفويض إلى اختياره. وقوله: " فاستنفقها " الأمر فيه للإباحة، والمشهور عند الشّافعيّة اشتراط التّلفّظ بالتّمليك. وقيل: تكفي النّيّة. وهو الأرجح دليلاً.

وقيل: تدخل في ملكه بمجرّد الالتقاط. وقد روى الحديث سعيد بن منصور عن الدّراورديّ عن ربيعة بلفظ " وإلا فتصنع بها ما تصنع بمالك ". واستدل به على أنّ الملتقط يتصرّف فيها سواء كان غنيّاً أو فقيراً. وعن أبي حنيفة: إنْ كان غنيّاً تصدّق بها , وإن جاء صاحبها تخيّر بين إمضاء الصّدقة أو تغريمه. قال صاحب الهداية: إلَّا إن كان يأذن الإمام فيجوز للغنيّ كما في قصّة أبيّ بن كعب، وبهذا قال عمر وعليّ وابن مسعود وابن عبّاس وغيرهم من الصّحابة والتّابعين. وقوله " شأنك بها " الشّأن الحال. أي: تصرّف فيها، وهو بالنّصب أي الزم شأنك بها، ويجوز الرّفع بالابتداء والخبر " بها " أي: شأنك متعلق بها. قوله: (ولتكن وديعةً عندك) وللبخاري من رواية سليمان بن بلالٍ عن يحيى عن يزيد مولى المنبعث بلفظ " ثمّ عرّفها سنةً - يقول يزيد: إن لَم تعرف استنفق بها صاحبها، وكانت وديعةً عنده، قال يحيى: فهذا الذي لا أدري أفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو، أم شيءٌ من عنده؟ " والقائل " يقول يزيد " هو يحيى بن سعيد الأنصاريّ. والقائل " قال " هو سليمان. والغرض أنّ يحيى بن سعيد شكّ هل قوله: " ولتكن وديعة عنده " مرفوع أو لا؟. وهذا القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما

قبله في أكثر الرّوايات وخُلوّها عن ذكر الوديعة. وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرّة أخرى , وذلك فيما أخرجه مسلم عن القعنبيّ (¬1) والإسماعيليّ من طريق يحيى بن حسّان كلاهما عن سليمان بن بلال عن يحيى فقال فيه: فإن لَم تعرف فاستنفقها , ولتكن وديعة عندك. وكذلك جزم برفعها خالد بن مخلد عن سليمان بن ربيعة عند مسلم، والفهميّ عن سليمان عن يحيى وربيعة جميعاً. عند الطّحاويّ. وقد أشار البخاريّ إلى رجحان رفعها فترجم " إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردّها عليه، لأنّها وديعةٌ عنده " أورده من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة , وليس فيه ذكر الوديعة. وقال ابن بطّال: استراب البخاريّ بالشّكّ المذكور. فترجمه بالمعنى. وقال ابن المنير: أسقطها لفظاً وضمنها معنىً , لأنّ قوله: " فإن جاء صاحبها فأدّها إليه " يدل على بقاء ملك صاحبها خلافاً لمن أباحها بعد الحول بلا ضمان. وقوله: " ولتكن وديعة عندك ". قال ابن دقيق العيد: يحتمل: أن يكون المراد بعد الاستنفاق وهو ظاهر السّياق، فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب ردّ بدلها، لأنّ حقيقة الوديعة أن تبقى عينها ¬

_ (¬1) رواية مسلم عن القعنبي هي التي اعتمدها صاحب العمدة هنا , ولعل السبب أنَّ فيها زيادات ليست في غيرها. كما أشار إليها الشارح رحمه الله.

، والجامع وجوب ردّ ما يجد المرء لغيره , وإلا فالمأذون في استنفاقه لا تبقى عينه. ويحتمل: أن تكون الواو في قوله: " ولتكن " بمعنى أو، أي: إمّا أن تستنفقها وتغرم بدلها , وإمّا أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتّى يجيء صاحبها فتعطيها له. ويستفاد من تسميتها وديعة , أنّها لو تلفت لَم يكن عليه ضمانها , وهو اختيار البخاريّ تبعاً لجماعةٍ من السّلف. وقال ابن المنير: يستدل به لأحد الأقوال عند العلماء إذا أتلفها الملتقط بعد التّعريف وانقضاء زمنه , ثمّ أخرج بدلها , ثمّ هلكت أن لا ضمان عليه في الثّانية، وإذا ادّعى أنّه أكلها , ثمّ غرمها ثمّ ضاعت قُبل قوله أيضاً , وهو الرّاجح من الأقوال. قوله: (فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدّها له) اختلف العلماء فيما إذا تصرّف في اللقطة بعد تعريفها سنةً , ثمّ جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟. القول الأول: الجمهور على وجوب الرّدّ إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت. القول الثاني: خالف في ذلك الكرابيسيّ صاحب الشّافعيّ , ووافقه صاحباه البخاريّ وداود بن عليّ إمام الظّاهريّة، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة. ومن حجّة الجمهور: قوله في الرّواية الماضية " ولتكن وديعة

عندك " وقوله أيضاً عند مسلم في رواية بشر بن سعيد عن زيد بن خالد " فاعرف عفاصها ووكاءها ثمّ كلها، فإن جاء صاحبها فأدّها إليه ". فإنّ ظاهر قوله: " فإن جاء صاحبها إلخ ". بعد قوله: " كلها " يقتضي وجوب ردّها بعد أكلها. فيحمل على ردّ البدل. ويحتمل: أن يكون في الكلام حذفٌ يدل عليه بقيّة الرّوايات، والتّقدير فاعرف عفاصها ووكاءها , ثمّ كلها إن لَم يجئ صاحبها , فإن جاء صاحبها فأدّها إليه. وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ " فإن جاء باغيها فأدّها إليه، وإلَّا فاعرف عفاصها ووكاءها ثمّ كلها، فإن جاء باغيها فأدّها إليه ". فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده. وهي أقوى حجّة للجمهور. وروى أبو داود أيضاً من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه عن زيد بن خالد في هذا الحديث " فإن جاء صاحبها دفعتها إليه , وإلَّا عرفت وكاءها وعفاصها , ثمّ اقبضها في مالك , فإن جاء صاحبها فادفعها إليه ". وإذا تقرّر هذا , أمكن حمل قول البخاري في التّرجمة " إذا لَم يوجد صاحب اللقطة فهي لمن وجدها " أي: في إباحة التّصرّف فيها حينئذٍ، وأمّا أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكتٌ عنه. قال النّوويّ: إن جاء صاحبها قبل أن يتملكها الملتقط , أخذها

بزوائدها المتّصلة والمنفصلة , وأمّا بعد التّملك فإن لَم يجئ صاحبها فهي لمن وجدها ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها فإن كانت موجودة بعينها استحقّها بزوائدها المتّصلة , ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك , وهو قول الجمهور. وقال بعض السّلف: لا يلزمه وهو ظاهرُ اختيارِ البخاريّ. والله أعلم. قوله: (وسأله عن ضالة الإبل) الضّال الضّائع , والضّال في الحيوان كاللقطة في غيره. القول الأول: الجمهور. على القول بظاهر الحديث , في أنّها لا تُلتقط. القول الثاني: قال الحنفيّة: الأولى أن تلتقط. وحمل بعضهم النّهي على من التقطها ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول الشّافعيّة. وكذا إذا وجدت بقريةٍ فيجوز التّملك على الأصحّ عندهم، والخلاف عند المالكيّة أيضاً. قال العلماء: حكمة النّهي عن التقاط الإبل , أنّ بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال النّاس. وقالوا: في معنى الإبل. كلّ ما امتنع بقوّته عن صغار السّباع. تكملة: أخرج النّسائيّ بإسنادٍ صحيحٍ من حديث الجارود مرفوعاً: ضالة المسلم حرَقُ النّار. وحمل الجمهور ذلك على من لا يعرّفها، وحجّتهم حديث زيد بن

خالد عند مسلم " من آوى الضّالة فهو ضالّ، ما لَم يعرّفها " ولَم ينكر - صلى الله عليه وسلم - على أُبيّ - رضي الله عنه - أخذه الصّرّة , فدلَّ على أنّه جائزٌ شرعاً، ويستلزم اشتماله على المصلحة وإلاّ كان تصرّفاً في ملك الغير، وتلك المصلحة تحصل بحفظها وصيانتها عن الخونة وتعريفها لتصل إلى صاحبها. ومن ثَمَّ كان الأرجح من مذاهب العلماء , أنّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمتى رجح أخذها وجب أو استحبّ، ومتى رجح تركها حرم أو كره، وإلا فهو جائز. قوله: (مالك ولها. دعها) زاد في رواية سليمان بن بلال عن ربيعة في البخاري " فذرها حتّى يلقاها ربّها ". وفي رواية سفيان " فتمعَّر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - " هو بالعين المهملة الثّقيلة. أي: تغيّر، وأصله في الشّجر إذا قلَّ ماؤه , فصار قليل النّضرة عديم الإشراق، ويقال: للوادي المجدب أمعر. ولو روي تمغّر - بالغين المعجمة - لكان له وجه. أي: صار بلون المغرة وهو حمرةٌ شديدةٌ إلى كمودةٍ. ويقوّيه أنّ قوله في رواية إسماعيل بن جعفر " فغضب حتّى احمرّت وجنتاه أو وجهه ". شكّ من الرّاوي. والوجنة ما ارتفع من الخدّين , وفيها أربع لغات: بالواو والهمزة والفتح فيهما والكسر. والغضب: إمّا لأنّه كان نهى قبل ذلك عن التقاطها، وإمّا لأنّ السّائل قصّر في فهمه فقاس ما يتعيّن التقاطه على ما لا يتعيّن.

قوله: (فإنَّ معها حذاءها وسقاءها) في رواية سفيان " معها حذاؤها وسقاؤها " الحذاء: بكسر المهملة ثمّ ذال معجمة والمراد هنا خفّها. وسقاؤها: هو بكسر أوّله والمراد بذلك أجوافها , لأنّها تشرب فتكتفي به أيّاماً. وقيل: عنقها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعبٍ لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط. قوله: (وسأله عن الشاة، فقال: خذها) في رواية سفيان " قال: يا رسولَ الله فضالة الغنم؟ " أي: ما حكمها؟ فحذف ذلك للعلم به. قال العلماء: الضّالة لا تقع إلَّا على الحيوان، وما سواه يقال له لقطة. ويقال للضّوال أيضاً الهوامي والهوافي - بالميم والفاء - والهوامل. قوله: (لك أو لأخيك أو للذّئب) فيه إشارة إلى جواز أخذها كأنّه قال: هي ضعيفةٌ لعدم الاستقلال، معرّضة للهلاك متردّدة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعمّ من صاحبها , أو من ملتقطٍ آخر. والمراد بالذّئب جنس ما يأكل الشّاة من السّباع. وفيه حثٌّ له على أخذها , لأنّه إذا علم أنّه إن لَم يأخذها بقيت للذّئب , كان ذلك أدعى له إلى أخذها.

وقوله " خذها فإنّما هي لك " إلخ، صريحٌ في الأمر بالأخذ، ففيه دليلٌ على ردّ إحدى الرّوايتين عن أحمد في قوله: يترك التقاط الشّاة. وتمسّك به مالك في أنّه يملكها بالأخذ , ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها. واحتجّ له بالتّسوية بين الذّئب والملتقط، والذّئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط. وأجيب: بأنّ اللام ليست للتّمليك , لأنّ الذّئب لا يملك وإنّما يملكها الملتقط على شرط ضمانها. وقد أجمعوا على أنّه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط له أخذها , فدلَّ على أنّها باقية على ملك صاحبها، ولا فرق بين قوله في الشّاة " هي لك أو لأخيك أو للذّئب " وبين قوله في اللقطة " شأنك بها أو خذها " بل هو أشبه بالتّملك لأنّه لَم يشرك معه ذئباً ولا غيره، ومع ذلك فقالوا في النّفقة يغرمها إذا تصرّف فيها ثمّ جاء صاحبها. وقال الجمهور: يجب تعريفها، فإذا انقضت مدّة التّعريف أكلها إن شاء وغرم لصاحبها، إلَّا أنّ الشّافعيّ قال: لا يجب تعريفها إذا وجدت في الفلاة، وأمّا في القرية فيجب في الأصحّ. قال النّوويّ: احتجّ أصحابنا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرّواية الأولى " فإن جاء صاحبها فأعطها إيّاه " وأجابوا عن رواية مالك , بأنّه لَم يذكر الغرامة ولا نفاها , فثبت حكمها بدليلٍ آخر. انتهى. وهو يوهم أنّ الرّواية الأولى من روايات مسلمٍ فيها ذكر حكم

الشّاة إذا أكلها الملتقط، ولَم أر ذلك في شيءٍ من روايات مسلمٍ ولا غيره في حديث زيد بن خالد. نعم. عند أبي داود والتّرمذيّ والنّسائيّ والطّحاويّ والدّارقطنيّ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه في ضالة الشّاة " فاجمعها حتّى يأتيها باغيها ". تكميل: قال البخاري " باب من عرّف اللقطة ولَم يدفعها إلى السلطان ". أشار بالتّرجمة إلى ردّ قول الأوزاعيّ في التّفرقة بين القليل والكثير , فقال: إن كان قليلاً عرّفه , وإن كان مالاً كثيراً رفعه إلى بيت المال. والجمهور على خلافه. نعم. فرّق بعضهم بين اللقطة والضّوالّ، وبعض المالكيّة والشّافعيّة بيّن المؤتمن وغيره فقال: يعرّف المؤتمن؛ وأمّا غير المؤتمن فيدفعها إلى السّلطان ليعطيها المؤتمن ليعرّفها. وقال بعض المالكيّة: إن كانت اللقطة بين قومٍ مأمونين والسّلطان جائر فالأفضل أن لا يلتقطها , فإن التقطها لا يدفعها له , وإن كان عادلاً فكذلك ويخيّر في دفعها له. وإن كانت بين قومٍ مأمونين والإمام جائر تخيّر الملتقط. وعمل بما يترجّح عنده، وإن كان عادلاً فكذلك. فائدة: روى سفيان بن عيينة في " جامعه " والطّبرانيّ في " المعجم الكبير " بسند جيد عن أبي وائلٍ , أنّ ابن مسعودٍ اشترى جاريةً

بسبعمائة درهم , فإمَّا غاب صاحبها , وإمّا تركها. فنشده عبد الله حولاً فلم يجد صاحبها , فخرج بها إلى مساكين عند سُدّة بابه , فجعل يقبض ويعطي , ويقول: اللهمّ عن صاحبها فإنْ أَبَى فمنّي وعليّ الغرم , وقال: هكذا يفعل باللقطة. قوله (وقال: هكذا يُفعل باللقطة) يشير إلى أنه انتزع فعله في ذلك من حكم اللقطة للأمر بتعريفها سنة والتصرف فيها بعد ذلك فإن جاء صاحبها غرمها له. فرأى ابن مسعود أن يجعل التصرّف صدقة , فإن أجازها صاحبها إذا جاء حصل له أجرها , وإن لم يجزها كان الأجر للمتصدق وعليه الغرم لصاحبها، وإلى ذلك أشار بقوله " فلي وعلي " أي فليَ الثواب وعليَّ الغرامة.

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا الوصايا جمع وصيّة كالهدايا , وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصي به من مال أو غيره من عهد ونحوه، فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم. وفي الشّرع: عهد خاصّ مضاف إلى ما بعد الموت، وقد يصحبه التّبرّع. قال الأزهريّ: الوصيّة من وصيت الشّيء بالتّخفيف أوصيه إذا وصّلته، وسمّيت وصيّة لأنّ الميّت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال: وصيّة بالتّشديد، ووصاة بالتّخفيف بغير همز. وتطلق شرعاً أيضاً على ما يقع به الزّجر عن المنهيّات والحثّ على المأمورات.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون 298 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حقّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي فيه، يبيت ليلةً أو ليلتين، إلَّا ووصيته مكتوبةٌ عنده (¬1) زاد مسلم، قال ابن عمر: فوالله ما مرّت عليّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك، إلَّا ووصيّتي عندي. (¬2) قوله: (ما حقّ امرئٍ مسلم) كذا في أكثر الرّوايات، وسقط لفظ " مسلم " من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك عن نافع. والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو ذكر للتّهييج لتقع المبادرة لامتثاله لِمَا يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك. ووصيّة الكافر جائزة في الجملة، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع. وقد بحث فيه السّبكيّ من جهة أنّ الوصيّة شرعت زيادة في العمل الصّالح , والكافر لا عمل له بعد الموت، وأجاب: بأنّهم نظروا إلى أنّ الوصيّة كالإعتاق , وهو يصحّ من الذّمّيّ والحربيّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2587) من طريق مالك , ومسلم (1627) من طريق عبيد الله وغيره كلهم عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (1627) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه. بهذه الزيادة , لكن قال: يبيت ثلاث ليال

ولا فرق في الوصيّة الصّحيحة بين الرّجل والمرأة، ولا يشترط فيها إسلام ولا رشد ولا ثيوبة ولا إذن زوج، وإنّما يشترط في صحتها العقل والحرّيّة. وأمّا وصيّة الصّبيّ المميّز ففيها خلاف: القول الأول: منعها الحنفيّة والشّافعيّ في الأظهر. القول الثاني: صحَّحها مالك وأحمد والشّافعيّ في قول رجّحه ابن أبي عصرون وغيره، ومال إليه السّبكيّ , وأيّده بأنّ الوارث لا حقّ له في الثّلث فلا وجه لمنع وصيّة المميّز، قال: والمعتبر فيه أن يعقل ما يوصي به. وروى الموطّأ فيه أثراً عن عمر , أنّه أجاز وصيّة غلام لَم يحتلم. (¬1) ¬

_ (¬1) الموطأ (2820) ومن طريقه البيهقي في " السنن الكبرى " (60/ 199) وفي " معرفة السنن والآثار " رقم (6288) عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه، أنَّ عمرو بن سليم الزرقي، أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب: إن هاهنا غلاماً يفاعاً لَم يحتلم من غسان، ووارثه بالشام، وهو ذو مال، وليس له هاهنا إلَّا ابنة عم له. قال عمر بن الخطاب: فليوص لها. قال: فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم، قال عمرو بن سليم: فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم. وابنة عمه التي أوصى لها، هي أم عمرو بن سليم الزرقي. قال البيهقي في " السنن " (6/ 199): والخبر منقطع. فعمرو بن سليم الدرقي لَم يُدرك عمر , إلَّا أنه ذكر (أي عمرو بن سليم) في الخبر انتسابه إلى صاحب القصة (أي والدة عمرو بن سليم) انتهى ورواه مالك (2821) عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن حزم , أنَّ غلاماً من غسان .. وفيه، قال أبو بكر: وكان الغلام ابن عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، قال: فأوصى ببئر جشم , فباعها أهلها بثلاثين ألف درهم.

وذكر البيهقيّ , أنّ الشّافعيّ علَّق القول به على صحّة الأثر المذكور، وهو قويّ فإنّ رجاله ثقات. وله شاهد. وقيّد مالك صحّتها بما إذا عقل ولَم يخلط، وأحمد بسبعٍ. وعنه بعشر. قوله: (شيء يوصي فيه) قال ابن عبد البرّ: لَم يختلف الرّواة عن مالك في هذا اللفظ، ورواه أيّوب عن نافع بلفظ " له شيء يريد أن يوصي فيه " , ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع مثل أيّوب. أخرجهما مسلم. ورواه أحمد عن سفيان عن أيّوب بلفظ " حقّ على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه " الحديث. ورواه الشّافعيّ عن سفيان بلفظ " ما حقّ امرئ يؤمن بالوصيّة " الحديث. قال ابن عبد البرّ: فسّره ابن عيينة أي: يؤمن بأنّها حقّ. انتهى. وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز عن نافع بلفظ " لا ينبغي لمسلمٍ أن يبيت ليلتين " الحديث. وذكره ابن عبد البرّ عن سليمان بن موسى عن نافع مثله، وأخرجه الطّبرانيّ من طريق الحسن عن ابن عمر مثله. وأخرجه الإسماعيليّ من طريق روح بن عبادة عن مالك وابن عون جميعاً عن نافع بلفظ " ما حقّ امرئٍ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه ". وذكره ابن عبد البرّ من طريق ابن عون بلفظ " لا يحل لامرئٍ مسلم له مال ". وأخرجه الطّحاويّ أيضاً، وقد أخرجه النّسائيّ من

هذا الوجه , ولَم يسق لفظه. قال أبو عمر: لَم يُتابع ابن عون على هذه اللفظة. قلت: إن عَنَى عن نافع بلفظها فمُسلَّم، ولكنّ المعنى يمكن أن يكون متّحداً كما سيأتي. وإن عنَى عن ابن عمر فمردودٌ , فقد رواه محمّد بن مسلم الطّائفيّ عن عمرو بن دينار عن ابن عمر. أخرجه الدّارقطنيّ في الأفراد من طريقه. وقال: تفرّد به عمران بن أبان - يعني الواسطيّ - عن محمّد بن مسلم. وعمران. أخرج له النّسائيّ وضعّفه، قال ابن عديّ: له غرائب عن محمّد بن مسلم , ولا أعلم به بأساً، ولفظه عند الدّارقطنيّ " لا يحل لمسلمٍ أن يبيت ليلتين إلَّا ووصيّته مكتوبة عنده ". قال ابن عبد البرّ: قوله: " له مال " أولى عندي من قول من روى " له شيء " لأنّ الشّيء يطلق على القليل والكثير بخلاف المال. انتهى كذا قال، وهي دعوى لا دليل عليها، وعلى تسليمها فرواية " شيء " أشمل لأنّها تعمّ ما يتموّل وما لا يتموّل كالمختصّات. واستدل بقوله: " له شيء " أو " له مال ". وهو القول الأول: على صحّة الوصيّة بالمنافع، وهو قول الجمهور. القول الثاني: منعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه، واختاره ابن عبد البرّ.

قوله: (يبيت) كأنّ فيه حذفاً تقديره أن يبيت، وهو كقوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق) الآية. ويجوز أن يكون " يبيت " صفة لمسلمٍ. وبه جزم الطّيبيّ , قال: هي صفة ثانية، وقوله: " يوصي فيه " صفة شيء، ومفعول " يبيت " محذوف تقديره آمناً أو ذاكراً. وقال ابن التّين: تقديره موعوكاً. والأوّل أولى , لأنّ استحباب الوصيّة لا يختصّ بالمريض. نعم. قال العلماء: لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقّرة ولا ما جرت العادة بالخروج منه والوفاء له عن قرب. والله أعلم. قوله: (ليلتين) كذا لأكثر الرّواة، ولأبي عوانة والبيهقيّ من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوب " يبيت ليلة أو ليلتين ". ولمسلمٍ والنّسائيّ من طريق الزّهريّ عن سالم عن أبيه " يبيت ثلاث ليالٍ ". وكأنّ ذكر الليلتين والثّلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها , ففسح له هذا القدر ليتذكّر ما يحتاج إليه. واختلاف الرّوايات فيه دالٌ على أنّه للتّقريب لا للتّحديد، والمعنى لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلَّا ووصيّته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزّمن اليسير، وكأنّ الثّلاث غاية للتّأخير، ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم المذكورة: لَم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك , إلَّا ووصيّتي عندي. قال الطّيبيّ: في تخصيص الليلتين والثّلاث بالذّكر تسامح في إرادة المبالغة، أي: لا ينبغي أن يبيت زماناً ما، وقد سامحناه في الليلتين

والثّلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك. قوله: (إلَّا ووصيّته مكتوبة عنده) أعمّ من أن تكون بخطّه أو بغير خطّه. ويستفاد منه أنّ الأشياء المهمّة ينبغي أن تضبط بالكتابة , لأنّها أثبت من الضّبط بالحفظ لأنّه يخون غالباً. واستُدل به. وهو القول الأول: على جواز الاعتماد على الكتابة والخطّ ولو لَم يقترن ذلك بالشّهادة. القول الثاني: خصّ أحمد ومحمّد بن نصر من الشّافعيّة ذلك بالوصيّة لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام. وأجاب الجمهور: بأنّ الكتابة ذكرت لِمَا فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى " وصيّته مكتوبة عنده " أي: بشرطها. وقال المحبّ الطّبريّ: إضمار الإشهاد فيه بُعدٌ. وأجيب: بأنّهم استدلوا على اشتراط الإشهاد بأمرٍ خارج كقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة) فإنّه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصيّة. وقال القرطبيّ: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التّوثّق، وإلا فالوصيّة المشهود بها متّفق عليها ولو لَم تكن مكتوبة. والله أعلم. واستدل بقوله: " وصيّته مكتوبة عنده " على أنّ الوصيّة تنفذ إن كانت عند صاحبها ولَم يجعلها عند غيره، وكذلك لو جعلها عند غيره

وارتجعها. واستُدل بهذا الحديث مع ظاهر الآية (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة) على وجوب الوصيّة، وبه قال الزّهريّ وأبو مجلز وعطاء وطلحة بن مصرّف في آخرين، وحكاه البيهقيّ عن الشّافعيّ في القديم، وبه قال إسحاق وداود، واختاره أبو عوانة الإسفرايينيّ وابن جرير وآخرون. ونسب ابن عبد البرّ القولَ بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذّ، كذا قال. واستدل لعدم الوجوب من حيث المعنى , لأنّه لو لَم يوص لقسّم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصيّة واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصيّة. وأجابوا عن الآية: بأنّها منسوخة كما قال ابن عبّاس عند البخاري: كان المال للولد وكانت الوصيّة للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحبّ فجعل لكل واحد من الأبوين السّدس. الحديث. وأجاب مَن قال بالوجوب: بأنّ الذي نسخ الوصيّة للوالدين والأقارب الذين يرثون , وأمّا الذي لا يرث فليس في الآية ولا في تفسير ابن عبّاس ما يقتضي النّسخ في حقّه. وأجاب مَن قال بعدم الوجوب عن الحديث: بأنّ قوله " ما حقّ امرئٍ " أنّ المراد الحزم والاحتياط، لأنّه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصيّة، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد

له، وهذا عن الشّافعيّ. وقال غيره: الحقّ لغةً الشّيء الثّابت، ويطلق شرعاً على ما ثبت به الحكم، والحكم الثّابت أعمّ من أن يكون واجباً أو مندوباً، وقد يطلق على المباح أيضاً لكن بقلةٍ قاله القرطبيّ. قال: فإن اقترن به " على " أو نحوها كان ظاهراً في الوجوب، وإلا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التّقدير فلا حجّة في هذا الحديث لمَن قال بالوجوب، بل اقترن هذا الحقّ بما يدل على النّدب , وهو تفويض الوصيّة إلى إرادة الموصي حيث قال: " له شيء يريد أن يوصي فيه " فلو كانت واجبة لَمَا علَّقها بإرادته. وأمّا الجواب عن الرّواية التي بلفظ " لا يحل " , فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها وأراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعمّ الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح. واختلف القائلون بوجوب الوصيّة. القول الأول: ذهب أكثرهم إلى وجوبها في الجملة. القول الثاني: عن طاوسٍ وقتادة والحسن وجابر بن زيد في آخرين , تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصّة. أخرجه ابن جرير وغيره عنهم. قالوا: فإن أوصى لغير قرابته لَم تنفذ , ويردّ الثّلث كله إلى قرابته. وهذا قول طاوسٍ. وقال الحسن وجابر بن زيد: ثلثا الثّلث. وقال قتادة: ثلث الثّلث.

وأقوى ما يردّ على هؤلاء ما احتجّ به الشّافعيّ من حديث عمران بن حصين في قصّة الذي أعتق عند موته ستّة أعبد له - لَم يكن له مال غيرهم - فدعاهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فجزّأهم ستّة أجزاء فأعتق اثنين وأرقّ أربعة (¬1). قال (¬2): فجعل عتقه في المرض وصيّة، ولا يقال لعلهم كانوا أقارب المعتق , لأنّا نقول لَم تكن عادة العرب أن تملك من بينها وبينه قرابة، وإنّما تملك من لا قرابة له أو كان من العجم، فلو كانت الوصيّة تبطل لغير القرابة لبطلت في هؤلاء، وهو استدلال قويّ. والله أعلم ونقل ابن المنذر عن أبي ثور: أنّ المراد بوجوب الوصيّة في الآية والحديث , يختصّ بمن عليه حقّ شرعيّ يخشى أن يضيع على صاحبه إن لَم يوص به كوديعةٍ ودين لله أو لآدميٍّ. قال: ويدل على ذلك تقييده بقوله: " له شيء يريد أن يوصي فيه " لأنّ فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه ولو كان مؤجّلاً. فإنّه إذا أراد ذلك ساغ له، وإن أراد أن يوصي به ساغ له. وحاصله يرجع إلى قول الجمهور أنّ الوصيّة غير واجبة لعينها، وإنّ الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير سواء كانت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (4425) (¬2) أي الشافعي.

بتنجيزٍ أو وصيّة. ومحل وجوب الوصيّة إنّما هو فيما إذا كان عاجزاً عن تنجيز ما عليه وكان لَم يعلم بذلك غيره ممّن يثبت الحقّ بشهادته، فأمّا إذا كان قادراً أو علم بها غيره فلا وجوب. قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنّ من لَم يكن عنده إلَّا اليسير التّافه من المال , أنّه لا تندب له الوصيّة. وفي نقل الإجماع نظرٌ، فالثّابت عن الزّهريّ أنّه قال: جعل الله الوصيّة حقّاً فيما قلَّ أو كثر. والمصرّح به عند الشّافعيّة ندبيّة الوصيّة من غير تفريق بين قليل وكثير. نعم. قال أبو الفرج السّرخسيّ منهم: إن كان المال قليلاً والعيال كثيراً استحبّ له توفرته عليهم، وقد تكون الوصيّة بغير المال كأنّه يعيّن من ينظر في مصالح ولده أو يعهد إليهم بما يفعلونه من بعده من مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يدفع أحد ندبيّته. واختلف في حدّ المال الكثير في الوصيّة. فعن عليٍّ: سبعمائة مال قليل، وعنه: ثمانمائة مال قليل، وعن ابن عبّاس نحوه، وعن عائشة: فيمن ترك عيالاً كثيراً وترك ثلاثة آلاف ليس هذا بمالٍ كثير. وحاصله: أنّه أمر نسبيّ يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. والله أعلم.

وعُرف من مجموع ما ذكرنا: أنّ الوصيّة قد تكون واجبة. وقد تكون مندوبة فيمن رجا منها كثرة الأجر. ومكروهة في عكسه. ومباحة فيمن استوى الأمران فيه. ومحرّمة فيما إذا كان فيها إضرار كما ثبت عن ابن عبّاس: الإضرار في الوصيّة من الكبائر. رواه سعيد بن منصور موقوفاً بإسنادٍ صحيح، ورواه النّسائيّ. ورجاله ثقات. واحتجّ ابن بطّال تبعاً لغيره , بأنّ ابن عمر لَم يوص. فلو كانت الوصيّة واجبة لَما تركها وهو راوي الحديث. وتعقّب: بأنّ ذلك إن ثبت عن ابن عمر. فالعبرة بما روى لا بما رأى، على أنّ الثّابت عنه في صحيح مسلم كما تقدّم أنّه قال: لَم أبت ليلة إلَّا ووصيّتي مكتوبة عندي. والذي احتجّ بأنّه لَم يوص , اعتمد على ما رواه حمّاد بن زيد عن أيّوب عن نافع قال: قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أمّا مالي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه، وأمّا رِباعيّ فلا أحبّ أن يشارك ولدي فيها أحدٌ. أخرجه ابن المنذر وغيره. وسنده صحيح. ويجمع بينه وبين ما رواه مسلم. بالحمل على أنّه كان يكتب وصيّته ويتعاهدها؛ ثمّ صار ينجّز ما كان يوصي به معلقاً، وإليه الإشارة بقوله: " فالله يعلم ما كنت أصنع في مالي ". ولعلَّ الحاملَ له على ذلك حديثه الذي في البخاري " إذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح " الحديث، فصار ينجّز ما يريد التّصدّق به فلم يحتج إلى تعليق.

وقد روى ابن سعد في " الطبقات " عن ابن عمر , أنّه وقف بعض دوره. فبهذا يحصل التّوفيق. والله أعلم. وفي الحديث: منقبة لابن عمر لمبادرته لامتثال قول الشّارع ومواظبته عليه. وفيه النّدب إلى التّأهّب للموت والاحتراز قبل الفوت، لأنّ الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، لأنّه ما من سنّ يفرض إلَّا وقد مات فيه جمع جمّ؛ وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهّباً لذلك فيكتب وصيّته، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر ويحبط عنه الوزر من حقوق الله وحقوق عباده، والله المستعان. وفي الحديث الحضّ على الوصيّة ومطلقها يتناول الصّحيح، لكنّ السّلف خصّوها بالمريض، وإنّما لَم يقيّد به في الخبر لاطّراد العادة به.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون 299 - عن سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - , قال: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجّة الوداع، من وجعٍ اشتدّ بي، فقلت: يا رسولَ الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلَّا ابنةٌ، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر، يا رسولَ الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثيرٌ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلَّا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك، قال: فقلت: يا رسولَ الله، أخلف بعد أصحابي، قال: إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله، إلَّا ازددت به درجةً ورفعةً، ولعلَّك أنْ تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ، ويضّرّ بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقباهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ مات بمكة. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (56 , 1233، 2591، 2593، 3721، 4147، 5039، 5344، 6012، 6352) ومسلم (1628) من طرق عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - رضي الله عنه -.مختصراً ومطوّلاً. وأخرجه البخاري (5335) من طريق عائشة بنت سعد , ومسلم (1628) من طريق مصعب ين سعد عن أبيهما نحوه. وأخرجه مسلم (1628) من طريق حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثةٍ من ولد سعد، كلهم يحدثه عن أبيه. نحوه.

قوله: (عن سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه -) هو سعد بن مالك. (¬1) قوله: (جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجّة الوداع، من وجعٍ اشتدّ بِي) في رواية لهما من طريق الزهري عن عامر بن سعد " من وجع أشفيت منه على الموت ". وزادا في رواية سعد بن إبراهيم عن عامر " وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها " واتّفق أصحاب الزّهريّ على أنّ ذلك كان في حجّة الوداع، إلَّا ابن عيينة فقال " في فتح مكّة " أخرجه التّرمذيّ وغيره من طريقه. واتّفق الحفّاظ على أنّه وهم فيه. وقد أخرجه البخاريّ من طريقه فقال " بمكّة " ولَم يذكر الفتح. وقد وجدت لابن عيينة مستنداً فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد والبزّار والطّبرانيّ والبخاريّ في " التّاريخ " وابن سعد من حديث عمرو بن القاري , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم فخلف سعداً مريضاً حيث خرج إلى حنينٍ، فلمّا قدم من الجعرّانة معتمراً دخل عليه - وهو مغلوب - فقال: يا رسولَ الله إنّ لي مالاً، وإنّي أورث كلالة، أفأوصي بمالي. الحديث، وفيه: قلت: يا رسولَ الله أميّت أنا بالدّار الذي خرجت منها مهاجراً؟ قال: لا، إنّي لأرجو أن يرفعك الله حتّى ينتفع بك أقوام. الحديث. فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث. ¬

_ (¬1) ستأتي ترجمته إن شاء الله في حديث رقم (307).

ويمكن الجمع بين الرّوايتين: بأن يكون ذلك وقع له مرّتين مرّة عام الفتح ومرّة عام حجّة الوداع. ففي الأولى. لَم يكن له وارث من الأولاد أصلاً. وفي الثّانية. كانت له ابنة فقط، فالله أعلم. وقوله " وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها " يحتمل: أن تكون الجملة حالاً من الفاعل أو من المفعول. وكلٌ منهما محتمل، لأنّ كلاً من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن سعد كان يكره ذلك، لكن إن كان حالاً من المفعول وهو سعد , ففيه التفات , لأنّ السّياق يقتضي أن يقول: " وأنا أكره ". وقد أخرجه مسلم من طريق حميد بن عبد الرّحمن عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد بلفظ: فقال: يا رسولَ الله خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها , كما مات سعد بن خولة. وللنّسائيّ من طريق جرير بن يزيد عن عامر بن سعد " لكن البائس سعد بن خولة مات في الأرض التي هاجر منها " وله من طريق بكيرٍ بن مسمار عن عامر بن سعد في هذا الحديث " فقال سعد: يا رسولَ الله أموت بالأرض التي هاجرت منها؟ قال: لا إن شاء الله تعالى. قوله: (فقلت: يا رسولَ الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فيه جواز إخبار المريض بشدّة مرضه وقوّة ألمه إذا لَم يقترن بذلك شيء ممّا يمنع أو يكره من التّبرّم وعدم الرّضا , بل حيث يكون ذلك لطلب

دعاء أو دواء وربّما استحبّ، وأنّ ذلك لا ينافي الاتّصاف بالصّبر المحمود، وإذا جاز ذلك في أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز. وروى البخاري في " الأدب المفرد " من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: دخلت أنا وعبد الله بن الزّبير على أسماء - يعني بنت أبي بكر وهي أمّهما - وأسماء وجعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعت " الحديث. وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرّحمن بن عوف عن أبيه قال: دخلت على أبي بكر - رضي الله عنه - في مرضه الذي توفّي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فاستوى جالساً، فقلت: أصبحت بحمد الله بارئاً؟ قال: أما إنّي على ما ترى وجع " فذكر القصّة، أخرجه الطّبرانيّ. قال القرطبيّ: اختلف النّاس في هذا الباب، والتّحقيق أنّ الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنّفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا يستطاع تغييرها عمّا جبلت عليه، وإنّما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التّأوّه والجزع الزّائد كأنّ من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصّبر. وأمّا مجرّد التّشكّي فليس مذموماً حتّى يحصل التّسخّط للمقدور، وقد اتّفقوا على كراهة شكوى العبد ربّه، وشكواه إنّما هو ذكره للنّاس على سبيل التّضجّر، والله أعلم.

وروى أحمد في " الزّهد " عن طاوسٍ أنّه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطّيّب وابن الصّبّاغ وجماعة من الشّافعيّة: أنّ أنين المريض وتأوّهه مكروه. وتعقّبه النّوويّ فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإنّ المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، وهذا لَم يثبت فيه ذلك. ثمّ احتجّ بحديث عائشة في البخاري أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بل أنا وارأساه. ثمّ قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنّه لا شكّ أنّ اشتغاله بالذّكر أولى. انتهى. ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشّكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر بالتّسخّط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء. وأمّا إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتّفاقاً. قوله: (ولا يرثني إلَّا ابنةٌ) كذا في رواية الزّهريّ , ونحوه في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها , وفي رواية سعد بن إبراهيم في البخاري " ولَم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة " قال النّوويّ وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواصّ الورثة أو من النّساء، وإلا فقد كان لسعدٍ عَصَبَات , لأنّه من بني زهرة , وكانوا كثيراً. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصّها بالذّكر على تقدير لا يرثني ممّن أخاف عليه الضّياع والعجَزَ إلَّا هي، أو ظنّ أنّها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التّركة.

وهذه البنت زعم بعض من أدركناه. أنّ اسمها عائشة، فإن كان محفوظاً فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث في البخاري، وهي تابعيّة عُمّرت حتّى أدركها مالك , وروى عنها. وماتت سنة مائة وسبعة عشر، لكن لَم يذكر أحدٌ من النّسّابين لسعدٍ بنتاً تسمّى عائشة غير هذه. وذكروا أنّ أكبر بناته أمّ الحكم الكبرى وأمّها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أخرى أمّهاتهنّ متأخّرات الإسلام بعد الوفاة النّبويّة. فالظّاهر أنّ البنت المشار إليها هي أمّ الحكم المذكورة لتقدّم تزويج سعد بأمّها، ولَم أر من حرّر ذلك. قوله: (أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسولَ الله؟ قال: لا) كذا وقع في رواية الزّهريّ، وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها , وفي رواية سعد بن إبراهيم عن عامر " قلت: يا رسولَ الله أوصي بمالي كله " فأمّا التّعبير بقوله: " أفأتصدّق ". فيحتمل: التّنجيز والتّعليق بخلاف " أفأوصي " لكنّ المخرج متّحد فيحمل على التّعليق للجمع بين الرّوايتين. وقد تمسّك بقوله: " أتصدّق " من جعل تبرّعات المريض من الثّلث، وحملوه على المنجّزة. وفيه نظرٌ لِما بيّنته. وأمّا الاختلاف في السّؤال. فكأنّه سأل أوّلاً عن الكل ثمّ سأل عن الثّلثين ثمّ سأل عن النّصف ثمّ سأل عن الثّلث.

وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد , وفي رواية بكير بن مسمار عند النّسائيّ كلاهما عن عامر بن سعد، وكذا لهما من طريق محمّد بن سعد عن أبيه , ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن سعد. وقوله في هذه الرّواية " قلت: فالشّطر " هو بالجرّ عطفاً على قوله " بمالي كله " أي: فأوصي بالنّصف، وهذا رجّحه السّهيليّ. وقال الزّمخشريّ: هو بالنّصب على تقدير فعل. أي: أسمّي الشّطر أو أعيّن الشّطر، ويجوز الرّفع على تقدير أيجوز الشّطر. قوله: (قلت: الثّلث؟ قال: الثّلث، والثّلث كثير) كذا في أكثر الرّوايات، وفي رواية الزّهريّ عند البخاري " قال: الثّلث يا سعد، والثّلث كثير " وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم " قلت: فالثّلث؟ قال: نعم، والثّلث كثير " وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في البخاري " قال: الثّلث، والثّلث كبير أو كثير ". وكذا للنّسائيّ من طريق أبي عبد الرّحمن السّلميّ عن سعد وفيه " فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بمالي كله. قال: فما تركت لولدك؟ وفيه. أوص بالعشر، قال فما زال يقول وأقول، حتّى قال: أوص بالثّلث والثّلث كثير أو كبير " يعني: بالمثلثة أو بالموحّدة، وهو شكّ من الرّاوي , والمحفوظ في أكثر الرّوايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنّسبة إلى ما دونه.

وسأذكر الاختلاف فيه في الحديث الذي بعد هذا (¬1). وقوله: " قال: الثّلث , والثّلث كثير " بنصب الأوّل على الإغراء، أو بفعلٍ مضمر نحو عيّن الثّلث، وبالرّفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف أو المبتدأ , والخبر محذوف والتّقدير يكفيك الثّلث أو الثّلث كافٍ. ويحتمل: أن يكون قوله: " والثّلث كثير " مسوقاً لبيان الجواز بالثّلث , وأنّ الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه , وهو ما يبتدره الفهم. ويحتمل: أن يكون لبيان أنّ التّصدّق بالثّلث هو الأكمل أي كثير أجره. ويحتمل: أن يكون معناه كثير غير قليل. قال الشّافعيّ رحمه الله " وهذا أولى معانيه " يعني أنّ الكثرة أمر نسبيّ. وعلى الأوّل عوّل ابن عبّاس كما سيأتي في حديث الباب الذي بعده. تنبيهٌ: وقع في رواية للبخاري " قلت: أريد أن أوصى، وإنّما لى ابنةٌ قلت: أوصى بالنّصف قال: النّصف كثيرٌ. قلت فالثّلث. قال: الثّلث، والثّلث كثيرٌ أو كبيرٌ. قال: فأوصى النّاس بالثّلث، وجاز ذلك لهم " لَم أر في غيرها من طرقه وصف النّصف بالكثرة، وإنّما فيها " قال لا في كله، ولا في ثلثيه ". ¬

_ (¬1) أي: حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه - الآتي.

وليس في هذه الرّواية إشكال , إلَّا من جهة وصف النّصف بالكثرة ووصف الثّلث بالكثرة , فكيف امتنع النّصف دون الثّلث؟. وجوابه: أنّ الرّواية الأخرى التي فيها جواب النّصف دلَّت على منع النّصف , ولَم يأت مثلها في الثّلث بل اقتصر على وصفه بالكثرة، وعلَّل بأنّ إبقاء الورثة أغنياء أولى، وعلى هذا فقوله: " الثّلث " خبر مبتدأ محذوف تقديره مباح، ودلَّ قوله: " والثّلث كثير " على أنّ الأولى أن ينقص منه. والله أعلم. قوله: (إنك أن تذر) في رواية سعد بن إبراهيم " إنّك أن تدع " بفتح " أن " على التّعليل وبكسرها على الشّرطيّة. قال النّوويّ: هما صحيحان صوريّان. وقال القرطبيّ: لا معنى للشّرط هنا لأنّه يصير لا جواب له , ويبقى " خير " لا رافع له. وقال ابن الجوزيّ: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد - يعني ابن الخشّاب - وقال: لا يجوز الكسر لأنّه لا جواب له لخلوّ لفظ " خير " من الفاء وغيرها ممّا اشترط في الجواب. وتعقّب: بأنّه لا مانع من تقديره. وقال ابن مالك: جزاء الشّرط قوله: " خير " أي فهو خير، حذف الفاء جائز وهو كقراءة طاوسٍ: " ويسألونك عن اليتامى قل أصلح لهم خير ".

قال: ومن خصّ ذلك بالشّعر بعد عن التّحقيق، وضيّق حيث لا تضييق، لأنّه كثير في الشّعر قليل في غيره، وأشار بذلك إلى ما وقع في الشّعر فيما أنشده سيبويه: من يفعل الحسنات الله يشكرها. أي: فالله يشكرها. وإلى الرّدّ على من زعم أنّ ذلك خاصّ بالشّعر قال: ونظيره قوله في حديث اللقطة " فإن جاء صاحبها وإلَّا استمتع بها " بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان " البيّنة وإلا حدّ في ظهرك ". قوله: (ورثتك) كذا للأكثر، وللكشميهنيّ والقابسيّ " ذرّيّتك " ورواية الجماعة أولى. قال الزّين بن المنير: إنّما عبّر له - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الورثة , ولَم يقل أن تدع بنتك مع أنّه لَم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذٍ لَم يتحقّق، لأنّ سعداً إنّما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتّى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله , فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بكلامٍ كليّ مطابق لكل حالة. وهي قوله " ورثتك " ولَم يخصّ بنتاً من غيرها. وقال الفاكهيّ شارح العمدة: إنّما عبّر - صلى الله عليه وسلم - بالورثة , لأنّه اطّلع على أنّ سعداً سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة فكان كذلك، وولد له بعد ذلك أربعة بنين ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بذلك. قلت: وليس قوله: " أن تدع بنتك " متعيّناً , لأنّ ميراثه لَم يكن

منحصراً فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقّاص أولاد إذ ذاك , منهم هاشم بن عتبة الصّحابيّ الذي قتل بصفّين، فجاز التّعبير بالورثة لتدخل البنت وغيرها ممّن يرث لو وقع موته إذ ذاك أو بعد ذلك. أمّا قول الفاكهيّ: إنّه ولد له بعد ذلك أربعة بنين. وإنّه لا يعرف أسماءهم , ففيه قصور شديد، فإنّ أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمّد ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، ولَمَّا وقع ذكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم. اقتصر القرطبيّ على ذكر الثّلاثة. ووقع في كلام بعض شيوخنا تعقّب عليه: بأنّ له أربعة من الذّكور غير الثّلاثة وهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق، وعزا ذكرهم لابن المدينيّ وغيره، وفاته أنّ ابن سعد ذكر له من الذّكور غير السّبعة أكثر من عشرة , وهم عبد الله وعبد الرّحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغّراً وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتاً. وكأنّ ابن المدينيّ اقتصر على ذكر من روى الحديث منه والله أعلم قوله: (عالَة) أي: فقراء وهو جمع عالٍ , وهو الفقير والفعل منه عال يعيل إذا افتقر. قوله: (يتكفّفون النّاس) زاد سعد بن إبراهيم " في أيديهم " أي: يسألون النّاس بأكفّهم، يقال تكفّف النّاس واستكفّ إذا بسط كفّه

للسّؤال، أو سأل ما يكفّ عنه الجوع، أو سأل كفّاً كفّاً من طعام. وقوله " في أيديهم " أي: بأيديهم أو سألوا بأكفّهم وضع المسئول في أيديهم. وقول سعد " وأنا ذو مال " وهذا اللفظ يؤذن بمالٍ كثير، وذو المال إذا تصدّق بثلثه أو بشطره وأبقى ثلثه بين ابنته وغيرها لا يصيرون عالة. لكنّ الجواب: أنّ ذلك خرج على التّقدير , لأنّ بقاء المال الكثير إنّما هو على سبيل التّقدير , وإلَّا فلو تصدّق المريض بثلثيه مثلاً ثمّ طالت حياته ونقص وفني المال فقد تجحف الوصيّة بالورثة، فردّ الشّارع الأمر إلى شيء معتدل وهو الثّلث. قوله: (وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله , إلَّا أُجرتَ بها) في رواية سعد بن إبراهيم " وإنّك مهما أنفقت من نفقة فإنّها صدقة " هو معطوف على قوله: " إنّك أن تدع " وهو عِلَّة للنّهي عن الوصيّة بأكثر من الثّلث، كأنّه قيل لا تفعل لأنّك إن متّ تركت ورثتك أغنياء وإن عشت تصدّقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين. وقوله: " فإنّها صدقة " كذا أطلق في هذه الرّواية , ورواية الباب مقيّدة بابتغاء وجه الله، وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر. ويستفاد منه أنّ أجر الواجب يزداد بالنّيّة , لأنّ الإنفاق على الزّوجة واجب وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك قاله ابن أبي جمرة، قال: ونبّه بالنّفقة على غيرها من وجوه

البرّ والإحسان. قال القرطبيّ: أفاد منطوقه أنّ الأجر في الإنفاق إنّما يحصل بقصد القربة سواء كانت واجبة أو مباحة، وأفاد مفهومه أنّ من لَم يقصد القربة لَم يؤجر، لكن تبرأ ذمّته من النّفقة الواجبة لأنّها معقولة المعنى، وأطلق الصّدقة على النّفقة مجازاً والمراد بها الأجر، والقرينة الصّارفة عن الحقيقة الإجماع على جواز النّفقة على الزّوجة الهاشميّة التي حرّمت عليها الصّدقة. انتهى واستنبط منه النّوويّ , أنّ الحظّ إذا وافق الحقّ لا يقدح في ثوابه , لأنّ وضع اللقمة في في الزّوجة يقع غالباً في حالة المداعبة، ولشهوة النّفس في ذلك مدخل ظاهر. ومع ذلك إذا وجّه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثّواب حصل له بفضل الله. قلت: وجاء ما هو أصرح في هذا المراد من وضع اللقمة، وهو ما أخرجه مسلم عن أبي ذرّ فذكر حديثاً فيه " وفي بُضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسولَ الله أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام؟. الحديث. قال (¬1): وإذا كان هذا بهذا المحل – مع ما فيه من حظّ النّفس - فما الظّنّ بغيره ممّا لا حظّ للنّفس فيه؟. قال: وتمثيله باللقمة مبالغة في تحقيق هذه القاعدة؛ لأنّه إذا ثبت ¬

_ (¬1) أي: النووي رحمه الله.

الأجر في لقمة واحدة لزوجةٍ غير مضطرّة فما الظّنّ بمن أطعم لقماً لمحتاجٍ، أو عمل من الطّاعات ما مشقّته فوق مشقّة ثمن اللقمة الذي هو من الحقارة بالمحل الأدنى. انتهى. وتمام هذا أن يقال: وإذا كان هذا في حقّ الزّوجة مع مشاركة الزّوج لها في النّفع بما يطعمها , لأنّ ذلك يؤثّر في حسن بدنها وهو ينتفع منها بذلك. وأيضاً فالأغلب أنّ الإنفاق على الزّوجة يقع بداعية النّفس، بخلاف غيرها فإنّه يحتاج إلى مجاهدتها. والله أعلم. قوله: (حتى ما تجعل في فيّ امرأتك) وفي رواية سعد بن إبراهيم " حتّى اللقمة " بالنّصب عطفاً على نفقة ويجوز الرّفع على أنّه مبتدأ. و " تجعلها " الخبر وفي رواية البخاري " في فم امرأتك " وللكشميهنيّ " في فيِّ امرأتك " وهي رواية الأكثر. قال القاضي عياض: هي أصوب , لأنّ الأصل حذف الميم بدليل جمعه على أفواه وتصغيره على فويه. قال: وإنّما يحسن إثبات الميم عند الإفراد. وأمّا عند الإضافة فلا إلَّا في لغة قليلة. انتهى ووجه تعلق قوله: " وإنّك لن تنفق نفقة إلخ " بقصّة الوصيّة أنّ سؤال سعد يشعر بأنّه رغّب في تكثير الأجر فلمّا منعه الشّارع من الزّيادة على الثّلث قال له على سبيل التّسلية: إنّ جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة ومن نفقة - ولو كانت واجبة - تؤجر بها إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى، ولعله خصّ المرأة بالذّكر لأنّ نفقتها

مستمرّة بخلاف غيرها. قال ابن دقيق العيد: فيه أنّ الثّواب في الإنفاق مشروط بصحّة النّيّة وابتغاء وجه الله، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشّهوة، فإنّ ذلك لا يحصل الغرض من الثّواب حتّى يبتغي به وجه الله، وسبق تخليص هذا المقصود ممّا يشوبه. قال: وقد يكون فيه دليل على أنّ الواجبات إذا أدّيت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها، فإنّ قوله " حتّى ما تجعل في في امرأتك " لا تخصيص له بغير الواجب. ولفظة " حتّى " هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنّسبة إلى المعنى، كما يقال جاء الحاجّ حتّى المشاة. قال الطّبريّ ما ملخّصة: الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التّطوّع. وقال المُهلَّب: النّفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنّما سمّاها الشّارع صدقة خشية أن يظنّوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصّدقة من الأجر فعرّفهم أنّها لهم صدقة، حتّى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلَّا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصّدقة الواجبة قبل صدقة التّطوّع. وقال ابن المنيّر: تسمية النّفقة صدقة من جنس تسمية الصّداق نحلة، فلمّا كان احتياج المرأة إلى الرّجل كاحتياجه إليها في اللذّة

والتّأنيس والتّحصين وطلب الولد. كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء، إلَّا أنّ الله خصّ الرّجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثَمّ جاز إطلاق النّحلة على الصّداق، والصّدقة على النّفقة. قوله: (ولعلَّك أنْ تُخلَّف) وفي رواية سعد بن إبراهيم " وعسى الله أن يرفعك " أي: يطيل عمرك. زاد أبو نعيم في " المستخرج " يعني يقيمك من مرضك " وكذلك اتّفق، فإنّه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة بل قريباً من خمسين، لأنّه مات سنة خمس وخمسين من الهجرة. وقيل: سنة ثمان وخمسين وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجّة الوداع خمساً وأربعين أو ثمانياً وأربعين. قوله: (حتى ينتفع بك أقوامٌ، ويضّرّ بك آخرون) في رواية سعد " فينتفع بك ناس " أي: ينتفع بك المسلمون بالغنائم ممّا سيفتح الله على يديك من بلاد الشّرك، ويضرّ بك المشركون الذين يهلكون على يديك. وزعم ابن التّين , أنّ المراد بالنّفع به ما وقع من الفتوح على يديه كالقادسيّة وغيرها، وبالضّرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن عليّ ومن معه. وهو كلام مردود لتكلفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضّرر الصّادر من ولده، وقد وقع منه هو الضّرر المذكور بالنّسبة إلى الكفّار.

وأقوى من ذلك ما رواه الطّحاويّ من طريق بكير بن عبد الله بن الأشجّ عن أبيه , أنّه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذا. فقال: لَمَّا أُمِّر سعد على العراق أُتي بقومٍ ارتدّوا فاستتابهم فتاب بعضهم وامتنع بعضهم فقتلهم، فانتقع به من تاب , وحصل الضّرر للآخرين. قال بعض العلماء: " لعل " وإن كانت للتّرجّي , لكنّها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله غالباً. قوله: (لكن البائس سعد بن خولة) خولة بفتح المعجمة وسكون الواو , وفي رواية أبي نعيم عن سفيان عن سعد بن إبراهيم عند البخاري " قال: يرحم الله ابن عفراء " كذا وقع في هذه الرّواية , في رواية أحمد والنّسائيّ من طريق عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان " , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يرحم الله سعد ابن عفراء ثلاث مرّات ". قال الدّاوديّ: " ابن عفراء " غير محفوظ. وقال الدّمياطيّ (¬1): هو وهم، والمعروف " ابن خولة ". قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم , فإنّ الزّهريّ أحفظ منه , وقال فيه " سعد بن خولة ". يشير إلى ما وقع في روايته بلفظ " لكنّ البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكّة ". قلت: وقد ذكرت آنفاً من وافق الزّهريّ , وهو الذي ذكره ¬

_ (¬1) عبد المؤمن بن خلف الدمياطي المتوفى سنة 705 هـ تقدَّمت ترجمته (2/ 47).

أصحاب المغازي , وذكروا أنّه شهد بدراً, ومات في حجّة الوداع. وقال بعضهم في اسمه: " خوليّ " بكسر اللام وتشديد التّحتانيّة , واتّفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التّين فحكى عن القابسيّ فتحها. ووقع في رواية ابن عيينة في البخاري. قال سفيان: وسعد بن خولة رجلٌ من بني عامر بن لؤيّ. وذكر ابن إسحاق: أنّه كان حليفاً لهم ثمّ لأبي رهم بن عبد العزّى منهم. وقيل: كان من الفرس الذين نزلوا اليمن. وجزم الليث بن سعد في " تاريخه " عن يزيد بن أبي حبيب , بأنّ سعد بن خولة مات في حجّة الوداع , وهو الثّابت في الصّحيح، خلافاً لمَن قال إنّه مات في مدّة الهدنة مع قريش سنة سبع. وجوّز أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المشهور في حواشيه على البخاريّ: أنّ المراد بابن عفراء عوف بن الحارث أخو معاذ ومعوّذ أولاد عفراء وهي أمّهم. والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنّه قال يوم بدر: ما يضحك الرّبّ من عبده؟ قال. أن يغمس يده في العدوّ حاسراً، فألقى الدّرع التي هي عليه فقاتل حتّى قتل. قال: فيحتمل أن يكون لَمَّا رأى اشتياق سعد بن أبي وقّاص للموت , وعلم أنّه يبقى حتّى يلي الولايات , ذكر ابن عفراء وحبّه للموت ورغبته في الشّهادة كما يذكر الشّيء بالشّيء فذكر سعد بن خولة لكونه

مات بمكّة , وهي دار هجرته. وذكر ابن عفراء مستحسناً لميتته. انتهى ملخّصاً. وهو مردود بالتّنصيص على قوله " سعد ابن عفراء " فانتفى أن يكون المراد عوف , وأيضاً فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقّاص أنّه كان راغباً في الموت، بل في بعضها عكس ذلك. وهو أنّه بكى فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة. وهو عند النّسائيّ. وأيضاً فمخرج الحديث متّحد والأصل عدم التّعدّد، فالاحتمال بعيد لو صرّح بأنّه عوف ابن عفراء. والله أعلم. وقال التّيميّ: يحتمل: أن يكون لأمّه اسمان خولة وعفراء. انتهى. ويحتمل: أن يكون أحدهما اسماً والآخر لقباً , أو أحدهما اسم أمّه والآخر اسم أبيه , أو والآخر اسم جدّة له، والأقرب أنّ عفراء اسم أمّه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنّه خولة أو خوليّ. قوله: (يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الرّثاء بكسر الرّاء وبالمثلثة بعدها مدّة مدح الميّت وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث حيث قال الرّاوي " يرثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ولهذا اعترض الإسماعيليّ ترجمة البخاري " باب رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة " فقال: ليس هذا من مراثي الموتى , وإنّما هو من التّوجّع، يقال: رثيته إذا مدحته بعد موته , ورثيت له: إذا تحزّنت عليه.

ويمكن أن يكون مراد البخاريّ هذا بعينه. كأنّه يقول ما وقع من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فهو من التّحزّن والتّوجّع وهو مباح، وليس معارضاً لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميّت الباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة. وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصحَّحه الحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المراثي , وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: نهانا أن نتراثى. ولا شكّ أنّ الجامع بين الأمرين التّوجّع والتّحزّن. قال ابن عبد البرّ: زعم أهل الحديث أنّ قوله: " يرثي إلخ " من كلام الزّهريّ، وقال ابن الجوزيّ وغيره: هو مدرج من قول الزّهريّ. قلت: وكأنّهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطّيالسيّ عن إبراهيم بن سعد عن الزّهريّ فإنّه فصّل ذلك، لكن وقع عند البخاري عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد في آخره " لكنّ البائس سعد بن خولة، قال سعد: رثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ " فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه. ووقع في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في البخاري من الزّيادة " ثمّ وضع يده على جبهتي , ثمّ مسح وجهي وبطني , ثمّ قال: اللهمّ اشف سعداً وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها ". ولمسلمٍ من طريق حميدٍ بن عبد الرّحمن المذكورة: قلت: فادع الله

أن يشفيني، فقال: اللهمّ اشف سعداً ثلاث مرّات. قوله: (أنْ مات بمكة) هو بفتح الهمزة للتّعليل. وأغرب الدّاوديّ فتردّد فيه , فقال: إن كان بالفتح ففيه دلالة على أنّه أقام بمكّة بعد الصّدر من حجّته ثمّ مات، وإن كان بالكسر ففيه دليل على أنّه قيل له: إنّه يريد التّخلف بعد الصّدر فخشي عليه أن يدركه أجله بمكّة. قلت: والمضبوط المحفوظ بالفتح، لكن ليس فيه دلالة على أنّه أقام بعد حجّه، لأنّ السّياق يدل على أنّه مات قبل الحجّ. والمعنى أنّ سعد بن خولة. وهو من المهاجرين من مكّة إلى المدينة , وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها , وتركوها مع حبّهم فيها لله تعالى، فمن ثَمّ خشي سعد بن أبي وقّاص أن يموت بها، وتوجّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن خولة لكونه مات بها. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم: مشروعيّة زيارة المريض للإمام فمن دونه، وتتأكّد باشتداد المرض، وفيه وضع اليد على جبهة المريض ومسح وجهه ومسح العضو الذي يؤلمه والفسح له في طول العمر. قال ابن بطّال: في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرّف لشدّة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربّما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحاً. قلت: وقد يكون العائد عارفاً بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما

يناسبه. وفيه أنّ أعمال البرّ والطّاعة إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه قام غيره في الثّواب والأجر مقامه، وربّما زاد عليه، وذلك أنّ سعداً خاف أن يموت بالدّار التي هاجر منها فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره - صلى الله عليه وسلم - بأنّه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملاً صالحاً من حجّ أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوّض ما فاته من الجهة الأخرى. وفيه إباحة جمع المال بشرطه , لأنّ التّنوين في قوله: " وأنا ذو مال " للكثرة وقد وقع في بعض طرقه صريحاً " وأنا ذو مال كثير " والحثّ على صلة الرّحم والإحسان إلى الأقارب، وأنّ صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد. والإنفاق في وجوه الخير , لأنّ المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة؛ وقد نبّه على ذلك بأقل الحظوظ الدّنيويّة العادية وهو وضع اللقمة في فم الزّوجة إذ لا يكون ذلك غالباً إلَّا عند الملاعبة والممازحة , ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصداً صحيحاً، فكيف بما هو فوق ذلك؟!. وفيه منع نقل الميّت من بلد إلى بلد إذ لو كان ذلك مشروعاً لأمر بنقل سعد بن خولة. قاله الخطّابيّ. وبأنّ من لا وارث له تجوز له الوصيّة بأكثر من الثّلث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أن تذر ورثتك أغنياء. فمفهومه أنّ من لا وارث له لا يبالي بالوصيّة

بما زاد لأنّه لا يترك ورثة يخشى عليهم الفقر. وتعقّب: بأنّه ليس تعليلاً محضاً وإنّما فيه تنبيه على الأحظّ الأنفع، ولو كان تعليلاً محضاً لاقتضى جواز الوصيّة بأكثر من الثّلث لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم ولا قائل بذلك، وعلى تقدير أن يكون تعليلاً محضاً فهو للنّقص عن الثّلث لا للزّيادة عليه، فكأنّه لَمَّا شرع الإيصاء بالثّلث وأنّه لا يعترض به على الموصي إلَّا أنّ الانحطاط عنه أولى , ولا سيّما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبّه سعداً على ذلك. وفيه سدّ الذّريعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ولا تردّهم على أعقابهم " لئلا يتذرّع بالمرض أحد لأجل حبّ الوطن. قاله ابن عبد البرّ. وفيه تقييد مطلق القرآن بالسّنّة , لأنّه قال سبحانه وتعالى: (من بعد وصيّة يوصي بها أو دين) فأطلق، وقيّدت السّنّة الوصيّة بالثّلث، وأنّ من ترك شيئاً لله لا ينبغي له الرّجوع فيه ولا في شيء منه مختاراً. وفيه التّأسّف على فوت ما يحصل الثّواب، وفيه حديث: من ساءته سيّئة. (¬1) وأنّ من فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 26) والنسائي في " الكبرى " (8/ 284) وابن ماجه (2363) وأبو يعلى (143 , 142) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (4/ 150) وغيرهم من طريق عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في مثل مقامي هذا، فقال: أحسنوا إلى أصحابي ... فذكر الحديث. وفيه: ومن سرَّته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن " ورواه الترمذي (2165) والنسائي في " الكبرى " (7/ 146) والحاكم في " المستدرك " (1/ 197) وأحمد (114) وغيرهم من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر - رضي الله عنه -. نحوه. وصحَّحه الحاكم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه. وللحديث طرق أخرى. انظر علل الدارقطني (2/ 112)

وفيه تسلية من فاته أمر من الأمور بتحصيل ما هو أعلى منه لِما أشار - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ من عمله الصّالح بعد ذلك. وفيه جواز التّصدّق بجميع المال لمن عرف بالصّبر ولَم يكن له من تلزمه نفقته. وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوهاً , لأنّ سعداً لَمَّا منع من الوصيّة بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز فاستفسر عمّا دون ذلك، وفيه النّظر في مصالح الورثة. وفيه أنّ خطاب الشّارع للواحد يعمّ من كان بصفته من المكلفين لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا. وإن كان الخطاب إنّما وقع له بصيغة الإفراد، ولقد أبعد مَن قال: إنّ ذلك يختصّ بسعدٍ ومن كان في مثل حاله ممّن يخلف وارثاً ضعيفاً أو كان ما يخلفه قليلاً , لأنّ البنت من شأنها أن يطمع فيها، وإن كانت بغير مال لَم يرغب فيها. وفيه أنّ من ترك مالاً قليلاً فالاختيار له ترك الوصيّة وإبقاء المال للورثة، واختلف السّلف في ذلك القليل كما تقدّم. واستدل به التّيميّ لفضل الغنيّ على الفقير. وفيه نظرٌ.

وفيه مراعاة العدل بين الورثة ومراعاة العدل في الوصيّة، وفيه أنّ الثّلث في حدّ الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصيّة، ويحتاج الاحتجاج به إلى ثبوت طلب الكثرة في الحكم المعيّن. واستدل بقوله: " ولا يرثني إلَّا ابنة لي " مَن قال بالرّدّ على ذوي الأرحام للحصر في قوله: لا يرثني إلَّا ابنة. وتعقّب: بأنّ المراد من ذوي الفروض كما تقدّم، ومَن قال بالرّدّ لا يقول بظاهره لأنّهم يعطونها فرضها ثمّ يردّون عليها الباقي، وظاهر الحديث أنّها ترث الجميع ابتداء.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون 300 - عن عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنه - , قال: لو أنّ الناس غضّوا من الثلث إلى الرّبع، فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الثلث، والثلث كثيرٌ. (¬1) قوله: (لو أنّ الناس غضّوا) وللبخاري " لو غضّ النّاس " بمعجمتين. أي: نقص، و " لو " للتّمنّي فلا يحتاج إلى جواب، أو شرطيّة والجواب محذوف. وقد وقع في رواية ابن أبي عمر في " مسنده " عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس بلفظ " كان أحبّ إليّ " أخرجه الإسماعيليّ من طريقه , ومن طريق أحمد بن عبدة أيضاً , وأخرجه من طريق العبّاس بن الوليد عن سفيان بلفظ " كان أحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (إلى الرّبع) زاد الحميديّ " في الوصيّة " وكذا رواه أحمد عن وكيع عن هشام بلفظ " وددت أنّ النّاس غضّوا من الثّلث إلى الرّبع في الوصيّة " الحديث. قوله: (فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) وللبخاري " لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هو كالتّعليل لِمَا اختاره من النّقصان عن الثّلث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2592) ومسلم (1629) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

وكأنّ ابن عبّاس أخذ ذلك من وصفه - صلى الله عليه وسلم - الثّلث بالكثرة. وقد قدّمنا الاختلاف في توجيه ذلك في الحديث الذي قبله، ومن أخذ بقول ابن عبّاس في ذلك كإسحاق بن راهويه، والمعروف في مذهب الشّافعيّ استحباب النّقص عن الثّلث. وفي شرح مسلم للنّوويّ: إن كان الورثة فقراء استحبّ أن ينقص منه. وإن كانوا أغنياء فلا. قوله: (والثّلث كثير) في رواية مسلم " كثير أو كبير " بالشّكّ. هل هي بالموحّدة أو بالمثلثة؟. واستقرّ الإجماع على منع الوصيّة بأزيد من الثّلث. لكن اختلف فيمن كان له وارث. فأخرج أبو داود والتّرمذيّ وغيرهما من حديث أبي أُمامة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته في حجّة الوداع: إنّ الله قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارثٍ. وفي إسناده إسماعيل بن عيّاش، وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ، وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم - وهو شاميّ ثقة - وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ. وقال التّرمذيّ: حديث حسن. وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند التّرمذيّ والنّسائيّ، وعن أنس عند ابن ماجه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ , وعن جابر عند الدّارقطنيّ أيضاً. وقال: الصّواب

إرساله، وعن عليّ عند ابن أبي شيبة. ولا يخلو إسناد كلٍ منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلاً. بل جنح الشّافعيّ في " الأمّ " إلى أنّ هذا المتن متواتر , فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: لا وصيّة لوارثٍ. ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافّة عن كافّة، فهو أقوى من نقل واحد. وقد نازع الفخر الرّازيّ في كون هذا الحديث متواتراً , وعلى تقدير تسليم ذلك , فالمشهور من مذهب الشّافعيّ. أنّ القرآن لا ينسخ بالسّنّة , لكنّ الحجّة في هذا الإجماع على مقتضاه كما صرّح به الشّافعيّ وغيره. والمراد بعدم صحّة وصيّة الوارث عدم اللزوم , لأنّ الأكثر على أنّها موقوفة على إجازة الورثة كما سيأتي بيانه. وروى الدّارقطنيّ من طريق ابن جريجٍ عن عطاء عن ابن عبّاس مرفوعاً: لا تجوز وصيّة لوارثٍ إلَّا أن يشاء الورثة. ورجاله ثقات إلَّا أنّه معلول. فقد قيل: إنّ عطاءً هو الخراسانيّ. والله أعلم. واستدل بحديث " لا وصيّة لوارثٍ " بأنّه لا تصحّ الوصيّة للوارث أصلاً، وعلى تقدير نفاذها من الثّلث لا تصحّ الوصيّة له ولا لغيره بما زاد على الثّلث. ولو أجازت الورثة، وبه قال المزنيّ وداود،

وقوّاه السّبكيّ. واحتجّ له بحديث عمران بن حصينٍ في الذي أعتق ستّة أعبد , فإنّ فيه عند مسلم: فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: قولاً شديداً. وفسّر القول الشّديد في رواية أخرى بأنّه قال: لو علمتُ ذلك ما صليتُ عليه. ولَم ينقل أنّه راجع الورثة فدلَّ على منعه مطلقاً. وبقوله في حديث سعد بن أبي وقّاص: وكان بعد ذلك الثّلث جائزاً (¬1). فإنّ مفهومه أنّ الزّائد على الثّلث ليس بجائزٍ، وبأنّه - صلى الله عليه وسلم - منع سعداً من الوصيّة بالشّطر. ولَم يستثن صورة الإجازة. واحتجّ من أجازه بالزّيادة المتقدّمة وهي قوله " إلَّا أن يشاء الورثة ". فإن صحّت هذه الزّيادة , فهي حجّة واضحة. واحتجّوا من جهة المعنى: بأنّ المنع إنّما كان في الأصل لحقّ الورثة، فإذا أجازوه لَم يمتنع. واختلفوا فيمن لَم يكن له وارث خاصّ. القول الأول: منعه الجمهور. القول الثاني: جوّزه الحنفيّة وإسحاق وشريك وأحمد في رواية , وهو قول عليّ وابن مسعود. ¬

_ (¬1) أخرج هذه اللفظة مسلم في " صحيحه " (4299) , وفي رواية للبخاري " فأوصى الناس بالثلث فجاز ذلك لهم "

واحتجّوا: بأنّ الوصيّة مطلقة بالآية. فقيّدتها السّنّة بمن له وارث فيبقى من لا وارث له على الإطلاق. وقد تقدّم في الحديث الذي قبله توجيه لهم آخر. واختلفوا أيضاً هل يعتبر ثلث المال حال الوصيّة أو حال الموت؟. على قولين، وهما وجهان للشّافعيّة. أصحّهما الثّاني. فقال بالأوّل: مالك وأكثر العراقيّين. وهو قول النّخعيّ وعمر بن عبد العزيز. وقال بالثّاني: أبو حنيفة وأحمد والباقون. وهو قول عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجماعة من التّابعين. وتمسّك الأوّلون: بأنّ الوصيّة عقد والعقود تعتبر بأوّلها، وبأنّه لو نذر أن يتصدّق بثلث ماله اعتبر ذلك حالة النّذر اتّفاقاً. وأجيب: بأنّ الوصيّة ليست عقداً من كل جهة ولذلك لا تعتبر بها الفوريّة ولا القبول، وبالفرق بين النّذر والوصيّة بأنّها يصحّ الرّجوع عنها والنّذر يلزم. وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصيّة. واختلفوا أيضاً: هل يحسب الثّلث من جميع المال , أو تنفذ بما علمه الموصي دون ما خفي عليه أو تجدّد له ولَم يعلم به؟. وبالأوّل قال الجمهور، وبالثّاني قال مالك. وحجّة الجمهور: أنّه لا يشترط أن يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصيّة اتّفاقاً - ولو كان عالماً بجنسه - فلو كان العلم به شرطاً

لَمَا جاز ذلك. فائدة: أوّل من أوصى بالثّلث في الإسلام البراء بن المعرور بمهملاتٍ، أوصى به للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وكان قد مات قبل أن يدخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهرٍ، فقبِله النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وردّه على ورثته. أخرجه الحاكم وابن المنذر من طريق يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن جدّه.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض جمع فريضةٍ كحديقةٍ وحدائق، والفريضة فعيلةٌ بمعنى مفروضةٍ مأخوذةٌ من الفرض. وهو القطع، يقال: فرضت لفلانٍ كذا. أي: قطعت له شيئاً من المال قاله الخطّابيّ. وقيل: هو من فرض القوس، وهو الحزّ الذي في طرفيه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول. وقيل: الثّاني خاصّ بفرائض الله. وهي ما ألزم به عباده. وقال الرّاغب: الفرض قطع الشّيء الصّلب والتّأثير فيه، وخصّت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى (نصيباً مفروضاً) أي: مقدّراً أو معلوماً أو مقطوعاً عن غيرهم. وقد ورد في الحثّ على تعلِّم الفرائض , حديث ليس على شرط البخاري. أخرجه أحمد والتّرمذيّ والنّسائيّ وصحَّحه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه " تعلَّموا الفرائض وعلموها النّاس فإنّي امرؤٌ مقبوضٌ، وإنّ العلم سيُقبض حتّى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما ". ورواته موثّقون، إلَّا أنّه اختلف فيه على عوفٍ الأعرابيّ اختلافاً كثيراً. فقال التّرمذيّ: إنّه مضطربٌ. والاختلاف عليه أنّه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضاً اختلاف.

ولفظه عند التّرمذيّ (¬1) من حديث أبي هريرة " تعلموا الفرائض فإنّها نصف العلم، وإنّه أوّل ما ينزع من أمّتي ". وفي الباب عن أبي بكرة. أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق راشدٍ الحمّانيّ عن عبد الرّحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: تعلَّموا القرآن والفرائض وعلّموها النّاس، أوشك أن يأتي على النّاس زمانٌ يختصم الرّجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما. وراشدٌ مقبولٌ , لكنّ الرّاوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدريّ بلفظ " تعلَّموا الفرائض وعلموها النّاس " أخرجه الدّارقطنيّ من طريق عطيّة وهو ضعيف، وأخرج الدّارميّ عن عمر موقوفاً " تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن ". وفي لفظ عنه " تعلموا الفرائض فإنّها من دينكم ". وعن ابن مسعود موقوفاً أيضاً " من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض " ورجالها ثقات. إلَّا أنّ في أسانيدها انقطاعاً. ¬

_ (¬1) لم أره عند الترمذي بهذا اللفظ. وإنما أخرجه (2091) من رواية عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: تعلّموا القرآن والفرائض وعلّموا الناس فإني مقبوض. أما هذا اللفظ الذي ذكره الشارح. فأخرجه ابن ماجه في " السنن " (2719) والبيهقي في " الكبرى " (6/ 343) والطبراني في " الأوسط " (5293) والحاكم في " المستدرك " (4/ 369) من طريق حفص بن عمر بن أبي العطَّاف عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وقال البيهقي: تفرَّد به حفص وليس بالقوي. وقال الذهبي في " التلخيص ": حفص بن عمر واه بمرة.

قال ابن الصّلاح: لفظ النّصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لَم يتساويا , وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنّه يبتلى به كل النّاس. وقال غيره: لأنّ لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت. وقيل: لأنّ الأحكام تتلقّى من النّصوص ومن القياس، والفرائض لا تتلقّى إلَّا من النّصوص. فائدة: قال ابن عبد البر: أصل ما بنى عليه مالك والشافعي وأهل الحجاز ومن وافقهم في الفرائض قول زيد بن ثابت. وأصل ما بنى عليه أهل العراق ومن وافقهم فيها قول علي بن أبي طالب. وكل من الفريقين لا يخالف قول صاحبه إلَّا في اليسير النادر إذا ظهر له مما يجب عليه الانقياد إليه.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون 301 - عن عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكرٍ. (¬1) وفي رواية: اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض، فلأولى رجلٍ ذكرٍ. (¬2) قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى , وهي النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما , والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن. ووقع في رواية روح بن القاسم (¬3) عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس " اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله " أي: على وفق ما أنزل في كتابه. قوله: (فما بقي) في رواية روح بن القاسم " فما تركت " أي أبقت. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6351 , 6354 , 6356 , 6365) ومسلم (1615) من طرق عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (1615) من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس به. (¬3) كذا قال الشارح رحمه الله , والصواب أن هذه الرواية من رواية معمر عن عبد الله بن طاوس كما في صحيح مسلم (4228) , أما رواية رَوح. فقد أخرجها الشيخان بلفظ " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما تركت الفرائض فلأولى رجلٍ ذكرٍ.

قوله: (فهو لأولى) في رواية لهما " فلأولى " بفتح الهمزة واللام بينهما واو ساكنة أفعل تفضيل من الولْي بسكون اللام وهو القرب، أي: لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث. وليس المراد هنا الأحق. وقد حكى عياض: أنَّ في رواية ابن الحذاء عن ابن ماهان في مسلم " فهو لأدنى " بدال ونون , وهي بمعنى الأقرب. قال الخطابي: المعنى أقرب رجل من العصبة. وقال ابن بطال: المراد بأولى رجل أنَّ الرجال من العصبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد. فإن استووا اشتركوا. قال: ولَم يقصد في هذا الحديث من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة، كذا قال ابن المنير. وقال ابن التين: إنما المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع ابن العم , وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب , فإنهم يرثون بنص قوله تعالى: {وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذّكر مثل حظّ الأنثيين} , ويستثنى من ذلك من يحجب كالأخ للأب مع البنت والأخت الشقيقة , وكذا يخرج الأخ والأخت لأم لقوله تعالى: {فلكل واحدٍ منهما السّدس}. وقد نقل الإجماع على أنَّ المراد بها الأخوة من الأم.

قوله: (رجلٍ ذكرٍ) هكذا في جميع الروايات، ووقع في كتب الفقهاء كصاحب النهاية وتلميذه الغزالي " فلأولى عصبة ذكر ". قال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة ليست محفوظة. وقال ابن الصلاح: فيها بُعدٌ عن الصحة من حيث اللغة , فضلا عن الرواية , فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد. كذا قال. والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدل عليه ما وقع في بعض طرق حديث أبي هريرة في صحيح البخاري " فليرثه عصبته من كانوا " (¬1). قال ابن دقيق العيد: قد استشكل بأن الأخوات عصبات البنات. والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي بعد الفروض. والجواب: أنه من طريق المفهوم، وقد اختلف هل له عموم؟ وعلى التنزل فيخص بالخبر الدال على أنَّ الأخوات عصبات البنات. وقد استشكل التعبير بذكر بعد التعبير برجل. فقال الخطابي: إنما كرر للبيان في نعته بالذكورة , ليعلم أنَّ العصبة إذا كان عما أو ابن عم مثلا , وكان معه أخت له , أنَّ الأخت لا ترث ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. ¬

_ (¬1) وتمامه: ما من مؤمن إلَّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. اقرؤوا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}. فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته مَن كانوا , ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه.

وتعقب: بأن هذا ظاهر من التعبير بقوله: " رجل " والإشكال باق إلَّا أنَّ كلامه ينحل إلى أنه للتأكيد، وبه جزم غيره كابن التين قال: ومثله ابن لبون ذكر. وزيفه القرطبي فقال: قيل: إنه للتأكيد اللفظي، ورُدَّ بأن العرب إنما تؤكد حيث يفيد فائدة إما تعين المعنى في النفس. وإما رفع توهم المجاز , وليس ذلك موجوداً هنا. وقال غيره: هذا التوكيد لمتعلق الحكم وهو الذكورة، لأنَّ الرجل قد يراد به معنى النجدة والقوة في الأمر، فقد حكى سيبويه مررت برجلٍ رجلٌ أبوه. فلهذا احتاج الكلام إلى زيادة التوكيد بذكر حتى لا يظن أنَّ المراد به خصوص البالغ. وقيل: خشية أن يظن بلفظ " رجل " الشخص. وهو أعم من الذكر والأنثى. وقال ابن العربي: في قوله " ذَكَر " الإحاطة بالميراث إنما تكون للذكر دون الأنثى، ولا يرد قول مَن قال: إنَّ البنت تأخذ جميع المال , لأنها إنما تأخذه بسببين متغايرين , والإحاطة مختصة بالسبب الواحد وليس إلَّا الذكر. فلهذا نبه عليه بذكر الذكورية. قال: وهذا لا يتفطن له كل مدع. وقيل: إنه احتراز عن الخنثى في الموضعين فلا تؤخذ الخنثى في الزكاة ولا يحرز الخنثى المال إذا انفرد. وقيل: للاعتناء بالجنس.

وقيل: للإشارة إلى الكمال في ذلك كما يقال امرأة أنثى. وقيل: لنفي توهم اشتراك الأنثى معه , لئلا يحمل على التغليب. وقيل: ذُكر تنبيهاً على سبب الاستحقاق بالعصوبة , وسبب الترجيح في الإرث , ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وحكمته أنَّ الرجال تلحقهم المؤن كالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين ومواساة السائلين وتحمّل الغرامات وغير ذلك، هكذا قال النووي. وسبقه القاضي عياض. فقال: قيل هو على معنى اختصاص الرجال بالتعصيب بالذكورية التي بها القيام على الإناث. وأصله للمازري. فإنه قال بعد أن ذكر استشكال ما ورد في هذا: وهو " رجل ذكر " وفي الزكاة " ابن لبون ذكر ". قال: والذي يظهر لي أنَّ قاعدة الشرع في الزكاة الانتقال من سن إلى أعلى منها , ومن عدد إلى أكثر منه , وقد جعل في خمسة وعشرين بنت مخاض وسناً أعلى منها وهو ابن لبون , فقد يتخيل أنه على خلاف القاعدة , وأن السنين كالسن الواحد , لأنَّ ابن اللبون أعلى سناً لكنه أدنى قدراً , فنبَّه بقوله " ذكر " على أنَّ الذكورية تبخسه حتى يصير مساوياً لبنت مخاض مع كونها أصغر سناً منه. وأما في الفرائض فلِمَا عُلم أنَّ الرجال هم القائمون بالأمور , وفيهم معنى التعصيب , وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء فعبر بلفظ " ذكر " إشارة إلى العلة التي لأجلها اختص بذلك، فهما وإن اشتركا

في أنَّ السبب في وصف كل منهما بذكر التنبيه على ذلك , لكن متعلق التنبيه فيهما مختلف، فإنه في ابن اللبون إشارة إلى النقص , وفي الرجل إشارة إلى الفضل، وهذا قد لخصه القرطبي وارتضاه. وقيل: إنه وصف لأولى لا لرجل. قاله السهيلي. وأطال في تقريره , وتبجح به. فقال: هذا الحديث أصل في الفرائض , وفيه إشكال , وقد تلقَّاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى من أوتى جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً. فقالوا: هو نعت لرجل، وهذا لا يصح لعدم الفائدة , لأنه لا يتصور أن يكون الرجل إلَّا ذكراً , وكلامه أجلُّ من أن يشتمل على حشو لا فائدة فيه , ولا يتعلق به حكم، ولو كان كما زعموا لنقص فقه الحديث , لأنه لا يكون فيه بيان حكم الطفل الذي لَم يبلغ سن الرجولية، وقد اتفقوا على أنَّ الميراث يجب له - ولو كان ابن ساعة - فلا فائدة في تخصيصه بالبالغ دون الصغير. قال: والحديث إنما سبق لبيان من يستحق الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، ولو كان كما زعموا لَم يكن فيه تفرقة بين قرابة الأب وقرابة الأم. قال: فإذا ثبت هذا فقوله " أولى رجل ذكر " يريد القريب في النسب الذي قرابته من قِبَل رجلٍ وصلبٍ لا من قِبَل بطنٍ ورحمٍ، فالأولى هنا هو ولي الميت فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ , وهو

في اللفظ مضاف إلى النسب - وهو الصلب - فعبر عن الصلب بقوله: أولى رجل. لأنَّ الصلب لا يكون إلَّا رجلاً فأفاد بقوله " لأولى رجل " نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قِبَل الأم كالخال، وأفاد بقوله " ذكر " نفي الميراث عن النساء , وإن كنَّ من المدلين إلى الميت من قِبل صلب لأنهن إناث. قال: وسبب الإشكال من وجهين: أحدهما: أنه لَمَّا كان مخفوضا ظن نعتاً لرجل , ولو كان مرفوعاً لَم يشكل كأن يقال فوارثه أولى رجل ذكر. والثاني: أنه جاء بلفظ أفعل , وهذا الوزن إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه كفلان أعلم إنسان , فمعناه أعلم الناس فتوهم أنَّ المراد بقوله " أولى رجل " أولى الرجال , وليس كذلك. وإنما هو أولى الميت بإضافته النسب وأولى صلب بإضافته كما تقول: هو أخوك أخو الرخاء لا أخو البلاء، قال: فالأولى في الحديث كالولي. فإن قيل: كيف يضاف للواحد وليس بجزء منه؟. فالجواب: إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته - وإن لَم يكن جزءاً منه - كقوله - صلى الله عليه وسلم - في البر: بر أمك ثم أباك ثم أدناك (¬1). قال: وعلى هذا فيكون في هذا الكلام الموجز من المتانة وكثرة المعاني ما ليس في غيره، فالحمد لله الذي وفق وأعان انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2548) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ولا يخلو من استغلاق. وقد لخصه الكرماني , فقال: ذكر صفة لأولى لا لرجل، والأولى بمعنى القريب الأقرب فكأنه قال: فهو لقريب الميت ذكر من جهة رجل وصلب لا من جهة بطن ورحم، فالأولى من حيث المعنى مضاف إلى الميت، وأشير بذكر الرجل إلى الأولوية , فأفاد بذلك نفي الميراث عن الأولى الذي من جهة الأم كالخال، وبقوله " ذكر " نفيه عن النساء بالعصوبة , وإن كنّ من المُدلين للميت من جهة الصلب. انتهى وقد أوردته كما وجدته ولَم أحذف منه إلَّا أمثلة أطال بها وكلمات طويلة تبجح بها بسبب ما ظهر له من ذلك، والعلم عند الله تعالى. قال النووي: أجمعوا على أنَّ الذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدم الأقرب فالأقرب , فلا يرث عاصب بعيد مع عاصب قريب، والعصبة كلُّ ذكر يُدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي , وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له. قال القرطبي: وأما تسمية الفقهاء الأخت مع البنت عصبة فعلى سبيل التجوز , لأنها لَمَّا كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت العاصب.

قلت: وقد ترجم البخاري بذلك (¬1) قال الطحاوي: استدل قوم - يعني ابن عباس ومن تبعه - بحديث ابن عباس , على أنَّ من خلف بنتا وأخا شقيقا وأختا شقيقة كان لابنته النصف وما بقي لأخيه ولا شيء لأخته ولو كانت شقيقة، وطردوا ذلك فيما لو كان مع الأخت الشقيقة عصبة , فقالوا: لا شيء لها مع البنت , بل الذي يبقى بعد البنت للعصبة ولو بعدوا. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {إن امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصف ما ترك} قالوا: فمن أعطى الأخت مع البنت خالف ظاهر القرآن. قال: واستُدل عليهم بالاتفاق على أنَّ من ترك بنتاً وابن ابن وبنت ابن متساويين أنَّ للبنت النصف وما بقي بين ابن الابن وبنت الابن , ولَم يخصوا ابن الابن بما بقي لكونه ذكراً , بل ورثوا معه شقيقته وهي أنثى. قال: فعُلم بذلك أنَّ حديث ابن عباس ليس على عمومه , بل هو في شيء خاص , وهو ما إذا ترك بنتاً وعمّاً وعمةً فإن للبنت النصف وما بقي للعم دون العمة إجماعاً. قال: فاقتضى النظر ترجيح إلحاق الأخت مع الأخ بالابن والبنت ¬

_ (¬1) فقال " باب ميراث الأخوات مع البنات عصبةٌ " ثم أورد قضاء معاذ - رضي الله عنه - أنَّ النصف للابنة والنصف للأخت. وكذا قول ابن مسعود: لأقضين فيها بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - , أو قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت "

لا بالعم والعمة، لأَنَّ الميت لو لَم يترك إلَّا أخاً وأختاً شقيقتين فالمال بينهما، فكذلك لو ترك ابن ابن وبنت ابن، بخلاف ما لو ترك عما وعمة فإن المال كله للعم دون العمة باتفاقهم. قال: وأما الجواب عما احتجوا به من الآية , فهو أنهم أجمعوا على أنَّ الميت لو ترك بنتاً وأخاً لأب كان للبنت النصف وما بقي للأخ، وأن معنى قوله تعالى: {ليس له ولدٌ} إنما هو ولد يحوز المال كله لا الولد الذي لا يحوز، وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأب ثم الجد والأخ إذا انفرد واحد منهما، فإن اجتمعا فسيأتي حكمه (¬1)، ثم بنو الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا. ومن أدلى بأبوين يُقدَّم على من أدلى بأب , لكن يُقدَّم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين , ويُقدَّم ابن أخ لأب على عم لأبوين , ويُقدَّم عم لأب على ابن عم لأبوين. واستدل به البخاري على: المسألة الأولى: أنَّ ابن الابن يحوز المال إذا لَم يكن دونه ابن. وروى سعيد بن منصور عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: ولد الأبناء بمنزلة الولد، إذا لَم يكن دونهم ولدٌ ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، يرثون كما يرثون، ¬

_ (¬1) في المسألة الثانية.

ويحجبون كما يحجبون، ولا يرث ولد الابن مع الابن. قال ابن بطّال: قال أكثر الفقهاء فيمن خلفت زوجاً وأباً وبنتاً وابن ابن وبنت ابن: تقدّم الفروض فللزّوج الرّبع، وللأب السّدس، وللبنت النّصف، وما بقي بين ولدي الابن للذّكر مثل حظّ الأنثيين، فإن كانت البنت أسفل من الابن فالباقي له دونها. وقيل: الباقي له مطلقاً لقوله " فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ ". وتمسّك زيد بن ثابت والجمهور بقوله تعالى (في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين) , وقد أجمعوا أنّ بني البنين ذكوراً وإناثاً كالبنين عند فقد البنين إذا استووا في التّعدّد، فعلى هذا تخصّ هذه الصّورة من عموم " فلأولى رجلٍ ذكرٍ ". المسألة الثانية: على أنَّ الجد يرث جميع المال. إذا لَم يكن دونه أب. وهو القول الأول: ووجه تعلّقه بالمسألة , أنّه دلَّ على أنّ الذي يبقى بعد الفرض يصرف لأقرب النّاس للميّت فكان الجدّ أقرب فيقدّم. وأخرج الدّارميّ بسندٍ على شرط مسلمٍ عن أبي سعيد الخدريّ , أنّ أبا بكر الصّدّيق جعل الجدّ أباً. وبسندٍ صحيحٍ إلى أبي سعيد وأبي موسى وعثمان بن عفّان , أنّ أبا بكر كان يجعل الجدّ أباً. وفي لفظٍ له " أنّه جعل الجدّ أباً إذا لَم يكن دونه أبٌ ". وأخرج محمّد بن نصر المروزيّ في كتاب الفرائض من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عبّاس قال: الجدّ أبٌ.

وأخرج يزيد بن هارون من طريق ليث عن طاوسٍ , أنّ عثمان وابن عبّاس كانا يجعلان الجدّ أباً. وأخرج البخاري في " صحيحه " من طريق ابن أبي مُلَيكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزّبير في الجدّ , فقال: إنّ أبا بكر أنزله أباً. وفيه دلالة على أنّه أفتاهم بمثل قول أبي بكر. واحتج ابن عبّاس بقوله تعالى (يا بني آدم) فأخرج محمّد بن نصر من طريق عبد الرّحمن بن معقل قال: جاء رجلٌ إلى ابن عبّاس فقال له: كيف تقول في الجدّ؟ قال: أيّ أبٍ لك أكبر؟ فسكت، وكأنّه عيي عن جوابه، فقلت أنا: آدم، فقال: أفلا تسمع إلى قوله تعالى (يا بني آدم). أخرجه الدّارميّ من هذا الوجه. واحتج أيضاً بقوله تعالى (واتّبعت ملة آبائي) فأخرج سعيد بن منصور من طريق عطاء عن ابن عبّاس قال: الجدّ أبٌ وقرأ (واتّبعت ملة آبائي) الآية. واحتجّ بعض مَن قال بذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - " أنا ابن عبد المطّلب " وإنّما هو ابن ابنه. قال البخاري: ولَم يُذكر أنّ أحداً خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - متوافرون. انتهى كأنّه يريد بذلك تقوية حجّة القول المذكور , فإنّ الإجماع السّكوتيّ حجّة، وهو حاصل في هذا، وممّن جاء عنه التّصريح بأنّ الجدّ يرث ما كان يرث الأب عند عدم الأب , معاذ وأبو الدّرداء وأبو موسى وأبيّ

بن كعب وعائشة وأبو هريرة، ونقل ذلك أيضاً عن عمر وعثمان وعليّ وابن مسعود على اختلاف عنهم، ومن التّابعين عطاء وطاوسٌ وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو الشّعثاء وشريح والشّعبيّ، ومن فقهاء الأنصار عثمان التّيميّ وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وداود وأبو ثور والمزنيّ وابن سريج. القول الثاني: ذهب عمر وعليّ وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الإخوة مع الجدّ , لكن اختلفوا في كيفيّة ذلك. وأخرج سعيد بن منصور من طريق عطاء عن ابن عبّاس قال: يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني. قال ابن عبد البرّ: وجه قياس ابن عبّاس. أنّ ابن الابن لَمَّا كان كالابن عند عدم الابن كان أبو الأب عند عدم الأب كالأب، وقد ذكر من وافق ابن عبّاس في هذا توجيه قياسه المذكور , من جهة أنّهم أجمعوا على أنّه كالأب في الشّهادة له , وفي العتق عليه , وأنّه لا يقتصّ منه , وأنّه ذو فرض أو عاصب , وعلى أنّ من ترك ابناً وأباً أنّ للأب السّدس والباقي للابن , وكذا لو ترك جدّة لأبيه وابناً، وعلى أنّ الجدّ يضرب مع أصحاب الفروض بالسّدس كما يضرب الأب سواء , قيل: بالعول أم لا. واتّفقوا على أنّ ابن الابن بمنزلة الابن في حجب الزّوج عن النّصف والمرأة عن الرّبع والأمّ عن الثّلث كالابن سواء، فلو أنّ رجلاً ترك أبويه وابن ابنه كان لكلٍّ من أبويه السّدس وأنّ من ترك

أبا جدّه وعمّه أنّ المال لأبي جدّه دون عمّه , فينبغي أن يكون لوالد أبيه دون إخوته فيكون الجدّ أولى من أولاد أبيه. كما أنّ أباه أولى من أولاد أبيه. وعلى أنّ الإخوة من الأمّ لا يرثون مع الجدّ كما لا يرثون مع الأب فحجبهم الجدّ كما حجبهم الأب فينبغي أن يكون الجدّ كالأب في حجب الإخوة، وكذا القول في بني الإخوة، ولو كانوا أشقّاء. وقال السّهيليّ: لَم ير زيد بن ثابت لاحتجاج ابن عبّاس بقوله تعالى (يا بني آدم) ونحوها ممّا ذكر عنه حجّة , لأنّ ذلك ذكر في مقام النّسبة والتّعريف فعبّر بالبنوّة , ولو عبّر بالولادة لكان فيه متعلق، ولكن بين التّعبير بالولد والابن فرقٌ، ولذلك قال تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) ولَم يقل في أبنائكم، ولفظ الولد يقع على الذّكر والأنثى والواحد والجمع بخلاف الابن. وأيضاً فلفظ الولد يليق بالميراث بخلاف الابن تقول ابن فلان من الرّضاعة ولا تقول ولده، وكذا كان من يتبنّى ولد غيره قال له ابني وتبنّاه ولا يقول: ولدي ولا ولده , ومن ثَمَّ قال في آية التّحريم (وحلائل أبنائكم) إذ لو قال وحلائل أولادكم لَم يحتج إلى أن يقول من أصلابكم , لأنّ الولد لا يكون إلَّا من صلبٍ أو بطنٍ. وقد أخذ بقول زيدٍ جمهور العلماء: وتمسّكوا بحديث " أفرضكم زيدٌ " وهو حديثٌ حسنٌ أخرجه أحمد وأصحاب السّنن وصحَّحه التّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من رواية أبي قلابة عن أنس.

وأعله بالإرسال، ورجّحه الدّارقطنيّ والخطيب وغيرهما، وله متابعاتٌ وشواهد ذكرتها في تخريج أحاديث الرّافعيّ. وأخرج الدّارميّ بسندٍ صحيحٍ عن الشّعبيّ قال: أوّل جدّ ورث في الإسلام عمر فأخذ ماله، فأتاه عليّ وزيد - يعني ابن ثابت - فقالا: ليس لك ذلك إنّما أنت كأحد الأخوين ". وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الرّحمن بن غنمٍ مثله دون قوله " فأتاه إلخ " لكن قال " فأراد عمر أن يحتاز المال فقلت له: يا أمير المؤمنين إنّهم شجرة دونك، يعني بني أبيه ". وأخرج الدّارقطنيّ بسندٍ قويٍّ عن زيد بن ثابت , أنّ عمر أتاه فذكر قصّة فيها , أنّ مثل الجدّ كمثل شجرة نبتت على ساقٍ واحدٍ فخرج منها غصن ثمّ خرج من الغصن غصن فإن قطعت الغصن رجع الماء إلى السّاق , وإن قطعت الثّاني رجع الماء إلى الأوّل، فخطب عمر النّاس فقال: إنّ زيداً قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته. قال ابن بطّال: وقد احتجّ بحديث ابن عباس: من شرك بين الجدّ والأخ فإنّه أقرب إلى الميّت بدليل أنّه ينفرد بالولاء، ولأنّه يقوم مقام الولد في حجب الأمّ من الثّلث إلى السّدس، ولأنّ الجدّ إنّما يدلي بالميّت وهو ولد ابنه والأخ يدلي بالميّت وهو ولد أبيه والابن أقوى من الأب؛ لأنّ الابن ينفرد بالمال ويردّ الأب إلى السّدس ولا كذلك الأب فتعصيب الأخ تعصيب بنوّةٍ وتعصيب الجدّ تعصيب أبوّة، والبنوّة أقوى من الأبوّة في الإرث، ولأنّ الأخت فرضها النّصف إذا

انفردت فلم يسقطها الجدّ كالبنت، ولأنّ الأخ يعصّب أخته بخلاف الجدّ فامتنع من قوّة تعصيبه عليه أن يسقط به. وقال السّهيليّ: الجدّ أصل , ولكنّ الأخ في الميراث أقوى سبباً منه؛ لأنّه يدلي بولاية الأب فالولادة أقوى الأسباب في الميراث، فإن قال الجدّ وأنا أيضاً ولدت الميّت. قيل له إنّما ولدت والده، وأبوه ولد الإخوة فصار سببهم قويّاً وولد الولد ليس ولداً إلَّا بواسطةٍ وإن شاركه في مطلق الولديّة. المسألة الثالثة: على أنَّ الأخ من الأم إذا كان ابن عم يرث بالفرض والتعصيب. فروى سعيد بن منصور من طريق حكيم بن غفّال قال: أتي شُريح في امرأةٍ تركت ابني عمّها أحدهما زوجها، والآخر أخوها لأمّها (¬1) فجعل للزّوج النّصف والباقي للأخ من الأمّ، فأتوا عليّاً فذكروا له ذلك فأرسل إلى شُريح فقال: ما قضيت أبكتاب الله أو بسنّةٍ من رسول الله؟ فقال: بكتاب الله قال: أين؟ قال: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله) قال: فهل قال للزّوج النّصف وللأخ ما بقي؟ ثمّ أعطى الزّوج النّصف وللأخ من الأمّ السّدس ثمّ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح " (12/ 34): صورتها أنّ رجلاً تزوج امرأة فأتت منه بابن , ثم تزوج أخرى فأتت منه بآخر , ثم فارق الثانية. فتزوجها أخوه فأتت منه ببنت فهي أخت الثاني لأمه وابنة عمه، فتزوجت هذه البنت الابن الأول وهو ابن عمها , ثم ماتت عن ابني عمها.

قسم ما بقي بينهما. وأخرج يزيد بن هارون والدّارميّ من طريق الحارث قال: أُتي عليٌّ في ابني عمٍّ أحدهما أخٌ لأمٍّ فقيل له: إنّ عبد الله كان يعطي الأخ للأمّ المال كله، فقال: يرحمه الله إن كان لفقيهاً، ولو كنت أنا لأعطيت الأخ من الأمّ السّدس , ثمّ قسمت ما بقي بينهما. قال ابن بطّال: وافق عليّاً زيد بن ثابتٍ والجمهور. وقال عمر وابن مسعود: جميع المال - يعني الذي يبقى بعد نصيب الزّوج - للذي جمع القرابتين فله السّدس بالفرض، والثّلث الباقي بالتّعصيب، وهو قول الحسن وأبي ثور وأهل الظّاهر. واحتجّوا بالإجماع في أخوين أحدهما شقيق والآخر لأبٍ أنّ الشّقيق يستوعب المال لكونه أقرب بأمٍّ. وحجّة الجمهور: ما أشار إليه البخاريّ في حديث أبي هريرة الذي أورده في الباب بلفظ " فمن مات وترك مالاً فماله لموالي العصبة " والمراد بموالي العصبة بنو العمّ، فسوّى بينهم ولَم يفضّل أحداً على أحدٍ. وكذا قال أهل التّفسير في قوله: (وإنّي خفت الموالي من ورائي) أي بني العمّ. فإن احتجّوا بحديث ابن عبّاس " فما تركت الفرائض فلأولى رجلٍ ذكرٍ ". فالجواب: أنّهما من جهة التّعصيب سواء، والتّقدير ألحقوا

الفرائض بأهلها. أي: أعطوا أصحاب الفروض حقّهم فإن بقي شيء فهو للأقرب، فلمّا أخذ الزّوج فرضه والأخ من الأمّ فرضه صار ما بقي موروثاً بالتّعصيب، وهما في ذلك سواء. وقد أجمعوا في ثلاثة إخوة للأمّ أحدهم ابن عمّ أنّ للثّلاثة الثّلث والباقي لابن العمّ.

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون 302 - عن أسامة بن زيدٍ - رضي الله عنه - , قال: قلت: يا رسولَ الله، أتنزل غداً في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيلٌ من رباعٍ، أو دورٍ، ثم قال: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم. (¬1) قوله: (أتنزل غداً في دارك بمكة؟) وللشيخين من طريق محمّد بن أبي حفصة عن الزّهريّ " أين تنزل غداً؟ " فكأنّه استفهمه أوّلاً عن مكان نزوله , ثمّ ظنّ أنّه ينزل في داره فاستفهمه عن ذلك. وظاهر هذه القصّة أنّ ذلك كان حين أراد دخول مكّة. ويزيده وضوحاً رواية زمعة بن صالح (¬2) عن الزّهريّ بلفظ: لَمَّا كان يوم الفتح قبل أن يدخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مكّة. قيل: أين تنزل. أفي بيوتكم؟ الحديث. وروى عليّ بن المدينيّ عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمّد بن عليّ بن حسين. قال: قيل للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكّة: أين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1511 , 2893 , 4032) ومسلم (1351) من طرق عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة - رضي الله عنه -. (¬2) رواية زمعة لَم أر الشارح عزاها, وقد أخرجها الدارقطني في " السنن " (3028) من طريق مهران بن أبي عمر عن زمعة به. وأخرج مسلم في " صحيحه " (1351) طريق زمعةَ مقروناً بمحمد بن أبي حفصة كلاهما عن الزهري به بلفظ " أين تنزل غداً إن شاء الله؟ وذلك زمن الفتح، قال: وهل ترك. الحديث.

تنزل؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من طلّ. قوله: (وهل ترك لنا عقيل؟) في رواية يونس عن الزهري عند البخاري " هل ترك عقيل؟ " قوله: (من رباع أو دور) الرّباع جمع ربع - بفتح الرّاء وسكون الموحّدة - وهو المنزل المشتمل على أبيات. وقيل: هو الدّار. فعلى هذا فقوله " أو دور " إمّا للتّأكيد أو من شكّ الرّاوي. وفي رواية محمّد بن أبي حفصة " من منزل " وأخرج هذا الحديث الفاكهيّ من طريق محمّد بن أبي حفصة. وقال في آخره: ويقال إنّ الدّار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثمّ صارت لعبد المطّلب ابنه فقسمها بين ولده حين عُمّر، فمِن ثَمّ صار للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حقّ أبيه عبد الله وفيها ولد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية يونس " وكان عقيلٌ ورث أبا طالبٍ هو وطالبٌ، ولَم يرثه جعفرٌ ولا عليٌّ رضي الله عنهما شيئاً , لأنّهما كانا مسلمين، وكان عقيلٌ وطالبٌ كافرين. محصّل هذا. أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا هاجر استولى عقيل وطالب على الدّار كلّها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لَم يسلما، وباعتبار ترك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لحقّه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدرٍ فباع عقيل الدّار كلّها. وحكى الفاكهيّ: أنّ الدّار لَم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمّد بن يوسف أخي الحجّاج بمائة ألف دينار , وزاد في روايته من طريق محمّد بن أبي حفصة " فكان عليّ بن الحسين يقول من أجل ذلك:

تركنا نصيبنا من الشّعب " أي حصّة جدّهم عليّ من أبيه أبي طالب. وقال الدّاوديّ وغيره: كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره، وأمضى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تصرّفات الجاهليّة تأليفاً لقلوب من أسلم منهم. وقال الخطّابيّ: وعندي أنّ تلك الدّار إن كانت قائمة على ملك عقيل فإنّما لَم ينزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأنّها دور هجروها في الله تعالى. فلم يرجعوا فيما تركوه. وتعقّب: بأنّ سياق الحديث يقتضي أنّ عقيلاً باعها، ومفهومه أنّه لو تركها لنزلها. والأظهر أنّ الذي يختصّ بالتّرك إنّما هو إقامة المهاجر في البلد التي هاجر منها. لا مجرّد نزوله في دار يملكها إذا أقام المدّة المأذون له فيها وهي أيّام. ويمكن أن يقال: لَمَّا أقرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عقيلاً على تصرّفه فيما كان لأخويه عليّ وجعفر وللنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الدّور والرّباع بالبيع وغيره , ولَم يغيّر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك , ولا انتزعها ممّن هي في يده لَمَّا ظفر ,كان في ذلك دلالة على تقرير من بيده دار أو أرض إذا أسلم وهي في يده بطريق الأولى. وقال القرطبيّ: يحتمل أن يكون مراد البخاريّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منّ على أهل مكّة بأموالهم ودورهم من قبل أن يسلموا، فتقرير من أسلم يكون بطريق الأولى.

تكميل: قال البخاري " باب إذا أسلم قوم في دار الحرب. ولهم مال وأرضون فهي لهم " انتهى أشار بذلك إلى الرّدّ على مَن قال من الحنفيّة: إنّ الحربيّ إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتّى غلب المسلمون عليها فهو أحقّ بجميع ماله إلَّا أرضه وعقاره فإنّها تكون فيئاً للمسلمين. وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور. ويوافق التّرجمة حديثٌ أخرجه أحمد عن صخر بن العيلة البجليّ , قال: فرّ قوم من بني سُليم عن أرضهم فأخذتها، فأسلموا , وخاصموني إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فردّها عليهم قال: إذا أسلم الرّجل فهو أحقّ بأرضه وماله. مسألة: أخرج ابن ماجه من حديث علقمة بن نضلة قال: توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، وما تُدعى رباع مكّة إلَّا السّوائب، من احتاج سكن. وفي إسناده انقطاع وإرسال. وقال بظاهره ابن عمر ومجاهد وعطاء، قال عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، فأخبرني أنّ عمر نهى أن تبوّب دور مكّة , لأنّها ينزل الحاجّ في عرصاتها، فكان أوّل من بوّب داره سهيل بن عمرو , واعتذر عن ذلك لعمر. وروى الطّحاويّ من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد , أنّه قال: مكّة مباح، لا يحلّ بيع رباعها ولا إجارة بيوتها. وروى عبد الرّزّاق من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن

عمر: لا يحلّ بيع بيوت مكّة ولا إجارتها. وبه قال الثّوريّ وأبو حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف، واختلف عن محمّد. وبالجواز قال الجمهور. واختاره الطّحاويّ. ويجاب عن حديث علقمة على تقدير صحّته , بحمله على ما سيجمع به ما اختلف عن عمر في ذلك. واحتجّ الشّافعيّ بحديث أسامة في هذا الباب. قال الشّافعيّ: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه , وبقوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ". فأضاف الدّار إليه. واحتجّ ابن خزيمة بقوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) فنسب الله الدّيار إليهم كما نسب الأموال إليهم، ولو كانت الدّيار ليست بملكٍ لهم لَمَّا كانوا مظلومين في الإخراج من دور ليست بملكٍ لهم، قال: ولو كانت الدّور التي باعها عقيل لا تملك لكان جعفر وعليّ أولى بها إذ كانا مسلمين دونه. وروى عبد الرزاق والبيهقي , أنَّ عمر أنّه اشترى داراً للسّجن بمكّة. ولا يعارض ما جاء عن نافع عن ابن عمر عن عمر , أنّه كان ينهى أن تُغلق دور مكّة في زمن الحاجّ. أخرجه عبد بن حميدٍ. وقال عبد الرّزّاق عن معمر عن منصور عن مجاهد إنّ عمر قال: يا أهل مكّة لا تتّخذوا لدوركم أبواباً، لينزل البادي حيث شاء، وقد جاء من وجه آخر عن عمر.

فيجمع بينهما: بكراهة الكراء رفقاً بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشّراء، وإلى هذا جنح الإمام أحمد وآخرون. واختلف عن مالك في ذلك. قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدلّ على أنّ المراد به المسجد الذي يكون فيه النّسك والصّلاة لا سائر دور مكّة. وقال الأبهريّ: لَم يختلف قول مالك وأصحابه في أنّ مكّة فتحت عنوة، واختلفوا هل منّ بها على أهلها لعظم حرمتها أو أقرّت للمسلمين؟ ومن ثَمَّ جاء الاختلاف في بيع دورها والكراء. والرّاجح عند مَن قال: إنّها فتحت عنوة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منّ بها على أهلها فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك. ذكره السّهيليّ وغيره. وليس الاختلاف في ذلك ناشئاً عن هذه المسألة. فقد اختلف أهل التّأويل في المراد بقوله هنا " المسجد الحرام ". هل هو الحرم كلّه أو مكان الصّلاة فقط؟. واختلفوا أيضاً هل المراد بقوله " سواء " في الأمن والاحترام , أو فيما هو أعمّ من ذلك؟. وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضاً. قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى (سواء العاكف فيه والباد) جميع الحرم , وأنّ اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم. لَمَا جاز حفر بئر , ولا قبر , ولا التّغوّط , ولا البول , ولا إلقاء الجيف والنّتن.

قال: ولا نعلم عالماً منع من ذلك , ولا كره لحائضٍ ولا لجنبٍ دخول الحرم ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكّة وحوانيتها , ولا يقول بذلك أحد. والله أعلم. قلت: والقول بأنّ المراد بالمسجد الحرام الحرم كلّه ورد عن ابن عبّاس وعطاء ومجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلّها إليهم ضعيفة. قوله: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) في رواية محمد بن أبي حفصة عند البخاري بلفظ " المؤمن " في الموضعين. وأخرجه النّسائيّ من رواية هشيم عن الزّهريّ بلفظ " لا يتوارث أهل ملتين " وجاءت رواية شاذّة عن ابن عيينة عن الزّهريّ مثلها. وله شاهد عند التّرمذيّ من حديث جابر , وآخر من حديث عائشة عند أبي يعلى , وثالث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه في السّنن الأربعة. وسند أبي داود فيه إلى عمرو صحيحٌ قال ابن المنذر: ذهب الجمهور إلى الأخذ بما دلَّ عليه عموم حديث أسامة يعني المذكور في هذا الباب إلَّا ما جاء عن معاذ , قال: يرث المسلم من الكافر من غير عكس. واحتجّ: بأنّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الإسلام يزيد ولا ينقص. وهو حديث أخرجه أبو داود وصحَّحه الحاكم من طريق يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدّؤليّ عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد.

وتعقّب: بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ , ولكنّ سماعه منه ممكنٌ، وقد زعم الجوزقانيّ: أنّه باطل. وهي مجازفة. وقال القرطبيّ في " المفهم ": هو كلام محكيٌّ ولا يروى. كذا قال، وقد رواه من قدّمت ذكره , فكأنّه ما وقف على ذلك. وأخرج أحمد بن منيع بسندٍ قويٍّ عن معاذ , أنّه كان يورّث المسلم من الكافر بغير عكس. وأخرج مسدّد عنه , أنّ أخوين اختصما إليه: مسلم ويهوديّ مات أبوهما يهوديّاً فحاز ابنه اليهوديّ ماله , فنازعه المسلم. فورّث معاذٌ المسلمَ. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل , قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاءٍ قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحلّ النّكاح فيهم ولا يحلّ لهم " وبه قال مسروق وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النّخعيّ وإسحاق. وحجّة الجمهور: أنّه قياس في معارضة النّصّ , وهو صريح في المراد , ولا قياس مع وجوده. وأمّا الحديث فليس نصّاً في المراد , بل هو محمول على أنّه يفضل غيره من الأديان ولا تعلق له بالإرث. وقد عارضه قياسٌ آخر , وهو أنّ التّوارث يتعلق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى (لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض) وبأنّ الذّمّيّ يتزوّج الحربيّة ولا يرثها،

وأيضاً فإنّ الدّليل ينقلب فيما لو قال الذّمّيّ: أرِثُ المسلمَ لأنّه يتزوّج إلينا. وفيه قول ثالث: وهو الاعتبار بقسمة الميراث. جاء ذلك عن عمر وعثمان وعن عكرمة والحسن وجابر بن زيد. وهو رواية عن أحمد. قلت: ثبت عن عمر خلافه كما روى البخاري , فإنّ فيه بعد ذِكْر حديث الباب مطوّلاً في ذكر عقيل بن أبي طالب , فكان عمر يقول: فذكر المتن المذكور هنا سواء. وتمسّك بها (¬1) مَن قال: لا يرث أهل ملة كافرة من أهل ملة أخرى كافرة، وحملها الجمهور على أنّ المراد بإحدى الملتين الإسلام وبالأخرى الكفر , فيكون مساوياً للرّواية التي بلفظ حديث الباب، وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها حتّى يمتنع على اليهوديّ مثلاً أن يرث من النّصرانيّ. والأصحّ عند الشّافعيّة , أنّ الكافر يرث الكافر. وهو قول الحنفيّة والأكثر. ومقابله عن مالكٍ وأحمد، وعنه , التّفرقة بين الذّمّيّ والحربيّ. وكذا عند الشّافعيّة. ¬

_ (¬1) أي: برواية ابن عيينة , وحديث عمرو بن شعيب المتقدّمة في الشرح " لايتوارث أهل ملتين شتى ".

وعن أبي حنيفة: لا يتوارث حربيّ من ذمّيّ فإن كانا حربيّين شرط أن يكونا من دار واحدة. وعند الشّافعيّة لا فرق، وعندهم وجه كالحنفيّة. وعن الثّوريّ وربيعة وطائفة: الكفر ثلاث ملل يهوديّة ونصرانيّة وغيرهم فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين. وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة: كلّ فريق من الكفّار ملة. فلم يورّثوا مجوسيّاً من وثنيٍّ ولا يهوديّاً من نصرانيّ. وهو قول الأوزاعيّ، وبالغ فقال: ولا يرث أهل نحلةٍ من دينٍ واحدٍ أهل نحلةٍ أخرى منه كاليعقوبيّة والملكيّة من النّصارى. واختلف في المرتدّ. القول الأول: قال الشّافعيّ وأحمد: يصير ماله إذا مات فيئاً للمسلمين. القول الثاني: قال مالك: يكون فيئاً إلَّا إن قصد بردّته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم، وكذا قال في الزّنديق. القول الثالث: عن أبي يوسف ومحمّد لورثته المسلمين. القول الرابع: عن أبي حنيفة ما كَسَبَه قبل الرّدّة لورثته المسلمين , وبعد الرّدّة لبيت المال. القول الخامس: عن بعض التّابعين كعلقمة يستحقّه أهل الدّين الذي انتقل إليه. القول السادس: عن داود يختصّ بورثته من أهل الدّين الذي انتقل

إليه , ولَم يفصّل. فالحاصل من ذلك ستّة مذاهب حرّرها الماورديّ. واحتجّ القرطبيّ في " المفهم " لمذهبه بقوله تعالى (لكلٍّ جعلنا شرعة ومنهاجاً) فهي ملل متعدّدة وشرائع مختلفة. قال: وأمّا ما احتجّوا به في قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتّى تتّبع ملتهم) فوحّد الملة , فلا حجّة فيه , لأنّ الوحدة في اللفظ وفي المعنى الكثرة , لأنّه أضافه إلى مفيد الكثرة كقول القائل: أخذ عن علماء الدّين علمهم , يريد: علم كلٍّ منهم. قال: واحتجّوا بقوله (قل يا أيّها الكافرون) إلى آخرها. والجواب: أنّ الخطاب بذلك وقع لكفّار قريش وهم أهل وثنٍ. وأمّا ما أجابوا به عن حديث " لا يتوارث أهل ملتين ": بأنّ المراد ملة الكفر وملة الإسلام. فالجواب عنه: بأنّه إذا صحّ في حديث أسامة فمردود في حديث غيره. واستدل بقوله " لا يرث الكافر المسلم " على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد , لأنّ قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) عامّ في الأولاد , فخصّ منه الولد الكافر فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور. وأجيب: بأنّ المنع حصل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على وفقه كان التّخصيص بالإجماع لا بالخبر فقط.

قلت: لكن يحتاج من احتجّ في الشّقّ الثّاني به إلى جواب. وقد قال بعض الحذّاق: طريق العامّ هنا قطعيّ ودلالته على كلّ فردٍ ظنّيّةٌ , وطريق الخاصّ هنا ظنّيّةٌ , ودلالته عليه قطعيّةٌ فيتعادلان، ثمّ يترجّح الخاصّ بأنّ العمل به يستلزم الجمع بين الدّليلين المذكورين بخلاف عكسه.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون 303 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء وهبته. (¬1) قوله: (عن ابن عمر) اشتهر هذا الحديث عن عبد الله بن دينار حتّى قال مسلم لَمَّا أخرجه في " صحيحه ": النّاس في هذا الحديث عيالٌ عليه. وقال التّرمذيّ بعد تخريجه: حسنٌ صحيحٌ لا نعرفه إلَّا من حديث عبد الله بن دينار. رواه عنه سعيدٌ وسفيان ومالكٌ، ويروى عن شعبة أنّه قال: وددت أنّ عبد الله بن دينار لَمَّا حدّث بهذا الحديث أذن لي حتّى كنت أقوم إليه فأقبّل رأسه. قال التّرمذيّ: وروى يحيى بن سليمٍ عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار. قلت: وصل روايةَ يحيى بن سليم ابنُ ماجه، ولَم ينفرد به يحيى بن سليمٍ فقد تابعه أبو ضمرة أنس بن عياض ويحيى بن سعيد الأمويّ كلاهما عن عبيد الله بن عمر , أخرجه أبو عوانة في " صحيحه " من طريقهما , لكن قرن كلٌ منهما نافعاً بعبد الله بن دينار. وأخرجه ابن حبّان في الثّقات في ترجمة أحمد بن أبي أوفى. وساقه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2398 , 6375) ومسلم (1506) من طرق عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

من طريقه عن شعبة عن عبد الله بن دينار وعمرو بن دينار جميعاً عن ابن عمر. وقال: عمرو بن دينار غريب. وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهانيّ بجمع طرقه عن عبد الله بن دينار. فأورده عن خمسة وثلاثين نفساً ممّن حدّث به عن عبد الله بن دينار , منهم من الأكابر: يحيى بن سعيد الأنصاريّ وموسى بن عقبة ويزيد بن الهاد وعبيد الله العمريّ وهؤلاء من صغار التّابعين. وممّن دونهم مسعر والحسن بن صالح بن حيّ وورقاء وأيّوب بن موسى وعبد الرّحمن بن عبد الله بن دينار. وعبد العزيز بن مسلم وأبو أويس، وممّن لَم يقع له ابن جريجٍ وهو عند أبي عوانة وسليمان بن بلال، وهو عند مسلم وأحمد بن حازم المغافريّ في " جزء الهرويّ " من طريق الطّبرانيّ. وفي رواية الإسماعيليّ من طريق أحمد بن سنان عن عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن شعبة وسفيان عن ابن دينار , سمعت ابن عمر. وفي رواية أبي داود الحفريّ عن سفيان عند الإسماعيليّ , سمعت ابن عمر. وكذا في البخاري من رواية شعبة. وفي مسند الطّيالسيّ عن شعبة. قلت لعبد الله بن دينار: أنت سمعت هذا من ابن عمر؟ قال: نعم، سأله ابنه عنه، وذكره أبو عوانة عن بهز بن أسد عن شعبة , قلت لابن دينار: أنت سمعته من ابن عمر؟ قال: نعم , وسأله ابنه حمزة عنه، وكذا وقع في رواية عفّان

عن شعبة عند أبي نعيم. وأخرجه من وجه آخر أنّ شعبة قال: قلت لابن دينار: والله لقد سمعتَ ابن عمر يقول هذا؟ فيحلف له. وقيل لابن عيينة: إنّ شعبة يستحلف عبد الله بن دينار، قال: لكنّا لَم نستحلفه , سمعته منه مراراً روّيناه في مسند الحميديّ عن سفيان، وأخرجه الدّارقطنيّ في " غرائب مالك " من طريق الحسن بن زيادٍ اللؤلؤي عن مالك عن ابن دينار عن حمزة بن عبد الله بن عمر , أنّه سأل أباه عن شراء الولاء. فذكر الحديث. فهذا ظاهره أنّ ابن دينار لَم يسمعه من ابن عمر. وليس كذلك. وقال ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ ": تفرّد بهذا الحديث عبد الله بن دينار وهو من الدّرجة الثّانية من الخبر , لأنّه لَم يذكر لفظ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وكأنّه نقل معنى قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " إنّما الولاء لمن أعتق ". قلت: ويؤيّده أنّ ابن عمر روى هذا الحديث عن عائشة في قصّة بريرة كما مضى (¬1) لكن جاءت عنه صيغة الحديث من وجه آخر , أخرجه النّسائيّ وأبو عوانة من طريق الليث عن يحيى بن أيّوب عن مالك. ولفظه " سمعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الولاء وعن هبته ". ووقع في رواية محمّد بن أبي سليمان التي أشرت إليها بلفظ " الولاء لا يباع ولا يوهب " , وفي رواية عتبان بن عبيد عن شعبة مثله ذكره ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة المتقدّم في (باب الشروط في البيع) من العمدة. رقم (275).

أبو نعيم، وزاد محمّد بن سليمان الخرّاز في السّند عن ابن عمر: عن عمر. فوهِم أخرجه الدّارقطنيّ أيضاً. وضعّفه. واتّفق جميع مَن ذكرنا على هذا اللفظ. وخالفهم أبو يوسف القاضي. فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بلفظ " الولاء لحمةٌ كلحمة النّسب " أخرجه الشّافعيّ , ومن طريقه الحاكم ثمّ البيهقيّ، وأدخل بشر بن الوليد بين أبي يوسف وبين ابن دينار عبيدَ الله بنَ عمر , أخرجه أبو يعلى في " مسنده " عنه، وأخرجه ابن حبّان في " صحيحه " عن أبي يعلى. وأخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن جعفر بن أعين عن بشر. فزاد في المتن " لا يباع ولا يوهب " ومن طريق عبد الله بن نافع عن عبد الله بن دينار " إنّما الولاء نسبٌ لا يصحّ بيعه ولا هبته ". والمحفوظ في هذا. ما أخرجه عبد الرّزّاق عن الثّوريّ عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيّب موقوفاً عليه " الولاء لحمةٌ كلحمة النّسب ". وكذا ما أخرجه البزّار والطّبرانيّ من طريق سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس عن أبيه عن جدّه رفعه " الولاء ليس بمنتقلٍ ولا متحوّلٍ " وفي سنده المغيرة بن جميل. وهو مجهول. نعم. عن ابن عبّاس من قوله (¬1): الولاء لمن أعتق. لا يجوز بيعه , ¬

_ (¬1) مقصوده أنه جاء موقوفاً عن ابن عبَّاس , وهو كذلك. فقد أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (16145) عن الثوري عن عبد الملك بن سليمان عن عطاء عن ابن عبَّاس به. وسند صحيح.

ولا هبته. قوله: (نهى عن بيع الولاء وهبته) الولاء بالفتح والمدّ: حقّ ميراث المعتق من المعتَق بالفتح. وفيه حديث عائشة في قصّة بريرة " فإنّما الولاء لمن أعتق " ووجه الدّلالة منه حصره في المعتق فلا يكون لغيره معه منه شيء. قال الخطّابيّ: لَمَّا كان الولاء كالنّسب كان من أعتق ثبت له الولاء كمن ولد له ولد ثبت له نسبه؛ فلو نسب إلى غيره لَم ينتقل نسبه عن والده، وكذا إذا أراد نقل ولائه عن محله لَم ينتقل. وقال ابن بطّال: أجمع العلماء على أنّه لا يجوز تحويل النّسب فإذا كان حكم الولاء حكم النّسب فكما لا ينتقل النّسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في الجاهليّة ينقلون الولاء بالبيع وغيره. فنهى الشّرع عن ذلك. وقال ابن عبد البرّ: اتّفق الجماعة على العمل بهذا الحديث , إلَّا ما روي عن ميمونة , أنّها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عبّاس. وروى عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عطاء: يجوز للسّيّد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء. واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من تولَّى قوماً بغير إذن مواليه. فعليه لعنة الله

والملائكة لا يقبل منه عدلٌ ولا صرفٌ (¬1). لكن لَم يجعل الإذن شرطاً لجواز الادّعاء، وإنّما هو لتأكيد التّحريم، لأنّه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ذلك، قاله الخطّابيّ وغيره. ويحتمل: أن يكون كنّى بذلك عن بيعه، فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثّاني وهو غير مولاه الأوّل. أو المراد: موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلَّا بإذنٍ. وقال البيضاويّ: الظّاهر أنّه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله " من ادّعى إلى غير أبيه " والجمع بينهما بالوعيد، فإنّ العتق من حيث إنّه لحمة كلحمة النّسب، فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدّعيّ الذي تبرّأ عمّن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحقّ به الدّعاء عليه بالطّرد والإبعاد عن الرّحمة. ثمّ أجاب عن الإذن بنحو ما تقدّم , وقال: ليس هو للتّقييد، وإنّما هو للتّنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حقّ مواليه. فأورد الكلام على ما هو الغالب. ويحتمل: أن يكون قول " من تولى " شاملاً للمعنى الأعمّ من الموالاة، وأنّ منها مطلق النّصرة والإعانة والإرث، ويكون قوله " بغير إذن مواليه " يتعلق بمفهومه بما عدا الميراث، ودليل إخراجه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (3700) من حديث علي - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (3864) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -

حديث " إنّما الولاء لمن أعتق " والله أعلم. وكأنّ البخاريّ لحَظَ هذا , فعقّب الحديث بحديث ابن عمر في النّهي عن بيع الولاء وعن هبته، فإنّه يؤخذ منه عدم اعتبار الإذن في ذلك بطريق الأولى، لأنّه إذا منع السّيّد من بيع الولاء مع ما تحصّل له من العوض ومن هبته مع ما يحصل له من المانّة بذلك. فمنعه من الإذن بغير عوضٍ ولا مانّة أولى، وهو مندرجٌ في الهبة. قال ابن بطّالٍ: وجماعة الفقهاء على خلاف ما قال عطاء. قال: ويحمل حديث عليّ على أنّه جرى على الغالب مثل قوله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ) , وقد أجمعوا على أنّ قتل الولد حرامٌ. سواء خشي الإملاق أم لا، وهو منسوخٌ بحديث النّهي عن بيع الولاء وعن هبته. وقال ابن بطّال وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء , وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء. وكذا عن ابن عبّاس , ولعلهم لَم يبلغهم الحديث. قلت: قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان , فأخرج عبد الرّزّاق عنه , أنّه كان يقول: أيبيع أحدكم نسبه؟ , ومن طريق عليّ: الولاء شعبةٌ من النّسب، ومن طريق جابر , أنّه أنكر بيع الولاء وهبته، ومن طريق عطاء , أنّ ابن عمر كان ينكره. ومن طريق عطاء عن ابن عبّاس: لا يجوز. وسنده صحيح , ومن ثَمَّ فصّلوا في النّقل عن ابن عبّاس بين البيع والهبة.

وقال ابن العربيّ: معنى " الولاء لحمة كلحمة النّسب " أنّ الله أخرجه بالحرمة إلى النّسب حكماً كما أنّ الأب أخرجه بالنّطفة إلى الوجود حسّاً , لأنّ العبد كان كالمعدوم في حقّ الأحكام لا يقضي ولا يلي ولا يشهد، فأخرجه سيّده بالحرّيّة إلى وجود هذه الأحكام من عدمها، فلمّا شابه حكم النّسب أنيط بالمعتق فلذلك جاء " إنّما الولاء لمن أعتق " وألحق برتبة النّسب فنهي عن بيعه وهبته. وقال القرطبيّ: استدل للجمهور بحديث الباب، ووجه الدّلالة أنّه أمرٌ وجوديٌّ لا يتأتّى الانفكاك عنه كالنّسب، فكما لا تنتقل الأبوّة والجدودة فكذلك لا ينتقل الولاء، إلَّا أنّه يصحّ في الولاء جرماً يترتّب عليه من الميراث كما لو تزوّج عبدٌ معتقة آخر فولد له منها ولد , فإنّه ينعقد حرّاً لحرّيّة أمّه فيكون ولاؤه لمواليها لو مات في تلك الحالة، ولو أعتق السّيّد أباه قبل موت الولد فإنّ ولاءه ينتقل إذا مات لمعتق أبيه اتّفاقاً. انتهى. وهذا لا يقدح في الأصل المذكور أنّ " الولاء لحمةٌ كلحمة النّسب " , لأنّ التّشبيه لا يستلزم التّسوية من كل وجهٍ. واختلف فيمن اشترى نفسه من سيّده كالمكاتب. فالجمهور: على أنّ ولاءه لسيّده , وقيل: لا ولاء عليه. وفي ولاء من أعتق سائبة.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون 304 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان في بريرة ثلاث سنن، خيّرت على زوجها حين عتقت، وأهدي لها لحمٌ، فدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبُرمة على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز وأدمٍ من أدم البيت، فقال: ألَمْ أر البُرمة على النار فيها لحمٌ؟ فقالوا: بلى يا رسولَ الله، ذلك لحمٌ تصدّق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: هو عليها صدقةٌ، وهو لنا منها هديّةٌ، وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها: إنما الولاء لمن أعتق. (¬1) قوله: (كان في بريرة) تقدّم ذكرها وضبط اسمها (¬2). وقيل: إنّها نبطيّة بفتح النّون والموحّدة: وقيل: إنّها قِبطة بكسر القاف وسكون الموحّدة. وقيل: إنّ اسم أبيها صفوان , وأنّ له صحبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4809 , 4975) ومسلم (1504 , 1075) من طريق مالك عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري (5114) من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عن القاسم مرسلاً. وسيأتي التنبيه عليه في الشرح إن شاء الله. وأخرجه البخاري (2439) ومسلم (1504 , 1075) من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه نحوه. وأخرجه البخاري (1422 , 4980 , 6339 , 6370 , 6373 , 6377 , 6379) ومسلم (1075) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة نحوه. (¬2) في حديث عائشة بنت الصديق في (باب الشروط في البيع) في العمدة برقم (275).

واختلف في مواليها. ففي رواية أسامة بن زيد عن عبد الرّحمن بن القاسم (¬1) عن القاسم عن عائشة , أنّ بريرة كانت لناسٍ من الأنصار. وكذا عند النّسائيّ من رواية سماك (¬2) عن عبد الرّحمن. ووقع في بعض الشّروح لآل أبي لهب , وهو وهمٌ من قائله. انتقل وهمه من أيمن (¬3) أحد رواة قصّة بريرة عن عائشة إلى بريرة. وقيل: لآل بني هلال. أخرجه التّرمذيّ من رواية جرير عن هشام بن عروة. قوله: (ثلاث سنن) في رواية هشام بن عروة عن عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عند مسلم " ثلاث قضيّات ". وفي حديث ابن عبّاس عند أحمد وأبي داود " قضى فيها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أربع قضيّات " فذكر نحو حديث عائشة. وزاد " وأمرَهَا أن تعتدّ عدّة الحرّة " أخرجه الدّارقطنيّ. وهذه الزّيادة لَم تقع في حديث عائشة. فلذلك اقتصرت على ثلاث، لكن أخرج ابن ماجه من طريق الثّوريّ عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: أُمرت بريرة أن تعتدّ بثلاث حيض. ¬

_ (¬1) كذا قال الشارح. والصواب أنَّه عن أسامة عن القاسم مباشرة كما قال الشارح نفسه كما تقدّم قريباً في التخريج. كذا وقع عند مَن أخرجه كأحمد (25468) وابن ماجه (2076) وأبي يعلى (4436) والبيهقي (7/ 539). (¬2) رواية سماك. أخرجها مسلم أيضاً (1504). (¬3) رواية أيمن عن عائشة. أخرجها البخاري في " صحيحه " (2565 - 2726). وقد تقدّم ذكر روايات أيمن في شرح حديث عائشة برقم (275).

وهذا مثل حديث ابن عبّاس في قوله " تعتدّ عدّة الحرّة ". ويخالف ما وقع في رواية أخرى عن ابن عبّاس " تعتدّ بحيضةٍ " , ومَن قال الخلع فسخ , قال: تعتدّ بحيضةٍ، وهنا ليس اختيار العتيقة نفسها طلاقاً فكان القياس أن تعتدّ بحيضةً، لكنّ الحديث الذي أخرجه ابن ماجه على شرط الشّيخين , بل هو في أعلى درجات الصّحّة. وقد أخرج أبو يعلى والبيهقيّ من طريق أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جعل عدّة بريرة عدّة المطلقة. وهو شاهدٌ قويٌّ، لأنّ أبا معشر - وإن كان فيه ضعف - لكن يصلح في المتابعات. وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرين , أنّ الأمة إذا أعتقت تحت العبد فطلاقها طلاق عبد , وعدّتها عدّة حرّة. وقد صنّف العلماء في قصّة بريرة تصانيف، وبعضهم أوصلها إلى أربعمائة فائدة، ولا يخالف ذلك قول عائشة " ثلاث سنن " , لأنّ مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصوداً خاصّة، لكن لَمَّا كان كلّ حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمّة , وقع التّكثّر من هذه الحيثيّة. وانضمّ إلى ذلك ما وقع في سياق القصّة غير مقصود، فإنّ في ذلك أيضاً فوائد تؤخذ بطريق التّنصيص أو الاستنباط، أو اقتصر على

الثّلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها وما عداها إنّما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنّها أهمّ والحاجة إليها أمسّ. قال القاضي عياض: معنى ثلاث أو أربع أنّها شرعت في قصّتها، وما يظهر فيها ممّا سوى ذلك فكان قد علم من غير قصّتها، وهذا أولى من قول مَن قال: ليس في كلام عائشة حصرٌ، ومفهوم العدد ليس بحجّةٍ وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك. قوله: (خيّرت على زوجها حين عتقت) في رواية ربيعة عن القاسم عند البخاري " أنّها أعتقت فخيّرت " زاد في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عند البخاري " في أن تقرّ تحت زوجها أو تفارقه ". وتقرّ بفتح وتشديد الرّاء. أي: تدوم. قال ابن التّين: يصحّ أن يكون أصله من وقر فتكون الرّاء مخفّفة يعني والقاف مكسورة، يقال وقرت أقرّ إذا جلست مستقرّاً , والمخذوف فاء الفعل. قال: ويصحّ أن تكون القاف مفتوحة - يعني مع تشديد الرّاء - من قولهم قررت بالمكان أقرّ، يقال: بفتح القاف ويجوز بكسرها من قريقر. انتهى ملخّصاً. والثّالث هو المحفوظ في الرّواية. وللبخاري من طريق الأسود عن عائشة: فدعاها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فخيّرها من زوجها فاختارت نفسها. وفي رواية للدّارقطنيّ من طريق

أبان بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لبريرة: اذهبي فقد عتق معك بضعك. زاد ابن سعد من طريق الشّعبيّ مرسلاً " فاختاري " ولمسلم من رواية سماك عن عبد الرحمن بن القاسم " وخيّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان زوجها عبداً " وللبخاري في " الفرائض " عن حفص بن عمر عن شعبة عن الحكم عن النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة. وزاد في آخره " قال الحكم: وكان زوجها حرّاً ". ثمّ أورده بعده من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود , أنّ عائشة فساق نحو سياق الباب. وزاد فيه " وخيّرت فاختارت نفسها , وقالت: لو أعطيت كذا وكذا ما كنت معه، قال الأسود: وكان زوجها حرّاً ". قال البخاريّ: قول الأسود منقطع، وقول ابن عبّاس " رأيته عبداً " (¬1) أصحّ. وقال في الذي قبله في قول الحكم نحو ذلك، ورواه البخاري عن آدم عن شعبة. ولَم يسق لفظه , لكن قال " وزاد: فخيّرت من زوجها ". وقد أورده في الزّكاة عن آدم بهذا الإسناد. فلم يذكر هذه الزّيادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (5280 , 5281 , 5282 , 5283) من طرق عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبداً أسود. يقال له مغيث ... " الحديث. وسيأتي نقل الاتفاق في حديث ابن عباس هذا أنه كان عبداً.

وقد أخرجه البيهقيّ من وجه آخر عن آدم - شيخ البخاريّ فيه - فجعل الزّيادة من قول إبراهيم. ولفظه في آخره " قال الحكم: قال إبراهيم: وكان زوجها حرّاً فخيّرت من زوجها ". فظهر أنّ هذه الزّيادة مدرجة وحَذَفَها في الزّكاة لذلك، وإنّما أوردها في الطلاق مشيراً إلى أنّ أصل التّخيير في قصّة بريرة ثابت من طريق أخرى. وقد قال الدّارقطنيّ في " العلل ": لَم يختلف على عروة عن عائشة أنّه كان عبداً، وكذا قال جعفر بن محمّد بن عليّ عن أبيه عن عائشة، وأبو الأسود وأسامة بن زيد عن القاسم. قلت: وقع لبعض الرّواة فيه غلطٌ، فأخرج قاسم بن أصبغ في " مصنّفه " وابن حزم من طريقه , قال: أنبأنا أحمد بن يزيد المعلم حدّثنا موسى بن معاوية عن جرير عن هشام عن أبيه عن عائشة " كان زوج بريرة حرّاً ". وهذا وهْمٌ من موسى أو من أحمد، فإنّ الحفّاظ من أصحاب هشام , ومن أصحاب جرير قالوا: كان عبداً، منهم إسحاق بن راهويه. وحديثه عن النّسائيّ، وعثمان بن أبي شيبة. وحديثه عند أبي داود، وعليّ بن حجر. وحديثه عند التّرمذيّ، وأصله عند مسلم. وأحال به على رواية أبي أسامة عن هشام. وفيه " أنّه كان عبداً ". قال الدّارقطنيّ: وكذا قال أبو معاوية عن هشّام بن عروة عن عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه.

قلت: ورواه شعبة عن عبد الرّحمن. فقال: كان حرّا، ثمّ رجع عبد الرّحمن فقال: ما أدري، كما عند البخاري. قال الدّارقطنيّ: وقال عمران بن حدير عن عكرمة عن عائشة: كان حرّاً. وهو وهْمٌ. قلت: في شيئين , في قوله " حرّ " وفي قوله " عائشة "، وإنّما هو من رواية عكرمة عن ابن عبّاس، ولَم يختلف على ابن عبّاس في أنّه كان عبداً، وكذا جزم به التّرمذيّ عن ابن عمر , وحديثه عند الشّافعيّ والدّارقطنيّ وغيرهما. وكذا أخرجه النّسائيّ من حديث صفيّة بنت أبي عبيد , قالت: كان زوج بريرة عبداً. وسنده صحيح. وقال النّوويّ: يؤيّد قول مَن قال إنّه " كان عبداً " قول عائشة " كان عبداً، ولو كان حرّاً لَم يخيّرها "، فأخبرت وهي صاحبة القصّة بأنّه كان عبداً، ثمّ علَّلت بقولها " ولو كان حرّاً لَم يخيّرها " ومثل هذا لا يكاد أحدٌ يقوله إلَّا توقيفاً. وتعقّب: بأنّ هذه الزّيادة في رواية جرير عن هشام بن عروة في آخر الحديث، وهي مدرجة من قول عروة (¬1)، بيّن ذلك في رواية مالك وأبي داود والنّسائيّ. نعم. وقع في رواية أسامة بن زيد عن عبد الرّحمن بن القاسم (¬2) ¬

_ (¬1) أخرج هذه الرواية مسلم في " الصحيح " (1504) من طريق جرير به. مدرجة في الخبر. (¬2) تقدّم التنبيه على وهْم الشارح , وأنه عن أسامة عن القاسم. وقد تقدّم نقلُ الشارح عن الدارقطني. أن أسامة رواه عن القاسم. فجلَّ من لا يسهو.

عن أبيه عن عائشة قالت: كانت بريرة مكاتبة لأناسٍ من الأنصار , وكانت تحت عبد .. الحديث. أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقيّ، وأسامة فيه مقال. وأمّا دعوى أنّ ذلك لا يقال إلَّا بتوقيفٍ , فمردودة فإنّ للاجتهاد فيه مجالاً. قال الدّارقطنيّ: وقال إبراهيم عن الأسود عن عائشة: كان حرّاً. قلت: وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية حدّثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرّاً فلمّا عتقت خيّرت. لحديث. أخرجه أحمد عنه. وأخرج ابن أبي شيبة عن إدريس عن الأعمش بهذا السّند عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرّاً. ومن وجه آخر عن النّخعيّ عن الأسود , أنّ عائشة حدّثته , أنّ زوج بريرة كان حرّاً حين أعتقت. فدلَّت الرّوايات المفصّلة التي قدّمتها آنفاً على أنّه مدرج من قول الأسود أو من دونه , فيكون من أمثلة ما أدرج في أوّل الخبر وهو نادر , فإنّ الأكثر أن يكون في آخره ودونه أن يقع في وسطه. وعلى تقدير أن يكون موصولاً فترجّح رواية مَن قال: كان عبداً بالكثرة، وأيضاً فآلُ المرء أعرف بحديثه، فإنّ القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما. فروايتهما أولى من رواية الأسود

فإنّهما أقعد بعائشة , وأعلم بحديثها. والله أعلم. ويترجّح أيضاً: بأنّ عائشة كانت تذهب إلى أنّ الأمة إذا عتقت تحت الحرّ لا خِيَار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيّون عنها , فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعوا ما روي عنها لا سيّما وقد اختلف عنها فيه. وادّعى بعضهم: أنّه يمكن الجمع بين الرّوايتين بحمل قول مَن قال كان عبداً على اعتبار ما كان عليه ثمّ أعتق، فلذلك قال مَن قال: كان حرّاً. ويردّ هذا الجمع ما تقدّم من قول عروة: كان عبداً ولو كان حرّاً لَم تخيّر " وأخرجه التّرمذيّ بلفظ " أنّ زوج بريرة كان عبداً أسود يوم أعتقت ". فهذا يعارض الرّواية المتقدّمة عن الأسود. ويعارض الاحتمال المذكور احتمال أن يكون مَن قال: كان حرّاً. أراد ما آل إليه أمره، وإذا تعارضا إسناداً واحتمالاً احتيج إلى التّرجيح , ورواية الأكثر يرجّح بها , وكذلك الأحفظ وكذلك الألزم، وكلّ ذلك موجود في جانب مَن قال: كان عبداً. وقد اختلف العلماء في الأمة إذا كانت تحت حرّ فعتقت. القول الأول: ذهب الجمهور إلى عدم الخِيَار. القول الثاني: ذهب الكوفيّون إلى إثبات الخِيَار لمن عتقت سواء كانت تحت حرّ أم عبد. وتمسّكوا بحديث الأسود بن يزيد عن عائشة " أنّ زوج بريرة كان

حرّاً " , وقد اختلف فيه على راويه. هل هو من قول الأسود أو رواه عن عائشة أو هو قول غيره؟ كما تقدّم. قال إبراهيم بن أبي طالب أحدُ حفّاظ الحديث - وهو من أقران مسلم - فيما أخرجه البيهقيّ عنه: خالف الأسودُ النّاسَ في زوج بريرة. وقال الإمام أحمد: إنّما يصحّ أنّه كان حرّاً عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصحّ عن ابن عبّاس وغيره أنّه كان عبداً، ورواه علماء المدينة، وإذا روى علماء المدينة شيئاً وعملوا به فهو أصحّ شيء، وإذا عتقت الأمة تحت الحرّ فعقدها المتّفق على صحّته لا يفسخ بأمرٍ مختلف فيه. انتهى وحاول بعض الحنفيّة ترجيح رواية مَن قال " كان حرّاً " على رواية مَن قال " كان عبداً " فقال: الرّقّ تعقبه الحرّيّة بلا عكس. انتهى وهو كما قال، لكنّ محلّ طريق الجمع إذا تساوت الرّوايات في القوّة , أمّا مع التّفرّد في مقابلة الاجتماع , فتكون الرّواية المنفردة شاذّة والشّاذّ مردود، ولهذا لَم يعتبر الجمهور طريق الجمع بين الرّوايتين , مع قولهم: إنّه لا يصار إلى التّرجيح مع إمكان الجمع. والذي يتحصّل من كلام محقّقيهم , وقد أكثر منه الشّافعيّ ومن تبعه , أنّ محلّ الجمع إذا لَم يظهر الغلط في إحدى الرّوايتين. ومنهم من شرط التّساوي في القوّة. قال ابن بطّالٍ: أجمع العلماء أنّ الأمة إذا عتقت تحت عبد فإنّ لها

الخِيَار، والمعنى فيه ظاهر , لأنّ العبد غير مكافئ للحرّة في أكثر الأحكام، فإذا عتقت ثبت لها الخِيَار من البقاء في عصمته أو المفارقة لأنّها في وقت العقد عليها لَم تكن من أهل الاختيار. واحتجّ مَن قال: إنّ لها الخِيَار ولو كانت تحت حرّ , بأنّها عند التّزويج لَم يكن لها رأي لاتّفاقهم على أنّ لمولاها أن يزوّجها بغير رضاها , فإذا عتقت تجدّد لها حال لَم يكن قبل ذلك. وعارضهم الآخرون: بأنّ ذلك لو كان مؤثّراً لثبت الخِيَار للبكر إذا زوّجها أبوها ثمّ بلغت رشيدة , وليس كذلك. فكذلك الأمة تحت الحرّ , فإنّه لَم يحدث لها بالعتق حال ترتفع به عن الحرّ فكانت كالكتابيّة تسلم تحت المسلم. واختلف في التي تختار الفراق. هل يكون ذلك طلاقاً أو فسخاً؟. القول الأول: قال مالك والأوزاعيّ والليث: تكون طلقةً بائنةً، وثبت مثله عن الحسن وابن سيرين. أخرجه ابن أبي شيبة. القول الثاني: قال الباقون: يكون فسخاً لا طلاقاً. قوله: (ودخل عليّ - صلى الله عليه وسلم -) زاد في رواية إسماعيل بن جعفر " بيت عائشة ". قوله: (والبُرمة على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز وأدمٍ من أدم البيت) في رواية ربيعة " والبرمة تفور بلحمٍ، فقرّب إليه خبز وأدم " وفي رواية إسماعيل بن جعفر " فدعا بالغداء فأتي بخبزٍ ". والأدم: بضمّ الهمزة والدّال المهملة ويجوز إسكانها، جمع إدام.

وقيل: هو بالإسكان المفرد , وبالضّمّ الجمع. وحكى ابن بطّالٍ عن الطّبريّ قال: دلَّت القصّة على إيثاره - صلى الله عليه وسلم - اللحم إذا وجد إليه السّبيل. ثمّ ذكر حديث بريدة (¬1) رفعه " سيّد الإدام في الدّنيا والآخرة اللحم ". وأمّا ما ورد عن عمر وغيره من السّلف من إيثار أكل غير اللحم على اللحم , فإمّا لقمع النّفس عن تعاطي الشّهوات والإدمان عليها، وإمّا لكراهة الإسراف والإسراع في تبذير المال لقلة الشّيء عندهم إذ ذاك. ثمّ ذكر حديث جابر: لَمَّا أضاف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وذبح له الشّاة، فلمّا قدّمها إليه قال له: كأنّك قد علمت حبّنا للحم. وكان ذلك لقلة الشّيء عندهم فكان حبّهم له لذلك. انتهى ملخّصاً. وحديث بريدة. أخرجه ابن ماجه (¬2)، وحديث جابر. أخرجه أحمد مطوّلاً من طريق نبيح العنزيّ عنه، وأصله في " الصّحيح " بدون الزّيادة. وقد اختلف النّاس في الأدم: ¬

_ (¬1) وقع في مطبوع الفتح (بريرة) وكذا بعد ثلاثة أسطر وهو تصحيف. والصواب بريدة , بالدال (¬2) كذا عزاه الشارح رحمه الله. وإنما أخرجه ابن ماجه في " السنن " (3305) من حديث أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ " سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم " أمّا حديث بريدة , فأخرجه الطبراني في " الأوسط " (7477) وتمام في " فوائده " (298) وأبو نعيم في " الطب " (847) بلفظه. وسندهما ضعيف

فالجمهور أنّه ما يؤكل به الخبز بما يطيّبه. سواء كان مرقاً أم لا. واشترط أبو حنيفة وأبو يوسف الاصطباغ (¬1). قال ابن بطّال: دلَّ هذا الحديث على أنّ كلّ شيء في البيت ممّا جرت العادة بالائتدام به يسمّى أدماً , مائعاً كان أو جامداً. وكذا حديث " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة وإدامهم زائدة كبد الحوت " (¬2). وحديث يوسف بن عبد الله بن سلام: رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أخذ كسرةً من خبز شعيرٍ فوضع عليها تمرة، وقال: هذه إدام هذه. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ بسندٍ حسنٍ. قال ابن القصّار: لا خلاف بين أهل اللسان , أنّ من أكل خبزاً بلحمٍ مشويٍّ أنّه ائتدم به، فلو قال: أكلت خبزاً بلا إدامٍ كذب، وإن قال: أكلت خبزاً بإدامٍ صدق، وأمّا قول الكوفيّين: الإدام اسمٌ للجمع بين الشّيئين فدلَّ على أنّ المراد أن يستهلك الخبز فيه بحيث يكون تابعاً له بأن تتداخل أجزاؤه في أجزائه، وهذا لا يحصل إلَّا بما يصطبغ به. فقد أجاب من خالفهم: بأنّ الكلام الأوّل مسلَّمٌ , لكنّ دعوى ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع من الفتح (الاصطناع) وهو تصحيف. والصواب ما أثبتّه. (¬2) أخرجه البخاري (6520) ومسلم (2792) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نُزلا لأهل الجنة , وفيه فقال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى. قال: إدامهم بالام ونون، قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً.

التّداخل لا دليل عليه قبل التّناول، وإنّما المراد الجمع ثمّ الاستهلاك بالأكل فيتداخلان حينئذٍ. قوله: (أَلَم أر البرمة على النار فيها لحمٌ؟ فقالوا: بلى يا رسولَ الله، ذلك لحمٌ تصدّق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه) في رواية ربيعة " ولكن ذاك لحم تصدّق به على بريرة , وأنت لا تأكل الصّدقة ". ووقع في رواية الأسود عن عائشة في البخاري " وأتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلحمٍ , فقالوا: هذا ما تصدّق به على بريرة " وكذا في حديث أنس في البخاري. ويجمع بينهما: بأنّه لَمَّا سأل عنه , أُتي به وقيل له ذلك. ووقع في رواية عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة عند البخاري " فأهدي لها لحمٌ فقيل هذا تصدّق به على بريرة " فإن كان الضّمير لبريرة , فكأنّه أطلق على الصّدقة عليها هديّة لها، وإن كان لعائشة فلأنّ بريرة لَمَّا تصدّقوا عليها باللحم أهدت منه لعائشة. ويؤيّده ما وقع في رواية أسامة بن زيد عن القاسم عند أحمد وابن ماجه " ودخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمِرجل يفور بلحمٍ، فقال: من أين لك هذا؟ قلت: أهدته لنا بريرة وتصدّق به عليها ". وعند أحمد ومسلم من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة " وكان النّاس يتصدّقون عليها فتهدي لنا ".

واللحم المذكور وقع في بعض الشّروح أنّه كان لحم بقر. وفيه نظرٌ. (¬1) بل جاء عن عائشة " تصدّق على مولاتي بشاةٍ من الصّدقة " (¬2) فهو أولى أن يؤخذ به، ووقع بعد قوله " هو عليها صدقة ولنا هديّة " من رواية أبي معاوية المذكورة " فكلوه ". قوله: (فقال: هو عليها صدقةٌ، وهو لنا منها هديّةٌ) قال ابن بطّال: إنّما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل الصّدقة لأنّها أوساخ النّاس، ولأنّ أخذ الصّدقة منزلة ضعة، والأنبياء منزّهون عن ذلك , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان كما وصفه الله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى) والصّدقة لا تحل للأغنياء. وهذا بخلاف الهديّة فإنّ العادة جارية بالإثابة عليها، وكذلك كان شأنه. وفيه أنّ الصّدقة يجوز فيها تصرّف الفقير الذي أعطيها بالبيع والهديّة وغير ذلك. ¬

_ (¬1) وقع هذا في صحيح مسلم (1075) من طريق محمد بن جعفر ومعاذ كلاهما عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: وأُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلحم بقر. الحديث. لكن أخرجه البخاري (6370) من حديث حفص بن غياث عن شعبة. وفيه قالت عائشة: وأهدي لها شاة، فقال: هو لها صدقة .. الحديث ". ورواية الشاة أكثر فقد جاءت من طرق أخرى عن عائشة وابن عباس , وقد ذكر الشارح بعض الأحاديث التي صرّحت بكونها شاة , إلا أن يُحمل على أنه أُهدي لها لحم بقر وشاة جميعاً. والله أعلم (¬2) انظر التعليق السابق.

وفيه إشارة إلى أنّ أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا تحرم عليهنّ الصّدقة كما حرمت عليه، لأنّ عائشة قبلت هديّة بريرة مع علمها بأنّها كانت صدقة عليهما، وظنّت استمرار الحكم بذلك عليها , ولهذا لَم تُقدّمها للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لِعلمها أنّه لا تحل له الصّدقة، وأقرّها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الفهم , ولكنّه بيّن لها أنّ حكم الصّدقة فيها قد تحوّل فحلَّت له - صلى الله عليه وسلم - أيضاً. قوله: (إنما الولاء لمن أعتق) تقدّم بيان سببها مستوفىً (¬1). وللبخاري من رواية سفيان عن منصورٍ عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة بلفظ " الولاء لمن أعطى الورق، وولي النّعمة " وقد ذكره أصحاب منصور كأبي عوانة بلفظ " إنّما الولاء لمن أعتق " وكذلك ذكره أصحاب إبراهيم كالحكم والأعمش , وأصحاب الأسود , وأصحاب عائشة. وكلّها في الكتب السّتّة. وتفرّد الثّوريّ. وتابعه جرير عن منصور بهذا اللفظ. فيحتمل: أن يكون منصور رواه لهما بالمعنى. وقد تفرّد الثّوريّ بزيادة قوله " وولي النّعمة ". ومعنى قوله " أعطى الورق " أي: الثّمن، وإنّما عبّر بالورق , لأنّه الغالب، ومعنى قوله " وولي النّعمة " أعتق، ومطابقته لقوله " الولاء لمن أعتق " أنّ صحّة العتق تستدعي سبق ملكٍ , والملك يستدعي ثبوت العوض ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة في العمدة برقم (275)

قال ابن بطّال: هذا الحديث يقتضي أنّ الولاء لكل معتق ذكرًا كان أو أنثى وهو مجمعٌ عليه، وأمّا جرّ الولاء فقال الأبهريّ: ليس بين الفقهاء اختلاف أنّه ليس للنّساء من الولاء إلَّا ما أعتقن أو أولاد من أعتقن، إلَّا ما جاء عن مسروقٍ أنّه قال: لا يختصّ الذّكور بولاء من أعتق آباؤهم بل الذّكور والإناث فيه سواءٌ كالميراث. ونقل ابن المنذر عن طاوسٍ مثله، وعليه اقتصر سحنون فيما نقله ابن التّين. وتعقّب: الحصر الذي ذكره الأبهريّ تبعًا لسحنون وغيره , بأنّه يرد عليه ولد الإناث من ولد من أعتقن. قال: والعبارة السّالمة أن يقال إلَّا ما أعتقن أو جرّه إليهنّ من أعتقن بولادةٍ أو عتقٍ، احترازًا ممّن لها ولد من زنًا , أو كانت ملاعنة , أو كان زوجها عبدًا. فإنّ ولاء ولد هؤلاء كلهنّ لمعتق الأمّ. والحجّة للجمهور اتّفاق الصّحابة، ومن حيث النّظر , أنّ المرأة لا تستوعب المال بالفرض الذي هو آكد من التّعصيب، فاختصّ بالولاء من يستوعب المال وهو الذّكر , وإنّما ورثن من أعتقن؛ لأنّه عن مباشرةٍ لا عن جرّ الإرث. واستدل بقوله " الولاء لمن أعطى الورق " على مَن قال فيمن أعتق عن غيره بوصيّةٍ من المعتق عنه أنّ الولاء للمعتق عملاً بعموم قوله " الولاء لمن أعتق ".

وموضع الدّلالة منه قوله " الولاء لمن أعطى الورق " فدلَّ على أنّ المراد بقوله " لمن أعتق " لمن كان من عتق في ملكه حين العتق لا لمن باشر العتق فقط. ويستفاد منه أنّ كلمة " إنّما " تفيد الحصر. وإلَّا لَمَا لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره وهو الذي أريد من الخبر. ويؤخذ منه أنّه لا ولاء للإنسان على أحد بغير العتق فينتفي من أسلم على يده أحدٌ. وقد أخرج البخاريّ في " تاريخه " وأبو داود وابن أبي عاصم والطّبرانيّ والباغنديّ في " مسند عمر بن عبد العزيز " بالعنعنة كلّهم من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت عبيد الله بن موهب يحدّث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الدّاريّ قال: قلت: يا رسولَ الله. ما السُّنّة في الرّجل يسلم على يدي رجل من المسلمين؟ قال: هو أولى النّاس بمحياه ومماته. قال البخاريّ: قال بعضهم: عن ابن موهب سمع تميماً. ولا يصحّ , لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " الولاء لمن أعتق " وقال الشّافعيّ: هذا الحديث ليس بثابتٍ , إنّما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهب، وابن موهب ليس بالمعروف ولا نعلمه لقي تميماً , ومثل هذا لا يثبت. وقال الخطّابيّ: ضعّف أحمدُ هذا الحديث. وأخرجه أحمد والدّارميّ والتّرمذيّ والنّسائيّ من رواية وكيع

وغيره عن عبد العزيز عن ابن موهب عن تميم. وصرّح بعضهم بسماع ابن موهب من تميم. وأمّا التّرمذيّ فقال: ليس إسناده بمتّصلٍ. قال: وأدخل بعضهم بين ابن موهب وبين تميم قبيصةَ. رواه يحيى بن حمزة. قلت: ومن طريقه أخرجه مَن بدأت بذكره، وقال بعضهم: إنّه تفرّد فيه بذكر قبيصة، وقد رواه أبو إسحاق السّبيعيّ عن ابن موهب بدون ذكر تميم. أخرجه النّسائيّ أيضاً. وقال ابن المنذر: هذا الحديث مضطربٌ: هل هو عن ابن موهب عن تميم أو بينهما قبيصة؟ وقال بعض الرّواة فيه: عن عبد الله بن موهب , وبعضهم: ابن موهب، وعبد العزيز راويه ليس بالحافظ. قلت: هو من رجال البخاريّ , ولكنّه ليس بالمكثر، وأمّا ابن موهب فلم يدرك تميماً، وقد أشار النّسائيّ إلى أنّ الرّواية التي وقع التّصريح فيها بسماعه من تميم خطأ. ولكن وثّقه بعضهم، وكان عمر بن عبد العزيز ولاه القضاء، ونقل أبو زرعة الدّمشقيّ في " تاريخه " بسندٍ له صحيحٍ عن الأوزاعيّ , أنّه كان يدفع هذا الحديث، ولا يرى له وجهاً. وصحّح هذا الحديث أبو زرعة الدّمشقيّ , وقال: هو حديث حسن المخرج متّصل. وإلى ذلك أشار البخاريّ بقوله: واختلفوا في صحّة هذا الخبر، وجزم في " التّاريخ " بأنّه لا يصحّ لمعارضته حديث " إنّما الولاء لمن أعتق "

ويؤخذ منه , أنّه لو صحّ سنده لَمَا قاوم هذا الحديث، وعلى التّنزّل فتردّد في الجمع , هل يخصّ عموم الحديث المتّفق على صحّته بهذا فيستثنى منه من أسلم أو تؤوّل الأولويّة في قوله " أولى النّاس " بمعنى النّصرة والمعاونة وما أشبه ذلك لا بالميراث , ويبقى الحديث المتّفق على صحّته على عمومه؟. جنح الجمهور إلى الثّاني , ورجحانه ظاهرٌ، وبه جزم ابن القصّار فيما حكاه ابن بطّال فقال: لو صحّ الحديث لكان تأويله أنّه أحقّ بموالاته في النّصر والإعانة والصّلاة عليه إذا مات ونحو ذلك، ولو جاء الحديث بلفظ أحقّ بميراثه لوجب تخصيص الأوّل. والله أعلم. قال ابن المنذر: قال الجمهور بقول الحسن في ذلك. وقال حمّاد وأبو حنيفة وأصحابه , وروي عن النّخعيّ: أنّه يستمرّ إن عقل عنه، وإن لَم يعقل عنه فله أن يتحوّل لغيره , واستحقّ الثّاني وهلمّ جرّاً. وعن النّخعيّ قولٌ آخر: ليس له أن يتحوّل. وعنه. إن استمرّ إلى أن مات تحوّل عنه، وبه قال إسحاق وعمر بن عبد العزيز. ووقع ذلك في طريق الباغنديّ التي أسلفتها، وفي غيرها أنّه أعطى رجلاً أسلم على يديه رجل فمات وترك مالاً وبنتاً نصف المال الذي بقي بعد نصيب البنت. ويؤخذ منه. أنّه لا ولاء للملتقط وهو قول الجمهور خلافاً

لإسحاق، لأنّ من لَم يعتق لا ولاء له , لأنّ العتق يستدعي سبق ملكٍ واللقيط من دار الإسلام لا يملكه الملتقط؛ لأنّ الأصل في النّاس الحرّيّة؛ إذ لا يخلو المنبوذ أن يكون ابن حرّةٍ فلا يسترقّ أو ابن أمة قومٍ فميراثه لهم، فإذا جهل وضع في بيت المال، ولا رقّ عليه للذي التقطه. وجاء عن عليّ " أنّ اللقيط مولى من شاء "، وبه قال الحنفيّة: إلى أن يعقل عنه فلا ينتقل بعد ذلك عمّن عقل عنه. ويؤخذ منه أنه ولاء لمن حالف إنساناً خلافاً لطائفةٍ من السّلف، وبه قال أبو حنيفة ويؤخذ من عمومه , أنّ الحربيّ لو أعتق عبداً ثمّ أسلما , أنّه يستمرّ ولاؤه له , وبه قال الشّافعيّ. وقال ابن عبد البرّ: إنّه قياس قول مالك، ووافق على ذلك أبو يوسف، وخالف أصحابه. فإنّهم قالوا للعتيق في هذه الصّورة: أن يتولى من يشاء. تنبيهٌ: أورد البخاريّ هذا الحديث في الأطعمة من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عن القاسم بن محمّد قال: كان في بريرة ثلاث سنن. وساق الحديث. وليس فيه أنّه أسنده عن عائشة. وتعقّبه الإسماعيليّ فقال: هذا الحديث الذي صحَّحه مرسل. وهو كما قال من ظاهر سياقه، لكنّ البخاريّ اعتمد على إيراده موصولاً من طريق مالك عن ربيعة عن القاسم عن عائشة في النّكاح

والطّلاق، لكنّه جرى على عادته من تجنّب إيراد الحديث على هيئته , ومالكٌ أحفظ من إسماعيل وأتقن، وقد وافقه أسامة بن زيد وغير واحد عن القاسم. وكذلك رواه عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، لكن صدّره بقصّة اشتراط الذين باعوها على عائشة أن يكون لهم الولاء. وقد تقدّم مستوفىً. وكذا رواه عروة وعمرة والأسود وأيمن المكّيّ عن عائشة، وكذا رواه نافع عن ابن عمر , أنّ عائشة، ومنهم مَن قال: عن ابن عمر عن عائشة. وروى قصّةَ البرمة واللحم أنسٌ في البخاري، وروى ابن عبّاس قصّة تخييرها لَمَّا عتقت , وطرقه كلها صحيحةٌ. وفي الحديث من الفوائد , أنَّ بيع الأمة المزوّجة ليس طلاقًا. قال ابن بطّالٍ: اختلف السّلف هل يكون بيع الأمة طلاقًا؟. القول الأول: فقال الجمهور: لا يكون بيعها طلاقًا. القول الثاني: روي عن ابن مسعود وابن عبّاس وأبيّ بن كعب , ومن التّابعين عن سعيد بن المسيّب والحسن ومجاهد قالوا: يكون طلاقًا. وتمسّكوا بظاهر قوله تعالى (والمحصنات من النّساء إلَّا ما ملكت أيمانكم). وحجّة الجمهور حديث الباب، وهو أنّ بريرة عتقت فخيّرت في زوجها، فلو كان طلاقها يقع بمجرّد البيع لَم يكن للتّخيير معنىً.

ومن حيث النّظر: أنّه عقد على منفعة فلا يبطله بيع الرّقبة كما في العين المؤجّرة، والآية نزلت في المسبيّات فهنّ المراد بملك اليمين على ما ثبت في الصّحيح من سبب نزولها. انتهى ملخّصًا. وما نقله عن الصّحابة. أخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد فيها انقطاع، وفيه عن جابر وأنس أيضًا، وما نقله عن التّابعين فيه بأسانيد صحيحة، وفيه أيضًا عن عكرمة والشّعبيّ نحوه، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عبّاس بسندٍ صحيحٍ. وروى حمّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا زوّج عبده بأمته فالطّلاق بيد العبد وإذا اشترى أمة لها زوج فالطّلاق بيد المشتري. وأخرج سعيد بن منصور من طريق الحسن قال: إباق العبد طلاقه. وفيه أنّ عتقها ليس طلاقًا ولا فسخًا لثبوت التّخيير، فلو طلقت بذلك واحدة لكان لزوجها الرّجعة ولَم يتوقّف على إذنها، أو ثلاثًا لَم يقل لها لو راجعتيه لأنّها ما كانت تحلّ له إلَّا بعد زوج آخر. وفيه اعتبار الكفاءة في الحرّيّة , وفيه سقوط الكفاءة برضا المرأة التي لا وليّ لها , وأنّ من خيّر امرأته فاختارت فراقه وقع وانفسخ النّكاح بينهما , وأنّها لو اختارت البقاء معه لَم ينقص عدد الطّلاق. وأكثَرَ بعض من تكلم على حديث بريرة هنا في سرد تفاريع التّخيير , وأنّ بيعها لا يبيح لمشتريها وطأها , لأنّ تخييرها يدلّ على بقاء علقة

العصمة. وفيه تحريم الصّدقة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا , وجواز التّطوّع منها على ما يلحق به في تحريم صدقة الفرض كأزواجه ومواليه , وأنّ موالي أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا تحرم عليهنّ الصّدقة وإن حرمت على الأزواج. وجواز أكل الغنيّ ما تصدّق به على الفقير إذا أهداه له وبالبيع أولى. وجواز قبول الغنيّ هديّة الفقير , وفيه الفرق بين الصّدقة والهديّة في الحكم. وفيه نصح أهل الرّجل له في الأمور كلها , وجواز أكل الإنسان من طعام من يسرّ بأكله منه ولو لَم يأذن له فيه بخصوصه. وبأنّ الأمة إذا عتقت جاز لها التّصرّف بنفسها في أمورها ولا حجر لمعتقها عليها إذا كانت رشيدةً , وأنّها تتصرّف في كسبها دون إذن زوجها إن كان لها زوجٌ. وفيه جواز الصّدقة على من يمونه غيره , لأنّ عائشة كانت تمون بريرة ولَم ينكر عليها قبولها الصّدقة. وأنّ لمن أهدي لأهله شيءٌ أن يشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك لقوله " وهو لنا هديّةٌ ". وأنّ من حرمت عليه الصّدقة جاز له أكل عينها إذا تغيّر حكمها. وأنّه يجوز للمرأة أن تدخل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه وأن تتصرّف في بيته بالطّبخ وغيره بآلاته ووقوده.

وجواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحل في العادة وأنّه ينبغي تعريفه بما يخشى توقّفه عنه. وفيه. استحباب السّؤال عمّا يستفاد به علمٌ أو أدبٌ أو بيان حكمٍ أو رفع شبهةٍ وقد يجب , وسؤال الرّجل عمّا لَم يعهده في بيته , وأنّ هديّة الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقًا , وقبول الهديّة وإن نزر قدرها جبرٌ للمهدي. وأنّ الهديّة تملك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى التّصريح بالقبول. وأنّ لمن تصدّق عليه بصدقةٍ أن يتصرّف فيها بما شاء ولا ينقص أجر المتصدّق , وأنّه لا يجب السّؤال عن أصل المال الواصل إذا لَم يكن فيه شبهةٌ , ولا عن الذّبيحة إذا ذبحت بين المسلمين , وأنّ من تصدّق عليه قليلٌ لا يتسخّطه. وفيه مشاورة المرأة زوجها في التّصرّفات , وسؤال العالم عن الأمور الدّينيّة وإعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه ولو لَم يسأل , ومشاورة المرأة إذا ثبت لها حكم التّخيير في فراق زوجها أو الإقامة عنده , وأنّ على الذي يشاور بذل النّصيحة , وفيه جواز مخالفة المشير فيما يشير به في غير الواجب. وفيه ثبوت الخِيَار للأَمَة إذا عتقت على التّفصيل المتقدّم , وأنّ خِيَارها يكون على الفور لقوله في بعض طرقه " إنّها عتقت فدعاها , فخيّرها فاختارت نفسها ".

وللعلماء في ذلك أقوال: أحدها: وهو قول الشّافعيّ , أنّه على الفور , وعنه: يمتدّ خِيَارها ثلاثًا. وقيل: بقيامها من مجلس الحاكم , وقيل: من مجلسها , وهما عن أهل الرّأي. وقيل: يمتدّ أبدًا , وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ وأحمد وأحد أقوال الشّافعيّ واتّفقوا على أنّه إن مكّنته من وطئها سقط خِيَارها. وتمسّك مَن قال به , بما جاء في بعض طرقه. وهو عند أبي داود من طريق ابن إسحاق بأسانيد عن عائشة , أنّ بريرة أعتقت. فذكر الحديث .. وفي آخره " إنْ قربكِ فلا خِيَار لك. وروى مالكٌ بسندٍ صحيحٍ عن حفصة , أنّها أفتت بذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله. قال بن عبد البرّ: لا أعلم لهما مخالفًا من الصّحابة , وقال به جمعٌ من التّابعين منهم الفقهاء السّبعة. واختلف فيما لو وطئها قبل علمها بأنّ لها الخِيَار , هل يسقط أو لا؟. على قولين للعلماء. أصحّهما: عند الحنابلة لا فرق , وعند الشّافعيّة تعذر بالجهل , وفي رواية الدّارقطنيّ " إن وطئك فلا خِيَار لك ". ويؤخذ من هذه الزّيادة , أنّ المرأة إذا وجدت بزوجها عيبًا , ثمّ

مكّنته من الوطء بطل خِيَارها. وفيه أنّ الخِيَار فسخٌ لا يملك الزّوج فيه رجعةٌ , وتمسّك مَن قال له الرّجعة بقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لو راجعته. ولا حجّة فيه وإلا لَمَا كان لها اختيارٌ , فتعيّن حمل المراجعة في الحديث على معناها اللغويّ والمراد رجوعها إلى عصمته , ومنه قوله تعالى (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) مع أنّها في المطلق ثلاثًا وفيه تسمية الأحكام سننًا وإن كان بعضها واجبًا , وأنّ تسمية ما دون الواجب سنّةً اصطلاحٌ حادثٌ. وفيه أنّ للمعتق أن يقبل الهديّة من معتقه ولا يقدح ذلك في ثواب العتق , وجواز الهديّة لأهل الرّجل بغير استئذانه , وقبول المرأة ذلك حيث لا ريبة. وفيه سؤال الرّجل عمّا لَم يعهده في بيته. ولا يردُ على هذا ما رواه الشيخان في قصّة أمّ زرعٍ حيث وقع في سياق المدح " ولا يسأل عمّا عهد ". لأنّ معناه ولا يسأل عن شيءٍ عهده وفات فلا يقول لأهله: أين ذهب؟ وهنا سألهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ رآه وعاينه ثمّ أحضر له غيره فسأل عن سبب ذلك , لأنّه يعلم أنّهم لا يتركون إحضاره له شحًّا عليه , بل لتوهّم تحريمه فأراد أن يبيّن لهم الجواز. وقال بن دقيق العيد: فيه دلالة. على تبسط الإنسان في السّؤال عن أحوال منزله , وما عهده فيه قبل. انتهى.

والأوّل أظهر , وعندي أنّه مبنيٌّ على خلاف ما انبنى عليه الأوّل , لأنّ الأوّل بني على أنّه علم حقيقة الأمر في اللحم , وأنّه ممّا تصدّق به على بريرة. والثّاني بني على أنّه لَم يتحقّق من أين هو؟ , فجائزٌ أن يكون ممّا أهدي لأهل بيته من بعض إلزامها كأقاربها مثلاً ولَم يتعيّن الأوّل. وفيه أنّه لا يجب السّؤال عن أصل المال الواصل إليه إذا لَم يظنّ تحريمه أو تظهر فيه شبهةٌ , إذ لَم يسأل - صلى الله عليه وسلم - عمّن تصدّق على بريرة , ولا عن حاله كذا قيل. وقد جاء أنّه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أرسل إلى بريرة بالصّدقة فلم يتم هذا.

كتاب النكاح

كتاب النكاح النّكاح في اللغة الضّمّ والتّداخل، وتجوّز مَن قال إنّه الضّمّ. وقال الفرّاء: النّكح بضمٍّ ثمّ سكون اسم الفرج، ويجوز كسر أوّله وكثر استعماله في الوطء، وسمّى به العقد لكونه سببه. قال أبو القاسم الزّجّاجيّ: هو حقيقة فيهما. وقال الفارسيّ: إذا قالوا نكح فلانة أو بنتَ فلان فالمراد العقد، وإذا قالوا نكح زوجته فالمراد الوطء. وقال آخرون: أصله لزوم شيء لشيءٍ مستعلياً عليه، ويكون في المحسوسات وفي المعاني، قالوا: نكح المطر الأرض. ونكح النّعاس عينه. ونكحت القمح في الأرض إذا حرثْتَها وبذرتَه فيها. ونكحت الحصاة أخفاف الإبل. وفي الشّرع: حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الصّحيح. والحجّة في ذلك كثرة وروده في الكتاب والسّنّة للعقد , حتّى قيل: إنّه لَم يرد في القرآن إلَّا للعقد , ولا يرِدُ مثل قوله (حتّى تنكح زوجاً غيره) لأنّ شرط الوطء في التّحليل إنّما ثبت بالسّنّة، وإلَّا فالعقد لا بدّ منه لأنّ قوله (حتّى تنكح) , معناه حتّى تتزوّج. أي: يعقد عليها، ومفهومه أنّ ذلك كافٍ بمجرّده , لكن بيّنت السّنّة أن لا عبرة بمفهوم الغاية، بل لا بدّ بعد العقد من ذوق العسيلة، كما أنّه لا بدّ بعد ذلك من التّطليق ثمّ العدّة. نعم. أفاد أبو الحسين بن فارس: أنّ النّكاح لَم يرد في القرآن إلَّا

للتّزويج، إلَّا في قوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح) فإنّ المراد به الحلم. والله أعلم وفي وجه للشّافعيّة - كقول الحنفيّة - إنّه حقيقة في الوطء مجاز في العقد. وقيل: مقول بالاشتراك على كلّ منهما، وبه جزم الزّجّاجيّ. وهذا الذي يترجّح في نظري , وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد. ورجّح بعضهم الأوّل: بأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات لاستقباح ذكره، فيبعد أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعه لِمَا لا يستفظعه، فدلَّ على أنّه في الأصل للعقد، وهذا يتوقّف على تسليم المدّعي أنّها كلّها كنايات. وقد جمع اسم النّكاح ابن القطّاع فزادت على الألف.

الحديث الأول

الحديث الأول 305 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لَم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاءٌ. (¬1) قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري من رواية عبد الرّحمن بن يزيد: دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا: يا معشر الشّباب. وفي رواية جرير عن الأعمش عن عمارة بن عميرٍ عند مسلم في هذه الطّريق " قال عبد الرّحمن: وأنا يومئذٍ شابّ، فحدّث بحديثٍ رأيت أنّه حدّث به من أجلي ". وفي رواية وكيع عن الأعمش " وأنا أحدث القوم ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1806 , 4778) ومسلم (1400) من طرق عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: كنت مع عبد الله فلقيه عثمان بمنى فقال: يا أبا عبد الرحمن إن لي إليك حاجة. فخليا , فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوّجك بكراً؟. ولمسلم " جارية شابة " تذكّرك ما كنت تعهد، فلمَّا رأى عبد الله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إليَّ. فقال: يا علقمة، فانتهيت إليه , وهو يقول: أما لئن قلت ذلك لقد قال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر .. فذكره وأخرجه البخاري (4779) ومسلم (1400) من طريق الأعمش أيضاً عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - نحوه. ... قال الحافظ في " الفتح ": قوله (فلقيه عثمان بمنى) كذا وقع في أكثر الروايات، وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش عند ابن حبان " بالمدينة " وهي شاذة.

قوله: (يا معشر الشّباب من استطاع منكم) المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشّباب جمع شابّ , ويجمع أيضاً على شببة وشبّان بضمّ أوّله والتّثقيل. وذكر الأزهريّ. أنّه لَم يجمع فاعل على فعال غيره، وأصله الحركة والنّشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشّافعيّة. وقال القرطبيّ في " المفهم ": يقال له حدث إلى ستّة عشر سنة، ثمّ شابٌّ إلى اثنتين وثلاثين ثمّ كهل، وكذا ذكر الزّمخشريّ في الشّباب , أنّه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين، وقال ابن شاس المالكيّ في " الجواهر " إلى أربعين. وقال النّوويّ: الأصحّ المختار أنّ الشّابّ من بلغ ولَم يجاوز الثّلاثين، ثمّ هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثمّ هو شيخ. وقال الرّويانيّ وطائفة: من جاوز الثّلاثين سمّي شيخاً، زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الإسفرايينيّ عن الأصحاب: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأمّا بياض الشّعر فيختلف باختلاف الأمزجة. وخصّ الشّبابَ بالخطاب , لأنّ الغالب وجود قوّة الدّاعي فيهم إلى النّكاح بخلاف الشّيوخ. وإن كان المعنى معتبراً إذا وجد السّبب في الكهول والشّيوخ أيضاً. قوله: (الباءة) بالهمز وتاء تأنيث ممدود، وفيها لغة أخرى بغير

همز ولا مدّ، وقد يهمز ويمدّ بلا هاء. ويقال لها أيضاً: الباهة كالأوّل لكن بهاءٍ بدل الهمزة. وقيل , بالمدّ القدرة على مؤن النّكاح وبالقصر الوطء. قال الخطّابيّ: المراد بالباءة النّكاح، وأصله الموضع الذي يتبوّؤه ويأوي إليه. وقال المازريّ: اشتقّ العقد على المرأة من أصل الباءة، لأنّ من شأن من يتزوّج المرأة أن يبوّئها منزلاً. وقال النّوويّ: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنىً واحد: القول الأول: وهو أصحّهما أنّ المراد معناها اللغويّ وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النّكاح - فليتزوّج، ومن لَم يستطع الجماع لعجَزَه عن مؤنه فعليه بالصّوم ليدفع شهوته ويقطع شرّ منيّه كما يقطعه الوجاء. وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشّباب الذين هم مظنّة شهوة النّساء , ولا ينفكّون عنها غالباً. القول الثّاني: أنّ المراد هنا بالباءة مؤن النّكاح، سمّيت باسم ما يلازمها، وتقديره من استطاع منكم مؤن النّكاح فليتزوّج، ومن لَم يستطع فليصم لدفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله " ومن لَم يستطع فعليه بالصّوم ". قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصّوم لدفع الشّهوة،

فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأوّل عن ذلك بالتّقدير المذكور. انتهى. والتّعليل المذكور للمازريّ. وأجاب عنه عياض: بأنّه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله " من استطاع الباءة " أي: بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوّج. ويكون قوله " ومن لَم يستطع " أي: من لَم يقدر على التّزويج. قلت: وتهيّأ له هذا لحذف المفعول في المنفيّ، فيحتمل أن يكون المراد ومن لَم يستطع الباءة أو من لَم يستطع التّزويج. وقد وقع كلّ منهما صريحاً، فعند التّرمذيّ في رواية عبد الرّحمن بن يزيد من طريق الثّوريّ عن الأعمش " ومن لَم يستطع منكم الباءة " وعند الإسماعيليّ من طريق أبي عوانة عن الأعمش " من استطاع منكم أن يتزوّج فليتزوّج ". ويؤيّده ما وقع في روايةٍ للنّسائيّ من طريق أبي معشر عن إبراهيم النّخعيّ عن علقمة " من كان ذا طولٍ فلينكح " ومثله لابن ماجه من حديث عائشة، وللبزّار من حديث أنس. وأمّا تعليل المازريّ , فيعكّر عليه قوله في الرّواية الأخرى عند البخاري بلفظ " كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شباباً لا نجد شيئاً " فإنّه يدلّ على أنّ المراد بالباءة الجماع، ولا مانع من الحمل على المعنى الأعمّ بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التّزويج. والجواب عمّا استشكله المازريّ: أنّه يجوز أن يرشد من لا يستطيع

الجماع من الشّباب لفرط حياء أو عدم شهوة أو عِنّةٍ مثلاً إلى ما يهيّئ له استمرار تلك الحالة، لأنّ الشّباب مظنّة ثوران الشّهوة الدّاعية إلى الجماع فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمرّ كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمرّ به الكسر المذكور، فيكون قسم الشّباب إلى قسمين: قسمٌ: يتوقون إليه ولهم اقتدار عليه فندبهم إلى التّزويج دفعاً للمحذور. بخلاف الآخرين فندبهم إلى أمر تستمرّ به حالتهم، لأنّ ذلك أرفق بهم للعلة التي ذكرت في رواية عبد الرّحمن بن يزيد , وهي أنّهم كانوا لا يجدون شيئاً، ويستفاد منه أنّ الذي لا يجد أهبة النّكاح وهو تائق إليه يندب له التّزويج دفعاً للمحذور. قوله: (فليتزوّج فإنه أغضّ للبصر) أي: أشدّ غضّاً قوله: (وأحصن للفرج) أي: أشدّ إحصاناً له ومنعاً من الوقوع في الفاحشة. وما ألطف ما وقع لمسلمٍ حيث ذكر عقب حديث ابن مسعود هذا بيسير حديث جابر رفعه: إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإنّ ذلك يردّ ما في نفسه. فإنّ فيه إشارة إلى المراد من حديث الباب. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل: أن تكون أفعل على بابها، فإنّ التّقوى سبب لغضّ البصر وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشّهويّة الدّاعية، وبعد حصول التّزويج يضعف هذا العارض فيكون أغضّ وأحصن ممّا لَم يكن، لأنّ

وقوع الفعل مع ضعف الدّاعي أندر من وقوعه من وجود الدّاعي. ويحتمل: أن يكون أفعل فيه لغير المبالغة , بل إخبار عن الواقع فقط. قوله: (ومن لَم يستطع فعليه بالصّوم) في رواية مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عند الطّبرانيّ " ومن لَم يقدر على ذلك فعليه بالصّوم ". قال المازريّ: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النّحويّين أن لا يغري الغائب، وقد جاء شاذّاً قول بعضهم عليه رجلاً ليسني على جهة الإغراء. وتعقّبه عياض: بأنّ هذا الكلام موجود لابن قتيبة والزّجّاجيّ، ولكن فيه غلط من أوجه: الأول: فمن التّعبير بقوله لا إغراء بالغائب، والصّواب فيه إغراء الغائب، فأمّا الإغراء بالغائب فجائز، ونصّ سيبويه أنّه لا يجوز دونه زيداً ولا يجوز عليه زيداً عند إرادة غير المخاطب، وإنّما جاز للحاضر لِمَا فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب فلا يجوز لعدم حضوره ومعرفته بالحالة الدّالة على المراد. الثاني: أنّ المثال ما فيه حقيقة الإغراء. وإن كانت صورته، فلم يرد القائل تبليغ الغائب وإنّما أراد الإخبار عن نفسه بأنّه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عنّي، أي: اجعل شغلك بنفسك، ولَم يرد أن يغريه به , وإنّما مراده دعني وكن كمن شغل عنّي. الثالث: ليس في الحديث إغراء الغائب , بل الخطاب للحاضرين

الذين خاطبهم أوّلاً بقوله " من استطاع منكم " فالخصاء في قوله " فعليه " ليست لغائب وإنّما هي للحاضر المبهم، إذ لا يصحّ خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى - إلى أن قال - فمن عفي له من أخيه شيء) ومثله لو قلت لاثنين من قام منكما فله درهم فالهاء للمبهم من المخاطبين لا لغائبٍ. انتهى ملخّصاً. وقد استحسنه القرطبيّ. وهو حسن بالغ. وقد تفطّن له الطّيبيّ , فقال: قال أبو عبيد: قوله " فعليه بالصّوم " إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلَّا الشّاهد تقول: عليك زيداً. ولا تقول: عليه زيداً إلَّا في هذا الحديث. قال: وجوابه أنّه لَمَّا كان الضّمير الغائب راجعاً إلى لفظة " من " وهي عبارة عن المخاطبين في قوله " يا معشر الشّباب " وبيان لقوله " منكم " جاز قوله " عليه " لأنّه بمنزلة الخطاب. وقد أجاب بعضهم: بأنّ إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ. كذا قال، والحقّ مع عياض، فإنّ الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجرّداً هنا. قوله: (بالصّوم) عدل عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يثير الشّهوة ويستدعي طغيان الماء من الطّعام والشّراب إلى ذكر الصّوم , إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة.

وفيه إشارة إلى أنّ المطلوب من الصّوم في الأصل كسر الشّهوة. قوله: (فإنّه) أي: الصّوم. قوله: (له وجاء) بكسر الواو والمدّ، أصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه إذا غمزه دافعاً له، ووجأه بالسّيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتّى رضّهما. ووقع في رواية ابن حبّان " فإنّه له وجاء وهو الإخصاء " وهي زيادة مدرجة في الخبر لَم تقع إلَّا في طريق زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة هذه. وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظرٌ. فإنّ الوجاء رضّ الأنثيين والإخصاء سلّهما، وإطلاق الوجاء على الصّيام من مجاز المشابهة. وقال أبو عبيد: قال بعضهم: وجا بفتح الواو مقصور، والأوّل أكثر. وقال أبو زيد: لا يقال وجاء إلَّا فيما لَم يبرأ , وكان قريب العهد بذلك. واستدل بهذا الحديث على أنّ من لَم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التّزويج , لأنّه أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه. وأطلق بعضهم , أنّه يكره في حقّه. وقد قسّم العلماء الرّجل في التّزويج إلى أقسام: الأوّل: التّائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النّكاح عند الجميع.

وزاد الحنابلة في رواية أنّه يجب , وبذلك قال أبو عوانة الإسفرايينيّ من الشّافعيّة. وصرّح به في " صحيحه "، ونقله المصّيصيّ في " شرح مختصر الجوينيّ " وجهاً، وهو قول داود وأتباعه. وردّ عليهم عياض ومن تبعه بوجهين: الوجه الأول: أنّ الآية التي احتجّوا بها خيّرت بين النّكاح والتّسرّي - يعني قوله تعالى (فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم) قالوا: والتّسرّي ليس واجباً اتّفاقاً فيكون التّزويج غير واجب إذ لا يقع التّخيير بين واجب ومندوب. وهذا الرّدّ متعقّب، فإنّ الذين قالوا بوجوبه قيّدوه بما إذا لَم يندفع التّوقان بالتّسرّي، فإذا لَم يندفع تعيّن التّزويج. وقد صرّح بذلك ابن حزم فقال: وفرضٌ على كلّ قادر على الوطء إن وجد ما يتزوّج به أو يتسرّى أن يفعل أحدهما، فإن عجَزَ عن ذلك فليكثر من الصّوم، وهو قول جماعة من السّلف. الوجه الثّاني: أنّ الواجب عندهم العقد لا الوطء، والعقد بمجرّده لا يدفع مشقّة التّوقان قال: فما ذهبوا إليه لَم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لَم يذهبوا إليه. كذا قال، وقد صرّح أكثر المخالفين بوجوب الوطء فاندفع الإيراد. وقال ابن بطّال: احتجّ من لَم يوجبه بقوله - صلى الله عليه وسلم - " ومن لَم يستطع فعليه بالصّوم " قال: فلمّا كان الصّوم الذي هو بدله ليس بواجبٍ

فمبدله مثله. وتعقّب: بأنّ الأمر بالصّوم مرتّب على عدم الاستطاعة ولا استحالة أن يقول القائل , أوجبت عليك كذا فإن لَم تستطع فأندبك إلى كذا. والمشهور عن أحمد , أنّه لا يجب للقادر التّائق إلَّا إذا خشي العنت، وعلى هذه الرّواية اقتصر ابن هبيرة. وقال المازريّ: الذي نطق به مذهب مالك أنّه مندوب، وقد يجب عندنا في حقّ من لا ينكفّ عن الزّنا إلَّا به. وقال القرطبيّ: المستطيع الذي يخاف الضّرر على نفسه ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلَّا بالتّزويج , لا يختلف في وجوب التّزويج عليه. ونبّه ابن الرّفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبّاً. وقال ابن دقيق العيد: قسّم بعض الفقهاء النّكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النّكاح وتعذّر التّسرّي - وكذا حكاه القرطبيّ عن بعض علمائهم - وهو المازريّ - قال: فالوجوب في حقّ من لا ينكفّ عن الزّنا إلَّا به كما تقدّم. قال: والتّحريم في حقّ من يخلّ بالزّوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه. والكراهة في حقّ مثل هذا حيث لا إضرار بالزّوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطّاعة من

عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدّت الكراهة، وقيل: الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التّزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنىً مقصوداً من كسر شهوة وإعفاف نفس وتحصين فرج ونحو ذلك. والإباحة فيما انتفت الدّواعي والموانع. ومنهم من استمرّ بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته للظّواهر الواردة في التّرغيب فيه. قال عياض: هو مندوب في حقّ كلّ من يرجى منه النّسل , ولو لَم يكن له في الوطء شهوة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فإنّي مكاثر بكم " ولظواهر الحضّ على النّكاح والأمر به، وكذا في حقّ من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنّساء غير الوطء، فأمّا من لا ينسل , ولا أرب له في النّساء , ولا في الاستمتاع. فهذا مباح في حقّه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت. وقد يقال: إنّه مندوب أيضاً لعموم قوله " لا رهبانيّة في الإسلام ". وقال الغزاليّ في الإحياء: من اجتمعت له فوائد النّكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحبّ في حقّه التّزويج، ومن لا فالتّرك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقّه فليجتهد ويعمل بالرّاجح. قلت: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة. فأمّا حديث " فإنّي مكاثر بكم " فصحّ من حديث أنس بلفظ " تزوّجوا الودود الولود، فإنّي مكاثر بكم يوم القيامة " أخرجه ابن حبّان، وذكره الشّافعيّ بلاغاً عن ابن عمر بلفظ " تناكحوا تكاثروا

فإنّي أباهي بكم الأمم " وللبيهقيّ من حديث أبي أُمامة " تزوّجوا، فإنّي مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانيّة النّصارى ". وورد " فإنّي مكاثر بكم " أيضاً من حديث الصّنابحيّ وابن الأعسر ومعقل بن يسار وسهل بن حنيفٍ وحرملة بن النّعمان وعائشة وعياض بن غنمٍ ومعاوية بن حيدة وغيرهم. وأمّا حديث " لا رهبانيّة في الإسلام " فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقّاص عند الطّبرانيّ: إنّ الله أبدلنا بالرّهبانيّة الحنيفيّة السّمحة. وعن ابن عبّاس رفعه: لا صرورة في الإسلام. أخرجه أحمد وأبو داود وصحَّحه الحاكم. وفي الباب حديث النّهي عن التّبتّل. (¬1)، وحديث: من كان موسراً فلم ينكح فليس منّا. أخرجه الدّارميّ والبيهقيّ من حديث ابن أبي نجيح. وجزم بأنّه مرسل، وقد أورده البغويّ في " معجم الصّحابة " وحديث طاوسٍ: قال عمر بن الخطّاب لأبي الزّوائد: إنّما يمنعك من التّزويج عجْزٌ أو فجور. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وفي حديث عائشة: النّكاح سنّتي، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي. وأخرج الحاكم من حديث أنس رفعه: من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتّق الله في الشّطر الثّاني. ¬

_ (¬1) أخرجه الشيخان من حديث سعد بن أبي وقاص. وسيأتي إن شاء الله رقم (307).

وهذه الأحاديث - وإن كان في الكثير منها ضعف - فمجموعها يدلّ على أنّ لِمَا يحصل به المقصود من التّرغيب في التّزويج أصلاً، لكن في حقّ من يتأتّى منه النّسل كما تقدّم. والله أعلم. وفي الحديث أيضاً إرشاد العاجز عن مؤن النّكاح إلى الصّوم، لأنّ شهوة النّكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوّته وتضعف بضعفه. واستدل به الخطّابيّ. على جواز المعالجة لقطع شهوة النّكاح بالأدوية، وحكاه البغويّ في " شرح السّنّة "، وينبغي أن يحمل على دواء يسكّن الشّهوة دون ما يقطعها أصالة لأنّه قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقّه. وقد صرّح الشّافعيّة: بأنّه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجّة فيه أنّهم اتّفقوا على منع الجبّ والخصاء فيلحق بذلك ما في معناه من التّداوي بالقطع أصلاً. واستدل به الخطّابيّ أيضاً. على أنّ المقصود من النّكاح الوطء , ولهذا شرع الخِيَار في العنّة. وفيه الحثّ على غضّ البصر وتحصين الفرج بكل ممكن وعدم التّكليف بغير المستطاع، ويؤخذ منه أنّ حظوظ النّفوس والشّهوات لا تتقدّم على أحكام الشّرع بل هي دائرة معها. واستنبط القرافيّ من قوله " فإنّه له وجاء " أنّ التّشريك في العبادة لا يقدح فيها بخلاف الرّياء، لأنّه أمر بالصّوم الذي هو قربة وهو بهذا القصد صحيح مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه لتحصيل

غضّ البصر وكفّ الفرج عن الوقوع في المحرّم. انتهى. فإن أراد تشريك عبادة بعبادةٍ أخرى فهو كذلك وليس محلّ النّزاع. وإن أراد تشريك العبادة بأمرٍ مباح فليس في الحديث ما يساعده. واستدل به بعض المالكيّة. على تحريم الاستمناء لأنّه أرشد عند العجَزَ عن التّزويج إلى الصّوم الذي يقطع الشّهوة، فلو كان الاستمناء مباحاً لكان الإرشاد إليه أسهل. وتعقّب: دعوى كونه أسهل , لأنّ التّرك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناءَ طائفةٌ من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفيّة لأجل تسكين الشّهوة. وفي قول عثمان لابن مسعود " ألا نزوّجك شابّة " (¬1) استحباب نكاح الشّابّة , ولا سيّما إن كانت بكراً. ¬

_ (¬1) هذه إحدى روايات مسلم. وقد تقدَّم لفظه في تخريج الحديث.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 306 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أنّ نفراً من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، سألوا أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السرّ، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراشٍ. فبلغ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكني أُصلِّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (¬1). قوله: (أنّ نفراً من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري من رواية حميد عن أنس " جاء ثلاثة رهط " ولا منافاة بينهما فالرّهط من ثلاثة إلى عشرة، والنّفر من ثلاثة إلى تسعة، وكلّ منهما اسم جمع لا واحد له من لفظه. ووقع في مرسل سعيد بن المسيّب عند عبد الرّزّاق , أنّ الثّلاثة المذكورين هم عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون. وعند ابن مردويه من طريق الحسن العدنيّ: كان عليّ في أناس ممّن أرادوا أن يحرّموا الشّهوات , فنزلت الآية في المائدة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1401) من رواية حمّاد عن ثابت عن أنس. وأخرجه البخاري (4776) من طريق محمد بن جعفر عن حميد أنس نحوه.

ووقع في " أسباب الواحديّ " بغير إسناد , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر النّاس وخوّفهم، فاجتمع عشرة من الصّحابة - وهم أبو بكر وعمر وعليّ وابن مسعود وأبو ذرّ وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرّن - في بيت عثمان بن مظعون، فاتّفقوا على أن يصوموا النّهار ويقوموا الليل , ولا يناموا على الفرش , ولا يأكلوا اللحم , ولا يقربوا النّساء ويجبّوا مذاكيرهم ". فإن كان هذا محفوظاً. احتمل أن يكون الرّهط الثّلاثة هم الذين باشروا السّؤال , فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة , ونسب تارة للجميع لاشتراكهم في طلبه. ويؤيّد أنّهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة , ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام , أنّه قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل الله، ويجاهد الرّوم حتّى يموت، فلقي ناساً بالمدينة فنهوه عن ذلك، وأخبروه أنّ رهطاً ستّة أرادوا ذلك في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم، فلمّا حدّثوه ذلك راجع امرأته , وكان قد طلَّقها. يعني بسبب ذلك. لكن في عدّ عبد الله بن عمرو معهم نظرٌ، لأنّ عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب. (¬1) ¬

_ (¬1) هاجر عبد الله بن عمرو بعد سنة سبع. كما قال الذهبي في السير. أمَّا عثمان فقد توفي سنة اثنين أو ثلاث من الهجرة. كما سيأتي في كلام الشارح. انظر ص 305.

قوله: (سألوا أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السرّ) وللبخاري " يسألون عن عبادة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلمّا أخبروهم كأنّهم تقالّوها , فقالوا: وأين نحن من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ". وقوله " تقالوها " بتشديد اللام المضمومة. أي: استقلوها، وأصل تقالّوها تقاللوها , أي: رأى كلّ منهم أنّها قليلة. والمعنى أنّ منْ لَّم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل، بخلاف من حصل له، لكن قد بيّن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ ذلك ليس بلازمٍ، فأشار إلى هذا بأنّه أشدّهم خشية وذلك بالنّسبة لمقام العبوديّة في جانب الرّبوبيّة. وأشار في حديث عائشة والمغيرة المتفق عليهما إلى معنىً آخر بقوله " أفلا أكون عبداً شكوراً ". قوله: (فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراشٍ) وللبخاري " قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبداً " وهو قيد لليل لا لأُصلِّي. وقوله " فلا أتزوّج أبداً " أكّد المُصلّي ومعتزل النّساء بالتّأبيد. ولَم يؤكّد الصّيام , لأنّه لا بدّ له من فطر الليالي. وكذا أيّام العيد.

وهذا ممّا يؤكّد زيادة عدد القائلين. لأنّ ترك أكل اللحم أخصّ من مداومة الصّيام، واستغراق الليل بالصّلاة أخصّ من ترك النّوم على الفراش. ويمكن التّوفيق بضروبٍ من التّجوّز. قوله: (فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه , وقال: ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا) وللبخاري " فجاء إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم .. ". ويُجمع بأنّه منع من ذلك عموماً جهراً مع عدم تعيينهم وخصوصاً فيما بينه وبينهم رفقاً بهم وستراً لهم. قوله: (لكنّي) استدراك من شيء محذوف دلَّ عليه السّياق , أي: أنا وأنتم بالنّسبة إليّ العبوديّة سواء، لكن أنا أعمل كذا. قوله: (أُصلِّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء) وللبخاري " أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له " قوله " أما " بتخفيف الميم حرف تنبيه , بخلاف قوله في أوّل الخبر " أمّا أنا " فإنّها بتشديد الميم للتّقسيم. وقوله " أخشاكم .. " فيه إشارة إلى ردّ ما بنوا عليه أمرهم من أنّ المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فأعلمهم أنّه مع كونه يبالغ في التّشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشدّدون , وإنّما كان كذلك لأنّ المشدّد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد , فأنّه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه. وقد أرشد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر " المنبتّ لا أرضاً

قطع , ولا ظهراً أبقى " (¬1). قوله: (فمن رغب عن سنّتي فليس منّي) المراد بالسّنّة الطّريقة لا التي تقابل الفرض، والرّغبة عن الشّيء الإعراض عنه إلى غيره. والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس منّي، ولَمَح بذلك إلى طريق الرّهبانيّة فإنّهم الذين ابتدعوا التّشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنّهم ما وفّوه بما التزموه. وطريقة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحنيفيّة السّمحة , فيفطر ليتقوّى على الصّوم , وينام ليتقوّى على القيام , ويتزوّج لكسر الشّهوة وإعفاف النّفس وتكثير النّسل. ¬

_ (¬1) أخرجه البزار كما في " كشف الأستار " (1/ 74) والحاكم في " علوم الحديث " (95) والبيهقي في " الكبرى " (3/ 18) وابن الأعرابي في " معجمه " (1835) وغيرهم من طريق أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإنَّ المنبتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى. قال الحاكم: هذا حديث غريبُ الإسناد والمتن. قال الهيثمي في " المجمع " (1/ 62): فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب. وقال الحافظ السخاوي في " المقاصد " (1/ 207): وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة في إرساله ووصله وفي رفعه ووقفه، ثم في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمر , وقال الدارقطني: ليس فيها حديث ثابت، ورجَّح البخاري في " تاريخه " من حديث ابن المنكدر الارسال. ثم ذكر السخاوي شواهده. وكلّها ضعيفه فراجعه. قال الحافظ في " الفتح " (11/ 297): المنبت , بنون ثم موحدة ثم مثناة ثقيلة. أي: الذي عطب مركوبه من شدة السير. مأخوذ من البت وهو القطع , أي: صار منقطعاً لَم يصل إلى مقصوده وفَقَدَ مركوبه الذي كان يوصله لو رفق به , وقوله: (أوغل) بكسر المعجمة من الوغول. وهو الدخول في الشيء.

وقوله " فليس منّي " إن كانت الرّغبة بضربٍ من التّأويل يعذر صاحبه فيه فمعنى " فليس منّي " أي: على طريقتي , ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضاً وتنطّعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحيّة عمله. فمعنى " فليس منّي " ليس على ملتي , لأنّ اعتقاد ذلك نوع من الكفر. وفي الحديث دلالة على فضل النّكاح والتّرغيب فيه، وقد اختلف فيه. القول الأول: قال الشّافعيّة: ليس عبادة، ولهذا لو نذره لَم ينعقد. القول الثاني: قال الحنفيّة: هو عبادة. والتّحقيق أنّ الصّورة التي يستحبّ فيها النّكاح - كما تقدّم بيانه - تستلزم أن يكون حينئذٍ عبادة، فمن نفى نظر إليه في حدّ ذاته , ومن أثبت نظرَ إلى الصّورة المخصوصة. وفي الحديث تتبّع أحول الأكابر للتّأسّي بأفعالهم , وأنّه إذا تعذّرت معرفته من الرّجال جاز استكشافه من النّساء، وأنّ من عزم على عمل برّ واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرّياء لَم يكن ذلك ممنوعاً. وفيه تقديم الحمد والثّناء على الله عند إلقاء مسائل العلم , وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشّبهة عن المجتهدين، وأنّ المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب. وقال الطّبريّ: فيه الرّدّ على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وآثر غليظ الثّياب وخشن المأكل.

قال عياض: هذا ممّا اختلف فيه السّلف. فمنهم من نحا إلى ما قال الطّبريّ. ومنهم من عكس , واحتجّ بقوله تعالى (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا) قال: والحقّ أنّ هذه الآية في الكفّار , وقد أخذ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالأمرين. قلت: لا يدلّ ذلك لأحد الفريقين إن كان المراد المداومة على إحدى الصّفتين، والحقّ أنّ ملازمة استعمال الطّيّبات تفضي إلى التّرفّه والبطر ولا يأمن من الوقوع في الشّبهات , لأنّ من اعتاد ذلك قد لا يجده أحياناً فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور , كما أنّ منع تناول ذلك أحياناً يفضي إلى التّنطّع المنهيّ عنه. ويردّ عليه صريح قوله تعالى (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق) كما أنّ الأخذ بالتّشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلاً , وترك التّنفّل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النّشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط. وفي قوله " إنّي لأخشاكم لله " مع ما انضمّ إليه إشارة إلى ذلك. وفيه أيضاً إشارة إلى أنّ العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقّه أعظم قدراً من مجرّد العبادة البدنيّة، والله أعلم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 307 - عن سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - قال: ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعونٍ التّبتّل، ولو أذن له لاختصينا. (¬1) قال المصنف: التبتل: ترك النكاح , ومنه قيل لمريم: البتُول. قوله: (عن سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه -) وهو سعد بن مالك الزهري أحد العشرة يكنى أبا إسحاق. اسم أبي وقاص مالك بن وهيب - ويقال أهيب - ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب بن مرة، وعدد ما بينهما من الآباء متقارب. وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تُسلم. مات بالعقيق سنة خمس وخمسين , وقيل: بعد ذلك إلى ثمانية وخمسين، وعاش نحواً من ثمانين سنة. وكان آخر من مات من البدريِّين , وروى البخاري عنه قال: جَمعَ لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبويه يوم أُحد. قوله: (عثمان بن مظعونٍ) كان عثمان من السّابقين إلى الإسلام، كنيته أبو السّائب، وكانت وفاته في ذي الحجّة سنة اثنتين (¬2) من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4786) ومسلم (1402) من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬2) هكذا جزم في كتاب النكاح باب ما يُكره من التبتل. وكذا في كتابه الإصابة. مَّا في كتاب الرؤيا في باب العين الجارية في المنام. فقال: كانت وفاته في شعبان سنة ثلاث من الهجرة. أرخه ابن سعد وغيره.

الهجرة، وهو أوّل من دُفن بالبقيع. قوله: (التّبتّل) المراد به هنا الانقطاع عن النّكاح وما يتّبعه من الملاذ إلى العبادة. وأمّا المأمور به في قوله تعالى (وتبتّل إليه تبتيلاً) فقد فسّره مجاهد فقال: أخلص له إخلاصاً، وهو تفسير معنىً، وإلا فأصل التّبتّل الانقطاع، والمعنى انقطع إليه انقطاعاً. لكن لَمَّا كانت حقيقة الانقطاع إلى الله إنّما تقع بإخلاص العبادة له فسّرها بذلك. ومنه " صدقة بتلة " أي: منقطعة عن الملك، ومريم البتول لانقطاعها عن التّزويج إلى العبادة , وقيل لفاطمة البتول , إمّا لانقطاعها عن الأزواج غير عليّ , أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشّرف. قوله: (ولو أذن له لاختصينا) الخصاء هو الشّقّ على الأنثيين وانتزاعهما، وإنّما قال البخاري باب " ما يكره من التّبتّل والخصاء " للإشارة إلى أنّ الذي يكره من التّبتّل هو الذي يفضي إلى التّنطّع وتحريم ما أحل الله , وليس التّبتّل من أصله مكروهاً، وعطف الخصاء عليه , لأنّ بعضه يجوز في الحيوان المأكول. ولمسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ " أراد عثمان بن مظعون أن يتبتّل، فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فعرف أنّ معنى قوله " ردّ على عثمان " أي: لَم يأذن له بل نهاه. وهو نهي تحريمٍ بلا خلاف في بني آدم. وأخرج الطّبرانيّ من حديث عثمان بن مظعون نفسه , أنّه قال: يا

رسولَ الله. إنّي رجل يشقّ عليَّ العزوبة، فأذن لي في الخصاء. قال: لا، ولكن عليك بالصّيام " الحديث. ومن طريق سعيد بن العاص , أنّ عثمان قال: يا رسولَ الله ائذن لي في الاختصاء، فقال: إنّ الله قد أبدلنا بالرّهبانيّة الحنيفيّة السّمحة. وأخرج الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس قال: شكا رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزوبة فقال: ألا أختصي؟ قال: ليس منّا من خصى أو اختصى. فيحتمل: أن يكون الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقة فعبّر عنه الرّاوي بالتّبتّل لأنّه ينشأ عنه، فلذلك قال " ولو أذن له لاختصينا ". ويحتمل: عكسه. وهو أنّ المراد بقول سعد " ولو أذن له لاختصينا " لفعلنا فعل من يختصي. وهو الانقطاع عن النّساء. قال الطّبريّ: التّبتّل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النّساء والطّيب وكلّ ما يلتذّ به، فلهذا أنزل في حقّه (يا أيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم) وقد تقدّم في حديث أنس - رضي الله عنه - (¬1) تسمية من أراد ذلك مع عثمان بن مظعون ومن وافقه. وقال الطّيبيّ: قوله " ولو أذن له لاختصينا " كان الظّاهر أن يقول. ولو أذن له لتبتّلنا، لكنّه عدل عن هذا الظّاهر إلى قوله " لاختصينا " ¬

_ (¬1) انظر الحديث الماضي.

لإرادة المبالغة، أي: لبالغنا في التّبتّل حتّى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء، ولَم يرد به حقيقة الاختصاء لأنّه حرام. وقيل: بل هو على ظاهره، وكان ذلك قبل النّهي عن الاختصاء. ويؤيّده توارد استئذان جماعة من الصّحابة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما. وإنّما كان التّعبير بالخصاء أبلغ من التّعبير بالتّبتّل لأنّ وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشّهوة، ووجود الشّهوة ينافي المراد من التّبتّل، فيتعيّن الخصاء طريقاً إلى تحصيل المطلوب. وغايته أنّ فيه أَلَماً عظيماً في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد الأكلة صيانة لبقيّة اليد، وليس الهلاك بالخصاء محقّقاً بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعل الرّاوي عبّر بالخصاء عن الجبّ لأنّه هو الذي يحصّل المقصود. والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النّسل ليستمرّ جهاد الكفّار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النّسل فيقلّ المسلمون بانقطاعه ويكثر الكفّار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمّديّة. وفيه أيضاً من المفاسد تعذيب النّفس والتّشويه مع إدخال الضّرر الذي قد يفضي إلى الهلاك. وفيه إبطال معنى الرّجوليّة وتغيير خلق الله وكفر النّعمة، لأنّ خلق الشّخص رجلاً من النّعم العظيمة فإذا أزال

ذلك فقد تشبّه بالمرأة واختار النّقص على الكمال. قال القرطبيّ: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلَّا لمنفعةٍ حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه. وقال النّوويّ: يحرم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقاً، وأمّا المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره. وما أظنّه يدفع ما ذكره القرطبيّ من إباحة ذلك في الحيوان الكبير عند إزالة الضّرر.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 308 - عن أمّ حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما، أنها قالت: يا رسولَ الله. انكح أختي ابنة أبي سفيان، فقال: أَوَ تُحبِّين ذلك؟. فقلت: نعم، لست لك بِمُخْلِيةٍ، وأحبُّ من شاركني في خيرٍ أختي، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ ذلك لا يَحلُّ لي، قالت: فإنا نُحدّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أمّ سلمة؟! قلت: نعم، فقال: إنها لو لَم تكن ربيبتي في حجري، ما حلَّت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثُويبةُ، فلا تعرضنَّ عليّ بناتكنّ ولا أخواتكنّ. قال عروة: وثويبة مولاةٌ لأبي لهبٍ، كان أبو لهبٍ أعتقها، فأرضعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات أبو لهبٍ أُرِيَه بعض أهله بشرّ حيبةٍ، قال له: ماذا لقيت؟. قال أبو لهبٍ: لَم ألق بعدكم خيراً، غير أني سُقيت في هذه. بعتاقتي ثويبة. (¬1) قال المصنف: الْحِيبة: بكسر الحاء المهملة: الحال. قوله: (عن أمّ حبيبة بنت أبي سفيان) رملة بنت أبي سفيان الأموية. هاجرت في الهجرة الثانية مع زوجها عبيد الله بن جحش فمات هناك، ويقال: إنه قد تنصر، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4813 , 4817 , 4818 , 5057) ومسلم (1449) من طريق الزهري وهشام عن عروة عن زينب عن أم حبيبة رضي الله عنها. وللبخاري (4831) من طريق عراك بن مالك عن زينب بنت أبي سلمة. مختصراً. (¬2) وُلدت قبل البعثة بسبعة عشر عاماً. وأخرج ابن سعد من طريق عوف بن الحارث عن عائشة , قالت: دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فتحللينني من ذلك. فحللتها واستغفرت لها , فقالت لي: سررتني سرَّك الله وأرسلتْ إلى أم سلمة بمثل ذلك. وماتت بالمدينة سنة 44 جزم بذلك ابن سعد وأبو عبيد , وقال ابن حبان وابن قانع: سنة اثنتين , وقال ابن أبي خيثمة: سنة 59. وهو بعيد. والله أعلم. قاله في الإصابة.

قوله: (انكح أختي) أي: تزوّج. قوله: (بنت أبي سفيان) في رواية يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عند مسلم والنّسائيّ في هذا الحديث " انكح أختي عزّة بنت أبي سفيان " ولابن ماجه من هذا الوجه " انكح أختي عزّة ". وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث عند الطّبرانيّ " أنّها قالت: يا رسولَ الله هل لك في حمنة بنت أبي سفيان؟ قال: أصنع ماذا؟ قالت: تنكحها. وقد أخرجه البخاري من رواية هشام , لكن لَم يسمّ بنت أبي سفيان، ولفظه " فقال: فأفعل ماذا؟ ". وفيه شاهد على جواز تقديم الفعل على " ما " الاستفهاميَّة خلافاً لمن أنكره من النّحاة. وعند أبي موسى في " الذّيل " درّة بنت أبي سفيان، وهذا وقع في رواية الحميديّ في " مسنده " عن سفيان عن هشام، وأخرجه أبو نعيم والبيهقيّ من طريق الحميديّ , وقالا: أخرجه البخاريّ عن الحميديّ.

وهو كما قالا. قد أخرجه عنه , لكن حذف هذا الاسم وكأنّه عمداً، وكذا وقع في هذه الرّواية زينب بنت أمّ سلمة , وحذفه البخاريّ أيضاً منها , ثمّ نبّه على أنّ الصّواب درّة، وجزم المنذريّ بأنّ اسمها حمنة كما في الطّبرانيّ. وقال عياض: لا نعلم لعزّة ذكراً في بنات أبي سفيان إلَّا في رواية يزيد بن أبي حبيب، وقال أبو موسى: الأشهر فيها عزّة. قوله: (أو تُحبّين ذلك؟) هو استفهام تعجّب من كونها تطلب أن يتزوّج غيرها مع ما طبع عليه النّساء من الغيرة. قوله: (لست لك بِمُخْلِيةٍ) بضمّ الميم وسكون المعجمة وكسر اللام اسم فاعل من أخلى يخلي، أي: لست بمنفردةٍ بك , ولا خالية من ضرّة. وقال بعضهم: هو بوزن فاعل الإخلاء متعدّياً ولازماً، من أخليت بمعنى خلوت من الضّرّة، أي: لست بمتفرّغةٍ ولا خالية من ضرّة، وفي بعض الرّوايات بفتح اللام بلفظ المفعول حكاها الكرمانيّ. وقال عياض: مخلية. أي: منفردة. يقال أخل أمرك وأخل به. أي: انفرد به، وقال صاحب النّهاية: معناه لَم أجدك خالياً من الزّوجات، وليس هو من قولهم امرأة مخلية إذا خلت من الأزواج. قوله: (وأحبّ من شاركني) مرفوع بالابتداء. أي: إليَّ، وفي رواية هشام عند البخاري " من شركني " بغير ألفٍ، وكذا عند

مسلم. قوله: (في خير) كذا للأكثر بالتّنكير. أيْ: أيّ خير كان، وفي رواية هشام " في الخير ". قيل: المراد به صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتضمّنة لسعادة الدّارين السّاترة لِمَا لعلَّه يعرض من الغيرة التي جرت بها العادة بين الزّوجات. لكن في رواية هشام المذكورة " وأحبّ من شركني فيك أختي " فعرف أنّ المراد بالخير ذاته - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (فإنّا نحدّث) بضمّ أوّله وفتح الحاء على البناء للمجهول، وفي رواية هشام المذكورة " قلت: بلغني " , وفي رواية عقيل عن ابن شهاب عن عروة عند البخاري " قلت: يا رسولَ الله. فوالله إنّا لنتحدّث " , وفي رواية زهير (¬1) عن هشام عند أبي داود " فوالله لقد أخبرت ". قوله: (أنّك تريد أن تنكح) في رواية هشام " بلغني أنّك تخطب " ولَم أقف على اسم من أخبر بذلك، ولعله كان من المنافقين , فإنّه قد ظهر أنّ الخبر لا أصل له. وهذا ممّا يُستدلّ به على ضعف المراسيل. قوله: (بنت أبي سلمة) في رواية عقيل , وكذا أخرجه الطّبرانيّ من طريق ابن أخي الزّهريّ عن الزّهريّ , ومن طريق معمر عن هشام بن ¬

_ (¬1) وقع في نسخ الفتح " وهب " والتصويب من سنن أبي داود (2056)

عروة عن أبيه , ومن طريق عراك عن زينب بنت أمّ سلمة " درّة بنت أبي سلمة " وهي بضمّ المهملة وتشديد الرّاء، وفي رواية حكاها عياض , وخطّأها بفتح المعجمة. وعند أبي داود من طريق هشام عن أبيه عن زينب عن أمّ سلمة درّة أو " ذرّة " على الشّكّ، شكّ زهير راوية عن هشام. ووقع عند البيهقيّ من رواية الحميديّ عن سفيان عن هشام " بلغني أنّك تخطب زينب بنت أبي سلمة " وقد تقدّم التّنبيه على خطئه. ووقع عند أبي موسى في " ذيل المعرفة " حمنة بنت أبي سلمة , وهو خطأ. وقوله " بنت أمّ سلمة؟ " هو استفهام استثبات لرفع الإشكال، أو استفهام إنكار، والمعنى أنّها إن كانت بنت أبي سلمة من أمّ سلمة فيكون تحريمها من وجهين كما سيأتي بيانه، وإن كانت من غيرها فمن وجه واحد. وكأنّ أمّ حبيبة لَم تطّلع على تحريم ذلك. إمّا لأنّ ذلك كان قبل نزول آية التّحريم. وإمّا بعد ذلك وظنّت أنّه من خصائص النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كذا قال الكرمانيّ. والاحتمال الثّاني هو المعتمد، والأوّل يدفعه سياق الحديث، وكأنّ أمّ حبيبة استدلت على جواز الجمع بين الأختين بجواز الجمع بين المرأة وابنتها بطريق الأولى، لأنّ الرّبيبة حرمت على التّأبيد والأخت

حرمت في صورة الجمع فقط، فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بأنّ ذلك لا يحلّ، وأنّ الذي بلغها من ذلك ليس بحقٍّ، وأنّها تحرم عليه من جهتين. قوله: (قال: بنت أمّ سلمة؟) إنّما استثبتها في ذلك ليترتّب عليه الحكم، لأنّ بنت أبي سلمة من غير أمّ سلمة تحلّ له لو لَم يكن أبو سلمة رضيعه، لأنّها ليست ربيبة، بخلاف بنت أبي سلمة من أمّ سلمة. قوله: (لو أنّها لَم تكن ربيبتي في حجري ما حلَّت لي) قال القرطبيّ: فيه تعليل الحكم بعلتين، فإنّه علَّل تحريمها بكونها ربيبة وبكونها بنت أخ من الرّضاعة. كذا قال، والذي يظهر أنّه نبّه على أنّها لو كان بها مانع واحد لكفى في التّحريم. فكيف وبها مانعان؟. فليس من التّعليل بعلتين في شيء، لأنّ كلّ وصفين يجوز أن يضاف الحكم إلى كلّ منهما لو انفرد. فإمّا أن يتعاقبا فيضاف الحكم إلى الأوّل منهما كما في السّببين إذا اجتمعا. ومثاله لو أحدث ثمّ أحدث بغير تخلل طهارة. فالحدث الثّاني لَم يعمل شيئاً , أو يضاف الحكم إلى الثّاني كما في اجتماع السّبب والمباشرة، وقد يضاف إلى أشبههما وأنسبهما سواء كان الأوّل أم الثّاني. فعلى كلّ تقدير لا يضاف إليهما جميعاً، وإن قدّر أنّه يوجد فالإضافة إلى المجموع , ويكون كلّ منهما جزء عِلَّة لا عِلَّة مستقلة فلا تجتمع علتان على معلول واحد، هذا الذي يظهر.

والمسألة مشهورة في الأصول وفيها خلاف. قال القرطبيّ: والصّحيح جوازه لهذا الحديث وغيره. وفي الحديث إشارة إلى أنّ التّحريم بالرّبيبة أشدّ من التّحريم بالرّضاعة. قوله: (ربيبتي) أي: بنت زوجتي، مشتقّة من الرّبّ وهو الإصلاح , لأنّه يقوم بأمرها. وقيل: من التّربية. وهو غلط من جهة الاشتقاق. وقوله: (في حجري) راعى فيه لفظ الآية. وإلَّا فلا مفهوم له، كذا عند الجمهور. وأنّه خرج مخرج الغالب. وفيه خلاف قديم. أخرجه عبد الرّزّاق وابن المنذر وغيرهما من طريق إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت فوجدت عليها، فلقيت عليّ بن أبي طالب فقال لي: ما لَكَ؟ فأخبرته، فقال: ألها ابنة؟ يعني من غيرك، قلت: نعم , قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي في الطّائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى (وربائبكم) قال: إنّها لَم تكن في حجرك. وقد دفع بعض المتأخّرين هذا الأثر , وادّعى نفي ثبوته بأنّ إبراهيم بن عبيد لا يُعرف. وهو عجيب، فإنّ الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في " تفسيره " من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، وإبراهيم ثقة تابعيّ معروف، وأبوه وجدّه صحابيّان، والأثر صحيح عن عليّ. وكذا صحّ عن عمر , أنّه أفتى من سأله إذ تزوّج بنت رجل كانت

تحته جدّتها ولَم تكن البنت في حجره. أخرجه أبو عبيد. وهذا - وإن كان الجمهور على خلافه - فقد احتجّ أبو عبيد للجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تعرضن عليّ بناتكنّ. قال: ولَم يقيّد بالحجر. وهذا فيه نظرٌ , لأنّ المطلق محمول على المقيّد، ولولا الإجماع الحادث في المسألة وندرة المخالف لكان الأخذ به أولى. لأنّ التّحريم جاء مشروطاً بأمرين: الأمر الأول: أن تكون في الحجر. الأمر الثاني: أن يكون الذي يريد التّزويج قد دخل بالأمّ. (¬1) فلا تحرم بوجود أحد الشّرطين. واحتجّوا أيضاً: برواية عراك عن زينب بنت أمّ سلمة. عند الطّبرانيّ (¬2): لو أنّي لَم أنكح أمّ سلمة ما حلَّت لي، إنّ أباها أخي من الرّضاعة. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في موضع آخر: الدخول ففيه قولان. أحدهما: أن المراد به الجماع. وهو أصح قولي الشافعي. والقول الآخر: وهو قول الأئمة الثلاثة. المراد به الخلوة. روى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. في قوله تعالى (اللاتي دخلتم بهن) قال: الدخول النكاح , وروى عبد الرزاق من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال ابن عباس: الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس الجماع , إلاّ أنَّ الله حيي كريم يُكني بما شاء عما شاء. وسنده صحيح. انتهى بتجوز. (¬2) كذا عزاه الشارح للطبراني. وهي عند البخاري أيضاً في " صحيحه " (باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير) رقم (4831) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عراك به.

ووقع في رواية ابن عيينة عن هشام عند البخاري " والله لو لَم تكن ربيبتي ما حلَّت لي " فذكر ابن حزم: أنّ منهم من احتجّ به على أن لا فرق بين اشتراط كونها في الحجر أو لا. وهو ضعيف لأنّ القصّة واحدة , والذين زادوا فيها لفظ " في حجري " حفّاظ أثبات , وفي أكثر طرقه " لو لَم تكن ربيبتي في حجري " فقيّد بالحجر كما قيّد به القرآن فقوي اعتباره، والله أعلم. قوله: (أرضعتني وأبا سلمة) أي: أرضعت أبا سلمة، وهو من تقديم المفعول على الفاعل. وأبو سلمة. هو ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسم أبي سلمة عبد الله. زوجُ أمِّ سلمة أم المؤمنين قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (ثويبةُ) بمثلثةٍ وموحّدة ومصغّر، كانت مولاة لأبي لهب بن عبد المطّلب عمّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في الحديث. وثويبة بالرفع. والمعنى أرضعتني ثويبة وأرضعت والد درّة بنت أبي سلمة، وقد وقع التّصريح بذلك فقال " أرضعتني وأبا سلمة ". وإنّما نبّهت على ذلك , لأنّ صاحب " المشارق " نقل أنّ بعض الرّواة عن أبي ذرّ رواها بكسر الهمزة وتشديد التّحتانيّة. فصحّف. ويكفي في الرّدّ عليه قوله " إنّها ابنة أخي من الرّضاعة " ووقع في روايةٍ لمسلمٍ " أرضعتني وأباها أبا سلمة ".

ووجه إيراد الحديث في أبواب النفقات (¬1) الإشارة إلى أنَّ إرضاع الأم ليس متحتماً , بل لها أن ترضع ولها أن تمتنع. فإذا امتنعت فإنَّ للأب أو الولي إرضاع الولد بالأجنبية حرةً كانت أو أمةً متبرعةً كانت أو بأجرةٍ , والاجرة تدخل في النفقة. قال ابن بطّالٍ: كانت العرب تكره رضاع الإماء , وترغب في رضاع العربيّة لنجابة الولد، فأعلمهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قد رضع من غير العرب وأنجب , وأنّ رضاع الإماء لا يهجّن. انتهى. وهو معنى حسن إلَّا أنه لا يفيد الجواب عن السؤال الذي أوردتُه , وكذا قول بن المنير: أشار البخاري إلى أنَّ حرمة الرضاع تنتشر سواء كانت المرضعة حرة أم أمة. والله أعلم قوله: (فلا تعرضنَّ) بفتح أوّله وسكون العين وكسر الرّاء بعدها معجمة ساكنة ثمّ نون على الخطاب لجماعة النّساء. وبكسر المعجمة وتشديد النّون خطاب لأمّ حبيبة وحدها، والأوّل أوجه. وقال ابن التّين: ضبط بضمّ الضّاد في بعض الأمّهات، ولا أعلم له وجهاً لأنّه إنْ كان الخطاب لجماعة النّساء - وهو الأبين - فهو بسكون الضّاد , لأنّه فعل مستقبل مبنيّ على أصله، ولو أدخلت عليه التّأكيد فشدّدت النّون لكان تعرضنانّ لأنّه يجتمع ثلاث نونات فيفرّق ¬

_ (¬1) أي: في صحيح البخاري حيث أورده في كتاب النفقات (باب المراضع من المواليات وغيرهن)

بينهنّ بألفٍ، وإن كان الخطاب لأمّ حبيبة خاصّة فتكون الضّاد مكسورة والنّون مشدّدة. وقال القرطبيّ: جاء بلفظ الجمع - وإن كانت القصّة لاثنين وهما أمّ حبيبة وأمّ سلمة - ردعاً وزجراً أن تعود واحدة منهما أو غيرهما إلى مثل ذلك، وهذا كما لو رأى رجلٌ امرأة تكلم رجلاً , فقال لها: أتكلمين الرّجال. فإنّه مستعمل شائع. وكان لأمّ سلمة من الأخوات قريبة زوج زمعة بن الأسود، وقريبة الصّغرى زوج عمر ثمّ معاوية، وعزّة بنت أبي أُميَّة زوج منبّه بن الحجّاج، ولها من البنات زينب راوية الخبر، ودرّة التي قيل إنّها مخطوبة. وكان لأمّ حبيبة من الأخوات هند زوج الحارث بن نوفل، وجويريّة زوج السّائب بن أبي حبيش، وأميمة زوج صفوان بن أُميَّة، وأمّ الحكم زوج عبد الله بن عثمان، وصخرة زوج سعيد بن الأخنس، وميمونة زوج عروة بن مسعود. ولها من البنات حبيبة. وقد روت عنها الحديث ولها صحبة , وكان لغيرهما من أمّهات المؤمنين من الأخوات أمّ كلثوم وأمّ حبيبة ابنتا زمعة أختا سودة، وأسماء أخت عائشة، وزينب بنت عمر أخت حفصة وغيرهنّ، والله أعلم. قوله: (ولا أخواتكنّ) الجمع بين الأختين في التّزويج حرام بالإجماع، سواء كانتا شقيقتين أم من أب أم من أمّ، وسواء النّسب

والرّضاع. واختلف فيما إذا كانتا بملك اليمين. القول الأول: أجازه بعض السّلف , وهو رواية عن أحمد القول الثاني: الجمهور، وفقهاء الأمصار على المنع. ونظيره الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها، وحكاه الثّوريّ عن الشّيعة. قوله: (قال عروة) هو بالإسناد المذكور، وقد علَّق البخاري طرفاً منه في آخر النّفقات فقال: قال شعيب عن الزّهريّ. قال عروة. فذكره. وأخرجه الإسماعيليّ من طريق الذّهليّ عن أبي اليمان بإسناده. قوله: (وثويبة مولاة لأبي لهب) ذكرها ابن منده في " الصّحابة " وقال: اختلف في إسلامها. وقال أبو نعيم: لا نعلم أحداً ذكر إسلامها غيره، والذي في السّير , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يكرمها، وكانت تدخل عليه بعدما تزوّج خديجة، وكان يرسل إليها الصّلة من المدينة، إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت , ومات ابنها مسروح. قوله: (وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) ظاهره أنّ عتقه لها كان قبل إرضاعها، والذي في السّير يخالفه، وهو أنّ أبا لهب أعتقها قبل الهجرة وذلك بعد الإرضاع بدهرٍ طويل. وحكى السّهيليّ أيضاً أنّ عتقها كان قبل الإرضاع، وسأذكر كلامه. قوله: (أُرِيَه) بضمّ الهمزة وكسر الرّاء وفتح التّحتانيّة على البناء

للمجهول. قوله: (بعضُ أهله) بالرّفع على أنّه النّائب عن الفاعل. وذكر السّهيليّ , أنّ العبّاس قال: لَمَّا مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شرّ حال فقال: ما لقيتُ بعدكم راحة، إلَّا أنّ العذاب يخفّف عنّي كلّ يوم اثنين، قال: وذلك أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشّرت أبا لهب بمولده فأعتقها. قوله: (بشرّ حِيبة) بكسر المهملة وسكون التّحتانيّة بعدها موحّدة. أي سوء حال، وقال ابن فارس: أصلها الحوبة وهي المسكنة والحاجة، فالياء في حيبة منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. ووقع في " شرح السّنّة للبغويّ " بفتح الحاء. ووقع عند المستملي بفتح الخاء المعجمة. أي: في حالة خائبة من كلّ خير. وقال ابن الجوزيّ: هو تصحيف. وقال القرطبيّ: يروى بالمعجمة، ووجدته في نسخة معتمدة بكسر المهملة وهو المعروف، وحكى في " المشارق " عن رواية المستملي بالجيم , ولا أظنّه إلَّا تصحيفاً، وهو تصحيف كما قال. قوله: (ماذا لقيت؟) أي: بعد الموت. قوله: (لَم ألق بعدكم، غير أنّي) كذا في الأصول بحذف المفعول، وفي رواية الإسماعيليّ " لَم ألق بعدكم رخاء " وعند عبد الرّزّاق عن معمر عن الزّهريّ " لَم ألق بعدكم راحة ". قال ابن بطّال: سقط المفعول من رواية البخاريّ، ولا يستقيم

الكلام إلَّا به. قوله: (غير أنّي سُقيت في هذه) كذا في الأصول بالحذف أيضاً، ووقع في رواية عبد الرّزّاق المذكورة " وأشار إلى النّقرة التي تحت إبهامه " وفي رواية الإسماعيليّ المذكورة " وأشار إلى النّقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع. وللبيهقيّ في " الدّلائل " مثله بلفظ " يعني النّقرة .. إلخ " وفي ذلك إشارة إلى حقارة ما سقي من الماء. قوله: (بعتاقتي) بفتح العين، في رواية عبد الرّزّاق " بعتقي " وهو أوجه والوجه الأولى أن يقول بإعتاقي، لأنّ المراد التّخليص من الرّقّ. وفي الحديث دلالة على أنّ الكافر قد ينفعه العمل الصّالح في الآخرة؛ لكنّه مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً). وأجيب: أوّلاً: بأنّ الخبر مرسلٌ أرسله عروة , ولَم يذكر من حدّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولاً فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجّة فيه، ولعل الذي رآها لَم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتجّ به. ثانياً: على تقدير القبول. فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مخصوصاً من ذلك، بدليل قصّة أبي طالب أنّه خفّف عنه فنقل من

الغمرات إلى الضّحضاح (¬1). وقال البيهقيّ: ما ورد من بطلان الخير للكفّار فمعناه أنّهم لا يكون لهم التّخلص من النّار ولا دخول الجنّة، ويجوز أن يخفّف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات. وأمّا عياض فقال: انعقد الإجماع على أنّ الكفّار لا تنفعهم أعمالهم , ولا يثابون عليها بنعيمٍ , ولا تخفيف عذاب؛ وإن كان بعضهم أشدّ عذاباً من بعض. قلت: وهذا لا يردّ الاحتمال الذي ذكره البيهقيّ، فإنّ جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأمّا ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه؟. وقال القرطبيّ: هذا التّخفيف خاصّ بهذا وبمن ورد النّصّ فيه. وقال ابن المنيّر في الحاشية: هنا قضيّتان. إحداهما: محال وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره، لأنّ شرط الطّاعة أن تقع بقصدٍ صحيح، وهذا مفقود من الكافر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3690) ومسلم (209) عن العباس بن عبد المطلب، أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار. قال الشارح: ضحضاح بمعجمتين ومهملتين هو استعارة فإن الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب , ويقال أيضاً لِمَا قرب من الماء. وهو ضد الغمرة. والمعنى أنه خفف عنه العذاب.

الثّانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضّلاً من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرّر ذلك لَم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضّل الله عليه بما شاء كما تفضّل على أبي طالب، والمتّبع في ذلك التّوقيف نفياً وإثباتاً. قلت: وتتمّة هذا أن يقع التّفضّل المذكور إكراماً لمن وقع من الكافر البرّ له ونحو ذلك، والله أعلم وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لِمَا فيه من النّفع العائد على المعروضة عليه، وأنّه لا استحياء في ذلك. وفيه أنّه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوّجاً.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 309 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها. (¬1) قوله: (لا يُجمعُ) ولمسلم من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة " لا تنكحُ .. " كلّه في الرّوايات بالرّفع على الخبر عن المشروعيّة وهو يتضمّن النّهي. قاله القرطبيّ. وللبخاري من طريق عاصم الأحول عن الشّعبيّ، سمع جابراً - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على عمّتها أو خالتها ". ثم قال البخاري: وقال داود وابن عونٍ عن الشّعبيّ، عن أبي هريرة. انتهى أمّا رواية داود - وهو ابن أبي هند - فوصلها أبو داود والتّرمذيّ والدّارميّ من طريقه قال: حدّثنا عامر هو الشّعبيّ أنبأنا أبو هريرة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تنكح المرأة على عمّتها. أو المرأة على خالتها، أو العمّة على بنت أخيها، أو الخالة على بنت أختها لا الصّغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصّغرى " لفظ الدّارميّ. والتّرمذيّ نحوه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4820) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (1804) عن القعنبي كلاهما عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (4821) ومسلم (1804) من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه.

ولفظ أبي داود " لا تُنكح المرأة على عمّتها , ولا على خالتها ". وأخرجه مسلم من وجه آخر عن داود بن أبي هند فقال: عن محمّد بن سيرين عن أبي هريرة. فكأنّ لداود فيه شيخين، وهو محفوظ لابن سيرين عن أبي هريرة من غير هذا الوجه. وأمّا رواية ابن عون - وهو عبد الله - فوصلها النّسائيّ من طريق خالد بن الحارث عنه بلفظ " لا تزوّج المرأة على عمّتها ولا على خالتها " ووقع لنا في " فوائد أبي محمّد بن أبي شُريح " من وجه آخر عن ابن عون بلفظ " نهى أن تنكح المرأة على ابنة أخيها , أو ابنة أختها ". والذي يظهر أنّ الطّريقين محفوظان، وقد رواه حمّاد بن سلمة عن عاصم عن الشّعبيّ عن جابر أو أبي هريرة , لكن نقل البيهقيّ عن الشّافعيّ: أنّ هذا الحديث لَم يرو من وجهٍ يثبته أهل الحديث إلَّا عن أبي هريرة، وروي من وجوه لا يثبتها أهل العلم بالحديث. قال البيهقيّ: هو كما قال، قد جاء من حديث عليّ وابن مسعود وابن عمر وابن عبّاس وعبد الله بن عمرو وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصّحيح، وإنّما اتّفقا على إثبات حديث أبي هريرة. وأخرج البخاريّ روايةَ عاصم عن الشّعبيّ عن جابر , وبيّن الاختلاف على الشّعبيّ فيه، قال: والحفّاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصّواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند. انتهى. وهذا الاختلاف لَم يقدح عند البخاريّ، لأنّ الشّعبيّ أشهر بجابر

منه بأبي هريرة، وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصّحيح. أخرجها النّسائيّ من طريق ابن جريجٍ عن أبي الزّبير عن جابر، والحديث محفوظ أيضاً من أوجهٍ عن أبي هريرة، فلكلٍّ من الطّريقين ما يعضّده. وقول من نقل البيهقيّ عنهم تضعيف حديث جابر , معارَض بتصحيح التّرمذيّ وابن حبّان وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاريّ له موصولاً قوّة. قال ابن عبد البرّ: كان بعض أهل الحديث يزعم أنّه لَم يرو هذا الحديث غير أبي هريرة - يعني من وجه يصحّ - وكأنّه لَم يصحّح حديث الشّعبيّ عن جابر , وصحَّحه عن أبي هريرة، والحديثان جميعاً صحيحان. وأمّا من نقل البيهقيّ , أنّهم رووه من الصّحابة غير هذين فقد ذكر مثل ذلك التّرمذيّ بقوله , " وفي الباب " , لكن لَم يذكر ابن مسعود , ولا ابن عبّاس , ولا أنساً، وزاد بدلهم أبا موسى وأبا أُمامة وسمرة. ووقع لي أيضاً من حديث أبي الدّرداء , ومن حديث عتّاب بن أسيد , ومن حديث سعد بن أبي وقّاص , ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود. فصار عدّة مَن رواه غير الأوّلين ثلاثة عشر نفساً، وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي داود والنّسائيّ وابن ماجه وأبي يعلى والبزّار والطّبرانيّ وابن حبّان وغيرهم.

ولولا خشية التّطويل لأوردتها مفصّلة. لكن في لفظ حديث ابن عبّاس عند ابن أبي داود , أنّه كره أن يجمع بين العمّة والخالة وبين العمّتين والخالتين، وفي روايته عند ابن حبّان " نهى أن تزوّج المرأة على العمّة والخالة، وقال: إنّكنّ إذا فعلتنّ ذلك قطعتنّ أرحامكنّ ". قال الشّافعيّ: تحريم الجمع بين من ذكر. هو قول من لقيته من المفتين لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال التّرمذيّ بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامّة أهل العلم. لا نعلم بينهم اختلافاً , أنّه لا يحلّ للرّجل أن يجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها , ولا أن تنكح المرأة على عمّتها أو خالتها. وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافاً اليوم، وإنّما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسّنّة واتّفق أهل العلم على القول به لَم يضرّه خلاف من خالفه. وكذا نقل الإجماع ابن عبد البرّ وابن حزم والقرطبيّ والنّوويّ. لكن استثنى ابن حزم عثمان البتّيّ. وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة - وهو بفتح الموحّدة وتشديد المثنّاة - واستثنى النّوويّ طائفة من الخوارج والشّيعة. واستثنى القرطبيّ الخوارج ولفظه: اختار الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمّتها وخالتها، ولا يعتدّ بخلافهم لأنّهم مرقوا من الدّين. انتهى.

وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بيّنٌ، فإنّ عمدتهم التّمسّك بأدلة القرآن لا يخالفونها البتّة , وإنّما يردّون الأحاديث لاعتقادهم عدم الثّقة بنقلتها، وتحريم الجمع بين الأختين بنصوص القرآن. ونقل ابن دقيق العيد تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها عن جمهور العلماء ولَم يعيّن المخالف. وقال النّوويّ: احتجّ الجمهور بهذه الأحاديث , وخصّوا بها عموم القرآن في قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) , وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، وانفصل صاحب الهداية من الحنفيّة عن ذلك بأنّ هذا من الأحاديث المشهورة التي تجوز الزّيادة على الكتاب بمثلها، والله أعلم قوله: (على عمّتها) ظاهره تخصيص المنع بما إذا تزوّج إحداهما على الأخرى، ويؤخذ منه منع تزويجهما معاً، فإن جمع بينهما بعقدٍ بطلا أو مرتّباً بطل الثّاني. فائدة: أخرج أبو داود وابن أبي شيبة من مرسل عيسى بن طلحة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة. وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن أبي بكر وعمر وعثمان , أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافةَ الضغائن. وقد نُقل العمل بذلك عن ابن أبي ليلى وعن زفر أيضا.

ولكن انعقد الإجماع على خلافه. وقاله ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما.

الحديث السادس

الحديث السادس 310 - عن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ أحقّ الشروط أنْ توفوا به، ما استحللتم به الفروج. (¬1) قوله: (عن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه -) الجهني. (¬2) قوله: (إنّ أحقّ الشروط أن توفوا به) وللبخاري من طريق ليث عن يزيد بن أبي حبيبٍ " أحقّ ما أوفيتم من الشّروط أن توفوا به ". ولمسلم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن يزيد " أحقّ الشّروط أن يوفى به " ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2572 , 4856) من طريق الليث , ومسلم (1418) من طريق عبد الحميد بن جعفر كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة - رضي الله عنه -. (¬2) الصحابي المشهور. روى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً. قال أبو سعيد بن يونس: كان قارئاً عالماً بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعراً كاتباً، وهو أحد من جمع القرآن، قال: ورأيت مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف عثمان، وفي آخره: كتبه عقبة بن عامر بيده. وفي صحيح مسلم عن عقبة: قدم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركتها ثم ذهبت إليه، فقلت: بايعني، فبايعني على الهجرة ... الحديث. وشهد عقبة بن عامر الفتوح، وكان هو البريد إلى عمر بفتح دمشق، وشهد صفّين مع معاوية، وأمّره بعد ذلك على مصر. وقال أبو عمر الكنديّ: جمع له معاوية في إمرة مصر بين الخراج والصلاة، فلمَّا أراد عزله كتب إليه أن يغزو رودس. فلمَّا توجّه سائراً استولى مسلمة، فبلغ عقبة، فقال: أغربة وعزلاً؟ وذلك في سنة سبع وأربعين. ومات في خلافة معاوية على الصحيح. قال خليفة في " تاريخه ": مات في سنة 58 عقبة بن عامر الجهنيّ. قاله في الإصابة بتجوز.

قوله: (ما استحللتم به الفروج) أي: أحقّ الشّروط بالوفاء شروط النّكاح , لأنّ أمره أحوط وبابه أضيق. وقال الخطّابيّ: الشّروط في النّكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتّفاقاً , وهو ما أمر الله به من إمساكٍ بمعروفٍ أو تسريح بإحسانٍ، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث. ومنها ما لا يوفى به اتّفاقاً كسؤال طلاق أختها، ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوّج عليها , أو لا يتسرّى , أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله. وعند الشّافعيّة الشّروط في النّكاح على ضربين: الضرب الأول: ما يرجع إلى الصّداق فيجب الوفاء به. الضرب الثاني: ما يكون خارجاً عنه فيختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلق بحقّ الزّوج، ومنه ما يشترطه العاقد لنفسه خارجاً عن الصّداق , وبعضهم يسمّيه الحلوان. فقيل: هو للمرأة مطلقاً , وهو قول عطاء وجماعة من التّابعين , وبه قال الثّوريّ وأبو عبيد. وقيل: هو لمن شرطه. قاله مسروق وعليّ بن الحسين. وقيل: يختصّ ذلك بالأب دون غيره من الأولياء. وقال الشّافعيّ: إن وقع نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجاً عنه لَم يجب. وقال مالك: إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجاً عنه فهو لمن وهب له.

وجاء ذلك في حديث مرفوع. أخرجه النّسائيّ من طريق ابن جريجٍ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أيّما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدّة قبل عصمة النّكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النّكاح فهو لمن أعطيه، وأحقّ ما أكرم به الرّجل ابنته أو أخته. وأخرجه البيهقيّ من طريق حجّاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة نحوه. وقال التّرمذيّ بعد تخريجه: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصّحابة منهم عمر قال: إذا تزوّج الرّجل المرأة وشرط أن لا يخرجها لزم. وبه يقول الشّافعيّ وأحمد وإسحاق. كذا قال، والنّقل في هذا عن الشّافعيّ غريبٌ، بل الحديث عندهم محمول على الشّروط التي لا تنافي مقتضى النّكاح , بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراطه العشرة بالمعروف والإنفاق والكسوة والسّكنى , وأن لا يقصّر في شيء من حقّها من قسمة ونحوها، وكشرطه عليها ألا تخرج إلَّا بإذنه , ولا تمنعه نفسها , ولا تتصرّف في متاعه إلَّا برضاه. ونحو ذلك. وأمّا شرط ينافي مقتضى النّكاح. كأن لا يقسم لها أو لا يتسرّى عليها أو لا ينفق أو نحو ذلك فلا يجب الوفاء به , بل إن وقع في صلب العقد كفى وصحّ النّكاح بمهر المثل. وفي وجهٍ: يجب المسمّى ولا أثر للشّرط، وفي قول للشّافعيّ: يبطل

النّكاح. وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشّرط مطلقاً. وقد استشكل ابن دقيق العيد حمل الحديث على الشّروط التي هي من مقتضيات النّكاح. قال: تلك الأمور لا تؤثّر الشّروط في إيجابها، فلا تشتدّ الحاجة إلى تعليق الحكم باشتراطها، وسياق الحديث يقتضي خلاف ذلك، لأنّ لفظ " أحقّ الشّروط " يقتضي أن يكون بعض الشّروط يقتضي الوفاء بها , وبعضها أشدّ اقتضاء، والشّروط هي من مقتضى العقد مستوية في وجوب الوفاء بها. قال التّرمذيّ: وقال عليٌّ سبق شرطُ الله شرطَها، قال: وهو قول الثّوريّ وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث الشّروط الجائزة لا المنهيّ عنها. انتهى وقد اختلف عن عمر، فروى ابن وهب بإسنادٍ جيّد عن عبيد بن السّبّاق , أنّ رجلاً تزوّج امرأة فشرط لها أن لا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشّرط , وقال: المرأة مع زوجها. وروى سعيد بن منصور من طريق إسماعيل بن عبيد الله - وهو ابن أبي المهاجر - عن عبد الرّحمن بن غنمٍ قال: كنت مع عمر حيث تمسّ ركبتي ركبته. فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين تزوّجت هذه وشرطتْ لها دارها، وإنّي أجمع لأمري أو لشأني أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: لها شرطها. فقال الرّجل: هلك الرّجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلِّق زوجها إلَّا طلقت. فقال عمر: المؤمنون على شروطهم

، عند مقاطع حقوقهم. ولابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من وجهٍ آخر عن ابن أبي المهاجر نحوه. وقال في آخر: فقال عمر: إنّ مقاطع الحقوق عند الشّروط، ولها ما اشترطت. قال أبو عبيد: تضادّت الرّوايات عن عمر في هذا. وقد قال بالقول الأوّل عمرو بن العاص، ومن التّابعين طاوسٌ وأبو الشّعثاء. وهو قول الأوزاعيّ. القول الثاني: قال الليث والثّوريّ والجمهور. بقول عليٍّ حتّى لو كان صداق مثلها مائة مثلاً فرضيت بخمسين على أن لا يخرجها فله إخراجها , ولا يلزمه إلَّا المسمّى. القول الثالث: قالت الحنفيّة: لها أن ترجع عليه بما نقصته له من الصّداق. القول الرابع: قال الشّافعيّ: يصحّ النّكاح ويلغُو الشّرط , ويلزمه مهر المثل , وعنه , يصحّ وتستحقّ الكلّ. وقال أبو عبيد: والذي نأخذ به أنّا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن يحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنّها لو اشترطت عليه أن لا يطأها لَم يجب الوفاء بذلك الشّرط , فكذلك هذا. وممّا يقوّي حمل حديث عقبة على النّدب حديث عائشة في قصّة بريرة " كلّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " والوطء والإسكان وغيرهما من حقوق الزّوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطاً

ليس في كتاب الله فيبطل. وقد تقدّمت الإشارة إلى حديث " المسلمون عند شروطهم، إلَّا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً " (¬1) وحديث " المسلمون عند شرطهم ما وافق الحقّ ". وأخرج الطّبرانيّ في " الصّغير " بإسنادٍ حسن عن جابر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خطب أمّ مبشّر بنت البراء بن معرور , فقالت: إنّي شرطت لزوجي أن لا أتزوّج بعده، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّ هذا لا يصلح. وقد ترجم المحبّ الطّبريّ على هذا الحديث " استحباب تقدّمة شيء من المهر قبل الدّخول " وفي انتزاعه من الحديث المذكور غموض، والله أعلم. ¬

_ (¬1) علّقه البخاري في " صحيحه " (باب أجر السمسرة) مختصراً " المسلمون عند شروطهم " قال الحافظ في " الفتح " (7/ 116): هذا أحد الأحاديث التي لَم يُوصلها البخاري في مكان آخر. وقد جاء من حديث عمرو بن عوف المزني , فأخرجه إسحاق في " مسنده " من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظه وزاد " إلَّا شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً " وكثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثر , لكن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوَّون أمره. وأما حديث أبي هريرة. فوصله أحمد وأبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح - وهو بموحدة - عن أبي هريرة بلفظه أيضاً دون زيادة كثير. فزاد بدلها " والصلح جائز بين المسلمين ". وهذه الزيادة. أخرجها الدارقطني والحاكم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة. ولابن أبي شيبة من طريق عطاء: بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمنون عند شروطهم "، وللدارقطني والحاكم من حديث عائشة مثله. وزاد " ما وافق الحق ". انتهى

الحديث السابع

الحديث السابع 311 - عن ابن عمر - رضي الله عنه -، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشّغار. والشغار: أن يزوّج الرجل ابنته على أن يزوّجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداقٌ. (¬1) قوله: (نهى عن الشّغار) في رواية ابن وهب عن مالك عن نافع عن ابن عمر " نهى عن نكاح الشّغار، ذكره ابن عبد البرّ، وهو مراد من حذفه. (¬2) قوله: (والشّغار أن يزوّج الرّجل ابنته .. إلخ) قال ابن عبد البرّ: ذَكَرَ تفسير الشّغار جميع رواة مالك عنه. قلت: ولا يرِدُ على إطلاقه أنّ أبا داود أخرجه عن القعنبيّ. فلم يذكر التّفسير، وكذا أخرجه التّرمذيّ من طريق معن بن عيسى , لأنّهما اختصرا ذلك في تصنيفهما، وإلَّا فقد أخرجه النّسائيّ من طريق معنٍ بالتّفسير، وكذا أخرجه الخطيب في " المدرج " من طريق القعنبيّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الصحيح " (4822) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (1415) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به. وأخرجه البخاري (6559) ومسلم (1415) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. زادا في رواية عبيد الله بن عمر قلت لنافع: ما الشغار. فذكره. وسيذكره الشارح. (¬2) وقعتْ هذه اللفظة أعني (نكاح) في تحقيق الأرنؤط , وهو خطأ فليس في الصحيحين تلك اللفظة.

نعم اختلف الرّواة عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشّغار. فالأكثر لَم ينسبوه لأحدٍ، ولهذا قال الشّافعيّ فيما حكاه البيهقيّ في " المعرفة ": لا أدري التّفسير عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك. ونسبه محرز بن عون وغيره لمالك. قال الخطيب: تفسير الشّغار ليس من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وإنّما هو قول مالك وُصِل بالمتن المرفوع، وقد بيّن ذلك ابن مهديّ والقعنبيّ ومحرز بن عون، ثمّ ساقه كذلك عنهم. ورواية محرز بن عون عند الإسماعيليّ والدّارقطنيّ في " الموطّآت " وأخرجه الدّارقطنيّ أيضاً من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال: سمعت أنّ الشّغار أن يزوّج الرّجل .. إلخ، وهذا دالٌ على أنّ التّفسير من منقول مالك لا من مقوله. ووقع عند البخاري في كتاب " ترك الحيل " من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث تفسير الشّغار من قول نافع , ولفظه " قال عبيد الله بن عمر: قلت لنافع: ما الشّغار؟ قال: ينكح ابنة الرّجل وينكحه ابنته بغير صداقٍ، وينكح أخت الرّجل وينكحه أخته بغير صداقٍ " فلعلَّ مالكاً أيضاً نقله عن نافع. وقال أبو الوليد الباجّي: الظّاهر أنّه من جملة الحديث، وعليه يحمل حتّى يتبيّن أنّه من قول الرّاوي وهو نافع. قلت: قد تبيّن ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لَم يرفعه أن لا يكون

في نفس الأمر مرفوعاً، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم من رواية أبي أسامة وابن نمير عن عبيد الله بن عمر أيضاً (¬1) عن أبي الزّناد عن الأعرج عن أبي هريرة مثله سواء. قال: وزاد ابن نمير " والشّغار أن يقول الرّجل للرّجل زوّجني ابنتك وأزوّجك ابنتي وزوّجني أختك وأزوّجك أختي " وهذا يحتمل: أن يكون من كلام عبيد الله بن عمر فيرجع إلى نافع. ويحتمل: أن يكون تلقّاه عن أبي الزّناد. ويؤيّد الاحتمال الثّاني. وروده في حديث أنس وجابر وغيرهما أيضاً. فأخرج عبد الرّزّاق عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس مرفوعاً: لا شغار في الإسلام، والشّغار أن يزوّج الرّجل الرّجل أخته بأخته. وروى البيهقيّ من طريق نافع بن يزيد عن ابن جريجٍ عن أبي الزّبير عن جابر مرفوعاً: نهي عن الشّغار، والشّغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه وبضع هذه صداق هذه. وأخرج أبو الشّيخ في " كتاب النّكاح " من حديث أبي ريحانة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول: زوِّج هذا من هذه , وهذه من هذا. بلا مهر. ¬

_ (¬1) مقصود الشارح بقوله (أيضاً) أن عبيد الله كما روى حديث الباب عن نافع عن ابن عمر , كذا أيضاً رواه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.

قال القرطبيّ: تفسير الشّغار صحيح موافق لِمَا ذكره أهل اللغة , فإن كان مرفوعاً فهو المقصود، وإن كان من قول الصّحابيّ فمقبول أيضاً , لأنّه أعلم بالمقال وأقعد بالحال. انتهى وقد اختلف الفقهاء. هل يُعتبر في الشّغار الممنوع؟. ظاهر الحديث في تفسيره، فإنّ فيه وصفين. أحدهما: تزويج من الوليّين وليّته للآخر بشرط أن يزوّجه وليّته. الثّاني: خلوّ بُضعِ كلٍّ منهما من الصّداق. فمنهم: من اعتبرهما معاً حتّى لا يمنع مثلاً إذا زوّج كلّ منهما الآخر بغير شرط وإن لَم يذكر الصّداق، أو زوّج كلّ منهما الآخر بالشّرط وذكر الصّداق. وذهب أكثر الشّافعيّة. إلى أنّ عِلَّة النّهي الاشتراك في البضع , لأنّ بضع كلّ منهما يصير مورد العقد، وجعل البضع صداقاً مخالف لا يراد عقد النّكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذكر الصّداق , لأنّ النّكاح يصحّ بدون تسمية الصّداق. واختلفوا فيما إذا لَم يصرّحا بذكر البضع. فالأصحّ عندهم الصّحّة، ولكن وجد نصّ الشّافعيّ على خلافه , ولفظه: إذا زوّج الرّجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت لآخر على أنّ صداق كلّ واحدة بضع الأخرى , أو على أن ينكحه الأخرى ولَم يسمّ أحدٌ منهما لواحدةٍ منهما صداقاً فهذا الشّغار الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منسوخ، هكذا ساقه البيهقيّ بإسناده الصّحيح

عن الشّافعيّ. قال: وهو الموافق للتّفسير المنقول في الحديث. واختلف نصّ الشّافعيّ فيما إذا سمّى مع ذلك مهراً. فنصّ في " الإملاء " على البطلان، وظاهر نصّه في " المختصر " الصّحّة، وعلى ذلك اقتصر في النّقل عن الشّافعيّ من ينقل الخلاف من أهل المذاهب. وقال القفّال: العلة في البطلان التّعليق والتّوقيف، فكأنّه يقول لا ينعقد لك نكاح بنتي حتّى ينعقد لي نكاح بنتك. وقال الخطّابيّ: كان ابن أبي هريرة يُشبِّه برجلٍ تزوّج امرأة ويستثني عضواً من أعضائها. وهو ممّا لا خلاف في فساده، وتقرير ذلك أنّه يزوّج وليّته , ويستثني بضعها حيث يجعله صداقاً للأخرى. وقال الغزاليّ في " الوسيط ": صورته الكاملة أن يقول زوّجتك ابنتي على أن تزوّجني ابنتك على أن يكون بضع كلّ واحدة منهما صداقاً للأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي انعقد نكاح ابنتك. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ " ينبغي أن يزاد: ولا يكون مع البضع شيء آخر ليكون متّفقاً على تحريمه في المذهب. ونقل الخرقيّ , أنّ أحمد نصّ على أنّ عِلَّة البطلان ترك ذكر المهر، ورجّح ابن تيمية في " المحرّر " أنّ العلة التّشريك في البضع. وقال ابن دقيق العيد: ما نصّ عليه أحمد هو ظاهر التّفسير المذكور في الحديث لقوله فيه " ولا صداق بينهما " فإنّه يشعر بأنّ جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك ذكر لملازمته لجهة الفساد.

ثمّ قال: وعلى الجملة ففيه شعور بأنّ عدم الصّداق له مدخل في النّهي، ويؤيّده حديث أبي ريحانة الذي تقدّم ذكره. وقال ابن عبد البرّ: أجمع العلماء على أنّ نكاح الشّغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحّته. القول الأول: الجمهور على البطلان. القول الثاني: في روايةٍ عن مالك: يفسخ قبل الدّخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ. القول الثالث: ذهب الحنفيّة: إلى صحّته ووجوب مهر المثل، وهو قول الزّهريّ ومكحول والثّوريّ والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول على مذهب الشّافعيّ، لاختلاف الجهة. لكن قال الشّافعيّ: إنّ النّساء محرّمات إلَّا ما أحل الله أو ملك يمين، فإذا ورد النّهي عن نكاح تأكّد التّحريم قال ابن بطّال: لا يكون البضع صداقاً عند أحد من العلماء , وإنّما قالوا: ينعقد النّكاح بمهر المثل إذا اجتمعت شروطه والصّداق ليس بركنٍ فيه، فهو كما لو عقد بغير صداق ثمّ ذكر الصّداق فصار ذكر البضع كلا ذكرٍ. انتهى. وهذا محصّل ما قاله أبو زيد وغيره من أئمّة الحنفيّة. وتعقّبه ابن السّمعانيّ فقال: ليس الشّغار إلَّا النّكاح الذي اختلفنا فيه , وقد ثبت النّهي عنه والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه , لأنّ العقد الشّرعيّ إنّما يجوز بالشّرع وإذا كان منهيّاً لَم يكن مشروعاً، ومن جهة

المعنى أنّه يمنع تمام الإيجاب في البضع للزّوج والنّكاح لا ينعقد إلَّا بإيجابٍ كامل. ووجه قولنا يمنع أنّ الذي أوجبه للزّوج نكاحاً هو الذي أوجبه للمرأة صداقاً، وإذا لَم يحصل كمال الإيجاب لا يصحّ فإنّه جعل عين ما أوجبه للزّوج صداقاً للمرأة فهو كمن جعل الشّيء لشخصٍ في عقد ثمّ جعل عينه لشخصٍ آخر فإنّه لا يكمل الجعل الأوّل. قال: ولا يعارض هذا ما لو زوّج أمته آخر. فإنّ الزّوج يملك التّمتّع بالفرج والسّيّد يملك رقبة الفرج بدليل أنّها لو وطئت بعدُ بشبهةٍ يكون المهر للسّيّد، والفرق أنّ الذي جعله السّيّد للزّوج لَم يبقه لنفسه , لأنّه ملك التّمتّع بالأمة للزّوج وما عدا ذلك باقٍ له، وفي مسألة الشّغار جعل ملك التّمتّع الذي جعله للزّوج بعينه صداقاً للمرأة الأخرى ورقبة البُضع لا تدخل تحت ملك اليمين حتّى يصحّ جعله صداقاً. تنبيهٌ: ذكر البنت في تفسير الشّغار مثال، وقد تقدّم في رواية أخرى ذكر الأخت. قال النّوويّ: أجمعوا على أنّ غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهنّ كالبنات في ذلك، والله أعلم تكميل: بوّب البخاريُّ على الحديث في كتاب الحيل " باب الحيلة في النكاح ". قال ابن المنير: إدخال البخاريّ الشّغار في باب الحيل مع أنّ القائل

بالجواز يبطل الشّغار ويوجب مهر المثل مشكلٌ، ويمكن أن يقال إنّه أخذه ممّا نقل أنّ العرب كانت تأنف من التّلفّظ بالنّكاح من جانب المرأة فرجعوا إلى التّلفّظ بالشّغار لوجود المساواة التي تدفع الأنفة، فمحا الشّرع رسم الجاهليّة فحرّم الشّغار وشدّد فيه ما لَم يشدّد في النّكاح الخالي عن ذكر الصّداق، فلو صحّحنا النّكاح بلفظ الشّغار وأوجبنا مهر المثل أبقينا غرض الجاهليّة بهذه الحيلة. انتهى. وفيه نظرٌ. لأنّ الذي نقله عن العرب لا أصل له، لأنّ الشّغار في العرب بالنّسبة إلى غيره قليل، وقضيّة ما ذكره أن تكون أنكحتهم كلّها كانت شغاراً لوجود الأنفة في جميعهم. والذي يظهر لي. أنّ الحيلة في الشّغار تتصوّر في موسر أراد تزويج بنت فقير فامتنع أو اشتطّ في المهر فخدعه بأن قال له: زوّجنيها وأنا أزوّجك بنتي فرغب الفقير في ذلك لسهولة ذلك عليه. فلمّا وقع العقد على ذلك وقيل له إنّ العقد يصحّ ويلزم لكلٍّ منهما مهر المثل , فإنّه يندم إذ لا قدرة له على مهر المثل لبنت الموسر وحصل للموسر مقصوده بالتّزويج لسهولة مهر المثل عليه، فإذا أبطل الشّغار من أصله بطلت هذه الحيلة.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 312 - عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المُتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحُمر الأهليّة. (¬1) قوله: (عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -) وللبخاري من طريق يحيى، عن عبيد الله بن عمر حدّثنا الزّهريّ , أنّ عليّاً - رضي الله عنه - قيل له: إنّ ابن عبّاسٍ لا يرى بمتعة النّساء بأساً، فقال: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى .. فذكره. وفي رواية الثّوريّ ويحيى بن سعيد كلاهما عن مالك عن الزهري عند الدّارقطنيّ " أنّ عليّاً سمع ابن عبّاس وهو يفتي في متعة النّساء فقال: أما علمت. وأخرجه سعيد بن منصور عن هشيمٍ " عن يحيى بن سعيد عن الزّهريّ بدون ذكر مالك. ولفظه " أنّ عليّاً مرّ بابن عبّاس وهو يفتي في متعة النّساء أنّه لا بأس بها ". ولمسلمٍ من طريق جويرية عن مالك بسنده , أنّه سمع عليّ بن أبي طالب يقول لفلانٍ: إنّك رجل تائه. وفي رواية الدّارقطنيّ من طريق الثّوريّ أيضاً " تكلَّم عليّ وابن عبّاس في متعة النّساء , فقال له عليّ: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3979 , 4825 , 5203 , 6560) ومسلم (1407) من طرق عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

إنّك امرؤ تائه " ولمسلمٍ من وجه آخر , أنّه سمع ابن عبّاس يلين في متعة النّساء , فقال له: مهلاً يا ابن عبّاس " ولأحمد من طريق معمر " رخّص في متعة النّساء ". قوله: (نهى عن نكاح المتعة) (¬1) المتعة تزويج المرأة إلى أجلٍ فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقد وردت عدّة أحاديث صحيحة صريحة بالنّهي عنها بعد الإذن فيها. وأقرب ما فيها عهداً بالوفاة النّبويّة. ما أخرجه أبو داود من طريق الزّهريّ قال: كنّا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النّساء، فقال رجلٌ يقال له ربيع بن سبرة: أشهد على أَبِي أنّه حدّث , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها في حجّة الوداع. وسأذكر الاختلاف في حديث سبرة هذا - وهو ابن معبد - بعدُ. وقد اختلف السّلف في نكاح المتعة. قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرّخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلَّا بعض الرّافضة، ولا معنى لقولٍ يخالف كتاب الله وسنّة رسوله. ¬

_ (¬1) فائدة: قال القاضي عياض في " مشارق الأنوار " (1/ 372): مُتعة النساء , ومُتعة الحج , ومُتعة المطلَّقة. كلها بضم الميم إلَّا ما حكى أبو علي عن الخليل في متعة الحج أنها بكسر الميم. والمعروف الضم. انتهى بتجوز.

وقال عياض: ثمّ وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلَّا الرّوافض. وأمّا ابن عبّاس فروي عنه أنّه أباحها، وروي عنه أنّه رجع عن ذلك. قال ابن بطّال: روى أهل مكّة واليمن عن ابن عبّاس إباحة المتعة، وروي عنه الرّجوع بأسانيد ضعيفة , وإجازة المتعة عنه أصحّ، وهو مذهب الشّيعة. قال: وأجمعوا على أنّه متى وقع الآن أبطل سواء كان قبل الدّخول أم بعده، إلَّا قول زفر إنّه جعلها كالشّروط الفاسدة، ويردّه قوله - صلى الله عليه وسلم -: فمن كان عنده منهنّ شيء فليخل سبيلها. قلت: وهو في حديث الرّبيع بن سبرة عن أبيه عند مسلم. وقال الخطّابيّ: تحريم المتعة كالإجماع إلَّا عن بعض الشّيعة، ولا يصحّ على قاعدتهم في الرّجوع في المختلفات إلى عليّ وآل بيته , فقد صحّ عن عليّ أنّها نسخت. ونقل البيهقيّ عن جعفر بن محمّد , أنّه سئل عن المتعة فقال: هي الزّنا بعينه. قال الخطّابيّ: ويُحكى عن ابن جريجٍ جوازها. انتهى. وقد نقل أبو عوانة في " صحيحه " عن ابن جريجٍ , أنّه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثاً. وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفيّة عن مالك من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكيّة في منع النّكاح المؤقّت حتّى أبطلوا توقيت الحلّ بسببه فقالوا: لو علّق على وقت لا بدّ من مجيئه وقع الطّلاق الآن ,

لأنّه توقيت للحل فيكون في معنى نكاح المتعة. قال عياض: وأجمعوا على أنّ شرط البطلان التّصريح بالشّرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدّة صحّ نكاحه، إلَّا الأوزاعيّ فأبطله. واختلفوا هل يحدّ ناكح المتعة أو يعزّر؟. على قولين , مأخذهما أنّ الاتّفاق بعد الخلاف. هل يرفع الخلاف المتقدّم. وقال القرطبيّ: الرّوايات كلّها متّفقة على أنّ زمن إباحة المتعة لَم يطِل وأنّه حرّم، ثمّ أجمع السّلف والخلف على تحريمها إلَّا من لا يلتفت إليه من الرّوافض. وجزم جماعة من الأئمّة بتفرّد ابن عبّاس بإباحتها , فهي من المسألة المشهورة وهي ندرة المخالف. ولكن قال ابن عبد البرّ: أصحاب ابن عبّاس من أهل مكّة واليمن على إباحتها، ثمّ اتّفق فقهاء الأمصار على تحريمها. وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود ومعاوية وأبو سعيد وابن عبّاس وسلمة ومعبد ابنا أُميَّة بن خلف وجابر وعمرو بن حريثٍ , ورواه جابر عن جميع الصّحابة مدّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر. قال: ومن التّابعين طاوسٌ وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكّة. قلت: وفي جميع ما أطلقه نظرٌ.

أمّا ابن مسعود. فمستنده ما في الصحيحين عنه , قال: كنّا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس لنا نساءٌ، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثّوب إلى أجلٍ "، ثمّ قرأ عبد الله: {يا أيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين}. وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا يشعر بأنّه كان يرى بجواز المتعة، فقال القرطبيّ: لعله لَم يكن حينئذٍ بلغه النّاسخ، ثمّ بلغه فرجع بعد. قلت: يؤيّده ما ذكره الإسماعيليّ أنّه وقع في رواية أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد " ففعله ثمّ ترك ذلك " أخرجه أبو عوانة قال: وفي رواية لابن عيينة عن إسماعيل " ثمّ جاء تحريمها بعد " وفي رواية معمر عن إسماعيل " ثمّ نسخ " وأمّا معاوية. فأخرجه عبد الرّزّاق من طريق صفوان بن يعلى بن أُميَّة أخبرني يعلى , أنّ معاوية استمتع بامرأةٍ بالطّائف. وإسناده صحيح. لكن في رواية أبي الزّبير عن جابر عند عبد الرّزّاق أيضاً أنّ ذلك كان قديماً. ولفظه " استمتع معاوية مقدمه الطّائف بمولاةٍ لبني الحضرميّ يقال لها معانة، قال جابر: ثمّ عاشت معانة إلى خلافة معاوية , فكان يرسل إليها بجائزةٍ كلّ عام. وقد كان معاوية متّبعاً لعمر مقتدياً به. فلا يشكّ أنّه عمل بقوله

بعد النّهي، ومن ثَمَّ قال الطّحاويّ: خطب عمر فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه ذلك منكر. وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه. فأخرج ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لَمَّا ولي عمر خطب فقال: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثمّ حرّمها. وأخرج ابن المنذر والبيهقيّ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه , ثمّ قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها. وأمّا أبو سعيد. فأخرج عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ أنّ عطاء قال: أخبَرَني مَن شئت عن أبي سعيد قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقاً ". وهذا مع كونه ضعيفاً للجهل بأحد رواته. ليس فيه التّصريح بأنّه كان بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا ابن عبّاس. فأخرج البخاري عن أبي جمرة، قال: سمعت ابن عبّاسٍ: سئل عن متعة النّساء فرخّص، فقال له مولىً له: إنّما ذلك في الحال الشّديد، وفي النّساء قلةٌ؟ أو نحوه، فقال ابن عبّاسٍ: نعم. في رواية الإسماعيليّ " صدق ". وعند مسلم من طريق الزّهريّ عن خالد بن المهاجر أو ابن أبي عمرة الأنصاريّ , قال رجل - يعني لابن عبّاس، وصرّح به البيهقيّ

في روايته - إنّما كانت - يعني المتعة - رخصة في أوّل الإسلام لمن اضطرّ إليها كالميتة والدّم ولحم الخنزير. ويؤيّده ما أخرجه الخطّابيّ والفاكهيّ من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس لقد سارت بفتياك الرّكبان، وقال فيها الشّعراء، يعني في المتعة. فقال: والله ما بهذا أفتيتُ وما هي إلَّا كالميتة لا تحلّ إلَّا للمضطرّ. وأخرجه البيهقيّ من وجه آخر عن سعيد بن جبير. وزاد في آخره: ألا إنّما هي كالميتة والدّم ولحم الخنزير. وأخرجه محمّد بن خلف المعروف بوكيع في كتاب " الغرر من الأخبار " بإسنادٍ أحسن منه عن سعيد بن جبير بالقصّة، لكن ليس في آخره قول ابن عبّاس المذكور. وفي حديث سهل بن سعد الذي سيأتي قريباً نحوه فهذه أخبار يقوى بعضُها ببعضٍ , وحاصلها أنّ المتعة إنّما رخّص فيها بسبب العزبة في حال السّفر , وهو يوافق حديث ابن مسعود الماضي. وأخرج البيهقيّ من حديث أبي ذرّ بإسنادٍ حسن: إنّما كانت المتعة لحربنا وخوفنا. وأمّا ما أخرجه التّرمذيّ من طريق محمّد بن كعبٍ عن ابن عبّاس قال: إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام، كان الرّجل يقدم البلد ليس له فيها معرفة، فيتزوّج المرأة بقدر ما يقيم فتحفظ له متاعه. فإسناده ضعيف، وهو شاذّ مخالف لِمَا تقدّم من عِلَّة إباحتها. وأمّا سلمة ومعبد. فقصّتهما واحدة اختلف فيها. هل وقعت لهذا

أو لهذا؟. فروى عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن عمرو بن دينار عن طاوسٍ عن ابن عبّاس قال: لَم يرع عمر إلَّا أمّ أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر فقالت: استمتع بي سلمة بن أُميَّة. وأخرج من طريق أبي الزّبير عن طاوسٍ فسمّاه معبد بن أُميَّة. وأمّا جابر. فمستنده قوله " فعلناها " وقد بيّنته قبل، ووقع في رواية أبي نصرة عن جابر عند مسلم " فنهانا عمر فلم نفعله بعد ". فإن كان قوله " فعلنا " يعمّ جميع الصّحابة فقوله " ثمّ لَم نعد " يعمّ جميع الصّحابة فيكون إجماعاً، وقد ظهر أنّ مستنده الأحاديث الصّحيحة التي بيّناها. وأمّا عمرو بن حريثٍ وكذا قوله: رواه جابر عن جميع الصّحابة. فعجيب، وإنّما قال جابر: فعلناها. وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصّحابة , بل يصدق على فعل نفسه وحده. وأمّا ما ذكره عن التّابعين. فهو عند عبد الرّزّاق عنهم بأسانيد صحيحة، وقد ثبت عن جابر عند مسلم: فعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثمّ نهانا عمر فلم نعد لها. فهذا يردّ عدّه جابراً فيمن ثبت على تحليلها، وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها لثبوت قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنّها حرام إلى يوم القيامة. قال: فأمنّا بهذا القول نسخ التّحريم. والله أعلم قوله: (يوم خيبر) هكذا لجميع الرّواة عن الزّهريّ " خيبر " بالمعجمة أوّله والرّاء آخره إلَّا ما رواه عبد الوهّاب الثّقفيّ عن يحيى

بن سعيد عن مالك في هذا الحديث فإنّه قال " حنين " بمهملةٍ أوّله ونونين. أخرجه النّسائيّ والدّارقطنيّ , ونبّها على أنّه وهمٌ تفرّد به عبد الوهّاب، وأخرجه الدّارقطنيّ من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال " خيبر " على الصّواب. وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد عن الزّهريّ عنه بلفظ " نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة " وهو خطأ أيضاً. قوله: (يوم خيبر) وللبخاري من طريق ابن عيينة، أنّه سمع الزّهريّ، بلفظ " نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر ". وقوله " زمن خيبر " الظّاهر أنّه ظرف للأمرين. وحكى البيهقيّ عن الحميديّ , أنّ سفيان بن عيينة كان يقول: قوله " يوم خيبر " يتعلق بالحمر الأهليّة لا بالمتعة. قال البيهقيّ: وما قاله محتمل يعني في روايته هذه، وأمّا غيره فصرّح أنّ الظّرف يتعلق بالمتعة. وللبخاري من طريق مالك عن الزهري بلفظ " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن متعة النّساء , وعن لحوم الحمر الأهليّة " وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضاً، وللبخاري من رواية عبيد الله بن عمر عن الزّهريّ " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر ". وكذا أخرجه مسلم , وزاد من طريقه. فقال: مهلاً يا ابن عبّاس ". ولأحمد من طريق معمر بسنده , أنّه بلغه أنّ ابن عبّاس رخّص في متعة النّساء، فقال له: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن

لحوم الحمر الأهليّة. وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزّهريّ مثل رواية مالك، والدّارقطنيّ من طريق ابن وهب عن مالك ويونس وأسامة بن زيد ثلاثتهم عن الزّهريّ كذلك. وذكر السّهيليّ: أنّ ابن عيينة رواه عن الزّهريّ بلفظ " نهى عن أكل الحمر الأهليّة عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك , أو في غير ذلك اليوم " انتهى وهذا اللفظ الذي ذكره لَم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميديّ وإسحاق في " مسانيدهم " عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاريّ من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ " نكاح " وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعبّاس بن الوليد. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمّد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة لكن قال " زمن " بدل " يوم " قال السّهيليّ: ويتّصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال , لأنّ فيه النّهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السّير ورواة الأثر، قال: فالذي يظهر أنّه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزّهريّ. انتهى وهذا الذي قاله. سبقه إليه غيره في النّقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البرّ من طريق قاسم بن أصبغ , أنّ الحميديّ ذكر عن ابن عيينة أنّ

النّهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأمّا المتعة فكان في غير يوم خيبر. ثمّ راجعتُ " مسند الحميديّ " من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السّلميّ عنه فقال بعد سياق الحديث: قال ابن عيينة: يعني أنّه نهى عن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة. قال ابن عبد البرّ: وعلى هذا أكثر النّاس. وقال البيهقيّ: يشبه أن يكون كما قال. لصحّة الحديث في أنّه - صلى الله عليه وسلم - رخّص فيها بعد ذلك ثمّ نهى عنها، فلا يتمّ احتجاج عليّ إلَّا إذا وقع النّهي أخيراً لتقوم به الحجّة على ابن عبّاس. وقال أبو عوانة في " صحيحه ": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث عليّ أنّه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأمّا المتعة فسكت عنها , وإنّما نهى عنها يوم الفتح. انتهى. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرّخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقيّ. لكن يمكن الانفصال عن ذلك. بأنّ عليّاً لَم تبلغه الرّخصة فيها يوم الفتح لوقوع النّهي عنها عن قربٍ. كما سيأتي بيانه. ويؤيّد ظاهر حديث عليّ ما أخرجه أبو عوانة وصحَّحه من طريق سالم بن عبد الله , أنّ رجلاً سأل ابن عمر عن المتعة فقال: حرام. فقال: إنّ فلاناً يقول فيها. فقال: والله لقد علم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرّمها يوم خيبر. وما كنّا مسافحين.

قال السّهيليّ: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة. فأغربُ ما روي في ذلك رواية مَن قال في غزوة تبوك، ثمّ رواية الحسن أنّ ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أنّ ذلك في غزوة الفتح , كما أخرجه مسلم من حديث الرّبيع بن سبرة عن أبيه. وفي روايةٍ عن الرّبيع أخرجها أبو داود. أنّه كان في حجّة الوداع. قال: ومَن قال من الرّواة كان في غزوة أوطاسٍ , فهو موافق لمَن قال عام الفتح. انتهى. فتحصّل ممّا أشار إليه ستّة مواطن: خيبر، ثمّ عمرة القضاء، ثمّ الفتح، ثمّ أوطاس، ثمّ تبوك، ثمّ حجّة الوداع. وبقي عليه حنين , لأنّها وقعت في رواية قد نبّهت عليها قبل، فإمّا أن يكون ذهل عنها , أو تركها عمداً لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاسٍ وحنين واحدة. فأمّا رواية تبوك: فأخرجها إسحاق بن راهويه وابن حبّان من طريقه من حديث أبي هريرة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نزل بثنيّة الوداع رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسولَ الله، نساء كانوا تمتّعوا منهنّ. فقال: هدم المتعة النّكاح والطّلاق والميراث. وأخرجه الحازميّ من حديث جابر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك حتّى إذا كنّا عند العقبة ممّا يلي الشّام جاءت نسوة قد كنّا تمتّعنا بهنّ يطفن برحالنا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له، قال: فغضب وقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه , ونهى عن المتعة،

فتوادعنا يومئذٍ فسمّيت ثنيّة الوداع. وأمّا رواية الحسن وهو البصريّ. فأخرجها عبد الرّزّاق من طريقه وزاد " ما كانت قبلها ولا بعدها " وهذه الزّيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزّيادة. وأمّا غزوة الفتح: فثبتت في صحيح مسلم كما قال. وأمّا أوطاس: فثبتت في مسلم أيضاً من حديث سلمة بن الأكوع. وأمّا حجّة الوداع: فوقع عند أبي داود من حديث الرّبيع بن سبرة عن أبيه. وأمّا قوله " لا مخالفة بين أوطاس والفتح " ففيه نظرٌ، لأنّ الفتح كان في رمضان ثمّ خرجوا إلى أوطاسٍ في شوّال، وفي سياق مسلم أنّهم لَم يخرجوا من مكّة حتّى حرمت، ولفظة " إنّه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفتح، فأذن لنا في متعة النّساء، فخرجت أنا ورجلٌ من قومي - فذكر قصّة المرأة، إلى أن قال: ثمّ استمتعت منها، فلم أخرج حتّى حرّمها " وفي لفظ له " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً بين الرّكن والباب وهو يقول " بمثل حديث ابن نمير , وكان تقدّم في حديث ابن نمير أنّه قال: يا أيّها النّاس إنّي قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النّساء، وأنّ الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ". وفي رواية " أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكّة، ثمّ لَم نخرج

حتّى نهانا عنها " وفي رواية له " أمر أصحابه بالتّمتّع من النّساء - فذكر القصّة - قال: فكنّ معنا ثلاثاً، ثمّ أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفراقهنّ " وفي لفظ " فقال إنّها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة " فأمّا أوطاس: فلفظ مسلم " رخّص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة ثلاثاً، ثمّ نهى عنها " وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنّهم تمتّعوا من النّساء في غزوة أوطاس لَمَّا حسن هذا الجمع. نعم. ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التّصريح قبلها في غزوة الفتح بأنّها حرمت إلى يوم القيامة. وإذا تقرّر ذلك , فلا يصحّ من الرّوايات شيء بغير عِلَّة إلَّا غزوة الفتح. وأمّا غزوة خيبر: وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة ففيها من كلام أهل العلم ما تقدّم. وأمّا عمرة القضاء: فلا يصحّ الأثر فيها , لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة , لأنّه كان يأخذ عن كلّ أحد. وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيّام خيبر لأنّهما كانا في سنة واحدة في الفتح وأوطاس سواء. وأمّا قصّة تبوك: فليس في حديث أبي هريرة التّصريح بأنّهم استمتعوا منهنّ في تلك الحالة.

فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديماً ثمّ وقع التّوديع منهنّ حينئذٍ والنّهي. أو كان النّهي وقع قديماً فلم يبلغ بعضهم فاستمرّ على الرّخصة، فلذلك قرن النّهي بالغضب لتقدّم النّهي في ذلك. على أنّ في حديث أبي هريرة مقالاً، فإنّه من رواية مؤمّل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمّار وفي كلٍّ منهما مقال. وأمّا حديث جابر فلا يصحّ فإنّه من طريق عبّاد بن كثير. وهو متروك. وأمّا حجّة الوداع: فهو اختلاف على الرّبيع بن سبرة، والرّواية عنه بأنّها في الفتح أصحّ وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرّد النّهي، فلعله - صلى الله عليه وسلم - أراد إعادة النّهي ليشيع ويسمعه من لَم يسمعه قبل ذلك. فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم. وزاد ابن القيّم في " الهدي " أنّ الصّحابة لَم يكونوا يستمتعون باليهوديّات، يعني فيقوى أنّ النّهي لَم يقع يوم خيبر أو لَم يقع هناك نكاح متعة , لكن يمكن أن يجاب: بأنّ يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التّمتّع بهنّ. فلا ينهض الاستدلال بما قال. قال الماورديّ في " الحاوي ": في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان.

أحدهما: أنّ التّحريم تكرّر ليكون أظهر وأنشر حتّى يعلمه من لَم يكن علمه , لأنّه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها. الثّاني: أنّها أبيحت مراراً، ولهذا قال في المرّة الأخيرة " إلى يوم القيامة " إشارة إلى أنّ التّحريم الماضي كان مؤذناً بأنّ الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنّه تحريم مؤبّد لا تعقبه إباحة أصلاً. وهذا الثّاني هو المعتمد. ويردّ الأوّل التّصريح بالإذن فيها في الموطن المتأخّر عن الموطن الذي وقع التّصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر ثمّ الفتح. وقال النّوويّ: الصّواب أنّ تحريمها وإباحتها وقعا مرّتين فكانت مباحة قبل خيبر ثمّ حرّمت فيها ثمّ أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثمّ حرّمت تحريماً مؤبّداً. قال: ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشّافعيّ أنّ المتعة نسخت مرّتين. وقد تقدّم حديث ابن مسعود , في سبب الإذن في نكاح المتعة , وأنّهم كانوا إذا غزوا اشتدّت عليهم العزبة فأذن لهم في الاستمتاع , فلعل النّهي كان يتكرّر في كلّ مواطن بعد الإذن، فلمّا وقع في المرّة الأخيرة أنّها حرّمت إلى يوم القيامة لَم يقع بعد ذلك إذن. والله أعلم. والحكمة في جمع عليٍّ بين النّهي عن الحمر والمتعة , أنّ ابن عبّاس كان يرخّص في الأمرين معاً، وسيأتي النّقل عنه في الرّخصة في الحمر الأهليّة، فردّ عليه عليٌّ في الأمرين معاً وأنّ ذلك يوم خيبر.

فإمّا أن يكون على ظاهره , وأنّ النّهي عنهما وقع في زمن واحد. وإمّا أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لَم يبلغ عليّاً لقصر مدّة الإذن. وهو ثلاثة أيّام. كما تقدّم. والحديث في قصّة تبوك على نسخ الجواز في السّفر , لأنّه نهى عنها في أوائل إنشاء السّفر مع أنّه كان سفراً بعيداً والمشقّة فيه شديدة كما صرّح به في الحديث في توبة كعب، وكان عِلَّة الإباحة وهي الحاجة الشّديدة انتهت من بعد فتح خيبر وما بعدها. والله أعلم. والجواب عن قول السّهيليّ: أنّه لَم يكن في خيبر نساء يستمتع بهنّ , ظاهر ممّا بيّنته من الجواب عن قول ابن القيّم. لَم تكن الصّحابة يتمتّعون باليهوديّات. وأيضاً فيقال كما تقدّم: لَم يقع في الحديث التّصريح بأنّهم استمتعوا في خيبر، وإنّما فيه مجرّد النّهي، فيؤخذ منه أنّ التّمتّع من النّساء كان حلالاً. وسبب تحليله ما أخرجه البخاري في حديث ابن مسعود حيث قال: كنّا نغزو وليس لنا شيء - ثمّ قال - فرخّص لنا أن ننكح المرأة بالثّوب " فأشار إلى سبب ذلك , وهو الحاجة مع قلة الشّيء. وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البرّ بلفظ " إنّما رخّص النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في المتعة لعزبةٍ كانت بالنّاس شديدة، ثمّ نهى عنها ". فلمّا فتحت خيبر وسّع عليهم من المال ومن السّبي فناسب النّهي

عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التّوسعة بعد الضّيق. أو كانت الإباحة إنّما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بُعدٌ ومشقّة، وخيبر بخلاف ذلك , لأنّها بقرب المدينة فوقع النّهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدّم إذن فيها، ثمّ لَمَّا عادوا إلى سفرة بعيدة المدّة وهي غزاة الفتح وشقّت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة , لكن مقيّداً بثلاثة أيّام فقط دفعاً للحاجة، ثمّ نهاهم بعد انقضائها عنها كما في صحيح مسلم من رواية سلمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رخّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ثمّ نهى عنها. وهكذا يجاب عن كلّ سفرةٍ ثبت فيها النّهي بعد الإذن. وأمّا حجّة الوداع. فالذي يظهر أنّه وقع فيها النّهي مجرّداً إن ثبت الخبر في ذلك، لأنّ الصّحابة حجّوا فيها بنسائهم بعد أن وسّع عليهم فلم يكونوا في شدّة ولا طول عزبةٍ، وإلَّا فمخرج حديث سبرة راويه هو من طريق ابنه الرّبيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها؛ والحديث واحد في قصّة واحدة فتعيّن التّرجيح. والطّريق التي أخرجها مسلم مصرّحة بأنّها في زمن الفتح أرجح فتعيّن المصير إليها. والله أعلم. قوله: (وعن لحوم الحمر الأهليّة) في رواية للشيخين " الحمر الأنسيّة " والإنسيّة بكسر الهمزة وسكون النّون منسوبة إلى الإنس.

ويقال فيه: أنسيّة بفتحتين، وزعم ابن الأثير: أنّ في كلام أبي موسى المدينيّ ما يقتضي أنّها بالضّمّ ثمّ السّكون لقوله الأنسيّة هي التي تألف البيوت، والأنس ضدّ الوحشة. ولا حجّة في ذلك , لأنّ أبا موسى إنّما قاله بفتحتين، وقد صرّح الجوهريّ. أنّ الأنس بفتحتين ضدّ الوحشة. ولَم يقع في شيء من روايات الحديث بضمٍّ ثمّ سكون مع احتمال جوازه، نعم. زيّف أبو موسى الرّواية بكسر أوّله ثمّ السّكون. فقال ابن الأثير: إن أراد من جهة الرّواية فعسى، وإلا فهو ثابت في اللغة. ونسبتها إلى الإنس. وقد وقع في حديث أبي ثعلبة وغيره " الأهليّة " بدل الإنسيّة. ويؤخذ من التّقييد بها جواز أكل الحمر الوحشيّة، وقد تقدّم صريحاً في حديث أبي قتادة في الحجّ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي قتادة برقم (255). وسيأتي الكلام مستوفى إن شاء الله , عن حكم أكل الحمر الأهليّة في شرح حديث جابر في الأطعمة (382).

الحديث التاسع

الحديث التاسع 313 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنكح الأيّم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسولَ الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكتَ. (¬1) قوله: (لا تنكح) بكسر الحاء للنّهي، وبرفعها للخبر. وهو أبلغ في المنع. والأيّم وهي التي يموت زوجها أو تبين منه وتنقضي عدّتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها. وقال ابن بطّال: العرب تطلق على كلّ امرأة لا زوج لها وكلّ رجل لا امرأة له أيّماً، زاد في " المشارق " وإن كان بكراً. وظاهر هذا الحديث. أنّ الأيّم هي الثّيّب التي فارقت زوجها بموتٍ أو طلاق لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في الأيّم، ومنه قولهم " الغزو مأيمة " أي: يقتل الرّجال فتصير النّساء أيامى. وقد تطلق على من لا زوج لها أصلاً، ونقله عياض عن إبراهيم الحربيّ وإسماعيل القاضي وغيرهما أنّه يطلق على كلّ من لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة بكراً كانت أو ثيّباً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4843 , 6567 , 6569) ومسلم (1419) من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وحكى الماورديّ القولين لأهل اللغة. وقد وقع في رواية الأوزاعيّ عن يحيى في هذا الحديث عند ابن المنذر والدّارميّ والدّارقطنيّ " لا تنكح الثّيّب " ووقع عند ابن المنذر في رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه في هذا الحديث " الثّيّب تشاور ". قوله: (حتّى تستأمر) أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى لا يعقد عليها حتّى يطلب الأمر منها. ويؤخذ من قوله " تستأمر " أنّه لا يعقد إلَّا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الوليّ في حقّها، بل فيه إشعار باشتراطه. قوله: (ولا تنكح البكر حتّى تستأذن) كذا وقع في هذه الرّواية التّفرقة بين الثّيّب والبكر، فعبّر للثّيّب بالاستئمار , وللبكر بالاستئذان. فيؤخذ منه فرقٌ بينهما من جهة أنّ الاستئمار يدلّ على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الوليّ إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرّحت بمنعه امتنع اتّفاقاً والبكر بخلاف ذلك. والإذن دائر بين القول والسّكوت بخلاف الأمر فإنّه صريح في القول , وإنّما جعل السّكوت إذناً في حقّ البكر , لأنّها قد تستحي أن تفصح. قوله: (قالوا: يا رسولَ الله) في رواية عمر بن أبي سلمة " قلنا ". وحديث عائشة في البخاري صريح في أنّها هي السّائلة عن ذلك.

قوله: (كيف إذنها؟) وللبخاري من طريق ابن جريجٍ عن ابن أبي مُلَيكة عن أبي عمرٍو هو ذكوان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسولَ الله، يستأمر النّساء في أبضاعهنّ؟ قال: نعم. قلت: فإنّ البكر تستأمر فتستحيي فتسكت؟ قال: سكاتها إذنها. وفي رواية مسلم من هذا الوجه: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ قال: نعم تستأمر. قلت: فإنّها تستحي. قوله: (قال: أن تسكت) في رواية ابن جريجٍ عند البخاري " قال: سكاتها إذنها " وفي لفظ له " قال: إذنها صماتها " وفي رواية مسلم من طريق ابن جريجٍ أيضاً " قال: فذلك إذنها إذا هي سكتت ". ودلَّت رواية البخاريّ على أنّ المراد بالجارية في رواية مسلم البكر دون الثّيّب. وعند مسلم أيضاً من حديث ابن عبّاس: والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها. وفي لفظ له " والبكر يستأذنها أبوها في نفسها ". قال ابن المنذر: يستحبّ إعلام البكر أنّ سكوتها إذن، لكن لو قالت بعد العقد: ما علمت أنّ صمتي إذن لَم يبطل العقد بذلك عند الجمهور. وأبطله بعض المالكيّة، وقال ابن شعبان منهم: يقال لها ذلك ثلاثاً إن رضيتِ فاسكتي وإن كرهتِ فانطقي. وقال بعضهم: يطال المقام عندها لئلا تخجل فيمنعها ذلك من

المسارعة. واختلفوا فيما إذا لَم تتكلم , بل ظهرت منها قرينة السّخط أو الرّضا بالتّبسّم مثلاً أو البكاء. القول الأول: عند المالكيّة. إن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدلّ على الكراهة , لَم تزوّج. القول الثاني: عند الشّافعيّة. لا أثر لشيءٍ من ذلك في المنع , إلَّا إن قرنت مع البكاء الصّياح ونحوه. القول الثالث: فرّق بعضهم بين الدّمع , فإن كان حارّاً دلَّ على المنع , وإن كان بارداً دلَّ على الرّضا. قال: وفي هذا الحديث إشارة إلى أنّ البكر التي أمر باستئذانها هي البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها. ونقل ابن عبد البرّ عن مالك , أنّ سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها وتفويضها لا يكون رضاً منها، بخلاف ما إذا كان بعد تقويضها إلى وليّها. وخصّ بعض الشّافعيّة: الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنّسبة إلى الأب والجدّ دون غيرهما، لأنّها تستحي منهما أكثر من غيرهما. والصّحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنّسبة لجميع الأولياء. واختلفوا في الأب يزوّج البكر البالغ بغير إذنها.

القول الأول: قال الأوزاعيّ والثّوريّ والحنفيّة ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لَم يصحّ. القول الثاني: يجوز للأب أن يزوّجها ولو كانت بالغاً بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشّافعيّ وأحمد وإسحاق. ومن حجّتهم: مفهوم حديث الباب , لأنّه جعل الثّيّب أحقّ بنفسها من وليّها، فدلَّ على أنّ وليّ البكر أحقّ بها منها. واحتجّ بعضهم: بحديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بُرْدة عن أبي موسى مرفوعاً " تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها " قال: فقيّد ذلك باليتيمة فيحمل المطلق عليه. وفيه نظرٌ: لحديث ابن عبّاس الذي ذكرته بلفظ " يستأذنها أبوها " فنصّ على ذكر الأب. وأجاب الشّافعيّ: بأنّ المؤامرة قد تكون عن استطابة النّفس. ويؤيّده حديث ابن عمر رفعه: وآمروا النّساء في بناتهنّ. أخرجه أبو داود. قال الشّافعيّ: لا خلاف أنّه ليس للأمّ أمر، لكنّه على معنى استطابة النّفس. وقال البيهقيّ: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عبّاس غير محفوظة، قال الشّافعيّ: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر والقاسم وسالم يزوّجون الأبكار لا يستأمرونهنّ. قال البيهقيّ: والمحفوظ في حديث ابن عبّاس " البكر تستأمر "

ورواه صالح بن كيسان بلفظ " واليتيمة تستأمر " وكذلك رواه أبو بُرْدة عن أبي موسى ومحمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. فدلَّ على أنّ المراد بالبكر اليتيمة. قلت. وهذا لا يدفع زيادة الثّقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائل: بل المراد باليتيمة البكر لَم يدفع. وتستأمر بضمّ أوّله يدخل فيه الأب وغيره فلا تعارض بين الرّوايات. ويبقى النّظر في أنّ الاستئمار. هل هو شرط في صحّة العقد أو مستحبّ على معنى استطابة النّفس. كما قال الشّافعيّ؟ كلٌّ من الأمرين محتمل. واستدل به. وهو القول الأول: على أنّ الصّغيرة الثّيّب لا إجبار عليها. لعموم كونها أحقّ بنفسها من وليّها، وعلى أنّ من زالتْ بكارتها بوطءٍ - ولو كان زناً - لا إجبار عليها لأبٍ ولا غيره لعموم قوله " الثّيّب أحقّ بنفسها ". القول الثاني: قال أبو حنيفة: هي كالبكر، وخالفه حتّى صاحباه. واحتجّ له: بأنّ عِلَّة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء , وهو باقٍ في هذه لأنّ المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطءٍ , لا فيمن اتّخذت الزّنا ديدناً وعادة. وأجيب: بأنّ الحديث نصّ على أنّ الحياء يتعلق بالبكر وقابلها بالثّيّب , فدلَّ على أنّ حكمهما مختلف، وهذه ثيّب لغة وشرعاً , بدليل

أنّه لو أوصى بعتق كلّ ثيّب في ملكه دخلت إجماعاً. وأمّا بقاء حيائها كالبكر فممنوع , لأنّها تستحي من ذكر وقوع الفجور منها، وأمّا ثبوت الحياء من أصل النّكاح فليست فيه كالبكر التي لَم تجرّبه قطّ، والله أعلم. واستدل به لمَن قال: إنّ للثّيّب أن تتزوّج بغير وليّ، ولكنّها لا تزوّج نفسها بل تجعل أمرها إلى رجل فيزوّجها، حكاه ابن حزم عن داود. وتعقّبه بحديث عائشة: أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل. وهو حديث صحيح. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وحسّنه وصحَّحه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم. وهو يبيّن أنّ معنى قوله " أحقّ بنفسها من وليّها أنّه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها ولا يجبرها، فإذا أرادت أن تتزوّج لَم يجز لها إلَّا بإذن وليّها. واستدل به على أنّ البكر إذا أعلنت بالمنع لَم يجز النّكاح، وإلى هذا أشار البخاري في التّرجمة، (¬1) وإن أعلنت بالرّضا فيجوز بطريق الأولى. وشذّ بعض أهل الظّاهر فقال: لا يجوز أيضاً , وقوفاً عند ظاهر قوله " وإذنها أن تسكت " تكميل: للتزوج أربع صور: تزويج الأب البكر، وتزويج الأب ¬

_ (¬1) بوّب عليه (باب لا يُنْكِح الأب وغيره البكر والثيب إلَّا برضاهما)

الثّيّب، وتزويج غير الأب البكر، وتزويج غير الأب الثّيّب. وإذا اعتبرت الكبر والصّغر زادت الصّور. فالثّيّب البالغ: لا يزوّجها الأب ولا غيره إلَّا برضاها اتّفاقاً إلَّا من شذّ. والبكر الصّغيرة: يزوّجها أبوها اتّفاقاً إلَّا من شذّ. والثّيّب غير البالغ: اختلف فيها. القول الأول: قال مالك وأبو حنيفة: يزوّجها أبوها كما يزوّج البكر. القول الثاني: قال الشّافعيّ وأبو يوسف ومحمّد: لا يزوّجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره، والعلة عندهم أنّ إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، والبكر البالغ يزوّجها أبوها وكذا غيره من الأولياء. واختلف في استئمارها. والحديث دالٌ على أنّه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه التّرمذيّ عن أكثر أهل العلم. وقد ألحق الشّافعيّ الجدّ بالأب. وقال أبو حنيفة والأوزاعيّ. في الثّيّب الصّغيرة: يزوّجها كلّ وليّ، فإذا بلغت ثبت الخِيَار. وقال أحمد: إذا بلغت تسعاً جاز للأولياء غير الأب نكاحها، وكأنّه أقام المظنّة مقام المئنّة. وعن مالك: يلتحق بالأب في ذلك وصيّ الأب دون بقيّة الأولياء ,

لأنّه أقامه مقامه. والذي يقتضيه ظاهر الحديث، اشتراط رضا المزوّجة بكراً كانت أو ثيّباً صغيرة كانت أو كبيرة، لكن تستثنى الصّغيرة من حيث المعنى لأنّها لا عبارة لها.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 314 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظيّ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنت عند رفاعة القرظيّ، فطلقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، وإنما معه مثل هدبة الثّوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك، قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيدٍ بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكرٍ ألا تسمع إلى هذه، ما تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (جاءت امرأة رفاعة القرظيّ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري " أنَّ رفاعة القرظي تزوّج امرأةً " وعند الإسماعيليّ " تزوّج امرأة من بني قريظة ". وسمّاها مالك من حديث عبد الرّحمن بن الزَّبير نفسه كما أخرجه ابن وهب والطّبرانيّ والدّارقطنيّ في " الغرائب " موصولاً , وهو في " الموطّأ " مرسل " تميمة بنت وهب " وهي بمثنّاةٍ. واختلف هل هي بفتحها أو بالتّصغير؟. والثّاني أرجح , ووقع مجزوماً به في النّكاح لسعيد بن أبي عروبة من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2496 , 4960 , 4964 , 5011 , 5456 , 5734) ومسلم (1433) من طريق ابن شهاب وهشام عن عروة عن عائشة. مختصراً ومطوّلاً. وأخرجه البخاري (5487) من رواية عكرمة عن عائشة نحوه.

روايته عن قتادة وقيل: اسمها سهيمة - بسينٍ مهملةٍ مصغّر -. أخرجه أبو نعيمٍ. وكأنّه تصحيف، وعند ابن منده. أميمة بألفٍ. أخرجها من طريق أبي صالح عن ابن عبّاس , وسَمّى أباها الحارث. وهي واحدة اختلف في التّلفّظ باسمها والرّاجح الأوّل. قوله: (كنت عند رفاعة القرظيّ) هو رفاعة القرظيّ بن سموأل بفتح المهملة والميم وسكون الواو بعدها همزة ثمّ لامٌ. والقرظيّ بالقاف والظّاء المعجمة. قوله: (فطلقني، فبتّ طلاقي) ظاهر في أنّه قال لها: أنت طالق البتّة. ويحتمل: أن يكون المراد أنّه طلَّقها طلاقاً حصل به قطع عصمتها منه، وهو أعمّ من أن يكون طلَّقها ثلاثاً مجموعة أو مفرّقة. ويؤيّد الثّاني ما في الصحيحين من وجه آخر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنّها قالت: طلقني آخر ثلاث تطليقات. قوله: (فتزوجَتْ بعده عبدَ الرحمن بن الزّبير) الزّبير بفتح الزّاي. واتّفقت الرّوايات كلّها عن هشام بن عروة , أنّ الزّوج الأوّل رفاعة والثّاني عبد الرّحمن، وكذا قال عبد الوهّاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة في كتاب النّكاح له عن قتادة , أنّ تميمة بنت أبي عبيد القرظيّة كانت تحت رفاعة فطلَّقها فخلف عليها عبد الرّحمن بن الزّبير ".

وتسميته لأبيها لا تنافي رواية مالك , فلعل اسمه وهب وكنيته أبو عبيد. إلَّا ما وقع عند ابن إسحاق في " المغازي " من رواية سلمة بن الفضل عنه , وتفرّد به عنه عن هشام عن أبيه , قال: كانت امرأة من قريظة يقال لها تميمة تحت عبد الرّحمن بن الزّبير فطلقها. فتزوّجها رفاعة ثمّ فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرّحمن بن الزّبير. وهو مع إرساله مقلوب. والمحفوظ ما اتّفق عليه الجماعة عن هشام. وقد وقع لامرأة أخرى قريبٌ من قصّتها , فأخرج النّسائيّ من طريق سليمان بن يسار عن عبيد الله بن العبّاس. أي: ابن عبد المطّلب , أنّ الغميصاء أو الرّميصاء أتت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تشكو من زوجها أنّه لا يصِلُ إليها، فلم يلبث أن جاء فقال: إنّها كاذبة , ولكنّها تريد أن ترجع إلى زوجها الأوّل، فقال: ليس ذلك لها حتّى تذوق عسيلته " ورجاله ثقات , لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار. ووقع عند شيخنا في شرح التّرمذيّ " عبد الله بن عبّاس " مكبّر , وتعقَّبَ على ابن عساكر والمزّيّ , أنّهما لَم يذكرا هذا الحديث في " الأطراف ". ولا تعقّب عليهما: فإنّهما ذكراه في مسند عبيد الله بالتّصغير وهو الصّواب، وقد اختلف في سماعه من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا أنّه ولد في عصره فذُكر لذلك في الصّحابة. واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم. أخرجه الطّبرانيّ وأبو

مسلم الكجّيّ وأبو نعيمٍ في الصّحابة من طريق حمّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , أنّ عمرو بن حزم طلق الغميصاء , فتزوّجها رجلٌ قبل أن يمسّها , فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأوّل .. الحديث. ولَم أعرف اسم زوجها الثّاني. ووقعت لثالثةٍ قصّةٌ أخرى مع رفاعة رجلٍ آخر غير الأوّل. والزّوج الثّاني عبد الرّحمن بن الزّبير أيضاً , أخرجه مقاتل بن حيّان في " تفسيره " , ومن طريقه ابن شاهين في " الصّحابة " ثمّ أبو موسى , قوله تعالى (فلا تحلُّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره) قال: نزلت في عائشة بنت عبد الرّحمن بن عقيل النّضريّة , كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك - وهو ابن عمّها - فطلَّقها طلاقاً بائناً فتزوّجت بعده عبد الرّحمن بن الزّبير , ثمّ طلَّقها , فأتت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنّه طلَّقني قبل أن يمسّني , أفأرجع إلى ابن عمّي زوجي الأوّل؟ قال: لا " الحديث. وهذا الحديث - إن كان محفوظاً - فالواضح من سياقه أنّها قصّة أخرى , وأنّ كلاً من رفاعة القرظيّ ورفاعة النّضريّ وقع له مع زوجة له طلاقٌ , فتزوّج كلاً منهما عبد الرّحمن بن الزّبير فطلَّقها قبل أن يمسّها. فالحكم في قصّتهما متّحدٌ مع تغاير الأشخاص. وبهذا يتبيّن خطأ من وحّد بينهما. ظنّاً منه أنّ رفاعة بن سموأل هو رفاعة بن وهب , فقال: اختلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال،

فذكر الاختلاف في النّطق بتميمة وضمّ إليها عائشة. والتّحقيق ما تقدّم. ووقعت لأبي ركانة قصّة أخرى سأذكرها آخر هذا الحديث قوله: (وإنما معه مثل هدبة الثّوب) بضمّ الهاء وسكون المهملة بعدها موحّدة مفتوحة , هو طرف الثّوب الذي لَم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن. وأرادت أنّ ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار. وعند البخاري من طريق أبي معاوية عن هشام: فتزوّجت زوجاً غيره فلم يصل منها إلى شيء يريده. وعند أبي عوانة من طريق الدّراورديّ عن هشام " فنكحها عبد الرّحمن بن الزّبير فاعترض عنها ". وكذا في رواية مالك عن عبد الرّحمن بن الزّبير نفسه. وزاد " فلم يستطع أن يمسّها " وقوله " فاعترض " بضمّ المثنّاة وآخره ضاد معجمة , أي: حصل له عارض حال بينه وبين إتيانها , إمّا من الجنّ وإمّا من المرض. ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام " فلم يقربني إلَّا هنةً واحدة , ولَم يصل منّي إلى شيء " والهنة بفتح الهاء وتخفيف النّون. المرّة الواحدة الحقيرة. واستدل به على أنّ وطء الزّوج الثّاني لا يكون محللاً ارتجاع الزّوج الأوّل للمرأة إلَّا إن كان حال وطئه منتشراً , فلو كان ذكره أشلّ أو كان هو عنّيناً أو طفلاً لَم يكف على أصحّ قولي العلماء، وهو الأصحّ

عند الشّافعيّة أيضاً. قوله: (وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا) وقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة " ولَم يكن معه إلَّا مثل الهدبة فلم يقربني إلَّا هنة واحدة ولَم يصل منّي إلى شيء. أفأحلُّ لزوجي الأوّل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحلين لزوجك الأوّل. الحديث. وللبخاري من طريق أيّوب عن عكرمة , أنّ رفاعة طلَّق امرأته فتزوّجها عبد الرّحمن بن الزّبير، قالت عائشة: فجاءت وعليها خمار أخضر. فشكت إليها - أي إلى عائشة - من زوجها وأرتها خضرة بجلدها، فلمّا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنّساء يبصرن بعضهنّ بعضاً قالت عائشة: ما رأيت ما يلقى المؤمنات، لَجلدها أشدّ خضرة من ثوبها. وسمع زوجها فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله مالي إليه من ذنب إلَّا أنّ ما معه ليس بأغنى عنّي من هذه - وأخذت هدبة من ثوبها - فقال: كذبتْ والله يا رسولَ الله، إنّي لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشزة تريد رفاعة. قال: فإن كان ذلك لَم تحلّ له " الحديث. وكأنّ هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالد بن سعيد بن العاص على قوله الذي وقع في رواية الزّهريّ عن عروة في البخاري من طريق شعيب عنه قال: فسمع خالد بن سعيد قولها - وهو بالباب - فقال: يا أبا بكر ألا تنهي هذه عمّا تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ , فوالله ما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التّبسّم. قوله: (قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيدٍ بالباب ... ما

تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري " يا أبا بكر ألا تنهى هذه عمّا تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله ما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التّبسّم ". وفيه ما كان الصّحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله. لقول خالد بن سعيد لأبي بكر الصّدّيق وهو جالس: ألا تنهى هذه؟. وإنّما قال خالد ذلك , لأنّه كان خارج الحجرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر لكونه كان جالساً عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مشاهداً لصورة الحال، ولذلك لَمَّا رأى أبو بكر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتبسّم عند مقالتها لَم يزجرها. وتبسّمه - صلى الله عليه وسلم - كان تعجّباً منها، إمّا لتصريحها بما يستحي النّساء من التّصريح به غالباً، وإمّا لضعف عقل النّساء لكون الحامل لها على ذلك شدّة بغضها في الزّوج الثّاني ومحبّتها في الرّجوع إلى الزّوج الأوّل، ويستفاد منه جواز وقوع ذلك. تنبيهٌ: وقع في جميع الطّرق من قول خالد بن سعيد لأبي بكر: ألا تنهى هذه عمّا تجهر به؟ أي: ترفع به صوتها. وذكره الدّاوديّ بلفظ " تهجر " بتقديم التّاء على الجيم، والهجر بضمّ الهاء الفحش من القول، والمعنى هنا عليه، لكنّ الثّابت في الرّوايات ما ذكرته، وذكر عياض أنّه وقع كذلك في غير الصّحيح. واستدل بكلام خالد هذا لجواز الشّهادة على الصّوت، والغرض

منه إنكاره على امرأة رفاعة ما كانت تكلم به عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع كونه محجوباً عنها خارج الباب , ولَم ينكر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه ذلك , فاعتماد خالدٍ على سماع صوتها حتّى أنكر عليها هو حاصل ما يقع من شهادة السّمع. قوله: (حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) كذا في الموضعين بالتّصغير. واختلف في توجيهه. فقيل: هي تصغير العسل , لأنّ العسل مؤنّث، جزم به القزّاز ثمّ قال: وأحسب التّذكير لغة. وقال الأزهريّ: يذكّر ويؤنّث. وقيل: لأنّ العرب إذا حقرت الشّيء أدخلت فيه هاء التّأنيث، ومن ذلك قولهم دريهمات. فجمعوا الدّرهم جمع المؤنّث عند إرادة التّحقير، وقالوا أيضاً في تصغير هند: هنيدة. وقيل: التّأنيث باعتبار الوطأة. إشارة إلى أنّها تكفي في المقصود من تحليلها للزّوج الأوّل وقيل: المراد قطعة من العسل , والتّصغير للتّقليل إشارة إلى أنّ القدر القليل كافٍ في تحصيل الحلّ. قال الأزهريّ: الصّواب أنّ معنى العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأنّث تشبيهاً بقطعةٍ من عسلٍ. وقال الدّاوديّ: صغّرت لشدّة شبهها بالعسل. وقيل: معنى العسيلة النّطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصريّ.

وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة , وهو تغييب حشفة الرّجل في فرج المرأة. وزاد الحسن البصريّ: حصول الإنزال. وهذا الشّرط انفرد به عن الجماعة. قاله ابن المنذر وآخرون. وقال ابن بطّالٍ: شذّ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء , وقالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحدّ ويحصن الشّخص ويوجب كمال الصّداق ويفسد الحجّ والصّوم. قال أبو عبيد: العسيلة لذّة الجماع , والعرب تسمّي كلّ شيء تستلذّه عسلاً، وهو في التّشديد يقابل قول سعيد بن المسيّب في الرّخصة، ويردّ قول الحسن أنّ الإنزال لو كان شرطاً لكان كافياً، وليس كذلك , لأنّ كلاً منهما إذا كان بعيد العهد بالجماع مثلاً أنزل قبل تمام الإيلاج، وإذا أنزل كلّ منهما قبل تمام الإيلاج لَم يذق عسيلة صاحبه، لا إن فسّرت العسيلة بالإمناء ولا بلذّة الجماع. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحلّ للأوّل، إلَّا سعيد بن المسيّب. ثمّ ساق بسنده الصّحيح عنه قال: يقول النّاس لا تحلّ للأوّل حتّى يجامعها الثّاني، وأنا أقول: إذا تزوّجها تزويجاً صحيحاً لا يريد بذلك إحلالها للأوّل فلا بأس أن يتزوّجها الأوّل. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور. وفيه تعقّب على من استبعد صحّته عن سعيد. قال ابن المنذر: وهذا القول لا نعلم أحداً وافقه عليه إلَّا طائفة من

الخوارج، ولعلَّه لَم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن. قلت: سياق كلامه يشعر بذلك. وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك. وهو ما أخرجه النّسائيّ من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيّب عن ابن عمر رفعه , في الرّجل تكون له المرأة فيطلقها ثمّ يتزوّجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى الأوّل، فقال: لا، حتّى تذوق العسيلة. وقد أخرجه النّسائيّ أيضاً من رواية سفيان الثّوريّ عن علقمة بن مرثد فقال: عن رزين بن سليمان الأحمريّ عن ابن عمر نحوه. قال النّسائيّ: هذا أولى بالصّواب، وإنّما قال ذلك , لأنّ الثّوريّ أتقن وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصّواب من وجهين: أحدهما: أنّ شيخ علقمة شيخهما هو رزين بن سليمان كما قال الثّوريّ , لا سالم بن رزين كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم غيلان بن جامع أحد الثّقات. ثانيهما: أنّ الحديث لو كان عند سعيد بن المسيّب عن ابن عمر مرفوعاً ما نسبه إلى مقالة النّاس الذين خالفهم. ويؤخذ من كلام ابن المنذر , أنّ نقل أبي جعفر النّحّاس في " معاني القرآن " وتبعه عبد الوهّاب المالكيّ في " شرح الرّسالة " القول بذلك عن سعيد بن جبير وهمٌ.

وأعجب منه أنّ أبا حبّان جزم به عن السّعيدين (¬1) سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير، ولا يعرف له سندٌ عن سعيد بن جبير في شيء من المصنّفات، وكفى قول ابن المنذر حجّة في ذلك. وحكى ابن الجوزيّ عن داود أنّه وافق سعيد بن المسيّب على ذلك. قال القرطبيّ: ويستفاد من الحديث على قول الجمهور أنّ الحكم يتعلق بأقلّ ما ينطلق عليه الاسم، خلافاً لمَن قال لا بدّ من حصول جميعه. وفي قوله " حتّى تذوقي عسيلته إلخ " إشعار بإمكان ذلك. لكن قولها " ليس معه إلَّا مثل هذه الهدبة " ظاهر في تعذّر الجماع المشترط. فأجاب الكرمانيّ: بأنّ مرادها بالهدبة التّشبيه بها في الدّقّة والرّقّة , لا في الرّخاوة وعدم الحركة واستبعد ما قال. وسياق الخبر يعطي بأنّها شكَتْ منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " حتّى تذوقي " لأنّه علقه على الإمكان وهو جائز الوقوع، فكأنّه قال: اصبري حتّى يتأتّى منه ذلك، وإن تفارقا فلا بدّ لها من إرادة الرّجوع إلى رفاعة من زوج آخر يحصل لها منه ذلك. واستدل بإطلاق وجود الذّوق منهما , الاشتراط على الزّوجين به حتّى لو وطئها نائمة أو مغمىً عليها لَم يكف ولو أنزل هو. ¬

_ (¬1) وقع في مطبوع الفتح (السعيد بن سعيد) وهو خطأ , والصواب ما أثبتّه , وهو تثنية سَعيد.

وبالغ ابن المنذر فنقله عن جميع الفقهاء. وتُعقّب. وقال القرطبيّ: فيه حجّة لأحد القولين في أنّه لو وطئها نائمة أو مغمىً عليها لَم تحلّ. وجزم ابن القاسم بأنّ وطء المجنون يحلل، وخالفه أشهب. واستدل به على جواز رجوعها لزوجها الأوّل إذا حصل الجماع من الثّاني، لكن شرط المالكيّة. ونُقل عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزّوج الثّاني , ولا إرادة تحليلها للأوّل. وقال الأكثر: إن شرط ذلك في العقد فسد , وإلا فلا. واتّفقوا على أنّه إذا كان في نكاح فاسدٍ لَم يحلل. وشذّ الحَكَم , فقال: يكفي، وأنّ من تزوّج أمة , ثمّ بتّ طلاقها , ثمّ ملكها لَم يحلّ له أن يطأها حتّى تتزوّج غيره. وقال ابن عبّاس وبعض أصحابه والحسن البصريّ: تحلّ له بملك اليمين. واختلفوا فيما إذا وطئها حائضاً , أو بعد أن طهرت قبل أن تطهر , أو أحدهما صائم أو محرم. وقال ابن حزم: أخذ الحنفيّة بالشّرط الذي في هذا الحديث عن عائشة، وهو زائد على ظاهر القرآن، ولَم يأخذوا بحديثها في اشتراط خمس رضعات لأنّه زائد على ما في القرآن، فيلزمهم الأخذ به أو ترك حديث الباب. وأجابوا: بأنّ النّكاح عندهم حقيقة في الوطء , فالحديث موافق

لظاهر القرآن. واستدل بقولها " بتّ طلاقي " على أنّ البتّة ثلاث تطليقات. وهو عجبٌ ممّن استدل به فإنّ البتّ بمعنى القطع والمراد به قطع العصمة، وهو أعمّ من أن يكون بالثّلاث مجموعة أو بوقوع الثّالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات. وتقدّم صريحاً " أنّه طلَّقها آخر ثلاث تطليقات " فبطل الاحتجاج به. ونقل ابن العربيّ عن بعضهم , أنّه أورد على حديث الباب ما ملخّصه , أنّه يلزم من القول به. أولاً. إمّا الزّيادة بخبر الواحد على ما في القرآن فيستلزم نسخ القرآن بالسّنّة التي لَم تتواتر. ثانياً. أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين مع ما فيه من الإلباس. والجواب عن الأوّل: أنّ الشّرط إذا كان من مقتضيات اللفظ لَم تكن إضافته نسخاً ولا زيادة. والجواب عن الثّاني: أنّ النّكاح في الآية أضيف إليها , وهي لا تتولى العقد بمجرّدها فتعيّن أنّ المراد به في حقّها الوطء، ومن شرطه اتّفاقاً أن يكون وطئاً مباحاً فيحتاج إلى سبق العقد. ويمكن أن يقال: لَمَّا كان اللفظ محتملاً للمعنيين بيّنت السّنّة أنّه لا بدّ من حصولهما، فاستدل به على أنّ المرأة لا حقّ لها في الجماع , لأنّ

هذه المرأة شكت أنّ زوجها لا يطؤها , وأنّ ذكره لا ينتشر , وأنّه ليس معه ما يغني عنها , ولَم يفسخ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نكاحها بذلك. ومن ثَمَّ قال إبراهيم بن إسماعيل بن عليّة وداود بن عليّ: لا يفسخ بالعنّة , ولا يُضرب للعنّين أجلٌ. وقال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرّجل بالجماع. فقال الأكثر: إن وطئها بعد أن دخل بها مرّة واحدة لَم يؤجّل أجل العنّين، وهو قول الأوزاعيّ والثّوريّ وأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وإسحاق. وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلةٍ أجّل له سنة، وإن كان لغير عِلَّة فلا تأجيل. وقال عياض: اتّفق كافّة العلماء على أنّ للمرأة حقّاً في الجماع، فيثبت الخِيَار لها إذا تزوّجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعنّين أجل سنة لاحتمال زوال ما به. وأمّا استدلال داود ومن يقول بقوله بقصّة امرأة رفاعة فلا حجّة فيها، لأنّ في بعض طرقه أنّ الزّوج الثّاني كان أيضاً طلَّقها كما وقع عند مسلم صريحاً من طريق القاسم عن عائشة قالت: طلّق رجلٌ امرأتَه ثلاثاً فتزوّجها رجلٌ آخر فطلَّقها قبل أن يدخل بها , فأراد زوجها الأوّل أن يتزوّجها، فسئل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: لا. الحديث، وأصله عند البخاريّ. ووقع في حديث الزّهريّ عن عروة كما في البخاري في آخر الحديث

بعد قوله: لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " قال: ففارقته بعد " زاد ابن جريجٍ عن الزّهريّ في هذا الحديث: أنّها جاءت بعد ذلك إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت إنّه - يعني زوجها الثّاني -: مسّها فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأوّل. وصرّح مقاتل بن حيّان في " تفسيره " مرسلاً , أنّها قالت: يا رسولَ الله: إنّه كان مسّني، فقال: كذبتِ بقولكِ الأوّل فلن أصدّقكِ في الآخر، وأنّها أتت أبا بكر ثمّ عمر فمنعاها. وكذا وقعت هذه الزّيادة الأخيرة في رواية ابن جريجٍ المذكورة. أخرجها عبد الرّزّاق عنه. ووقع عند مالك في " الموطّأ " عن المسور بن رفاعة عن الزّبير بن عبد الرّحمن بن الزّبير، زاد خارج الموطّأ فيما رواه ابن وهب عنه , وتابعه إبراهيم بن طهمان عن مالك عند الدّارقطنيّ في " الغرائب " عن أبيه , أنّ رفاعة طلَّق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثاً، فنكحها عبد الرّحمن، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسّها ففارقها، فأراد رفاعة أن يتزوّجها. الحديث. ووقع عند أبي داود من طريق الأسود عن عائشة. سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته فتزوّجت غيره فدخل بها وطلَّقها قبل أن يواقعها. أتحل للأوّل؟ قال: لا. الحديث. وأخرج الطّبريّ وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة نحوه، والطّبريّ أيضاً والبيهقيّ من حديث أنسٍ كذلك، وكذا وقع في رواية

حمّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , أنّ عمرو بن حزم طلَّق الغميصاء فنكحها رجلٌ فطلّقها قبل أن يمسّها، فسألت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا، حتّى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته. وأخرجه الطّبرانيّ. ورواته ثقات. فإن كان حمّاد بن سلمة حفظه فهو حديث آخر لعائشة في قصّة أخرى غير قصّة امرأة رفاعة، وله شاهد من حديث عبيد الله - بالتّصغير - ابن عبّاس عند النّسائيّ في ذكره الغميصاء، لكنّ سياقه يشبه قصّة رفاعة. كما تقدّم في أوّل شرح هذا الحديث. وقد قدّمت أنّه وقع لكلٍّ من رفاعة بن سموأل ورفاعة بن وهب أنّه طلق امرأته , وأنّ كلاً منهما تزوّجها عبد الرّحمن بن الزّبير , وأنّ كلاً منهما شكَتْ أنّه ليس معه إلَّا مثل الهدبة. فلعل إحدى المرأتين شكته قبل أن يفارقها , والأخرى بعد أن فارقها. ويحتمل: أن تكون القصّة واحدة. ووقع الوهم من بعض الرّواة في التّسمية أو في النّسبة , وتكون المرأة شكت مرّتين من قبل المفارقة ومن بعدها، والله أعلم وأمّا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عبّاس قال: طلَّق عبد يزيد أبو ركانة أمّ ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عنّي إلَّا كما تغني هذه الشّعرة - لشعرةٍ أخذتها من رأسها - ففرّق بيني وبينه، قال: فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد: طلَّقها

وراجع أمّ ركانة، ففعل. فليس فيه حجّة لمسألة العنّين، والله أعلم بالصّواب.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 315 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: من السُّنة إذا تزوّج البكر على الثيب، أقام عندها سبعاً، ثم قسم، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثاً، ثم قسم، قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إنَّ أنساً رفعه إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) قوله: (قال: من السُّنّة) أي: سنّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، هذا الذي يتبادر للفهم من قول الصّحابيّ، وقد روى البخاري قول سالم بن عبد الله بن عمر لَمَّا سأله الزّهريّ عن قول ابن عمر للحجّاج " إن كنت تريد السّنّة هل تريد سنّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له سالم: وهل يعنون بذلك إلَّا سنّته. قوله: (إذا تزوّج الرّجل البكر على الثّيّب) أي: يكون عنده امرأة فيتزوّج معها بكراً كما سيأتي البحث عنه. قوله: (أقام عندها سبعاً ثم قسم وإذا تزوّج الثيب: أقام عندها ثلاثاً ثمّ قسم) وفي البخاريّ عن يوسف بن راشدٍ حدّثنا أبو أسامة عن سفيان حدّثنا أيّوب وخالدٌ: وفيه. بالواو في الأولى , وبلفظ " ثمّ " في الثّانية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4915 , 4916) ومسلم (1461) من طريق أيوب وخالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس - رضي الله عنه -.

ووقع عند الإسماعيليّ وأبي نعيم من طريق حمزة بن عون عن أبي أسامة بلفظ " ثمّ " في الموضعين. واستدل به على أنّ هذا العدل يختصّ بمن له زوجة قبل الجديدة. وقال ابن عبد البرّ: جمهور العلماء على أنّ ذلك حقّ للمرأة بسبب الزّفاف , وسواء كان عنده زوجة أم لا. وحكى النّوويّ: أنّه يستحبّ إذا لَم يكن عنده غيرها وإلَّا فيجب. وهذا يوافق كلام أكثر الأصحاب، واختار النّوويّ. أن لا فرق، وإطلاق الشّافعيّ يعضّده. ولكن يشهد للأوّل. قوله في حديث الباب " إذا تزوّج البكر على الثّيّب ". ويمكن أن يتمسّك للآخر بسياق بشرٍ عن خالد عند البخاري. فإنّه قال: إذا تزوّج البكر أقام عندها سبعاً. الحديث , ولَم يقيّده بما إذا تزوّجها على غيرها، لكنّ القاعدة أنّ المطلق محمول على المقيّد، بل ثبت في رواية خالد التّقييد، فعند مسلم من طريق هشيمٍ عن خالد " إذا تزوّج البكر على الثّيّب " الحديث. ويؤيّده أيضاً قوله في حديث الباب " ثمّ قسم " , لأنّ القسم إنّما يكون لمن عنده زوجة أخرى. وفيه حجّة على الكوفيّين في قولهم: إنّ البكر والثّيّب سواء في الثّلاث، وعلى الأوزاعيّ في قوله: للبكر ثلاث وللثّيّب يومان، وفيه حديث مرفوع عن عائشة أخرجه الدّارقطنيّ بسندٍ ضعيف جدّاً.

وخُصّ من عموم حديث الباب , ما لو أرادت الثيّب أن يكمل لها السّبع , فإنّه إذا أجابها سقط حقّها من الثّلاث وقضى السّبع لغيرها، لِما أخرجه مسلم من حديث أمّ سلمة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا تزوّجها أقام عندها ثلاثاً , وقال: إنّه ليس بك على أهلك هوان، إن شئتِ سبّعت لك، وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي. وفي رواية له " إن شئتِ ثلَّثت ثمّ درت، قالت: ثلّث ". وحكى الشّيخ أبو إسحاق في " المهذّب ": وجهين في أنّه يقضي السّبع أو الأربع المزيدة، والذي قطع به الأكثر. إن اختار السّبع قضاها كلّها , وإن أقامها بغير اختيارها قضى الأربع المزيدة. تنبيهٌ: يكره أن يتأخّر في السّبع أو الثّلاث عن صلاة الجماعة وسائر أعمال البرّ التي كان يفعلها؛ نصّ عليه الشّافعيّ. وقال الرّافعيّ: هذا في النّهار، وأمّا في الليل فلا، لأنّ المندوب لا يترك له الواجب، وقد قال الأصحاب: يسوّي بين الزّوجات في الخروج إلى الجماعة وفي سائر أعمال البرّ، فيخرج في ليالي الكلّ أو لا يخرج أصلاً، فإن خصّص حرم عليه، وعدّوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة. وقال ابن دقيق العيد: أفرط بعض الفقهاء فجعل مقامه عندها عذراً في إسقاط الجمعة، وبالغ في التّشنيع. وأجيب: بأنّه قياس قول من يقول بوجوب المقام عندها وهو قول الشّافعيّة، ورواه ابن القاسم عن مالك، وعنه يستحبّ وهو وجه

للشّافعيّة. فعلى الأصحّ يتعارض عنده الواجبان، فقدّم حقّ الآدميّ، هذا توجيهه، فليس بشنيعٍ. وإن كان مرجوحاً. وتجب الموالاة في السّبع وفي الثّلاث، فلو فرّق لَم يحسب على الرّاجح لأنّ الحشمة لا تزول به. ثمّ لا فرق في ذلك بين الحرّة والأمة، وقيل: هي على النّصف من الحرّة ويجبر الكسر. قوله: (قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت أنّ أنساً رفعه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) كأنّه يشير إلى أنّه لو صرّح برفعه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لكان صادقاً , ويكون روي بالمعنى وهو جائز عنده، لكنّه رأى أنّ المحافظة على اللفظ أولى. وقال ابن دقيق العيد: قول أبي قلابة يحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون ظنّ أنّه سمعه عن أنس مرفوعاً لفظاً فتحرّز عنه تورّعاً. الثّاني: أن يكون رأى أنّ قول أنس " من السّنّة " في حكم المرفوع، فلو عبّر عنه بأنّه مرفوع على حسب اعتقاده لصحّ لأنّه في حكم المرفوع. قال: والأوّل أقرب، لأنّ قوله " من السّنّة " يقتضي أن يكون مرفوعاً بطريقٍ اجتهاديّ محتمل، وقوله " أنّه رفعه " نصّ في رفعه , وليس للرّاوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل إلى ما هو نصّ غير محتمل. انتهى.

وهو بحث متّجه، ولَم يصب من ردّه بأنّ الأكثر على أنّ قول الصّحابيّ " من السّنّة كذا " في حكم المرفوع , لاتّجاه الفرق بين ما هو مرفوع وما هو في حكم المرفوع، لكن باب الرّواية بالمعنى متّسع. وقد وافق هذه الرّواية ابنُ عليّة عن خالد في نسبة هذا القول إلى أبي قلابة , أخرجه الإسماعيليّ , ونسبه بشر بن المفضّل (¬1) وهشيم إلى خالد. وقد اختلف على سفيان الثّوريّ في تعيين قائل ذلك , هل هو خالد أو شيخه أبو قلابة؟. ولا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون كلّ منهما قال ذلك. قال البخاري عقبه: وقال عبد الرّزّاق أخبرنا سفيان عن أيّوب وخالد، قال خالد: ولو شئت لقلتُ رفعه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. كأنّ البخاريّ أراد أن يبيّن أنّ الرّواية عن سفيان الثّوريّ اختلفت في نسبة هذا القول. هل هو قول أبي قلابة أو قول خالد؟. ويظهر لي أنّ هذه الزّيادة في رواية خالد عن أبي قلابة دون رواية أيّوب. ويؤيّده أنّه أخرجه من وجه آخر عن خالد. وذكر الزّيادة في صدر ¬

_ (¬1) رواية بشر. أخرجها البخاري في " الصحيح " (5213) والترمذي (1139) والبيهقي (7/ 301) عنه عن خالد به. وليس فيها بيان القائل لا للحذاء , ولا لأبي قلابة. أمّا رواية هشيم. فهي في صحيح مسلم (1461) , وصرّح بأن القائل خالد الحذاء.

الحديث. وقد وصل طريقَ عبد الرّزّاق المذكورة مسلمٌ , فقال: حدّثني محمّد بن رافع حدّثنا عبد الرّزّاق ولفظه: من السّنّة أن يقيم عند البكر سبعاً، قال خالد .. إلخ " وقد رواه أبو داود الحفريّ والقاسم بن يزيد الجرميّ عن الثّوريّ عنهما , أخرجه الإسماعيليّ، ورواه عبد الله بن الوليد العدنيّ عن سفيان كذلك. أخرجه البيهقيّ. وشذّ أبو قلابة الرّقاشيّ فرواه عن أبي عاصم عن سفيان عن خالد وأيّوب جميعاً , وقال فيه: قال - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أبو عوانة في " صحيحه " عنه , وقال: حدّثناه الصّغانيّ عن أبي قلابة , وقال: هو غريب لا أعلم مَن قاله غير أبي قلابة. انتهى وقد أخرج الإسماعيليّ من طريق أيّوب من رواية عبد الوهّاب الثّقفيّ عنه عن أبي قلابة عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فصرّح برفعه، وهو يؤيّد ما ذكرته أنّ السّياق في رواية سفيان لخالد. ورواية أيّوب هذه - إن كانت محفوظة - احتمل أن يكون أبو قلابة لَمَّا حدّث به أيّوب جزم برفعه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " , وأخرجه ابن حبّان أيضاً عنه عن عبد الجبّار بن العلاء عن سفيان بن عيينة عن أيّوب. وصرّح برفعه، وأخرجه الدّارميّ والدّارقطنيّ من طريق محمّد بن إسحاق عن أيّوب مثله، فبيّنتْ أنّ رواية خالد هي التي قال فيها " من السّنّة " وأنّ رواية أيّوب قال فيها " قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ".

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 316 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لو أنّ أحدَكم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: بسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان، وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إنْ يُقدّر بينهما ولدٌ في ذلك، لَم يضرّه الشيطان أبداً. (¬1) قوله: (لو أنّ أحدكم) وللبخاري من طريق همّام عن منصورٍ " أما إنّ أحدكم إذا أتى أهله ". ورواية الباب مفسّرة لغيرها من الرّوايات دالَّة على أنّ القول قبل الشّروع. قوله: (إذا أراد أن يأتي أهله) في رواية إسرائيل عن منصور عند الإسماعيليّ " أما إنّ أحدكم لو يقول حين يجامع أهله " وهو ظاهر أنّ القول يكون مع الفعل، لكن يمكن حمله على المجاز. وعنده في رواية روح بن القاسم عن منصور " لو أنّ أحدهم إذا جامع امرأته ذكر الله ". قوله: (بسم الله، اللهمّ جنّبنا) في رواية روحٍ " ذكر الله ثمّ قال: اللهمّ جنّبني " وفي رواية شعبة عن منصور في البخاري " جنّبني " ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (141 , 3098، 3109، 4870، 6025، 6961) ومسلم (1434) من طريق منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

بالإفراد أيضاً. قوله: (الشّيطان) في حديث أبي أُمامة عند الطّبرانيّ " جنّبني وجنّب ما رزقتني من الشّيطان الرّجيم " قوله: (فإنه إنْ يُقدّر بينهما ولدٌ في ذلك) وللبخاري من رواية شيبان عن منصور " ثمّ قدّر بينهما ولدٌ أو قضي ولد " كذا بالشّكّ، وزاد في رواية الكشميهنيّ " ثمّ قدّر بينهما في ذلك - أي الحال - ولد ". وفي رواية سفيان بن عيينة عن منصور " فإن قضى الله بينهما ولداً ". ومثله في رواية إسرائيل، وفي رواية شعبة " فإن كان بينهما ولد " , وفي رواية جرير " ثمّ قدّر أن يكون " والباقي مثله، ونحوه في رواية روح بن القاسم. وفي رواية همّام " فرزقا ولداً ". قوله: (لَم يضرّه الشيطان أبداً) كذا من رواية همّام. وفي رواية شعبة عند مسلم وأحمد " لَم يسلّط عليه الشّيطان , أو لَم يضرّه الشّيطان ". وكذا في رواية سفيان بن عيينة وإسرائيل وروح بن القاسم بلفظ " الشّيطان " واللام للعهد المذكور في لفظ الدّعاء. ولأحمد عن عبد العزيز العمّيّ عن منصور " لَم يضرّ ذلك الولدَ الشّيطانُ أبداً ". وفي مرسل الحسن عن عبد الرّزّاق " إذا أتى الرّجل أهله , فليقل: بسم الله اللهمّ بارك لنا فيما رزقتنا , ولا تجعل للشّيطان نصيباً فيما رزقتنا، فكان يرجى إن حملت أن يكون ولداً صالحاً ". وللبخاري من رواية شيبان " شيطان أبداً " بالتّنكير، ومثله في

رواية جرير. واختلف في الضّرر المنفيّ. بعد الاتّفاق على ما نقل عياض على عدم الحمل على العموم في أنواع الضّرر، وإن كان ظاهراً في الحمل على عموم الأحوال من صيغة النّفي مع التّأبيد. وكان سبب ذلك ما أخرجه الشيخان " إنّ كلّ بني آدم يطعن الشّيطان في بطنه حين يولد " (¬1) إلَّا من استثنى. فإنّ في هذا الطّعن نوعَ ضررٍ في الجملة، مع أنّ ذلك سبب صراخه. ثمّ اختلفوا: فقيل: المعنى لَم يسلط عليه من أجل بركة التّسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان). ويؤيّده مرسل الحسن المذكور. وقيل: المراد لَم يطعن في بطنه، وهو بعيد لمنابذته ظاهر الحديث المتقدّم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا. وقيل: المراد لَم يصرعه. وقيل: لَم يضرّه في بدنه. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن لا يضرّه في دينه أيضاً، ولكن يبعده انتفاء العصمة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3112) عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً: كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم. ذهب يطعن فطعن في الحجاب. وللبخاري (3248) ومسلم (2366) من وجهٍ آخر: ما من مولودٍ يولد إلَّا والشيطان يمسُّه حين يولد، فيستهلَّ صارخاً من مسِّ الشيطان إياه، إلَّا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم)

وتعقّب: بأنّ اختصاص من خصّ بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمداً. وإن لَم يكن ذلك واجباً له. وقال الدّاوديّ: معنى " لَم يضرّه " أي: لَم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية. وقيل: لَم يضرّه بمشاركة أبيه في جماع أمّه كما جاء عن مجاهد: أنّ الذي يجامع ولا يُسمّي , يلتفّ الشّيطان على إحليله فيجامع معه. (¬1). ولعل هذا أقرب الأجوبة. ويتأيّد الحمل على الأوّل بأنّ الكثير ممّن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه عند إرادة المواقعة , والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادراً لَم يبعد. وفي الحديث من الفوائد أيضاً. استحباب التّسمية والدّعاء والمحافظة على ذلك حتّى في حالة الملاذ كالوقاع، وقد ترجم عليه البخاري (باب التّسمية على كلّ حال وعند الوقاع) أي: الجماع، وعطفُه عليه من عطف الخاصّ على العامّ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في " تفسيره " (23/ 65) والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " رقم (466) كلاهما عن محمد بن عمارة الأسدي قال: ثنا سهل بن عامر قال: ثنا يحيى بن يَعْلَى الأسلميّ عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولَم يسمّ، انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه، فذلك قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ). وهذا إسناد ضعيف جداً. فيه سهل بن عامر البجلي. قال في " الميزان " (2/ 239): كذَّبه أبو حاتم , وقال البخاري: منكر الحديث.

للاهتمام به، وليس العموم ظاهراً من الحديث الذي أورده، لكن يستفاد من باب الأولى , لأنّه إذا شرع في حالة الجماع - وهي ممّا أمر فيه بالصّمت - فغيره أولى. وفيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهة ذكر الله في حالين. الخلاء والوقاع، لكن على تقدير صحّته لا ينافي حديث الباب , لأنّه يُحمل على حال إرادة الجماع. ويقيّد ما أطلقه البخاري. ما رواه ابن أبي شيبة من طريق علقمة عن ابن مسعود , وكان إذا غشي أهله فأنزل , قال: اللهمّ لا تجعل للشّيطان فيما رزقتني نصيباً. وفيه الاعتصام بذكر الله ودعائه من الشّيطان , والتّبرّك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء , وفيه الاستشعار بأنّه الميسّر لذلك العمل والمعين عليه. وفيه إشارة إلى أنّ الشّيطان ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلَّا إذا ذكر الله. وفيه ردّ على منع المحدث أن يذكر الله، ويخدش فيه الرّواية المتقدّمة " إذا أراد أن يأتي " وهو نظير ما وقع من القول عند الخلاء. وقد ذكر البخاري ذلك. وأشار إلى الرّواية التي فيها " إذا أراد أن يدخل " وتقدّم البحث فيه في كتاب الطّهارة بما يغني عن إعادته (¬1). ¬

_ (¬1) تقدّم في حديث أنس - رضي الله عنه - برقم (13)

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 317 - عن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم والدخول على النساء، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسولَ الله، أفرأيت الْحمو؟ قال: الْحمو الموت. (¬1) ولمسلمٍ عن أبي الطاهر عن ابن وهبٍ، قال: سمعت الليث يقول: الْحمو أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العمّ ونحوه. قوله: (إيّاكم والدّخول) بالنّصب على التّحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليحترز عنه كما قيل إيّاك والأسد. وقوله " إيّاكم " مفعول بفعل مضمر تقديره اتّقوا، وتقدير الكلام. اتّقوا أنفسكم أن تدخلوا على النّساء والنّساء أن يدخلن عليكم. ووقع في رواية ابن وهب عن عمرو بن الحارث والليث وحيوة، أنّ يزيد بن أبي حبيبٍ حدّثهم. عند مسلم بلفظ " لا تدخلوا على النّساء. وتضمّن منع الدّخول منع الخلوة بها بطريق الأولى. وأخرج الشيخان عن ابن عبّاسٍ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يخلونّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا مع ذي محرمٍ , فقام رجلٌ , فقال: يا رسولَ الله امرأتي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4934) ومسلم (2172) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة - رضي الله عنه -.

خرجت حاجّةً , واكتتبت في غزوة كذا وكذا , قال: ارجع فحجّ مع امرأتك. وأخرج التّرمذيّ من حديث جابر رفعه: لا تدخلوا على المغيبات , فإنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم. ورجاله موثّقون، لكنّ مجالد بن سعيد مختلف فيه. ولمسلمٍ من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: لا يدخل رجلٌ على مُغيبة إلَّا ومعه رجل أو اثنان. ذكره في أثناء حديث. والمغيبة: بضمّ الميم ثمّ غين معجمة مكسورة ثمّ تحتانيّة ساكنة ثمّ موحّدة: من غاب عنها زوجها، يقال: أغابت المرأة إذا غاب زوجها. قوله: (فقال رجلٌ من الأنصار) لَم أقف على تسميته. قوله: (أفرأيت الحمو) وقع عند التّرمذيّ بعد تخريج الحديث , قال التّرمذيّ: يقال هو أخو الزّوج، كره له أن يخلو بها. قال: ومعنى الحديث على نحو ما روي. لا يخلونّ رجل بامرأةٍ فإنّ ثالثهما الشّيطان. انتهى. وهذا الحديث الذي أشار إليه. أخرجه أحمد من حديث عامر بن ربيعة. وقال النّوويّ: اتّفق أهل العلم باللغة على أنّ الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وعمّه وأخيه وابن أخيه وابن عمّه ونحوهم، وأنّ الأَختان أقارب زوجة الرّجل، وأنّ الأصهار تقع على النّوعين. انتهى.

وقد اقتصر أبو عبيد وتبعه ابن فارس والدّاوديّ على أنّ الحمو أبو الزّوجة، زاد ابن فارس: وأبو الزّوج، يعني أنّ والد الزّوج حمو المرأة ووالد الزّوجة حمو الرّجل، وهذا الذي عليه عرف النّاس اليوم. وقال الأصمعيّ وتبعه الطّبريّ والخطّابيّ ما نقله النّوويّ، وكذا نقل عن الخليل. ويؤيّده قول عائشة: ما كان بيني وبين عليّ إلَّا ما كان بين المرأة وأحمائها. (¬1) وقد قال النّوويّ: المراد في الحديث أقارب الزّوج غير آبائه وأبنائه، لأنّهم محارم للزّوجة يجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت. قال: وإنّما المراد الأخ وابن الأخ والعمّ وابن العمّ وابن الأخت ونحوهم ممّا يحلّ لها تزويجه لو لَم تكن متزوّجة، وجرت العادة بالتّساهل فيه. فيخلو الأخ بامرأة أخيه , فشبّهه بالموت وهو أولى بالمنع من الأجنبيّ. انتهى. وقد جزم التّرمذيّ وغيره كما تقدّم وتبعه المازريّ: بأنّ الحمو أبو الزّوج، وأشار المازريّ إلى أنّه ذكر للتّنبيه على منع غيره بطريق الأولى، وتبعه ابن الأثير في " النّهاية ". ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (6/ 434) من طريق عمر بن عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح، قال: هذا كتاب جدّي محمد بن أبان. فقرأت فيه: حدثنا الحسن بن الحر، قال: حدثنا الحكم بن عتيبة وعبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن مسروق، قال: قالت عائشة. وفيه قصة.

وردّه النّوويّ , فقال: هذا كلامٌ فاسدٌ مردودٌ لا يجوز حمل الحديث عليه. انتهى وسيظهر في كلام الأئمّة في تفسير المراد بقوله " الحمو الموت " ما تبيّن منه أنّ كلام المازريّ ليس بفاسدٍ. واختلف في ضبط الحمو. فصرّح القرطبيّ: بأنّ الذي وقع في هذا الحديث حمء بالهمز. وأمّا الخطّابيّ. فضبطه بواوٍ بغير همز , لأنّه قال وزن دلو، وهو الذي اقتصر عليه أبو عبيد الهرويّ وابن الأثير وغيرهما، وهو الذي ثبت عندنا في روايات البخاريّ. وفيه لغتان أخريان: إحداهما: حم بوزن أخ. والأخرى: حمى بوزن عصا، ويخرج من ضبط المهموز بتحريك الميم لغة أخرى خامسة. حكاها صاحب المحكم. قوله: (الحمو الموت) قيل: المراد أنّ الخلوة بالحمو قد تؤدّي إلى هلاك الدّين إن وقعت المعصية، أو إلى الموت إن وقعت المعصية ووجب الرّجم، أو إلى هلاك المرأة بفراق زوجها إذا حملته الغيرة على تطليقها، أشار إلى ذلك كلّه القرطبيّ وقال الطّبريّ: المعنى أنّ خلوة الرّجل بامرأة أخيه أو ابن أخيه تنزل منزلة الموت، والعرب تصف الشّيء المكروه بالموت. قال ابن الأعرابيّ: هي كلمة تقولها العرب مثلاً. كما تقول: الأسد الموت. أي: لقاؤه فيه الموت، والمعنى احذروه كما تحذرون الموت.

وقال صاحب " مجمع الغرائب ": يحتمل أن يكون المراد أنّ المرأة إذا خلت فهي محلّ الآفة , ولا يؤمن عليها أحدٌ فليكن حموها الموت، أي: لا يجوز لأحدٍ أن يخلو بها إلَّا الموت كما قيل نعم الصّهر القبر، وهذا لائق بكمال الغيرة والحميّة. وقال أبو عبيد: معنى قوله " الحمو الموت " أي: فليمت ولا يفعل هذا. وتعقّبه النّوويّ فقال: هذا كلام فاسد , وإنّما المراد أنّ الخلوة بقريب الزّوج أكثر من الخلوة بغيره. والشّرّ يتوقّع منه أكثر من غيره , والفتنة به أمكن لتمكّنه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها من غير نكير عليه بخلاف الأجنبيّ. وقال عياض: معناه أنّ الخلوة بالأحماء مؤدّية إلى الفتنة والهلاك في الدّين , فجعله كهلاك الموت وأورد الكلام مورد التّغليظ. وقال القرطبيّ في " المفهم ": المعنى أنّ دخول قريب الزّوج على امرأة الزّوج يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة، أي: فهو محرّم معلوم التّحريم، وإنّما بالغ في الزّجر عنه وشبّهه بالموت لتسامح النّاس به من جهة الزّوج والزّوجة لإلْفِهم بذلك حتّى كأنّه ليس بأجنبيٍّ من المرأة , فخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت، والحرب الموت، أي: لقاؤه يفضي إلى الموت، وكذلك دخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدّين , أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزّوج , أو إلى الرّجم إن وقعت الفاحشة.

وقال ابن الأثير في النّهاية: المعنى أنّ خلوة المَحرم بها أشدّ من خلوة غيره من الأجانب، لأنّه ربّما حسّن لها أشياء وحملها على أمور تثقل على الزّوج من التماس ما ليس في وسعه، فتسوء العشرة بين الزّوجين بذلك، ولأنّ الزّوج قد لا يؤثر أن يطّلع والد زوجته أو أخوها على باطن حاله ولا على ما اشتمل عليه. انتهى. فكأنّه قال: الحمو الموت. أي: لا بدّ منه ولا يمكن حجبه عنها، كما أنّه لا بدّ من الموت، وأشار إلى هذا الأخير الشّيخ تقي الدّين في شرح العمدة. تنبيهٌ: محرم المرأة من حرُم عليه نكاحها على التّأبيد إلَّا أمّ الموطوءة بشبهةٍ والملاعنة فإنّهما حرامان على التّأبيد ولا محرميّة هناك، وكذا أمّهات المؤمنين، وأخرجهنّ بعضهم بقوله في التّعريف بسببٍ مباح لا لحرمتها. وخرج بقيد التّأبيد أخت المرأة وعمّتها وخالتها وبنتها إذا عقد على الأمّ ولَم يدخل بها.

باب الصداق

باب الصّداق الحديث الرابع عشر 318 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفيّة، وجعل عتقها صداقها. (¬1) قوله: (وجعل عتقها صداقها) أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيّب وإبراهيم وطاوسٌ والزّهريّ، ومن فقهاء الأمصار الثّوريّ وأبو يوسف وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صحّ العقد والعتق والمهر. على ظاهر الحديث. وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث بأجوبةٍ. أقربها: أي: لفظ الحديث. أنّه أعتقها بشرط أن يتزوّجها , فوجبت له عليها قيمتها , وكانت معلومة فتزوّجها بها. ويؤيّده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب سمعت أنساً قال: سبى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صفيّة فأعتقها وتزوّجها. فقال ثابت لأنسٍ: ما أصدقها؟ قال نفسها، فأعتقها. هكذا أخرجه البخاري. وله في رواية حمّاد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس في حديث. قال: وصارت صفيّة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ تزوّجها وجعل عتقها صداقها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (364 , 905 , 3964 , 3965 , 4874 , 4798 , 4879) ومسلم (1365) من طريق ثابت وعبد العزيز بن صهيب وشعيب بن الحبحاب (زاد مسلم قتادة) كلهم عن أنس - رضي الله عنه -. مثله. ومطوّلاً أيضاً.

فقال عبد العزيز لثابتٍ: يا أبا محمّد، أنت سألت أنساً ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها. فتبسّم. فهو ظاهر جدّاً في أنّ المجهول مهراً هو نفس العتق. فالتّأويل الأوّل لا بأس به، فإنّه لا منافاة بينه وبين القواعد حتّى لو كانت القيمة مجهولة، فإنّ في صحّة العقد بالشّرط المذكور وجهاً عند الشّافعيّة. وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، ولكنّه من خصائصه وممّن جزم بذلك الماورديّ. وقال آخرون: قوله " أعتقها وتزوّجها " معناه أعتقها ثمّ تزوّجها، فلمّا لَم يعلم أنّه ساق لها صداقاً قال: أصدقها نفسها، أي: لَم يصدقها شيئاً فيما أعلم، ولَم ينف أصل الصّداق. ومن ثَمَّ قال أبو الطّيّب الطّبريّ من الشّافعيّة وابن المرابط من المالكيّة ومن تبعهما: إنّه قول أنس، قاله ظنّاً من قبل نفسه ولَم يرفعه. وربّما تأيّد ذلك عندهم. بما أخرجه البيهقيّ من حديث أميمة - ويقال أمة الله - بنت رزينة عن أمّها , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفيّة وخطبها وتزوّجها وأمهرها رزينة، وكان أتى بها مسبيّة من قريظة والنّضير. وهذا لا يقوم به حجّة لضعف إسناده. ويعارضه. ما أخرجه الطّبرانيّ وأبو الشّيخ من حديث صفيّة نفسها , قالت: أعتقني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وجعل عتقي صداقي. وهذا موافق

لحديث أنس. وفيه ردّ على مَن قال: إنّ أنساً قال ذلك بناء على ما ظنّه. وقد خالف هذا الحديث أيضاً. ما عليه كافّة أهل السّير أنّ صفيّة من سبي خيبر. ويحتمل: أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاصّ بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دون غيره. وقيل يحتمل: أنّه أعتقها بغير عوض , وتزوّجها بغير مهر في الحال ولا في المآل. قال ابن الصّلاح: معناه أنّ العتق يحلّ محلّ الصّداق وإن لَم يكن صداقاً. قال: وهذا كقولهم " الجوع زاد من لا زاد له ". قال: وهذا الوجه أصحّ الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النّوويّ في " الرّوضة ". ومن المستغربات قول التّرمذيّ بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشّافعيّ وأحمد وإسحاق، قال: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها حتّى يجعل لها مهراً سوى العتق، والقول الأوّل أصحّ. وكذا نقل ابن حزم عن الشّافعيّ. والمعروف عند الشّافعيّة أنّ ذلك لا يصحّ، لكن لعل مراد من نقله عنه صورة الاحتمال الأوّل، ولا سيّما نصّ الشّافعيّ على أنّ من أعتق أمته على أن يتزوّجها فقبلت عتقت ولَم يلزمها أن تتزوّج به، لكن يلزمها له قيمتها، لأنّه لَم يرض بعتقها مجّاناً فصار كسائر الشّروط

الفاسدة، فإن رضيت وتزوّجته على مهر يتّفقان عليه كان لها ذلك المسمّى وعليها له قيمتها. فإن اتّحدا تقاصّا. وممَن قال بقول أحمد من الشّافعيّة ابن حبّان صرّح بذلك في " صحيحه ". قال ابن دقيق العيد: الظّاهر مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين؛ فيتردّد الحال بين ظنّ نشأ عن قياس وبين ظنّ نشأ عن ظاهر الخبر مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصيّة، وهي وإن كانت على خلاف الأصل , لكن يتقوّى ذلك بكثرة خصائص النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في النّكاح، وخصوصاً خصوصيّته بتزويج الواهبة من قوله تعالى (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنّبيّ) الآية. وممّن جزم بأنّ ذلك كان من الخصائص يحيى بن أكثم. فيما أخرجه البيهقيّ قال: وكذا نقله المزنيّ عن الشّافعيّ. قال: وموضع الخصوصيّة أنّه أعتقها مطلقاً وتزوّجها بغير مهر ولا وليّ ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. وقد أخرج عبد الرّزّاق جواز ذلك عن عليّ وجماعة من التّابعين. ومن طريق إبراهيم النّخعيّ قال: كانوا يكرهون أن يعتق أمته ثمّ يتزوّجها، ولا يرون بأساً أن يجعل عتقها صداقها ". وقال القرطبيّ: منع من ذلك مالك وأبو حنيفة لاستحالته، وتقرّر استحالته بوجهين: أحدهما: أنّ عقدها على نفسها , إمّا أن يقع قبل عتقها وهو محال

لتناقض الحكمين الحرّيّة والرّقّ، فإنّ الحرّيّة حكمها الاستقلال والرّقّ ضدّه، وأمّا بعد العتق فلزوال حكم الجبر عنها بالعتق، فيجوز أن لا ترضى وحينئذٍ لا تنكح إلَّا برضاها. الثّاني: أنّا إذا جعلنا العتق صداقاً. فإمّا أن يتقرّر العتق حالة الرّقّ وهو محال لتناقضهما، أو حالة الحرّيّة فيلزم أسبقيّته على العقد، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه وهو محال، لأنّ الصّداق لا بدّ أن يتقدّم تقرّره على الزّوج إمّا نصّاً وإمّا حكماً حتّى تملك الزّوجة طلبه. فإن اعتلّوا بنكاح التّفويض فقد تحرّزنا عنه بقولنا حكماً، فإنّها وإن لَم يتعيّن لها حالة العقد شيء لكنّها تملك المطالبة فثبت أنّه يثبت لها حالة العقد شيء تطالب به الزّوج، ولا يتأتّى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقاً. وتعقّب: ما ادّعاه من الاستحالة بجواز تعليق الصّداق على شرط إذا وجد استحقّته المرأة كأن يقول: تزوّجتك على ما سيستحقّ لي عند فلان وهو كذا، فإذا حلَّ المال الذي وقع العقد عليه استحقّته. وقد أخرج الطّحاويّ من طريق نافع عن ابن عمر في قصّة جويريّة بنت الحارث , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جعل عتقها صداقها. وهو ممّا يتأيّد به حديث أنس، لكن أخرج أبو داود من طريق عروة عن عائشة في قصّة جويريّة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها لَمَّا جاءت تستعين به في كتابتها: هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوّجك؟ قالت: قد فعلت.

وقد استشكله ابن حزم: بأنّه يلزم منه إن كان أدّى عنها كتابتها أن يصير ولاؤها لمكاتبها. وأجيب: بأنّه ليس في الحديث التّصريح بذلك، لأنّ معنى قولها " قد فعلت " رضيت. فيحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - عوّض ثابت بن قيس عنها فصارت له فأعتقها وتزوّجها كما صنع في قصّة صفيّة. أو يكون ثابت لَمَّا بلغته رغبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهبها له. وفي الحديث: للسّيّد تزويج أمته إذا أعتقها من نفسه , ولا يحتاج إلى وليٍّ ولا حاكم. وفيه اختلاف. قال ابن الجوزيّ: فإن قيل ثواب العتق عظيم، فكيف فوّته حيث جعله مهراً؟ وكان يمكن جعل المهر غيره، فالجواب: أنّ صفيّة بنت ملكٍ، ومثلها لا يقنع إلَّا بالمهر الكثير، ولَم يكن عنده - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك ما يرضيها به، ولَم ير أن يقتصر، فجعل صداقها نفسها، وذلك عندها أشرف من المال الكثير.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 319 - عن سهل بن سعدٍ السّاعديّ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأةٌ، فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلاً، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله زوّجنيها، إن لَم يكن لك بها حاجةٌ، فقال: هل عندك من شيءٍ تصدقها؟ فقال: ما عندي إلَّا إزاري هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أعطيتها إزارك جلستَ ولا إزار لك، فالتمس شيئاً، قال: ما أجد، قال: فالتمِس ولو خاتماً من حديدٍ، فالتمَس فلم يجد شيئاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل معك شيءٌ من القرآن؟ قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زوجتكها بما معك من القرآن. (¬1) تمهيد: أخرجه البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن سهل، وقد ذكره أيضاً من رواية سفيان الثّوريّ , لكن باختصارٍ، وأخرجه ابن ماجه من روايته أتمّ منه، والإسماعيليّ أتمّ من ابن ماجه، والطّبرانيّ مقروناً برواية معمر؛ وأخرج رواية ابن عيينة أيضاً مسلم والنّسائيّ. وهذا الحديث مداره على أبي حازم سلمة بن دينار المدنيّ - وهو من صغار التّابعين - حدّث به كبار الأئمّة عنه مثل مالك، كما في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2186 , 4741، 4742، 4799، 4829، 4833، 4839، 4842، 4847، 4854، 4855، 5533، 6981) ومسلم (1425) من طرق عن أبي حازم عن سهل - رضي الله عنه -.

البخاري. وأخرجه أيضاً أبو داود والتّرمذيّ , والنّسائيّ عن الثّوريّ كما ذكرته، وحمّاد بن زيد في البخاري ومسلم، وفضيل بن سليمان ومحمّد بن مطرّف أبي غسّان، في البخاري. ولَم يخرجهما مسلم. ويعقوب بن عبد الرّحمن الإسكندرانيّ في البخاري , وعبد العزيز بن أبي حازم. وروايته في البخاري أيضاً. وأخرجها مسلم، وعبد العزيز بن محمّد الدّراورديّ وزائدة بن قدامة , وروايتهما عند مسلم، ومعمر. وروايته عند أحمد والطّبرانيّ، وهشام بن سعد. وروايته في " صحيح أبي عوانة " والطّبرانيّ، ومبشّر بن مبشّر. وروايته عند الطّبرانيّ، وعبد الملك بن جريجٍ. وروايته عند أبي الشّيخ في " كتاب النّكاح ". وقد روى طرفاً منه سعيد بن المسيّب عن سهل بن سعد. أخرجه الطّبرانيّ. وجاءت القصّة أيضاً من حديث أبي هريرة عند أبي داود باختصارٍ والنّسائيّ مطوّلاً، وابن مسعود عند الدّارقطنيّ، ومن حديث ابن عبّاس عند أبي عمر بن حيوة في " فوائده "، وضميرة جدّ حسين بن عبد الله. عند الطّبرانيّ. وجاءت مختصرة من حديث أنس في البخاري، وعند التّرمذيّ طرف منه آخر، ومن حديث أبي أُمامة عند تمّام في " فوائده "، ومن حديث جابر وابن عبّاس عند أبي الشّيخ في " كتاب النّكاح ". وسأذكر ما في هذه الرّوايات من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. قوله: (أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأةٌ، فقالت: إني وهبت نفسي

لك) في رواية سفيان " إنّي لفي القوم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قامت امرأة ". وفي رواية فضيل بن سليمان " كنّا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جلوساً فجاءته امرأة ". وفي رواية هشام بن سعد " بينما نحن عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتت إليه امرأة ". وكذا في معظم الرّوايات " أنّ امرأة جاءت إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". ويمكن ردّ رواية سفيان إليها بأن يكون معنى قوله " قامت " وقفت، والمراد أنّها جاءت إلى أن وقفت عندهم، لا أنّها كانت جالسة في المجلس فقامت. وفي رواية سفيان الثّوريّ عند الإسماعيليّ " جاءت امرأة إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد " فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصّة. وهذه المرأة لَم أقف على اسمها. ووقع في " الأحكام لابن القصّاع " أنّها خولة بنت حكيم أو أمّ شريك، وهذا نقلٌ من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنّبيّ) وهو يدلّ على تعدّد الواهبة. قوله: (فقالت: إني وهبت نفسي لك) في رواية سفيان " فقالت: يا رسولَ الله إنّها قد وهبت نفسها لك " كذا فيه على طريق الالتفات، وكذا في رواية حمّاد بن زيد , لكن قال " إنّها قد وهبت نفسها لله ولرسوله " وكان السّياق يقتضي أن تقول إنّي قد وهبت نفسي لك. وبهذا اللفظ وقع في رواية مالك، وكذا في رواية زائدة عند الطّبرانيّ، وفي رواية يعقوب، وكذا الثّوريّ عند الإسماعيليّ " فقالت: يا

رسولَ الله جئت أهب نفسي لك " وفي رواية فضيل بن سليمان " فجاءته امرأة تعرض نفسها عليه ". وفي كلّ هذه الرّوايات حذف مضاف تقديره أمر نفسي أو نحوه، وإلَّا فالحقيقة غير مرادة , لأنّ رقبة الحرّ لا تملك، فكأنّها قالت أتزوّجك من غير عوض. وفي رواية سفيان " فقالت: يا رسولَ الله، إنّها قد وهبت نفسها لك، فرِ فيها رأيك، فلم يجبها شيئاً ". قوله " فرِ " كذا للأكثر براءٍ واحدة مفتوحة بعدها فاء التّعقيب، وهي فعل أمر من الرّأي، ولبعضهم بهمزةٍ ساكنة بعد الرّاء وكلّ صواب، ووقع بإثبات الهمزة في حديث ابن مسعود أيضاً. وفي رواية معمر والثّوريّ وزائدة " فصمَتَ "، وفي رواية يعقوب وابن حازم وهشام بن سعد " فنظر إليها فصعّد النّظر إليها وصوّبه " وهو بتشديد العين من صعّد والواو من صوّب، والمراد أنّه نظر أعلاها وأسفلها. والتّشديد. إمّا للمبالغة في التّأمّل. وإمّا للتّكرير. وبالثّاني جزم القرطبيّ في " المفهم " قال: أي: نظر أعلاها وأسفلها مراراً. ووقع في رواية فضيل بن سليمان " فخفّض فيها البصر ورفّعه " وهما بالتّشديد أيضاً. ووقع في رواية الكشميهنيّ من هذا الوجه " النّظر " بدل البصر، وقال في هذه الرّواية " ثمّ طأطأ رأسه ": وهو

بمعنى قوله " فصمت ". وقال في رواية فضيل بن سليمان " فلم يردها ": بسكون الدّال من الإرادة. وحكى بعض الشّرّاح تشديد الدّال وفتح أوّله , وهو محتمل قوله: (فقامتْ طويلاً) ومثله للثّوريّ عنه , وهو نعت مصدر محذوف. أي: قياماً طولاً، أو لظرفٍ محذوف. أي: زماناً طويلاً. وفي رواية معمر والثّوريّ معاً عند الطّبرانيّ " فصمت، ثمّ عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مليّاً تعرض نفسها عليه وهو صامت "، وفي رواية مبشّر " فقامت حتّى رثَيْنا لها من طول القيام ". زاد في رواية يعقوب وابن أبي حازم " فلمّا رأت المرأة أنّه لَم يقض فيها شيئاً جلست ". ووقع في رواية حمّاد بن زيد: أنّها وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: ما لي في النّساء حاجة. ويجمع بينها وبين ما تقدّم: أنّه قال ذلك في آخر الحال، فكأنّه صمت أوّلاً لتفهم أنّه لَم يردها، فلمّا أعادت الطّلب أفصح لها بالواقع. ووقع في حديث أبي هريرة عند النّسائيّ , جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرضت نفسها عليه، فقال لها: اجلسي، فجلست ساعة ثمّ قامت، فقال: اجلسي بارك الله فيكِ، أمّا نحن فلا حاجة لنا فيكِ. فيؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدّة رغبتها , لأنّها لَم تبالغ في الإلحاح في الطّلب، وفهمت من السّكوت عدم الرّغبة، لكنّها لَمّا لَم

تيأس من الرّدّ جلست تنتظر الفرج. وسكوته - صلى الله عليه وسلم -: إمّا حياء من مواجهتها بالرّدّ , وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء جدّاً كما في صفته: أنّه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها. (¬1) وإمّا انتظاراً للوحي، وإمّا تفكّراً في جواب يناسب المقام. قوله: (فقام رجل) في رواية فضيل بن سليمان " من أصحابه ". ولَم أقف على اسمه، لكن وقع في رواية معمر والثّوريّ عند الطّبرانيّ " فقام رجلٌ أحسبه من الأنصار ". وفي رواية زائدة عنده " فقال رجلٌ من الأنصار ". ووقع في حديث ابن مسعود " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ينكح هذه؟ فقام رجل ". قوله: (فقال: يا رسولَ الله زوّجنيها) في رواية سفيان " أنكحنيها ". قوله: (إن لَم يكن لك بها حاجة) كذا في رواية مالك , ونحوه ليعقوب وابن أبي حازم ومعمر والثّوريّ وزائدة، ولا يعارض هذا قوله في حديث حمّاد بن زيد " لا حاجة لي " لجواز أن تتجدّد الرّغبة فيها بعد أن لَم تكن. قوله: (قال: هل عندك من شيء تصدقها؟) وفي حديث ابن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3562) ومسلم (6176) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: فذكره "

مسعود: ألك مال؟. قوله: (قال: ما عندي إلَّا إزاري هذا) في رواية يعقوب وابن أبي حازم " قال: لا والله يا رسولَ الله ". زاد في رواية هشام بن سعد " قال: فلا بدّ لها من شيء " وفي رواية الثّوريّ عند الإسماعيليّ " عندك شيء؟ قال: لا، قال: إنّه لا يصلح ". ووقع في حديث أبي هريرة عند النّسائيّ بعد قوله لا حاجة لي " ولكن تملكيني أمرك، قالت: نعم. فنظر في وجوه القوم فدعا رجلاً , فقال: إنّي أريد أن أزوّجكِ هذا إن رضيتِ، قالت: ما رضيتَ لي فقد رضيتُ ". وهذا إن كانت القصّة متّحدة , يحتمل: أن يكون وقع نظره في وجوه القوم بعد أن سأله الرّجل أن يزوّجها له فاسترضاها أوّلاً , ثمّ تكلم معه في الصّداق. وإن كانت القصّة متعدّدة فلا إشكال. ووقع في حديث ابن عبّاس في " فوائد أبي عمر بن حيوة " , أنّ رجلاً قال: إنّ هذه امرأة رضيت بي فزوّجها منّي، قال: فما مهرها؟ قال: ما عندي شيء: قال: امهرها ما قل أو كثر. قال: والذي بعثك بالحقّ ما أملك شيئاً. وهذه الأظهر فيها التّعدّد. قوله: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك، فالتمِس شيئاً، قال: ما أجد) وقع في رواية سفيان بن عيينة

باختصار ذكر الإزار، وثبت ذكره في رواية مالك وجماعة. منهم من قدّم ذكره على الأمر بالتماس الشّيء أو الخاتم. ومنهم من أخّره. ففي رواية مالك " قال: هل عندك من شيء تصدقها إيّاه؟ قال: ما عندي إلَّا إزاري هذا. فقال: إزارك! إن أعطيتها جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً ". ويجوز في قوله " إزارك " الرّفع على الابتداء. والجملة الشّرطيّة الخبر والمفعول الثّاني محذوف تقديره إيّاه، وثبت كذلك في رواية. ويجوز النّصب على أنّه مفعول ثانٍ لأعطيتها. والإزار يذكّر ويؤنّث. وقد جاء هنا مذكّراً. ووقع في رواية يعقوب وابن أبي حازم بعد قوله " اذهب إلى أهل - إلى أن قال - ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري " قال سهل. أي: ابن سعد الرّاوي: ما له رداء فلها نصفه , قال: ما تصنع بإزارك إن لبسته " الحديث. ووقع للقرطبيّ في هذه الرّواية وهمٌ , فإنّه ظنّ أنّ قوله " فلها نصفه " من كلام سهل بن سعد فشرحه بما نصّه , وقول سهل ما له رداء فلها نصفه , ظاهره لو كان له رداء لشركها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه. وهذا بعيدٌ , إذ ليس في كلام النّبيّ , ولا الرّجل ما يدلّ على شيء من ذلك. قال: ويمكن أن يقال إنّ مراد سهل أنّه لو كان عليه رداء مضاف

إلى الإزار لكان للمرأة نصف ما عليه , الذي هو إمّا الرّداء وإمّا الإزار لتعليله المنع بقوله " إن لبسته لَم يكن عليك منه شيء " فكأنّه قال: لو كان عليك ثوب تنفرد أنت بلبسه وثوب آخر تأخذه هي تنفرد بلبسه. لكان لها أخذه، فإمّا إذا لَم يكن ذلك فلا. انتهى. وقد أخذ كلامه هذا بعض المتأخّرين فذكره ملخّصاً. وهو كلام صحيح , لكنّه مبنيّ على الفهم الذي دخله الوهم، والذي قال " فلها نصفه " هو الرّجل صاحب القصّة، وكلام سهل إنّما هو قوله " ما له رداء فقط " وهي جملة معترضة، وتقدير الكلام: ولكن هذا إزاري فلها نصفه، وقد جاء ذلك صريحاً في رواية أبي غسّان محمّد بن مطرّف. ولفظه " ولكن هذا إزاري ولها نصفه , قال سهل: وما له رداء " ووقع في رواية الثّوريّ عند الإسماعيليّ " فقام رجلٌ عليه إزار وليس عليه رداء " ومعنى قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " إن لبسته .. إلخ " أي: إن لبسته كاملاً , وإلَّا فمن المعلوم من ضيق حالهم وقلة الثّياب عندهم أنّها لو لبسته بعد أن تشقّه لَم يسترها. ويحتمل: أن يكون المراد بالنّفي نفي الكمال , لأنّ العرب قد تنفي جملة الشّيء إذا انتفى كماله , والمعنى لو شققته بينكما نصفين لَم يحصل كمال سترك بالنّصف إذا لبسته ولا هي. وفي رواية معمر عند الطّبرانيّ " ما وجدت والله شيئاً غير ثوبي هذا. أشققه بيني وبينها؟ قال: ما في ثوبك فضل عنك ".

وفي رواية فضيل بن سليمان " ولكنّي أشقّ بردتي هذه فأعطيها النّصف وآخذ النّصف ". وفي رواية الدّراورديّ " قال: ما أملك إلَّا إزاري هذا، قال: أرأيت إن لبسته فأيّ شيء تلبس؟ ". وفي رواية مبشّر " هذه الشّملة التي عليّ ليس عندي غيرها ". وفي رواية هشام بن سعد " ما عليه إلَّا ثوب واحدٌ عاقد طرفيه على عنقه ". وفي حديث ابن عبّاس وجابر " والله ما لي ثوب إلَّا هذا الذي عليّ ". وكلّ هذا ممّا يرجّح الاحتمال الأوّل. والله أعلم. ووقع في رواية حمّاد بن زيد " فقال: أعطها ثوباً، قال: لا أجد، قال: أعطها ولو خاتماً من حديد. فاعتلَّ له " ومعنى قوله " فاعتل له " أي: اعتذر بعدم وجدانه كما دلَّت عليه رواية غيره. ووقع في رواية أبي غسّان قبْل قوله: هل معك من القرآن شيء " فجلس الرّجل حتّى إذا طال مجلسه قام , فرآه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فدعاه أو دعي له " , وفي رواية الثّوريّ عند الإسماعيليّ " فقام طويلاً ثمّ ولى، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: عليّ الرّجل " , وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب مثله , لكن قال " فرآه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مولياً فأمر به فدعي له، فلمّا جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ ". ويحتمل: أنّ كون هذا بعد قوله كما في رواية مالك " هل معك من القرآن شيء " فاستفهمه حينئذٍ عن كمّيّته، ووقع الأمران في رواية معمر قال " فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال:

سورة كذا ". وعرف بهذا المراد بالمعيّة وأنّ معناها الحفظ عن ظهر قلبه. وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب " أتقرؤهنّ عن ظهر قلبك؟ " وكذا وقع في رواية الثّوريّ عند الإسماعيليّ " قال: معي سورة كذا ومعي سورة كذا، قال: عن ظهر قلبك؟ قال: نعم " قوله: (فالتمِسْ ولو خاتماً من حديدٍ , فالتَمَسَ فلم يجد شيئاً) في رواية يعقوب وابن أبي حازم وابن جريجٍ " اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً. فذهب ثمّ رجع فقال: لا والله يا رسولَ الله ما وجدت شيئاً. قال: انظر ولو خاتماً من حديد، فذهب ثمّ رجع , فقال: لا والله يا رسولَ الله. ولا خاتماً من حديد " وكذا وقع في رواية مالك: ثمّ ذهب يطلب مرّتين، لكن باختصارٍ. وفي رواية هشام بن سعد " فذهب فالتمس فلم يجد شيئاً فرجع , فقال: لَم أجد شيئاً , فقال له: اذهب فالتمس. وقال فيه: فقال: ولا خاتم من حديد لَم أجده، ثمّ جلس " ووقع في خاتم. النّصب على المفعوليّة لألتمس، والرّفع على تقدير ما حصل لي ولا خاتم. ولو في قوله " ولو خاتماً " تقليليّة، قال عياض: ووهم من زعم خلاف ذلك. ووقع في حديث أبي هريرة " قال: قم إلى النّساء. فقام إليهنّ فلم يجد عندهنّ شيئاً " والمراد بالنّساء أهل الرّجل كما دلَّت عليه رواية

يعقوب. ووقع التّنصيص على أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - زوّج رجلاً امرأة بخاتمٍ من حديد، أخرجه البغويّ في " معجم الصّحابة " من طريق القعنبيّ عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جدّه , أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله. أنكحني فلانة، قال: ما تصدقها؟ قال: ما معي شيء. قال: لمن هذا الخاتم؟ قال: لي، قال: فأعطها إيّاه، فأنكحه. وهذا وإن كان ضعيف السّند , لكنّه يدخل في مثل هذه الأمّهات. قوله: (هل معك شيءٌ من القرآن؟ قال: نعم) في رواية سفيان " سورة كذا وسورة كذا " زاد مالك تسميتها (¬1)، وفي رواية يعقوب وابن أبي حازم " عدّهنّ " وفي رواية أبي غسّان " لسورٍ يعدّدها ". وفي رواية سعيد بن المسيّب عن سهل بن سعد , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - زوّج رجلاً امرأة على سورتين من القرآن. يعلمها إيّاهما. ووقع في حديث أبي هريرة: قال: ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها. كذا في كتابَي أبي داود والنّسائيّ بلفظ " أو " , وزعم بعض من لقيناه أنّه عند أبي داود بالواو , وعند النّسائيّ بلفظ " أو ". ووقع في حديث ابن مسعود " قال: نعم سورة البقرة وسورة ¬

_ (¬1) ظاهر كلام الشارح أنَّ مالكاً سمَّى السور بعينها , وليس كذلك , وإنما روايته بلفظ " قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسورٍ سَمَّاها .. " كذا في الموطأ (1096) ومن طريقه البخاري (7417). وفي مواضع من صحيحه.

المفصّل " وفي حديث ضميرة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - زوّج رجلاً على سورة البقرة لَم يكن عنده شيء. وفي حديث أبي أُمامة: زوّج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أصحابه امرأة على سورة من المفصّل جعلها مهرها وأدخلها عليه , وقال: علِّمها. وفي حديث أبي هريرة المذكور " فعلِّمها عشرين آية. وهي امرأتك ". وفي حديث ابن عبّاس " أزوّجها منك على أن تعلمها أربع , أو خمس سور من كتاب الله؟ ". وفي مرسل أبي النّعمان الأزديّ عند سعيد بن منصور " زوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من القرآن ". وفي حديث ابن عبّاس وجابر " هل تقرأ من لقرآن شيئاً؟ قال: نعم، إنّا أعطيناك الكوثر. قال: أصدقها إيّاها ". ويُجمع بين هذه الألفاظ: بأنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ بعض، أو أنّ القصص متعدّدة. قوله: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زوجتكها بما معك من القرآن) في رواية سفيان " اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن " , وفي رواية زائدة مثله، لكن قال في آخره " فعلّمها من القرآن ". وفي رواية مالك " قال له: قد زوّجتكها بما معك من القرآن " ومثله في رواية الدّراورديّ عن إسحاق بن راهويه، وكذا في رواية فضيل بن سليمان ومبشّر. وفي رواية الثّوريّ عند ابن ماجه " قد زوّجتكها على ما معك من القرآن " ومثله في رواية هشام بن سعد. وفي رواية الثّوريّ ومعمر

عند الطّبرانيّ " قد ملّكتكها بما معك من القرآن "، وكذا في رواية يعقوب وابن أبي حازم وابن جريجٍ وحمّاد بن زيد في إحدى الرّوايتين عنه. وفي رواية معمر عند أحمد " قد أمْلكتكها " والباقي مثله، وقال في أخرى " فرأيته يمضي وهي تتبعه " وفي رواية أبي غسّان " أمكنّاكها " والباقي مثله. وفي حديث ابن مسعود " قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلّمها، وإذا رزقك الله عوّضتها، فتزوّجها الرّجل على ذلك ". وفي هذا الحديث من الفوائد: فضل القراءة عن ظهر القلب لقوله فيه " أتقرؤهنّ عن ظهر قلبك؟ قال: نعم " , لأنّها أمكن في التّوصّل إلى التّعليم. وقال ابن كثير: إن كان البخاريّ أراد بهذا الحديث الدّلالة على أنّ تلاوة القرآن عن ظهر قلب أفضل من تلاوته نظراً من المصحف. ففيه نظرٌ، لأنّها قضيّة عين فيحتمل أن يكون الرّجل كان لا يحسن الكتابة. وعلم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا يدلّ ذلك على أنّ التّلاوة عن ظهر قلب أفضل في حقّ من يحسن ومن لا يحسن، وأيضاً فإنّ سياق هذا الحديث إنّما هو لاستثبات أنّه يحفظ تلك السّور عن ظهر قلب ليتمكّن من تعليمه لزوجته، وليس المراد أنّ هذا أفضل من التّلاوة نظراً ولا عدمه. قلت: ولا يرِد على البخاريّ شيء ممّا ذكر، لأنّ المراد بقوله " باب

القراءة عن ظهر قلب " مشروعيّتها أو استحبابها، والحديث مطابق لِمَا ترجم به، ولَم يتعرّض لكونها أفضل من القراءة نظراً. وقد صرّح كثيرٌ من العلماء بأنّ القراءة من المصحف نظراً أفضل من القراءة عن ظهر قلب. وأخرج أبو عبيد في " فضائل القرآن " من طريق عبيد الله بن عبد الرّحمن عن بعض أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رفعه قال: فضل قراءة القرآن نظراً على من يقرؤه ظهراً كفضل الفريضة على النّافلة. وإسناده ضعيف، ومن طريق ابن مسعود موقوفاً: أديموا النّظر في المصحف. وإسناده صحيح. ومن حيث المعنى. أنّ القراءة في المصحف أسلم من الغلط، لكنّ القراءة عن ظهر قلب أبعد من الرّياء وأمكن للخشوع. والذي يظهر أنّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. وأخرج ابن أبي داود بإسنادٍ صحيح عن أبي أُمامة: اقرءوا القرآن، ولا تغرّنّكم هذه المصاحف المعلّقة، فإنّ الله لا يعذّب قلباً وعى القرآن. وفيه أيضاً. أن لا حدّ لأقلّ المهر، قال ابن المنذر: فيه ردّ على من زعم أنّ أقلّ المهر عشرة دراهم. وكذا مَن قال ربع دينار، قال: لأنّ خاتماً من حديد لا يساوي ذلك. وقال المازريّ: تعلّقَ به من أجاز النّكاح بأقلّ من ربع دينار , لأنّه خرج مخرج التّعليل , ولكن مالك قاسه على القطع في السّرقة.

قال عياض: تفرّد بهذا مالك عن الحجازيّين، لكن مستنده الالتفات إلى قوله تعالى (أن تبتغوا بأموالكم) وبقوله (ومن لَم يستطع منكم طولاً) فإنّه يدلّ على أنّ المراد ما له بالٌ من المال , وأقلّه ما استبيح به قطع العضو المحترم. قال: وأجازه الكافّة بما تراضى عليه الزّوجان , أو من العقد إليه بما فيه منفعة كالسّوط والنّعل إن كانت قيمته أقلّ من درهم. وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاريّ وأبو الزّناد وربيعة وابن أبي ذئب وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه , وابن جريجٍ ومسلم بن خالد وغيرهما من أهل مكّة , والأوزاعيّ في أهل الشّام , والليث في أهل مصر , والثّوريّ وابن أبي ليلى وغيرهما من العراقيّين غير أبي حنيفة ومن تبعه , والشّافعيّ وداود وفقهاء أصحاب الحديث وابن وهب من المالكيّة. وقال أبو حنيفة: أقلّه عشرة، وابن شبرمة أقلّه خمسة. وقال مالكٌ: أقلّه ثلاثة أو ربع دينار. بناءً على اختلافهم في مقدار ما يجب فيه القطع. وقد قال الدّراورديّ لمالك لَمَّا سمعه يذكر هذه المسألة: تعرّقت يا أبا عبد الله، أي: سلكت سبيل أهل العراق في قياسهم مقدار الصّداق على مقدار نصاب السّرقة وقال القرطبيّ: استدل مَن قاسه بنصاب السّرقة. بأنّه عضو آدميّ محترم فلا يستباح بأقلّ من كذا قياساً على يد السّارق.

وتعقّبه الجمهور: بأنّه قياس في مقابل النّصّ فلا يصحّ، وبأنّ اليد تقطع وتبين ولا كذلك الفرج، وبأنّ القدر المسروق يجب على السّارق ردّه مع القطع ولا كذلك الصّداق. وقد ضعّف جماعةٌ من المالكيّة أيضاً هذا القياس. فقال أبو الحسن اللخميّ: قياس قدر الصّداق بنصاب السّرقة ليس بالبيّن، لأنّ اليد إنّما قطعت في ربع دينار نكالاً للمعصية، والنّكاح مستباح بوجهٍ جائز، ونحوه لأبي عبد الله بن الفخّار منهم. نعم. قوله تعالى (ومن لَم يستطع منكم طولاً) يدلّ على أنّ صداق الحرّة لا بدّ وأن يكون ما ينطلق عليه اسمُ مالٍ له قدر ليحصل الفرق بينه وبين مهر الأمة. وأمّا قوله تعالى (أن تبتغوا بأموالكم) فإنّه يدلّ على اشتراط ما يسمّى مالاً في الجملة قلَّ أو كثر , وقد حدّه بعض المالكيّة بما تجب فيه الزّكاة، وهو أقوى من قياسه على نصاب السّرقة، وأقوى من ذلك ردّه إلى المتعارف. وقال ابن العربيّ: وزن الخاتم من الحديد لا يساوي ربع دينار، وهو ممّا لا جواب عنه ولا عذر فيه، لكنّ المحقّقين من أصحابنا نظروا إلى قوله تعالى (ومن لَم يستطع منكم طولاً) فمنع الله القادر على الطّول من نكاح الأمة، فلو كان الطّول درهماً ما تعذّر على أحد. ثمّ تعقّبه: بأنّ ثلاثة دراهم كذلك، يعني فلا حجّة فيه للتّحديد ولا سيّما مع الاختلاف في المراد بالطّول.

وفيه. أنّ الهبة في النّكاح خاصّة بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لقول الرّجل " زوّجنيها " ولَم يقل هبها لي. ولقولها هي " وهبت نفسي لك " وسكت - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فدلَّ على جوازه له خاصّة، مع قوله تعالى (خالصة لك من دون المؤمنين). وله صورتان: إحداهما: مجرد الهبة من غير ذكر مهر. والثاني: العقد بلفظ الهبة. فالصورة الأولى: ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح. وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن قالوا يجب مهر المثل، وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح. وحجة الجمهور قوله تعالى (خالصة لك من دون المؤمنين) فعدُّوا ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المآل. وأجاب المجيزون عن ذلك: بأن المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة. والصورة الثانية: ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصحُّ إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث. وذهب الأكثر: إلى أنه يصح بالكنايات.

واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد. وفيه. جواز انعقاد نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الهبة دون غيره من الأمّة على أحد الوجهين للشّافعيّة، والآخر لا بدّ من لفظ النّكاح أو التّزويج. وفيه. أنّ الإمام يزوّج من ليس لها وليّ خاصّ لمن يراه كفؤاً لها , ولكن لا بدّ من رضاها بذلك. وقال الدّاوديّ: ليس في الخبر أنّه استأذنها , ولا أنّها وكلته , وإنّما هو من قوله تعالى (النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم) يعني فيكون خاصّاً به - صلى الله عليه وسلم - أنّه يزوّج من شاء من النّساء بغير استئذانها لمن شاء، وبنحوه. قال ابن أبي زيد. وأجاب ابن بطّال: بأنّها لَمَّا قالت له " وهبت نفسي لك " كان كالإذن منها في تزويجها لمن أراد، لأنّها لا تملك حقيقة، فيصير المعنى جعلت لك أن تتصرّف في تزويجي. انتهى ولو راجعا حديث أبي هريرة لَمَا احتاجا إلى هذا التّكلف، فإنّ فيه كما قدّمته: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال للمرأة: إنّي أريد أن أزوّجك هذا إن رضيتِ، فقالت: ما رضيتَ لي فقد رضيتُ. وفيه جواز تأمّل محاسن المرأة لإرادة تزويجها. وإن لَم تتقدّم الرّغبة في تزويجها ولا وقعت خطبتها، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - صعّد فيها النّظر وصوّبه، وفي الصّيغة ما يدلّ على المبالغة في ذلك ولَم يتقدّم منه رغبة فيها ولا خطبة، ثمّ قال " لا حاجة لي في النّساء " ولو لَم يقصد أنّه إذا رأى منها

ما يعجبه أنّه يقبلها ما كان للمبالغة في تأمّلها فائدة. ويمكن الانفصال عن ذلك بدعوى الخصوصيّة له لمحل العصمة. والذي تحرّر عندنا , أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يحرم عليه النّظر إلى المؤمنات الأجنبيّات بخلاف غيره. وسلك ابن العربيّ في الجواب مسلكاً آخر , فقال: يحتمل أنّ ذلك قبل الحجاب، أو بعده لكنها كانت متلفّفة، وسياق الحديث يُبعد ما قال. واستنبط البخاريّ جواز النّظر إلى المرأة قبل التّزويج. وقد ورد ذلك في أحاديث أصحّها حديث أبي هريرة , قال رجلٌ: إنّه تزوّج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها. فإنّ في أعين الأنصار شيئاً. أخرجه مسلم والنّسائيّ. وفي لفظ له صحيح " أنّ رجلاً أراد أن يتزوّج امرأة " فذكره. قال الغزاليّ في " الإحياء ": اختلف في المراد بقوله " شيئاً ". فقيل: عَمَش , وقيل: صِغَر. قلت: الثّاني وقع في رواية أبي عوانة في " مستخرجه " فهو المعتمد (¬1). ¬

_ (¬1) مستخرج أبي عوانة (3262) وفي آخره , قال: يعني أعينهم صغار " وكذا عند ابن حبَّان أيضاً في " صحيحه " (4041) ومن الواضح أن التفسير من أحد رواته , ولَم يبيّنا في روايتهما قائل هذا التفسير. والله أعلم

وهذا الرّجل يحتمل أن يكون المغيرة، فقد أخرج التّرمذيّ والنّسائيّ من حديثه , أنّه خطب امرأة , فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: انظر إليها، فإنّه أحرى أن يدوم بينكما. وصحَّحه ابن حبّان، وأخرج أبو داود والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: إذا خطب أحدكم المرأة. فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. وسنده حسنٌ. وله شاهد من حديث محمّد بن مسلمة، وصحَّحه ابن حبّان والحاكم، وأخرجه أحمد وابن ماجه. ومن حديث أبي حميدٍ أخرجه أحمد والبزّار. وفيه أنّ الهبة لا تتمّ إلَّا بالقبول، لأنّها لَمَّا قالت: وهبت نفسي لك. ولَم يقل قبلت لَم يتمّ مقصودها , ولو قبلها لصارت زوجاً له , ولذلك لَم ينكر على القائل " زوّجنيها " وفيه جواز الخطبة على خطبة من خطب إذا لَم يقع بينهما ركون , ولا سيّما إذا لاحت مخايل الرّدّ، قاله أبو الوليد الباجيّ. وتعقّبه عياض وغيره: بأنّه لَم يتقدّم عليها خطبة لأحدٍ ولا ميل، بل هي أرادت أن يتزوّجها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فعرضت نفسها مجّاناً مبالغة منها في تحصيل مقصودها فلم يقبل، ولَمّا قال: ليس لي حاجة في النّساء. عرف الرّجل أنّه لَم يقبلها , فقال: زوّجنيها. ثمّ بالغ في الاحتراز , فقال: إن لَم يكن لك بها حاجة. وإنّما قال ذلك بعد تصريحه بنفي الحاجة لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها، فكان ذلك دالاً على وفور فطنة الصّحابيّ

المذكور وحسن أدبه. قلت: ويحتمل أن يكون الباجيّ أشار إلى أنّ الحكم الذي ذكره يستنبط من هذه القصّة، لأنّ الصّحابيّ لو فهم أنّ للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها رغبة لَم يطلبها، فكذلك من فهم أنّ له رغبة في تزويج امرأة لا يصلح لغيره أن يزاحمه فيها حتّى يظهر عدم رغبته فيها. إمّا بالتّصريح , أو ما في حكمه. وفيه أنّ النّكاح لا بدّ فيه من الصّداق لقوله " هل عندك من شيء تصدقها "؟ وقد أجمعوا على أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يطأ فرجاً وُهب له دون الرّقبة بغير صداق. وفيه أنّ الأولى أن يذكر الصّداق في العقد , لأنّه أقطع للنّزاع وأنفع للمرأة. فلو عقد بغير ذكر صداق صحّ ووجب لها مهر المثل بالدّخول على الصّحيح، وقيل بالعقد. ووجه كونه أنفع لها أنّه يثبت لها نصف المسمّى أن لو طلقت قبل الدّخول. وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر. وفيه جواز الحلف بغير استحلاف للتّأكيد، لكنّه يكره لغير ضرورة. وفي قوله " أعندك شيء؟ فقال: لا " دليل على تخصيص العموم بالقرينة، لأنّ لفظ شيء يشمل الخطير والتّافة، وهو كان لا يعدم شيئاً تافهاً كالنّواة ونحوها، لكنّه فهم أنّ المراد ما له قيمة في الجملة، فلذلك نفى أن يكون عنده.

ونقل عياض الإجماع على أنّ مثل الشّيء الذي لا يتموّل ولا له قيمة لا يكون صداقاً ولا يحلّ به النّكاح. فإن ثبت نقله فقد خرق هذا الإجماع أبو محمّد بن حزم , فقال: يجوز بكل ما يسمّى شيئاً , ولو كان حبّة من شعير. ويؤيّد ما ذهب إليه الكافّة , قوله - صلى الله عليه وسلم -: التمس ولو خاتماً من حديد. لأنّه أورده مورد التّقليل بالنّسبة لِما فوقه، ولا شكّ أنّ الخاتم من الحديد له قيمة وهو أعلى خطراً من النّواة وحبّة الشّعير، ومساق الخبر يدلّ على أنّه لا شيء دونه يستحلّ به البضع. وقد وردت أحاديث في أقلّ الصّداق. لا يثبت منها شيء. منها: عند ابن أبي شيبة من طريق أبي لبيبة رفعه: من استحلَّ بدرهمٍ في النّكاح فقد استحل. ومنها عند أبي داود عن جابر رفعه: من أعطى في صداق امرأة سويقاً أو تمراً فقد استحل. وعند التّرمذيّ من حديث عامر بن ربيعة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أجاز نكاح امرأة على نعلين. وعند الدّارقطنيّ من حديث أبي سعيد في أثناء حديث المهر " ولو على سواك من أراك " وأقوى شيء ورد في ذلك حديث جابر عند مسلم: كنّا نستمتع بالقبضة من التّمر والدّقيق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى نهى عنها عمر. قال البيهقيّ: إنّما نهى عمر عن النّكاح إلى أجلٍ لا عن قدر الصّداق

، وهو كما قال. وفيه دليل للجمهور لجواز النّكاح بالخاتم الحديد , وما هو نظير قيمته. قال ابن العربيّ من المالكيّة كما تقدّم: لا شكّ أنّ خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار، وهذا لا جواب عنه لأحدٍ ولا عذر فيه. وانفصل بعض المالكيّة عن هذا الإيراد مع قوّته بأجوبةٍ: الأول: أنّ قوله " ولو خاتماً من حديد ". خرّج مخرج المبالغة في طلب التّيسير عليه , ولَم يرد عين الخاتم الحديد , ولا قدر قيمته حقيقة، لأنّه لَمَّا قال: لا أجد شيئاً. عرف أنّه فهم أنّ المراد بالشّيء ما له قيمة , فقيل له: ولو أقلّ ما له قيمة كخاتم الحديد، ومثله " تصدّقوا ولو بظلفٍ محرّقٍ " (¬1) " ولو بفرسن شاة " (¬2) مع أنّ الظّلف والفرسن لا ينتفع به ولا يتصدّق به. الثاني: احتمال أنّه طلب منه ما يعجّل نقده قبل الدّخول. لا أنّ ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1646) ومن طريقه الإمام أحمد (6/ 435) والنسائي في " المجتبى " (5/ 81) والبخاري في " التاريخ الكبير " (5/ 262) والطبراني في " المعجم الكبير " (555) وابن حبان في " صحيحه " (3374) والبيهقي في " السنن الكبرى " (4/ 177) والبغوي في " شرح السنة " (6/ 175) وغيرهم من طرق عن مالك عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري ثم الحارثي عن جدته , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ردُّوا المسكين ولو بظلف محرق. ولَم أره بلفظ " تصدَّقوا " وهي بمعنى (¬2) أخرجه البخاري (2566) ومسلم (2426) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال: يا نساء المسلمات. لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة "

ذلك جميع الصّداق، وهذا جواب ابن القصّار. وهذا يلزم منه الرّدّ عليهم حيث استحبّوا تقديم ربع دينار أو قيمته قبل الدّخول لا أقلّ. الثالث: دعوى اختصاص الرّجل المذكور بهذا القدر دون غيره. وهذا جواب الأبهريّ. وتعقّب: بأنّ الخصوصيّة تحتاج إلى دليل خاصّ. الرابع: احتمال أن تكون قيمته إذ ذاك ثلاثة دراهم أو ربع دينار. وقد وقع عند الحاكم والطّبرانيّ من طريق الثّوريّ عن أبي حازم عن سهل بن سعد , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - زوّج رجلاً بخاتمٍ من حديد فصّه فضّة. واستدل به على جواز اتّخاذ الخاتم من الحديد، ولا حجّة فيه , لأنّه لا يلزم من جواز الاتّخاذ جواز اللبس، فيحتمل: أنّه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته. وأمّا ما أخرجه أصحاب السّنن وصحَّحه ابن حبّان من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه , أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتمٌ من شبَه , فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟ فطرحه. ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد , فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النّار؟ فطرحه. فقال: يا رسولَ الله مِن أيّ شيء أتّخذه؟ قال: اتّخذه من ورق، ولا تُتمّه مثقالاً. وفي سنده أبو طيبة - بفتح المهملة وسكون التّحتانيّة بعدها موحّدة

- اسمه عبد الله بن مسلم المروزيّ، قال أبو حاتم الرّازيّ: يكتب حديثه ولا يحتجّ به، وقال ابن حبّان في الثّقات: يخطئ ويخالف. فإن كان محفوظاً حُمل المنع على ما كان حديداً صرفاً. وقد قال التّيفاشيّ في " كتاب الأحجار " خاتم الفولاذ مطردة للشّيطان إذا لوي عليه فضّة، فهذا يؤيّد المغايرة في الحكم. واستدل به أيضاً على وجوب تعجيل الصّداق قبل الدّخول، إذ لو ساغ تأخيره لسأله. هل يقدر على تحصيل ما يمهرها بعد أن يدخل عليها؟ ويتقرّر ذلك في ذمّته. ويمكن الانفصال عن ذلك بأنّه - صلى الله عليه وسلم - أشار بالأولى، والحامل على هذا التّأويل ثبوت جواز نكاح المفوّضة وثبوت جواز النّكاح على مسمّى في الذّمّة. والله أعلم. وفيه أنّ إصداق ما يتموّل يخرجه عن يد مالكه. حتّى أنّ من أصدق جارية مثلاً حرم عليه وطؤها. وكذا استخدامها بغير إذن من أصدقها. وأنّ صحّة المبيع تتوقّف على صحّة تسليمه فلا يصحّ ما تعذّر إمّا حسّاً كالطّير في الهواء , وإمّا شرعاً كالمرهون، وكذا الذي لو زال إزاره لانكشفت عورته. كذا قال عياض. وفيه نظرٌ. واستدل به على جواز جعل المنفعة صداقاً ولو كان تعليم القرآن. قال المازريّ: هذا ينبني على أنّ الباء للتّعويض. كقولك بعتك ثوبي

بدينارٍ , وهذا هو الظّاهر وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حاملاً للقرآن. لصارت المرأة بمعنى الموهوبة والموهوبة خاصّة بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وانفصل الأبهريّ وقبله الطّحاويّ ومن تبعهما كأبي محمّد بن أبي زيد عن ذلك: بأنّ هذا خاصّ بذلك الرّجل، لكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يجوز له نكاح الواهبة فكذلك يجوز له أن ينكحها لمن شاء بغير صداق، ونحوه للدّاوديّ وقال: إنكاحها إيّاه بغير صداق , لأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وقوّاه بعضهم: بأنّه لَمَّا قال له " ملكتكها " لَم يشاورها ولا استأذنها. وهذا ضعيف. لأنّها هي أوّلاً فوّضت أمرها إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما تقدّم في رواية البخاري " فَرِ فيّ رأيك " وغير ذلك من ألفاظ الخبر التي ذكرناها، فلذلك لَم يحتج إلى مراجعتها في تقدير المهر , وصارت كمَن قالت لوليّها: زوّجني بما ترى من قليل الصّداق وكثيره. واحتجّ لهذا القول: بما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل أبي النّعمان الأزديّ قال: زوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من القرآن , وقال: لا تكون لأحدٍ بعدك مهراً. وهذا مع إرساله فيه من لا يعرف. وأخرج أبو داود من طريق مكحول قال: ليس هذا لأحدٍ بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه.

وقال عياض: يحتمل قوله " بما معك من القرآن " وجهين: أظهرهما: أن يعلّمها ما معه من القرآن , أو مقداراً معيّناً منه , ويكون ذلك صداقها. وقد جاء هذا التّفسير عن مالك. ويؤيّده قوله في بعض طرقه الصّحيحة " فعلمها من القرآن " كما تقدّم، وعيّن في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلمها وهو عشرون آية. ويحتمل: أن تكون الباء بمعنى اللام. أي: لأجل ما معك من القرآن. فأكرمه بأن زوّجه المرأة بلا مهر لأجل كونه حافظاً للقرآن أو لبعضه. ونظيره قصّة أبي طلحة مع أمّ سليم , وذلك فيما أخرجه النّسائيّ وصحَّحه من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خطب أبو طلحة مع أمّ سليم، فقالت: والله ما مثلك يردّ، ولكنّك كافر وأنا مسلمة. ولا يحلّ لي أن أتزوّجك، فإنْ تُسلم فذاك مهري , ولا أسألك غيره، فأسْلَمَ، فكان ذلك مهرها. وأخرج النّسائيّ من طريق عبد الله بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: تزوّج أبو طلحة أمّ سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، فذكر القصّة. وقال في آخره: فكان ذلك صداق ما بينهما ". ترجم عليه النّسائيّ " التّزويج على الإسلام " ثمّ ترجم على حديث سهل " التّزويج على سورة من القرآن " فكأنّه مال إلى ترجيح الاحتمال الثّاني. ويؤيّد أنّ الباء للتّعويض لا للسّببيّة: ما أخرجه ابن أبي شيبة

والتّرمذيّ من حديث أنس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سأل رجلاً من أصحابه: يا فلان هل تزوّجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوّج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد. الحديث. واستدل الطّحاويّ للقول الثّاني من طريق النّظر , بأنّ النّكاح إذا وقع على مجهول كان كما لَم يسمّ فيحتاج إلى الرّجوع إلى المعلوم. قال: والأصل المجمع عليه لو أنّ رجلاً استأجر رجلاً على أن يُعلمه سورة من القرآن بدرهمٍ لَم يصحّ , لأنّ الإجازة لا تصحّ إلَّا على عملٍ معيّن كغسل الثّوب أو وقت معيّن، والتّعليم قد لا يعلم مقدار وقته، فقد يتعلم في زمان يسير وقد يحتاج إلى زمان طويل، ولهذا لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لَم يصحّ، قال: فإذا كان التّعليم لا تملك به الأعيان لا تملك به المنافع. والجواب عمّا ذكره: أنّ المشروط تعليمه معيّن كما تقدّم في بعض طرقه. وأمّا الاحتجاج بالجهل بمدّة التّعليم. فيحتمل: أن يقال اغتفر ذلك في باب الزّوجين , لأنّ الأصل استمرار عشرتهما، ولأنّ مقدار تعليم عشرين آية لا تختلف فيه أفهام النّساء غالباً، خصوصاً مع كونها عربيّة من أهل لسان الذي يتزوّجها كما تقدّم. وانفصل بعضهم: بأنّه زوّجها إيّاه لأجل ما معه من القرآن الذي حفظه , وسكت عن المهر فيكون ثابتاً لها في ذمّته إذا أيسر كنكاح التّفويض.

وإن ثبت حديث ابن عبّاس المتقدّم حيث قال فيه " فإذا رزقك الله فعوّضها " كان فيه تقوية لهذا القول، لكنّه غير ثابت. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون زوّجه لأجل ما حفظه من القرآن وأصدق عنه , كما كفّر عن الذي وقع على امرأته في رمضان , ويكون ذكر القرآن وتعليمه على سبيل التّحريض؛ على تعلم القرآن وتعليمه وتنويها بفضل أهله. قالوا: وممّا يدلّ على أنّه لَم يجعل التّعليم صداقاً أنّه لَم يقع معرفة الزّوج بفهم المرأة , وهل فيها قابليّة التّعليم بسرعةٍ أو ببطءٍ؟، ونحو ذلك ممّا تتفاوت فيه الأغراض. والجواب عن ذلك قد تقدّم في بحث الطّحاويّ. ويؤيّد قول الجمهور: قوله - صلى الله عليه وسلم - أوّلاً: هل معك شيء تصدقها؟. ولو قصد استكشاف فضله لسأله عن نسبه وطريقته ونحو ذلك. فإن قيل: كيف يصحّ جعل تعليمها القرآن مهراً , وقد لا تتعلم؟. أجيب: كما يصحّ جعل تعليمها الكتابة مهراً وقد لا تتعلم، وإنّما وقع الاختلاف عند من أجاز جعل المنفعة مهراً. هل يُشترط أن يعلم حذق المتعلم , أو لا؟ كما تقدّم. وفيه جواز كون الإجارة صداقاً. ولو كانت المصدوقة المستأجرة، فتقوم المنفعة من الإجارة مقام الصّداق، وهو قول الشّافعيّ وإسحاق والحسن بن صالح، وعند المالكيّة فيه خلاف. ومنعه الحنفيّة في الحرّ , وأجازوه في العبد إلَّا في الإجارة في تعليم

القرآن فمنعوه مطلقاً. بناءً على أصلهم في أنّ أخذ الأُجرة على تعليم القرآن لا يجوز. وقد نقل عياض: جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافّة إلَّا الحنفيّة. وقال ابن العربيّ: من العلماء مَن قال زوَّجَه على أن يعلمها من القرآن فكأنّها كانت إجارة، وهذا كرهه مالك ومنعه أبو حنيفة , وقال ابن القاسم: يفسخ قبل الدّخول ويثبت بعده. قال: والصّحيح جوازه بالتّعليم. وقد روى يحيى بن مضر عن مالك في هذه القصّة " أنّ ذلك أجرة على تعليمها " وبذلك جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وبالوجهين قال الشّافعيّ وإسحاق، وإذا جاز أن يؤخذ عنه العوض جاز أن يكون عوضاً. وقد أجازه مالك من إحدى الجهتين فيلزم أن يجيزه من الجهة الأخرى. وقال القرطبيّ: قوله " علمها " نصّ في الأمر بالتّعليم، والسّياق يشهد بأنّ ذلك لأجل النّكاح فلا يلتفت لقول مَن قال إنّ ذلك كان إكراماً للرّجل. فإنّ الحديث يصرّح بخلافه، وقولهم أنّ الباء بمعنى اللام ليس بصحيحٍ لغة ولا مساقاً. واستدل به على أنّ مَن قال زوّجني فلانة. فقال: زوّجتكها بكذا. كفى ذلك , ولا يحتاج إلى قول الزّوج قبلت. قاله أبو بكر الرّازيّ من

الحنفيّة , وذكره الرّافعيّ من الشّافعيّة. وقد استشكل من جهة طول الفصل بين الاستيجاب والإيجاب وفراق الرّجل المجلس لالتماس ما يُصْدقها إيّاه. وأجاب المُهلَّب: بأنّ بساط القصّة أغنى عن ذلك، وكذا كلّ راغب في التّزويج إذا استوجب فأجيب بشيءٍ معيّن وسكت كفى إذا ظهر قرينة القبول، وإلا فيشترط معرفة رضاه بالقدر المذكور. واستدل به على جواز ثبوت العقد بدون لفظ النّكاح والتّزويج، وخالف ذلك الشّافعيّ ومن المالكيّة ابن دينار وغيره. والمشهور عن المالكيّة جوازه بكل لفظ دلَّ على معناه إذا قرن بذكر الصّداق أو قصد النّكاح كالتّمليك والهبة والصّدقة والبيع. ولا يصحّ عندهم بلفظ الإجارة ولا العارية ولا الوصيّة، واختلف عندهم في الإحلال والإباحة. وأجازه الحنفيّة بكل لفظ يقتضي التّأبيد مع القصد، وموضع الدّليل من هذا الحديث ورود قوله - صلى الله عليه وسلم - " ملكتكها "، لكن ورد أيضاً بلفظ " زوّجتكها ". قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصّة واحدة واختلف فيها مع اتّحاد مخرج الحديث، فالظّاهر أنّ الواقع من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحد الألفاظ المذكورة، فالصّواب في مثل هذا النّظر إلى التّرجيح، وقد نُقل عن الدّارقطنيّ , أنّ الصّواب رواية من روى " زوّجتكها " وأنّهم أكثر وأحفظ.

قال: وقال بعض المتأخّرين: يحتمل صحّة اللفظين , ويكون قال لفظ التّزويج أوّلاً ثمّ قال " اذهب فقد ملكتكها " بالتّزويج السّابق. قال ابن دقيق العيد: وهذا بعيد , لأنّ سياق الحديث يقتضي تعيين لفظة قبلت لا تعدّدها , وأنّها هي التي انعقد بها النّكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النّكاح، والذي قاله بعيد جدّاً. وأيضاً فلخصمه أن يعكس ويدّعي أنّ العقد وقع بلفظ التّمليك ثمّ قال زوّجتكها بالتّمليك السّابق. قال: ثمّ إنّه لَم يتعرّض لرواية " أمكنّاكها " مع ثبوتها، وكلّ هذا يقتضي تعيّن المصير إلى التّرجيح. انتهى وأشار بالمتأخّر إلى النّوويّ , فإنّه كذلك قال في شرح مسلم. وقد قال ابن التّين: لا يجوز أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عقد بلفظ التّمليك والتّزويج معاً في وقت واحد. فليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فسقط الاحتجاج به، هذا على تقدير تساوي الرّوايتين فكيف مع التّرجيح؟. قال: ومن زعم أنّ معمراً وهِمَ فيه وَرَدَ عليه أنّ البخاريّ أخرجه في غير موضع من رواية غير معمر مثل معمر. انتهى وزعم ابن الجوزيّ في " التّحقيق " أنّ رواية أبي غسّان " أنكحتكها " ورواية الباقين " زوّجتكها " إلَّا ثلاثة أنفس وهم معمر ويعقوب وابن أبي حازم، قال: ومعمر كثير الغلط. والآخران لَم يكونا حافظين. انتهى.

وقد غلِط في رواية أبي غسّان فإنّها بلفظ " أمكنّاكها " في جميع نسخ البخاريّ، نعم. وقعت بلفظ " زوّجتكها " عند الإسماعيليّ من طريق حسين بن محمّد عن أبي غسّان، والبخاريّ أخرجه عن سعيد بن أبي مريم عن أبي غسّان بلفظ " أمكنّاكها ". وقد أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق يحيى بن عثمان بن صالح عن سعيد - شيخ البخاريّ فيه - بلفظ " أنكحتكها " فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسّان، ورواية " أنكحتكها " في البخاريّ لابن عيينة كما حرّرته. وما ذكره من الطّعن في الثّلاثة مردودٌ , ولا سيّما عبد العزيز فإنّ روايته تترجّح يكون الحديث عن أبيه. وآل المرء أعرف بحديثه من غيرهم. نعم. الذي تحرّر ممّا قدّمته أنّ الذين رووه بلفظ التّزويج أكثر عدداً ممّن رواه بغير لفظ التّزويج، ولا سيّما وفيهم من الحفّاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة " أنكحتكها " مساوية لروايتهم، ومثلها رواية زائدة. وعدّ ابن الجوزيّ فيمن رواه بلفظ التّزويج حمّاد بن زيد. وروايته بهذا اللفظ عند البخاري في فضائل القرآن، وأمّا في النّكاح فبلفظ " ملكتكها ". وقد تبِع الحافظُ صلاحُ الدّين العلائيُّ ابنَ الجوزيّ , فقال في ترجيح رواية التّزويج: ولا سيّما وفيهم مالك وحمّاد بن زيد. انتهى

وقد تحرّر أنّه اختلف على حمّاد فيها كما اختلف على الثّوريّ , فظهر أنّ رواية التّمليك وقعت في إحدى الرّوايتين عن الثّوريّ , وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرّحمن وحمّاد بن زيد، وفي رواية معمر " ملكتكها ". وهي بمعناها. وانفرد أبو غسّان برواية " أمكنّاكها " وأخلق بها أن تكون تصحيفاً من ملكناكها. فرواية التّزويج أو الإنكاح أرجح، وعلى تقدير أنّ تساوي الرّوايات يقف الاستدلال بها لكلٍّ من الفريقين. وقد قال البغويّ في " شرح السّنّة ": لا حجّة في هذا الحديث لمن أجاز انعقاد النّكاح بلفظ التّمليك , لأنّ العقد كان واحداً فلم يكن اللفظ إلَّا واحداً، واختلف الرّواة في اللفظ الواقع، والذي يظهر أنّه كان بلفظ التّزويج على وفق قول الخاطب: زوّجنيها. إذ هو الغالب في أمر العقود , إذ قلَّما يختلف فيه لفظ المتعاقدين؛ ومن روى بلفظٍ غير لفظ التّزويج لَم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنّما أراد الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن. وقيل: إنّ بعضهم رواه بلفظ الإمكان، وقد اتّفقوا على أنّ هذا العقد بهذا اللفظ لا يصحّ. كذا قال. وما ذكر كافٍ في دفع احتجاج المخالف بانعقاد النّكاح بالتّمليك ونحوه. وقال العلائيّ: من المعلوم أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يقل هذه الألفاظ كلّها

تلك السّاعة، فلم يبق إلَّا أن يكون قال لفظة منها وعبّر عنه بقيّة الرّواة بالمعنى، فمَن قال: بأنّ النّكاح ينعقد بلفظ التّمليك ثمّ احتجّ بمجيئه في هذا الحديث. إذا عورض ببقيّة الألفاظ لَم ينتهض احتجاجه، فإن جزم بأنّه هو الذي تلفّظ به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ومَن قال: غيره ذكره بالمعنى. قلبه عليه مخالفه , وادّعى ضدّ دعواه , فلم يبق إلَّا التّرجيح بأمرٍ خارجيّ، ولكنّ القلب إلى ترجيح رواية التّزويج أميل , لكونها رواية الأكثرين، ولقرينة قول الرّجل الخاطب " زوّجنيها يا رسولَ الله ".انتهى قلت: وقد تقدّم النّقل عن الدّارقطنيّ , أنّه رجّح رواية مَن قال " زوّجتكها ". وبالغ ابن التّين. فقال. أجمع أهل الحديث على أنّ الصّحيح رواية " زوّجتكها " وأنّ رواية " ملكتكها ". وهمٌ. وتعلَّق بعض المتأخّرين: بأنّ الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمّة فلولا أنّ هذه الألفاظ عندهم مترادفة ما عبّروا بها. فدلَّ على أنّ كان لفظ منها يقوم مقام الآخر عند ذلك الإمام، وهذا لا يكفي في الاحتجاج بجواز انعقاد النّكاح بكل لفظة منها، إلَّا أنّ ذلك لا يدفع مطالبتهم بدليل الحصر في اللفظين مع الاتّفاق على إيقاع الطّلاق بالكنايات بشرطها , ولا حصر في الصّريح. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنّ النّكاح ينعقد بكل لفظ يدلّ عليه. وهو قول الحنفيّة والمالكيّة وإحدى الرّوايتين عن أحمد، واختلف

التّرجيح في مذهبه. فأكثر نصوصه تدلّ على موافقة الجمهور. واختار ابن حامد وأتباعه الرّواية الأخرى الموافقة للشّافعيّة. واستدل ابن عقيل منهم لصحّة الرّواية الأولى بحديث " أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها " فإنّ أحمد نصّ على أنّ مَن قال: أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها أنّه ينعقد نكاحها بذلك. واشترط من ذهب إلى الرّواية الأخرى. بأنّه لا بدّ أن يقول في مثل هذه الصّورة تزوّجتها، وهي زيادة على ما في الخبر وعلى نصّ أحمد، وأصوله تشهد بأنّ العقود تنعقد بما يدلّ على مقصودها من قول أو فعل. وفيه أنّ من رغب تزويج من هو أعلى قدراً منه لا لوم عليه , لأنّه بصدد أن يجاب إلَّا إن كان ممّا تقطع العادة بردّه كالسّوقيّ يخطب من السّلطان بنته أو أخته. وأنّ من رغبت في تزويج من هو أعلى منها لا عار عليها أصلاً , ولا سيّما إن كان هناك غرض صحيح أو قصد صالح , إمّا لفضلٍ دينيّ في المخطوب , أو لهوىً فيه يخشى من السّكوت عنه الوقوع في محذور. واستدل به على صحّة قول من جعل عتق الأمة عوضاً عن بضعها، كذا ذكره الخطّابيّ، ولفظه: إنّ من أعتق أمة كان له أن يتزوّجها ويجعل عتقها عوضاً عن بضعها. وفي أخذه من هذا الحديث بُعدٌ، وقد تقدّم البحث فيه مفصّلاً قبل

هذا (¬1). وفيه أنّ سكوت من عقد عليها. وهي ساكتة لازم إذا لَم يمنع من كلامها خوف أو حياء أو غيرهما. وفيه جواز نكاح المرأة دون أن تُسأل. هل لها وليّ خاصّ أو لا؟، ودون أن تسأل هل هي في عصمة رجل أو في عدّته؟. قال الخطّابيّ: ذهب إلى ذلك جماعة حملاً على ظاهر الحال، ولكنّ الحكّام يحتاطون في ذلك ويسألونها. قلت: وفي أخذ هذا الحكم من هذه القصّة نظرٌ، لاحتمال أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على جليّة أمرها , أو أخبره بذلك من حضر مجلسه ممّن يعرفها , ومع هذا الاحتمال لا ينتهض الاستدلال به. وقد نصّ الشّافعيّ على أنّه ليس للحاكم أن يزوّج امرأة حتّى يشهد عدلان أنّها ليس لها وليّ خاصّ , ولا أنّها في عصمة رجل , ولا في عدّته. لكن اختلف أصحابه. هل هذا على سبيل الاشتراط أو الاحتياط؟. والثّاني المصحّح عندهم. وفي الحديث. وهو القول الأول: أنّه لا يشترط في صحّة العقد تقدّم الخطبة , إذ لَم يقع في شيء من طريق هذا الحديث وقوع حمد ولا تشهّد ولا غيرهما ¬

_ (¬1) انظر الحديث الماضي.

من أركان الخطبة. القول الثاني: خالف في ذلك الظّاهريّة. فجعلوها واجبة، ووافقهم من الشّافعيّة أبو عوانة فترجم في صحيحه " باب وجوب الخطبة عند العقد ". وفيه أنّ الكفاءة في الحرّيّة وفي الدّين وفي النّسب لا في المال، لأنّ الرّجل كان لا شيء له وقد رضيت به، كذا قاله ابن بطّال. وما أدري من أين له أنّ المرأة كانت ذات مال؟. وفيه أنّ طالب الحاجة لا ينبغي له أن يلحّ في طلبها , بل يطلبها برفقٍ وتأنٍّ، ويدخل في ذلك طالب الدّنيا والدّين من مستفتٍ وسائل وباحث عن علمٍ. وفيه أنّ الفقير يجوز له نكاح من علمت بحاله ورضيت به إذا كان واجداً للمهر وكان عاجزاً عن غيره من الحقوق، لأنّ المراجعة وقعت في وجدان المهر وفقده لا في قدرٍ زائد. قاله الباجيّ. وتعقّب: باحتمال أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع من حال الرّجل على أنّه يقدر على اكتساب قوته وقوت امرأته، ولا سيّما مع ما كان عليه أهل ذلك العصر من قلة الشّيء والقناعة باليسير. واستدل به على صحّة النّكاح بغير شهود، وردّ بأنّ ذلك وقع بحضرة جماعة من الصّحابة كما تقدّم ظاهراً في أوّل الحديث. وقال ابن حبيب: هو منسوخ بحديث " لا نكاح إلَّا بوليٍّ وشاهدي عدل " وتعقّب.

واستدل به على صحّة النّكاح بغير وليّ. وتعقّب: باحتمال أنّه لَم يكن لها وليّ خاصّ , والإمام وليّ من لا وليّ له. واستدل به على جواز استمتاع الرّجل بشُورة (¬1) امرأته وما يشتري بصداقها , لقوله " إن لبسته " من أنّ النّصف لها، ولَم يمنعه مع ذلك من الاستمتاع بنصفه الذي وجب لها , بل جوّز له لبسه كلّه، وإنّما وقع المنع لكونه لَم يكن له ثوب آخر , قاله أبو محمّد بن أبي زيد. وتعقّبه عياض وغيره: بأنّ السّياق يرشد إلى أنّ المراد تعذّر الاكتفاء بنصف الإزار لا في إباحة لبسه كلّه، وما المانع أن يكون المراد أنّ كلاً منهما يلبسه مهايأة (¬2) لثبوت حقّه فيه، لكن لَمَّا لَم يكن للرّجل ما يستتر به إذا جاءت نوبتها في لبسه قال له " إن لبسَتْه جلستَ ولا إزار لك " وفيه نَظَرُ الإمامِ في مصالح رعيّته وإرشاده إلى ما يصلحهم. وفي الحديث أيضاً المراوضة في الصّداق، وخطبة المرء لنفسه، وأنّه ¬

_ (¬1) قال في " اللسان " (14/ 434): والشُّورة: الحسن والهيئة واللّباس، وقيل: الشُّورة الهيئة. والشَّورة، بفتح الشّين: اللّباس؛ حكاه ثعلب، وفي الحديث: أنه أقبل رجلٌ وعليه شورة حسنة. قال ابن الأثير: هي بالضّمّ، الجمال والحسن كأنه من الشّور عرض الشّيء وإظهاره؛ ويقال لها أيضاً: الشّارة، وهي الهيئة؛ ومنه الحديث: أن رجلاً أتاه وعليه شارة حسنة. وألِفها مقلوبةٌ عن الواو؛ ومنه حديث عاشوراء: كانوا يتّخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليّهم وشارتهم " أي: لباسهم الحسن الجميل. انتهى (¬2) المهايأة. هي قسمة المنافع بحيث تلبس المرأة الإزار يوماً والرجل يوماً , أو حسب ما يتفقان من المدة.

لا يجب إعفاف المسلم بالنّكاح كوجوب إطعامه الطّعام والشّراب.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 320 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبد الرحمن بن عوفٍ وعليه ردع زعفرانٍ، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: مهيم؟ فقال: يا رسولَ الله، تزوجت امرأةً، فقال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواةٍ من ذهبٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بارك الله لك، أولم ولو بشاةٍ. (¬1) قوله: (رأى عبد الرحمن بن عوفٍ وعليه ردع زعفرانٍ) في رواية زهير عن حميد عن أنس عند البخاري " فمكثنا ما شاء الله، ثمّ جاء وعليه وضر صفرة " , ونحوه لابن عليّة عند أحمد. وفي رواية الثّوريّ عند البخاري , والأنصاريّ عند ابن سعد عن حميد " فلقيه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " زاد ابن سعد " في سكّة من سكك المدينة وعليه وضرٌ من صفرة ". وفي رواية حمّاد بن زيد عن ثابت في الصحيحين , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرّحمن بن عوف أثر صفرة. وفي رواية معمر عن ثابت عن أنس عند أحمد " وعليه وضر من خلوق ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1944 , 2171، 3570، 3722، 4785، 4853، 4858، 4860، 4872، 5732، 6023) ومسلم (1427) من طرق عن حميد وثابت وعبد العزيز بن صهيب كلهم عن أنس. مطوّلاً ومختصراً. ولمسلم (1427) من طريق قتادة وأبي حمزة عبد الرحمن بن أبي عبد الله كلاهما عن أنس مختصراً.

وأوّل حديث مالك عن حميد عند البخاري , أنّ عبد الرّحمن بن عوف جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعليه أثر صفرة. ونحوه في رواية عبد الرّحمن نفسه. عند البخاري. وفي رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس في الصحيحين: فرأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بشاشة العرس. والوضر: بفتح الواو والضّاد المعجمة وآخره راء. هو في الأصل الأثر. والرّدع بمهملاتٍ - مفتوح الأوّل ساكن الثّاني - هو أثر الزّعفران، والمراد بالصّفرة صفرة الخلوق والخلوق طيب يصنع من زعفران وغيره. قوله: (فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: مهيم؟) معناه ما شأنك أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنيّة على السّكون، وهل هي بسيطة أو مركبة؟ قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر. ووقع في رواية للطّبرانيّ في " الأوسط " (فقال له: مهيم؟ وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشّيء) ووقع في رواية ابن السّكن " مهين " بنونٍ آخره بدل الميم والأوّل هو المعروف. ووقع في رواية حمّاد بن زيد عن ثابت عند البخاري , وكذا في رواية عبد العزيز بن صهيب عند أبي عوانة " قال: ما هذا؟. وقال في جوابه: تزوّجت امرأة من الأنصار ". وللطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث أبي هريرة بسندٍ فيه ضعف , أنّ عبد الرّحمن بن عوف أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خضب بالصّفرة ,

فقال: ما هذا الخضاب، أعرست؟ قال: نعم. الحديث. قوله: (يا رسولَ الله، تزوجت امرأةً) في رواية لهما " تزوّجت امرأةً من الأنصار ". هذه المرأة جزم الزّبير بن بكّارٍ في " كتاب النّسب " , أنّها بنت أبي الحيسر أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. وفي ترجمة عبد الرّحمن بن عوف من طبقات ابن سعد " أنّها بنت أبي الحشّاش " وساق نسبه. وأظنّهما ثنتين، فإنّ في رواية الزّبير قال " ولَدَتْ لعبد الرّحمن القاسمَ وعبد الله " وفي رواية ابن سعد " ولَدَتْ له إسماعيل وعبد الله ". وذكر ابن القدّاح في " نسب الأوس " أنّها أمّ إياس بنت أبي الحيسر بفتح المهملتين بينهما تحتانيّة ساكنة وآخره راء. واسمه أنس بن رافع الأوسيّ. قوله: (فقال: ما أصدقتها؟) في رواية لهما عن حميد عن أنس " كم أصدقتها؟ " كذا في رواية حمّاد بن سلمة ومعمر عن ثابت. وفي رواية الطّبرانيّ " على كم ". وفي رواية الثّوريّ وزهير في البخاري " ما سُقتَ إليها؟ ". وكذا في رواية عبد الرّحمن نفسه في البخاري، وفي رواية مالك عن حميد عند البخاري " كم سقت إليها؟ ". قوله: (وزن نواة) بنصب النّون على تقدير فعل. أي: أصدقتها،

ويجوز الرّفع على تقدير مبتدأ. أي: الذي أصدقتها هو. قوله: (من ذهبٍ) كذا وقع الجزم به في رواية ابن عيينة والثّوريّ، وكذا في رواية حمّاد بن سلمة عن ثابت وحميدٍ عند أحمد، وفي رواية زهير وابن عليّة " نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب ". وكذا في رواية عبد الرّحمن نفسه في البخاري بالشّكّ. وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صهيب " على وزن نواة " وعن قتادة " على وزن نواة من ذهب " ومثل الأخير في رواية حمّاد بن زيد عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن قتادة. ولمسلمٍ من رواية شعبة عن أبي حمزة عن أنس " على وزن نواة. قال فقال رجلٌ من ولد عبد الرّحمن: من ذهب ". ورجّح الدّاوديّ رواية مَن قال " على نواة من ذهب " واستنكر رواية من روى " وزن نواة " واستنكاره هو المنكر , لأنّ الذين جزموا بذلك أئمّة حفّاظ. قال عياض: لا وهْمَ في الرّواية , لأنّها إن كانت نواة تمر أو غيره , أو كان للنّواة قدر معلوم. صلح أن يقال في كلّ ذلك وزن نواة. واختلف في المراد بقوله " نواة " فقيل: المراد واحدة نوى التّمر كما يوزن بنوى الخرّوب , وأنّ القيمة عنها يومئذٍ كانت خمسة دراهم. وقيل: كان قدرها يومئذٍ ربع دينار، ورُدّ: بأنّ نوى التّمر يختلف في الوزن. فكيف يجعل معياراً لِما يوزن به؟.

وقيل: لفظ النّواة من ذهب عبارة عمّا قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطّابيّ. واختاره الأزهريّ , ونقله عياض عن أكثر العلماء. ويؤيّده أنّ في روايةٍ للبيهقيّ من طريق سعيد بن بشر عن قتادة " وزن نواة من ذهب. قوّمت خمسة دراهم ". وقيل: وزنها من الذّهب خمسة دراهم. حكاه ابن قتيبة , وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاويّ الظّاهر، واستُبعد , لأنّه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفاً. ووقع في رواية حجّاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقيّ " قوّمت ثلاثة دراهم وثلثاً " وإسناده ضعيف، ولكن جزم به أحمد. وقيل: ثلاثة ونصف، وقيل: ثلاثة وربع. وعن بعض المالكيّة: النّواة عند أهل المدينة ربع دينار. ويؤيّد هذا ما وقع عند الطّبرانيّ في " الأوسط " في آخر حديث قال أنس: جاء وزنها ربع دينار. وقد قال الشّافعيّ: النّواة ربع النّشّ. والنّشّ نصف أوقيّة , والأوقيّة أربعون درهماً فيكون خمسة دراهم. وكذا قال أبو عبيد: إنّ عبد الرّحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمّى نواة كما تسمّى الأربعون أوقيّة، وبه جزم أبو عوانة وآخرون. قوله: (بارك الله لك) في رواية حمّاد بن سلمة عن ثابت وحميدٍ عند

أحمد , وزاد في آخر الحديث " قال عبد الرّحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب ذهباً أو فضّة ". فكأنّه قال ذلك , إشارة إلى إجابة الدّعوة النّبويّة بأن يبارك الله له. قال ابن بطّال: إنّما أراد البخاري بهذا الباب (كيف يدعى للمتزوّج؟) والله أعلم ردّ قول العامّة عند العرس بالرّفاء والبنين. فكأنّه أشار إلى تضعيفه، ونحو ذلك كحديث معاذ بن جبل , أنّه شهد إملاك رجل من الأنصار. فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنكح الأنصاريّ , وقال: على الألفة والخير والبركة والطّير الميمون والسّعة في الرّزق. الحديث. أخرجه الطّبرانيّ في " الكبير " بسندٍ ضعيف، وأخرجه في " الأوسط " بسندٍ أضعف منه. وأخرجه أبو عمرو البرقانيّ في كتاب " معاشرة الأهلين " من حديث أنس. وزاد فيه " والرّفاء والبنين " وفي سنده أبان العبديّ وهو ضعيف. وأقوى من ذلك. ما أخرجه أصحاب السّنن وصحَّحه التّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفّأ إنساناً قال: بارك الله لك وبارك عليك. وجمع بينكما في خير. وقوله " رفّأ " بفتح الرّاء وتشديد الفاء مهموز. معناه: دعا له في موضع قولهم بالرّفاء والبنين، وكانت كلمة تقولها أهل الجاهليّة فورد النّهي عنها. كما روى بقيّ بن مخلد من طريق غالب عن الحسن عن

رجلٍ من بني تميم قال: كنّا نقول في الجاهليّة بالرّفاء والبنين , فلمّا جاء الإسلام علَّمنا نبيّنا , قال: قولوا بارك الله لكم وبارك فيكم وبارك عليكم. وأخرج النّسائيّ والطّبرانيّ من طريق أخرى عن الحسن عن عقيل بن أبي طالب , أنّه قدم البصرة فتزوّج امرأة , فقالوا له: بالرّفاء والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا , وقولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهمّ بارك لهم وبارك عليهم. ورجاله ثقات إلَّا أنّ الحسن لَم يسمع من عقيل فيما يُقال. ودلَّ حديث أبي هريرة على أنّ اللفظ كان مشهوراً عندهم غالباً حتّى سمّي كلّ دعاء للمتزوّج ترفئة. واختلف في عِلَّة النّهي عن ذلك. فقيل: لأنّه لا حمد فيه ولا ثناء ولا ذكرٌ لله. وقيل: لِمَا فيه من الإشارة إلى بغض البنات لتخصيص البنين بالذّكر. وأمّا الرّفاء فمعناه الالتئام. من رفأت الثّوب ورفوته رفواً ورفاء , وهو دعاء للزّوج بالالتئام والائتلاف فلا كراهة فيه. وقال ابن المنيّر: الذي يظهر أنّه - صلى الله عليه وسلم - كره اللفظ لِمَا فيه من موافقة الجاهليّة , لأنّهم كانوا يقولونه تفاؤلاً لا دعاء، فيظهر أنّه لو قيل للمتزوّج بصورة الدّعاء لَم يكره كأن يقول: اللهمّ ألِّف بينهما وارزقهما بنين صالحين مثلاً، أو ألَّف الله بينكما ورزقكما ولداً ذكراً. ونحو

ذلك. وأمّا ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عمر بن قيس الماضي قال: شهدت شُريحاً وأتاه رجلٌ من أهل الشّام , فقال: إنّي تزوّجت امرأة، فقال: بالرّفاء والبنين " الحديث، وأخرجه عبد الرّزّاق من طريق عديّ بن أرطاة قال: حدّثت شريحاً أنّي تزوّجت امرأة , فقال: بالرّفاء والبنين ". فهو محمول على أنّ شريحاً لَم يبلغه النّهي عن ذلك. ودلَّ صنيع البخاري على أنّ الدّعاء للمتزوّج بالبركة هو المشروع، ولا شكّ أنّها لفظة جامعة يدخل فيها كلّ مقصود من ولد وغيره. ويؤيّد ذلك ما أخرجه البخاري من حديث جابر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قال له: تزوّجتَ بكراً أو ثيّباً؟ قال له بارك الله لك " (¬1). والأحاديث في ذلك معروفة. قوله: (فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أولم ولو بشاةٍ) ليست " لو " هذه الامتناعيّة وإنّما هي التي للتّقليل، ووقع في حديث أبي هريرة بعد قوله أعرست " قال: نعم. قال: أولمت؟ قال: لا. فرمى إليه رسول ¬

_ (¬1) وفي رواية للبخاري (6024) " بارك الله عليك ". قال ابن حجر في الفتح: ومناسبة قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن " بارك الله لك " ولجابر " بارك الله عليك " أن المراد بالأول اختصاصه بالبركة في زوجته , وبالثاني شمول البركة له في جودة عقله حيث قدم مصلحة أخواته على حظ نفسه. فعدلَ لأجلهنّ عن تُزوج البكر مع كونها أرفع رتبة للمتزوج الشاب من الثيب غالباً. انتهى

الله - صلى الله عليه وسلم - بنواةٍ من ذهب , فقال: أولم ولو بشاةٍ. وهذا لو صحّ كان فيه أنّ الشّاة من إعانة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان يعكّر على من استدل به على أنّ الشّاة أقلّ ما يشرع للموسر، ولكنّ الإسناد ضعيف كما تقدّم وفي رواية معمر عن ثابت عند أحمد " قال أنس: فلقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف. قلت: مات عن أربع نسوة. فيكون جميع تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، وهذا بالنّسبة لتركة الزّبير قليل جدّاً. فيحتمل أن تكون هذه دنانير وتلك دراهم , لأنّ كثرة مال عبد الرّحمن مشهورة جدّاً. واستدل به على توكيد أمر الوليمة. فأخرج الطّبرانيّ من حديث وحشيّ بن حربٍ رفعه: الوليمة حقٌّ والثّانية معروفٌ والثّالثة فخرٌ. ولمسلمٍ من طريق الزّهريّ عن الأعرج وعن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: شرّ الطّعام طعام الوليمة. يُدعى الغنيّ ويترك المسكين وهي حقٌّ. الحديث. ولأبي الشّيخ والطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق مجاهدٍ عن أبي هريرة رفعه: الوليمة حقٌّ وسنّةٌ , فمن دعي فلم يجب , فقد عصى .. الحديث. وأخرج أبو داود والنّسائيّ من طريق قتادة عن عبد الله بن عثمان الثّقفيّ عن رجلٍ من ثقيفٍ , كان يثنى عليه - إن لَم يكن اسمه زهير

بن عثمان فلا أدري ما اسمه - يقوله قتادة , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوليمة أوّل يومٍ حقٌّ , والثّاني معروفٌ , والثّالث رياءٌ وسمعةٌ. قال البخاريّ: لا يصحّ إسناده , ولا يصحّ له صحبةٌ يعني لزهير. انتهى وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد , وإن كان كلٌّ منها لا يخلو عن مقالٍ , فمجموعها يدلُّ على أنّ للحديث أصلاً. وروى أحمد من حديث بريدة , قال: لَمَّا خطب عليٌّ فاطمةَ , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّه لا بدّ للعروس من وليمةٍ. وسنده لا بأس به. قال ابن بطّالٍ: قوله " الوليمة حقٌّ " أي: ليست بباطلٍ , بل يندب إليها وهي سنّةٌ فضيلةٌ , وليس المراد بالحقّ الوجوب ثمّ قال: ولا أعلم أحداً أوجبها. كذا قال , وغفل عن روايةٍ في مذهبه بوجوبها نقلها القرطبيّ , وقال: إنّ مشهور المذهب أنّها مندوبة , وابن التّين عن أحمد , لكن الذي في المُغني أنّها سنة , بل وافق ابن بطّالٍ في نفي الخلاف بين أهل العلم في ذلك. قال: وقال بعض الشّافعيّة: هي واجبةٌ , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بها عبد الرّحمن بن عوفٍ , ولأنّ الإجابة إليها واجبةٌ فكانت واجبةً. وأجاب: بأنّه طعامٌ لسرورٍ حادثٍ فأشبه سائر الأطعمة , والأمر محمولٌ على الاستحباب بدليل ما ذكرناه , ولكونه أمره بشاةٍ وهي غير واجبةٍ اتّفاقاً , وأمّا البناء فلا أصل له.

والبعض الذي أشار إليه من الشّافعيّة هو وجهٌ معروفٌ عندهم , وقد جزم به سليمٌ الرّازيّ , وقال: إنّه ظاهر نصّ الأمّ , ونقله عن النّصّ أيضاً الشّيخ أبو إسحاق في المهذّب , وهو قول أهل الظّاهر كما صرح به ابن حزمٍ. واستدل به على أنّها تكون بعد الدّخول، ولا دلالة فيه , وإنّما فيه أنّها تستدرك إذا فاتت بعد الدّخول. وقد اختلف السّلف في وقتها. هل هو عند العقد أو عقبه أو عند الدّخول أو عقبه أو موسّعٌ من ابتداء العقد إلى انتهاء الدّخول؟. على أقوالٍ. قال النّوويّ: اختلفوا. فحكى عياضٌ أنّ الأصحّ عند المالكيّة استحبابه بعد الدّخول , وعن جماعةٍ منهم. أنّه عند العقد , وعند ابن حبيب: عند العقد وبعد الدّخول , وقال في موضعٌ آخر: يجوز قبل الدّخول وبعده. وذكر ابن السّبكيّ. أنّ أباه قال: لَم أر في كلام الأصحاب تعيّن وقتها. وأنّه استنبط من قول البغويّ: ضرب الدّفّ في النّكاح جائزٌ في العقد والزّفاف قبلُ وبعدُ قريباً منه. أنّ وقتها موسّعٌ من حين العقد. قال: والمنقول من فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّها بعد الدّخول , كأنّه يشير إلى قصّة زينب بنت جحشٍ , وقد ترجم عليه البيهقيّ في وقت الوليمة. انتهى وما نفاه من تصريح الأصحاب متعقّبٌ بأنّ الماورديّ صرّح بأنّها

عند الدّخول , وحديث أنسٍ في البخاري صريحٌ في أنّها بعد الدّخول لقوله فيه: أصبح عروساً بزينب فدعا القوم. واستحبّ بعض المالكيّة أن تكون عند البناء ويقع الدّخول عقبها , وعليه عمل النّاس اليوم. ويؤيّد كونها للدّخول لا للإملاك , أنّ الصّحابة بعد الوليمة تردّدوا هل هي زوجةٌ أو سرّيّةٌ؟ (¬1). فلو كانت الوليمة عند الإملاك لعرفوا أنّها زوجةٌ , لأنّ السّرّيّة لا وليمة لها. فدلَّ على أنّها عند الدّخول أو بعده. واستدل به على أنّ الشّاة أقلّ ما تجزئ عن الموسر، ولولا ثبوت أنّه - صلى الله عليه وسلم - أولم على بعض نسائه بأقلّ من الشّاة (¬2). ¬

_ (¬1) يُشير إلى قصة بناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفية بنت حيي رضي الله عنها. فأخرج البخاري (5085) ومسلم (3571) عن أنس - رضي الله عنه - قال: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بين خيبر والمدينة ثلاثاً يبني عليه بصفية بنت حيي , فدعوتُ المسلمين إلى وليمته. فما كان فيها من خبز ولا لحم، أمر بالأنطاع فألقي فيها من التمر والأقط والسمن. فكانت وليمته، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو مما ملكت يمينه؟، فقالوا: إنْ حجبَها فهي من أُمّهات المؤمنين، وإن لَم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلمَّا ارتحل وطَّى لها خلفه , ومدَّ الحجاب بينها وبين الناس. (¬2) أخرج البخاري في " صحيحه " (5172) عن صفية بنت شيبة، قالت: أَولَم النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض نسائه بمدين من شعير. وللبخاري أيضاً (5169) عن أنس، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، وأَولَمَ عليها بحيس. قال الشارح في " الفتح " (624): والحيس - بفتح أوله - خليط السمن والتمر والأقط. قال الشاعر. التمر والسمن جميعاً والأقط ... الحيس إلَّا أنه لم يختلط. وقد يختلط مع هذه الثلاثة غيرها كالسويق. انتهى

لكان يمكن أن يستدلّ به على أنّ الشّاة أقلّ ما تجزئ في الوليمة، ومع ذلك فلا بدّ من تقييده بالقادر عليها. وأيضاً. فيعكّر على الاستدلال أنّه خطاب واحد، وفيه اختلاف هل يستلزم العموم أو لا؟. وقد أشار إلى ذلك الشّافعيّ. فيما نقله البيهقيّ عنه قال: لا أعلمه أمر بذلك غير عبد الرّحمن، ولا أعلمه أنّه - صلى الله عليه وسلم - ترك الوليمة , فجعل ذلك مستنداً في كون الوليمة ليست بحتم. ويستفاد من السّياق طلب تكثير الوليمة لمن يقدر. قال عياض: وأجمعوا على أن لا حدّ لأكثرها، وأمّا أقلّها فكذلك، ومهما تيسّر أجزأ، والمستحبّ أنّها على قدر حال الزّوج، وقد تيسّر على الموسر الشّاة فما فوقها. وفيه استحباب الدّعاء للمتزوّج، وسؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيّما إذا رأى منهم ما لَم يعهد. وجواز خروج العروس وعليه أثر العرس من خلوق وغيره. واستدل به على جواز التّزعفر للعروس، وخصّ به عموم النّهي عن التّزعفر للرّجال كما في الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه -. وتعقّب: باحتمال أن تكون تلك الصّفرة كانت في ثيابه دون جسده، وهذا الجواب للمالكيّة على طريقتهم في جوازه في الثّوب دون البدن، وقد نقل ذلك مالك عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى رفعه: لا يقبل الله صلاةَ رجلٍ في جسده شيء من خلوق. أخرجه أبو داود

، فإنّ مفهومه أنّ ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد. ومنع من ذلك أبو حنيفة والشّافعيّ ومن تبعهما في الثّوب أيضاً، وتمسّكوا بالأحاديث في ذلك وهي صحيحة، وفيها ما هو صريح في المدّعى كما سيأتي بيانه. وعلى هذا فأجيب عن قصّة عبد الرّحمن بأجوبة: أحدها: أنّ ذلك كان قبل النّهي. وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيّده أنّ سياق قصّة عبد الرّحمن يشعر بأنّها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النّهي ممّن تأخّرت هجرته. ثانيها: أنّ أثر الصّفرة التي كانت على عبد الرّحمن تعلّقت به من جهة زوجته. فكان ذلك غير مقصود له، ورجّحه النّوويّ وعزاه للمحقّقين. وجعله البيضاويّ أصلاً ردّ إليه أحد الاحتمالين أبداهما في قوله " مهيم " فقال: معناه ما السّبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنّه تزوّج. قال: ويحتمل أن يكون استفهام إنكار لِمَا تقدّم من النّهي عن التّضمّخ بالخلوق، فأجاب بقوله تزوّجت، أي: فتعلق بي منها. ولَم أقصد إليه. ثالثها: أنّه كان قد احتاج إلى التّطيّب للدّخول على أهله فلم يجد من طيب الرّجال حينئذٍ شيئاً فتطيّب من طيب المرأة، وصادف أنّه

كان فيه صفرة فاستباح القليل منه عند عدم غيره جمعاً بين الدّليلين، وقد ورد الأمر في التّطيّب للجمعة. ولو من طيب المرأة (¬1) فبقي أثر ذلك عليه. رابعها: كان يسيراً ولَم يبق إلَّا أثره. فلذلك لَم ينكر. خامسها: وبه جزم الباجيّ. أنّ الذي يكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطّيب، وأمّا ما كان ليس بطيبٍ فهو جائز. سادسها: أنّ النّهي عن التّزعفر للرّجال ليس على التّحريم , بدلالة تقريره لعبد الرّحمن بن عوف في هذا الحديث. سابعها: أنّ العروس يستثنى من ذلك ولا سيّما إذا كان شابّاً، ذكر ذلك أبو عبيد قال: وكانوا يرخّصون للشّابّ في ذلك أيّام عرسه، قال: وقيل: كان في أوّل الإسلام من تزوّج لبس ثوباً مصبوغاً علامة لزواجه ليعان على وليمة عرسه، قال: وهذا غير معروف. قلت: وفي استفهام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له عن ذلك. دلالة على أنّه لا يختصّ بالتّزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة عن حميدٍ بلفظ " فأتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فرأى عليّ بشاشة العرس فقال: أتزوّجت؟ قلت: تزوّجت امرأة من الأنصار " فقد يتمسّك بهذا السّياق للمُدّعى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " الصحيح " (846) من حديث أبي سعيد مرفوعاً " غُسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه , ولو من طيب المرأة "

ولكنّ القصّة واحدة، وفي أكثر الرّوايات أنّه قال له " مهيم أو ما هذا؟ " فهو المعتمد. وبشاشة العرس أثره وحسنه أو فرحه وسروره، يقال: بشّ فلان بفلانٍ. أي: أقبل عليه فرحاً به ملطّفاً به. واختلف في النّهي عن التّزعفر. هل هو لرائحته لكونه من طيب النّساء؟ ولهذا جاء الزّجر عن الخلوق. أو للونه فيلتحق به كلّ صفرة؟. وقد نقل البيهقيّ عن الشّافعيّ أنّه قال: أنهى الرّجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله. قال: وأرخّص في المعصفر , لأنّني لَم أجد أحداً يحكي عنه إلَّا ما قال عليٌّ: نهاني , ولا أقول أنهاكم. (¬1). قال البيهقيّ: قد ورد ذلك عن غير عليّ، وساق حديث عبد الله بن عمرو قال: رأى عليّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثوبين معصفرين فقال: إنّ هذه من ثياب الكفّار فلا تلبسهما. أخرجه مسلم، وفي لفظ له " فقلت أغسلهما؟ قال: لا. بل احرقهما. قال البيهقيّ: فلو بلغ ذلك الشّافعيّ لقال به اتّباعاً للسّنّة كعادته. وقد كره المعصفرَ جماعةٌ من السّلف ورخّص فيه جماعة، وممَن قال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (2078) عنه قال: نهاني النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القراءة وأنا راكع، وعن لبس الذهب والمعصفر " وفي رواية له " ولا أقول نهاكم "

بكراهته من أصحابنا الحليميّ، واتّباع السّنّة هو الأولى. انتهى. وقال النّوويّ في " شرح مسلم ": أتقن البيهقيّ المسألة. والله أعلم. ورخّص مالك في المعصفر والمزعفر في البيوت, وكرهه في المحافل. وقد أخرج أبو داود والتّرمذيّ في " الشّمائل " والنّسائيّ في " الكبرى " من طريق سلْم العلويّ عن أنس: دخل رجلٌ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعليه أثر صفرة، فكرِه ذلك، وقلَّما كان يواجه أحداً بشيءٍ يكرهه، فلمّا قام , قال: لو أمرتم هذا أن يترك هذه الصّفرة. وسلْم بفتح المهملة وسكون اللام. فيه لين. ولأبي داود من حديث عمّار رفعه: لا تحضر الملائكة جنازة كافر ولا المتضمّخ بالزّعفران. وأخرج أيضاً من حديث عمّار قال: قدمتُ على أهلي ليلاً وقد تشقّقت يداي، فخلَّقوني بزعفرانٍ، فسلَّمت على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يُرحِّب بي , وقال: اذهب فاغسل عنك هذا. واستدل به على أنّ النّكاح لا بدّ فيه من صداق لاستفهامه على الكميّة، ولَم يقل هل أصدقها أو لا؟. ويشعر ظاهره بأنّه يحتاج إلى تقدير لإطلاق لفظ " كم " الموضوعة للتّقدير. كذا قال بعض المالكيّة، وفيه نظرٌ. لاحتمال أن يكون المراد الاستخبار عن الكثرة أو القلة فيخبره بعد ذلك بما يليق بحال مثله، فلمّا قال له القدر لَم ينكر عليه بل أقرّه.

واستدل به على استحباب تقليل الصّداق , لأنّ عبد الرّحمن بن عوف كان من مياسير الصّحابة , وقد أقرّه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على إصداقه وزن نواة من ذهبٍ. وتعقّب: بأنّ ذلك كان في أوّل الأمر حين قدم المدينة , وإنّما حصل له اليسار بعد ذلك من ملازمة التّجارة حتّى ظهرت منه من الإعانة في بعض الغزوات ما اشتهر، وذلك ببركة دعاء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له كما تقدَّم.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق الطّلاق في اللغة. حلُّ الوثاق مشتقّ من الإطلاق وهو الإرسال والتّرك. وفلان طلق اليد بالخير. أي: كثير البذل. وفي الشّرع: حلُّ عقدة التّزويج فقط، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغويّ. قال إمام الحرمين (¬1): هو لفظ جاهليّ ورد الشّرع بتقريره. وطَلُقت المرأة بفتح الطّاء وضمّ اللام وبفتحها أيضاً وهو أفصح، وطُلِّقت أيضاً بضمّ أوّله وكسر اللام الثّقيلة، فإن خفّفت فهو خاصّ بالولادة والمضارع فيهما بضمّ اللام، والمصدر في الولادة طلْقاً ساكنة اللام، فهي طالق فيهما. ثمّ الطّلاق قد يكون حراماً , أو مكروهاً , أو واجباً , أو مندوباً , أو جائزاً. أمّا الأوّل: ففيما إذا كان بدعيّاً وله صور. وأمّا الثّاني: ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال. وأمّا الثّالث: ففي صور منها الشّقاق إذا رأى ذلك الحكمان. وأمّا الرّابع: ففيما إذا كانت غير عفيفة. وأمّا الخامس: فنفاه النّوويّ (¬2). وصوّره غيره بما إذا كان لا يريدها, ¬

_ (¬1) هو عبدالملك الجويني , سبق ترجمته (1/ 283) (¬2) هو يحيى بن شرف , سبق ترجمته (1/ 22)

ولا تطيب نفسه أن يتحمّل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرّح الإمام أنّ الطّلاق في هذه الصّورة لا يكره. وقد قسَّم الفقهاء الطّلاق إلى سُنّيّ وبدعيّ، وإلى قسم ثالث لا وصف له. الأوّل: أن يطلقها طاهراً من غير جماع. الثّاني: أن يطلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه , ولَم يتبيّن أمرها. أحملت أم لا؟. ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة. ومنهم من أضاف له الخلع. الثّالث: تطليق الصّغيرة والآيسة والحامل التي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع السّؤال منها في وجهٍ بشرط أن تكون عالمةً بالأمر، وكذا إذا وقع الخلع بسؤالها وقلنا إنّه طلاق. ويستثنى من تحريم طلاق الحائض صور: منها: ما لو كانت حاملاً ورأت الدّم , وقلنا الحامل تحيض فلا يكون طلاقها بدعيّاً ولا سيّما إن وقع بقرب الولادة. ومنها: إذا طلق الحاكم على المُولي واتّفق وقوع ذلك في الحيض. ومنها: في صورة الحَكَمَين إذا تعيّن ذلك طريقاً لرفع الشّقاق، وكذلك الخلع. والله أعلم.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر (¬1) 321 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنه طلَّق امرأته وهي حائضٌ، فذَكر ذلك عمرُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فتغيّظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليُطلّقها طاهراً قبل أن يَمسّها، فتلك العدّة كما أمر الله عزّ وجل. (¬2) وفي لفظ: حتى تحيض حيضةً أخرى مستقبلةً، سوى حيضتها التي طلَّقها فيها. وفي لفظ: فحُسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) قوله: (أنّه طلق امرأته) في مسلم من رواية الليث عن نافع , أنّ ابن عمر طلق امرأةً له ". وعنده من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: طلقت امرأتي ". وكذا في رواية شعبة عن أنس بن ¬

_ (¬1) السابع عشر لكتاب النكاح عموماً. (¬2) أخرجه البخاري (4625 , 6741) ومسلم (1471) من طريق الزهري وغيره عن سالم بن عبد الله عن أبيه. واللفظ للبخاري. وأخرجه البخاري (4953 , 4954 , 4958 , 5022 , 5023) ومسلم (1471) من طريق نافع وأنس بن سيرين ويونس بن جبير عن ابن عمر - رضي الله عنه - نحوه. وأخرجه مسلم (1471) من طريق عبد الله بن دينار وأبي الزبير وطاوس عن ابن عمر نحوه. (¬3) أخرج مسلم (1471) هذين اللفظين جميعاً بسياقٍ واحدٍ من طريق الزهري عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

سيرين عن ابن عمر. قال النّوويّ في تهذيبه: اسمها آمنة بنت غفّار. قاله ابن باطيشٍ، ونقله عن النّوويّ جماعة ممّن بعده منهم الذّهبيّ في " تجريد الصّحابة " , لكن قال في مبهماته: فكأنّه أراد مبهمات التّهذيب. وأوردها الذّهبيّ في آمنة - بالمدّ وكسر الميم ثمّ نون - وأبوها غفار ضبطه ابن نقطة بكسر المعجمة وتخفيف الفاء. ولكنّي رأيت مستند ابن باطيشٍ في " أحاديث قتيبة " جمع سعيد العيّار بسندٍ فيه ابن لهيعة " أنّ ابن عمر طلَّق امرأته آمنة بنت عمّار " كذا رأيتها في بعض الأصول - بمهملةٍ مفتوحة ثمّ ميم ثقيلة - والأوّل أولى. وأقوى من ذلك ما رأيته في مسند أحمد قال: حدّثنا يونس حدّثنا الليث عن نافع , أنّ عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال عمر: يا رسولَ الله إنّ عبد الله طلَّق امرأته النّوار، فأمره أن يراجعها " الحديث، وهذا الإسناد على شرط الشّيخين، ويونس شيخ أحمد هو ابن محمّد المؤدّب من رجالهما. وقد أخرجه الشّيخان عن قتيبة عن الليث , ولكن لَم تُسمّ عندهما. ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة ولقبها النّوار. قوله: (وهي حائض) في رواية قاسم بن أصبغ من طريق عبد الحميد بن جعفر عن نافع عن ابن عمر , أنّه طلّق امرأته وهي في دمها حائض. وعند البيهقيّ من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر , أنّه

طلَّق امرأته في حيضها. وفي رواية للشيخين من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر " وهي حائضٌ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ومثله عند مسلم من رواية أبي الزّبير عن ابن عمر. وأكثر الرّواة لَم يذكروا ذلك استغناءً بما في الخبر , أنّ عمر سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستلزم أنّ ذلك وقع في عهده. وزاد الليث عن نافع " تطليقة واحدة " أخرجه مسلم، وقال في آخره: جوّد الليث في قوله " تطليقة واحدة ". وكذا وقع عند مسلم من طريق محمّد بن سيرين قال: مكثت عشرين سنةً يحدّثني من لا أتّهم , أنّ ابن عمر طلَّق امرأته ثلاثاً. وهي حائض فأُمر أن يراجعها، فكنت لا أتّهمهم , ولا أعرف وجه الحديث، حتّى لقيتُ أبا غلاب يونس بن جبير - وكان ذا ثبتٍ - فحدّثني أنّه سأل ابن عمر , فحدّثه , أنّه طلَّق امرأته تطليقة وهي حائض ". وأخرجه الدّارقطنيّ والبيهقيّ من طريق الشّعبيّ , قال: طلَّق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدةً. ومن طريق عطاء الخراسانيّ عن الحسن عن ابن عمر , أنّه طلَّق امرأته تطليقة وهي حائض. قوله: (فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في رواية مالك " فسأل عمر بن الخطّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك " وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع: فأتى عمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك. أخرجه الدّارقطنيّ.

وكذا للبخاري من رواية قتادة عن يونس بن جبير عن ابن عمر، وكذا عند مسلم من رواية يونس بن عبيد عن محمّد بن سيرين عن يونس بن جبير، وكذا عنده في رواية طاوسٍ عن ابن عمر، وكذا في رواية الشّعبيّ المذكورة. وقد روى أحمد والأربعة وصحّحه التّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان تحتي امرأةٌ أُحبّها، وكان عمر يكرهها , فقال: طلِّقها، فأتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أطع أباك. فيحتمل أن تكون هي هذه، ولعلَّ عمر لَمَّا أمره بطلاقها. وشاور النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فامتثل أمره , اتّفق أنّ الطّلاق وقع وهي في الحيض , فعلم عمر بذلك. فكان ذلك هو السّرّ في توليه السّؤال عن ذلك , لكونه وقع من قبله. قوله: (فتغيّظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هكذا زاد الزهري عن سالم , ولَم أر هذه الزّيادة في رواية غير سالم، وهو أجلُّ مَن روى الحديث عن ابن عمر. وفيه إشعار بأنّ الطّلاق في الحيض كان تقدّم النّهي عنه. وإلَّا لَم يقع التّغيّظ على أمر لَم يسبق النّهي عنه. ولا يعكّر على ذلك مبادرة عمر بالسّؤال عن ذلك , لاحتمال أن يكون عرف حكم الطّلاق في الحيض , وأنّه منهيّ عنه , ولَم يعرف ماذا يصنع من وقع له ذلك.

قال ابن العربيّ: سؤال عمر مُحتمل لأَنْ يكون أنّهم لَم يروا قبلها مثلها فسأل ليعلم. ويحتمل: أن يكون لَمَّا رأى في القرآن قوله (فطلقوهنّ لعدّتهنّ) وقوله (يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء) أراد أن يعلم أنّ هذا قرء أم لا. ويحتمل: أن يكون سمع من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - النّهي فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك. وقال ابن دقيق العيد (¬1): وتغيُّظ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , إمّا لأنّ المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهراً فكان مقتضى الحال التّثبّت في ذلك، أو لأنّه كان مقتضى الحال مشاورة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إذا عزم عليه. قوله: (ليراجعها) في رواية مالك " مره فليراجعها ". قال ابن دقيق العيد: يتعلق به مسألة أصوليّة، وهي أنّ الأمر بالأمر بالشّيء هل هو أمر بذلك أم لا؟ فإنّه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: مُره، فأمره بأن يأمره. قلت: هذه المسألة ذكرها ابن الحاجب فقال: الأمر بالأمر بالشّيء ليس أمراً بذلك الشّيء لنا لو كان. لكان مر عبدك بكذا تعدّياً، ولكان يناقض قولك للعبد لا تفعل. قالوا: فهم ذلك من أمر الله ورسوله , ومن قول الملك لوزيره قل لفلانٍ افعل. قلنا للعلم بأنّه مبلغ. قلت: والحاصل أنّ النّفي إنّما هو حيث تجرّد الأمر، وأمّا إذا وجدت قرينة تدلّ على أنّ الآمر الأوّل أمر المأمور الأوّل أن يبلغ ¬

_ (¬1) هو محمد بن علي , سبق ترجمته (1/ 12)

المأمور الثّاني فلا، وينبغي أن ينزّل كلام الفريقين على هذا التّفصيل فيرتفع الخلاف. ومنهم: من فرّق بين الأمرين , فقال: إن كان الأمر الأوّل بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثّاني فهو آمر له. وإلَّا فلا. وهذا قويّ، وهو مستفاد من الدّليل الذي استدلَّ به ابن الحاجب على النّفي، لأنّه لا يكون متعدّياً إلَّا إذا أمر من لا حكم له عليه , لئلا يصير متصرّفاً في ملك غيره بغير إذنه، والشّارع حاكم على الآمر والمأمور فوجد فيه سلطان التّكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى (وأمر أهلك بالصّلاة) فإنّ كلّ أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصّلاة، ومثله حديث الباب، فإنّ عمر إنّما استفتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ليمتثل ما يأمره به ويلزم ابنه به. فمن مثّل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالطٌ، فإنّ القرينة واضحة في أنّ عمرَ في هذه الكائنة كان مأموراً بالتّبليغ، ولهذا وقع في رواية أيّوب عن نافع " فأمره أن يراجعها ". وفي رواية أنس بن سيرين ويونس بن جبير وطاوسٍ عن ابن عمر , وفي رواية الزّهريّ عن سالم " فليراجعها ". وفي رواية لمسلمٍ " فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية الليث عن نافع عن ابن عمر , فإنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمرني بهذا. وقد اقتضى كلام سليمٍ الرّازيّ في " التّقريب " أنّه يجب على الثّاني الفعل جزماً , وإنّما الخلاف في تسميته آمراً فرجع الخلاف عنده لفظيّاً.

وقال الفخر الرّازيّ في " المحصول ": الحقّ أنّ الله تعالى إذا قال لزيدٍ: أوجبت على عمرو كذا , وقال لعمرٍو: كلّ ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك , كان الأمر بالأمر بالشّيء أمراً بالشّيء. قلت: وهذا يمكن أن يؤخذ منه التّفرقة بين الأمر الصّادر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن غيره، فمهما أمر الرّسول أحداً أن يأمر به غيره وجب , لأنّ الله أوجب طاعته وهو أوجب طاعة أميره كما ثبت في الصّحيح " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ". وأمّا غيره ممّن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التّعدّي التي أشار إليها ابن الحاجب. وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يتردّد في اقتضاء ذلك الطّلب، وإنّما ينبغي أن ينظر في أنّ لوازم صيغة الأمر. هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا؟ بمعنى أنّهما يستويان في الدّلالة على الطّلب من وجه واحد أو لا. قلت: وهو حسن، فإنّ أصل المسألة التي انبنى عليها هذا الخلاف حديث " مروا أولادكم بالصّلاة لسبعٍ " فإنّ الأولاد ليسوا بمكلفين فلا يتّجه عليهم الوجوب، وإنّما الطّلب متوجّه على أوليائهم أن يعلموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطّريق وليس مساوياً للأمر الأوّل، وهذا إنّما عرض من أمر خارج وهو امتناع توجّه الأمر على غير المكلف، وهو بخلاف القصّة التي في حديث الباب. والحاصل: أنّ الخطاب إذا توجّه لمكلفٍ أن يأمر مكلفاً آخر بفعل

شيء كان المكلف الأوّل مبلغاً محضاً , والثّاني مأمور من قبل الشّارع، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث وأصحابه " ومروهم بصلاة كذا في حين كذا " (¬1) , وقوله لرسول ابنته - صلى الله عليه وسلم - " مرها فلتصبر ولتحتسب " (¬2) ونظائره كثيرة. فإذا أمَرَ الأوّلُ الثّاني بذلك فلم يمتثله كان عاصياً، وإن توجّه الخطاب من الشّارع لمكلفٍ أن يأمر غير مكلف أو توجّه الخطاب من غير الشّارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأوّل عليه لَم يكن الأمر بالأمر بالشّيء أمراً بالشّيء. فالصّورة الأولى: هي التي نشأ عنها الاختلاف , وهو أمر أولياء الصّبيان أن يأمروا الصّبيان. والصّورة الثّانية: هي التي يتصوّر فيها أن يكون الأمر متعدّياً بأمره للأوّل أن يأمر الثّاني، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة. والله المستعان. واختلف في وجوب المراجعة. القول الأول: ذهب إلى الوجوب مالك وأحمد في رواية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (685) عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - , قال: قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شبَبَة .. الحديث " (¬2) أخرجه البخاري (1284) ومسلم (2174) عن أسامة بن زيد , قال: أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه. إنَّ ابناً لي قُبض فائتنا فأرسل يقرئ السلام , ويقول: إنَّ لله ما أخذ , وله ما أعطى , وكلٌ عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب. فأرسلتْ إليه تقسم .. الحديث

القول الثاني: المشهور عن أحمد - وهو قول الجمهور - أنّها مستحبّة. واحتجّوا: بأنّ ابتداء النّكاح لا يجب فاستدامته كذلك، لكن صحّح صاحب " الهداية " من الحنفيّة أنّها واجبة. والحجّة لِمن قال بالوجوب: ورود الأمر بها، ولأنّ الطّلاق لَمَّا كان محرّماً في الحيض كانت استدامة النّكاح فيه واجبة. فلو تمادى الذي طلَّق في الحيض حتّى طهرت. قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرّجعة أيضاً. وقال أشهب منهم: إذا طهرت انتهى الأمر بالرّجعة. واتّفقوا على أنّها إذا انقضت عدّتها أن لا رجعة، وأنّه لو طلَّق في طهر قد مسّها فيه لا يؤمر بمراجعتها. كذا نقله ابن بطّالٍ (¬1) وغيره. لكنّ الخلاف فيه ثابت قد حكاه الحنّاطيّ من الشّافعيّة وجهاً. واتّفقوا على أنّه لو طلَّق قبل الدّخول وهي حائض لَم يؤمر بالمراجعة , إلَّا ما نُقل عن زفر. فطرد الباب. قوله: (ثمّ يمسكها) أي: يستمرّ بها في عصمته. قوله: (حتّى تطهر ثمّ تحيض فتطهر) في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع " ثمّ ليدعها حتّى تطهر، ثمّ تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها " ونحوه في رواية الليث وأيّوب عن نافع، وكذا ¬

_ (¬1) ((هو علي بن خلف , سبق ترجمته (1/ 34)

عند مسلم من رواية عبد الله بن دينار، وكذا عندهما من رواية الزّهريّ عن سالم، وعند مسلم من رواية محمّد بن عبد الرّحمن عن سالم بلفظ " مره فليراجعها، ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً ". قال الشّافعيّ: غير نافع إنّما روى " حتّى تطهر من الحيضة التي طلَّقها فيها , ثمّ إن شاء أمسك وإن شاء طلَّق " رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم. قلت: وهو كما قال، لكنّ رواية الزّهريّ عن سالم موافقة لرواية نافع، وقد نبّه على ذلك أبو داود، والزّيادة من الثّقة مقبولة. ولا سيّما إذا كان حافظاً. وقد اختلف في الحكمة في ذلك. فقال الشّافعيّ: يحتمل أن يكون أراد بذلك - أي بما في رواية نافع - أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلَّقها فيها بطهرٍ تامّ , ثمّ حيض تامّ. ليكون تطليقها وهي تعلم عدّتها إمّا بحملٍ أو بحيضٍ. أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع , إذ يرغب فيمسك للحمل , أو ليكون إن كانت سألت الطّلاق غير حامل أن تكفّ عنه. وقيل: الحكمة فيه أن لا تصير الرّجعة لغرض الطّلاق، فإذا أمسكها زماناً يحلّ له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرّجعة، لأنّه قد يطول مقامه معها، فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها.

وقيل: إنّ الطّهر الذي يلي الحيض الذي طلَّقها فيه كقرءٍ واحد، فلو طلَّقها فيه لكان كمن طلق في الحيض، وهو ممتنع من الطّلاق في الحيض، فلزم أن يتأخّر إلى الطّهر الثّاني. واختلف في جواز تطليقها في الطّهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطّلاق والرّجعة. وفيه للشّافعيّة وجهان أصحّهما المنع، وبه قطع المتولي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزّيادة التي في الحديث. وعبارة الغزاليّ في " الوسيط " وتبعه مجلي: هل يجوز أن يطلّق في هذا الطّهر؟ وجهان. وكلام المالكيّة يقتضي أنّ التّأخير مستحبّ. وقال ابن تيميّة في " المحرّر ": ولا يطلقها في الطّهر المتعقّب له فإنّه بدعة، وعنه - أي عن أحمد - جواز ذلك. وفي كتب الحنفيّة عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمّد المنع. ووجه الجواز: أنّ التّحريم إنّما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التّحريم فجاز طلاقها في هذا الطّهر كما يجوز في الطّهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطّهر إن لَم يتقدّم طلاق في الحيض. وقد ذكرنا حُجج المانعين. ومنها: أنّه لو طلَّقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرّجعة فإنّها شرعت لإيواء المرأة , ولهذا سمّاها إمساكاً فأمره أن يمسكها في ذلك الطّهر , وأن لا يطلق فيه حتّى

تحيض حيضة أخرى ثمّ تطهر لتكون الرّجعة للإمساك لا للطّلاق. ويؤيّد ذلك: أنّ الشّارع أكّد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطّهر الذي يلي الحيض الذي طلَّقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر " مُره أن يراجعها فإذا طهرت أمسكها حتّى إذا طهرت أخرى , فإن شاء طلَّقها وإن شاء أمسكها " فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطّهر. فكيف يبيح له أن يطلقها فيه؟ , وقد ثبت النّهي عن الطّلاق في طهر جامعها فيه. قوله: (فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسّها) في رواية مالك " ثمّ إن شاء أمسك بعد , وإن شاء طلق قبل أن يمسّ " وفي رواية أيّوب " ثمّ يطلقها قبل أن يمسّها " وفي رواية عبيد الله بن عمر " فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها " ونحوه في رواية الليث. وفي رواية محمّد بن عبد الرّحمن عن سالم " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً ". وتمسّك بهذه الزّيادة من استثنى من تحريم الطّلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل فإنّه لا يحرم. والحكمة فيه: أنّه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطّلاق، وأيضاً فإنّ زمن الحمل زمن الرّغبة في الوطء فإقدامه على الطّلاق فيه يدلّ على رغبته عنها، ومحلّ ذلك أن يكون الحمل من المطلق، فلو كان من غيره بأن نكح حاملاً من زناً ووطئها ثمّ طلَّقها أو وطئت منكوحة بشبهةٍ ثمّ حملت منه فطلقها زوجها فإنّ

الطّلاق يكون بدعيّاً، لأنّ عدّة الطّلاق تقع بعد وضع الحمل والنّقاء من النّفاس، فلا تشرع عقب الطّلاق في العدّة كما في الحامل منه. قال الخطّابيّ (¬1): في قوله " ثمّ إن شاء أمسك وإن شاء طلق " دليل على أنّ مَن قال لزوجته وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق لا يكون مطلقاً للسّنّة، لأنّ المطلق للسّنّة هو الذي يكون مخيّراً عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطّلاق وتركه. واستدل بقوله " قبل أن يمسّ " على أنّ الطّلاق في طهر جامع فيه حرامٌ، وبه صرّح الجمهور، فلو طلق هل يجبر على الرّجعة كما يجبر عليها إذا طلَّقها وهي حائض؟ طرده بعض المالكيّة فيهما، والمشهور عنهم إجباره في الحائض دون الطّاهر، وقالوا فيما إذا طلَّقها وهي حائض: يجبر على الرّجعة، فإن امتنع أدّبه الحاكم، فإن أصرّ ارتجع الحاكم عليه. وهل يجوز له وطؤها بذلك؟. روايتان لهم أصحّهما الجواز، وعن داود يجبر على الرّجعة إذا طلَّقها حائضاً , ولا يجبر إذا طلَّقها نفساء؛ وهو جمود. ووقع فيه رواية مسلم من طريق محمّد بن عبد الرّحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً " وفي روايته من طريق ابن أخي الزّهريّ عن الزّهريّ " فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً من حيضها ". ¬

_ (¬1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

واختلف الفقهاء في المراد بقوله " طاهراً ". هل المراد به انقطاع الدّم , أو التّطهّر بالغسل؟. على قولين، وهما روايتان عن أحمد. والرّاجح الثّاني، لِما أخرجه النّسائيّ من طريق معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذه القصّة قال: مُرْ عبدَ الله فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسّها حتّى يُطلّقها، وإن شاء يمسكها فليمسكها. وهذا مفسّرٌ لقوله " فإذا طهرت " فليحمل عليه. ويتفرّع من هذا , أنّ العدّة هل تنقضي بانقطاع الدّم وترتفع الرّجعة؟، أو لا بدّ من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضاً. والحاصل أنّ الأحكام المرتّبة على الحيض نوعان: الأوّل: يزول بانقطاع الدّم كصحّة الغسل والصّوم وترتّب الصّلاة في الذّمّة. الثّاني: لا يزول إلَّا بالغسل كصحّة الصّلاة والطّواف وجواز اللبث في المسجد، فهل يكون الطّلاق من النّوع الأوّل أو من الثّاني؟. وتمسّك بقوله " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً " من ذهب إلى أنّ طلاق الحامل سنّيٌّ، وهو قول الجمهور. وعن أحمد رواية: أنّه ليس بسنّيٍّ ولا بدعيّ. قوله: (فتلك العدّة كما أمر الله عزّ وجل) في رواية مالك عن نافع " فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النّساء " أي: أذن، وهذا بيان

لمراد الآية. وهي قوله تعالى (يا أيّها النّبيّ إذا طلقتم النّساء فطلقوهنّ لعدّتهنّ). وصرّح معمر في روايته عن أيّوب عن نافع , بأنّ هذا الكلام عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية الزّبير عند مسلم قال ابن عمر: وقرأ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (يا أيّها النّبيّ إذا طلقتم النّساء) الآية ". وروى الطّبريّ بسندٍ صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى (فطلقوهنّ لعدّتهنّ) قال: في الطّهر من غير جماع، وأخرجه عن جمعٍ من الصّحابة ومن بعدهم كذلك، وهو عند التّرمذيّ أيضاً. واستدل به من ذهب إلى أنّ الأقراء أطهار للأمر بطلاقها في الطّهر، وقوله (فطلقوهنّ لعدّتهنّ) أي: وقت ابتداء عدّتهنّ، وقد جعل للمطلقة تربّص ثلاثة قروء، فلمّا نهى عن الطّلاق في الحيض. وقال: إنّ الطّلاق في الطّهر هو الطّلاق المأذون فيه علم أنّ الأقراء الأطهار، قاله ابن عبد البرّ. وقال أيضاً: وقد اتّفق علماء المدينة من الصّحابة فمن بعدهم , وكذا الشّافعيّ ومالك وأحمد وأتباعهم على أنّها إذا طعنت في الحيضة الثّالثة طهرت بشرط أن يقع طلاقها في الطّهر، وأمّا لو وقع في الحيض لَم تعتدّ بتلك الحيضة. انتهى. قال أبو عبيدة معمرٌ: يقال: أقرأت المرأة إذا دنا حيضها، وأقرأت إذا دنا طهرها، وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت ذات حيض، والقرء انقضاء الحيض. ويقال: هو الحيض نفسه، ويقال: هو من

الأضداد. ومراد أبي عبيدة. أنّ القرء يكون بمعنى الطّهر وبمعنى الحيض وبمعنى الضّمّ والجمع. وهو كذلك. وجزم به ابن بطّالٍ , وقال: لَمَّا احتملت الآية واختلف العلماء في المراد بالأقراء فيها , ترجّح قول مَن قال: إنّ الأقراء الأطهار بحديث ابن عمر , حيث أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلق في الطّهر، وقال في حديثه " فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النّساء " فدلَّ على أنّ المراد بالأقراء الأطهار. قوله: (فحُسِبت من طلاقها) وللبخاري عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عمر , قال: حسبت عليَّ بتطليقةٍ. ولهما عن يونس بن جبير سمعت ابن عمر يقول: طلَّقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمرُ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال: ليراجعها، فإذا طهرت فإن شاء فليطلّقها. قال: قلت لابن عمر: أفيحسب بها؟ قال: ما يمنعه؟ أرأيت إن عجَزَ واستحمق. ولأحمد قال: قلت لابن عمر: أفتحتسب طلاقها ذلك طلاقاً؟ قال: نعم، أرأيت إن عجَزَ واستحمق. وقد رواه البخاريّ من رواية همّام عن قتادة بطوله. وفيه " قلت: فهل عدّ ذلك طلاقاً؟ قال: أرأيت إن عجَزَ واستحمق ". وله من طريق محمّد بن سيرين عن يونس بن جبير مختصراً. وفيه " قلت: فتعتدّ بتلك التّطليقة؟ قال: أرأيت إن عجَزَ واستحمق ".

وأخرجه مسلم من وجه آخر عن محمّد بن سيرين مطوّلاً. ولفظه " فقلت له: إذا طلَّق الرّجل امرأته وهي حائض أيعتدّ بتلك التّطليقة؟ قال: فمه. أَوَ إن عجَزَ واستحمق " وفي رواية له " فقلت: أفتحتسب عليه " والباقي مثله. وقوله " فمه " أصله فما، وهو استفهام فيه اكتفاء. أي: فما يكون إن لَم تحتسب. ويحتمل: أن تكون الهاء أصليّة , وهي كلمة تقال للزّجر , أي: كُفّ عن هذا الكلام , فإنّه لا بدّ من وقوع الطّلاق بذلك. قال ابن عبد البرّ: قول ابن عمر " فمه " معناه فأيّ شيءٍ يكون إذا لَم يعتدّ بها؟ إنكاراً لقول السّائل " أيعتدّ بها " فكأنّه قال: وهل من ذلك بدٌّ؟. وقوله " أرأيت إن عجَزَ واستحمق " أي: إن عجَزَ عن فرضٍ فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذراً له. وقال الخطّابيّ: في الكلام حذفٌ، أي: أرأيت إن عجَزَ واستحمق أيسقط عنه الطّلاق حمقه أو يبطله عجَزَه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وقال الكرمانيّ (¬1): يحتمل أن تكون " إن " نافية بمعنى. ما. أي لَم يعجر ابن عمر ولا استحمق، لأنّه ليس بطفلٍ ولا مجنون. قال: وإن كانت الرّواية بفتح ألف أن فمعناه أظهر، والتّاء من استحمق ¬

_ (¬1) هو محمد بن يوسف , سبق ترجمته (1/ 18) (¬2) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).

مفتوحة. قاله ابن الخشّاب وقال: المعنى فعل فعلاً يصيّره أحمق عاجزاً فيسقط عنه حكم الطّلاق عجَزَه أو حمقه، والسّين والتّاء فيه إشارة إلى أنّه تَكلَّف الحُمق بما فعله من تطليق امرأته وهي حائض. وقد وقع في بعض الأصول بضمّ التّاء مبنيّاً للمجهول، أي: إنّ النّاس استحمقوه بما فعل، وهو موجّهٌ. وقال المُهلَّب (¬1): معنى قوله " إن عجَزَ واستحمق " يعني عجَزَ في المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطّلاق , أو فقد عقله فلم تمكن منه الرّجعة , أتبقى المرأة معلقةً لا ذات بعلٍ ولا مطلقةً؟ وقد نهى الله عن ذلك، فلا بدّ أن تحتسب بتلك التّطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنّه لو عجَزَ عن فرض آخر لله فلم يقمه واستحمق فلم يأت به ما كان يعذر بذلك ويسقط عنه. قال النّوويّ: شذّ بعض أهل الظّاهر فقال: إذا طلق الحائض لَم يقع الطّلاق , لأنّه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبيّة , وحكاه الخطّابيّ عن الخوارج والرّوافض. وقال ابن عبد البرّ: لا يخالف في ذلك إلَّا أهل البدع والضّلال. يعني: الآن. قال: وروي مثله عن بعض التّابعين وهو شذوذ. وحكاه ابن العربيّ وغيره عن ابن عُليّة. يعني: إبراهيم بن إسماعيل بن عُليّة الذي قال الشّافعيّ في حقّه: إبراهيم ضالّ، جلس في باب ¬

_ (¬1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).

الضّوالّ يضلّ النّاس. وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها. وكان من فقهاء المعتزلة. وقد غلِط فيه من ظنّ أنّ المنقول عنه المسائل الشّاذّة أبوه، وحاشاه، فإنّه من كبار أهل السّنّة. وكأنّ النّوويّ أراد ببعض الظّاهريّة ابن حزم، فإنّه ممّن جرّد القول بذلك وانتصر له وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة , بأنّ ابن عمر كان اجتنبها فأمره أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة , فحمل المراجعة على معناها اللغويّ. وتُعقّب: بأنّ الحمل على الحقيقة الشّرعيّة مقدّم على اللغويّة اتّفاقاً. وأجاب عن قول ابن عمر " حسبت عليّ بتطليقةٍ " بأنّه لَم يصرّح بمن حسبها عليه، ولا حجّة في أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتعقّب: بأنّه مثل قول الصّحابيّ " أمرنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا " فإنّه ينصرف إلى من له الأمر حينئذٍ وهو النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. كذا قال بعض الشّرّاح. وعندي أنّه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي في قول الصّحابيّ أمرنا بكذا , فإنّ ذاك محلّه حيث يكون اطّلاع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ليس صريحاً، وليس كذلك في قصّة ابن عمر هذه , فإنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر بالمراجعة , وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك. وإذا أخبر ابن عمر أنّ الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقةٍ كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعيداً جدّاً مع

احتفاف القرائن في هذه القصّة بذلك، كيف يتخيّل أنّ ابن عمر يفعل في القصّة شيئاً برأيه. وهو ينقل أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تغيّظ من صنيعه؟. كيف لَم يشاوره فيما يفعل في القصّة المذكورة؟. وقد أخرج ابن وهب في " مسنده " عن ابن أبي ذئب , أنّ نافعاً أخبره , أنّ ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: مُره فليراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر. قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: وهي واحدة. قال ابن أبي ذئب: وحدّثني حنظلة بن أبي سفيان , أنّه سمع سالماً يحدّث عن أبيه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وأخرجه الدّارقطنيّ من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعاً عن نافع عن ابن عمر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: هي واحدة. وهذا نصّ في موضع الخلاف فيجب المصير إليه. وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم , فأجابه بأنّ قوله " هي واحدة " لعله ليس من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فألزمه بأنّه نقض أصله , لأنّ الأصل لا يدفع بالاحتمال. وعند الدّارقطنيّ في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصّة: فقال عمر: يا رسولَ الله: أفتحتسب بتلك التّطليقة؟ قال: نعم. ورجاله إلى شعبة ثقات. وعنده من طريق سعيد بن عبد الرّحمن الجمحيّ عن عبيد الله بن

عمر عن نافع عن ابن عمر , أنّ رجلاً قال: إنّي طلَّقت امرأتي البتّة وهي حائض، فقال: عصيت ربّك، وفارقت امرأتك. قال: فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر أن يراجع امرأته، قال: إنّه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاقٍ بقي له، وأنت لَم تبق ما ترتجع به امرأتك. وفي هذا السّياق ردٌّ على من حَمل الرّجعة في قصّة ابن عمر على المعنى اللغويّ. وقد وافق ابنَ حزم على ذلك من المتأخّرين ابنُ تيميّة (¬1)، وله كلامٌ طويل في تقرير ذلك والانتصار له. وأعظم ما احتجّوا به: ما وقع في رواية أبي الزّبير عن ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنّسائيّ. وفيه " فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليراجعها، فردّها , وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك " لفظ مسلم. وللنّسائيّ وأبي داود " فردّها عليّ " زاد أبو داود " ولَم يرها شيئاً ". وإسناده على شرط الصّحيح. فإنّ مسلماً أخرجه من رواية حجّاج بن محمّد عن ابن جريجٍ، وساقه على لفظه , ثمّ أخرجه من رواية أبي عاصم عنه , وقال نحو هذه القصّة، ثمّ أخرجه من رواية عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ قال: مثل حديث حجّاج. وفيه بعض الزّيادة، فأشار إلى هذه الزّيادة، ولعله طوى ذكرها عمداً. وقد أخرج أحمد الحديث عن روح بن عبادة عن ابن جريجٍ فذكرها، فلا يتخيّل انفراد عبد الرّزّاق بها. ¬

_ (¬1) أي: شيخ الإسلام رحمه الله. وكلامه عن المسألة مبسوط في الفتاوى المجلد 33.

قال أبو داود: روى هذا الحديث عنه ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلّها على خلاف ما قال أبو الزّبير. وقال ابن عبد البرّ: قوله " ولَم يرها شيئاً " منكرٌ لَم يقله غير أبي الزّبير، وليس بحجّةٍ فيما خالفه فيه مثله. فكيف بمن هو أثبت منه؟!. ولو صحّ فمعناه عندي - والله أعلم -: ولَم يرها شيئاً مستقيماً لكونها لَم تقع على السّنّة. وقال الخطّابيّ: قال أهل الحديث: لَم يرو أبو الزّبير حديثاً أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولَم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لَم يرها شيئاً جائزاً في السّنّة ماضياً في الاختيار , وإن كان لازماً له مع الكراهة. ونقل البيهقيّ في " المعرفة " عن الشّافعيّ أنّه ذكر رواية أبي الزّبير , فقال: نافع أثبت من أبي الزّبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعاً غيره من أهل الثّبت. قال: وبسط الشّافعيّ القولَ في ذلك , وحمل قوله " لَم يرها شيئاً " على أنّه لَم يعدّها شيئاً صواباً غير خطأ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنّه أمره بالمراجعة، ولو كان طلَّقها طاهراً لَم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرّجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه: لَم يصنع شيئاً. أي: لَم يصنع شيئاً صواباً. قال ابن عبد البرّ: واحتجّ بعض من ذهب إلى أنّ الطّلاق لا يقع ,بما روي عن الشّعبيّ قال: إذا طلق الرّجل امرأته وهي حائض لَم يعتدّ

بها في قول ابن عمر. قال ابن عبد البرّ: وليس معناه ما ذهب إليه، وإنّما معناه , لَم تعتدّ المرأة بتلك الحيضة في العدّة، كما روي ذلك عنه منصوصاً أنّه قال: يقع عليها الطّلاق , ولا تعتدّ بتلك الحيضة. انتهى وقد روى عبد الوهّاب الثّقفيّ عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر نحواً مما نقله ابن عبد البرّ عن الشّعبيّ , أخرجه ابن حزم بإسنادٍ صحيح، والجواب عنه مثله. وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر , أنّه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس ذلك بشيءٍ. وهذه متابعات لأبي الزّبير، إلَّا أنّها قابلة للتّأويل، وهو أولى من إلغاء الصّريح في قول ابن عمر إنّها حسبت عليه بتطليقةٍ. وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البرّ وغيره يتعيّن، وهو أولى من تغليظ بعض الثّقات. وأمّا قول ابن عمر " إنّها حسبت عليه بتطليقةٍ " فإنّه وإن لَم يصرّح برفع ذلك إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فإنّ فيه تسليم أنّ ابن عمر قال: إنّها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله " إنّه لَم يعتدّ بها " أو " لَم يرها شيئاً " على المعنى الذي ذهب إليه المخالف؟. لأنّه إنْ جعل الضّمير للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لزم منه أنّ ابن عمر خالف ما حكم به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصّة بخصوصها , لأنّه قال " إنّها حسبت عليه بتطليقةٍ " فيكون من حسبها عليه خالف كونه لَم يرها شيئاً،

وكيف يظنّ به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟. وإنْ جعل الضّمير في " لَم يعتدّ بها أو لَم يرها " لابن عمر لزم منه التّناقض في القصّة الواحدة فيفتقر إلى التّرجيح، ولا شكّ أنّ الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابله عند تعذّر الجمع عند الجمهور. والله أعلم. واحتجّ ابن القيّم لترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسةٍ ترجع إلى مسألة أنّ النّهي يقتضي الفساد. فقال: الطّلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أنّ حرامه باطل كالنّكاح وسائر العقود، وأيضاً فكما أنّ النّهي يقتضي التّحريم فكذلك يقتضي الفساد، وأيضاً فهو طلاق منع منه الشّرع فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه. فكذلك يفيد عدم نفوذه وإلَّا لَم يكن للمنع فائدة، لأنّ الزّوج لو وكّل رجلاً أن يطلق امرأته على وجه فطلقها على غير الوجه المأذون فيه لَم ينفذ، فكذلك لَم يأذن الشّارع للمكلف في الطّلاق إلَّا إذا كان مباحاً , فإذا طلق طلاقاً محرّماً لَم يصحّ. وأيضاً فكلّ ما حرّمه الله من العقود مطلوب الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرّمه أقرب إلى تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه، ومعلوم أنّ الحلال المأذون فيه ليس الحرام الممنوع منه. ثمّ أطال من هذا الجنس بمعارضاتٍ كثيرةٍ لا تنهض مع التّنصيص على صريح الأمر بالرّجعة. فإنّها فرع وقوع الطّلاق على تصريح

صاحب القصّة بأنّها حسبت عليه تطليقة، والقياس في معارضة النّصّ فاسد الاعتبار. والله أعلم. وقد عورض بقياسٍ أحسن من قياسه. فقال ابن عبد البرّ: ليس الطّلاق من أعمال البرّ التي يتقرّب بها، وإنّما هو إزالة عصمة فيها حقّ آدميّ، فكيفما أوقعه وقع، سواء أجر في ذلك أم أثم، ولو لزم المطيع ولَم يلزم العاصي لكان العاصي أخفّ حالاً من المطيع. ثمّ قال ابن القيّم: لَم يرد التّصريح بأنّ ابن عمر احتسب بتلك التّطليقة إلَّا في رواية سعيد بن جبير عنه عند البخاريّ، وليس فيها تصريح بالرّفع. قال: فانفراد سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزّبير بقوله " لَم يرها شيئاً "، فإمّا أن يتساقطا , وإمّا أن ترجّح رواية أبي الزّبير لتصريحها بالرّفع، وتحمل رواية سعيد بن جبير على أنّ أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي ألزم النّاس فيه بالطّلاق الثّلاث بعد أن كانوا في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يحتسب عليهم به ثلاثاً إذا كان بلفظٍ واحد. قلت: وغفل رحمه الله عمّا ثبت في صحيح مسلم من رواية أنس بن سيرين على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يشعر بأنّه إنّما راجعها في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولفظه " سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق. فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال:

مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال: فراجعتها ثمّ طلَّقها لطهرها , قلت: فاعتددت بتلك التّطليقة وهي حائض؟ فقال: ما لي لا اعتدّ بها. وإن كنت عجَزَت واستحمقت " وعند مسلم أيضاً من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمّه عن سالم في حديث الباب " وكان عبد الله بن عمر طلَّقها تطليقة فحسبت من طلاقها , فراجعها كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وله من رواية الزّبيديّ عن ابن شهاب , قال ابن عمر: فراجعتها وحسبت لها التّطليقة التي طلقتها. وعند الشّافعيّ عن مسلم بن خالد عن ابن جريجٍ , أنّهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم. وفي حديث ابن عمر من الفوائد غير ما تقدّم. أنّ الرّجعة يستقلّ بها الزّوج دون الوليّ ورضا المرأة، لأنّه جعل ذلك إليه دون غيره، وهو كقوله تعالى (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك). وفيه أنّ الأب يقوم عن ابنه البالغ الرّشيد في الأمور التي تقع له ممّا يحتشم الابن من ذكره، ويتلقّى عنه ما لعله يلحقه من العتاب على فعله شفقة منه وبرّاً. وفيه أنّ طلاق الطّاهرة لا يكره , لأنّه أنكر إيقاعه في الحيض لا في غيره، ولقوله في آخر الحديث " فإن شاء أمسك وإن شاء طلق ".

وفيه أنّ الحامل لا تحيض. لقوله في طريق سالم المتقدّمة " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً " فحرّم - صلى الله عليه وسلم - الطّلاق في زمن الحيض وأباحه في زمن الحمل، فدلَّ على أنّهما لا يجتمعان. وأجيب: بأنّ حيض الحامل لَمَّا لَم يكن له تأثير في تطويل العدّة ولا تخفيفها لأنّها بوضع الحمل فأباح الشّارع طلاقها حاملاً مطلقاً. وأمّا غير الحامل ففرّق بين الحائض والطّاهر , لأنّ الحيض يؤثّر في العدّة فالفرق بين الحامل وغيرها إنّما هو بسبب الحمل لا بسبب الحيض ولا الطّهر. (¬1) ¬

_ (¬1) قال البخاري في الحيض: باب مخلقة وغير مخلقة. ثم روى (312) عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ الله عز وجل وكَّل بالرحم ملَكاً يقول: يا رب نطفة , يا رب علقة , يا رب مضغة. فإذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى , شقي أم سعيد , فما الرزق والأجل. فيكتب في بطن أمه. قال الحافظ في " الفتح ": قال ابن بطال: غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض تقويةُ مذهب من يقول إنَّ الحامل لا تحيض، وهو قول الكوفيين وأحمد وأبي ثور وابن المنذر وطائفة، وإليه ذهب الشافعي في القديم. وقال في الجديد: إنها تحيض، وبه قال إسحاق، وعن مالك روايتان. قلت: وفي الاستدلال بالحديث المذكور على أنها لا تحيض نظر؛ لأَنه لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل هو السِّقط الذي لم يصوّر أن لا يكون الدم الذي تراه المرأة التي يستمر حملها ليس بحيض. وما ادعاه المخالف من أنه رشْحٌ من الولد أو من فضلة غذائه أو دم فساد لعلّة فمحتاج إلى دليل. وما ورد في ذلك من خبر أو أثر لا يثبت؛ لأنَّ هذا دم بصفات دم الحيض وفي زمن إمكانه فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وأقوى حججهم: أنَّ استبراء الأمة اعتبر بالمحيض لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض لم تتم البراءة بالحيض. واستدلَّ ابن المنير على أنه ليس بدم حيض بأنَّ الملك موكل برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه قذر ولا يلائمها ذلك. وأجيب: بأنه لا يلزم من كون الملك موكلاً به أن يكون حالاًّ فيه، ثم هو مشترك الإلزام؛ لأنَّ الدم كله قذر، والله أعلم. انتهى

وفيه تحريم الطّلاق في طهر جامعها فيه. وبه قال الجمهور. وقال المالكيّة: لا يحرم؛ وفي رواية كالجمهور، ورجّحها الفاكهانيّ لكونه شرط في الإذن في الطّلاق عدم المسيس، والمعلق بشرطٍ معدومٌ عند عدمه قوله: (وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال ابن بطّالٍ ما ملخّصه: المراجعة على ضربين. الأول: إمّا في العدّة فهي على ما في حديث ابن عمر , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمره بمراجعتها , ولَم يذكر أنّه احتاج إلى عقد جديد. والثاني: إمّا بعد العدّة فعلى ما في حديث معقل (¬1). وقد أجمعوا على أنّ الحرّ إذا طلق الحرّة بعد الدّخول بها تطليقة أو تطليقتين فهو أحقّ برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك، فإن لَم يراجع حتّى انقضت العدّة فتصير أجنبيّة فلا تحلّ له إلَّا بنكاحٍ مستأنف. واختلف السّلف فيما يكون به الرّجل مراجعاً. فقال الأوزاعيّ: إذا جامعها فقد راجعها , وجاء ذلك عن بعض ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (5331) عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - , أنّه كانت أخته تحت رجل، فطلَّقها ثم خلَّى عنها، حتى انقضت عدتها، ثم خطبها، فحمي معقل من ذلك أَنَفَاً، فقال: خلى عنها وهو يقدر عليها، ثم يخطبها، فحال بينه وبينها، فأنزل الله: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} إلى آخر الآية. فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه، فترك الحمية , واستقاد لأمر الله.

التّابعين , وبه قال مالك وإسحاق. بشرط أن ينوي به الرّجعة. وقال الكوفيّون كالأوزاعيّ. وزادوا: ولو لمسها بشهوةٍ أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ وقال الشّافعيّ: لا تكون الرّجعة إلَّا بالكلام. وانبنى على هذا الخلاف جواز الوطء وتحريمه. وحجّة الشّافعيّ: أنّ الطّلاق مزيل للنّكاح، وأقرب ما يظهر ذلك في حلّ الوطء وعدمه، لأنّ الحلّ معنىً يجوز أن يرجع في النّكاح ويعود كما في إسلام أحد المشركين ثمّ إسلام الآخر في العدّة، وكما يرتفع بالصّوم والإحرام والحيض ثمّ يعود بزوال هذه المعاني. وحجّة من أجاز: أنّ النّكاح لو زال لَم تعد المرأة إلَّا بعقدٍ جديد وبصحّة الخلع في الرّجعيّة ولوقوع الطّلقة الثّانية. والجواب عن كلّ ذلك: أنّ النّكاح ما زال أصله , وإنّما زال وصفه. وقال ابن السّمعانيّ: الحقّ أنّ القياس يقتضي أنّ الطّلاق إذا وقع زال النّكاح كالعتق، لكنّ الشّرع أثبت الرّجعة في النّكاح دون العتق فافترقا.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 322 - عن فاطمة بنت قيسٍ رضي الله عنها، أنَّ أبا عمرو بن حفصٍ طلَّقها ألبتّة، وهو غائبٌ , وفي روايةٍ: طلَّقها ثلاثاً. فأرسل إليها وكيله بشعيرٍ، فسخِطَتْه، فقال: والله ما لكِ علينا من شيء، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقةٌ. وفي لفظ: ولا سكنى , فأمرها أن تَعتدّ في بيت أمّ شريكٍ، ثم قال: تلك امرأةٌ يغشاها أصحابي، اعتدّي عند ابن أمّ مكتوم، فإنه رجلٌ أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللتِ فآذنيني. قالت: فلمَّا حللتُ، ذكرتُ له ذلك، وأنَّ معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهمٍ خطَبَاني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أبو جهمٍ فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصُعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيدٍ، فكرهْتُه، ثم قال: انكحي أسامة بن زيد، فنكحتُه، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (1480) من طرق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها. مطوّلاً ومختصراً. ورواه مسلم أيضاً (1480 , 1481) من طرق أخرى عن فاطمة نحوه. مختصراً ومطولاً. ولَم يروه البخاري في صحيحه بهذا السياق قال الشارح في " الفتح ": أخرج مسلمٌ قصتَها من طرق متعددة عنها، ولَم أرها في البخاري , وإنما ترجم لها (باب قصّة فاطمة بنت قيس)، وأورد أشياء من قصتها بطريق الإشارة إليها، ووهم صاحب " العمدة " فأورد حديثها بطوله في المتفق. انتهى قلت: وقد شرح ابن حجر غالب ألفاظه. وأورد أهمَّ مسائله. وسأوردها إن شاء الله.

قوله: (فاطمة بنت قيسٍ) هي بنت قيس بن خالد من بني محارب بن فهر بن مالك، وهي أخت الضّحّاك بن قيس الذي ولِيَ العراق ليزيد بن معاوية , وقُتل بمرج راهط، وهو من صغار الصّحابة، وهي أسنّ منه. وكانت من المهاجرات الأُوَل، وكان لها عقل وجمال. وتزوّجها أبو عمرو بن حفص , ويقال: أبو حفص بن عمرو بن المغيرة المخزوميّ - وهو ابن عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة - فخرج مع عليّ لَمَّا بعثه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فبعث إليها بتطليقةٍ ثالثةٍ بقيت لها، وأَمرَ ابني عمّيه الحارث بن هشام وعيّاش بن أبي ربيعة أنْ يدفعا لها تمراً وشعيراً، فاستقلَّت ذلك , وشَكَتْ إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: ليس لكِ سُكنى ولا نفقة. قوله: (أنَّ أبا عمرو بن حفصٍ طلَّقها البتّة، وهو غائبٌ) اتّفقت الرّوايات عن فاطمة على كثرتها عنها أنّها بانت بالطّلاق. ووقع في آخر صحيح مسلم في حديث الجسّاسة عن فاطمة بنت قيس " نكحتُ ابن المغيرة، وهو من خِيَار شباب قريش يومئذٍ، فأصيب في الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلمّا تأيّمت خطبني أبو جهم. الحديث. وهذه الرّواية وهْم، ولكن أوّلَها بعضهم على أنّ المراد أصيب بجراحةٍ أو أصيب في ماله أو نحو ذلك. حكاه النّوويّ وغيره. والذي يظهر أنّ المراد بقولها " أصيب " أي: مات على ظاهره،

وكان في بعث عليّ إلى اليمن، فيصدق أنّه أصيب في الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: في طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولا يلزم من ذلك أن تكون بينونتها منه بالموت بل بالطّلاق السّابق على الموت. فقد ذهب جمعٌ جمٌّ إلى أنّه مات مع عليٍّ باليمن , وذلك بعد أن أرسل إليها بطلاقها، فإذا جمع بين الرّوايتين استقام هذا التّأويل وارتفع الوهْم، ولكن يبعد بذلك قول مَن قال: إنّه بقي إلى خلافة عمر. قوله: (فأرسل إليها وكيله بشعيرٍ، فسَخِطَتْه ... فجاءتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتْ ذلك له) قال ابن دقيق العيد: سياق الحديث يقتضي أنّ سبب الحكم أنّها اختلفت مع الوكيل بسبب استقلالها ما أعطاها، وأنّها لَمَّا قال لها الوكيل " لا نفقة لك " سألت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فأجابها بأنّها لا نفقة لها ولا سكنى، فاقتضى أنّ التّعليل إنّما هو بسبب ما جرى من الاختلاف لا بسبب الاقتحام والبذاءة، فإن قام دليل أقوى من هذا الظّاهر عمل به. قلت: المتّفق عليه في جميع طرقه أنّ الاختلاف كان في النّفقة، ثمّ اختلفت الرّوايات: ففي بعضها " فقال: لا نفقة لك ولا سكنى " وفي بعضها أنّه لَمَّا قال لها " لا نفقة لك " استأذنته في الانتقال فأذن لها، وكلّها في صحيح مسلم. فإذا جمعت ألفاظ الحديث من جميع طرقه خرج منها أنّ سبب استئذانها في الانتقال ما ذكر من الخوف عليها ومنها، واستقام

الاستدلال حينئذٍ على أنّ السّكنى لَم تسقط لذاتها , وإنّما سقطت للسّبب المذكور. نعم. كانت فاطمة بنت قيس تجزم بإسقاط سكنى البائن ونفقتها وتستدلّ لذلك كما سيأتي ذكره، ولهذا كانت عائشة تنكر عليها. فأخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن عائشة أنّها قالت: ما لفاطمة ألا تتّقي الله. يعني في قولها لا سكنى ولا نفقة " وفي رواية للشيخين قالت: أما إنّه ليس لها خيرٌ في ذكر هذا الحديث ". كأنّها تشير إلى أنّ سبب الإذن في انتقال فاطمة ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشّرّ. ويؤيّده ما أخرج النّسائيّ من طريق ميمون بن مهران قال: قدمتُ المدينة , فقلتُ لسعيد بن المسيّب: إنّ فاطمة بنت قيس طُلّقت فخرجت من بيتها، فقال: إنّها كانت لَسِنةً. ولأبي داود من طريق سليمان بن يسار: إنّما كان ذلك من سوء الخلق. وللبخاري مُعلقاً عن ابن أبي الزّناد عن هشامٍ عن أبيه , عابتْ عائشة أشدّ العيب , وقالت: إنّ فاطمة كانت في مكانٍ وحشٍ فخيف على ناحيتها , فلذلك أرخص لها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ووصله أبو داود من طريق ابن وهب عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد بلفظ " لقد عابتْ " وقوله " وحْش " بفتح الواو وسكون المهملة بعدها معجمة. أي: خالٍ لا أنيس به.

ولرواية ابن أبي الزّناد هذه شاهد من رواية أبي أسامة (¬1) عن هشام بن عروة , لكن قال: عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت: يا رسولَ الله إنّ زوجيّ طلقني ثلاثاً فأخاف أن يقتحم عليّ، فأمرها فتحوّلت. وقد أخذ البخاريّ الترجمةَ من مجموع ما ورد في قصّة فاطمة فرتّب الجواز على أحد الأمرين: الأول: إمّا خشية الاقتحام عليها. والثاني: إمّا أن يقع منها على أهل مطلقها فُحش من القول، ولَم ير بين الأمرين في قصّة فاطمة معارضةً لاحتمال وقوعهما معاً في شأنها. تنْبيهٌ: طعن أبو محمّد بن حزم في رواية ابن أبي الزّناد المعلَّقة. فقال: عبد الرّحمن بن أبي الزّناد ضعيف جدّاً، وحكم على روايته هذه بالبطلان. وتعقّب: بأنّه مختلف فيه، ومن طعن فيه لَم يذكر ما يدلّ على تركه فضلاً عن بطلان روايته، وقد جزم يحيى بن معين بأنّه أثبت النّاس في هشام بن عروة، وهذا من روايته عن هشام. ¬

_ (¬1) رواية أبي أسامة. أخرجها مسلم (1482) لكن ليس فيها ما ذكره الشارح هنا. ولفظه: عن هشام حدَّثني أبي. قال: تزوَّج يحيى بنُ سعيد بن العاص بنتَ عبدالرحمن بن الحكم فطلَّقها فأخرجها من عنده فعاب ذلك عليهم عروة. فقالوا: إنَّ فاطمة قد خرجت. قال عروة: فأتيت عائشة فأخبرتها بذلك. فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خيرٌ في أن تذكر هذا الحديث. ثم أخرجه مسلم (1482) وغيره من طريق حفص بن غياث عن هشام. باللفظ الذي ذكره الشارح تماماً. والله أعلم.

فلله درّ البخاريّ ما أكثر استحضاره وأحسن تصرّفه في الحديث والفقه. قوله: (ليس لك عليه نفقةٌ , وفي لفظ: ولا سكنى). اختلف السّلف في نفقة المطلقة البائن وسكناها. القول الأول: قال الجمهور: لا نفقة لها. ولها السّكنى. واحتجّوا لإثبات السّكنى: بقوله تعالى (أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم) ولإسقاط النّفقة بمفهوم قوله تعالى (وإن كنّ أولات حملٍ فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ) فإنّ مفهومه أنّ غير الحامل لا نفقة لها وإلا لَم يكن لتخصيصها بالذّكر معنىً، والسّياق يفهم أنّها في غير الرّجعيّة، لأنّ نفقة الرّجعيّة واجبة لو لَم تكن حاملاً. القول الثاني: ذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور. إلى أنّه لا نفقة لها ولا سكنى على ظاهر حديث فاطمة بنت قيس، ونازعوا في تناول الآية الأولى المطلقة البائن. وقد احتجّت فاطمة بنت قيس صاحبة القصّة على مروان حين بلغها إنكاره بقولها: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى (لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ - إلى قوله - يحدث بعد ذلك أمراً) قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، فأيّ أمر يحدث بعد الثّلاث؟ وإذا لَم يكن لها نفقة وليست حاملاً. فعلامَ يحبسونها؟ (¬1) ¬

_ (¬1) قصّة مراجعة فاطمة رضي الله عنها مع مروان في صحيح مسلم (2417)

وقد وافق فاطمةَ على أنّ المراد بقوله تعالى (يُحدثُ بعد ذلك أمراً) المراجعة قتادةُ والحسنُ والسّدّيّ والضّحّاك. أخرجه الطّبريّ عنهم. ولَم يحك عن أحدٍ غيرهم خلافه. وحكى غيره: أنّ المراد بالأمر ما يأتي من قِبَل الله تعالى من نسخ أو تخصيص أو نحو ذلك فلم ينحصر ذلك في المراجعة. وأمّا ما أخرجه أحمد من طريق الشّعبيّ عن فاطمة في آخر حديثها مرفوعاً " إنّما السّكنى والنّفقة لمن يملك الرّجعة " فهو من أكثر الرّوايات موقوف عليها. وقد بيّن الخطيب في " المدرج " أنّ مجالد بن سعيد تفرّد برفعه. وهو ضعيف، ومن أدخله في رواية غير رواية مجالد عن الشّعبيّ فقد أدرجه. وهو كما قال، وقد تابع بعضُ الرّواة عن الشّعبيّ في رفعه مجالداً , لكنّه أضعف منه. وأمّا قولها " إذا لَم يكن لها نفقة فعلام يحبسونها "؟. فأجاب بعض العلماء عنه: بأنّ السّكنى التي تتبعها النّفقة هو حال الزّوجيّة الذي يمكن معه الاستمتاع ولو كانت رجعيّة. وأمّا السّكنى بعد البينونة فهو حقّ لله تعالى , بدليل أنّ الزّوجين لو اتّفقا على إسقاط العدّة لَم تسقط بخلاف الرّجعيّة , فدلَّ على أن لا ملازمة بين السّكنى والنّفقة. وقد قال بمثل قول فاطمة أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأتباعهم.

القول الثالث: ذهب أهل الكوفة من الحنفيّة وغيرهم إلى أنّ لها النّفقة والكسوة. وأجابوا عن الآية. بأنّه تعالى إنّما قيّد النّفقة بحالة الحمل ليدلّ على إيجابها في غير حالة الحمل بطريق الأولى، لأنّ مدّة الحمل تطول غالباً. وردّه ابن السّمعانيّ: بمنع العلة في طول مدّة الحمل، بل تكون مدّة الحمل أقصر من غيرها تارة وأطول أخرى فلا أولويّة؛ وبأنّ قياس الحائل على الحامل فاسد، لأنّه يتضمّن إسقاط تقييد ورد به النّصّ في القرآن والسّنّة. وأمّا قول بعضهم: إنّ حديث فاطمة أنكره السّلف عليها كما تقدّم من كلام عائشة، وكما أخرج مسلم من طريق أبي إسحاق: كنت مع الأسود بن يزيد في المسجد فحدّث الشّعبيّ بحديث فاطمة بنت قيس , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفّاً من حصى. فحصبه به , وقال: ويلك تحدّث بهذا؟ قال عمر: لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، قال الله تعالى (لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ). فالجواب عنه: أنّ الدّارقطنيّ قال: قوله في حديث عمر " وسنّة نبيّنا " غير محفوظ. والمحفوظ " لا ندع كتاب ربّنا ". وكأنّ الحامل له على ذلك أنّ أكثر الرّوايات ليست فيها هذه الزّيادة، لكن ذلك لا يردّ رواية النّفقة، ولعلَّ عمر أراد بسنّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما

دلَّت عليه أحكامه من اتّباع كتاب الله، لا أنّه أراد سنّة مخصوصة في هذا، ولقد كان الحقّ ينطق على لسان عمر، فإنّ قوله " لا ندري حفظت أو نسيت " , قد ظهر مصداقه في أنّها أطلقت في موضع التّقييد أو عمّمت في موضع التّخصيص كما تقدّم بيانه. وأيضاً فليس في كلام عمر ما يقتضي إيجاب النّفقة , وإنّما أنكر إسقاط السّكنى. وادّعى بعض الحنفيّة: أنّ في بعض طرق حديث عمر " للمطلقة ثلاثاً السّكنى والنّفقة ". وردّه ابن السّمعانيّ: بأنّه من قول بعض المجازفين فلا تحلّ روايته. وقد أنكر أحمد ثبوت ذلك عن عمر أصلاً، ولعله أراد ما ورد من طريق إبراهيم النّخعيّ عن عمر لكونه لَم يلقه. وقد بالغ الطّحاويّ في تقرير مذهبه. فقال: خالفت فاطمةُ سنّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأنّ عمر روى خلاف ما روت، فخرج المعنى الذي أنكر عليها عمر خروجاً صحيحاً، وبطل حديث فاطمة فلم يجب العمل به أصلاً. وعمدته على ما ذكر من المخالفة ما روى عمر بن الخطّاب، فإنّه أورده من طريق إبراهيم النّخعيّ عن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لها السّكنى والنّفقة. وهذا منقطعٌ لا تقوم به حجّة. قوله: (ذكرت له ذلك، وأن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهمٍ

خطباني) تقدّم الكلام عليه (¬1). قوله: (أما أبو جهمٍ فلا يضع العصا عن عاتقه) (¬2) قوله: (واغتبطت به) (¬3) ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - رقم (277) (¬2) قال النووي في " شرح مسلم " (10/ 97): العاتق هو ما بين العنق والمنكب. فيه تأويلان مشهوران. أحدهما: أنه كثير الأسفار. والثاني: أنه كثير الضرب للنساء. وهذا أصح , بدليل الرواية التي ذكرها مسلم بعد هذه " أنه ضرَّاب للنساء ". وفيه دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة , ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة. وقد قال العلماء: إن الغيبة تباح في ستة مواضع , أحدها الاستنصاح. انتهى (¬3) قال النووي في " شرح مسلم " (10/ 98): هو بفتح التاء والباء , وفي بعض النسخ. واغتبطت به ولَم تقع لفظة به في أكثر النسخ. قال أهل اللغة: الغبطة أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير إرادة زوالها عنه وليس هو بحسد , أقول منه غبطته بما نال أغبطه بكسر الباء غبطا وغبطة فاغتبط هو كمنعته فامتنع وحبسته فاحتبس. وأما إشارته - صلى الله عليه وسلم - بنكاح أسامة فلما علمه من دينه وفضله وحسن طرائقه وكرم شمائله , فنصحها بذلك فكرهتْه لكونه مولى , ولكونه كان أسود جداً فكرَّر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - الحث على زواجه لِمَا علم من مصلحتها في ذلك , وكان كذلك ولهذا قالت: فجعل الله لي فيه خيرا واغتبطت , ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرواية التي بعد هذا: طاعة الله وطاعة رسوله خير لك. انتهى

باب العدة

باب العدّة الحديث التاسع عشر 323 - عن سُبيعة الأسلميّة رضي الله عنها، أنها كانت تحت سعد بن خولة - وهو من بني عامر بن لؤيٍ، وكان ممن شهد بدراً - فتوفّي عنها في حجة الوداع، وهي حاملٌ، فلم تنشب أنْ وضعتْ حملَها بعد وفاته، فلما تعلَّت من نفاسها تجمّلت للخطّاب، فدخل عليها أبو السّنابل بن بعككٍ - رجلٌ من بني عبد الدار - فقال لها: مالِي أراكِ مُتجمِّلةً؟ لعلك ترجّين النكاح، والله ما أنت بناكحٍ حتى تمرّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ، قالت سبيعة: فلمَّا قال لي ذلك، جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأنِي قد حللتُ حين وضعت حملي، وأمرني بالتّزويج إن بدا لي. قال ابن شهاب: ولا أرى بأساً أن تتزوَّج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها، حتى تطهر. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1484) من طريق يونس عن الزهري حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أنَّ أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري، يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها، وعما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استفتته، فكتب عمر بن عبد الله إلى عبد الله بن عتبة يخبره، أن سبيعة أخبرته: أنها كانت تحت. فذكره. وذكره البخاري (3770) معلّقاً: وقال الليث حدثني يونس فذكره. دون قول الزهري. ووصله البخاري في الطلاق (5013) حدثني يحيى بن بكير عن الليث به مختصراً , أنه كتب يسأل سُبيعة كيف أفتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: أفتاني إذا وضعت أنْ أنكح. وأخرجاه من طرق أخرى عن سبيعة رضي الله عنها , وسيأتي ذكرها إن شاء الله.

قوله: (سبيعة الأسلميّة) هي بمهملة وموحّدة ثمّ مهملة تصغير سبع، ووقع في البخاري " سبيعة بنت الحارث " وذكرها ابن سعد في المهاجرات. ووقع في رواية لابن إسحاق عند أحمد " سبيعة بنت أبي برزة الأسلميّ " فإن كان محفوظاً فهو أبو برزة آخر غير الصّحابيّ المشهور، وهو إمّا كنية للحارث والد سبيعة , أو نُسبت في الرّواية المذكورة إلى جدٍّ لها. قوله: (كانت تحت سعد بن خولة) تقدّم الكلام عليه (¬1) قوله: (فتوفّي عنها في حجة الوداع) نقل ابن عبد البرّ الاتّفاق على ذلك، وفي ذلك نظرٌ. فقد ذكر: محمّد بن سعد أنّه مات قبل الفتح، وذكر الطّبريّ أنّه مات سنة سبع، وقد ذكرتُ شيئاً من ذلك في كتاب الوصايا (¬2). وفي البخاري " أنّه قتل " ومعظم الرّوايات على أنّه مات. وهو المعتمد. ووقع للكرمانيّ: لعل سبيعة قالت: قتل , بناء على ظنّ منها في ذلك فتبيّن أنّه لَم يقتل. وهذا الجمع يمجّه السّمع، وإذا ظنّت سبيعة أنّه قتل , ثمّ تبيّن لها ¬

_ (¬1) انظر حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الماضي في الوصايا. برقم (299) (¬2) انظر التعليق السابق.

أنّه لَم يُقتل , فكيف تجزم بعد دهر طويل بأنّه قتل؟ (¬1). فالمعتمد أنّ الرّواية التي فيها قتل - إن كانت محفوظة - ترجّحت , لأنّها لا تنافي مات أو توفّي، وإن لَم يكن في نفس الأمر قتل فهي رواية شاذّة. قوله: (وهي حاملٌ) ذكر الكرمانيّ: أنّه وقع في بعض طرق حديث سبيعة , أنّ زوجها مات وهي حاملةٌ وفي معظمها حاملٌ , وهو الأشهر , لأنّ الحمل من صفات النّساء فلا يحتاج إلى علامة التّأنيث. ووجه الأوّل: أنّه أريد بأنّها ذات حملٍ بالفعل كما قيل في قوله تعالى (تذهل كل مرضعة) فلو أريد أنّ الإرضاع من شأنها لقيل كل مرضعٍ. انتهى. والذي وقفنا عليه في جميع الرّوايات , وهي حاملٌ , وفي كلام أبي السّنابل لست بناكحٍ. ¬

_ (¬1) هذا غريبٌ من الكرماني وابن حجر رحمهما الله. فقول " قتل " ليس من قول سبيعة , وإنما هو من قول أم سلمة رضي الله عنها. وسياقه ظاهر في ذلك. فأخرج البخاري في " صحيحه " (4909) عن أبي سلمة، قال: جاء رجلٌ إلى ابن عباس. وأبو هريرة جالس عنده، فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة؟ فقال ابن عباس: آخر الأجلين، قلت أنا: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}، قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة - فأرسل ابنُ عباس غلامه كريباً إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قُتِلَ زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكان أبو السنابل فيمن خطبها ". ولمسلم في الصحيح (1485) من وجه آخر عن أم سلمة. وفيه " نفست بعد وفاة زوجها ".

قوله: (فلم تنشب أنْ وضعت حملها بعد وفاته) وللبخاري عن المسور " بعد وفاة زوجها بليالٍ " ووقع في رواية محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن أبي سلمة عن سبيعة عند أحمد " فلم أمكث إلَّا شهرين حتّى وضعت " وفي رواية داود بن أبي عاصم " فولَدتُ لأدنى من أربعة أشهر ". وهذا أيضاً مبهمٌ. وفي رواية يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سلمة عند البخاري " فوضعت بعد موته بأربعين ليلةٍ " كذا في رواية شيبان عنه , وفي رواية حجّاجٍ الصّوّاف عند النّسائيّ " بعشرين ليلةً ". ووقع عند ابن أبي حاتمٍ من رواية أيّوب عن يحيى " بعشرين ليلة أو خمس عشرة " ووقعت في رواية الأسود " فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثةٍ وعشرين يوماً أو خمسةٍ وعشرين يوماً " كذا عند التّرمذيّ والنّسائيّ. وعند ابن ماجه " ببضعٍ وعشرين ليلةً " وكأنّ الرّاوي ألغى الشّك , وأتى بلفظ يشمل الامرين , ووقع في رواية عبد ربّه بن سعيدٍ " بنصف شهرٍ " وكذا في رواية شعبة بلفظ " خمسة عشر نصف شهر " وكذا في حديث ابن مسعودٍ عند أحمد. والجمع بين هذه الرّوايات متعذرٌ لاتّحاد القصّة , ولعلَّ هذا هو السّرّ في إبهام من أبهم المدّة إذ محل الخلاف أنْ تضع لدون أربعة أشهر وعشر , وهو هنا كذلك , فأقل ما قيل في هذه الرّوايات " نصف شهرٍ ".

وأمّا ما وقع في بعض الشّروح , أنّ في البخاريّ رواية " عشر ليالٍ " وفي روايةٍ للطّبرانيّ " ثمانٍ أو سبعٍ " فهو في مدّة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , لا في مدّة بقيّة الحمل , وأكثر ما قيل فيه بالتّصريح , شهرين وبغيره دون أربعة أشهرٍ. قوله: (أبو السّنابل بن بعككٍ) بمهملةٍ ونون ثمّ موحّدة جمع سنبلة. اختلف في اسمه. فقيل: عمرو. قاله ابن البرقيّ عن ابن هشام عمّن يثق به عن الزّهريّ. وقيل: عامر. روي عن ابن إسحاق، وقيل: حبّة بموحّدة بعد المهملة، وقيل: بنونٍ , وقيل: لبيدُ ربِّه، وقيل: أصرم، وقيل: عبد الله. ووقع في بعض الشّروح , وقيل: بغيض. قلت: وهو غلط. والسّبب فيه أنّ بعض الأئمّة سئل عن اسمه , فقال: بغيض يسأل عن بغيض، فظنّ الشّارح أنّه اسمه، وليس كذلك , لأنّ في بقيّة الخبر اسمه لبيدُ ربِّه، وجزم العسكريّ بأنّ اسمه كنيته. وبعكك بموحّدةٍ ثمّ مهملة ثمّ كافين بوزن جعفر بن الحارث بن عميلة بن السّبّاق بن عبد الدّار، وكذا نسبه ابن إسحاق. وقيل: هو ابن بعكك بن الحجّاج بن الحارث بن السّبّاق. نقل ذلك عن ابن الكلبيّ ابنُ عبد البرّ. قال: وكان من المؤلَّفة , وسكن الكوفة، وكان شاعراً.

ونقل التّرمذيّ عن البخاريّ أنّه قال: لا يعلم أنّ أبا السّنابل عاش بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كذا قال، لكن جزم ابن سعد أنّه بقي بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - زمناً. وقال ابن منده في " الصّحابة ": عداده في أهل الكوفة، وكذا قال أبو نعيمٍ أنّه سكن الكوفة. وفيه نظرٌ , لأنّ خليفة قال: أقام بمكّة حتّى مات، وتبعه ابن عبد البرّ. ويؤيّد كونه عاش بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قول ابن البرقيّ: أنّ أبا السّنابل تزوّج سبيعة بعد ذلك، وأولدها سنابل بن أبي السّنابل. ومقتضى ذلك أن يكون أبو السّنابل عاش بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنّه وقع في رواية عبد ربّه بن سعيد عن أبي سلمة , أنّها تزوّجت الشّابّ، وكذا في رواية داود بن أبي عاصم , أنّها تزوّجت فتىً من قومها. وتقدّم أنّ قصّتها كانت بعد حجّة الوداع فيحتاج , إن كان الشّابّ دخل عليها ثمّ طلَّقها , إلى زمان عدّة منه ثمّ إلى زمان الحمل حتّى تضع وتلد سنابل حتّى صار أبوه يكنّى به أبا السّنابل. وقد أفاد محمّد بن وضّاحٍ فيما حكاه ابن بشكوالٍ وغيره عنه , أنّ اسم الشّابّ الذي خطب سبيعة هو وأبو السّنابل فآثرته على أبي السّنابل أبو البشر بن الحارث، وضبطه بكسر الموحّدة وسكون المعجمة. وقد أخرج التّرمذيّ والنّسائيّ قصّة سبيعة من رواية الأسود عند

أبي السّنابل بسندٍ على شرط الشّيخين إلى الأسود - وهو من كبار التّابعين من أصحاب ابن مسعود - ولَم يوصف بالتّدليس، فالحديث صحيح على شرط مسلم، لكنّ البخاريّ على قاعدته في اشتراط ثبوت اللقاء ولو مرّة. فلهذا قال ما نقله التّرمذيّ. قوله: (والله ما أنت بناكحٍ حتى تمرّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ) وللبخاري عن أمّ سلمة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّ امرأةً من أسلم يقال لها سبيعة، كانت تحت زوجها، توفّي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السّنابل بن بعككٍ، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتّى تعتدّي آخر الأجلين، فمكثت قريباً من عشر ليالٍ، ثمّ جاءت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: انكحي. ووقع في رواية الموطّأ " فخطبها رجلان أحدهما شابّ وكهل، فحطّت إلى الشّابّ، فقال الكهل: لَم تحلِّي، وكان أهلها غيّباً فرجا أن يؤثروه بها. قوله: (جمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيت) هذا ظاهر في أنّها توجّهت إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في مساء اليوم الذي قال لها فيه أبو السّنابل ما قال. وقد يخالف في الظّاهر قوله في هذه الطّريق الثّانية " فمكثتْ قريباً من عشر ليالٍ ثمّ جاءتْ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". ويمكن الجمع بينهما: أن يُحمل قولها " حين أمسيت " على إرادة وقت توجّهها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك في اليوم الذي قال لها فيه ما قال.

قوله: (فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتّزويج إن بدا لي). قال جمهور العلماء من السّلف وأئمّة الفتوى في الأمصار: إنّ الحامل إذا مات عنها زوجها تحلُّ بوضع الحمل. وتنقضي عدّة الوفاة. وخالف في ذلك عليٌّ. فقال: تعتد آخر الأجلين. ومعناه أنّها إن وضعت قبل مضيّ أربعة أشهرٍ وعشرٍ تربّصت إلى انقضائها. ولا تحل بمجرّد الوضع , وإن انقضت المدّة قبل الوضع تربّصت إلى الوضع , أخرجه سعيد بن منصورٍ وعبد بن حميد عن عليّ بسند صحيح. وبه قال ابن عبّاسٍ كما في الصحيحين (¬1) , ويقال إنّه رجع عنه , ويقوّيه أنّ المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك. وفي البخاري معلَّقاً. ووصله الطبراني والبيهقي , أنَّ عبد الرّحمن بن أبي ليلى أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدّتها بالوضع , وأنكر أن يكون ابن مسعود قال بذلك. وقد ثبت عن ابن مسعودٍ من عدّة طرقٍ , أنّه كان يوافق الجماعة , حتّى كان يقول: من شاء لاعنته على ذلك. فقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم من طريق مسروق قال: بلغ ابنَ مسعود أنّ عليّاً يقول: تعتدّ آخر الأجلين، فقال: من شاء لاعنته أنّ التي في النّساء القصرى أنزلت بعد سورة البقرة، ثمّ قرأ (وأولات ¬

_ (¬1) انظر ما تقدّم في التعليق الماضي.

الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ) " وعرف بهذا مراده بسورة النّساء القصرى. ويظهر من مجموع الطّرق في قصّة سبيعة , أنَّ أبا السنابل رجع عن فتواه أنّها لا تحل حتّى تمضي مدّة عدّة الوفاة , لأنّه قد روى قصّة سبيعة وردّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما أفتاها أبو السّنابل به , من أنّها لا تحل حتّى يمضي لها أربعة أشهرٍ وعشرٌ. ولَم يرد عن أبي السّنابل تصريحٌ في حكمها لو انقضت المدّة قبل الوضع , هل كان يقول بظاهر إطلاقه من انقضاء العدّة , أو لا؟. لكن نقل غير واحدٍ الإجماع على أنّها لا تنقضي في هذه الحالة الثّانية حتّى تضع. وقد وافق سحنونُ من المالكيّة عليّاً , نقله المازريّ وغيره , وهو شذوذٌ مردودٌ , لأنّه إحداث خلافٍ بعد استقرار الإجماع. والسّبب الحامل له الحرص على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومهما , فقوله تعالى (والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً) عامّ في كل من مات عنها زوجها , يشمل الحامل وغيرها. وقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ) عامٌّ أيضاً يشمل المطلقة والمتوفّى عنها. فجمع أولئك بين العمومين بقصر الثّانية على المطلقة بقرينة ذكر عدد المطلقات كالآيسة والصّغيرة قبلهما , ثمّ لَم يهملوا ما تناولته الآية

الثّانية من العموم , لكن قصروه على من مضت عليها المدّة ولَم تضع , فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين من إلغاء أحدهما في حقّ بعض من شمله العموم. وقد أخرج الطّبريّ وابن أبي حاتم بطرقٍ متعدّدة إلى أبيّ بن كعب , أنّه قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ) المطلقة ثلاثاً أو المتوفّى عنها زوجها؟ قال: هي للمطلقة ثلاثاً أو المتوفّى عنها. وهذا المرفوع - وإن كان لا يخلو شيء من أسانيده عن مقال - لكن كثرة طرقه تشعر بأنّ له أصلاً، ويعضده قصّة سبيعة المذكورة. قال القرطبيّ (¬1): هذا نظرٌ حسنٌ , فإن الجمع أولى من التّرجيح باتّفاق أهل الأصول , لكنّ حديث سبيعة نصّ بأنّها تحل بوضع الحمل , فكان فيه بيانٌ للمراد بقوله تعالى (يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرا) أنّه في حقّ من لَم تضع , وإلى ذلك أشار ابن مسعودٍ بقوله: إنّ آية الطّلاق نزلت بعد آية البقرة. وفهم بعضهم منه. أنّه يرى نسخ الأولى بالأخيرة , وليس ذلك مراده , وإنّما يعني أنّها مخصّصةٌ لها فإنّها أخرجت منها بعض متناولاتها. وقال ابن عبد البرّ: لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال عليّ وابن عبّاس , لأنّهما عدتان مجتمعان بصفتين , وقد اجتمعتا في الحامل ¬

_ (¬1) هو صاحب المفهم أحمد بن عمر , سبق ترجمته (1/ 26)

المتوفّى عنها زوجها , فلا تخرج من عدّتها إلَّا بيقينٍ واليقين آخر الأجلين. وقد اتّفق الفقهاء من أهل الحجاز والعراق , أنّ أمّ الولد لو كانت متزوّجةً فمات زوجها ومات سيّدها معاً , أنّ عليها أن تأتي بالعدّة والاستبراء , بأن تتربّص أربعة أشهرٍ وعشراً فيها حيضةٌ أو بعدها. ويترجّح قول الجمهور أيضاً بأنّ الآيتين - وإن كانتا عامّتين من وجهٍ خاصّتين من وجهٍ - فكان الاحتياط أن لا تنقضي العدّة إلَّا بآخر الأجلين , لكن لَمَّا كان المعنى المقصود الأصليّ من العدّة براءة الرّحم , ولا سيّما فيمن تحيض يحصل المطلوب بالوضع ووافق ما دلَّ عليه حديث سبيعة , ويقوّيه قول ابن مسعود , في تأخّر نزول آية الطّلاق عن آية البقرة قوله: (قال ابن شهاب) أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نُسب إلى جد جده لشهرته. زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي - صلى الله عليه وسلم -. اتفقوا على إتقانه وإمامته. قوله: (ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها، حتى تطهر) القول الأول: وبه قال الجمهور , بأنّه يجوز العقد عليها إذا وضعت ولو لَم تطهر من دم النّفاس. واستدلوا بقوله " فأفتاني بأنّي حللتُ حين وضعتُ حملي "

القول الثاني: قال الشّعبيّ والحسن والنّخعيّ وحمّاد بن سلمة: لا تنكح حتّى تطهر. قال القرطبيّ: وحديث سبيعة حجّةٌ عليهم , ولا حجّة لهم في قوله في بعض طرقه " فلمّا تعلّت من نفاسها " , لأنّ لفظ تعلَّت كما يجوز أن يكون معناه طهرت جاز أن يكون استعلت من أَلَم النّفاس. وعلى تقدير تسليم الأوّل , فلا حجّة فيه أيضاً , لأنّها حكاية واقعة سبيعة. والحجّة إنّما هو في قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّها حلت حين وضعت. كما في حديث الزّهريّ , وفي رواية معمر عن الزّهريّ " حللتِ حين وضعتِ حملك " وكذا أخرجه أحمد من حديث أبيّ بن كعبٍ , أنّ امرأته أمّ الطّفيل قالت لعمر: قد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيعة أن تنكح إذا وضعت. وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى (أن يضعن حملهنّ) فعلَّق الحِلَّ بحين الوضع , وقصره عليه , ولَم يقل إذا طهرت , ولا إذا انقطع دمك. فصحّ ما قال الجمهور وفي قصّة سبيعة من الفوائد. أنّ الصّحابة كانوا يفتون في حياة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأنّ المفتي إذا كان له ميلٌ إلى الشّيء لا ينبغي له أن يفتي فيه , لئلا يحمله الميل إليه على ترجيح ما هو مرجوحٌ كما وقع لأبي السّنابل , حيث أفتى سبيعة أنّها لا تحل بالوضع لكونه كان خطبها فمنعته ورجا أنّها إذا قبلت ذلك منه , وانتظرت مضيّ المدّة حضر أهلها فرغّبوها في

زواجه دون غيره. وفيه ما كان في سبيعة من الشّهامة والفطنة , حيث تردّدت فيما أفتاها به حتّى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشّارع , وهكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتى , أو حكم الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النّصّ في تلك المسألة. ولعل ما وقع من أبي السّنابل من ذلك هو السّرّ في إطلاق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه كذب في الفتوى المذكورة. كما أخرجه أحمد من حديث ابن مسعودٍ , على أنَّ الخطأ قد يطلق عليه الكذب , وهو في كلام أهل الحجاز كثيرٌ. وحمله بعض العلماء على ظاهره , فقال: إنّما كذّبه لأنّه كان عالماً بالقصّة , وأفتى بخلافه. حكاه ابن داود عن الشّافعي في شرح المختصر. وهو بعيدٌ. وفيه الرّجوع في الوقائع إلى الأعلم , ومباشرة المرأة السّؤال عمّا ينزل بها ولو كان ممّا يستحي النّساء من مثله , لكن خروجها من منزلها ليلاً يكون أستر لها كما فعلت سبيعة. وفيه أنَّ الحامل تنقضي عدّتها بالوضع على أيّ صفةٍ كان , من مضغةٍ أو من علقةٍ , سواء استبان خلق الآدميّ أم لا , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - رتّب الحِلَّ على الوضع من غير تفصيل. وتوقَّف ابن دقيق العيد فيه. من جهة أنّ الغالب في إطلاق وضع الحامل هو الحمل التّامّ المتخلق , وأمّا خروج المضغة أو العلقة فهو

نادرٌ , والحمل على الغالب أقوى , ولهذا نقل عن الشّافعيّ , قولٌ بأنّ العدّة لا تنقضي بوضع قطعة لحمٍ ليس فيها صورةٌ بيّنةٌ ولا خفيّةٌ. وأجيب عن الجمهور: بأنّ المقصود في انقضاء العدّة براءة الرّحم وهو حاصلٌ بخروج المضغة أو العلقة. بخلاف أمّ الولد فإنّ المقصود منها الولادة , وما لا يصدق عليه أنّه أصلُ آدميٍ لا يقال فيه ولدت. وفيه جواز تجمّل المرأة بعد انقضاء عدّتها لمن يخطبها , لأنّ في رواية الزّهريّ التي في البخاري فقال " مالي أراكِ تَجمّلتِ للخطاب " وفي رواية ابن إسحاق " فتهيّأت للنّكاح واختضبت ". وفي رواية معمّرٍ عن الزّهري عند أحمد " فلقيها أبو السّنابل وقد اكتحلت " وفي رواية الأسود " فتطيّبت وتصنّعت ". واستدل به على أنّ المرأة لا يجب عليها التّزويج , لقولها في الخبر " وأمرني بالتّزويج إن بدا لي " وهو مبيّنٌ للمراد من قوله في رواية سليمان بن يسارٍ عن كريب عن أم سلمة عند مسلم " وأمرها بالتّزويج " فيكون معناه وأذن لها. وكذا ما وقع في البخاري عن أم سلمة " فقال: انكحي " وفي رواية ابن إسحاق عند أحمد " فقد حللتِ فتزوّجي ". ووقع في رواية الأسود عن أبي السنابل عند ابن ماجه في آخره فقال: إن وجدتِ زوجاً صالحاً فتزوجي. وفي حديث ابن مسعودٍ عند أحمد " إذا أتاك أحدٌ ترضينه ".

وفيه أنَّ الثّيّب لا تزوّج إلَّا برضاها من ترضاه , ولا إجبار لأحدٍ عليها , وقد تقدّم بيانه في غير هذا الحديث. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الماضي برقم (313)

الحديث العشرون

الحديث العشرون 324 - عن زينب بنت أمّ سلمة رضي الله عنهما، قالت: توفّي حَميمٌ لأمّ حبيبة، فدعتْ بصُفرةٍ فمسحت بذراعيها، فقالت: إنما أصنع هذا لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يَحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تُحدِّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلَّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشراً. (¬1) قوله: (زينب بنت أمّ سلمة) أي: بنت أبي سلمة بن عبد الأسد، وهي ربيبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وزعم ابن التّين (¬2). أنّها لا رواية لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كذا قال، وقد أخرج لها مسلم حديثها: كان اسمي برّة فسمّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب. الحديث، وأخرج لها البخاريّ حديثاً في أوائل السّيرة النّبويّة. (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1221 , 1222 , 5024 , 5025 , 5030) ومسلم (1468) من طرق عن حُميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة. (¬2) هو عبدالواحد بن التين , سبق ترجمته (1/ 151) (¬3) يقال: ولدت بأرض الحبشة، وتزوّج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمها وهي ترضعها. وفي مسند البزّار ما يدلّ على أنَّ أم سلمة وضعتها بعد قتل أبي سلمة، فحلَّت، فخطبها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتزوّجها، وكان ترضع زينب. وقصّتها في ذلك مطولة. قال ابن سعد: كانت أسماء بنت أبي بكر أرضعتها، فكانت أخت أولاد الزبير، وقال بكر بن عبد اللَّه المزني: أخبرني أبو رافع، يعني الصائغ، قال: كنت إذا ذكرت امرأة فقيهة بالمدينة ذكرتُ زينب بنت أبي سلمة. وروينا في " القطعيّات "، من طريق عطاف بن خالد عن أمه عن زينب بنت أبي سلمة، قالت: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل يغتسل تقول أمي: ادخلي عليه، فإذا دخلت نضح في وجهي من الماء، ويقول: ارجعي. قالت: فرأيت زينب وهي عجوز كبيرة ما نقص من وجهها شيء. وفي رواية ذكرها أبو عمر: فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعمرت. قاله في الإصابة.

قوله: (توفّي حميمٌ لأمّ حبيبة) وللشيخين من طريق سفيان حدّثنا أيّوب بن موسى قال: أخبرني حميد بن نافعٍ عن زينب بنت أبي سلمة قالت: لَمَّا جاء نعي أبي سفيان " زاد البخاري " من الشّأم. دعت في اليوم الثّالث بصفرةٍ ". والنعي - بفتح النّون وسكون المهملة وتخفيف الياء وكسر المهملة وتشديد الياء - هو الخبر بموت الشّخص، وأبو سفيان هو ابن حرب بن أُميَّة والد معاوية. وفي قوله " من الشّام " نظرٌ، لأنّ أبا سفيان مات بالمدينة بلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار. والجمهور على أنّه مات سنة اثنتين وثلاثين , وقيل: سنة ثلاث. ولَم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك , إلَّا في رواية سفيان بن عيينة هذه. وأظنّها وهماً، وكنت أظنّ أنّه حذف منه لفظ " ابن " لأنّ الذي جاء نعيه من الشّام , وأمّ حبيبة في الحياة , هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميراً على الشّام. لكن رواه البخاري من طريق مالك , ومن طريق سفيان الثّوريّ كلاهما عن عبد الله بن بكر بن حزم عن حميد بن نافع بلفظ " حين توفّي عنها أبوها أبو سفيان بن حرب ".

فظهر أنّه لَم يسقط منه شيء، ولَم يقل فيه واحد منهما من الشّام، وكذا أخرجه ابن سعد في ترجمة أمّ حبيبة من طريق صفيّة بنت أبي عبيد عنها. ثمّ وجدت الحديث في مسند ابن أبي شيبة قال: حدّثنا وكيع حدّثنا شعبة عن حميد بن نافع , ولفظه " جاء نعي أخي أمّ حبيبة , أو حميم لها , فدعتْ بصفرةٍ فلطخت به ذراعيها ". وكذا رواه الدّارميّ عن هاشم بن القاسم عن شعبة , لكن بلفظ " إنّ أخاً لأمّ حبيبة مات أو حميماً لها ". ورواه أحمد عن حجّاج ومحمّد بن جعفر جميعاً عن شعبة بلفظ " إنّ حميماً لها مات " من غير تردّد. وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظّنّ عند هذا أن تكون القصّة تعدّدت لزينب مع أمّ حبيبة عند وفاة أخيها يزيد , ثمّ عند وفاة أبيها أبي سفيان. لا مانع من ذلك. والله أعلم قوله: (بصفرةٍ فمسحت بذراعيها) في رواية مالك عن حميد عند الشيخين " بطيبٍ فيه صفرة خلوق ". وزاد فيه " فدهنت منه جارية ثمّ مسّت بعارضيها - أي بعارضي نفسها - ثم قالت: والله مالي بالطيب حاجة. غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول .. " قوله: (لا يحلّ) استدل به على تحريم الإحداد على غير الزّوج وهو واضح، وعلى وجوب الإحداد المدّة المذكورة على الزّوج. واستشكل بأنّ الاستثناء وقع بعد النّفي , فيدلّ على الحلّ فوق

الثّلاث على الزّوج لا على الوجوب. وأجيب: بأنّ الوجوب استفيد من دليل آخر كالإجماع. ورُدّ: بأنّ المنقول عن الحسن البصريّ , أنّ الإحداد لا يجب. أخرجه ابن أبي شيبة، ونقل الخلال بسنده عن أحمد عن هشيم عن داود عن الشّعبيّ , أنّه كان لا يعرف الإحداد. قال أحمد: ما كان بالعراق أشدّ تبحّراً من هذين - يعني الحسن والشّعبيّ - قال: وخفي ذلك عليهما. انتهى ومخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج , وإن كان فيها ردٌّ على من ادّعى الإجماع. وفي أثر الشّعبيّ تعقّب على ابن المنذر , حيث نفى الخلاف في المسألة إلَّا عن الحسن، وأيضاً فحديث التي شكَتْ عينها (¬1) دالٌ على الوجوب، وإلا لَم يمتنع التّداوي المباح. وأجيب أيضاً: بأنّ السّياق يدلّ على الوجوب، فإنّ كلّ ما منع منه إذا دلَّ دليل على جوازه كان ذلك الدّليل دالاً بعينه على الوجوب , كالختان والزّيادة على الرّكوع في الكسوف ونحو ذلك. قوله: (لامرأةٍ) تمسّك بمفهومه الحنفيّة , فقالوا: لا يجب الإحداد على الصّغيرة. وذهب الجمهور. إلى وجوب الإحداد عليها كما تجب العدّة. وأجابوا عن التّقييد بالمرأة: أنّه خرج مخرج الغالب، وعن كونها ¬

_ (¬1) سيأتي حديث الشكوى بعد حديث إن شاء الله.

غير مكلفة بأنّ الوليّ هو المخاطب بمنعها ممّا تمنع منه المعتدّة. ودخل في عموم قوله " امرأة " المدخول بها وغير المدخول بها حرّة كانت أو أمة , ولو كانت مبعّضة أو مكاتبة , أو أمّ ولد إذا مات عنها زوجها لا سيّدها , لتقييده بالزّوج في الخبر خلافاً للحنفيّة. قوله: (تؤمن بالله واليوم الآخر) استدل به الحنفيّة بأن لَّا إحداد على الذمّيّة للتّقييد بالإيمان، وبه قال بعض المالكيّة وأبو ثور، وترجم عليه النّسائيّ بذلك. وأجاب الجمهور: بأنّه ذكر تأكيداً للمبالغة في الزّجر فلا مفهوم له، كما يقال هذا طريق المسلمين وقد يسلكه غيرهم. وأيضاً فالإحداد من حقّ الزّوج، وهو ملتحقٌ بالعدّة في حفظ النّسب، فتدخل الكافرة في ذلك بالمعنى كما دخل الكافر في النّهي عن السّوم على سوم أخيه، ولأنّه حقّ للزّوجيّة فأشبه النّفقة والسّكنى. ونقل السّبكيّ في فتاويه عن بعضهم , أنّ الذّمّيّة داخلة في قوله " تؤمن بالله واليوم الآخر " وردّ على قائله , وبيّن فساد شبهته. فأجاد. وقال النّوويّ: قيّد بوصف الإيمان , لأنّ المتّصف به هو الذي ينقاد للشّرع. قال ابن دقيق العيد: والأوّل أولى، وفي رواية عند المالكيّة , أنّ الذّمّيّة المتوفّي عنها تعتدّ بالأقراء. قال ابن العربيّ: هو قول مَن قال: لا إحداد عليها قوله: (تُحدّ) بضمّ أوّله وكسر ثانيه من الرّباعيّ، ويجوز بفتحةٍ ثمّ

ضمّة من الثّلاثيّ. قال ابن بطّال: الإحداد بالمهملة امتناع المرأة المتوفّى عنها زوجها من الزّينة كلّها من لباس وطيب وغيرهما , وكلّ ما كان من دواعي الجماع. وأباح الشّارع للمرأة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثة أيّام لِمَا يغلب من لوعة الحزن ويهجم من أَلَم الوجد، وليس ذلك واجباً لاتّفاقهم على أنّ الزّوج لو طالبها بالجماع لَم يحلّ لها منعه من تلك الحال. قال أهل اللغة: أصل الإحداد المنع , ومنه سُمّي البوّاب حدّاداً لمنعه الدّاخل، وسُمّيت العقوبة حدّاً لأنّها تردع عن المعصية. وقال ابن درستويه: معنى الإحداد منع المعتدّة نفسها الزّينة وبدنها الطّيب ومنع الخطّاب خطبتها والطّمع فيها كما منع الحدّ المعصية. وقال الفرّاء: سمّي الحديد حديداً للامتناع به أو لامتناعه على محاوله، ومنه تحديد النّظر بمعنى امتناع تقلبه في الجهات. ويروى بالجيم حكاه الخطّابيّ , قال: يروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذ من جددت الشّيء إذا قطعته، فكأنّ المرأة انقطعت عن الزّينة. وقال أبو حاتم: أنكر الأصمعيّ حدّت , ولَم يعرف إلَّا أحدّت. وقال الفرّاء: كان القدماء يؤثرون أحدّت. والأخرى أكثر ما في كلام العرب. قوله: (على ميّت) يعمّ كلّ ميّت غير الزّوج. سواء كان قريباً أو

أجنبيّاً. واستدل به لمَن قال لا إحداد على امرأة المفقود , لأنّه لَم تتحقّق وفاته خلافاً للمالكيّة. قوله: (فوق ثلاثٍ) في رواية للشيخين " فوق ثلاث ليالٍ " وللبخاري " فوق ثلاثة أيّامٍ " وجمع بإرادة الليالي بأيّامها، ويحمل المطلق هنا على المقيّد الأوّل. ولذلك أنّث، وهو محمول أيضاً على أنّ المراد ثلاث ليالٍ بأيّامها. وذهب الأوزاعيّ: إلى أنّها تحدّ ثلاث ليالٍ فقط، فإن مات في أوّل الليل أقلعت في أوّل اليوم الثّالث , وإن مات في أثناء الليل أو في أوّل النّهار أو في أثنائه لَم تقلع إلَّا في صبيحة اليوم الرّابع، ولا تلفيق. قوله: (إلَّا على زوج) أخذ من هذا الحصر أن لا يزاد على الثّلاث في غير الزّوج أباً كان أو غيره. وأمّا ما أخرجه أبو داود في " المراسيل " من رواية عمرو بن شعيب , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رخّص للمرأة أن تحدّ على أبيها سبعة أيّام، وعلى من سواه ثلاثة أيّام. فلو صحّ لكان خصوص الأب يخرج من هذا العموم، لكنّه مرسل أو معضل، لأنّ جلّ رواية عمرو بن شعيب عن التّابعين , ولَم يرو عن أحد من الصّحابة إلَّا الشّيء اليسير عن بعض صغار الصّحابة. ووهم بعض الشّرّاح فتعقّب على أبي داود تخريجه في " المراسيل " فقال: عمرو بن شعيب ليس تابعيّاً فلا يخرج حديثه في المراسيل.

وهذا التّعقّب مردود لِمَا قلناه، ولاحتمال أن يكون أبو داود كان لا يخصّ المراسيل برواية التّابعيّ كما هو منقول عن غيره أيضاً. واستدل به للأصحّ عند الشّافعيّة , في أن لا إحداد على المطلقة، فأمّا الرّجعيّة فلا إحداد عليها إجماعاً. وإنّما الاختلاف في البائن. القول الأول: قال الجمهور: لا إحداد. القول الثاني: وقالت الحنفيّة وأبو عبيد وأبو ثور: عليها الإحداد قياساً على المتوفّى عنها، وبه قال بعض الشّافعيّة والمالكيّة. واحتجّ الأوّلون: بأنّ الإحداد شرع لأنّ تركه من التّطيّب واللبس والتّزيّن يدعو إلى الجماع , فمنعت المرأة منه زجراً لها عن ذلك , فكان ذلك ظاهراً في حديث الميّت , لأنّه يمنعه الموت عن منع المعتدّة منه عن التّزويج ولا تراعيه هي ولا تخاف منه، بخلاف المطلِّق الحيّ في ذلك، ومن ثَمَّ وجبت العدّة على كلّ متوفّىً عنها , وإن لَم تكن مدخولاً بها , بخلاف المطلقة قبل الدّخول فلا إحداد عليها اتّفاقاً , وبأنّ المطلقة البائن يمكنها العود إلى الزّوج بعينه بعقدٍ جديد. وتعقّب: بأنّ الملاعنة لا إحداد عليها. وأجيب: بأنّ تركه لفقدان الزّوج بعينه لا لفقدان الزّوجيّة. واستدل به على جواز الإحداد على غير الزّوج من قريب ونحوه ثلاث ليالٍ فما دونها وتحريمه فيما زاد عليها، وكأنّ هذا القدر أبيح لأجل حظّ النّفس ومراعاتها وغلبة الطّباع البشريّة، ولهذا تناولت أمّ

حبيبة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما الطّيب لتخرجا عن عهدة الإحداد، وصرّحت كلّ منهما بأنّها لَم تتطيّب لحاجةٍ، إشارة إلى أنّ آثار الحزن باقية عندها، لكنّها لَم يسعها إلَّا امتثال الأمر. قوله: (أربعة أشهر وعشراً) قيل الحكمة فيه. أنّ الولد يتكامل تخليقه وتنفخ فيه الرّوح بعد مضيّ مائة وعشرين يوماً، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط. (¬1) ¬

_ (¬1) قال بعض الباحثين: من الشبهات المثارة حول التشريع الإسلامي أنَّه لا يصلح في العصر الحديث. على سبيل المثال قوله تعالى: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (سورة البقرة، آية 228) فإذا كان الهدف من قضاء المرأة للعدة قبل الزواج من شخص آخر هو إستبراء الرحم من الحمل فهذا أصبح أسهل ما يكون , إذ بالعلم الحديث يمكن معرفة. هل المرأة حامل أم لا؟ من خلال التحاليل الطبية. وقد تمَّ الرد على هذه الشبهة، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أنَّ ماء الرجل يحتوي على 62 نوعاً من البروتين , وأن هذا الماء يختلف من رجل إلى آخر فلكل رجل بصمة في رحم زوجته. وإذا تزوجت من رجل آخر بعد الطلاق مباشرة، قد تصاب المرأة بمرض سرطان الرحم لدخول أكثر من بصمة مختلفة في الرحم. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أنَّ أول حيض بعد طلاق المرأة يزيل من 32 % إلى 35 %، وتزيل الحيضة الثانية من 67 % إلى 72 % منها، بينما تزيل الحيضة الثالثة 99.9 % من بصمة الرجل، وهنا يكون الرحم قد تمَّ تطهيره من البصمة السابقة , وصار مستعداً لاستقبال بصمة أخرى. أما عن عدة المتوفي عنها زوجها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (آية: 234 سورة البقرة) فقد أثبتت الأبحاث أن المرأة المتوفى عنها زوجها بحزنها عليه وبالكآبة التي تقع عليها هذا يزيد من تثبيت البصمة لديها , وقالوا إنها تحتاج لدورة رابعة كي تزيل البصمة نهائياً، وبالمقدار الذي قال عنه الله عز وجل تقريباً أربعة أشهر وعشراً. انتهى.

وذكَرَ العشرَ مؤنّثاً لإرادة الليالي , والمراد مع أيّامها عند الجمهور، فلا تحلّ حتّى تدخل الليلة الحادية عشر. وعن الأوزاعيّ وبعض السّلف. تنقضي بمضيّ الليالي العشر بعد مضيّ الأشهر , وتحلّ في أوّل اليوم العاشر. واستثنيت الحامل كما تقدّم شرح حالها قبلُ. في الكلام على حديث سبيعة بنت الحارث (¬1). وقد ورد في حديثٍ قويّ الإسناد. أخرجه أحمد وصحّحه ابن حبّان عن أسماء بنت عميسٍ قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم الثّالث من قَتْل جعفر بن أبي طالب فقال: لا تحدّي بعد يومك. هذا لفظ أحمد. وفي رواية له ولابن حبّان والطّحاويّ: لَمَّا أصيب جعفر أتانا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: تسلَّبي ثلاثاً , ثمّ اصنعي ما شئت. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": ظاهره أنّه لا يجب الإحداد على المتوفّى عنها بعد اليوم الثّالث , لأنّ أسماء بنت عميسٍ كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتّفاق , وهي والدة أولاده عبد الله ومحمّد وعون وغيرهم. قال: بل ظاهر النّهي أنّ الإحداد لا يجوز، وأجاب بأنّ هذا الحديث شاذّ مخالف للأحاديث الصّحيحة، وقد أجمعوا على خلافه. قال: ويحتمل أن يقال: إنّ جعفراً قتل شهيداً والشّهداء أحياء عند ¬

_ (¬1) انظر الحديث الماضي.

ربّهم. قال: وهذا ضعيف , لأنّه لَم يرد في حقّ غير جعفر من الشّهداء ممّن قطع بأنّهم شهداء كما قطع لجعفرٍ. كحمزة بن عبد المطّلب عمّه وكعبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر -. انتهى كلام شيخنا ملخّصاً. وأجاب الطّحاويّ: بأنّه منسوخ، وأنّ الإحداد كان على المعتدّة في بعض عدّتها في وقت , ثمّ أمرت بالإحداد أربعة أشهر وعشراً. ثمّ ساق حديث الباب. وليس فيها ما يدلّ على ما ادّعاه من النّسخ. لكنّه يكثر من ادّعاء النّسخ بالاحتمال فجرى على عادته. ويحتمل وراء ذلك أجوبة أخرى: أحدها: أن يكون المراد بالإحداد المقيّد بالثّلاث قدراً زائداً على الإحداد المعروف , فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر , فنهاها عن ذلك بعد الثّلاث. ثانيها: أنّها كانت حاملاً فوضعت بعد ثلاث فانقضت العدّة , فنهاها بعدها عن الإحداد، ولا يمنع ذلك قوله في الرّواية الأخرى " ثلاثاً " , لأنّه يحمل على أنّه - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على أنّ عدّتها تنقضي عند الثّلاث. ثالثها: لعله كان أبانَها بالطّلاق قبل استشهاده فلم يكن عليها إحداد. رابعها: أنّ البيهقيّ أعلَّ الحديث بالانقطاع , فقال: لَم يثبت سماع عبد الله بن شداد من أسماء.

وهذا تعليل مدفوع، فقد صحّحه أحمد , لكنّه قال: إنّه مخالف للأحاديث الصّحيحة في الإحداد. قلت: وهو مصير منه إلى أنّه يعله بالشّذوذ. وذكر الأثرم , أنّ أحمد سئل عن حديث حنظلة عن سالم عن ابن عمر رفعه " لا إحداد فوق ثلاث " فقال: هذا منكرٌ، والمعروف عن ابن عمر من رأيه. انتهى. وهذا يحتمل أن يكون لغير المرأة المعتدّة فلا نكارة فيه، بخلاف حديث أسماء والله أعلم. وأغرب ابن حبّان فساق الحديث بلفظ " تسلمي " بالميم بدل الموحّدة , وفسّره بأنّه أمرها بالتّسليم لأمر الله، ولا مفهوم لتقييدها بالثّلاث , بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشدّ فلذلك قيّدها بالثّلاث. هذا معنى كلامه، فصحّف الكلمة , وتكلَّف لتأويلها. وقد وقع في رواية البيهقيّ وغيره " فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتسلب ثلاثاً " فتبيّن خطؤه تكميل: قال ابن بطّالٍ: ذهب مجاهد إلى أنّ الآية , وهي قوله تعالى {يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً} نزلت قبل الآية التي فيها {وصيّة لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} كما هي قبلها في التّلاوة، وكأنّ الحامل له على ذلك استشكال أن يكون النّاسخ قبل المنسوخ، فرأى أنّ استعمالها ممكن بحكم غير متدافع، لِجواز أن

يوجب الله على المعتدّة تربّص أربعة أشهر وعشر , ويوجب على أهلها أن تبقى عندهم سبعة أشهر وعشرين ليلة تمام الحول إن أقامت عندهم. انتهى ملخّصاً. قال: وهو قولٌ لَم يقله أحدٌ من المفسّرين غيره. ولا تابعه عليها من الفقهاء أحدٌ، وأطبقوا على أنّ آية الحول منسوخة , وأنّ السّكنى تبع للعدّة، فلمّا نسخ الحول في العدّة بالأربعة أشهر وعشر نسخت السّكنى أيضاً. وقال ابن عبد البرّ: لَم يختلف العلماء أنّ العدّة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وإنّما اختلفوا في قوله {غير إخراج} فالجمهور على أنّه نسخ أيضاً. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] قال: كانت هذه العدّة تعتدّ عند أهل زوجها واجباً، فأنزل الله: {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ , فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ من معروفٍ}. قال: جعل الله لها تمام السّنة سبعة أشهرٍ وعشرين ليلةً وصيّةً، إن شاءت سكنت في وصيّتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: {غير إخراجٍ فإن خرجن فلا جناح عليكم} [البقرة: 240] فالعدّة كما هي واجبٌ عليها " قال: ولَم يُتابع على ذلك، ولا قال أحدٌ من علماء المسلمين من

الصّحابة والتّابعين به في مدّة العدّة، بل روى ابن جريجٍ عن مجاهد في قدرها مثل ما عليه النّاس، فارتفع الخلاف. واختصّ ما نقل عن مجاهد وغيره بمدّة السّكنى، على أنّه أيضاً شاذّ لا يعوّل عليه. والله أعلم.

الحديث الواحد والعشرون

الحديث الواحد والعشرون 325 - عن أمّ عطية رضي الله عنها، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تُحدّ امرأةٌ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلَّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلَّا ثوب عصْبٍ، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيباً، إلَّا إذا طهرت: نبذةً من قسطٍ أو أظفار. (¬1) قال المُصنِّف: العصب: ثياب من اليمن فيها بياض وسواد. والنبذة: الشيء اليسير. والقسط: العود أو نوع من الطيب تُبخّر به النفساء. والأظفار: جنس من الطيب لا واحد له من لفظه , وقيل: هو عطر أسود. القطعة منه تشبه الظفر. قوله: (لا تحدّ امرأةٌ .. عشراً) ولهما من طريق أيّوب عن حفصة عن أمّ عطيّة، قالت: كنّا ننهى أن نحدّ على ميّتٍ فوق ثلاثٍ إلَّا على زوجٍ، أربعة أشهرٍ وعشراً ولا نكتحل .. الحديث ". ورواه أيّوب عن ابن سيرين بلفظ " أمرنا بأن لا نحدّ على هالك فوق ثلاث. الحديث. أخرجه عبد الرّزّاق. وللطّبرانيّ من طريق قتادة عن ابن سيرين عن أمّ عطيّة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكره معناه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (307 , 5027 , 5028) ومسلم في كتاب الطلاق (938) من طريق أيوب وهشام عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية رضي الله عنها. وأخرجه البخاري (1220 , 5026) من طريق سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عن أم عطية نحوه.

وللبخاري من طريق سلمة بن علقمة عن محمّد بن سيرين، قال: توفّي ابنٌ لأمّ عطيّة رضي الله عنها، فلمّا كان اليوم الثّالث دعت بصفرةٍ، فتمسّحت به، وقالت: نهينا أن نحدّ أكثر من ثلاثٍ إلَّا بزوج. وفي رواية الكشميهنيّ (¬1) " إلَّا لزوجٍ " باللام، ووقع في العِدد من طريقه بلفظ " إلَّا على زوج " والكلّ بمعنى السّببيّة. وقوله " أن نحدّ " بضمّ أوّله من الرّباعيّ، ولَم يعرف الأصمعيّ غيره. وحكى غيرُه فتح أوّله وضمّ ثانيه من الثّلاثيّ. يقال: حدّت المرأة وأحدّت بمعنىً. قوله: (ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلَّا ثوب عصبٍ) بمهملتين. مفتوحة ثمّ ساكنة ثمّ موحّدة وهو بالإضافة , وهي برود اليمن يعصب غزلها. أي: يربط ثمّ يصبغ , ثمّ ينسج معصوباً فيخرج موشىً لبقاء ما عصب به أبيض لَم ينصبغ، وإنّما يعصب السّدى دون اللحمة. وقال صاحب " المنتهى ": العصب هو المفتول من برود اليمن. وذكر أبو موسى المدنيّ في " ذيل الغريب ": عن بعض أهل اليمن أنّه من دابّة بحريّة تسمّى فرس فرعون. يتّخذ منها الخرز وغيره ويكون أبيض، وهذا غريب. وأغربُ منه قول السّهيليّ: إنّه نبات لا ينبت إلَّا باليمن. وعزاه لأبي حنيفة الدّينوريّ. ¬

_ (¬1) هو أبو الهيثم محمد بن مكي , سبق ترجمته (1/ 32)

وأغربُ منه قول الدّاوديّ (¬1): المراد بالثّوب العصب الخضرة وهي الحبرة، وليس له سلف في أنّ العصب الأخضر. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنّه لا يجوز للحادّة لبس الثّياب المعصفرة ولا المصبغة، إلَّا ما صبغ بسوادٍ , فرخّص فيه مالك والشّافعيّ , لكونه لا يتّخذ للزّينة بل هو من لباس الحزن، وكره عروةُ العصب أيضاً، وكره مالك غليظه. قال النّوويّ: الأصحّ عند أصحابنا تحريمه مطلقاً، وهذا الحديث حجّة لمن أجازه. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من مفهوم الحديث جواز ما ليس بمصبوغٍ وهي الثّياب البيض، ومنع بعض المالكيّة المرتفع منها الذي يتزيّن به، وكذلك الأسود إذا كان ممّا يتزيّن به. قال النّوويّ: ورخّص أصحابنا فيما لا يتزيّن به ولو كان مصبوغاً. واختلف في الحرير. فالأصحّ عند الشّافعيّة منعه مطلقاً مصبوغاً أو غير مصبوغ، لأنّه أبيح للنّساء للتّزيّن به , والحادّة ممنوعة من التّزيّن فكان في حقّها كالرّجال. وفي التّحلي بالذّهب والفضّة وباللؤلؤ ونحوه وجهان الأصحّ جوازه، وفيه نظرٌ من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنّه عند تأمّلها يترجّح المنع. والله أعلم. قوله: (ولا تكتحل) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في حديث أم ¬

_ (¬1) هو أحمد بن نصر , سبق ترجمته (1/ 312)

سلمة الذي بعده. قوله: (ولا تمسّ طيباً إلَّا إذا طهرت) ولهما من رواية أيوب " وقد رخّص للمرأة في طهرها إذا اغتسلت إحدانا من محيضها ". ولهما من طريق هشام عن حفصة عنها " ولا تمسّ طيباً، إلَّا أدنى طهرها " أي: عند قرب طهرها , أو أقلّ طهرها قوله: (نُبذةً) بضمّ النّون وسكون الموحّدة بعدها معجمة. أي: قطعة، وتطلق على الشّيء اليسير قوله: (من قسطٍ أو أظفار) بإثبات " أو " وهي للتّخيير , وفي رواية لهما " قسطٍ وأظفارٍ " بقاف وواو عاطفة وهو أوجه. وللبخاري " كست أظفار " كذا في هذه الرّواية. قال ابن التّين صوابه " قسط ظفار ". كذا قال، ولَم أر هذا في هذه الرّواية، لكن حكاه صاحب المشارق. ووجّهه بأنّه منسوب إلى ظفار مدينة معروفة بسواحل اليمن يجلب إليها القسط الهنديّ، وحكى في ضبط ظفار وجهين. كسر أوّله وصرفه , أو فتحه والبناء بوزن قطام. ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه " من قسط أو أظفار " بإثبات " أو " وهي للتّخيير. قال في المشارق: القسط بخور معروف وكذلك الأظفار، قال في البارع: الأظفار ضربٌ من العطر يشبه الظّفر. وقال صاحب المحكم: الظّفر ضرب من العطر أسود مغلف من

أصله على شكل ظفر الإنسان يوضع في البخور والجمع أظفار. وقال صاحب العين: لا واحد له. والكست بضمّ الكاف وسكون المهملة بعدها مثنّاة هو القسط، قاله البخاري، وكذا قاله غيره، وحكى المفضّل بن سلمة: أنّه يقال بالكاف والطّاء أيضاً. قال النّوويّ: ليس القسط والظّفر من مقصود التّطيّب، وإنّما رخّص فيه للحادّة إذا اغتسلت من الحيض لإزالة الرّائحة الكريهة. قال المُهلَّب: رخّص لها في التّبخّر لدفع رائحة الدّم عنها لِمَا تستقبله من الصّلاة. قلت: المقصود من التّطيّب بهما أن يخلطا في أجزاء أخر من غيرهما ثمّ تسحق فتصير طيباً، والمقصود بهما هنا كما قال الشّيخ أن تتبّع بهما أثر الدّم لإزالة الرّائحة لا للتّطيّب. وزعم الدّاوديّ: أنّ المراد أنّها تسحق القسط. وتلقيه في الماء آخر غسلها لتذهب رائحة الحيض. وردّه عياض (¬1): بأنّ ظاهر الحديث يأباه، وأنّه لا يحصل منه رائحة طيّبة إلَّا من التّبخّر به. كذا قال. وفيه نظرٌ. واستدل به على جواز استعمال ما فيه منفعة لها من جنس ما منعت منه إذا لَم يكن للتّزيّن أو التّطيّب كالتّدهّن بالزّيت في شعر الرّأس أو غيره. ¬

_ (¬1) هو القاضي عياض بن موسى , سبق ترجمته (1/ 103)

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون 326 - وعن أمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ الله، إن ابنتي توفّي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: لا ثم قال: إنما هي أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وقد كانت إحداكنّ في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول. فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها، دخلت حفشاً، ولبست شرّ ثيابها، ولَم تمسّ طيباً ولا شيئاً حتى تَمرَّ عليها سنةٌ، ثم تؤتى بدابّةٍ حمارٍ أو طيرٍ أو شاةٍ فتفتضّ به، فقلّما تفتضُّ بشيءٍ إلَّا مات، ثم تخرج فتعطى بعرةً فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيبٍ، أو غيره. (¬1) قال المصنِّف: الحفش: البيت الصغير الحقير. وتفتضُّ: تدلك به جسدها. قوله: (جاءت امرأة) زاد النّسائيّ من طريق الليث عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة عن أمّ سلمة " من قريش " وسمّاها ابن وهب في موطّئه، وأخرجه إسماعيل القاضي في أحكامه من طريق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5024) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (1486) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة عن أمها رضي الله عنها. بهذا السياق وأخرجه البخاري (5025 , 5379) ومسلم (1488) من طريق شعبة عن حميد مختصراً.

عاتكة بنت نعيم بن عبد الله. أخرجه ابن وهب عن أبي الأسود النّوفلي عن القاسم بن محمّد عن زينب عن أمّها أمّ سلمة , أنّ عاتكة بنت نعيم بن عبد الله أتت تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها , وكانت تحت المغيرة المخزوميّ , وهي تحدّ وتشتكي عينها " الحديث. وهكذا أخرجه الطّبرانيّ من رواية عمران بن هارون الرّمليّ عن ابن لهيعة , لكنّه قال " بنت نعيمٍ " ولَم يسمّها. وأخرجه ابن منده في " المعرفة " من طريق عثمان بن صالح عن عبد الله بن عقبة عن محمّد بن عبد الرّحمن عن حميدٍ بن نافع عن زينب عن أمّها عن عاتكة بنت نعيمٍ أخت عبد الله بن نعيم , جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنّ ابنتها توفّي زوجها " الحديث. وعبد الله بن عقبة. هو ابن لهيعة نسبه لجدّه، ومحمّد بن عبد الرّحمن هو أبو الأسود، فإن كان محفوظاً فلابن لهيعة طريقان. ولَم تُسمّ البنت التي توفّي زوجها , ولَم تنسب فيما وقفت عليه. وأمّا المغيرة المخزوميّ , فلم أقف على اسم أبيه، وقد أغفله ابن منده في الصّحابة , وكذا أبو موسى في الذّيل عليه , وكذا ابن عبد البرّ، لكن استدركه ابن فتحون عليه. قوله: (وقد اشتكت عينها) قال ابن دقيق العيد: يجوز فيه وجهان الأول: ضمّ النّون على الفاعليّة على أن تكون العين هي المشتكية. الثاني: فتحها على أن يكون في " اشتكت " ضمير الفاعل وهي

المرأة ورجّح هذا. ووقع في بعض الرّوايات " عيناها " يعني. وهو يرجّح الضّمّ. وهذه الرّواية في مسلم، وعلى الضّمّ اقتصر النّوويّ وهو الأرجح، والذي رجّح الأوّل هو المنذريّ. قوله: (أفنكحلها) بضمّ الحاء. أخرج ابن وهب في موطّئه عن يونس عن الزهري قال: لا أرى أن تقرب الصّبيّة الطّيب " أي: إذا كانت ذات زوج فمات عنها. وفي التّعليل إشارة إلى أنّ سبب إلحاق الصّبيّة بالبالغ في الإحداد , وجوب العدّة على كلّ منهما اتّفاقاً، وبذلك احتجّ الشّافعيّ أيضاً. واحتجّ أيضاً بأنّه يحرم العقد عليها بل خطبتها في العدّة. واحتجّ غيره بقوله في حديث أمّ سلمة في الباب " أفنكحلها " فإنّه يُشعر بأنّها كانت صغيرة، إذ لو كانت كبيرة لقالت أفتكتحل هي؟. وفي الاستدلال به نظرٌ , لاحتمال أن يكون معنى قولها " أفنكحلها " أي: أفنمكّنها من الاكتحال. قوله: (لا، مرّتين أو ثلاثاً. كلّ ذلك يقول: لا) في رواية شعبة عن حميد بن نافع عند البخاري فقال " لا تكتحل ". القول الأول: قال النّوويّ: فيه دليل على تحريم الاكتحال على الحادّة. سواء احتاجت إليه أم لا. وجاء في حديث أمّ سلمة في الموطّأ وغيره " اجعليه بالليل وامسحيه بالنّهار ". ووجه الجمع أنّها إذا لَم تحتج إليه لا يحلّ، وإذا احتاجت لَم يجز

بالنّهار ويجوز بالليل مع أنّ الأولى تركه، فإن فعلت مسحته بالنّهار. قال: وتأوّل بعضهم حديث الباب على أنّه لَم يتحقّق الخوف على عينها. وتعقّب: بأنّ في حديث شعبة المذكور " فخشوا على عينها ". وفي رواية ابن منده المقدّم ذكرها " رمدَتْ رمَدَاً شديداً , وقد خشيت على بصرها ". (¬1) ¬

_ (¬1) أورد البخاريُّ في صحيحه حديثَ الباب مُسنداً , وحديثَ أم عطية الماضي معلّقاً في كتاب الطب. باب (الإثمد والكحل من الرمد) قال الحافظ في " الفتح ": الرمد بفتح الراء والميم: ورمٌ حارٌّ يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر، وسببه انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ. فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد. ولم أر في شيء من طرق حديث أم عطية ذكر الإثمد، فكأنه ذكره لكون العرب غالباً إنما تكتحل به، وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس رفعه: اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر. أخرجه الترمذي وحسنه واللفظ له، وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس في " الشمائل ". وفي الباب عن جابر عند الترمذي في " الشمائل " وابن ماجه وابن عدي من ثلاث طرق عن ابن المنكدر عنه بلفظ " عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر " وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني ولفظه " عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر " وسنده حسن، وعن ابن عمر بنحوه عند الترمذي في " الشمائل ". وعن أنس في " غريب مالك " للدارقطني بلفظ " كان يأمرنا بالإثمد " وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ " اكتحلوا بالإثمد فإنه " الحديث، وهو عند أبي داود من حديثه بلفظ " إنه أمر بالإثمد المروح عند النوم ". وعن أبي هريرة بلفظ " خير أكحالكم الإثمد فإنه " الحديث أخرجه البزار وفي سنده مقال، وعن أبي رافع , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتحل بالإثمد. أخرجه البيهقي. وفي سنده مقال. وعن عائشة " كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إثمد يكتحل به عند منامه في كل عين ثلاثا " أخرجه أبو الشيخ في كتاب " أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " بسند ضعيف. والإثمد: بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة , وحكي فيه ضم الهمزة: حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز , وأجوده يؤتى به من أصبهان. واختلف. هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل؟ ذكره ابن سيده , وأشار إليه الجوهري. وفي هذه الأحاديث استحباب الاكتحال بالإثمد , ووقع الأمر بالاكتحال وتراً من حديث أبي هريرة في " سنن أبي داود ". ووقع في بعض الأحاديث التي أشرت إليها كبقية الاكتحال. وحاصله ثلاثاً في كل عين، فيكون الوتر في كل واحدة على حدة، أو اثنتين في كل عين وواحدة بينهما، أو في اليمين ثلاثاً وفي اليسرى ثنتين فيكون الوتر بالنسبة لهما جميعاً. وأرجحها الأول والله أعلم. انتهى

وفي رواية الطّبرانيّ " أنّها قالت في المرّة الثّانية: إنّها تشتكي عينها فوق ما يظنّ، فقال: لا ". وفي رواية القاسم بن أصبغ. أخرجها ابن حزم " إنّي أخشى أن تنفقئ عينها، قال: لا وإن انفقأت " وسنده صحيح. وبمثل ذلك أفتت أسماء بنت عميسٍ. أخرجه ابن أبي شيبة. وبهذا قال مالك في رواية عنه بمنعه مطلقاً. القول الثاني: وعن مالك: يجوز إذا خافت على عينها بما لا طيب فيه، وبه قال الشّافعيّة. مقيّداً بالليل وأجابوا عن قصّة المرأة: أولاً. باحتمال أنّه كان يحصل لها البرء بغير الكحل كالتّضميد بالصّبر ونحوه.

وقد أخرج ابن أبي شيبة عن صفيّة بنت أبي عبيد , أنّها أحدّت على ابن عمر فلم تكتحل حتّى كادت عيناها تزيغان , فكانت تقطر فيهما الصّبر. ثانياً. منهم من تأوّل النّهي على كحل مخصوص , وهو ما يقتضي التّزيّن به , لأنّ محض التّداوي قد يحصل بما لا زينة فيه , فلم ينحصر فيما فيه زينة. القول الثالث: قالت طائفة من العلماء: يجوز ذلك , ولو كان فيه طيب. وحملوا النّهي على التّنزيه جمعاً بين الأدلة. قوله: (إنّما هي أربعة أشهر وعشراً) كذا في الأصل بالنّصب على حكاية لفظ القرآن، ولبعضهم بالرّفع وهو واضح. قال ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى تقليل المدّة بالنّسبة لِمَا كان قبل ذلك , وتهوين الصّبر عليها , ولهذا قال بعده " وقد كانت إحداكنّ في الجاهليّة ترمي بالبعرة على رأس الحول ". وفي التّقييد بالجاهليّة إشارة إلى أنّ الحكم في الإسلام صار بخلافه، وهو كذلك بالنّسبة لِمَا وصف من الصّنيع، لكنّ التّقدير بالحول استمرّ في الإسلام بنصّ قوله تعالى {وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول} ثمّ نسخت بالآية التي قبل وهي {يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً}. قوله: (كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشاً إلخ) هكذا

في هذه الرّواية لَم تسنده زينب. ووقع في رواية شعبة في البخاري مرفوعاً كلّه , لكنّه باختصار ولفظه " فقال: لا تكتحل، قد كانت إحداكنّ تمكث في شرّ أحلاسها أو شرّ بيتها، فإذا كان حولٌ فمرّ كلب رمت ببعرةٍ، فلا حتّى تمضي أربعة أشهر وعشر ". وهذا لا يقتضي إدراج رواية الباب , لأنّ شعبة من أحفظ النّاس فلا يقضي على روايته برواية غيره بالاحتمال، ولعلَّ الموقوف ما في رواية الباب من الزّيادة التي ليست في رواية شعبة. قوله: (حِفشاً) الحفش بكسر المهملة وسكون الفاء بعدها معجمة. فسّره أبو داود في روايته من طريق مالك: البيت الصّغير. وعند النّسائيّ من طريق ابن القاسم عن مالك: الحفش الخصّ بضمّ المعجمة بعدها مهملة، وهو أخصّ من الذي قبله. وقال الشّافعيّ: الحفش البيت الذّليل الشّعث البناء. وقيل: هو شيء من خوص يشبه القفّة (¬1) تجمع فيه المعتدّة متاعها من غزل أو نحوه. وظاهر سياق القصّة يأبى هذا خصوصاً رواية شعبة، وكذا وقع في رواية للنّسّائيّ " عمدت إلى شرّ بيت لها فجلست فيه ". ¬

_ (¬1) قال الليث:: القُفَّةُ: كهيئة القرْعةِ تُتَّخذ من خُوص. وقال أبو عبيد في غريب الحديث (3/ 405): القفعة شئ شبيه بالزبيل، ليس بالكبير يُعمل من خوص , وليست له عرى، وهو الذي يسميه النساء بالعراق: القفة.

ولعلَّ أصل الحفش ما ذكر , ثمّ استعمل في البيت الصّغير الحقير على طريق الاستعارة. والأحلاس في رواية شعبة بمهملتين. جمع حِلْس بكسر ثمّ سكون , وهو الثّوب أو الكساء الرّقيق يكون تحت البرذعة. والمراد أنّ الرّاوي شكّ في أيّ اللفظين وقع وصف ثيابها أو وصف مكانها، وقد ذكرا معاً في رواية شعبة. قوله: (حتّى يمرّ عليها) في رواية الكشميهنيّ " لها ". قوله: (ثمّ تؤتى بدابّةٍ) بالتّنوين. قوله: (حمارٍ) بالجرّ والتّنوين على البدل. قوله: (أو شاة أو طائر) للتّنويع لا للشّكّ، وإطلاق الدّابّة على ما ذكر هو بطريق الحقيقة اللغويّة لا العرفيّة. قوله: (فتفتضّ) بفاءٍ ثمّ مثنّاة ثمّ ضاد معجمة ثقيلة. فسّره مالك في آخر الحديث فقال: تمسح به جلدها، وأصل الفضّ الكسر. أي: تكسر ما كانت فيه وتخرج منه بما تفعله بالدّابّة. ووقع في رواية للنّسائيّ " تقبص " بقاف ثمّ موحّدة ثمّ مهملة خفيفة، وهي رواية الشّافعيّ، والقبص الأخذ بأطراف الأنامل. قال الأصبهاني وابن الأثير: هو كناية عن الإسراع، أي: تذهب بعدوٍ وسرعة إلى منزل أبويها لكثرة حيائها لقبح منظرها , أو لشدّة شوقها إلى التّزويج لبعد عهدها به. والباء في قولها " به " سببيّة، والضّبط الأوّل أشهر.

قال ابن قتيبة: سألت الحجازيّين عن الافتضاض , فذكروا أنّ المعتدّة كانت لا تمسّ ماء , ولا تقلم ظفراً , ولا تزيل شعراً , ثمّ تخرج بعد الحول بأقبح منظر , ثمّ تفتضّ. أي: تكسر ما هي فيه من العدّة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه , فلا يكاد يعيش بعدما تفتضّ به. قلت: وهذا لا يخالف تفسير مالك، لكنّه أخصّ منه، لأنّه أطلق الجلد. وتبيّن أنّ المراد به جلد القُبُل. وقال ابن وهب: معناه أنّها تمسح بيدها على الدّابّة وعلى ظهره. وقيل: المراد تمسح به ثمّ تفتضّ. أي: تغتسل، والافتضاض الاغتسال بالماء العذب , لإزالة الوسخ وإرادة النّقاء حتّى تصير بيضاء نقيّة كالفضّة. ومن ثَمَّ قال الأخفش: معناه تتنظّف فتنتقي من الوسخ فتشبه الفضّة في نقائها وبياضها، والغرض بذلك الإشارة إلى إهلاك ما هي فيه، ومن الرّمي الانفصال منه بالكليّة. تنْبيهٌ. جوّز الكرمانيّ أن تكون الباء في قوله " فتفتضّ به " للتّعدّية أو تكون زائدة , أي: تفتضّ الطّائر بأن تكسر بعض أعضائه. انتهى. ويردّه ما تقدّم من تفسير الافتضاض صريحاً. قوله: (ثمّ تخرج فتعطى بعرة) بفتح الموحّدة وسكون المهملة ويجوز فتحها. قوله: (فترمي بها) في رواية مطرّف وابن الماجشون عن مالك (¬1) ¬

_ (¬1) تقدّم أنَّ الشيخين روياه من طريق مالك. فانظر تخريج الحديث.

" ترمي ببعرةٍ من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالاً لها " وفي رواية ابن وهب " فترمي ببعرة من بعر الغنم من وراء ظهرها ". ووقع في رواية شعبة " فإذا كان حول فمرّ كلب رمت ببعرةٍ " وظاهره أنّ رميها البعرة يتوقّف على مرور الكلب سواء طال زمن انتظار مروره أم قصر، وبه جزم بعض الشّرّاح. وقيل: ترمي بها من عرض من كلب أو غيره , تري من حضرها أنّ مقامها حولاً أهون عليها من بعرة ترمي بها كلباً أو غيره. وقال عياض. يمكن الجمع بأنّ الكلب إذا مرّ افتضّت به , ثمّ رمت البعرة. قلت: ولا يخفى بعده، والزّيادة من الثّقة مقبولة , ولا سيّما إذا كان حافظاً، فإنّه لا منافاة بين الرّوايتين حتّى يحتاج إلى الجمع. واختلف في المراد برمي البعرة. فقيل: هو إشارة إلى أنّها رمت العدّة رمي البعرة. وقيل: إشارة إلى أنّ الفعل الذي فعلته من التّربّص والصّبر على البلاء الذي كانت فيه لِمَا انقضى , كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها , استحقاراً له وتعظيماً لحقّ زوجها. وقيل: بل ترميها على سبيل التّفاؤل بعدم عودها إلى مثل ذلك

كتاب اللعان

كتاب اللّعان مأخوذ من اللعن، لأنّ الملاعن يقول " لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ". واختير لفظ اللعن دون الغضب في التّسمية , لأنّه قول الرّجل، وهو الذي بدئ به في الآية، وهو أيضاً يبدأ به، وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس. وقيل: سمّي لعاناً , لأنّ اللعن الطّرد والإبعاد. وهو مشترك بينهما. وإنّما خصّت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذّنب بالنّسبة إليها، لأنّ الرّجل إذا كان كاذباً لَم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لِمَا فيه من تلويث الفراش والتّعرّض لإلحاق من ليس من الزّوج به، فتنتشر المحرميّة، وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقّهما. واللعان والالتعان والملاعنة بمعنىً، ويقال: تلاعنا والتعنا ولاعن الحاكم بينهما , والرّجل ملاعن والمرأة ملاعنة , لوقوعه غالباً من الجانبين. وأجمعوا على مشروعيّة اللعان , وعلى أنّه لا يجوز مع عدم التّحقّق. واختلف في وجوبه على الزّوج، لكن لو تحقّق أنّ الولد ليس منه , قوي الوجوب.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون 327 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ فلان بن فلانٍ قال: يا رسولَ الله: أرأيتَ أن لو وجد أحدنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يصنع؟ إن تكلَّم، تكلَّم بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك، قال: فسكتَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يُجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتك عنه قد ابتليتُ به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور {والذين يرمون أزواجهم} فتلاهنّ عليه، ووعظه وذكّره، وأخبره أنّ عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحقّ نبياً، ما كذبت عليها، ثم دعاها، فوعظها، وأخبرها أنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحقّ إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهاداتٍ بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنّى بالمرأة، فشهِدت أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرّق بينهما، ثم قال: الله يعلم أنّ أحدكما كاذبٌ، فهل منكما تائبٌ؟ ثلاثاً. (¬1) وفي لفظ: لا سبيل لك عليها، فقال: يا رسولَ الله مالي؟ قال: لا مال لك، إن كنتَ صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها، وإن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1493) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -.

كنتَ كذبتَ عليها، فهو أبعد لك منها. (¬1) قوله: (عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -) أورده مسلم من وجه آخر عن سعيد بن جبير. فزاد في أوّله " قال: لَم يفرّق المصعب - يعني ابن الزّبير - بين المتلاعنين، أي: حيث كان أميرًا على العراق، قال سعيد: فذكرت ذلك لابن عمر. ومن وجه آخر عن سعيد: سئلت عن المتلاعنين , في امرةِ مصعب بن الزّبير , فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكّة .. الحديث. وفيه فقلت: يا أبا عبد الرّحمن، المتلاعنان أيفرّق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم، إنّ أوّل من سأل عن ذلك فلان ابن فلان. وعرف من قوله " بمكّة " أنّ في الرّواية التي قبلها حذفًا تقديره فسافرت إلى مكّة فذكرت ذلك لابن عمر. ووقع في رواية عبد الرّزّاق عن معمر عن أيّوب عن سعيد بن جبير قال: كنّا بالكوفة نختلف في الملاعنة، يقول بعضنا: يفرّق بينهما , ويقول بعضنا: لا يفرّق ". ويؤخذ منه أنّ الخلاف في ذلك كان قديمًا، وقد استمرّ عثمان البتّيّ من فقهاء البصرة على أنّ اللعان لا يقتضي الفرقة. وكأنّه لَم يبلغه حديث ابن عمر. قوله: (أنّ فلان بن فلانٍ) في رواية أيوب عن سعيد عند الشيخين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5005 , 5006 , 5034 , 5035) ومسلم (1493) من طريق أيوب وعمر بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر به.

" فرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان ". ووقع في رواية أبي أحمد الجرجانيّ " بين أحد بني العجلان " بحاءٍ ودال مهملتين. وهو تصحيف. وجاء تسميتهما (¬1) في حديث سهل بن سعد من رواية مالك عن الزهري عنه , أنّ عويمرًا العجلانيّ جاء إلى عاصم بن عديٍّ الأنصاريّ، فقال له: أرأيت يا عاصم لو أنّ رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله، فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فسل لي عن ذلك يا عاصمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عاصمٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) وفي رواية القعنبيّ عن مالك " عويمر بن أشقر " وكذا أخرجه أبو داود وأبو عوانة من طريق عياض بن عبد الله الفهريّ عن الزّهريّ. ووقع في " الاستيعاب " عويمر بن أبيض. ¬

_ (¬1) صرّح الشارح رحمه الله أنَّ حديث سهل الآتي وحديث ابن عمر قصّة واحدة. (¬2) أخرجه البخاري (413 , 4468، 4469، 4959، 5002، 5003، 6462، 6745، 6764، 7874) ومسلم (1492) من طرق عدّة عن الزهري عن سهل - رضي الله عنه - وتمامه: فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها، حتى كبُر على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر، فقال: يا عاصم، ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كرِه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أنزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها , قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا فرغا من تلاعنهما، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثاً، قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين.

وعند الخطيب في " المبهمات " عويمر بن الحارث، وهذا هو المعتمد. فإنّ الطّبريّ نسبه في " تهذيب الآثار " فقال: هو عويمر بن الحارث بن زيد بن الجدّ بن عجلان، فلعلَّ أباه كان يلقّب أشقر أو أبيض، وفي الصّحابة ابن أشقر آخر وهو مازني. أخرج له ابن ماجه. وللبخاري من رواية سفيان بن عيينة عن الزّهريّ قال: قال سهل بن سعد: شهدت المتلاعنَين وأنا ابن خمس عشرة سنة ". ووقع في نسخة أبي اليمان عن شعيب عن الزّهريّ عن سهل بن سعد قال: توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأنا ابن خمس عشرة سنة. فهذا يدلّ على أنّ قصّة اللعان كانت في السّنة الأخيرة من زمان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لكن جزم الطّبريّ وأبو حاتم وابن حبّان بأنّ اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخّرين. ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدّارقطنيّ , أنّ قصّة اللعان كانت بمنصرف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وهو قريبٌ من قول الطّبريّ، ومن وافقه، لكن في إسناده الواقديّ. فلا بدّ من تأويل أحد القولين، فإن أمكن وإلَّا فطريق شعيب أصحّ. وممّا يوهن رواية الواقديّ ما اتّفق عليه أهل السّير , أنّ التّوجّه إلى تبوك كان في رجب، وما ثبت في الصّحيحين , أنّ هلال بن أُميَّة أحد الثّلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصّته أنّ امرأته استأذنت له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن تخدمه , فأذن لها بشرطٍ أن لا يقربها فقالت: إنّه لا حراك به، وفيه أنّ ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يومًا.

فكيف تقع قصّة اللعان في الشّهر الذي انصرفوا فيه من تبوك , ويقع لهلال مع كونه فيما ذكر من الشّغل بنفسه وهجران النّاس له وغير ذلك، وقد ثبت في حديث ابن عبّاس , أنّ آية اللعان نزلت في حقّه، وكذا عند مسلم من حديث أنس , أنّه أوّل من لاعن في الإسلام "؟. ووقع في رواية عبّاد بن منصور في حديث ابن عبّاس عند أبي داود وأحمد " حتّى جاء هلال بن أُميَّة - وهو أحد الثّلاثة الذين تيب عليهم - فوجد عند أهله رجلاً .. الحديث ". فهذا يدلّ على أنّ قصّة اللعان تأخّرت عن قصّة تبوك , والذي يظهر أنّ القصّة كانت متأخّرة، ولعلَّها كانت في شعبان سنة عشر لا تسع، وكانت الوفاة النّبويّة في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة باتّفاقٍ، فيلتئم حينئذٍ مع حديث سهل بن سعد. ووقع عند مسلم من حديث ابن مسعود: كنّا ليلة جمعة في المسجد , إذ جاء رجل من الأنصار. فذكر القصّة في اللعان باختصار، فعيّن اليوم , لكن لَم يعيّن الشّهر ولا السّنة. وقوله " عاصم بن عديّ " أي: ابن الجدّ بن العجلان العجلانيّ، وهو ابن عمّ والد عويمر، وفي رواية الأوزاعيّ عن الزّهريّ في البخاري " وكان عاصم سيّد بني عجلان ". والجدّ. بفتح الجيم وتشديد الدّال. والعجلان. بفتح المهملة وسكون الجيم , هو ابن حارثة بن ضبيعة من بني بليّ بن عمرو بن

الحافّ بن قضاعة، وكان العجلان حالف بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس من الأنصار في الجاهليّة , وسكن المدينة فدخلوا في الأنصار. وقد ذكر ابن الكلبيّ , أنّ امرأة عويمر هي بنت عاصم المذكور , وأنّ اسمها خولة. وقال ابن منده في " كتاب الصّحابة " خولة بنت عاصم التي قذفها زوجها فلاعن النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينهما، لها ذِكرٌ , ولا تعرف لها رواية، وتبعه أبو نعيمٍ، ولَم يذكرا سلفهما في ذلك , وكأنّه ابن الكلبيّ. وذكر مقاتل بن سليمان فيما حكاه القرطبيّ , أنّها خولة بنت قيس. وذكر ابن مردويه , أنّها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى , أنّ عاصم بن عديّ لَمَّا نزلت {والذين يرمون المحصنات} , قال: يا رسولَ الله. أين لأحدنا أربعة شهداء؟ فابتلي به في بنت أخيه. وفي سنده مع إرساله ضعف. وأخرج ابن أبي حاتم في " التّفسير " عن مقاتل بن حيّان قال: لَمَّا سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته، فأتاه ابن عمّه تحته ابنة عمّه , رماها بابن عمّة المرأة , والزّوج والحليل ثلاثتهم بنو عمّ عاصم , وعند ابن مردويه في مرسل ابن أبي ليلى المذكور , أنّ الرّجل الذي رمى عويمر امرأته به هو شريك بن سحماء. وهو يشهد لصحّة هذه الرّواية لأنّه ابن عمّ عويمر، وكذا في مرسل مقاتل بن حيّان عند أبي حاتم، فقال الزّوج لعاصم: يا ابن عمّ

, أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها , وإنّها لحبلى , وما قربتها منذ أربعة أشهر. وفي حديث عبد الله بن جعفر عند الدّارقطنيّ: لاعن بين عويمر العجلانيّ وامرأته، فأنكر حملها الذي في بطنها , وقال: هو لابن سحماء. ولا يمتنع أن يتّهم شريك بن سحماء بالمرأتين معًا. وأمّا قول ابن الصّبّاغ في " الشّامل " أنّ المزنيّ ذكر في " المختصر " , أنّ العجلانيّ قذف زوجته بشريك بن سحماء. وهو سهو في النّقل، وإنّما القاذف بشريك هلال بن أُميَّة، فكأنّه لَم يعرف مستند المزنيّ في ذلك , وإذا جاء الخبر من طرق متعدّدة , فإنّ بعضها يعضّد بعضًا. والجمع ممكن فيتعيّن المصير إليه فهو أولى من التّغليط. قوله: (يا رسولَ الله: أرأيت أن لو وجد أحدنا .. فسكت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه) في حديث سهل " فقال له: يا عاصم، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عاصمٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها. الحديث ". وقوله " أيقتله فتقتلونه " أي: قصاصًا لتقدّم علمه بحكم القصاص , لعموم قوله تعالى {النّفس بالنّفس} لكن في طرقه احتمال أن يخصّ من ذلك ما يقع بالسّبب الذي لا يقدر على الصّبر عليه غالبًا من الغيرة التي في طبع البشر، ولأجل هذا قال: أم كيف

يفعل.؟ وفي الصحيحين استشْكال سعد بن عبادة مثل ذلك. لقوله " لو رأيته لضربته بالسّيف غير مصفح " , وفي البخاري. قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أُميَّة لَمَّا سأله عن مثل ذلك " البيّنة، وإلَّا حدّ في ظهرك " وذلك كلّه قبل أن ينزل اللعان. وقد اختلف العلماء. فيمن وجد مع امرأته رجلاً , فتحقّق الأمر فقتله. هل يقتل به؟. القول الأول: منع الجمهور الإقدام. وقالوا: يقتصّ منه , إلَّا أن يأتي ببيّنة الزّنا , أو على المقتول بالاعتراف , أو يعترف به ورثته فلا يقتل القاتل به , بشرط أن يكون المقتول محصنًا. القول الثاني: يقتل به , لأنّه ليس له أن يقيم الحدّ بغير إذن الإمام. القول الثالث: لا يقتل أصلاً , ويعزّر فيما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه. وشرط أحمد وإسحاق ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنّه قتله بسبب ذلك، ووافقهم ابن القاسم وابن حبيب من المالكيّة، لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن. قال القرطبيّ: ظاهر تقرير عويمر على ما قال يؤيّد قولهم، كذا قال. والله أعلم وقوله " أم كيف يفعل "؟. يحتمل: أن تكون " أم " متّصلة والتّقدير: أم يصبر على ما به من

المضض. ويحتمل: أن تكون منقطعة بمعنى الإضراب. أي: بل هناك حكم آخر لا يعرفه ويريد أن يطّلع عليه، فلذلك قال: سل لي يا عاصم. وإنّما خصّ عاصمًا بذلك لِما تقدّم من أنّه كان كبير قومه وصهره على ابنته أو ابنة أخيه، ولعلَّه كان اطّلع على مخايل ما سأل عنه , لكن لَم يتحقّقه فلذلك لَم يفصح به، أو اطّلع حقيقة لكن خشي إذا صرّح به من العقوبة التي تضمّنها من رمى المحصنة بغير بيّنة، أشار إلى ذلك ابن العربيّ , قال: ويحتمل: أن يكون لَم يقع له شيء من ذلك , لكن اتّفق أنّه وقع في نفسه إرادة الاطّلاع على الحكم فابتلي به , كما يقال البلاء موكّل بالمنطق، ومن ثَمَّ قال: إنّ الذي سألتك عنه قد ابتليت به. وفي حديث ابن مسعود عند مسلم " إن تكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ ". وهذه أتمّ الرّوايات في هذا المعنى. قوله: (فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور {والذين يرمون أزواجهم}) في حديث سهل " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك " ووقع في حديث ابن مسعود , إنّ الرّجل لَمَّا قال: وإن سكت سكت على غيظ، قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اللهمّ افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان. وهذا ظاهره أنّ الآية نزلت عقب السّؤال، لكن يحتمل أن يتخلل

بين الدّعاء والنّزول زمن بحيث يذهب عاصم ويعود عويمر. وهذا كلّه ظاهر جدًّا في أنّ القصّة نزلت بسبب عويمر. ويعارضه ما رواه البخاري من طريق هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عبّاس , أنّ هلال بن أُميَّة قذف امرأته بشريك بن سحماء , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: البيّنة أو حدّ في ظهرك. فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إنّني لصادقٌ، ولينزلنّ الله فيّ ما يبرّئ ظهري من الحدّ، فنزل جبريل فأنزل عليه: والذين يرمون أزواجهم. الحديث. وفي رواية عبّاد بن منصور عن عكرمة عن ابن عبّاس. في هذا الحديث عند أبي داود " فقال هلال: وإنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجًا. قال: فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك , إذ نزل عليه الوحي. وفي حديث أنس عند مسلم " أنّ هلال بن أُميَّة قذف امرأته بشريك بن سحماء , وكان أخا البراء بن مالك لأمّه، وكان أوّل رجلٍ لاعن في الإسلام ". فهذا يدلّ على أنّ الآية نزلت بسبب هلال. وقد اختلف الأئمّة في هذا الموضع: فمنهم: من رجّح أنّها نزلت في شأن عويمرٍ. ومنهم: من رجّح أنّها نزلت في شأن هلال. ومنهم: من جمع بينهما. بأنّ أوّل من وقع له ذلك هلال , وصادف مجيء عويمرٍ أيضًا فنزلت في شأنهما معًا في وقت واحد. وقد جنح النّوويّ إلى هذا، وسبقه الخطيب. فقال: لعلهما اتّفق

كونهما جاءا في وقت واحد. ويؤيّد التّعدّد: أنّ القائل في قصّة هلالٍ سعدُ بنُ عبادة. ما أخرجه أبو داود والطّبريّ من طريق عبّاد بن منصور عن عكرمة عن ابن عبّاس. مثل رواية هشام بن حسّان بزيادةٍ في أوّله " لَمَّا نزلت {والذين يرمون أزواجهم} الآية. قال سعد بن عبادة: لو رأيت لُكاعًا قد تفخّذها رجلٌ لَم يكن لي أن أهيّجه حتّى آتي أربعة شهداء، ما كنت لآتي بهم حتّى يفرغ من حاجته، قال: فما لبثوا إلَّا يسيرًا حتّى جاء هلال بن أُميَّة " الحديث. وعند الطّبريّ من طريق أيّوب عن عكرمة مرسلاً فيه نحوه. وزاد " فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له فرمى امرأته " الحديث. والقائل في قصّة عويمرٍ عاصم بن عديّ كما في حديث سهل بن سعد. وأخرج الطّبريّ من طريق الشّعبيّ مرسلاً قال: لَمَّا نزلت {والذين يرمون أزواجهم} الآية. قال عاصم بن عديّ: إنْ أنا رأيتُ فتكلمت جُلدت، وإن سكتّ سكتّ على غيظٍ. الحديث. ولا مانع أنْ تتعدّد القصص ويتّحد النّزول. وروى البزّار من طريق زيد بن تبيع عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: لو رأيتَ مع أمّ رومان رجلاً ما كنتَ فاعلاً به؟ قال: كنتُ فاعلاً به شرًّا. قال: فأنت يا عمر؟ قال: كنت أقول لعن الله الأبعد، قال: فنزلت. ويحتمل: أنّ النّزول سبق بسبب هلال، فلمّا جاء عويمر ولَم يكن

علم بما وقع لهلالٍ أعلمه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالحكم، ولهذا قال في قصّة هلال: " فنزل جبريل " وفي قصّة عويمرٍ " قد أنزل الله فيك , فيؤوّل قوله: قد أنزل الله فيك , أي: وفيمن كان مثلك ". وبهذا أجاب ابن الصّبّاغ في الشّامل قال: نزلت الآية في هلال، وأمّا قوله لعويمرٍ: " قد نزل فيك وفي صاحبتك " فمعناه ما نزل في قصّة هلال. ويؤيّده: أنّ في حديث أنس عند أبي يعلى قال: أوّل لعان كان في الإسلام , أنّ شريك بن سحماء قذفه هلال بن أُميَّة بامرأته. الحديث. وجنح القرطبيّ إلى تجويز نزول الآية مرّتين، قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرّواة الحفّاظ , وقد أنكر جماعة ذكر هلال فيمن لاعن. قال القرطبيّ: أنكره أبو عبد الله بن أبي صفرة - أخو المُهلَّب - وقال: هو خطأ، والصّحيح أنّه عويمر. وسبقه إلى نحو ذلك الطّبريّ وقال ابن العربيّ: قال النّاس: هو وهْم من هشام بن حسّان، وعليه دار حديث ابن عبّاس وأنس بذلك. وقال عياض في " المشارق ": كذا جاء من رواية هشام بن حسّان , ولَم يقله غيره، وإنّما القصّة لعويمرٍ العجلانيّ، قال: ولكن وقع في " المدوّنة " في حديث العجلانيّ ذكر شريك. وقال النّوويّ في مبهماته: اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال. القول الأول: عويمر العجلانيّ.

القول الثاني: هلال بن أُميَّة. القول الثالث: وعاصم بن عديّ. ثمّ نقل عن الواحديّ , أنّ أظهر هذه الأقوال أنّه عويمر. وكلام الجميع متعقّب: أمّا قول ابن أبي صفرة: فدعوى مجرّدة، وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في الصّحيحين مع إمكان الجمع؟ وما نسبه إلى الطّبريّ لَم أره في كلامه. وأمّا قول ابن العربيّ: إنّ ذكرَ هلالٍ دار على هشام بن حسّان، وكذا جزم عياض , بأنّه لَم يقله غيره، فمردود , لأنّ هشام بن حسّان لَم ينفرد به، فقد وافقه عبّاد بن منصور كما قدّمته، وكذا جرير بن حازم عن أيّوب. أخرجه الطّبريّ وابن مردويه موصولاً قال: لَمَّا قذف هلال بن أُميَّة امرأته. وأمّا قول النّوويّ تبعًا للواحديّ وجنوحه إلى التّرجيح: فمرجوحٌ , لأنّ الجمع مع إمكانه أولى من التّرجيح. ثمّ قوله: " وقيل عاصم بن عديّ " فيه نظرٌ , لأنّه ليس لعاصمٍ فيه قصّة أنّه الذي لاعن امرأته، وإنّما الذي وقع من عاصم نظير الذي وقع من سعد بن عبادة. ولَمَّا روى ابن عبد البرّ في " التّمهيد " طريق جرير بن حازم , تعقّبه بأن قال: قد رواه القاسم بن محمّد عن ابن عبّاس كما رواه النّاس. وهو يوهم أنّ القاسم سمّى الملاعن عويمرًا، والذي في الصّحيح

" فأتاه رجلٌ من قومه " أي: من قوم عاصم، والنّسائيّ من هذا الوجه " لاعن بين العجلانيّ وامرأته " والعجلانيّ هو عويمر. وظهر لي الآن احتمال: أن يكون عاصم سأل قبل النّزول ثمّ جاء هلال بعده فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرّة الثّانية التي قال فيها " إنّ الذي سألتك عنه قد ابتليت به " فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأنّها نزلت فيه، يعني أنّها نزلت في كلّ من وقع له ذلك، لأنّ ذلك لا يختصّ بهلالٍ. وكذا يجاب على سياق حديث ابن مسعود , يحتمل أنّه لَمَّا شرع يدعو بعد توجّه العجلانيّ , جاء هلال فذكر قصّته فنزلت، فجاء عويمر , فقال: قد نزل فيك وفي صاحبتك. قوله: (فبدأ بالرجل). القول الأول: فيه التصريح أنّ الرّجل يُقدّم قبل المرأة في الملاعنة. وبه قال الشّافعيّ ومن تبعه , وأشهب من المالكيّة , ورجّحه ابن العربيّ. القول الثاني: قال ابن القاسم: لو ابتدأت به المرأة صحّ واعتدّ به. وهو قول أبي حنيفة. واحتجّوا: بأنّ الله عطفه بالواو وهي لا تقتضي التّرتيب. واحتجّ للأوّلين , بأنّ اللعان شرع لدفع الحدّ عن الرّجل. ويؤيّده قوله - صلى الله عليه وسلم - لهلال: البيّنة وإلَّا حدّ في ظهرك. فلو بُدئ بالمرأة لكان دفعًا لأمر لَم يثبت، وبأنّ الرّجل يمكنه أن يرجع بعد أن يلتعنَ

فيندفع عن المرأة، بخلاف ما لو بدأت به المرأة. قوله: (فشهد أربع .. إن كان من الصادقين) وحديث ابن مسعود نحوه , لكن زاد فيه " فذهبت لتلتعن , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: مه، فأبتْ، فالتعنت. وفي حديث أنس عند أبي يعلى وأصله في مسلم: فدعاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: أتشهد بالله إنّك لمن الصّادقين فيما رميتها به من الزّنا؟ فشهد بذلك أربعًا , ثمّ قال له في الخامسة: ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين؟ ففعل، ثمّ دعاها. فذكر نحوه، فلمّا كان في الخامسة , سكتت سكتة حتّى ظنّوا أنّها ستعترف، ثمّ قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على القول. وفي حديث ابن عبّاس من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عنه عند أبي داود والنّسائيّ وابن أبي حاتم " فدعا الرّجل، فشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الصّادقين، فأمر به فأمسك على فيه، فوعظه , فقال: كلّ شيء أهون عليك من لعنة الله. ثمّ أرسله , فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وقال في المرأة نحو ذلك. وهذه الطّريق لَم يسمّ فيها الزّوج ولا الزّوجة، بخلاف حديث أنس , فصرّح فيه بأنّها في قصّة هلال بن أُميَّة. فإن كانت القصّة واحدة وقع الوهم في تسمية الملاعن كما جزم به غير واحد. فهذه زيادة من ثقة فتعتمد. وإن كانت متعدّدة فقد ثبت بعضها في قصّه امرأة هلال.

قوله: (الله يعلم أنّ أحدكما كاذبٌ) قال عياض: ظاهره أنّه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، فيؤخذ منه عرض التّوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال، وأنّه يلزم من كذبه التّوبة من ذلك. وقال الدّاوديّ: قال ذلك قبل اللعان تحذيرًا لهما منه. والأوّل أظهر وأولى بسياق الكلام. قلت: والذي قاله الدّاوديّ أولى من جهة أخرى , وهي مشروعيّة الموعظة قبل الوقوع في المعصية، بل هو أحرى ممّا بعد الوقوع، وأمّا سياق الكلام فمحتمل في رواية ابن عمر للأمرين. وأمّا حديث ابن عبّاس فسياقه ظاهر فيما قال الدّاوديّ. ففي رواية جرير بن حازم عن أيّوب عن عكرمة عن ابن عبّاس عند الطّبريّ والحاكم والبيهقيّ في قصّة هلال بن أُميَّة , قال: فدعاهما حين نزلت آية الملاعنة فقال: الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إنّي لصادق. الحديث. وقد أخرج البخاري حديث ابن عبّاس من رواية عكرمة في قصّة غير القصّة التي في حديث سهل بن سعد وابن عمر، فيصحّ الأمران معًا باعتبار التّعدّد. قوله: (أحدكما كاذب) فيه تغليب المذكّر على المؤنّث. وقال عياض وتبعه النّوويّ: في " قوله أحدكما " ردّ على مَن قال من النّحاة إنّ لفظ أحد لا يستعمل إلَّا في النّفي، وعلى مَن قال منهم لا يستعمل إلَّا في الوصف، وأنّها لا توضع موضع واحد ولا توقع

موقعه. وقد أجازه المبرّد. وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنىً واحد. انتهى. قال الفاكهيّ: هذا من أعجب ما وقع للقاضي مع براعته وحذقه، فإنّ الذي قاله النّحاة إنّما هو في " أحد " التي للعموم نحو ما في الدّار من أحد. وما جاءني من أحد، وأمّا أحد بمعنى واحد فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو (قل هو الله أحدٌ) ونحو (فشهادة أحدهم) ونحو " أحدكما كاذب ". قوله: (فهل منكما تائبٌ) يحتمل أن يكون إرشادًا , لا أنّه لَم يحصل منهما , ولا من أحدهما اعتراف، ولأنّ الزّوج لو أكذب نفسه كانت توبة منه. قوله: (وفي لفظ: لا سبيل لك عليها) أي: لا تسليط قوله: (فقال: يا رسولَ الله مالي) وللبخاري " فقال الرجل: مالي , قيل: لا مال لك " وقوله " مالي " فاعل فعل محذوف، كأنّه لَمَّا سمع لا سبيل لك عليها قال: أيذهب مالي؟ والمراد به الصّداق قال ابن العربيّ: قوله " مالي " أي: الصّداق الذي دفعته إليها، فأجيب بأنّك استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك من نفسها. ثمّ أوضح له ذلك بتقسيم مستوعب , فقال: إن كنت صادقًا فيما ادّعيته عليها , فقد استوفيت حقّك منها قبل ذلك، وإن كنت كذبت عليها , فذلك أبعد لك من مطالبتها , لئلا تجمع عليها الظّلم في عرضها ومطالبتها بمالٍ قبضته منك قبضًا صحيحًا تستحقّه.

وعرف من هذه الرّواية اسم القائل " لا مال لك " حيث أبهم في رواية البخاري بلفظ " قيل: لا مال لك " مع أنّ النّسائيّ رواه عن زياد بن أيّوب عن ابن عليّة عن أيوب بلفظ " قال: لا مال لك ". ويستفاد من قوله " فهو بما استحللت من فرجها " أنّ الملاعنة لو أكذبت نفسها بعد اللعان وأقرّت بالزّنا وجب عليها الحدّ، لكن لا يسقط مهرها. قوله: (إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها) وللبخاري " فقد دخلت بها ". وقد انعقد الإجماع على أنّ الملاعنه المدخول بها تستحقّ جميع الصداق. واختلف في غير المدخول بها: القول الأول: الجمهور على أنّ لها النّصف كغيرها من المطلقات قبل الدّخول القول الثاني: بل لها جميعه , قاله أبو الزّناد والحكم وحمّاد القول الثالث: لا شيء لها أصلاً , قاله الزّهريّ , وروي عن مالك. وقد تمسّك بقوله " فقد دخلتَ بها ". وهو القول الأول: على أنّ من أغلق بابًا وأرخى سترًا على المرأة فقد وجب لها الصّداق وعليها العدّة. وبذلك قال الليث والأوزاعيّ وأهل الكوفة وأحمد، وجاء ذلك عن عمر وعليّ وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وابن عمر. واحتجّوا أيضًا: بأنّ الغالب عند إغلاق الباب وإرخاء السّتر على

المرأة وقوع الجماع فأقيمت المظنّة مقام المئنّة , لِمَا جبلت عليه النّفوس في تلك الحالة من عدم الصّبر عن الوقاع غالبًا لغلبة الشّهوة وتوفّر الدّاعية. القول الثاني: قال الكوفيّون: الخلوة الصّحيحة يجب معها المهر كاملاً سواء وطئ أم لَم يطأ، إلَّا إن كان أحدهما مريضًا أو صائمًا أو محرمًا أو كانت حائضًا فلها النّصف. وعليها العدّة كاملة. القول الثالث: ذهب الشّافعيّ وطائفة إلى أنّ المهر لا يجب كاملاً إلَّا بالجماع. واحتجّ بقوله تعالى {وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم} وقال {ثمّ طلقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها} وجاء ذلك عن ابن مسعود وابن عبّاس وشريح والشّعبيّ وابن سيرين. والجواب عن الحديث: أنّه ثبت في الرّواية الأخرى في حديث الباب " فهو بما استحللت من فرجها " فلم يكن في قوله " دخلت عليها " حجّة لمَن قال إنّ مجرّد الدّخول يكفي. القول الرابع: قال مالك: إذا دخل بالمرأة في بيته صدقت عليه، وإن دخل بها في بيتها صدق عليها، ونقله عن ابن المسيّب. وعن مالك رواية أخرى كقول الكوفيّين. قوله: (وإن كنتَ كذبتَ عليها، فهو أبعد لك منها) وللبخاري من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ " فذلك أبعد

وأبعد لك منها " وكرّر لفظ أبعد تأكيدًا. قوله " ذلك " الإشارة إلى الكذب، لأنّه مع الصّدق يبعد عليه استحقاق إعادة المال ففي الكذب أبعد.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون 328 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رجلاً رمى امرأته، وانتفى من ولدها في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا، كما قال الله تعالى، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرّق بين المتلاعنين. (¬1) قوله: (أنّ رجلاً رمى امرأته , وانتفى من ولدها في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري من رواية يحيى بن بكير عن مالك عن نافع " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين رجلٍ وامرأته , فانتفى من ولدها. قال الطّيبيّ (¬2): الفاء سببيّة. أي: الملاعنة سبب الانتفاء، فإن أراد أنّ الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء فجيّد، وإن أراد أنّ الملاعنة سبب وجود الانتفاء فليس كذلك، فإنّه إن لَم يتعرّض لنفي الولد في الملاعنة لَم ينتف. والحديث في الموطّأ بلفظ " وانتفى " بالواو لا بالفاء. وذكر ابن عبد البرّ. أنّ بعض الرّواة عن مالك ذكره بلفظ " وانتقل " يعني بقافٍ بدل الفاء ولامٍ آخره. وكأنّه تصحيف، وإن كان محفوظًا فمعناه قريب من الأوّل، وقوله " أنّ رجلاً رمى امرأته وانتفى من ولدها، فأمرهما النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا " فوَضَحَ أنّ الانتفاء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4471 , 5001 , 5007 , 5008 , 5009 , 6367) ومسلم (1494) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) هو الحسن بن محمد , سبق ترجمته (1/ 23)

سبب الملاعنة لا العكس. واستدل بهذا الحديث. وهو القول الأول: على مشروعيّة اللعان لنفي الولد. القول الثاني: عن أحمد: ينتفي الولد بمجرّد اللعان , ولو لَم يتعرّض الرّجل لذكره في اللعان. وفيه نظرٌ , لأنّه لو استلحقه لحقه، وإنّما يؤثّر لعان الرّجل دفع حدّ القذف عنه , وثبوت زنا المرأة ثمّ يرتفع عنها الحدّ بالتعانها. القول الثالث: قال الشّافعيّ: إن نفى الولد في الملاعنة انتفى , وإن لَم يتعرّض له فله أن يعيد اللعان لانتفائه ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه الرّفع إلى الحاكم فأخّر بغير عذر حتّى ولدت لَم يكن له أن ينفيه كما في الشّفعة. واستُدلّ به. وهو القول الأول: على أنّه لا يشترط في نفي الحمل تصريح الرّجل بأنّها ولدت من زنًا، ولا أنّه استبرأها بحيضةٍ. القول الثاني: عن المالكيّة يشترط ذلك. واحتجّ بعض من خالفهم , بأنّه نفى الحمل عنه من غير أن يتعرّض لذلك بخلاف اللعان النّاشئ عن قذفها. واحتجّ الشّافعيّ , بأنّ الحامل قد تحيض , فلا معنى لاشتراط الاستبراء. قال ابن العربيّ: ليس عن هذا جواب مقنع.

قوله: (فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا، كما قال الله تعالى) وللبخاري من رواية جويرية عن نافعٍ " أنّ رجلاً من الأنصار قذف امرأته، فأحلفهما النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " والمراد بالإحلاف هنا , النّطق بكلمات اللعان. وقد تمسّك به مَن قال إنّ اللعان يمين، وهو قول مالك والشّافعيّ والجمهور وقال أبو حنيفة: اللعان شهادة , وهو وجه للشّافعيّة. وقيل: شهادة فيها شائبة اليمين. وقيل بالعكس، ومن ثَمَّ قال بعض العلماء: ليس بيمينٍ ولا شهادة. وانبنى على الخلاف , أنّ اللعان يشرع بين كلّ زوجين مسلمين أو كافرين , حرّين أو عبدين , عدلين أو فاسقين بناء على أنّه يمين، فمن صحّ يمينه صحّ لعانه. وقيل: لا يصحّ اللعان إلَّا من زوجين حرّين مسلمين، لأنّ اللعان شهادة , ولا يصحّ من محدود في قذف. وهذا الحديث حجّة للأوّلين لتسوية الرّاوي بين لاعن وحلف. ويؤيّده أنّ اليمين ما دلَّ على حثّ أو منع أو تحقيق خبر وهو هنا كذلك. ويدلّ عليه , قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق حديث ابن عبّاس (¬1) " فقال ¬

_ (¬1) حديث ابن عباس. أصله في صحيح البخاري كما تقدّم ذكره. في الحديث الماضي.

له: احلف بالله الذي لا إله إلَّا هو إنّي لصادق، يقول ذلك أربع مرّات " أخرجه الحاكم والبيهقيّ من رواية جرير بن حازم عن أيّوب عن عكرمة عنه. وقوله " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " (¬1). واعتلَّ بعض الحنفيّة , بأنّها لو كانت يمينًا لَمَا تكرّرت. وأجيب: بأنّها خرجت عن القياس تغليظًا لحرمة الفروج , كما خرجت القسامة لحرمة الأنفس، وبأنّها لو كانت شهادة لَم تكرّر أيضًا. والذي تحرّر لي أنّها من حيث الجزم بنفي الكذب وإثبات الصّدق يمينٌ، لكن أطلق عليها شهادة لاشتراط أن لا يكتفى في ذلك بالظّنّ , بل لا بدّ من وجود علم كلّ منهما بالأمرين , علمًا يصحّ معه أن يشهد به. ويؤيّد كونها يمينًا , أنّ الشّخص لو قال: أشهد بالله لقد كان كذا لعدّ حالفًا. وقد قال القفّال في " محاسن الشّريعة ": كرّرت أيمان اللعان , لأنّها أقيمت مقام أربع شهود في غيره ليقام عليها الحدّ، ومن ثَمَّ سمّيت شهادات. قوله: (ثم قضى بالولد للمرأة) في رواية مالك عند الشيخين " ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (4/ 33) وأبو داود في " السنن " (2256) من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس به. في قصة لعان هلال بن أُميَّة مع امرأته. وأصل القصة في صحيح البخاري (4747) من طريق هشام بن حسان عن عكرمة به. نحوه , لكن بلفظ " لولا ما مضى من كتاب الله. لكان لي ولها شأن.

ففرّق بينهما , وألحق الولد ". قال الدّارقطنيّ: تفرّد مالك بهذه الزّيادة. قال ابن عبد البرّ: ذكروا أنّ مالكًا تفرّد بهذه اللفظة في حديث ابن عمر. وقد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل بن سعد كما تقدّم من رواية يونس عن الزّهريّ عند أبي داود بلفظ " ثمّ خرجتْ حاملاً فكان الولد إلى أمّه ". ومن رواية الأوزاعيّ عن الزّهريّ " وكان الولد يُدعى إلى أمّه " (¬1) وقد اختلف السّلف في معنى إلحاقه بأمّه , مع اتّفاقهم على أنّه لا ميراث بينه وبين الذي نفاه. القول الأول: جاء عن عليٍّ وابن مسعود , أنّهما قالا في ابن الملاعنة: عصبته عصبة أمّه يرثهم ويرثونه. أخرجه ابن أبي شيبة. وبه قال النّخعيّ والشّعبيّ. القول الثاني: وجاء عن عليّ وابن مسعود , أنّهما كانا يجعلان أمّه عصبةً وحْدها فتُعطَى المال كله، فإن ماتت أمّه قبله فماله لعصبتها. وبه قال جماعةٌ , منهم الحسن وابن سيرين ومكحول والثّوريّ وأحمد في رواية. ¬

_ (¬1) تقدّم أن حديث سهل أخرجه الشيخان. وأنَّ ابن حجر صرّح بأنَّ حديث ابن عمر وسهل قصة واحدة. أمَّا رواية يونس التي عزاها الشارح لأبي داود فهي عند مسلم أيضاً من طريقه (1492) بلفظ: كانت حاملاً فكان ابنها يُدعى إلى أمه. وللبخاري (4469) من رواية فليح عن الزهري: وكان ابنها يُدعى إليها.

القول الثالث: جاء عن عليّ , أنّ ابن الملاعنة ترثه أمّه وإخوته منها , فإن فضل شيءٌ فهو لبيت المال. وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار. قال مالك: وعلى هذا أدركت أهل العلم، وأخرج عن الشّعبيّ قال: بعث أهل الكوفة إلى الحجاز في زمن عثمان , يسألون عن ميراث ابن الملاعنة , فأخبروهم أنّه لأمّه وعصبتها، وجاء عن ابن عبّاس عن عليٍّ , أنّه أعطى الملاعنة الميراث , وجعلها عصبةً. قال ابن عبد البرّ: الرّواية الأولى أشهر عند أهل الفرائض. قال ابن بطّال: هذا الخلاف إنّما نشأ حديث حيث جاء فيه: وألحق الولد بالمرأة , لأنّه لَمَّا أُلحق بها قطع نسب أبيه , فصار كمن لَّا أب له من أولاد البغيّ. وتمسّك الآخرون: بأنّ معناه إقامتها مقام أبيه , فجعلوا عصبة أمّه عصبة أبيه. قلت: وقد جاء في المرفوع ما يقوّي القول الأوّل. فأخرج أبو داود من رواية مكحول مرسلاً، ومن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: جعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ميراث ابن الملاعنة لأمّه ولورثتها من بعدها. ولأصحاب السّنن الأربعة عن واثلة رفعه: تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه. , قال البيهقيّ: ليس بثابتٍ. قلت: وحسّنه التّرمذيّ وصحّحه الحاكم، وليس فيه سوى عمر بن رؤبة - بضمّ الرّاء وسكون الواو بعدها موحّدة - مختلف فيه، قال

البخاريّ: فيه نظرٌ، ووثّقه جماعة. وله شاهدٌ من حديث ابن عمر. عند ابن المنذر , ومن طريق داود بن أبي هند عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن رجلٍ من أهل الشّام , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى به لأُمّه , هي بمنزلة أبيه وأمّه. وفي رواية , أنّ عبد الله بن عبيد كتب إلى صدّيق له من أهل المدينة , يسأله عن ولد الملاعنة فكتب إليه: إنّي سألت , فأُخبرت أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى به لأمّه. وهذه طرق يقوى بعضها ببعضٍ. قال ابن بطّال: تمسّك بعضهم بالحديث الذي جاء أنّ الملاعنة بمنزلة أبيه وأمّه، وليس فيه حجّة , لأنّ المراد أنّها بمنزلة أبيه وأمّه في تربيته وتأديبه وغير ذلك ممّا يتولاه أبوه، فأمّا الميراث فقد أجمعوا أنّ ابن الملاعنة لو لَم تلاعن أمّه وترك أمّه وأباه كان لأمّه السّدس، فلو كانت بمنزلة أبيه وأمّه لورثت سدسين فقط. سدس بالأمومة وسدس بالأبوّة. كذا قال , وفيه نظرٌ. تصويرًا واستدلالاً. وحجّة الجمهور. ما أخرجه البخاري في رواية فليح عن الزّهريّ عن سهل في آخره " فكانت السّنّة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض لها " وأخرجه أبو داود. وحديث ابن عبّاس " فهو لأولى رجلٍ ذكرٍ " فإنّه جعل ما فضل عن أهل الفرائض لعصبة الميّت دون عصبة أمّه، وإذا لَم يكن لولد الملاعنة عصبةٌ من قبل أبيه فالمسلمون عصبته. وللبخاري من حديث أبي هريرة " ومن ترك مالا فليرثه عصبته من

كانوا ". واستدل به على أنّ الولد المنفيّ باللعان , لو كان بنتًا حلَّ للملاعن نكاحها، وهو وجه شاذّ لبعض الشّافعيّة. والأصحّ كقول الجمهور أنّها تحرم , لأنّها ربيبته في الجملة. قوله: (وفرّق بين المتلاعنين) تمسّك به مَن قال , إنّ الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتّى يوقعها الحاكم، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأتباعهما. ورواية ابن جريجٍ عن الزهري عن سهل عند البخاري " فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغا من التّلاعن، ففارقها عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ذاك تفريقٌ بين كل متلاعنين. قال ابن جريجٍ: قال ابن شهابٍ: فكانت السّنّة بعدهما أن يفرّق بين المتلاعنين " تؤيّد أنّ الفرقة تقع بنفس اللعان، وهو قول مالك والشافعي ومن تبعهما. وعن أحمد روايتان. ولكنّ ظاهر سياقه أنّه من كلام الزّهريّ , فيكون مرسلاً , وعلى تقدير إرسالها , فقد جاء عن ابن عمر بلفظه , عند الدّارقطنيّ، ويتأيّد بذلك قول من حمل التّفريق في حديث الباب على أنّه بيان حكم لا إيقاع فرقة. واحتجّوا أيضًا , بقوله في الرّواية الأخرى " لا سبيل لك عليها ". وتعقّب: بأنّ ذلك وقع جوابًا لسؤال الرّجل عن ماله الذي أخذته منه.

وأجيب: بأنّ العبرة بعموم اللفظ , وهو نكرة في سياق النّفي , فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه. ووقع في آخر حديث ابن عبّاس عند أبي داود " وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى , من أجل أنّهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفّى عنها " وهو ظاهر في أنّ الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان. ويستفاد منه أنّ قوله في حديث سهل " فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفراقها " أنّ الرّجل إنّما طلَّقها قبل أن يعلم أنّ الفرقة تقع بنفس اللعان , فبادر إلى تطليقها لشدّة نفرته منها. وذهب عثمان البتّيّ: أنّه لا تقع الفرقة حتّى يوقعها الزّوج، واعتلّ بأنّ الفرقة لَم تذكر في القرآن، ولأنّ ظاهر الأحاديث أنّ الزّوج هو الّذي طلّق ابتداء. ويقال: إنّ عثمان تفرّد بذلك , لكن نقل الطّبريّ عن أبي الشّعثاء جابر بن زيد البصريّ أحد أصحاب ابن عبّاس، من فقهاء التّابعين نحوه. ومقابله قول أبي عبيد: أنّ الفرقة بين الزّوجين تقع بنفس القذف , ولو لَم يقع اللّعان، وكأنّه مفرّع على وجوب اللّعان على من تحقّق ذلك من المرأة، فإذا أخلّ به عوقب بالفرقة تغليطًا عليه.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون 329 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ من بني فزارة إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: هل لك إبلٌ؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها، قال: حمرٌ، قال: فهل فيها من أورق؟ قال: إنّ فيها لورقاً، قال: فأنّى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرقٌ، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرقٌ. (¬1) قوله: (جاء رجلٌ من بني فزارة) في رواية أبي مصعب في " الموطأ " عن مالك عن ابن شهاب " جاء أعرابيّ ". وكذا في البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك. وللنّسائيّ " جاء رجلٌ من أهل البادية " وكذا في رواية أشهب عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4999 , 6455) من طريق مالك , ومسلم (1500) من طريق سفيان بن عيينة وغيره كلهم عن الزهري , أن ابن المسيب أخبره عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (6884) ومسلم (1500) من طريق يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قال ابن حجر في " الفتح ": قوله (أن سعيد بن المسيب أخبره) كذا لأكثر أصحاب الزهري، وخالفهم يونس فقال عنه " عن أبي سلمة عن أبي هريرة " أخرجه البخاري من طريق ابن وهب عنه، وهو مصيرٌ من البخاري إلى أنه عند الزهري عن سعيد وأبي سلمة معاً، وقد وافقه مسلم على ذلك، ويؤيده رواية يحيى بن الضحاك عن الأوزاعي عن الزهري عنهما جميعا، وقد أطلق الدارقطنيُّ أنَّ المحفوظ رواية مالك ومن تابعه، وهو محمول على العمل بالترجيح، وأما طريق الجمع فهو ما صنعه البخاري، ويتأيّد أيضاً بأن عقيلاً رواه عن الزهري قال: بلغنا عن أبي هريرة. فإن ذلك، يشعر بأنه عنده عن غير واحد، وإلا لو كان عن واحد فقط كسعيد مثلا لاقتصر عليه.

مالك. عند الدّارقطني. وفي رواية ابن وهب التي عند أبي داود " أنّ أعرابيّاً من بني فزارة ". واسم هذا الأعرابيّ ضمضم بن قتادة , أخرج حديثه عبد الغنيّ بن سعيد في " المبهمات " له وابن فتحون من طريقه , وأبو موسى في " الذيل " من طريق قطبة بنت عمرو بن هرم , أنّ مدلوكاً حدّثها , أنّ ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود , من امرأة من بني عجل , فشكا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل لك من إبل.؟ (¬1). ولَم أعرف اسم امرأته , لكن في الرواية أنها امرأة من بني عجل , وفي الحديث فقدِمَ نسوة من بني عجل , فأخبرن أنه كان له جدَّةٌ سوداء. قوله: (إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في رواية ابن أبي ذئب (¬2) عن الزهري. عند الدارقطني " صرخ بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " قوله: (فقال: يا رسولَ الله , إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود) لَم أقف على اسم المرأة , ولا على اسم الغلام. وزاد في رواية يونس عن ابن شهاب عند الشيخين " وإنّي أنكرته " أي: استنكرته بقلبيّ , ولَم يرد أنّه أنكر كونه ابنه بلسانه وإلا لكان تصريحاً بالنّفي لا تعريضاً. ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في " أسد الغابة " (3/ 64): أخرجه أَبُو موسى بإسناد غريب، وقال: هذا إسناد عجيب. (¬2) رواية ابن أبي ذئب. أخرجها الطيالسي في " مسنده " (2413) وأبو عوانة في " مستخرجه " (3/ 129).

والتّعريض: بعينٍ مهملة وضاد معجمة. قال الرّاغب: هو كلام له وجهان ظاهر وباطن، فيقصد قائله الباطن ويظهر إرادة الظّاهر , ويفارق الكناية بأنّها ذكر شيء بغير لفظه الموضوع يقوم مقامه , ووجه التّعريض، أنّه قال غلاماً أسود. أي: وأنا أبيض فكيف يكون منّي؟ , ووقع في رواية معمر عن الزّهريّ عند مسلم " وهو حينئذٍ يعرّض بأن ينفيه ". القول الأول: يؤخذ منه أنّ التّعريض بالقذف ليس قذفاً. وبه قال الجمهور واستدل الشّافعيّ بهذا الحديث لذلك قال في " الأمّ ": ظاهر قول الأعرابيّ أنّه اتّهم امرأته، لكن لَمَّا كان لقوله وجه غير القذف , لَم يحكم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه بحكم القذف , فدلَّ ذلك على أنّه لا حدّ في التّعريض، وممّا يدلّ على أنّ التّعريض لا يعطي حكم التّصريح الإذن بخطبة المعتدّة بالتّعريض لا بالتّصريح فلا يجوز، انتهى القول الثاني: عن المالكيّة , يجب به الحدّ إذا كان مفهوماً. وأجابوا عن الحديث بما سيأتي بيانه. وقال ابن دقيق العيد: في الاستدلال بالحديث نظرٌ، لأنّ المستفتي لا يجب عليه حدّ ولا تعزير. قلت: وفي هذا الإطلاق نظر، لأنّه قد يستفتي بلفظ لا يقتضي القذف وبلفظ يقتضيه. فمن الأوّل أن يقول مثلاً: إذا كان زوج المرأة أبيض فأتت بولدٍ

أسود: ما الحكم؟. ومن الثّاني أن يقول مثلاً: إنّ امرأتي أتت بولدٍ أسود وأنا أبيض فيكون تعريضاً، أو يزيد فيه مثلاً زنت فيكون تصريحاً، والذي ورد في حديث الباب هو الثّاني فيتمّ الاستدلال. وقد نبّه الخطّابيّ على عكس هذا فقال: لا يلزم الزّوج إذا صرّح بأنّ الولد الذي وضعته امرأته ليس منه حدّ قذفه , لجواز أن يريد أنّها وطئت بشهبة أو وضعته من الزّوج الذي قبله إذا كان ذلك ممكناً. قوله: (قال: فما ألوانها؟ قال: حمر) في رواية محمّد بن مصعب عن مالك عند الدّارقطنيّ (¬1) " قال: رمكٌ " والأرمك الأبيض إلى حمرة. قوله: (فهل فيها من أورق؟) بوزن أحمر. قوله: (إنّ فيها لورقاً) بضمّ الواو بوزن حمر، والأورق الذي فيه سواد ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء. قوله: (فأنّى أتاها ذلك) بفتح النّون الثّقيلة , أي: من أين أتاها اللون الذي خالفها، هل هو بسبب فحْلٍ من غير لونها طرأ عليها , أو لأمرٍ آخرّ؟. قوله: (عسى أن يكون نزعه عرقٌ) وللبخاري " لعلَّ نزعه عرق " في رواية كريمة " لعلَّه " ولا إشكال فيها , بخلاف الأوّل , فجزم جمعٌ ¬

_ (¬1) ورواه الإمام أحمد في " المسند " (9298) حدّثنا محمد بن مصعب (القرقسائي) عن مالك عن الزهري به.

بأنّ الصّواب النّصب , أي: لعل عرقاً نزعه. وقال الصّغانيّ: ويحتمل: أن يكون في الأصل " لعله " فسقطت الهاء، ووجّهه ابن مالك: باحتمال. أنّه حذف منه ضمير الشّأن. ويؤيّد توجيهه ما وقع في رواية كريمة، والمعنى يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه إليه فجاء على لونه. وادّعى الدّاوديّ أنّ لعل هنا للتّحقيق. قوله: (وهذا عسى أن يكون نزعه عرقٌ) وللبخاري " ولعل ابنك هذا نزعه عرق " والمراد بالعرق الأصل من النّسب شبهه بعرق الشّجرة، ومنه قولهم: فلان عريق في الأصالة , أي: أنّ أصله متناسب، وكذا معرق في الكرم أو اللؤم. وأصل النّزع الجذب، وقد يطلق على الميل، ومنه ما وقع في قصّة عبد الله بن سلام حين سُئل عن شبه الولد بأبيه أو بأمّه: نزع إلى أبيه أو إلى أمّه. (¬1) وفيه أنّ الزّوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرّد الظّنّ، وأنّ الولد يلحق به ولو خالف لونه لون أمّه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3723) عن أنس - رضي الله عنه - , أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأتاه يسأله عن أشياء. فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلَّا نبي. ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا. قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. الحديث. وفيه: وأمَّا الولد فإذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع الولد , وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل نزعت الولد.

وقال القرطبيّ تبعاً لابن رشد: لا خلاف في أنّه لا يحلّ نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالأدمة والسّمرة، ولا في البياض والسّواد إذا كان قد أقرّ بالوطء , ولَم تمض مدّة الاستبراء. وكأنّه أراد في مذهبه، وإلَّا فالخلاف ثابت عند الشّافعيّة بتفصيل , فقالوا: إن لَم ينضمّ إليه قرينة زناً لَم يجز النّفي، فإن اتّهمها فأتت بولدٍ على لون الرّجل الذي اتّهمها به جاز النّفي على الصّحيح. وفي حديث ابن عبّاس (¬1) في اللعان ما يقوّيه. وعند الحنابلة: يجوز النّفي مع القرينة مطلقاً، والخلاف إنّما هو عند عدمها، وهو عكس ترتيب الخلاف عند الشّافعيّة. وفيه تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشّبه. وفيه الاحتياط للأنساب وإبقائها مع الإمكان، والزّجر عن تحقيق ظنّ السّوء. وقال القرطبيّ: يؤخذ منه منع التّسلسل، وأنّ الحوادث لا بدّ لها أن تستند إلى أوّل ليس بحادث. وفيه أنّ التّعريض بالقذف لا يثبت حكم القذف حتّى يقع التّصريح خلافاً للمالكيّة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الصحيح " (5004 , 5010 , 6464) ومسلم (1497) عن ابن عباس، أنه ذُكر التلاعن عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً ثم انصرف، فأتاه رجلٌ من قومه يشكو إليه أنه قد وجد مع امرأته رجلاً، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا الأمر إلَّا لقولي، فذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادّعى عليه أنه وجده عند أهله خَدَلاًّ آدم كثير اللحم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم بيّن " فجاءت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده، فلاعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " الحديث

وأجاب بعض المالكيّة: أنّ التّعريض الذي يجب به القذف عندهم , هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التّصريح، وهذا الحديث لا حجّة فيه لدفع ذلك، فإنّ الرّجل لَم يرد قذفاً، بل جاء سائلاً مستفتياً عن الحكم لِما وقع له من الرّيبة، فلمّا ضرب له المثل أذعن. وقال المُهلَّب: التّعريض إذا كان على سبيل السّؤال لا حدّ فيه، وإنّما يجب الحدّ في التّعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنيّر (¬1): الفرق بين الزّوج والأجنبيّ في التّعريض أنّ الأجنبيّ يقصد الأذيّة المحضة، والزّوج قد يعذر بالنّسبة إلى صيانة النّسب. والله أعلم. قال ابن بطّال: احتجّ الشّافعيّ بأنّ التّعريض في خطبة المعتدّة جائز مع تحريم التّصريح بخطبتها، فدلَّ على افتراق حكمها. قال: وأجاب القاضي إسماعيل , بأنّ التّعريض بالخطبة جائز , لأنّ النّكاح لا يكون إلَّا بين اثنين، فإذا صرّح بالخطبة وقع عليه الجواب بالإيجاب أو الوعد فمنع، وإذا عرّض فأفهم أنّ المرأة من حاجته لَم يحتج إلى جواب، والتّعريض بالقذف يقع من الواحد ولا يفتقر إلى جواب، فهو قاذف من غير أن يخفيه عن أحد فقام مقام الصّريح. كذا فرّق، ويعكّر عليه أنّ الحدّ يدفع بالشّبهة , والتّعريض يحتمل الأمرين، بل عدم القذف فيه هو الظّاهر وإلا لَمَا كان تعريضاً، ومن لَم يقل بالحدّ في التّعريض يقول بالتّأديب فيه لأنّ في التّعريض أذى ¬

_ (¬1) هو علي بن محمد الاسكندراني , سبق ترجمته (2/ 378)

المسلم. وقد أجمعوا على تأديب من وجد مع امرأة أجنبيّة في بيت. والباب مغلق عليهما. وقد ثبت عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال: في التّعريض عقوبة. وقال عبد الرّزّاق أنبأنا ابن جريجٍ. قلت لعطاءٍ: فالتّعريض؟ قال: ليس فيه حدّ، قال عطاء وعمرو بن دينار: فيه نكال. قال ابن التّين: وقد انفصل المالكيّة عن حديث الباب: بأنّ الأعرابيّ إنّما جاء مستفتياً ولَم يرد بتعريضه قذفاً. وحاصله أنّ القذف في التّعريض إنّما يثبت على من عرف من إرادته القذف، وهذا يقوّي أن لَّا حدّ في التّعريض لتعذّر الاطّلاع على الإرادة، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي الحديث ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريباً لفهم السّائل، واستدل به لصحّة العمل بالقياس. قال الخطّابيّ: هو أصل في قياس الشّبه. وقال ابن العربيّ: فيه دليل على صحّة القياس والاعتبار بالنّظير. وتوقّف فيه ابن دقيق العيد فقال: هو تشبيه في أمر وجوديّ، والنّزاع إنّما هو في التّشبيه في الأحكام الشّرعيّة من طريق واحدة قويّة. قال ابن بطّال: التّشبيه والتّمثيل هو القياس عند العرب، وقد

احتجّ المزنيّ بهذين الحديثين (¬1) على من أنكر القياس، قال: وأوّل من أنكر القياس إبراهيم النّظام وتبعه بعض المعتزلة، وممّن ينسب إلى الفقه داود بن عليّ، وما اتّفق عليه الجماعة هو الحجّة، فقد قاس الصّحابة فمن بعدهم من التّابعين وفقهاء الأمصار وبالله التّوفيق. وتعقّب بعضهم الأوّليّة التي ادّعاها ابن بطّال , بأنّ إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصّحابة ومن التّابعين عن عامر الشّعبيّ من فقهاء الكوفة، وعن محمّد بن سيرين من فقهاء البصرة. نقله ابن عبد البرّ. ومِن قبله الدّارميّ وغيره عنهم وعن غيرهم وقد ذكر الشّافعيّ شرط من له أن يقيس فقال: يشترط أن يكون عالماً بالأحكام من كتاب الله تعالى , وبناسخه ومنسوخه وعامّه وخاصّه، ويستدلّ على ما احتمل التّأويل بالسّنّة وبالإجماع، فإن لَم يكن فبالقياس على ما في الكتاب، فإن لَم يكن فبالقياس على ما في السّنّة، فإن لَم يكن فبالقياس على ما اتّفق عليه السّلف وإجماع النّاس، ولَم يعرف له مخالف. قال: ولا يجوز القول في شيء من العلم إلَّا من هذه الأوجه، ولا ¬

_ (¬1) أي: حديث الباب وهو حديث أبي هريرة. وحديث ابن عبّاس , أنَّ امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟، قالت: نعم، فقال: اقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء. أخرجه البخاري في الاعتصام (6885) (باب من شبّه أصلاً معلوماً بأصل مبين، قد بيّن الله حكمهما، ليفهم السائل.

يكون لأحدٍ أن يقيس حتّى يكون عالماً بما مضى قبله من السّنن وأقاويل السّلف وإجماع النّاس واختلاف العلماء ولسان العرب , ويكون صحيح العقل ليفرّق بين المشتبهات ولا يعجل، ويستمع ممّن خالفه ليتنبّه بذلك على غفلة إن كانت، وأن يبلغ غاية جهده وينصف من نفسه حتّى يعرف من أين قال ما قال. والاختلاف على وجهين. فما كان منصوصاً لَم يحلّ فيه الاختلاف عليه، وما كان يحتمل التّأويل أو يدرك قياساً فذهب المتأوّل أو القائس إلى معنىً يحتمل وخالفه غيره، لَم أَقُل إنّه يضيّق عليه ضيق المخالف للنّصّ، وإذا قاس من له القياس. فاختلفوا وسع كلاًّ أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولَم يسعه اتّباع غيره فيما أدّاه إليه اجتهاده. وقال ابن عبد البرّ في " بيان العلم " بعد أن ساق هذا الفصل: قد أتى الشّافعيّ رحمه الله في هذا الباب بما فيه كفاية وشفاء. والله الموفّق. وقال ابن العربيّ وغيره: القرآن هو الأصل، فإن كانت دلالته خفيّة نَظَرَ في السّنّة , فإن بيّنته وإلا فالجليّ من السّنّة، وإن كانت الدّلالة منها خفيّة نَظَرَ فيما اتّفق عليه الصّحابة، فإن اختلفوا رجّح فإن لَم يوجد عمل بما يشبه نصّ الكتاب والسّنة , ثمّ السّنّة ثمّ الاتّفاق ثمّ الرّاجح. وأنشد ابن عبد البرّ لأبي محمّد اليزيديّ النّحويّ المقرئ برواية أبي عمرو بن العلاء من أبيات طويلة في إثبات القياس: لا تكن كالحمار يحمل أسفا ... راً كما قد قرأت في القرآن

إنّ هذا القياس في كلّ أمر ... عند أهل العقول كالميزان لا يجوز القياس في الدّين إلَّا ... لفقيهٍ لدينه صوّان ليس يغني عن جاهل قول راوٍ ... عن فلان وقوله عن فلان إن أتاه مسترشداً أفتاه ... بحديثين فيهما معنيان إنّ من يحمل الحديث ولا يع ... رف فيه المراد كالصّيدلانيّ حكم الله في الجزاء ذوي عد ... لٍ لذي الصّيد بالذي يريان لَم يوقّت ولَم يسمّ ولكن ... قال فيه فليحكم العدلان ولنا في النّبيّ صلَّى عليه ... الله والصّالحون كلّ أوان أسوة في مقاله لمعاذ ... اقض بالرّأي إن أتى الخصمان وكتاب الفاروق يرحمه الله ... إلى الأشعريّ في تبيان قس إذا أشكلت عليك أمور ... ثمّ قل بالصّواب والعرفان والمذهب المعتدل ما قاله الشّافعيّ " أنّ القياس مشروع عند الضّرورة " لا أنّه أصل برأسه.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون 330 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: اختصم سعد بن أبي وقّاص وعبد بن زمعة في غلامٍ، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقّاص، عهد إليّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسولَ الله، وُلد على فراش أَبِي من وليدته، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه، فرأى شبَهَاً بيّناً بعُتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة، فلم ير سودةَ قطّ. (¬1) قوله: (وعبد بن زمعة) زمعة بفتح الزّاي وسكون الميم , وقد تحرّك، قال النّوويّ: التّسكين أشهر. وقال أبو الوليد الوقشيّ: التّحريك هو الصّواب. قلت: والجاري على ألسنة المحدّثين التّسكين في الاسم والتّحريك في النّسبة، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشيّ العامريّ والد سودة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعبد بن زمعة بغير إضافة. ووقع في " مختصر ابن الحاجب " عبد الله. وهو غلط، نعم. عبد الله بن زمعة آخر، وفي بعض الطّرق من غير رواية عائشة عند ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2053 , 2105، 2289، 2396، 2594، 4052، 6368، 6384، 6431، 6760) ومسلم (1457) من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.

الطّحاويّ في هذا الحديث عبد الله بن زمعة , ونبّه على أنّه غلط , وأنّ عبد الله بن زمعة هو ابن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى آخر. قلت: وهو الذي حديثه في تفسير (والشّمس وضحاها) (¬1). وقد وقع لابن منده خبطٌ في ترجمة عبد الرّحمن بن زمعة , فإنّه زعم أنّ عبد الرّحمن وعبد الله وعبداً إخوةٌ ثلاثةٌ , أولاد زمعة بن الأسود، وليس كذلك , بل عبدٌ بغير إضافة. وعبد الرّحمن أخوان عامريّان من قريش، وعبد الله بن زمعة قرشيٌّ أسديّ من قريش أيضاً. وقد أوضحت ذلك في " الإصابة في تمييز الصّحابة " قوله: (عتبة بن أبي وقّاص) أخو سعد مختلف في صحبته. فذكره في الصّحابة العسكريّ , وذكر ما نقله الزّبير بن بكّار في النّسب , أنّه كان أصاب دماً بمكّة في قريش فانتقل إلى المدينة، ولَمّا مات أوصى إلى سعد. وذكره ابن منده في الصّحابة , ولَم يذكر مستنداً إلَّا قول سعد: عهد إليَّ أخي أنّه ولده. واستنكر أبو نعيم ذلك , وذكر أنّه الذي شجّ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحدٍ، قال: وما علمتُ له إسلاماً. بل قد روى عبد الرّزّاق من طريق عثمان الجزريّ عن مقسمٍ , أنّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الصحيح " (4942) ومسلم (2855) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة، قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الناقة. وذكر الذي عقرها، فقال: إذ انبعث أشقاها: انبعث لها رجلٌ عزيزٌ عارمٌ منيعٌ في رهطه، مثل أبي زمعة.

النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , دعا بأن لَّا يحول على عتبة الحول حتّى يموت كافراً , فمات قبل الحول. وهذا مرسل، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيّب بنحوه. وأخرج الحاكم في " المستدرك " من طريق صفوان بن سليمٍ عن أنس أنّه سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول: إنّ عتبة لَمَّا فعل بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما فعل تبعته فقتلته. كذا قال. وجزم ابن التّين والدّمياطيّ (¬1) بأنّه مات كافراً. قلت: وأمّ عتبة هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة، وأمّ أخيه سعد حمنة بنت سفيان بن أُميَّة. قوله: (فقال سعدٌ: يا رسولَ الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقّاص، عهد إليّ أنه ابنه) وعتبة بالجرّ بدل من لفظ أخي أو عطف بيان، والضّمير في أخي لسعدٍ لا لعتبة. وللبخاري من رواية مالك عن الزهري " كان عتبة عهد إلى أخيه " وفي رواية ابن عيينة عن الزّهريّ في البخاري " أوصاني أخي إذا قدمت يعني مكّة أن اقبض إليك ابنَ أمة زمعة فإنّه ابني " وفي رواية يونس عن الزّهريّ في البخاري " فلمّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة في الفتح " وفي رواية معمر عن الزّهريّ عند أحمد، وهي لمسلمٍ " لكن لَم يسق لفظها " فلمّا كان يوم الفتح , رأى سعد الغلام فعرفه بالشّبه , فاحتضنه , وقال: ابن أخي وربّ الكعبة ". ¬

_ (¬1) عبد المؤمن بن خلف الدمياطي المتوفى سنة 705 هـ تقدَّمت ترجمته (2/ 47).

والابن المذكور اسمه عبد الرّحمن , وذكره ابن عبد البرّ في الصّحابة وغيره، وقد أعقب بالمدينة. قوله: (وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسولَ الله، ولد على فراش أَبي من وليدته) وللبخاري من رواية مالك " كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أنّ ابن وليدة زمعة منّي فاقبضه إليك , وفيه فقال: أخي وابن وليدة أبي , ولد على فراشه , فتساوقا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " في رواية ابن عيينة عن ابن شهاب " ابن أمة زمعة " وفي رواية معمر " فجاء عبد بن زمعة فقال: بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته " وفي رواية يونس " يا رسولَ الله , هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه " وفي رواية يونس " فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فإذا هو أشبه النّاس بعتبة بن أبي وقاصّ " والوليدة في الأصل المولودة، وتطلق على الأمة، وهذه الوليدة لَم أقف على اسمها , لكن ذكر مصعبٌ الزّبيريّ وابن أخيه الزّبير في " نسب قريشٍ ": أنّها كانت أَمَةً يمانيّةً. والوليدة فعيلةٌ من الولادة بمعنى مفعولة. قال الجوهريّ: هي الصّبية والأمة والجمع ولائد. وقيل: إنّها اسم لغير أمّ الولد. قوله " فتساوقا " أي: تلازما في الذّهاب بحيث إنّ كلاً منهما كان كالذي يسوق الآخر. قال الخطّابيّ وتبعه عياض والقرطبيّ وغيرهما: كان أهل الجاهليّة

يقتنون الولائد , ويقرّرون عليهنّ الضّرائب فيكتسبن بالفجور، وكانوا يلحقون النّسب بالزّناة إذا ادّعوا الولد كما في النّكاح، وكانت لزمعة أمة , وكان يلمّ بها , فظهر بها حمل زعم عتبة بن أبي وقاصّ أنّه منه , وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبد بن زمعة، فقال لي سعد: هو ابن أخي , على ما كان عليه الأمر في الجاهليّة، وقال عبد: هو أخي , على ما استقرّ عليه الأمر في الإسلام، فأبطل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حكم الجاهليّة وألحقه بزمعة. وأبدل عياض قوله إذا ادّعوا الولد , بقوله: إذا اعترفت به الأمّ. وبنى عليهما القرطبيّ فقال: ولَم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهليّة , إمّا لعدم الدّعوى , وإمّا لكون الأمّ لَم تعترف به لعتبة. قلت: وفي البخاري من حديث عائشة ما يؤيّد أنّهم كانوا يعتبرون استلحاق الأمّ في صورة , وإلحاق القائف في صورة. ولفظها " إنّ النّكاح في الجاهليّة كان على أربعة أنحاء .. الحديث. وفيه يجتمع الرّهط ما دون العشر , فيدخلون على المرأة كلّهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومضت ليالٍ , أرسلت إليهم , فاجتمعوا عندها فقالت: قد ولدتُ فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع .. إلى أن قالت: ونكاح البغايا , كنّ ينصبن على أبوابهنّ رايات، فمن أرادهنّ دخل عليهنّ، فإذا حملت إحداهنّ فوضعت , جمعوا لها القافة , ثمّ ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف لا يمتنع من ذلك " انتهى. واللائق بقصّة أمة زمعة الأخير، فلعل جمع القافة لهذا الولد تعذّر

بوجهٍ من الوجوه، أو أنّها لَم تكن بصفة البغايا , بل أصابها عتبة سرّاً من زناً وهما كافران , فحملت وولدت ولداً يشبهه فغلب على ظنّه أنّه منه , فبغته الموت قبل استلحاقه , فأوصى أخاه أن يستلحقه، فعمل سعد بعد ذلك تمسّكاً بالبراءة الأصليّة. قال القرطبيّ: وكان عبد بن زمعة سمع أنّ الشّرع ورد بأنّ الولد للفراش، وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به. كذا قاله، وما أدري من أين له هذا الجزم بالنّفي؟ وكأنّه بناه على ما قال الخطّابيّ , أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهنّ من الضّرائب، فكان الإلحاق مختصّاً باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لَم يذكر الخطّابيّ مستنداً لذلك. والذي يظهر من سياق القصّة ما قدّمته , أنّها كانت أمة مستفرشة لزمعة , فاتّفق أنّ عتبة زنى بها كما تقدّم، وكانت طريقة الجاهليّة في مثل ذلك أنّ السّيّد إنّ استلحقه لحقه , وإن نفاه انتفى عنه , وإذا ادّعاه غيره كان مردّ ذلك إلى السّيّد أو القافة. وقد وقع في حديث ابن الزّبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيّد ما قلته. وأمّا قول الخطابي: إنّ عبد بن زمعة سمع أنّ الشّرع .. إلخ. ففيه نظرٌ؛ لأنّه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة وهو بمكّة لَم يسلم بعد. ولا يسمعه سعد بن أبي وقاصّ، وهو من السّابقين

الأوّلين الملازمين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين إسلامه إلى حين فتح مكّة نحو العشرين سنّة، حتّى ولو قلنا: إنّ الشّرع لَم يرد بذلك إلَّا في زمن الفتح , فبلوغه لعبد قبل سعد بعيدٌ أيضاً. والذي يظهر لي أنّ شرعيّة ذلك إنّما عرفت من قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصّة " الولد للفراش " وإلَّا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليدّعيه، بل الذي يظهر أنّ كلاً من سعد وعتبة بنى على البراءة الأصليّة، وأنّ مثل هذا الولد يقبل النّزاع. وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسندٍ حسن إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قام رجل فقال: يا رسولَ الله , إنّ فلاناً ابني عاهرت بأمّه في الجاهليّة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا دِعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهليّة، الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقد وقع في بعض طرقه أنّ ذلك وقع في زمن الفتح، وهو يؤيّد ما قلته. واستدل بهذه القصّة على أنّ الاستلحاق لا يختصّ بالأب , بل للأخ أن يستلحق وهو قول الشّافعيّة وجماعة , بشرط أن يكون الأخ حائزاً أو يوافقه باقي الورثة , وإمكان كونه من المذكور , وأن يوافق على ذلك إن كان بالغاً عاقلاً، وأن لا يكون معروف الأب. وتعقّب: بأنّ زمعة كان له ورثة غير عبد. وأجيب: بأنّه لَم يخلف وارثاً غيره إلَّا سودة، فإن كان زمعة مات كافراً فلم يرثه إلَّا عبد وحده، وعلى تقدير أن يكون أسلم وورثته

سودة فيحتمل أن تكون وكّلت أخاها في ذلك أو ادّعت أيضاً. وخصّ مالك وطائفة الاستلحاق بالأب. وأجابوا بأنّ الإلحاق لَم ينحصر في استلحاق عبد , لاحتمال أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على ذلك بوجهٍ من الوجوه كاعتراف زمعة بالوطء، ولأنّه إنّما حكم بالفراش؛ لأنّه قال بعد قوله: هو لك " الولد للفراش " لأنّه لَمَّا أبطل الشّرع إلحاق هذا الولد بالزّاني لَم يبق صاحب الفراش. وجرى المزنيّ على القول بأنّ الإلحاق يختصّ بالأب فقال: أجمعوا على أنّه لا يقبل إقرار أحد على غيره، والذي عندي في قصّة عبد بن زمعة أنّه - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن المسألة , فأعلمهم أنّ الحكم كذا بشرط أن يدّعي صاحب الفراش , لا أنّه قَبِل دعوى سعد عن أخيه عتبة , ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة , بل عرّفهم أنّ الحكم في مثلها يكون كذلك. قال: ولذلك قال " احتجبي منه يا سودة ". وتعقّب: بأنّ قوله لعبد بن زمعة " هو أخوك " يدفع هذا التّأويل. واستُدل به على أنّ الوصيّ يجوز له أن يستلحق ولد موصيه إذا أوصى إليه بأن يستلحقه , ويكون كالوكيل عنه في ذلك. قال ابن المنير ما ملخّصه: دعوى الوصيّ عن الموصى عليه لا نزاع فيه. واستدل به. وهو القول الأول: على أنّ الأمة تصير فراشاً بالوطء، فإذا اعترف

السّيّد بوطء أمته أو ثبت ذلك بأيّ طريق كان , ثمّ أتت بولدٍ لمدّة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق كما في الزّوجة، لكن الزّوجة تصير فراشاً بمجرّد العقد فلا يشترط في الاستلحاق إلَّا الإمكان؛ لأنّها تراد للوطء فجعل العقد عليها كالوطء. بخلاف الأمة فإنّها تراد لمنافع أخرى فاشترط في حقّها الوطء ومن ثَمَّ يجوز الجمع بين الأختين بالملك دون الوطء. وهذا قول الجمهور. القول الثاني: عن الحنفيّة , لا تصير الأمة فراشاً إلَّا إذا ولدت من السّيّد ولداً ولَحِق به , فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلَّا أن ينفيه. القول الثالث: عن الحنابلة , من اعترف بالوطء فأتت منه لمدّة الإمكان لحقه , وإن ولدت منه أوّلاً فاستلحقه لَم يلحقه ما بعده إلَّا بإقرار مستأنف على الرّاجح عندهم. وترجيح المذهب الأوّل ظاهر؛ لأنّه لَم ينقل أنّه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر، والكلّ متّفقون على أنّها لا تصير فراشاً إلَّا بالوطء. قال النّوويّ: وطء زمعة أمته المذكورة علم إمّا ببيّنةٍ , وإمّا باطّلاع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. قلت: وفي حديث ابن الزّبير ما يشعر بأنّ ذلك كان أمراً مشهوراً. وسأذكر لفظه قريباً. واستدل به على أنّ السّبب لا يخرج , ولو قلنا إنّ العبرة بعموم اللفظ. ونقل الغزاليّ تبعاً لشيخه والآمدي ومن تبعه عن الشّافعيّ قولاً

بخصوص السّبب تمسّكاً بما نقل عن الشّافعيّ , أنّه ناظر بعض الحنفيّة لَمَّا قال: إنّ أبا حنيفة خصّ الفراش بالزّوجة , وأخرج الأمة من عموم " الولد للفراش " , فردّ عليه الشّافعيّ بأنّ هذا ورد على سبب خاصّ. وردّ ذلك الفخر الرّازّي على مَن قاله: بأنّ مراد الشّافعيّ أنّ خصوص السّبب لا يخرج، والخبر إنّما ورد في حقّ الأمة فلا يجوز إخراجه. ثمّ وقع الاتّفاق على تعميمه في الزّوجات , لكن شرط الشّافعيّ والجمهور الإمكان زماناً ومكاناً. وعن الحنفيّة: يكفي مجرّد العقد , فتصير فراشاً , ويلحق الزّوج الولد. وحجّتهم عموم قوله " الولد للفراش " لأنّه لا يحتاج إلى تقدير، وهو الولد لصاحب الفراش؛ لأنّ المراد بالفراش الموطوءة. وردّه القرطبيّ: بأنّ الفراش كناية عن الموطوءة لكون الواطئ يستفرشها , أي: يصيّرها بوطئه لها فراشاً له , يعني فلا بدّ من اعتبار الوطء حتّى تسمّى فراشاً , وألحق به إمكان الوطء فمع عدم إمكان الوطء لا تسمّى فراشاً. وفهم بعض الشّرّاح عن القرطبيّ خلاف مراده فقال: كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرّد كون الفراش هو الموطوءة، وليس هو المراد فعلم أنّه لا بدّ من تقدير محذوف؛ لأنّه قال: إنّ

الفراش هو الموطوءة والمراد به أنّ الولد لا يلحق بالواطئ، قال المعترض: وهذا لا يستقيم إلَّا مع تقدير الحذف. قلت: وقد بيّنت وجه استقامته بحمد الله. ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ ابن الأعرابيّ اللغويّ نقل أنّ الفراش عند العرب يعبّر به عن الزّوج، وعن المرأة , والأكثر إطلاقه على المرأة، وممّا ورد في التّعبير به عن الرّجل قول جرير فيمن تزوّجت بعد قتل زوجها أو سيّدها: باتت تعانقه وبات فراشها ... خلق العباءة بالبلاء ثقيلاً. وقد يعبّر به عن حالة الافتراش , ويمكن حمل الخبر عليها فلا يتعيّن الحذف. نعم. لا يمكن حمل الخبر على كلّ واطئٍ , بل المراد من له الاختصاص بالوطء كالزّوج والسّيّد، ومن ثَمَّ قال ابن دقيق العيد: معنى " الولد للفراش " تابع للفراش أو محكوم به للفراش , أو ما يقارب هذا. وقد شنّع بعضهم على الحنفيّة , بأنّ من لازم مذهبهم إخراج السّبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال. وأجاب بعضهم: بأنّه خصّص الظّاهر القويّ بالقياس، وقد عرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد وهذا منها. واستدل به على أنّ القائف إنّما يعتمد في الشّبه إذا لَم يعارضه ما هو أقوى منه؛ لأنّ الشّارع لَم يلتفت هنا إلى الشّبه والتفت إليه في قصّة

زيد بن حارثة (¬1)، وكذا لَم يحكم بالشّبه في قصّة الملاعنة (¬2)؛ لأنّه عارضه حكمٌ أقوى منه، وهو مشروعيّة اللعان. وفيه تخصيص عموم " الولد للفراش " وقد تمسّك بالعموم الشّعبيّ وبعض المالكيّة. وهو شاذٌّ. ونقل عن الشّافعيّ أنّه قال: لقوله " الولد للفراش " معنيان. أحدهما: هو له ما لَم ينفه , فإذا نفاه بما شرع له كاللعان انتفى عنه. الثّاني: إذا تنازع ربّ الفراش والعاهر. فالولد لربّ الفراش. قلت: والثّاني منطبق على خصوص الواقعة. والأوّل أعمّ. تكميل: قال البخاري في كتاب العتق: باب أم الولد. قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها. ثم ذكر حديث الباب. قوله: (باب أم الولد) أي هل يحكم بعتقها أم لا؟ أورد فيه حديثين. وليس فيهما ما يفصح بالحكم عنده، وأظن ذلك لقوة الخلاف في المسألة بين السلف، وإن كان الأمر استقرَّ عند الخلف على المنع حتى وافق في ذلك ابنُ حزم ومن تبعه من أهل الظاهر على عدم جواز بيعهن , ولم يبق إلا شذوذ. ¬

_ (¬1) قصة زيد بن حارثة سيأتي إن شاء الله بعد هذا الحديث من العمدة (¬2) أخرج البخاري (4747) عن ابن عبّاس في قصة المتلاعنين. وفيه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك ابن سحماء , فجاءتْ به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأنٌ.

قوله: وقال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها. (¬1) والمراد بالرب السيد أو المالك، ولا دليل فيه على جواز بيع أم الولد ولا عدمه. قال النووي: استدل به إمامان جليلان أحدهما على جواز بيع أمهات الأولاد , والآخر على منعه. فأما من استدل به على الجواز. فقال: ظاهر قوله: " ربها " أن المراد به سيدها , لأن ولدها من سيدها ينزل منزلة سيدها لمصير مال الإنسان إلى ولده غالباً. وأما من استدلَّ به على المنع. فقال: لا شك أنَّ الأولاد من الإماء كانوا موجودين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه كثيرا، والحديث مسوق للعلامات التي قرب قيام الساعة، فدل على حدوث قدر زائد على مجرد التسري. قال: والمراد أن الجهل يغلب في آخر الزمان حتى تباع أمهات الأولاد فيكثر ترداد الأمة في الأيدي حتى يشتريها ولدها وهو لا يدري، فيكون فيه إشارة إلى تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا يخفى تكلف الاستدلال من الطرفين، والله أعلم. ثم أورد البخاري حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، والشاهد منه قول عبد بن زمعة " أخي ولد على فراش أبي " وحكمه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (50) ومسلم (9).

- صلى الله عليه وسلم - لابن زمعة بأنه أخوه، فإن فيه ثبوت أمية أم الولد، ولكن ليس فيه تعرض لحريتها ولا لإرقاقها. إلَّا أن ابن المنير أجاب بأن فيه إشارة إلى حرية أم الولد لأنَّه جعلها فراشاً فسوى بينها وبين الزوجة في ذلك، وأفاد الكرماني , أنه رأى في بعض النسخ في آخر الباب ما نصه " فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم ولد زمعة أمة ووليدة فدل على أنها لم تكن عتيقة " اهـ. فعلى هذا فهو ميل منه إلى أنها لا تعتق بموت السيد، وكأنه اختار أحد التأويلين في الحديث الأول، وقد تقدم ما فيه. قال الكرماني: وبقية كلامه لم تكن عتيقة من هذا الحديث، لكن من يحتج بعتقها في هذه الآية: (إلا ما ملكت أيمانكم) يكون له ذلك حجة. قال الكرماني: كأنه أشار إلى أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد بن زمعة على قوله: " أمة أبي " ينزل منزلة القول منه - صلى الله عليه وسلم -، ووجه الدلالة مما قال إن الخطاب في الآية للمؤمنين، وزمعة لم يكن مؤمناً فلم يكن له ملك يمين فيكون ما في يده في حكم الأحرار. قال: ولعلَّ غرض البخاري أن بعض الحنفية لا يقول: إن الولد في الأمة للفراش، فلا يلحقونه بالسيد، إلا إن أقر به، ويخصون الفراش بالحرة، فإذا احتج عليهم بما في هذا الحديث أن الولد للفراش قالوا: ما كانت أمة , بل كانت حرة، فأشار البخاري إلى رد حجتهم هذه بما ذكره.

وتعلَّق الأئمة بأحاديث. أصحُّها حديثان: أحدهما: حديث أبي سعيد في سؤالهم عن العزل كما سيأتي شرحه (¬1). وممن تعلَّق به النسائي في " السنن " فقال: باب ما يستدل به على منع بيع أم الولد. فساق حديث أبي سعيد. ثم ساق حديث عمرو بن الحارث الخزاعي كما في البخاري، قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبداً ولا أمةً " الحديث. ووجه الدلالة من حديث أبي سعيد أنهم قالوا: " إنا نصيب سبايا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل "؟ وهذا لفظ البخاري. قال البيهقي: لولا أنَّ الاستيلاء يمنع من نقل الملك , وإلَّا لم يكن لعزلهم لأجل محبة الأثمان فائدة. وللنسائي من وجه آخر عن أبي سعيد " فكان منَّا من يريد أن يتخذ أهلاً، ومنَّا من يريد البيع، فتراجعنا في العزل " الحديث. وفي رواية لمسلم " وطالت علينا العزبة , ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل ". وفي الاستدلال به نظرٌ، إذ لا تلازم بين حملهن وبين استمرار امتناع البيع، فلعلهم أحبوا تعجيل الفداء وأخذ الثمن، فلو حملت المسبية لتأخر بيعها إلى وضعها. ¬

_ (¬1) متفق عليه. انظر الحديث الأتي برقم (332) في العمدة.

ووجه الدلالة من حديث عمرو بن الحارث , أن مارية أم ولده إبراهيم كانت قد عاشت بعده، فلولا أنها خرجت عن الوصف بالرق لَما صح قوله: " أنه لم يترك أمة ". وقد ورد الحديث عن عائشة أيضاً عند ابن حبان مثله، وهو عند مسلم , لكن ليس فيه ذكر الأمة. وفي صحة الاستدلال بذلك وقفة، لاحتمال أن يكون نجز عتقها، وأما بقية أحاديث الباب فضعيفة. ويعارضها حديث جابر " كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد. والنبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ لا يرى بذلك بأسا " وفي لفظ " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فلمَّا كان عمر نهانا فانتهينا ". وقول الصحابي: " كنا نفعل " محمول على الرفع على الصحيح، وعليه جرى عمل الشيخين في صحيحهما , ولم يستند الشافعي في القول بالمنع إلَّا إلى عمر. فقال: قلتُه تقليداً لعمر. قال بعض أصحابه: لأنَّ عمر لمَّا نهى عنه فانتهوا صار إجماعاً - يعني فلا عبرة بندور المخالف بعد ذلك - ولا يتعين معرفة سند الإجماع. قوله: (هو لك يا عبد بن زمعة) كذا للأكثر، وعبد يجوز فيه الضّمّ والفتح، وأمّا ابن فهو منصوبٌ على الحالين. ووقع في روايةٍ للنّسائيّ " هو لك عبد بن زمعة " بحذف حرف النّداء.

وقرأه بعض المخالفين بالتّنوين , وهو مردود. فقد وقع في رواية يونس المعلقة في البخاري " هو لك، هو أخوك يا عبد " (¬1). ووقع لمسدّدٍ عن ابن عيينة. عند أبي داود " هو أخوك يا عبد ". (¬2) قال ابن عبد البرّ: تثبُتُ الأمة فراشاً عند أهل الحجاز. إن أقرّ سيّدها أنّه كان يلمّ بها، وعند أهل العراق إن أقرّ سيّدها بالولد. وقال المازريّ: يتعلق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه، وهو صحيح عند الشّافعيّ إذا لَم يكن له وارث سواه، وقد تعلق أصحابه بهذا الحديث , لأنّه لَم يرد أنّ زمعة ادّعاه ولداً , ولا اعترف بوطء أمّه , فكان المعوّل في هذه القصّة على استلحاق عبد بن زمعة. قال: وعندنا لا يصحّ استلحاق الأخ، ولا حجّة في هذا الحديث؛ لأنّه يمكن أن يكون ثبت عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ زمعة كان يطأ أمته فألحق الولد به , لأنّ من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء، وإنّما يصعب هذا على العراقيّين , ويعسر عليهم الانفصال عمّا قاله الشّافعيّ ¬

_ (¬1) علّقه البخاري في كتاب المغازي (4052) عقِب روايته للحديث من طريق مالك عن الزهري .. ثم قال: وقال الليث حدثني يونس عن الزهري به. قال ابن حجر في " الفتح " (8/ 24): وصله الذهلي في " الزهريات " , وساقه البخاريُّ هنا على لفظ يونس , وأورده مقروناً بطريق مالك , وفيه مخالفة شديدة له , وقد عابه الإسماعيلي , وقال: قرن بين روايتي مالك ويونس مع شدة اختلافهما. ولم يبيّن ذلك. انتهى. (¬2) وأخرجه البيهقي في " الكبرى " (6/ 142) من طريق أبي داود. ثم قال البيهقي: وهذه زيادة محفوظة، وقد رواها أيضاً يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري

لِمَا قرّرناه أنّه لَم يكن لزمعة ولدٌ من الأمة المذكورة سابقٌ، ومجرّد الوطء لا عبرة به عندهم فيلزمهم تسليم ما قال الشّافعيّ. قال: ولَمّا ضاق عليهم الأمر , قالوا الرّواية في هذا الحديث " هو لك عبدٌ بنَ زمعة " وحذف حرف النّداء بين عبد وابن زمعة , والأصل يا ابن زمعة، قالوا: والمراد أنّ الولد لا يلحق بزمعة , بل هو عبدٌ لولده؛ لأنّه وارثه ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه , لأنّها لَم ترث زمعة؛ لأنّه مات كافراً وهي مسلمةٌ. قال: وهذه الرّواية التي ذكروها غير صحيحة، ولو وردت لرددناها إلى الرّواية المشهورة، وقلنا: بل المحذوف حرف النّداء بين لك وعبد كقوله تعالى حكايةً عن صاحب يوسف حيث قال {يوسف أعرض عن هذا}. انتهى. وقد سلك الطّحاويّ فيه مسلكاً آخر , فقال: معنى قوله " هو لك " أي: يدك عليه لا أنّك تملكه، ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبيّن أمره كما قال لصاحب اللقطة " هي لك " وقال له " إذا جاء صاحبها فأدّها إليه ". قال: ولمّا كانت سودة شريكة لعبد في ذلك , لكن لَم يعلم منها تصديق ذلك ولا الدّعوى به , ألزم عبداً بما أقرّ به على نفسه، ولَم يجعل ذلك حجّة عليها فأمرها بالاحتجاب. وكلامه كلّه متعقّبٌ بالرّواية الثّانية المصرّح فيها بقوله " هو أخوك " فإنّها رفعت الإشكال، وكأنّه لَم يقف عليها، ولا على حديث ابن

الزّبير وسودة الدّالّ على أنّ سودة وافقت أخاها عبداً في الدّعوى بذلك. قوله: (الولد للفراش) أي: لمالك الفراش. وهو السيد أو الزوج. قال بن أبي جمرة: الفراش كناية عن الجماع. أي: لمن يطأ في الفراش , والكناية عن الأشياء التي يُستحى منها كثيرة في القرآن والسنة. قوله: (وللعاهر الحجر) أي: للزّاني الخيبة والحرمان، والعهر بفتحتين الزّنا، وقيل: يختصّ بالليل. ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدّعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب: له الحجر وبفيه الحجر والتّراب. ونحو ذلك. وقيل: المراد بالحجر هنا أنّه يرجم. قال النّوويّ: وهو ضعيفٌ؛ لأنّ الرّجم مختصٌّ بالمحصن، ولأنّه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنّما سيق لنفي الولد. وقال السّبكيّ: والأوّل أشبه بمساق الحديث لتعمّ الخيبة كل زانٍ، ودليل الرّجم، مأخوذ من موضع آخر فلا حاجة للتّخصيص من غير دليل. قلت: ويؤيّد الأوّل أيضاً ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه " الولد للفراش. وفي فم العاهر الحجر " وفي حديث ابن عمر عند ابن حبّان " الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب "

: بمثلثةٍ ثمّ موحّدة بينهما لامٌ وبفتح أوّله وثالثه ويكسران. قيل: هو الحجر , وقيل: دقاقه , وقيل: التّراب. قوله: (ثمّ قال لسودة: احتجبي منه) وللشيخين من رواية الليث عن الزهري " واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة ". قوله: (فلم ير سودة قطّ) وللبخاري من رواية مالك " فما رآها حتّى لقي الله " وفي رواية معمر " قالت عائشة: فوالله ما رآها حتّى ماتت " وفي رواية الليث " فلم تره سودة قطّ " يعني في المدّة التي بين هذا القول وبين موت أحدهما، وكذا لمسلمٍ من طريقه، وفي رواية ابن جريجٍ في صحيح أبي عوانة مثله. وفي رواية البخاري في حديث الليث أيضاً " فلم تره سودة بعد " وهذه إذا ضمّت إلى رواية مالك ومعمر استفيد منها أنّها امتثلت الأمر , وبالغت في الاحتجاب منه , حتّى إنّها لَم تره فضلاً عن أن يراها؛ لأنّه ليس في الأمر المذكور دلالةٌ على منعها من رؤيته. وقد استدل به الحنفيّة على أنّه لَم يلحقه بزمعة؛ لأنّه لو ألحقه به لكان أخا سودة , والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه. وأجاب الجمهور: بأنّ الأمر بذلك كان للاحتياط , لأنّه وإن حكم بأنّه أخوها لقوله في الطّرق الصّحيحة " هو أخوك يا عبد " وإذا ثبت أنّه أخو عبد لأبيه , فهو أخو سودة لأبيها، لكن لَمَّا رأى الشّبه بيّناً بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطاً. وأشار الخطّابيّ , إلى أنّ في ذلك مزيّةً لأمّهات المؤمنين؛ لأنّ لهنّ في

ذلك ما ليس لغيرهنّ، قال: والشّبه يعتبر في بعض المواطن , لكن لا يُقضى به إذا وجد ما هو أقوى منه، وهو كما يحكم في الحادثة بالقياس , ثمّ يوجد فيها نصٌّ فيترك القياس. قال: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث. وليس بالثّابت " احتجبي منه يا سودة فإنّه ليس لك بأخٍ ". وتبعه النّوويّ فقال: هذه الزّيادة باطلة مردودة. وتعقّب: بأنّها وقعت في حديث عبد الله بن الزّبير عند النّسائيّ بسندٍ حسنٍ , ولفظه: كانت لزمعة جارية يطؤها , وكان يظنّ بآخر أنّه يقع عليها , فجاءت بولدٍ يشبه الذي كان يظنّ به , فمات زمعة، فذكرت ذلك سودة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخٍ. ورجال سنده رجال الصّحيح إلَّا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل الزّبير. وقد طعن البيهقيّ في سنده فقال: فيه جرير. وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف وهو غير معروفٍ. وعلى تقدير ثبوته فلا يعارِض حديث عائشة المتّفق على صحّته. وتعقّب: بأنّ جريراً هذا لَم ينسب إلى سوء حفظٍ، وكأنّه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأنّ الجمع بينهما ممكنٌ فلا ترجيح. وبأنّ يوسف معروفٌ في موالي آل الزّبير، وعلى هذا فيتعيّن تأويله. وإذا ثبتت هذه الزّيادة , تعيّن تأويل نفي الأخوّة عن سودة على نحو ما تقدّم من أمرها بالاحتجاب منه.

ونقل ابن العربيّ في " القوانين " عن الشّافعيّ نحو ما تقدّم , وزاد: ولو كان أخاها بنسبٍ محقّقٍ لَمَا منعها كما أمر عائشة أن لَّا تحتجب من عمّها من الرّضاعة. وقال البيهقيّ: معنى قوله " ليس لك بأخٍ " إن ثبت ليس لك بأخٍ شبهاً , فلا يخالف قوله لعبدٍ " هو أخوك ". قلت: أو معنى قوله " ليس لك بأخٍ " بالنّسبة للميراث من زمعة , لأنّ زمعة مات كافراً وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة , فلا حقّ لسودة في إرثه , بل حازه عبدٌ قبل الاستلحاق. فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة فلهذا قال لعبدٍ " هو أخوك " وقال لسودة " ليس لك بأخٍ ". وقال القرطبيّ بعد أن قرّر أنّ أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط وتوقّي الشّبهات: ويحتمل: أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حقّ أمّهات المؤمنين كما قال " أفعمياوان أنتما؟ " (¬1) فنهاهما عن رؤية ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4112)، والترمذي (2778) وقال: حسن صحيح، والنسائي في " الكبرى " (9197) وغيرهم من طريق ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة حدثه , أن أم سلمة حدثته , أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احتجبا منه. فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟. وأُعلّ بالنكارة وجهالة نبهان مولى أم سلمة. قال الحافظ في " الفتح " (9/ 337): وإسناده قوي، وأكثر ما عُلّل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان. وليست بعلّة قادحة، فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة , ولم يجرحه أحدٌ لا ترد روايته. انتهى. ثم جمع بينه وبين حديث نظر عائشة إلى الحبشة المخرّج في الصحيح. وقال في " التلخيص " (3/ 315): وليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري. وقد وثّق. وعند مالك عن عائشة , أنها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنه لا ينظر إليك. قالت: لكني أنظر إليه. وقال ابن عبد البر: حديث فاطمة بنت قيس يدلُّ على جواز نظر المرأة إلى الأعمى. وهو أصحُّ من هذا. وقال أبو داود: هذا لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً بدليل حديث فاطمة. قلت: وهذا جمعٌ حسنٌ. وبه جمع المنذري في حواشيه , واستحسنه شيخنا. اهـ

الأعمى مع قوله لفاطمة بنت قيس " اعتدّي عند ابن أمّ مكتوم فإنّه أعمى " (¬1) فغلظ الحجاب في حقّهنّ دون غيرهنّ. وقد قال عياض: إنّه كان يحرم عليهنّ بعد الحجاب إبراز أشخاصهنّ , ولو كنّ مستتراتٍ إلَّا لضرورةٍ , بخلاف غيرهنّ فلا يشترط (¬2). وأيضاً فإنّ للزّوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها , فلعلَّ المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع به في الخلوة. وقال ابن حزم: لا يجب على المرأة أن يراها أخوها , بل الواجب عليها صلة رحمها، وردّ على من زعم أنّ معنى قوله " هو لك " أي: عبدٌ، بأنّه لو قضى بأنّه عبدٌ , لَمَا أمر سودة بالاحتجاب منه , إمّا لأنّ لها فيه حصّةً، وإمّا لأنّ من في الرّقّ لا يحتجب منه على القول بذلك. وقد تقدّم جواب المزنيّ عن ذلك قريباً. واستدل به بعض المالكيّة على مشروعيّة الحكم بين حكمين , وهو ¬

_ (¬1) حديث فاطمة بنت قيس تقدّم في العمدة (322) (¬2) كلام عياض رحمه الله نقله الحافظ في موضعين من الفتح. ورّده بقوله في (9/ 337): والحاصل في رد قوله. كثرة الأخبار الواردة أنَّهنَّ كنَّ يحججن ويطفن ويخرجن إلى المساجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده. انتهى

أن يأخذ الفرع شبهاً من أكثر من أصلٍ فيعطى أحكاماً بعدد ذلك، وذلك أنّ الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النّسب والشّبه يقتضي إلحاقه بعتبة , فأعطى الفرع حكماً بين حكمين فروعي الفراش في النّسب والشّبه البيّن في الاحتجاب. قال: وإلحاقه بهما، ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كلّ وجه. قال ابن دقيق العيد: ويعترض على هذا بأنّ صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيّين , وهنا الإلحاق شرعيٌّ للتّصريح بقوله " الولد للفراش " فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلاً؛ لأنّه يناقض الإلحاق , فتعيّن أنّه للاحتياط لا لوجوب حكمٍ شرعيٍّ، وليس فيه إلَّا ترك مباحٍ مع ثبوت المحرميّة. واستدل به على أنّ حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن , كما لو حكم بشهادةٍ فظهر أنّها زورٌ؛ لأنّه حكم بأنّه أخو عبدٍ , وأمر سودة بالاحتجاب بسبب الشّبه بعتبة، فلو كان الحكم يحل الأمر في الباطن لَمَا أمرها بالاحتجاب. واستدل به. وهو القول الأول. على أنّ لِوطء الزّنا حكمَ وطء الحلال في حرمة المصاهرة , وهو قول الجمهور. ووجه الدّلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنّه أخوها لأجل الشّبه بالزّاني.

القول الثاني: قال مالك في المشهور عنه والشّافعيّ: لا أثر لوطء الزّنا , بل للزّاني أن يتزوّج أمّ التي زنى بها وبنتها. وزاد الشّافعيّ ووافقه ابن الماجشون: والبنت التي تلدها المزنيّ بها، ولو عرفت أنّها منه. قال النّوويّ: وهذا احتجاجٌ باطلٌ؛ لأنّه على تقدير أن يكون من الزّنا فهو أجنبيٌّ من سودة لا يحل لها أن تظهر له. سواءٌ ألحق بالزّاني أم لا , فلا تعلق له بمسألة البنت المخلوقة من الزّنا. كذا قال , وهو ردٌّ للفرع بردّ الأصل، وإلا فالبناء الذي بنوه صحيحٌ. وقد أجاب الشّافعيّة عنه: بما تقدّم أنّ الأمر بالاحتجاب للاحتياط، ويحمل الأمر في ذلك إمّا على النّدب، وإمّا على تخصيص أمّهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير النّدب فالشّافعيّ قائل به في المخلوقة من الزّنا، وعلى التّخصيص فلا إشكال. والله أعلم. ويلزم مَن قال بالوجوب أن يقول به في تزويج البنت المخلوقة من ماء الزّنا , فيجيز عند فقد الشّبه ويمنع عند وجوده. واستدل به على صحّة ملك الكافر الوثنيّ الأمة الكافرة، وأنّ حكمها بعد أن تلد من سيّدها حكم القنّ؛ لأنّ عبداً وسعداً أطلقا عليها أمة ووليدة، ولَم ينكر ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كذا أشار إليه البخاريّ في كتاب العتق , عقب هذا الحديث بعد أن ترجم له " أمّ الولد " ولكنّه ليس في أكثر النُّسخ.

وأجيب: بأنّ عتق أمّ الولد بموت السّيّد ثبت بأدلةٍ أخرى. وقيل: إنّ غرض البخاريّ بإيراده أنّ بعض الحنفيّة لَمَّا ألزم أنّ أمّ الولد المتنازع فيه كانت حرّة ردّ ذلك، وقال: بل كانت عتقت، وكأنّه قد ورد في بعض طرقه أنّها أمةٌ. فمن ادّعى أنّها عتقت فعليه البيان. تكملةٌ: حديث " الولد للفراش ". قال ابن عبد البرّ: هو من أصحّ ما يروى عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جاء عن بضعةٍ وعشرين نفساً من الصّحابة. فذكره البخاريّ عن أبي هريرة وعائشة. وقال التّرمذيّ عقب حديث أبي هريرة: وفي الباب عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزّبير وعبد الله بن عمرو وأبي أُمامة وعمرو بن خارجة والبراء وزيد بن أرقم. انتهى وزاد شيخنا عليه معاوية وابن عمر. وزاد أبو القاسم بن منده في " تذكرته " معاذ بن جبل وعبادة بن الصّامت وأنس بن مالك وعليّ بن أبي طالب والحسين بن عليّ وعبد الله بن حذافة وسعد بن أبي وقّاصٍ وسودة بنت زمعة. ووقع لي من حديث ابن عبّاس وأبي مسعود البدريّ وواثلة بن الأسقع وزينب بنت جحش، وقد رقمت عليها علامات من أخرجها من الأئمّة فـ طب علامة الطّبرانيّ في " الكبير "، وطس علامته في " الأوسط "، وبز علامة البزّار، وص علامة أبي يعلى الموصليّ، وتم علامة تمّام في " فوائده ".

وجميع هؤلاء وقع عندهم " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". ومنهم من اقتصر على الجملة الأولى، وفي حديث عثمان قصّة، وكذا عليّ. وفي حديث معاوية قصّة أخرى له مع نصر بن حجّاج وعبد الرّحمن بن خالد بن الوليد , فقال له نصر: فأين قضاؤك في زياد؟ فقال: قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من قضاء معاوية ". وفي حديث أبي أُمامة وابن مسعود وعبادة أحكامٌ أخرى، وفي حديث عبد الله بن حذافة قصّةٌ له في سؤاله عن اسم أبيه. وفي حديث ابن الزّبير قصّة نحو قصّة عائشة باختصارٍ. وقد أشرتُ إليه، وفي حديث سودة نحوه. ولَم تسمّ في رواية أحمد , بل قال " عن بنت زمعة ". وفي حديث زينب قصّة. ولَم يُسمَّ أبوها , بل فيه " عن زينب الأسديّة " وبالله التّوفيق. وجاء من مرسل عبيد بن عمير - وهو أحد كبار التّابعين - أخرجه ابن عبد البرّ بسندٍ صحيحٍ إليه. تكميل آخر: قال البخاري (باب إثم من انتفى من ولده) أورد فيه حديث عائشة في قصّة مخاصمة سعد بن أبي وقّاص وعبد بن زمعة. وقد خفي توجيه هذه التّرجمة لهذا الحديث. ويحتمل: أن يخرّج على أنّ عتبة بن أبي وقّاص مات مسلماً , وأنّ الذي حمله على أن يوصي أخاه بأخذ ولد وليدة زمعة خشية أن يكون

سكوته عن ذلك مع اعتقاده أنّه ولده يتنزّل منزلة النّفي، وكان سمع ما ورد في حقّ من انتفى من ولده من الوعيد , فعهد إلى أخيه أنّه ابنه وأمره باستلحاقه. وعلى تقدير أن يكون عتبة مات كافراً , فيحتمل أن يكون ذلك هو الحامل لسعدٍ على استلحاق ابن أخيه , ويلحق انتفاء ولد الأخ بالانتفاء من الولد , لأنّه قد يرث من عمّه كما يرث من أبيه. وقد ورد الوعيد في حقّ من انتفى من ولده من رواية مجاهد عن ابن عمر رفعه " من انتفى من ولده ليفضحه في الدّنيا , فضحه الله يوم القيامة " الحديث، وفي سنده الجرّاح والد وكيع مختلف فيه. وله طريق أخرى عن ابن عمر أخرجه ابن عديٍّ بلفظ " من انتفى من ولده فليتبوّأ مقعده من النّار " وفي سنده محمّد بن أبي الزّعيزعة راوية عن نافعٍ. قال أبو حاتم: منكر الحديث. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود والنّسائيّ وصحّحه ابن حبّان والحاكم بلفظ " وأيّما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه " الحديث، وفي سنده عبيد الله بن يوسف حجازيّ ما روى عنه سوى يزيد بن الهاد.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون 331 - عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليّ مسروراً، تبرق أسارير وجهه، فقال: أَلَم تري أنَّ مجزِّزاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيدٍ، فقال: إنّ بعض هذه الأقدام لمن بعضٍ. (¬1) وفي لفظ: وكان مجزِّزٌ قائفاً. (¬2) قوله: (دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه) الأسارير جمع أسرار , وهي جمع سر , وهي الخطوط التي تكون في الجبهة. قوله: (أَلَم تري أنّ مجزّزاً) وللبخاري " فقال: أَلَم تري إلى مجزّز " والمراد من الرّؤية هنا الإخبار أو العلم. وللبخاري في " مناقب زيد " من طريق ابن عيينة (¬3) عن الزّهريّ " أَلَم تسمعي ما قال المدلجيّ؟ ". وله في " صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - " من طريق إبراهيم بن محمد (¬4) عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3362 , 3525 , 6388 , 6389) ومسلم (1459) من طرق عدّة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) أخرجه مسلم (1459) من طريق يونس عن الزهري به. (¬3) كذا قال رحمه الله. والصواب أن البخاري أخرجه (3362) في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن جريج عن الزهري به. بهذا اللفظ. أمَّا رواية ابن عيينة فهي في كتاب الفرائض من البخاري (6771) بلفظ: ألم تري أنّ مجززاً المدلجي. وهي بين عَيْني الشارح , لكن لم ينتبّه لها رحمه الله. لكن لعلَّه ظنَّ أنَّ البخاريَّ أورد الحديث في موضعين عن ابن عيينة. (¬4) وهذا وهمٌ أيضاً. فقد أخرجه البخاري (3731) في " مناقب زيد " من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري به. وليس في " صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقوله هنا (بن محمد). خطأٌ لا أدري من الناسخ أم من الشارح.

الزّهريّ بلفظ " دخل عليّ قائفٌ. الحديث. وفيه. فسُرَّ بذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وأعجبه , وأخبر به عائشة ". ولمسلمٍ من طريق معمر وابن جريجٍ عن الزّهريّ " وكان مجزّز قائفاً ". (¬1) ومجزِّز بضمّ الميم وكسر الزّاي الثّقيلة. وحكي: فتحها وبعدها زاي أخرى. هذا هو المشهور. ومنهم مَن قال: بسكون الحاء المهملة وكسر الرّاء ثمّ زاي. وهو ابن الأعور بن جعدة المدلجيّ نسبة إلى مدلج بن مرّة بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك. وليس ذلك خاصّاً بهم على الصّحيح. وقد أخرج يزيد بن هارون في الفرائض بسندٍ صحيحٍ إلى سعيد بن المسيّب , أنّ عمر كان قائفاً. أورده في قصّته، وعمر قرشيّ ليس مدلجيّاً ولا أسديّاً لا أسد قريش ولا أسد خزيمة. ومجزّز المذكور هو والد علقمة بن مجزّز، وذكر مصعب الزّبيريّ والواقديّ , أنّه سُمّي مجزّزاً لأنّه كان إذا أخذ أسيراً في الجاهليّة جزّ ¬

_ (¬1) الحديث أورده مسلم (1459) من طرق عن الزهري. ثم رواه من طريق معمر وابن جريج ويونس جميعاً. ثم قال مسلم: كلهم عن الزهري، بهذا الإسناد بمعنى حديثهم، وزاد في حديث يونس: وكان مجززٌ قائفاً. فهذه الزيادة من رواية يونس فقط. كما نصَّ عليه أبو عوانة والبيهقي.

ناصيته وأطلقه، وهذا يدفع فتح الزّاي الأولى من اسمه، وعلى هذا فكان له اسم غير مجزّز. لكنّي لَم أر من ذكره. وكان مجزّز عارفاً بالقيافة، وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر , وقال: لا أعلم له روايةً. قوله: (نظر آنفاً) بالمدّ ويجوز القصر. أي: قريباً أو أقرب وقتٍ. قوله: (إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد) في رواية سفيان عن الزهري في الصحيحين " دخل عليّ فرأى أسامة بن زيد وزيداً وعليهما قطيفةٌ , قد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما ". وفي رواية إبراهيم بن سعد " وأسامة وزيد مضطجعان ". وفي هذه الزّيادة دفع توهّم من يقول: لعله حاباهما بذلك لِما عُرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة. وزيد هو مولى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو من بني كلب أُسر في الجاهليّة , فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة , فاستوهبه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منها، ذكر قصّته محمّد بن إسحاق في " السّيرة " , وأنّ أباه وعمّته أتيا مكّة فوجداه , فطلبا أن يفدياه فخيّره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين أنّ يدفعه إليهما أو يثبت عنده , فاختار أن يبقى عنده. وقد أخرج ابن منده في " معرفة الصّحابة " وتمام في " فوائده " بإسنادٍ مستغرب عن آل بيت زيد بن حارثة , أنّ حارثة أسلم يومئذٍ، وهو حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزّى الكلبيّ. وأخرج التّرمذيّ من طريق جبلة بن حارثة قال: قلت: يا رسولَ

الله، ابعث معي أخي زيداً قال: إن انطلق معك لَم أمنعه، فقال زيد: يا رسولَ الله , والله لا أختار عليك أحداً. واستشهد زيد بن حارثة في غزوة مؤتة. قوله: (وأسامة بن زيد) كانوا يسمّون أسامة حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , بكسر المهملة. أي: محبوبه لِمَا يعرفون من منزلته عنده، لأنّه كان يحبّ أباه قبله حتّى تبنّاه , فكان يقال له زيد ابن محمّد، وأمّه أمّ أيمن حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هي أمّي بعد أمّي " (¬1). وكان يجلسه على فخذه بعد أن كبر كما في البخاري عن أسامة بن زيد، - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما. مات أسامة بن زيد بالمدينة , أو بوادي القرى سنة أربع وخمسين , وقيل: قبل ذلك، وكان قد سكن المزّة من عمل دمشق مدّة. قوله: (إنّ بعض هذه الأقدام لمن بعضٍ) في رواية لهما " إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض ". ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 192) أخبرنا سليمان بن أبي شيخ. فذكره. وهذا معضل. وروى الطبراني في " الكبير " (24/ 351) وابن الجوزي في " العلل " (1/ 268) من حديث أنس , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله لفاطمة بنت أسد والدة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وسنده ضعيف

قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النّسب , أنّهم كانوا في الجاهليّة يقدحون في نسب أسامة , لأنّه كان أسود شديد السّواد , وكان أبوه زيدٌ أبيض من القطن، فلمّا قال القائف ما قال مع اختلاف اللون , سرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك , لكونه كافّاً لهم عن الطّعن فيه لاعتقادهم ذلك. وقد أخرج عبد الرّزّاق من طريق ابن سيرين، أنّ أمّ أسامة وهي أمّ أيمن مولاة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت سوداء فلهذا جاء أسامة أسود. وقد وقع في الصّحيح عن ابن شهابٍ , أنّ أمّ أيمن كانت حبشيّةً وصيفةً لعبد الله والد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطّلب فوهبها لعبد الله، وتزوّجت قبل زيدٍ عُبيداً الحبشيّ , فولدت له أيمن فكنيت به واشتهرت بذلك، وكان يقال لها: أمّ الظّباء. قال عياض: لو صحّ أنّ أمّ أيمن كانت سوداء , لَم ينكروا سواد ابنها أسامة , لأنّ السّوداء قد تلد من الأبيض أسود. قلت: يحتمل أنّها كانت صافيةً , فجاء أسامة شديد السّواد فوقع الإنكار لذلك. وفي الحديث جواز الشّهادة على المنتقبة والاكتفاء بمعرفتها من غير رؤية الوجه، وجواز اضطجاع الرّجل مع ولده في شعار واحد، وقبول شهادة من يشهد قبل أن يستشهد عند عدم التّهمة.

وسرور الحاكم لظهور الحقّ لأحد الخصمين عند السّلامة من الهوى، وتقدّم حديث أبي هريرة (¬1) في قصّة الذي قال " إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود، وفيه قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " لعله نزعه عرقٌ " تنْبيهٌ: وجه إدخال هذا الحديث في كتاب الفرائض (¬2) الرّدّ على من زعم أنّ القائف لا يعتبر قوله، فإنّ من اعتبر قوله فعمل به , لزم منه حصول التّوارث بين الملحِق والملحَق به. قوله: (وكان مجزِّزٌ قائفاً) هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر. سُمي بذلك , لأنه يقفو الأشياء. أي: يتبعها فكأنه مقلوب من القافي. قال الأصمعي: هو الذي يقفو الأثر ويقتافُه قفواً وقيافةً , والجمع القافة. كذا وقع في الغريبين والنهاية. ¬

_ (¬1) انظر الحديث الذي قبله. (¬2) أي: في صحيح البخاري. فأورده في كتاب الفرائض " باب القائف "

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون 332 - عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - , قال: ذُكر العزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ ولَم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم , فإنه ليست نفسٌ مخلوقةٌ إلَّا الله خالقها. (¬1) قوله: (ذُكر العزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في رواية للشيخين من طريق ربيعة عن محمّد بن يحيى بن حبّان عن ابن محيريزٍ عن أبي سعيد قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا لا نسأله، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ". وفي رواية يونس وشعيب عن الزهري عن ابن محيريز عند البخاري فقال: إنّا نُصيب سبياً ونحبّ المال , فكيف ترى في العزل؟. ووقع عند مسلم من طريق عبد الرّحمن بن بشر عن أبي سعيد قال: ذُكر العزل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وما ذلكم؟ قالوا: الرّجل تكون له المرأة ترضع له , فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، والرّجل تكون ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1438) من رواية مجاهد عن قزعة عن أبي سعيد - رضي الله عنه - وذكره البخاري في كتاب التوحيد مُعلّقاً. كما سيذكره الشارح. وأخرجه البخاري (2116) ومواضع أخرى. ومسلم (1438) من طريق ابن محيريز عن أبي سعيد - رضي الله عنه - نحوه مطوّلاً ومختصراً. وأخرجه مسلم (1438) من وجوه أخرى عن أبي سعيد

له الأمة , فيصيب منها ويكره أن تحمل منه ". ففي هذه الرّواية , إشارة إلى أنّ سبب العزل شيئان. أحدهما: كراهة مجيء الولد من الأمة , وهو إمّا أنفة من ذلك , وإمّا لئلا يتعذّر بيع الأمة إذا صارت أمّ ولد , وإمّا لغير ذلك. كما سأذكره بعده. الثّاني: كراهة أن تحمل الموطوءة , وهي ترضع فيضرّ ذلك بالولد المرضع. قوله: (ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ ولَم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم) في رواية مالك عن الزهري " أو إنّكم لتفعلون؟ ". هذا الاستفهام يشعر بأنّه - صلى الله عليه وسلم - ما كان اطّلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقّب على مَن قال: إنّ قول الصّحابيّ كنّا نفعل كذا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعٌ , معتلاً بأنّ الظّاهر اطّلاع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي، ففي هذا الخبر أنّهم فعلوا العزل , ولَم يعلم به حتّى سألوه عنه. نعم. للقائل أن يقول: كانت دواعيهم متوفّرة على سؤاله عن أمور الدّين، فإذا فعلوا الشّيء , وعلموا أنّه لَم يطّلع عليه , بادروا إلى سؤاله عن الحكم فيه , فيكون الظّهور من هذه الحيثيّة. ووقع في رواية ربيعة " لا عليكم أن لا تفعلوا "، ووقع في رواية مسلم من طريق أخرى عن محمّد بن سيرين عن عبد الرّحمن بن بشر عن أبي سعيد " لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك " قال ابن سيرين: قوله " لا عليكم " أقرب إلى النّهي.

وله من طريق ابن عون عن محمّد بن سيرين نحوه دون قول محمّد، قال ابن عون فحدّثت به الحسن فقال: والله لكأنّ هذا زجر. قال القرطبيّ: كأنّ هؤلاء فهموا من " لا " النّهي عمّا سألوه عنه , فكأنّ عندهم بعد " لا " حذفاً , تقديره لا تعزلوا وعليكم أن لا تفعلوا، ويكون قوله " وعليكم .. إلخ " تأكيداً للنّهي. وتعقّب: بأنّ الأصل عدم هذا التّقدير، وإنّما معناه: ليس عليكم أن تتركوا، وهو الذي يساوي أن لا تفعلوا. وقال غيره: قوله " لا عليكم أن لا تفعلوا " أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا , إلَّا إن ادّعى أنّ " لا " زائدة , فيقال الأصل عدم ذلك. ووقع في رواية مجاهد في البخاري تعليقاً. ووصلها مسلم وغيره " ذُكر العزل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم "؟ ولَم يقل لا يفعل ذلك. فأشار إلى أنّه لَم يصرّح لهم بالنّهي، وإنّما أشار أنّ الأولى ترك ذلك، لأنّ العزل إنّما كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك، لأنّ الله إن كان قدّر خلق الولد لَم يمنع العزل ذلك فقد يسبق الماء , ولا يشعر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد. ولا رادّ لِمَا قضى الله. والفرار من حصول الولد يكون لأسبابٍ: الأول: خشية علوق الزّوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقاً.

الثاني: خشية دخول الضّرر على الولد المرضع إذا كانت الموطوءة ترضعه. الثالث: فراراً من كثرة العيال إذا كان الرّجل مقلاًّ فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرّر بتحصيل الكسب. وكلّ ذلك لا يغني شيئاً. وقد أخرج أحمد والبزّار وصحّحه ابن حبّان من حديث أنس , أنّ رجلاً سأل عن العزل، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لو أنّ الماء الذي يكون منه الولد , أهرقته على صخرة , لأخرج الله منها ولداً. وله شاهدان في " الكبير للطّبرانيّ " عن ابن عبّاس , وفي " الأوسط " له عن ابن مسعود. وليس في جميع الصّور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحاً , سوى الصّورة المتقدّمة من عند مسلم في طريق عبد الرّحمن بن بشر عن أبي سعيد , وهي خشية أن يضرّ الحمل بالولد المرضع , لأنّه ممّا جُرّب فضرّ غالباً، لكن وقع في بقيّة الحديث عند مسلم , أنّ العزل بسبب ذلك لا يفيد. لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار. ووقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كان كذلك فلا، ما ضرّ ذلك فارس ولا الرّوم. وفي العزل أيضاً إدخال ضرر على المرأة لِما فيه من تفويت لذّتها. وقد اختلف السّلف في حكم العزل. قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين العلماء , أنّه لا يعزل عن الزّوجة

الحرّة إلَّا بإذنها، لأنّ الجماع من حقّها، ولها المطالبة به. وليس الجماع المعروف إلَّا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة. وتعقّب: بأنّ المعروف عند الشّافعيّة , أنّ المرأة لا حقّ لها في الجماع أصلاً، ثمّ في خصوص هذه المسألة عند الشّافعيّة خلاف مشهور في جواز العزل عن الحرّة بغير إذنها. قال الغزاليّ وغيره: يجوز، وهو المصحّح عند المتأخّرين واحتجّ الجمهور لذلك بحديث عن عمر. أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ " نهى عن العزل عن الحرّة , إلَّا بإذنها " وفي إسناده ابن لهيعة. والوجه الآخر للشّافعيّة الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان. أصحّهما الجواز. وهذا كلّه في الحرّة. وأمّا الأمة , فإن كانت زوجة , فهي مرتّبة على الحرّة إن جاز فيها. ففي الأمة أولى، وإن امتنع فوجهان , أصحّهما الجواز تحرّزاً من إرقاق الولد، وإن كانت سرّيّة جاز بلا خلاف عندهم إلَّا في وجه حكاه الرّويانيّ في المنع مطلقاً كمذهب ابن حزم. وإن كانت السّرّيّة مستولدة , فالرّاجح الجواز فيه مطلقاً , لأنّها ليست راسخة في الفراش، وقيل: حكمها حكم الأمة المزوّجة. هذا واتّفقت المذاهب الثّلاثة على أنّ الحرّة لا يعزل عنها إلَّا بإذنها , وأنّ الأمة يعزل عنها بغير إذنها. واختلفوا في المزوّجة.

فعند المالكيّة: يحتاج إلى إذن سيّدها، وهو قول أبي حنيفة، والرّاجح عن محمّد وقال أبو يوسف وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه: بإذنها، وعنه: يباح العزل مطلقاً، وعنه: المنع مطلقاً. والذي احتجّ به من جنح إلى التّفصيل لا يصحّ إلَّا عند عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس قال: تستأمر الحرّة في العزل , ولا تستأمر الأمة السّرّيّة فإن كانت أمة تحت حرّ , فعليه أن يستأمرها. وهذا نصّ في المسألة، فلو كان مرفوعاً لَم يجز العدول عنه. وقد استنكر ابن العربيّ القول بمنع العزل عمّن يقول: بأنّ المرأة لا حقّ لها في الوطء، ونقل عن مالك , أنّ لها حقّ المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها. وعن الشّافعيّ وأبي حنيفة: لا حقّ لها فيه إلَّا في وطئة واحدة يستقرّ بها المهر. قال: فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون لها حقّ في العزل؟ فإن خصّوه بالوطئة الأولى فيمكن , وإلَّا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلَّا على مذهب مالك بالشّرط المذكور. انتهى. وما نقله عن الشّافعيّ غريب، والمعروف عند أصحابه , أنّه لا حقّ لها أصلاً. نعم. جزم ابن حزم بوجوب الوطء وبتحريم العزل. واستند إلى حديث جذامة بنت وهب , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العزل؟ فقال: ذلك الوأد الخفيّ. أخرجه مسلم.

وهذا معارَض بحديثين: أحدهما: أخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان عن جابر قال: كانت لنا جواري وكنّا نعزل، فقالت اليهود: إنّ تلك الموءودة الصّغرى، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لَم تستطع ردّه. وأخرجه النّسائيّ من طريق هشام وعليّ بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمّد بن عبد الرّحمن عن أبي مطيع بن رفاعة عن أبي سعيد نحوه، ومن طريق أبي عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه، ومن طريق سليمان الأحول أنّه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرّحمن عن العزل؟ فقال: زعم أبو سعيد، فذكر نحوه، قال فسألت أبا سلمة أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجل عنه. والحديث الثّاني: في النّسائيّ من وجه آخر عن محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وهذه طرق يقوى بعضها ببعضٍ. وجُمع بينها وبين حديث جذامة. الأول: بحمل حديث جذامة , على التّنزيه. وهذه طريقة البيهقيّ. الثاني: منهم مَن ضعّف حديث جذامة , بأنّه معارض بما هو أكثر طرقاً منه، وكيف يصرّح بتكذيب اليهود في ذلك ثمّ يثبته؟ وهذا دفع للأحاديث الصّحيحة بالتّوهّم، والحديث صحيح لا

ريب فيه , والجمع ممكن. الثالث: منهم مَن ادّعى أنّه منسوخ، وردّ بعدم معرفة التّاريخ. وقال الطّحاويّ: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أوّلاً من موافقة أهل الكتاب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لَم ينزل عليه، ثمّ أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه. وتعقّبه ابن رشد ثمّ ابن العربيّ: بأنّه لا يجزم بشيءٍ تبعاً لليهود ثمّ يصرّح بتكذيبهم فيه. الرابع: منهم من رجّح حديث جذامة بثبوته في الصّحيح، وضعّف مقابله بأنّه حديث واحد اختلف في إسناده فاضطرب. ورُدّ. بأنّ الاختلاف إنّما يقدح حيث لا يقوى بعض الوجوه , فمتى قوي بعضها عمل به، وهو هنا كذلك والجمع ممكن. الخامس: رجّح ابن حزم العمل بحديث جذامة , بأنّ أحاديث غيرها توافق أصل الإباحة , وحديثها يدلّ على المنع. قال: فمن ادّعى أنّه أبيح بعد أن منع فعليه البيان. وتعقّب: بأنّ حديثها ليس صريحاً في المنع إذ لا يلزم من تسميته وأداً خفيّاً على طريق التّشبيه أن يكون حراماً. السادس: خصّه بعضهم بالعزل عن الحامل , لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يعزل من حصول الحمل، لكن فيه تضييع الحمل , لأنّ المنيّ يغذوه فقد يؤدّي العزل إلى موته , أو إلى ضعفه المفضي إلى

موته. فيكون وأداً خفيّاً. وجمعوا أيضاً بين تكذيب اليهود في قولهم الموءودة الصّغرى , وبين إثبات كونه وأداً خفيّاً في حديث جذامة , بأنّ قولهم الموءودة الصّغرى يقتضي أنّه وأد ظاهر، لكنّه صغير بالنّسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيّاً، فلا يعارض قوله إنّ العزل وأد خفيّ , فإنّه يدلّ على أنّه ليس في حكم الظّاهر أصلاً فلا يترتّب عليه حكم، وإنّما جعله وأداً من جهة اشتراكهما في قطع الولادة. السابع: قال بعضهم: قوله " الوأد الخفيّ " ورد على طريق التّشبيه , لأنّه قطع طريق الولادة قبل مجيئه , فأشبه قتل الولد بعد مجيئه. قال ابن القيّم: الذي كذبت فيه اليهود , زعمهم أنّ العزل لا يتصوّر معه الحمل أصلاً وجعلوه بمنزلة قطع النّسل بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنّه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لَم يرد خلقه لَم يكن وأداً حقيقة، وإنّما سمّاه وأداً خفيّاً في حديث جذامة , لأنّ الرّجل إنّما يعزل هرباً من الحمل , فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكنّ الفرق بينهما أنّ الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفاً فلذلك وصفه بكونه خفيّاً. فهذه عدّة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع. وقد جنح إلى المنع من الشّافعيّة ابن حبّان , فقال في صحيحه " ذِكر الخبر الدّالّ على أنّ هذا الفعل مزجور عنه لا يباح استعماله " ثمّ ساق حديث أبي ذرّ رفعه " ضعه في حلاله وجنّبه حرامه وأقرره، فإن شاء

الله أحياه وإن شاء أماته , ولك أجر " انتهى. ولا دلالة فيما ساقه على ما ادّعاه من التّحريم , بل هو أمر إرشاد , لِمَا دلَّت عليه بقيّة الأخبار. والله أعلم. وعند عبد الرّزّاق وجه آخر عن ابن عبّاس , أنّه أنكر أن يكون العزل وأداً , وقال: المنيّ يكون نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظماً ثمّ يكسى لحماً، قال: والعزل قبل ذلك كلّه. وأخرج الطّحاويّ من طريق عبد الله بن عديّ بن الخِيَار عن عليّ نحوه في قصّة حرب عند عمر وسنده جيّد. واختلفوا في عِلَّة النّهي عن العزل: فقيل: لتفويت حقّ المرأة. وقيل: لمعاندة القدر. وهذا الثّاني هو الذي يقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، والأوّل مبنيّ على صحّة الخبر المفرّق بين الحرّة والأمة. وقال إمام الحرمين: موضع المنع أنّه ينزع بقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق ومتى فقد ذلك لَم يمنع، وكأنّه راعى سبب المنع , فإذا فقد بقي أصل الإباحة فله أن ينزع متى شاء , حتّى لو نزع فأنزل خارج الفرج اتّفاقاً لَم يتعلق به النّهي. والله أعلم. وينتزع من حكم العزل. حكم معالجة المرأة إسقاط النّطفة قبل نفخ الرّوح، فمَن قال بالمنع هناك ففي هذه أولى، ومَن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا.

ويمكن أن يفرّق بأنّه أشدّ , لأنّ العزل لَم يقع فيه تعاطي السّبب , ومعالجة السّقط تقع بعد تعاطي السّبب. ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، وقد أفتى بعض متأخّري الشّافعيّة بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقاً. والله أعلم واستدل بقوله في حديث أبي سعيد " وأصبنا كرائم العرب , وطالت علينا العزبة , وأردنا أن نستمتع وأحببنا الفداء " لمن أجاز استرقاق العرب وهي مسألةٌ مشهورةٌ. والجمهور. على أنّ العربيّ إذا سبي جاز أن يسترقّ، وإذا تزوّج أمةً بشرطه كان ولدها رقيقاً. وذهب الأوزاعيّ والثّوريّ وأبو ثور , إلى أنّ على سيّد الأمة تقويم الولد , ويُلزم أبوه بأداء القيمة , ولا يسترقّ الولد أصلاً. وقد جنح البخاري إلى الجواز. واستدل به من أجاز وطء المشركات بملك اليمين , وإن لَم يكنّ من أهل الكتاب , لأنّ بني المصطلق كانوا أهل أوثان. وقد انفصل عنه مَن منَعَ. باحتمال: أن يكونوا ممّن دان بدين أهل الكتاب وهو باطل. وباحتمال: أن يكون ذلك في أوّل الأمر ثمّ نسخ. وفيه نظرٌ. إذ النّسخ لا يثبت بالاحتمال. وباحتمال: أن تكون المسبيّات أسلمن قبل الوطء , وهذا لا يتمّ مع

قوله في الحديث " وأحببنا الفداء " فإنّ المسلمة لا تعاد للمشرك. نعم. يمكن حمل الفداء على معنى أخصّ , وهو أنّهنّ يفدين أنفسهنّ فيعتقن من الرّقّ، ولا يلزم منه إعادتهنّ للمشركين. وحمله بعضهم على إرادة الثّمن , لأنّ الفداء المتخوّف من فوته هو الثّمن. ويؤيّد هذا الحمل قوله في رواية البخاري " فقال: يا رسولَ الله , إنّا أصبنا سبياً , ونحبّ الأثمان , فكيف ترى في العزل "؟ وهذا أقوى من جميع ما تقدّم، والله أعلم قوله: (فإنه ليست نفسٌ مخلوقةٌ إلَّا الله خالقها) في رواية مالك " ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة، إلَّا هي كائنةٌ ". وفي رواية موسى بن عقبة عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عند البخاري " فإنّ الله قد كتب من هو خالقٌ إلى يوم القيامة ". وفي الحديث أنّ أفعال العباد وإن صدرت عنهم , لكنّها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدريّة صريحاً. قوله: (خالقها) قال بن بطّالٍ: الخالق في هذا الباب يراد به المبدع المنشىء لأعيان المخلوقين , وهو معنىً لا يشارك اللهَ فيه أحدٌ. قال: ولَم يزل الله مسمّياً نفسه خالقاً على معنى أنّه سيخلق لاستحالةٍ قدم الخلق. وقال الكرمانيّ: معنى قوله في الحديث " إلَّا وهي مخلوقةٌ " أي: مقدّرة الخلق أو معلومة الخلق عند الله لا بدّ من إبرازها إلى الوجود.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب. قال الطّيبيّ: قيل: إنّ الألفاظ الثّلاثة في قوله تعالى {هو الله الخالق البارئ المصور} مترادفة، وهو وهمٌ فإنّ " الخالق " من الخلق، وأصله التّقدير المستقيم , ويطلق على الإبداع وهو إيجاد الشّيء على غير مثال كقوله تعالى {خلق السّماوات والأرض} , وعلى التّكوين كقوله تعالى {خلق الإنسان من نطفة}. و" البارئ " من البرء، وأصله خلوص الشّيء عن غيره , إمّا على سبيل التّقصّي منه، وعليه قولهم برئ فلان من مرضه، والمديون من دينه، ومنه استبرأت الجارية، وإمّا على سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النّسمة. وقيل: البارئ الخالق البريء من التّفاوت والتّنافر المخلين بالنّظام. و" المصوّر " مبدعُ صورِ المخترعاتِ ومرتّبها بحسب مقتضى الحكمة، فالله خالق كلّ شيء بمعنى أنّه موجده من أصل ومن غير أصل، وبارئه بحسب ما اقتضته الحكمة من غير تفاوت ولا اختلال، ومصوّره في صورة يترتّب عليها خواصّه ويتمّ بها كماله، والثّلاثة من صفات الفعل , إلَّا إذا أريد بالخالق المقدّر , فيكون من صفات الذّات؛ لأنّ مرجع التّقدير إلى الإرادة، وعلى هذا فالتّقدير يقع أوّلاً، ثمّ الإحداث على الوجه المقدّر يقع ثانياً، ثمّ التّصوير بالتّسوية يقع ثالثاً. انتهى. وقال الرّاغب: ليس الخلق بمعنى الإبداع إلَّا لله , وإلى ذلك أشار

بقوله تعالى {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وأمّا الذي يوجد بالاستحالة , فقد وقع لغيره بتقديره سبحانه وتعالى، مثل قوله لعيسى {وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير بإذني} والخلق في حقّ غير الله , يقع بمعنى التّقدير وبمعنى الكذب. و" البارئ " أخصّ بوصف الله تعالى. والبريّة الخلق، قيل: أصله الهمز فهو من برّأ. وقيل: أصله البري من بريت العود. وقيل: البريّة من البرى بالقصر وهو التّراب , فيحتمل أن يكون معناه موجد الخلق من البرى. وهو التّراب. و" المصوّر " معناه المهيّئ قال تعالى {يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} والصّورة في الأصل ما يتميّز به الشّيء عن غيره، ومنه محسوس كصورة الإنسان والفرس، ومنه معقول كالذي اختصّ به الإنسان من العقل والرّؤية , وإلى كلّ منهما الإشارة بقوله تعالى {خلقناكم ثمّ صوّرناكم} وقوله {وصوّركم فأحسن صوركم} وقوله {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء}.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون 333 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , قال: كنا نعزل والقرآن ينزل، لو كان شيئاً ينهى عنه، لنهانا عنه القرآن (¬1) قوله: (كنّا نعزل والقرآن ينزل) وقع في رواية الكشميهنيّ " كان يُعزل " بضمّ أوّله وفتح الزّاي على البناء للمجهول. وللبخاري من رواية ابن جريج عن عطاء عن جابر قال: كنا نعزل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وله من رواية سفيان عن عمرو عن عطاء عن جابر: كنّا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ينزل ". زاد إبراهيم بن موسى في روايته عن سفيان أنّه قال حين روى هذا الحديث: أي: لو كان حراماً لنزل فيه. وقد أخرج مسلم هذه الزّيادة عن إسحاق بن راهويه عن سفيان فساقه بلفظ " كنّا نعزل , والقرآن ينزل. قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن، فهذا ظاهر في أنّ سفيان قاله استنباطاً. وأوهم كلام صاحب " العمدة " ومن تبعه , أنّ هذه الزّيادة من نفس الحديث فأدرجها، وليس الأمر كذلك , فإنّي تتبّعته من المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزّيادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4911 , 4912) ومسلم (1440) من طرق عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه - وقوله: (لو كان شيئاً .. إلى آخره) هو من كلام سفيان كما في صحيح مسلم. وسينبّه عليه الشارح. وقد تقدَّمت ترجمة جابر - رضي الله عنه - رقم (39).

وشرحه ابن دقيق العيد على ما وقع في " العمدة " فقال: استدلال جابر بالتّقرير من الله غريبٌ، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرّسول , لكنّه مشروط بعلمه بذلك. انتهى ويكفي في علمه به قول الصّحابيّ إنّه فعله في عهده، والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث. وهي أنّ الصّحابيّ إذا أضافه إلى زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , كان له حكم الرّفع عند الأكثر، لأنّ الظّاهر أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على ذلك وأقرّه , لتوفّر دواعيهم على سؤالهم إيّاه عن الأحكام. وإذا لَم يضفه فله حكم الرّفع عند قوم، وهذا من الأوّل , فإنّ جابراً صرّح بوقوعه في عهده - صلى الله عليه وسلم - , وقد وردت عدّة طرق تصرّح باطّلاعه على ذلك. والذي يظهر لي أنّ الذي استنبط ذلك. سواء كان هو جابراً أو سفيان , أراد بنزول القرآن ما يُقرأ، أعمّ من المتعبّد بتلاوته أو غيره ممّا يوحى إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فكأنّه يقول: فعلناه في زمن التّشريع ولو كان حراماً لَم نقرّ عليه. وإلى ذلك يشير قول ابن عمر: كنّا نتّقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمّا مات النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , تكلَّمنا وانبسطنا. أخرجه البخاريّ. وقد أخرجه مسلم أيضاً من طريق أبي الزّبير عن جابر قال: كنّا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فبلغ ذلك نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا.

ومن وجه آخر عن أبي الزّبير عن جابر , أنّ رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّ لي جارية وأنا أطوف عليها , وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنّه سيأتيها ما قدّر لها. فلبث الرّجل ثمّ أتاه فقال: إنّ الجارية قد حبلت، قال: قد أخبرتك. ووقعت هذه القصّة عنده من طريق سفيان بن عيينة بإسنادٍ له آخر إلى جابر وفي آخره " فقال: أنا عبد الله ورسوله ". وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة بسندٍ آخر على شرط الشّيخين بمعناه. ففي هذه الطّرق ما أغنى عن الاستنباط، فإنّ في إحداها التّصريح باطّلاعه - صلى الله عليه وسلم - , وفي الأخرى إذنه في ذلك , وإن كان السّياق يشعر بأنّه خلاف الأولى. كما تقدّم البحث فيه. (¬1) ¬

_ (¬1) تقدّم مبسوطاً في الحديث الماضي.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون 334 - عن أبي ذرٍ - رضي الله عنه - , أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس من رجلٍ ادّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلَّا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منّا، وليتبوّأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: يا عدوّ الله، وليس كذلك إلَّا حار عليه. كذا عند مسلم. (¬1) وللبخاري نحوه (¬2). قال المصنِّف: وحار: بمعنى رجع. قوله: (عن أبي ذرٍ - رضي الله عنه -) هو جندب. وقيل: بريد , ابن جنادة - بضم الجيم والنون الخفيفة - ابن سفيان , وقيل: سَفير. ابن عبيد بن حرام - بالمهملتين - ابن غفار، وغفار من بني كنانة. (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3317 , 5698) ومسلم (61) من طريق حسين المعلم عن ابن بُريدة عن يحيى بن يعمر , أنَّ أبا الأسود حدَّثه عن أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري في موضعين. أمّا الأول ففي " المناقب " (3317) بلفظ " ليس من رجل ادعى لغير أبيه - وهو يعلمه - إلَّا كفر، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب، فليتبوأ مقعده من النار ". والموضع الآخر في " الأدب " (5698) بلفظ " لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلَّا ارتدَّت عليه، إن لَم يكن صاحبه كذلك ". أخرجه في الموضعين عن شيخه أبي معمر حدثنا عبد الوارث عن الحسين به ... . قال ابن حجر في الفتح: هو حديث واحدٌ فرّقه البخاري حديثين. (¬3) يقال: إنَّ إسلامه كان بعد أربعة , وانصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ومضت بدرٌ وأحدٌ , ولم تتهيأ له الهجرة إلَّا بعد ذلك , وكان طويلاً أسمر اللون نحيفاً. وقال أبو قلابة عن رجل من بني عامر: دخلت مسجد منى فإذا شيخ معروقُ آدم عليه حلة قطري فعرفتُ أنه أبو ذر بالنعت. وفي مسند يعقوب بن شيبة من رواية سلمة بن الأكوع: أنَّ أبا ذر كان طويلاً. قال أبو إسحاق السبيعي: عن هانئ بن هانئ عن علي: أبو ذر وعاء مليء علماً ثم أوكىء عليه. أخرجه أبو داود بسند جيد. وأخرجه أبو داود أيضاً وأحمد عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما أقلَّت الغبراء , ولا أظلَّت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر. وفي الباب عن علي وأبي الدرداء وأبي هريرة وجابر وأبي ذر. ذكر طرقها ابن عساكر في ترجمته. وفاته بالربذة سنة 31. وقيل في التي بعدها. وعليه الأكثر , ويقال: إنه صلَّى عليه عبد الله بن مسعود في قصة رويت بسند لا بأس به , وقال المدائني: إنه صلَّى عليه ابن مسعود بالربذة ثم قدم المدينة فمات بعده بقليل. من الإصابة بتجوز.

قوله: (ليس من رجلٍ) من زائدة، والتّعبير بالرّجل للغالب وإلا فالمرأة كذلك حكمها. قوله: (ادّعى لغير أبيه , وهو يعلمه إلَّا كفر) وللبخاري " إلَّا كفر بالله " كذا وقع هنا كفر بالله ولَم يقع قوله: " بالله " في غير رواية أبي ذرّ (¬1) , ولا في رواية مسلم ولا الإسماعيليّ وهو أولى. وإن ثبت ذاك فالمراد من استحل ذلك مع علمه بالتّحريم. وعلى الرّواية المشهورة فالمراد كفر النّعمة، وظاهر اللفظ غير مراد , وإنّما ورد على سبيل التّغليظ والزّجر لفاعل ذلك. أو المراد بإطلاق الكفر أنّ فاعله فعل فعلاً شبيهاً بفعل أهل الكفر , خلافاً للخوارج الذين يكفّرون بالذّنوب. ونصّ القرآن يردّ عليهم , وهو قوله تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن ¬

_ (¬1) هو عبد بن أحمد الهروي , سبق ترجمته (1/ 114)

يشاء} فصيّر ما دون الشّرك تحت إمكان المغفرة , والمراد بالشّرك في هذه الآية الكفر , لأنّ من جحد نبوّة محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مثلاً , كان كافراً. ولو لَم يجعل مع الله إلهاً آخر , والمغفرة منتفيةٌ عنه بلا خلافٍ , وقد يرد الشّرك , ويراد به ما هو أخصّ من الكفر كما في قوله تعالى {لَم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}. تكملة: روى الشيخان عن أبي هريرة رفعه: لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه عند أحمد " كفرٌ بالله تبرؤ من نَسَبٍ وإنْ دقَّ ". وله شاهد عن أبي بكر الصديق. أخرجه الطبراني. قال ابن بطال: ليس معنى هذين الحديثين أن من اشتهر بالنسبة إلى غير أبيه أن يدخل في الوعيد كالمقداد بن الأسود، وإنما المراد به من تحول عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالما عامداً مختاراً. وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه حتى نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} وقوله سبحانه وتعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} فنسبَ كلَّ واحدٍ إلى أبيه الحقيقي , وترك الانتساب إلى من تبنَّاه , لكن بقي بعضهم مشهوراً بمن تبنَّاه فيذكر به لقصد التعريف لا لقصد النسب الحقيقي كالمقداد بن الأسود، وليس الأسود أباه، وإنما كان تبناه. واسم أبيه الحقيقي عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني، وكان أبوه حليف كندة فقيل له الكندي، ثم حالف هو

الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبنى المقدادَ. فقيل له ابن الأسود. انتهى ملخصاً موضحاً. وقوله: (ومن ادّعى ما ليس له فليس منّا) وللبخاري " ومن ادّعى قوماً ليس له فيهم نسب ". ورواية مسلم أعمّ ممّا تدلّ عليه رواية البخاريّ، على أنّ لفظة " نسب " وقعت في رواية الكشميهنيّ دون غيره , ومع حذفها يبقى متعلق الجارّ والمجرور محذوفاً فيحتاج إلى تقدير، ولفظ " نسب " أولى ما قُدّر لوروده في بعض الرّوايات. قوله: (وليتبوّأ مقعده من النار) أي: ليتّخذ منزلاً من النّار، يقال: تبوّأ الرّجل المكان إذا اتّخذه سكناً وهو أمر بمعنى الخبر أيضاً، أو بمعنى التّهديد، أو بمعنى التّهكّم، أو دعاء على فاعل ذلك. أي: بوّأه الله ذلك. ومعناه هذا جزاؤه إن جوزي، وقد يعفى عنه، وقد يتوب فيسقط عنه. وفي الحديث تحريم الانتفاء من النّسب المعروف والادّعاء إلى غيره، وقُيّد في الحديث بالعلم , ولا بدّ منه في الحالتين إثباتاً ونفياً , لأنّ الإثم إنّما يترتّب على العالم بالشّيء المتعمّد له. وفيه جواز إطلاق الكفر على المعاصي لقصد الزّجر كما قرّرناه. ويؤخذ من رواية مسلم , تحريم الدّعوى بشيء ليس هو للمدّعي، فيدخل فيه الدّعاوي الباطلة كلّها مالاً وعلماً وتعلماً ونسباً وحالاً

وصلاحاً ونعمة وولاء وغير ذلك، ويزداد التّحريم بزيادة المفسدة المترتّبة على ذلك. واستدل به ابن دقيق العيد للمالكيّة , في تصحيحهم الدّعوى على الغائب بغير مسخّر (¬1) لدخول المسخّر في دعوى ما ليس له وهو يعلم أنّه ليس له، والقاضي الذي يقيمه أيضاً يعلم أنّ دعواه باطلة. قال: وليس هذا القانون منصوصاً في الشّرع حتّى يخصّ به عموم هذا الوعيد، وإنّما المقصود إيصال الحقّ لمستحقّه فترك مراعاة هذا القدر، وتحصيل المقصود من إيصال الحقّ لمستحقّه أولى من الدّخول تحت هذا الوعيد العظيم. قوله: (ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: يا عدوّ الله، وليس كذلك إلَّا حار عليه) وللبخاري " لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق , ولا يرميه بالكفر إلَّا ارتدّت عليه , إن لَم يكن صاحبه كما قال " وفي رواية للإسماعيليّ " إلَّا ارتدّت عليه " يعني رجعت عليه. و " حار " بمهملتين أي: رجع. وهذا يقتضي أنّ مَن قال لآخر: أنت فاسق , أو قال له: أنت كافر , فإن كان ليس كما قال , كان هو المستحقّ للوصف المذكور، وأنّه إذا كان كما قال , لَم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم ¬

_ (¬1) قال في " معجم لغة الفقهاء " (1/ 428): المُسخَّر: بضم الميم وتشديد الخاء من سخَّر المكلّف بعمل بغير أجر مَن ينصبه القاضي وكيلاً عن الغائب للدفاع عنه. لتستقيم الخصومة.

من كونه لا يصير بذلك فاسقاً ولا كافراً أن لا يكون آثماً في صورة قوله له , أنت فاسق. بل في هذه الصّورة تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لَم يجز؛ لأنّه مأمور بالسّتر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرّفق , لا يجوز له أن يفعله بالعنف , لأنّه قد يكون سبباً لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من النّاس من الأنفة، ولا سيّما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة. ووقع في رواية مسلم بلفظ " ومن دعا رجلاً بالكفر , أو قال عدوّ الله , وليس كذلك إلَّا حار عليه ". وقد أخرج البخاري هذا المتن من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر بلفظ " فقد باء بها أحدهما " (¬1) وهو بمعنى رجع أيضاً. قال النّوويّ: اختلف في تأويل هذا الرّجوع. فقيل: رجع عليه الكفر إن كان مستحلاً، وهذا بعيد من سياق الخبر. وقيل: محمول على الخوارج , لأنّهم يكفّرون المؤمنين. هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف. لأنّ الصّحيح عند الأكثرين , أنّ ¬

_ (¬1) ولفظه: أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما. زاد مسلم: إن كان كما قال وإلَّا رجعت إاليه. أخرجاه من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

الخوارج لا يكفرون ببدعتهم. قلت: ولِما قاله مالك وجهٌ، وهو أنّ منهم من يكفّر كثيراً من الصّحابة ممّن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنّة وبالإيمان , فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشّهادة المذكورة , لا من مجرّد صدور التّكفير منهم بتأويل. والتّحقيق: أنّ الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم. وقيل: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، وهذا لا بأس به. وقيل: يخشى عليه أن يئول به ذلك إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر فيخاف على من أدامها وأصرّ عليها سوء الخاتمة. وأرجح من الجميع , أنّ مَن قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام , ولَم يقم له شبهة في زعمه أنّه كافر , فإنّه يكفر بذلك. كما سيأتي تقريره. فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالرّاجع التّكفير لا الكفر، فكأنّه كفَّر نفسه لكونه كفَّر مَن هو مثله، ومن لا يكفّره إلَّا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام. ويؤيّده أنّ في بعض طرقه " وجب الكفر على أحدهما ". (¬1) ¬

_ (¬1) أي طرق حديث ابن عمر في الصحيحين المذكور في الشرح. وليس حديث الباب. وقد أخرجه بهذا اللفظ: أبو عوانة في " مستخرجه على مسلم " (53) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار (855) والطبراني في " الأوسط " (111) وغيرهم من طريق بكير بن الأشج عن نافع عن ابن عمر به. وهو في صحيح مسلم (60) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع. بلفظ " باء بها .. " كما تقدَّم. وكذا أخرجاه من وجه آخر عن ابن عمر بهذا اللفظ. كما تقدَّم.

وقال القرطبيّ: حيث جاء الكفر في لسان الشّرع , فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضّرورة الشّرعيّة، وقد ورد الكفر في الشّرع بمعنى جحد النّعم , وترك شكر المنعم والقيام بحقّه كما تقدّم تقريره. (¬1) قال: وقوله " باء بها أحدهما " أي: رجع بإثمها ولازم ذلك، وأصل البوء اللزوم، ومنه: " أبوء بنعمتك " أي: ألزمها نفسي وأقرّ بها. قال: والهاء في قوله: " بها " راجع إلى التّكفيرة الواحدة التي هي أقل ما يدلّ عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة. والحاصل أنّ المقول له إن كان كافراً كفراً شرعيّاً فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لَم يكن رجعت للقائل معرّة ذلك القول وإثمه. كذا اقتصر على هذا التّأويل في رجع، وهو من أعدل الأجوبة. وقد أخرج أبو داود عن أبي الدّرداء بسندٍ جيّد رفعه: إنّ العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السّماء، فتغلق أبواب السّماء دونها، ثمّ تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لَم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها. ¬

_ (¬1) انظر حديث جابر في العيدين رقم (149) وجاء أيضاً في حديث أبي سعيد في البخاري (304).

وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسندٍ حسن , وآخر عند أبي داود والتّرمذيّ عن ابن عبّاس. ورواته ثقات، ولكنّه أعل بالإرسال.

كتاب الرضاع

كتاب الرّضاع الحديث الواحد والثلاثون 335 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة: لا تحل لي، يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة. (¬1) قوله: (بنت حمزة) اسمها عمارة , وقيل: فاطمة , وقيل: أُمامة , وقيل: أمة الله , وقيل: سلمى، وقيل: عائشة , وقيل: يعلى. والأوّل هو المشهور. وذكر الحاكم في " الإكليل " وأبو سعيد في " شرف المصطفى " من حديث ابن عبّاس بسندٍ ضعيفٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان آخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وأنّ عمارة بنت حمزة كانت مع أمّها بمكّة. وحكى المزّيّ في أسمائها أمّ الفضل , لكن صرّح ابن بشكوالٍ بأنّها كنية. قوله: (يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب) قال العلماء: يستثنى من عموم قوله " يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب " أربع نسوة يحرمن في النّسب مطلقاً. وفي الرّضاع قد لا يَحرُمن: الأولى: أمّ الأخ في النّسب حرام , لأنّها إمّا أمّ وإمّا زوج أب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4812 , 2502) ومسلم (1447) من طريق قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

وفي الرّضاع قد تكون أجنبيّة فترضع الأخ فلا تحرم على أخيه. الثّانية: أمّ الحَفِيد. حرام في النّسب , لأنّها إمّا بنت أو زوج ابن. وفي الرّضاع قد تكون أجنبيّة فترضع الحَفِيد فلا تحرم على جدّه. الثّالثة: جدّة الولد في النّسب حرام , لأنّها إمّا أمّ أو أمّ زوجة. وفي الرّضاع قد تكون أجنبيّة أرضعت الولد فيجوز لوالده أن يتزوّجها. الرّابعة: أخت الولد حرام في النّسب , لأنّها بنت أو ربيبة. وفي الرّضاع قد تكون أجنبيّة فترضع الولد فلا تحرم على الوالد. وهذه الصّور الأربع اقتصر عليها جماعة. ولَم يستثن الجمهور شيئاً من ذلك. وفي التّحقيق لا يستثنى شيء من ذلك , لأنّهنّ لَم يحرمن من جهة النّسب , وإنّما حُرمْن من جهة المصاهرة. واستدرك بعض المتأخّرين. أمّ العمّ وأمّ العمّة وأمّ الخال وأمّ الخالة , فإنّهنّ يحرمن في النّسب لا في الرّضاع , وليس ذلك على عمومه. والله أعلم قوله: (وهي ابنة أخي من الرضاعة) قال مصعب الزّبيريّ: كانت ثويبة أرضعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعدما أرضعت حمزة ثمّ أرضعت أبا سلمة. (¬1) ¬

_ (¬1) تقدّم ذكرها في حديث أم حبيبة رضي الله عنها مبسوطاً برقم (310) من العمدة. وانظر بقيّة مباحث الحديث في الذي بعده.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون 336 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الرضاعة تحرّم ما يَحرُم من الولادة (¬1). قوله: (إنّ الرضاعة تحرّم ما يَحرُم من الولادة) أي: وتبيح ما تبيح، وهو بالإجماع فيما يتعلق بتحريم النّكاح وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرّضيع وأولاد المرضعة وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النّظر والخلوة والمسافرة. ولكن لا يترتّب عليه باقي أحكام الأمومة من التّوارث ووجوب الإنفاق والعتق بالملك والشّهادة والعقل وإسقاط القصاص. قال القرطبيّ: ووقع في رواية " ما تحرّم الولادة " وفي رواية " ما يحرم من النّسب " (¬2) وهو دالٌ على جواز نقل الرّواية بالمعنى. قال: ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - , قال اللفظين في وقتين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2503 , 2938 , 4811) ومسلم (1444) من طرق عن مالك عن عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عندها، وأنها سمعتْ صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت عائشة: فقلت: يا رسولَ الله، هذا رجلٌ يستأذن في بيتك، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أراه فلاناً لعمّ حفصة من الرضاعة، فقالت عائشة: لو كان فلانٌ حياً - لعمها من الرضاعة - دخل عليَّ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فذكره. وأخرجه مسلم (1444) من طريق ابن جريج وهشام بن عروة عن عبد الله. بالمرفوع فقط (¬2) هذه الرواية جاءت في حديث ابن عبّاس الماضي , وكذا جاء في حديث عائشة في قصة أفلح أبي القعيس. وهو الحديث الآتي. في العمدة.

قلت: الثّاني هو المعتمد، فإنّ الحديثين مختلفان في القصّة والسّبب والرّاوي، وإنّما يأتي ما قال إذا اتّحد ذلك. وقد وقع عند أحمد من وجهٍ آخر عن عائشة: يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب من خال أو عمّ أو أخ. قال القرطبيّ: في الحديث دلالة على أنّ الرّضاع ينشر الحرمة بين الرّضيع والمرضعة وزوجها، يعني الذي وقع الإرضاع بين ولده منها أو السّيّد، فتحرم على الصّبيّ لأنّها تصير أمّه، وأمّها لأنّها جدّته فصاعداً، وأختها لأنّها خالته، وبنتها لأنّها أخته، وبنت بنتها فنازلاً لأنّها بنت أخته، وبنت صاحب اللبن لأنّها أخته، وبنت بنته فنازلاً لأنّها بنت أخته، وأمّه فصاعداً لأنّها جدّته، وأخته لأنّها عمّته. ولا يتعدّى التّحريم إلى أحد من قرابة الرّضيع، فليست أخته من الرّضاعة أختاً لأخيه ولا بنتاً لأبيه إذ لا رضاع بينهم. والحكمة في ذلك أنّ سبب التّحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها وهو اللبن، فإذا اغتذى به الرّضيع صار جزءاً من أجزائهما فانتشر التّحريم بينهم، بخلاف قرابات الرّضيع لأنّه ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسبٌ ولا سبب، والله أعلم.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون 337 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنّ أفلح أخا أبي القُعيس استأذن عليّ بعد ما أنزل الحجاب، فقلتُ: والله لا آذن له، حتى أستأذن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فإنّ أخا أبي القعيس، ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسولَ الله، إنّ الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فقال: ائذني له، فإنه عمّك تربت يمينك. قال عروة بن الزبير: فبذلك كانت عائشة تقول: حرِّموا من الرضاع، ما يحرم من النسب (¬1) وفي لفظ: استأذن عليّ أفلح، فلم آذن له، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك.! فقلت: كيف ذلك؟! قال: أرضعتك امرأة أخي، بلبن أخي، قالت: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صدق أفلح، ائذني له. (¬2) قوله: (إنّ أفلح أخا أبي القعيس) بقافٍ وعين وسين مهملتين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2501 , 4518 , 4815 , 4941 , 5804) ومسلم (1445) من طرق عن عروة بن الزبير عن عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (2501) ومسلم (1445) من طريق عراك بن مالك عن عروة عن عائشة به. واللفظ للبخاري. تنبيه: وقع في نسخ العمدة: ائذني له تربت يمينك. وهذه الزيادة ليست في هذه الرواية , والذي أوقع كثيراً من النسَّاخ في هذا الخطأ أن مصنف العمدة المقدسي قال بعد الحديث: تربت يمنك. أي افتقرت , والعرب تدعو على الرجل , ولا تريد وقوع الأمر به. انتهى. فحذفوا تعريف الكلمة وأبقوا الكلمة ضمن الرواية. والله أعلم

مصغّر، وللبخاري من طريق الحكم عن عراك بن مالك عن عروة " استأذن عليّ أفلح فلم آذن له ". وفي رواية مسلم من هذا الوجه " أفلح بن قعيس " , والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس. ويحتمل: أن يكون اسم أبيه قعيساً أو اسم جدّه فنسب إليه , فتكون كنية أبي القعيس وافقت اسم أبيه أو اسم جدّه. ويؤيّده ما في البخاري من طريق عقيل عن الزّهريّ عن عروة بلفظ " فإنّ أخا بني القعيس ". وكذا وقع عند النّسائيّ من طريق وهب بن كيسان عن عروة، وللبخاري من طريق شعيب عن ابن شهاب بلفظ " إنّ أفلح أخا أبي القعيس " وكذا لمسلمٍ من طريق يونس ومعمر عن الزّهريّ. وهو المحفوظ عن أصحاب الزّهريّ. لكن وقع عند مسلم من رواية ابن عيينة عن الزّهريّ " أفلح بن أبي القعيس ". وكذا لأبي داود من طريق الثّوريّ عن هشام بن عروة عن أبيه. ولمسلمٍ من طريق ابن جريجٍ عن عطاء أخبرني عروة , أنّ عائشة , قالت: استأذن عليّ عمّي من الرّضاعة أبو الجعد " قال: فقال لي هشام: إنّما هو أبو القعيس. وكذا وقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام " استأذن عليها أبو القعيس ". وسائر الرّواة عن هشام قالوا: أفلح أخو أبي القعيس كما هو المشهور، وكذا قال سائر أصحاب عروة. ووقع عند سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمّد " أنّ أبا

قعيس أتى عائشة يستأذن عليها " وأخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق القاسم عن أبي قعيس. والمحفوظ أنّ الذي استأذن هو أفلح. وأبو القعيس هو أخوه. قال القرطبيّ: كلّ ما جاء من الرّوايات وهمٌ إلَّا مَن قال " أفلح أخو أبي القعيس " أو قال " أبو الجعد " لأنّها كنية أفلح. قلت: وإذا تدبّرت ما حرّرت , عرفتَ أنّ كثيراً من الرّوايات لا وهْم فيه , ولَم يخطئ عطاء في قوله " أبو الجعد " فإنّه يحتمل أن يكون حفظ كنية أفلح. وأمّا اسم أبي القعيس , فلم أقف عليه إلَّا في كلام الدّارقطنيّ فقال: هو وائل بن أفلح الأشعريّ، وحكى هذا ابن عبد البرّ , ثمّ حكى أيضاً أنّ اسمه الجعد. فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه. ويحتمل: أن يكون أبو القعيس نُسب لجدّه , ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد. قال ابن عبد البرّ في " الاستيعاب ": لا أعلم لأبي القعيس ذكراً إلَّا في هذا الحديث. قوله: (استأذن عليّ بعد ما أُنزل الحجاب) وللبخاري من طريق مالك عن الزهري " وهو عمّها من الرّضاعة بعد أن نزل الحجاب " فيه التفات، وكان السّياق يقتضي أن يقول " وهو عمّي " وكذا وقع

عند النّسائيّ من طريق معنٍ عن مالك، وفي رواية يونس عن الزّهريّ عند مسلم " وكان أبو القعيس أخا عائشة من الرّضاعة ". وكان الحجاب في ذي القعدة سنة أربعٍ عند جماعةٍ. أمّا قول الواقديّ: إنّ الحجاب كان في ذي القعدة سنة خمسٍ , فمردودٌ , وقد جزم خليفةٌ وأبو عبيدة وغير واحدٍ , بأنّه كان سنة ثلاثٍ فحصلنا في الحجاب على ثلاثة أقوالٍ , أشهرها سنة أربعٍ. والله أعلم قال عياض: فرض الحجاب ممّا اختصصن به , فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه والكفّين، فلا يجوز لهنّ كشف ذلك في شهادة ولا غيرها , ولا إظهار شخوصهنّ , وإن كنّ مستترات إلَّا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثمّ استدل بما في " الموطّأ ": أنّ حفصة لَمَّا توفّي عمر سترها النّساء عن أن يرى شخصها؛ وأنّ زينب بنت جحش , جعلت لها القبّة فوق نعشها ليستر شخصها. انتهى. وليس فيما ذكره دليل على ما ادّعاه من فرض ذلك عليهنّ، وقد كنّ بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يحججن ويطفن، وكان الصّحابة ومن بعدهم يسمعون منهنّ الحديث وهنّ مستترات الأبدان لا الأشخاص. وفي البخاري عن ابن جريجٍ , قلت لعطاءٍ لَمَّا ذُكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب. (¬1) ¬

_ (¬1) قال الشارح في " الفتح " (3/ 480): قوله (لقد أدركته بعد الحجاب) ذكر عطاءٌ هذا لرفع توهّم من يتوهم أنه حمل ذلك عن غيره , ودلَّ على أنه رأى ذلك منهنَّ , والمراد بالحجاب نزول آية الحجاب , وهي قوله تعالى {وإذا سألتموهنَّ متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} وكان ذلك في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش , ولم يُدرك ذلك عطاءٌ قطعاً. انتهى

قوله: (والله لا آذن له، حتى أستأذن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فإنّ أخا أبي القعيس، ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس) في رواية مالك " فأبيت أن آذن له " وفي رواية معمر عن الزّهريّ عن مسلم " وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة ". قوله: (ائذني له، فإنه عمّك) في رواية مالك عن ابن شهاب " فأمرني أن آذن له " وفي رواية مالك عن هشام بن عروة " إنّه عمّك فليلج عليك ". ووقع في رواية سفيان الثّوريّ عن هشام عند أبي داود " دخل عليّ أفلح فاستترت منه فقال: أتستترين منّي وأنا عمّك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قلت: إنّما أرضعتني المرأة ولَم يرضعني الرّجل. الحديث. ويُجمع بأنّه دخل عليها أوّلاً فاستترت ودار بينهما الكلام، ثمّ جاء يستأذن ظنّاً منه أنّها قبِلَت قوله فلم تأذن له حتّى تستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ووقع في رواية شعيب في آخره من الزّيادة. قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرّموا من الرّضاع ما يحرم من النّسب " , ووقع في رواية سفيان بن عيينة " ما تحرّمون من النّسب " وهذا ظاهره

الوقف. وقد أخرجه مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عراك عن عروة في هذه القصّة " فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا تحتجبي منه، فإنّه يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النّسب ". وقد تقدّمت هذه الزّيادة عن عائشة أيضاً مرفوعة من وجه آخر (¬1) وفي الحديث أنّ لبن الفحل يحرّم. فتنتشر الحرمة من ارتضع الصّغير بلبنه، فلا تحلّ له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلاً. وفيه خلاف قديم القول الأول: حكي عن ابن عمر وابن الزّبير ورافع بن خديج وزينب بنت أمّ سلمة وغيرهم، ونقله ابن بطّال عن عائشة. وفيه نظرٌ. ومن التّابعين عن سعيد بن المسيّب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشّعبيّ وإبراهيم النّخعيّ وأبي قلابة وإياس بن معاوية. أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرّزّاق وسعيد بن منصور وابن المنذر. وعن ابن سيرين: نبّئت أنّ ناساً من أهل المدينة اختلفوا فيه , وعن زينب بنت أبي سلمة , أنّها سألت والصّحابة متوافرون وأمّهات المؤمنين , فقالوا: الرّضاعة من قبل الرّجل لا تحرّم شيئاً. ¬

_ (¬1) انظر الحديث الماضي.

وقال به من الفقهاء ربيعة الرّأي وإبراهيم بن عليّة وابن بنت الشّافعيّ وداود وأتباعه. وأغرب عياض ومن تبعه , في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم , مع وجود الرّواية عمّن ذكرنا بذلك. وحجّتهم في ذلك: قوله تعالى {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} ولَم يذكر العمّة ولا البنت كما ذكرهما في النّسب. وأجيبوا: بأنّ تخصيص الشّيء بالذّكر لا يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه، ولا سيّما وقد جاءت الأحاديث الصّحيحة. واحتجّ بعضهم من حيث النّظر: بأنّ اللبن لا ينفصل من الرّجل وإنّما ينفصل من المرأة , فكيف تنتشر الحرمة إلى الرّجل؟. والجواب: أنّه قياس في مقابلة النّصّ فلا يلتفت إليه. وأيضاً فإنّ سبب اللبن هو ماء الرّجل والمرأة معاً , فوجب أن يكون الرّضاع منهما كالجدّ لمَّا كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده. وإلى هذا أشار ابن عبّاس بقوله في هذه المسألة " اللقاح واحد " أخرجه ابن أبي شيبة. وأيضاً , فإنّ الوطء يدرّ اللبن فللفحل فيه نصيب. القول الثاني: ذهب الجمهور من الصّحابة والتّابعين وفقهاء الأمصار كالأوزاعيّ في أهل الشّام والثّوريّ وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة , وابن جريجٍ في أهل مكّة , ومالك في أهل المدينة ,

والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم , إلى أنّ لبن الفحل يُحرّم. وحجّتهم هذا الحديث الصّحيح. وألزم الشّافعيُّ المالكيّةَ في هذه المسألة بردّ أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة , ولو خالف الحديث الصّحيح إذا كان من الآحاد. لِمَا رواه عن عبد العزيز بن محمّد عن ربيعة , من أنّ لبن الفحل لا يحرّم، قال عبد العزيز بن محمّد: وهذا رأي فقهائنا إلَّا الزّهريّ. فقال الشّافعيّ: لا نعلم شيئاً من علم الخاصّة أولى بأن يكون عامّاً ظاهراً من هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا. إمّا أن يردّوا هذا الخبر وهم لَم يردّوه , أو يردّوا ما خالف الخبر، وعلى كلّ حالٍ هو المطلوب. قال القاضي عبد الوهّاب: يتصوّر تجريد لبن الفحل برجلٍ له امرأتان ترضع إحداهما صبيّاً والأخرى صبيّة , فالجمهور قالوا: يحرم على الصّبيّ تزويج الصّبيّة. وقال من خالفهم: يجوز. واستدل به على أنّ من ادّعى الرّضاع وصدّقه الرّضيع , يثبت حكم الرّضاع بينهما ولا يحتاج إلى بيّنة، لأنّ أفلح ادّعى وصدّقته عائشة وأذن الشّارع بمجرّد ذلك. وتعقّب: باحتمال أن يكون الشّارع اطّلع على ذلك من غير دعوى أفلح وتسليم عائشة. واستدل به على أنّ قليل الرّضاع يُحرّم كما يُحرّم كثيره. لعدم

الاستفصال فيه (¬1). ولا حجّة فيه , لأنّ عدم الذّكر لا يدلّ على العدم المحض. وفيه أنّ من شكّ في حكم يتوقّف عن العمل حتّى يسأل العلماء عنه، وأنّ من اشتبه عليه الشّيء طالب المدّعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما، وأنّ العالم إذا سئل يصدّق مَن قال الصّواب فيها. وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرّجال الأجانب ومشروعيّة استئذان المحرم على محرمه، وأنّ المرأة لا تأذن في بيت الرّجل إلَّا بإذنه. وفيه جواز التّسمية بأفلح (¬2). ويؤخذ منه أنّ المستفتي إذا بادر بالتّعليل قبل سماع الفتوى أنكر عليه لقوله لها " تربت يمينك " فإنّ فيه إشارة إلى أنّه كان من حقّها أن ¬

_ (¬1) ستأتي هذه المسألة إن شاء الله مبسوطة في الحديث الذي بعده. (¬2) أخرج مسلم في " الصحيح " (2136) عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تُسمينَّ غلامك يساراً، ولا رباحاً، ولا نجيحاً، ولا أفلح، فإنك تقول: أَثَم هو؟ فلا يكون. فيقول: لا " وله أيضاً (2136) من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى عن أن يسمى بيعلى وببركة وبأفلح وبيسار وبنافع وبنحو ذلك، ثم رأيته سكتَ بعدُ عنها، فلم يقل شيئاً، ثم قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَم ينه عن ذلك " قال النووي: قال أصحابنا: يكره التسمية بهذه الأسماء المذكورة في الحديث وما في معناها , ولا تختص الكراهة بها وحدها. وهي كراهة تنزيه لاتحريم , والعلة في الكراهة ما بيَّنه - صلى الله عليه وسلم - في قوله: فإنك تقول: أثم هو؟ فيقول: لا. فكُره لبشاعة الجواب , وربما أوقع بعض الناس في شيء من الطيرة. وأما قوله " أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى عن هذه الأسماء " فمعناه أراد أن ينهى عنها نهي تحريم فلم ينه , وأما النهي الذي هو لكراهة التنزيه فقد نهى عنه في الأحاديث الباقية. انتهى

تسأل عن الحكم فقط , ولا تعلل. وألزم به بعضُهم مَن أطلق من الحنفيّة القائلين: أنّ الصّحابيّ إذا روى عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حديثاً وصحّ عنه , ثمّ صحّ عنه العمل بخلافه أنّ العمل بما رأى لا بما روى، لأنّ عائشة صحّ عنها أن لا اعتبار بلبن الفحل. ذكره مالك في " الموطّأ " وسعيد بن منصور في " السّنن " , وأبو عبيد في " كتاب النّكاح " بإسنادٍ حسنٍ. وأخذ الجمهور ومنهم الحنفيّة بخلاف ذلك , وعملوا بروايتها في قصّة أخي أبي القعيس وحرّموه بلبن الفحل , فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتّبعوا عمل عائشة ويعرضوا عن روايتها، ولو كان روى هذا الحكم غير عائشة لكان لهم معذرة , لكنّه لَم يروه غيرها، وهو إلزام قويّ. وفي الحديث الرّدّ على من كره للمرأة أن تضع خمارها عند عمّها أو خالها، كما أخرجه الطّبريّ من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشّعبيّ أنّه قيل لهما: لِمَ لَمْ يُذكر العمّ والخال في هذه الآية؟ فقالا: لأنّهما ينعتاها لأبنائهما، وكرها لذلك أن تضع خمارها عند عمّها أو خالها. وحديث عائشة في قصّة أفلح يردّ عليهما , وهذا من دقائق ما في تراجم البخاريّ (¬1). ¬

_ (¬1) ترجم البخاري عليه (بَابُ قَولِهِ: {إِن تُبدُوا شَيئًا أَو تُخفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا لاَ جُنَاحَ عَلَيهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبنَائِهِنَّ وَلاَ إِخوَانِهِنَّ وَلاَ أَبنَاءِ إِخوَانِهِنَّ وَلاَ أَبنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَت أَيمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدًا} الأحزاب: 55

قوله: (تربت يمينك) في رواية سفيان عن الزهري عند مسلم " يداك أو يمينك " أي: لصقتا بالتّراب , وهي كناية عن الفقر. وهو خبر بمعنى الدّعاء، لكن لا يراد به حقيقته، وبهذا جزم صاحب " العمدة ". زاد غيره , أنّ صدور ذلك من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حقّ مسلم لا يستجاب لشرطه ذلك على ربّه (¬1). وقال النّحّاس: معناه إن لَم تفعل لَم يحصل في يديك إلَّا التّراب. وحكى ابن العربيّ: أنّ معناه استغنت، وردّ بأنّ المعروف أترب إذا استغنى وترب إذا افتقر، ووجّه بأنّ الغنى النّاشئ عن المال تراب , لأنّ جميع ما في الدّنيا تراب , ولا يخفى بعده. وقيل: معناه ضعف عقلك. وقيل: افتقرت من العلم. وقيل: فيه تقدير شرط أي: وقع لك ذلك إن لَم تفعل. ورجّحه ابن العربيّ. وقيل: معنى افتقرت حابت. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2600) عن عائشة قالت: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان فكلَّماه بشيء، لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبَّهما، فلما خرجا، قلت: يا رسولَ الله. من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان، قال: وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، قال: أو ما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهمَّ إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته، أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً.

وقيل: هي كلمة تستعمل في المدح عند المبالغة كما قالوا للشّاعر: قاتله الله لقد أجاد. وصحّفه بعضهم , فقاله بالثّاء المثلثة , ووجّهه. بأنّ معنى ثربت تفرّقت وهو مثل حديث " نهى عن الصّلاة إذا صارت الشّمس كالأثارب " (¬1) وهو جمع ثروب وأثرب مثل فلوس وأفلس. وهي جمع ثرْب بفتح أوّله وسكون الرّاء , وهو الشّحم الرّقيق المتفرّق الذي يغشى الكرش. ¬

_ (¬1) ذكره جماعة من أهل اللغة معلّقاً , ولَم أره موصولاً

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون 338 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجلٌ، فقال: يا عائشة، مَنْ هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، فقال: يا عائشة، انظرن مَن إخوانكنّ، فإنما الرضاعةُ من المَجاعة. (¬1) قوله: (دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعندي رجلٌ) لَم أقف على اسمه , وأظنّه ابناً لأبي القعيس. وغلط مَن قال هو عبد الله بن يزيد رضيع عائشة , لأنّ عبد الله هذا تابعيّ باتّفاق الأئمّة. وكأنّ أمّه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فولدته , فلهذا قيل له رضيع عائشة. قوله: (فقال: يا عائشة، مَن هذا؟) وللبخاري من طريق شعبة عن أشعث " فكأنّه تغيّر وجهه كأنّه كره ذلك " كذا فيه، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي الأحوص عن أشعث " وعندي رجلٌ قاعدٌ فاشتدّ ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه " وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة " فشقّ ذلك عليه وتغيّر وجهه " قوله: (انظرن مَنْ إخوانكنّ) في رواية شعبة " ما إخوانكنّ " والأولى أوجه. والمعنى تأمّلن ما وقع من ذلك , هل هو رضاع صحيح بشرطه: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2504 , 4814) ومسلم (1455) من طريق أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها.

من وقوعه في زمن الرّضاعة، ومقدار الارتضاع , فإنّ الحكم الذي ينشأ من الرّضاع إنّما يكون إذا وقع الرّضاع المشترط. قال المُهلَّب: معناه انظرن ما سبب هذه الأخوّة، فإنّ حرمة الرّضاع إنّما هي في الصّغر حتّى تسدّ الرّضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد: معناه أنّ الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرّضاع , لا حيث يكون الغذاء بغير الرّضاع. قوله: (فإنّما الرّضاعة من المجاعة) فيه تعليل الباعث على إمعان النّظر والفكر، لأنّ الرّضاعة تثبت النّسب وتجعل الرّضيع محرّماً. قوله: (من المجاعة) أي: الرّضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحلّ بها الخلوة هي حيث يكون الرّضيع طفلاً لسدّ اللبن جوعته، لأنّ معدته ضعيفة يكفيها اللبن , وينبت بذلك لحمه فيصير كجزءٍ من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنّه قال: لا رضاعة معتبرة إلَّا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة، كقوله تعالى {أطعمهم من جوع}. ومن شواهده حديث ابن مسعود: لا رضاع إلَّا ما شدّ العظم وأنبت اللحم. أخرجه أبو داود مرفوعاً وموقوفاً. وحديث أمّ سلمة: لا يحرّم من الرّضاع إلَّا ما فتق الأمعاء. أخرجه التّرمذيّ وصحّحه. ويمكن أن يستدلّ به على أنّ الرّضعة الواحدة لا تحرّم. لأنّها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به ما قدّرته

الشّريعة وهو خمس رضعات. واستُدل به. وهو القول الأول: على أنّ التّغذية بلبن المُرضعة , يحرّم سواء كان بشربٍ أم أكلٍ بأيّ صفة كان، حتّى الوجور والسّعوط والثّرد والطّبخ وغير ذلك إذا وقع ذلك بالشّرط المذكور من العدد لأنّ ذلك يطرد الجوع، وهو موجود في جميع ما ذكر فيوافق الخبر والمعنى. وبهذا قال الجمهور. لكن استثنى الحنفيّة الحقنةَ. القول الثاني: خالف في ذلك الليث وأهل الظّاهر , فقالوا: إنّ الرّضاعة المُحرّمة إنّما تكون بالتقام الثّدي ومصّ اللبن منه. وأُوردَ على ابن حزم (¬1) أنّه يلزم على قولهم. إشكال في التقام سالم ثدي سهلة - وهي أجنبيّة منه - فإنّ عياضاً أجاب عن الإشكال باحتمال أنّها حلبته ثمّ شربه من غير أن يمسّ ثديها. قال النّوويّ: وهو احتمال حسن، لكنّه لا يفيد ابن حزم، لأنّه لا يكتفى في الرّضاع إلَّا بالتقام الثّدي. لكن أجاب النّوويّ: بأنّه عفي عن ذلك للحاجة. وأمّا ابن حزم فاستدل بقصّة سالم على جواز مسّ الأجنبيّ ثدي الأجنبيّة والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقاً. واستُدل به على أنّ الرّضاعة إنّما تعتبر في حال الصّغر , لأنّها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن بخلاف حال الكبر، وضابط ¬

_ (¬1) في مطبوع الفتح (وأَوردَ عليُّ بن حزم) ولعلَّ الصواب ما أثبتُّه , والسيق يدعمه.

ذلك تمام الحولين. لقوله عزّ وجل (حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة). وقال الحنفيّة: إنّ أقصى مدّة الرّضاع ثلاثون شهراً. وحجّتهم قوله تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} أي: المدّة المذكورة لكلٍّ من الحمل والفصال. وهذا تأويل غريب. والمشهور عند الجمهور , أنّها تقدير مدّة أقلّ الحمل وأكثر مدّة الرّضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمّد بن الحسن، ويؤيّد ذلك أنّ أبا حنيفة لا يقول إنّ أقصى الحمل سنتان ونصف. وعند المالكيّة رواية توافق قول الحنفيّة , لكنّ منزعهم في ذلك أنّه يغتفر بعد الحولين مدّة يدمن الطّفل فيها على الفطام، لأنّ العادة أنّ الصّبيّ لا يفطم دفعة واحدة بل على التّدريج في أيّام قليلات، فللأيّام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين. ثمّ اختلفوا في تقدير تلك المدّة. قيل: يغتفر نصف سنة، وقيل: شهران، وقيل: شهر ونحوه. وقيل: أيّام يسيرة، وقيل: شهر. وقيل: لا يزاد على الحولين , وهي رواية ابن وهب عن مالك. وبه قال الجمهور. ومن حجّتهم. حديث ابن عبّاس رفعه " لا رضاع إلَّا ما كان في الحولين " أخرجه الدّارقطنيّ، وقال: لَم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وأخرجه ابن عديّ. وقال: غير الهيثم يوقفه على ابن عبّاس. وهو

المحفوظ. وأيضاً حديث أمّ سلمة: لا رضاع إلَّا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام. وصحّحه التّرمذيّ وابن حبّان. وعندهم متى وقع الرّضاع بعد الحولين , ولو بلحظةٍ لَم يترتّب عليه حكم. وعند الشّافعيّة: لو ابتدأ الوضع في أثناء الشّهر جبر المنكسر من شهر آخر ثلاثين يوماً. وقال زُفر: يستمرّ إلى ثلاث سنين , إذا كان يجتزئ باللبن ولا يجتزئ بالطّعام، وحكى ابن عبد البرّ عنه , أنّه يشترط مع ذلك أن يكون يجتزئ باللبن، وحكى عن الأوزاعيّ مثله , لكن قال: بشرط أن لا يفطم، فمتى فُطم ولو قبل الحولين , فما رضع بعده لا يكون رضاعاً. قال القرطبيّ: في قوله " فإنّما الرّضاعة من المجاعة ": تثبيت قاعدة كليّة صريحة في اعتبار الرّضاع في الزّمن الذي يستغني به الرّضيع عن الطّعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى {لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة} فإنّه يدلّ على أنّ هذه المدّة أقصى مدّة الرّضاع المحتاج إليه عادة المعتبر شرعاً، فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة فلا يعتبر شرعاً، إذ لا حكم للنّادر. وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاك حرمة المرأة بارتضاع الأجنبيّ منها لاطّلاعه على عورتها ولو بالتقامه ثديها. قلت: وهذا الأخير على الغالب , وعلى مذهب من يشترط التقام

الثّدي. وسيأتي أنّ عائشة كانت لا تفرّق في حكم الرّضاع بين حال الصّغر والكبر. وقد استشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها , واحتجّت هي بقصّة سالم مولى أبي حذيفة , فلعلها فهمت من قوله " إنّما الرّضاعة من المجاعة " اعتبار مقدار ما يسدّ الجوعة من لبن المرضعة لمن يرتضع منها، وذلك أعمّ من أن يكون المرتضع صغيراً أو كبيراً , فلا يكون الحديث نصّاً في منع اعتبار رضاع الكبير. وحديث ابن عبّاس مع تقدير ثبوته , ليس نصّاً في ذلك , ولا حديث أمّ سلمة. لجواز أن يكون المراد أنّ الرّضاع بعد الفطام ممنوع، ثمّ لو وقع رتّب عليه حكم التّحريم، فما في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك. وحكاه النّوويّ تبعاً لابن الصّبّاغ وغيره عن داود. وفيه نظرٌ. وكذا نقل القرطبيّ عن داود , أنّ رضاع الكبير يفيد رفع الاحتجاب منه، ومال إلى هذا القول ابن الموّاز من المالكيّة. وفي نسبة ذلك لداود نظرٌ , فإنّ ابن حزم ذكر عن داود أنّه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظّاهر. وهُم أخبر بمذهب صاحبهم. وإنّما الذي نصر مذهبَ عائشة هذا , وبالغ في ذلك هو ابن حزم ونقله عن عليّ، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، ولذلك ضعّفه

ابن عبد البرّ. وقال عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ: قال رجل لعطاءٍ: إنّ امرأة سقتني من لبنها بعدما كبرت أفأنكحها؟ قال: لا. قال ابن جريجٍ: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها. وهو قول الليث بن سعد، وقال ابن عبد البرّ: لَم يختلف عنه في ذلك. قلت: وذكر الطّبريّ في " تهذيب الآثار " في مسند عليٍّ هذه المسألة. وساق بإسناده الصّحيح عن حفصة مثل قول عائشة، وهو ممّا يخصّ به عموم قول أمّ سلمة: أَبَى سائر أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن عليهنّ بتلك الرّضاعة أحداً. أخرجه مسلم وغيره. ونقله الطّبريّ أيضاً عن عبد الله بن الزّبير والقاسم بن محمّد وعروة في آخرين. وفيه تعقّب على القرطبيّ حيث خصّ الجواز بعد عائشة بداود. وذهب الجمهور إلى اعتبار الصّغر في الرّضاع المحرّم. وقد تقدّم ضبطه. وأجابوا عن قصّة سالم بأجوبةٍ: الجواب الأول: أنّه حكمٌ منسوخ. وبه جزم المحبّ الطّبريّ في أحكامه، وقرّره بعضهم بأنّ قصّة سالم كانت في أوائل الهجرة , والأحاديث الدّالة على اعتبار الحولين من

رواية أحداث الصّحابة فدلَّ على تأخّرها. وهو مستندٌ ضعيف إذ لا يلزم من تأخّر إسلام الرّاوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدّماً. وأيضاً ففي سياق قصّة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين. لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه (¬1) حيث قال لها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجلٌ كبير؟ فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: قد علمتُ أنّه رجلٌ كبير. وفي رواية لمسلمٍ قالت: إنّه ذو لحية، قال: أرضعيه. وهذا يشعر بأنّها كانت تعرف أنّ الصّغر معتبر في الرّضاع المحرّم. الجواب الثاني: دعوى الخصوصيّة بسالمٍ وامرأة أبي حذيفة. والأصل فيه قول أمّ سلمة وأزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ما نرى هذا إلَّا رخصة أرخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالمٍ خاصّة. وقرّره ابن الصّبّاغ وغيره: بأنّ أصل قصّة سالم , ما كان وقع من التّبنّي الذي أدّى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلمّا نزل الاحتجاب ومنعوا من التّبنّي شقّ ذلك على سهلة فوقع التّرخيص لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقّة. وهذا فيه نظرٌ , لأنّه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقّة والاحتجاج بها , فتنفي الخصوصيّة ويثبت مذهب المخالف، لكن يفيد الاحتجاج. ¬

_ (¬1) عند مسلم (1453).

وقرّره آخرون: بأنّ الأصل أنّ الرّضاع لا يحرّم، فلمّا ثبت ذلك في الصّغر خولف الأصل له وبقي ما عداه على الأصل، وقصّة سالم واقعة عين يطرقها احتمال الخصوصيّة فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها. ورأيت بخطّ تاج الدّين السّبكيّ , أنّه رأى في تصنيف لمحمّد بن خليل الأندلسيّ في هذه المسألة , أنّه توقّف في أنّ عائشة وإنْ صحّ عنها الفتيا بذلك , لكن لَم يقع منها إدخال أحد من الأجانب بتلك الرّضاعة. قال تاج الدّين: ظاهر الأحاديث تردّ عليه، وليس عندي فيه قول جازم لا من قطع , ولا من ظنٍّ غالب. كذا قال، وفيه غفلة عمّا ثبت عند أبي داود في هذه القصّة " فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها ويراها , وإن كان كبيراً خمس رضعات ثمّ يدخل عليها " وإسناده صحيح، وهو صريح، فأيّ ظنٍّ غالب وراء هذا؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي الحديث أيضاً جواز دخول من اعترفت المرأة بالرّضاعة معه عليها , وأنّه يصير أخاً لها وقبول قولها فيمن اعترفت به. وأنّ الزّوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرّجال بيته والاحتياط في ذلك والنّظر فيه. وفي قصّة سالم جواز الإرشاد إلى الحيل.

وقال ابن الرّفعة: يؤخذ منه جواز تعاطي ما يحصّل الحلّ في المستقبل , وإن كان ليس حلالاً في الحال. وتمسّك بعموم الوارد في الأخبار مثل حديث الباب وغيره. وهو القول الأول: تحريم قليل الرّضاع وكثيره , وهذا قول مالك وأبي حنيفة والثّوريّ والأوزاعيّ والليث، وهو المشهور عند أحمد. القول الثاني: ذهب آخرون إلى أنّ الذي يحرّم ما زاد على الرّضعة الواحدة. ثمّ اختلفوا: القول الأول: جاء عن عائشة " عشر رضعات ". أخرجه مالك في " الموطّأ "، وعن حفصة كذلك. القول الثاني: جاء عن عائشة أيضاً " سبع رضعات " أخرجه ابن أبي خيثمة بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن الزّبير عنها، وعبد الرّزّاق من طريق عروة " كانت عائشة تقول: لا يحرّم دون سبع رضعات , أو خمس رضعات ". القول الثالث: جاء عن عائشة أيضاً " خمس رضعات. فعند مسلم عنها " كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثمّ نسخت بخمس رضعات معلومات. فتوفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنّ ممّا يقرأ " وعند عبد الرّزّاق بإسنادٍ صحيح عنها قالت: لا يحرّم دون خمس رضعات معلومات. وإلى هذا ذهب الشّافعيّ، وهي رواية عن أحمد، وقال به ابن حزم.

القول الرابع: ذهب أحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وداود وأتباعه - إلَّا ابن حزم - إلى أنّ الذي يحرّم ثلاث رضعات لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحرّم الرّضعة والرّضعتان. فإنّ مفهومه أنّ الثّلاث تحرّم. وأغرب القرطبيّ. فقال: لَم يقل به إلَّا داود. ويخرج ممّا أخرجه البيهقيّ عن زيد بن ثابت بإسنادٍ صحيح أنّه يقول: لا تحرّم الرّضعة والرّضعتان والثّلاث، وأنّ الأربع هي التي تحرّم. والثّابت من الأحاديث حديث عائشة في الخمس. وأمّا حديث " لا تحرّم الرّضعة والرّضعتان " فلعله مثال لِمَا دون الخمس، وإلا فالتّحريم بالثّلاث فما فوقها إنّما يؤخذ من الحديث بالمفهوم، وقد عارضه مفهوم الحديث الآخر المخرّج عند مسلم وهو الخمس، فمفهوم " لا تحرّم المصّة ولا المصّتان " أنّ الثّلاث تحرّم، ومفهوم خمس رضعات أنّ الذي دون الأربع لا يحرّم فتعارضا، فيرجع إلى التّرجيح بين المفهومين. وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة. وحديث المصّتان جاء أيضاً من طرق صحيحة، لكن قد قال بعضهم: إنّه مضطرب , لأنّه اختلف فيه. هل هو عن عائشة أو عن الزّبير أو عن ابن الزّبير أو عن أمّ الفضل؟. لكن لَم يقدح الاضطراب عند مسلم. فأخرجه من حديث أمّ

الفضل زوج العبّاس , أنّ رجلاً من بني عامر قال: يا رسولَ الله. هل تحرّم الرّضعة الواحدة؟ قال: لا. وفي رواية له عنها " لا تحرّم الرّضعة ولا الرّضعتان ولا المصّة ولا المصّتان ". قال القرطبيّ: هو أنصّ ما في الباب، إلَّا أنّه يمكن حمله على ما إذا لَم يتحقّق وصوله إلى جوف الرّضيع، وقوى مذهب الجمهور بأنّ الأخبار اختلفت في العدد، وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها فيما يعتبر من ذلك , فوجب الرّجوع إلى أقلّ ما ينطلق عليه الاسم، ويعضده من حيث النّظر أنّه معنىً طارئ يقتضي تأييد التّحريم فلا يشترط فيه العدد كالصّهر، أو يقال مائع يلج الباطن فيحرّم. فلا يشترط فيه العدد كالمنيّ. والله أعلم. وأيضاً فقول عائشة " عشر رضعات معلومات , ثمّ نسخن بخمسٍ معلومات , فمات النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهنّ ممّا يقرأ " لا ينتهض للاحتجاج على الأصحّ من قولي الأصوليّين، لأنّ القرآن لا يثبت إلَّا بالتّواتر، والرّاوي روى هذا على أنّه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآناً , ولا ذكر الرّاوي أنّه خبر ليقبل قوله فيه. والله أعلم. تكميل: عقد البخاري ترجمةً لشهادة الاستفاضة، وذكر منها النّسب والرّضاعة والموت القديم. فأمّا النّسب فيستفاد من أحاديث الرّضاعة فإنّه من لازمه وقد نقل فيه الإجماع. وأمّا الرّضاعة فيستفاد ثبوتها بالاستفاضة من أحاديث الباب ,

فإنّها كانت في الجاهليّة , وكان ذلك مستفيضاً عند من وقع له. وأمّا الموت القديم فيستفاد منه حكمه بالإلحاق , قاله ابن المنير. واحترز بالقديم عن الحادث، والمراد بالقديم ما تطاول الزّمان عليه , وحدّه بعض المالكيّة بخمسين سنةً , وقيل: بأربعين. واختلف العلماء في ضابط ما تقبل فيه الشّهادة بالاستفاضة. فتصحّ عند الشّافعيّة في النّسب قطعاً، والولادة , وفي الموت والعتق والولاء والوقف والولاية والعزل والنّكاح وتوابعه والتّعديل والتّجريح والوصيّة والرّشد والسّفه والملك على الرّاجح في جميع ذلك. وبلغها بعض المتأخّرين من الشّافعيّة بضعة وعشرين موضعاً. وهي مستوفاةٌ في " قواعد العلائيّ ". وعن أبي حنيفة: تجوز في النّسب والموت والنّكاح والدّخول، وكونه قاضياً، زاد أبو يوسف: والولاء , زاد محمّد: والوقف. قال صاحب " الهداية " وإنّما أجيز استحساناً , وإلَّا فالأصل أنّ الشّهادة لا بدّ فيها من المشاهدة. وشرط قبولها أن يسمعها من جمعٍ يؤمن تواطؤهم على الكذب. وقيل: أقل ذلك أربعة أنفس، وقيل: يكفي من عدلين. وقيل: يكفي من عدلٍ واحدٍ إذا سكن القلب إليه.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون 339 - عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - أنه تزوَّج أمّ يحيى بنت أبي إهابٍ، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قد أرضعتكما، فذكرتُ ذلك للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأعرض عني، قال: فتنحّيت، فذكرت ذلك له، فقال: وكيف وقد زعَمَتْ أنْ قد أرضعتكما؟ فنهاه عنها (¬1). قوله: (عن عقبة بن الحارث) بن عامر بن نوفل النوفلي. مِن مسلمة الفتح. (¬2). وقع للبخاري في " الشهادات " عن ابن أبي مُلَيكة حدّثني عقبة بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (88 , 1947، 2497، 2516، 2517، 4816) من طريق ابن جريج وعمر بن سعيد بن أبي حسين وأيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عقبة - رضي الله عنه -. وحديث عقبة - رضي الله عنه - هذا تفرّد به البخاري دون مسلم. كما نبّه عليه ابن حجر وغيره. (¬2) أبو سِروعة في قول أهل الحديث , ويقال: إن أبا سروعة أخوه وهو قول أهل النسب وصوَّبه العسكري , وقيل: إنَّ أبا سروعة أخو عقبة لأمّه وجزم به مصعب الزبيري. وأغرب أبو حاتم الرازي فقال: أبو سروعة قاتل خبيب له صحبة اسمه عقبة بن الحارث بن عامر , وليس هو عقبة بن عامر الذي أدركه ابن أبي مليكة. هو الذي أخرج له البخاري وأصحاب السنن. ووهِم من أخرج حديثه في المتفق لصاحب العمدة , وله رواية عن أبي بكر الصديق. وروى عنه أيضاً إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وعبيد بن أبي مريم المكي. مات عقبة بن الحارث في خلافة ابن الزبير. قاله في الإصابة بتمامه (4/ 518). وقال الشارح في " الفتح " (7/ 385): وذكر ابن إسحاق بإسنادٍ صحيحٍ عن عقبة بن الحارث قال: ما أنا قتلت خبيباً لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة العبدريَّ أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله ".

الحارث , أو سمعته منه. وفيه ردٌّ على من زعم: أنّ ابن أبي مُلَيكة لَم يسمع من عقبة بن الحارث، وقد حكاه ابن عبد البرّ , ولعل قائل ذلك أخذه من رواية البخاري في النّكاح من طريق ابن عليّة عن أيّوب عن ابن أبي مُلَيكة عن عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث , قال ابن أبي مُلَيكة: وقد سمعته من عقبة , ولكنّي لحديث عبيدٍ أحفظ. وأخرجه أبو داود من طريق حمّاد عن أيّوب، ولفظه: عن ابن أبي مُلَيكة عن عقبة بن الحارث قال: وحدّثنيه صاحبٌ لي عنه , وأنا لحديث صاحبي أحفظ. ولَم يسمّه. وفيه إشارةٌ إلى التّفرقة في صيغ الأداء بين الإفراد والجمع , أو بين القصد إلى التّحديث وعدمه , فيقول الرّاوي فيما سمعه وحده من لفظ الشّيخ، أو قصد الشّيخ تحديثه بذلك: حدّثني. بالإفراد. وفيما عدا ذلك: حدّثنا. بالجمع أو: سمعت فلاناً يقول. ووقع عند الدّارقطنيّ من هذا الوجه: حدّثني عقبة بن الحارث. ثمّ قال: لَم يحدّثني , ولكنّي سمعته يحدّث. وهذا يعيّن أحد الاحتمالين. وقد اعتمد ذلك النّسائيّ فيما يرويه عن الحارث بن مسكينٍ فيقول " الحارث بن مسكينٍ قراءةً عليه وأنا أسمع " ولا يقول حدّثني , ولا أخبرني؛ لأنّه لَم يقصده بالتّحديث , وإنّما كان يسمعه من غير أن يشعر به.

قوله: (تزوج أمّ يحيى بنت أبي إهابٍ) في رواية للبخاري " أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز " اسمها غنيّة - بفتح المعجمة وكسر النّون بعدها ياء تحتانيّة مشدّدة - وكنيتها أمّ يحيى. وهجم الكرمانيّ فقال: لا يعرف اسمها. ثمّ وجدت في النّسائيّ , أنّ اسمها زينب , فلعلَّ غنيّة لقبها أو كان اسمها فغيّر بزينب كما غيّر اسم غيرها وأبو إهاب بكسر الهمزة لا أعرف اسمه، وهو مذكور في الصّحابة، وعزيز بفتح العين المهملة وكسر الزّاي وآخره زاي أيضاً. وزن عظيم. ومَن قاله بضمّ أوّله فقد حرّف. ووقع عند أبي ذرٍّ عن المستملي والحمويّ عُزير بزاي , وآخره راء مصغّر. والأوّل أصوب قوله: (فجاءت أمةٌ سوداء) لَم أقف على اسمها. قوله: (قد أرضعتكما) زاد الدّارقطنيّ من طريق أيّوب عن ابن أبي مُلَيكة عن عقبة: فدخلتْ علينا امرأة سوداء , فسألتْ فأبطأنا عليها , فقالت: تصدّقوا عليّ فوالله لقد أرضعتكما جميعاً. زاد البخاريّ في " العلم " من طريق عمر بن سعيد بن أبي حسين عن ابن أبي مُلَيكة " فقال لها عقبة: ما أرضعتني ولا أخبرتني " أي: بذلك قبل التّزوّج كأنّه اتّهمها. زاد في " باب إذا شهد بشيءٍ فقال آخر: ما علمت ذلك " (¬1). وفي ¬

_ (¬1) يقصد آلَ أبي إهاب عندما سألهم عقبة - رضي الله عنه -. ولفظه عند البخاري: فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني , ولا أخبرتني. فأرسل إلى آل أبي إهاب يسألهم. فقالوا: ما علمنا أرضعتْ صاحبتُنا. فركب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة .. الحديث. وبوب عليه: باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء فقال آخرون: ما علمنا ذلك يحكم بقول من شهد.

" العلم " فركب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فسأله " وترجم عليه " الرّحلة في المسألة النّازلة ". وزاد في النّكاح " فقالت لي: قد أرضعتكما. وهي كاذبة ". قوله:: (فذكرت ذلك للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في رواية للبخاري " فركب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فسأله ". قوله " فركب " أي: من مكّة , لأنّها كانت دار إقامته. قوله: (فأعرض عني) زاد البخاري في رواية له " وتبسّم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (فتنحّيت، فذكرتُ ذلك له) في رواية للبخاري " فأعرض عنّي فأتيته من قِبَل وجهه فقلت: إنّها كاذبة " , وفي رواية الدّارقطنيّ " ثمّ سألته فأعرض عنّي , وقال في الثّالثة أو الرّابعة ". قوله: (وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ فنهاه عنها) في رواية للبخاري " دعها عنك " , زاد الدّارقطنيّ في رواية أيّوب في آخره " لا خيرَ لك فيها. وللبخاري أيضا " كيف وقد قيل؟ ففارقَها ونكحت زوجاً غيره ". اسم هذا الزّوج. ظُرَيْب بضمّ المعجمة المشالة وفتح الرّاء وآخره

موحّدة مصغّراً. القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنّ شهادة الإماء والعبيد لا تقبل مطلقاً. القول الثاني: تقبل في الشّيء اليسير. وهو قول الشّعبيّ وشريح والنّخعيّ والحسن. فأخرج ابن أبي شيبة من رواية منصور عن إبراهيم قال: كانوا يجيزونها في الشّيء الخفيف. ومن طريق أشعث الحمرانيّ عن الحسن نحوه. القول الثالث: تقبل مطلقاً. وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. لحديث عقبة , ووجه الدّلالة منه أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمر عقبة بفراق امرأته بقول الأمة المذكورة , فلو لَم تكن شهادتها مقبولة ما عمل بها. واحتجّوا أيضاً بقوله تعالى: {ممّن ترضون من الشّهداء} قالوا: فإن كان الذي في الرّقّ رضاً فهو داخلٌ في ذلك. وأجيب عن الآية: بأنّه تعالى قال في آخرها: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} والإباء إنّما يتأتّى من الأحرار لاشتغال الرّقيق بحقّ السّيّد , وفي الاستدلال بهذا القدر نظرٌ. وأجاب الإسماعيليّ عن حديث الباب. فقال: قد جاء في بعض طرقه " فجاءت مولاةٌ لأهل مكّة " قال: وهذا اللفظ يطلق على الحرّة التي عليها الولاء فلا دلالة فيه على أنّها كانت رقيقة. وتعقّب: بأنّ رواية حديث الباب فيه التّصريح بأنّها أمةٌ فتعيّن أنّها

ليست بحرّة. وقد قال ابن دقيق العيد: إن أخذنا بظاهر حديث الباب فلا بدّ من القول بشهادة الأمة، وقد سبق إلى الجزم بأنّها كانت أمةً , أحمدُ بنُ حنبل. رواه عنه جماعة كأبي طالب ومهنّا وحرب وغيرهم. وأخرج ابن أبي شيبة من رواية المختار بن فلفل قال: سألت أنساً عن شهادة العبيد , فقال: جائزة. وروى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق أشعث عن الشّعبيّ: كان شُريح لا يجيز شهادة العبد , فقال عليٌّ: لكنّنا نجيزها , فكان شُريح بعد ذلك يجيزها إلَّا لسيّده. واحتجّ بالحديث مَن قَبِل شهادة المرضعة وحدها. قال عليّ بن سعد: سمعت أحمد يسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرّضاع , قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث. وهو قول الأوزاعيّ. ونُقل عن عثمان وابن عبّاس والزّهريّ والحسن وإسحاق. وروى عبد الرّزّاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: فرّق عثمان بين ناسٍ تناكحوا بقول امرأةٍ سوداء أنّها أرضعتهم , قال ابن شهاب: النّاس يأخذون بذلك من قول عثمان اليوم. واختاره أبو عبيدٍ إلَّا أنّه قال: إن شهِدتْ المرضعة وحدها وجب على الزّوج مفارقة المرأة , ولا يجب عليه الحكم بذلك، وإن شهِدتْ معها أخرى وجب الحكم به.

واحتجّ أيضاً بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يلزم عقبة بفراق امرأته بل قال له " دعها عنك " وفي رواية ابن جريج " كيف وقد زعمت؟ " فأشار إلى أنّ ذلك على التّنزيه. وذهب الجمهور. إلى أنّه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة؛ لأنّها شهادةٌ على فعل نفسها. وقد أخرج أبو عبيد من طريق عمر والمغيرة بن شعبة وعليّ بن أبي طالب وابن عبّاس , أنّهم امتنعوا من التّفرقة بين الزّوجين بذلك , فقال عمر: فرِّق بينهما إن جاءت بيّنة , وإلا فخلّ بين الرّجل وامرأته إلَّا أن يتنزّها , ولو فتح هذا الباب لَم تشأ امرأةٌ أن تفرّق بين الزّوجين إلَّا فعلتْ. وقال الشّعبيّ: تقبل مع ثلاث نسوة, شرط أن لا تتعرّض نسوة لطلب أجرةٍ. وقيل: لا تقبل مطلقاً. وقيل: تقبل في ثبوت المحرميّة دون ثبوت الأجرة لها على ذلك. قال مالك: تقبل مع أخرى. وعن أبي حنيفة: لا تقبل في الرّضاع شهادة النّساء المُتمَحِّضات، وعكَسَه الاصطخريّ من الشّافعيّة. وأجاب من لَم يقبل شهادة المرضعة وحدها: بحمل النّهي في قوله: " فنهاه عنها " على التّنزيه , ويحمل الأمر في قوله: " دعها عنك " على الإرشاد.

وأغرب ابن بطَّال. فنقل الإجماع على أنّ شهادة المرأة وحدها لا تجوز في الرّضاع وشبهه. وهو عجيبٌ منه. فإنّه قول جماعة من السّلف حتّى إنّ عند المالكيّة رواية أنّها تقبل وحدها , لكن بشرط فشوّ ذلك في الجيران. وفي الحديث جواز إعراض المفتي , ليتنبّه المستفتي على أنّ الحكم فيما سأله الكفّ عنه، وجواز تكرار السّؤال لمن لَم يفهم المراد والسّؤال عن السّبب المقتضي لرفع النّكاح.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون 340 - عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - , قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني من مكة فتبعتهم ابنة حمزة، تنادي: يا عمّ، يا عمّ فتناولها عليٌ، فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونك ابنة عمّك، حَمَلتْها، فاختصم فيها عليٌ، وزيدٌ، وجعفرٌ، فقال عليٌ: أنا أحقّ بها، وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي، وقال زيدٌ: بنت أخي، فقضى بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأمّ، وقال لعليٍ: أنت منّي، وأنا منك، وقال لجعفرٍ: أشبهت خَلْقي وخُلُقي، وقال لزيدٍ: أنت أخونا ومولانا. (¬1) قوله: (خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعني من مكّة) في عمرة القضاء. ففي البخاري عن البراء قال: اعتمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة، فأبى أهل مكّة أن يدعوه يدخل مكّة حتّى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيّامٍ .. وفيه. فلمّا دخلها ومضى الأجل، أتوا عليّاً فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنّا، فقد مضى الأجل، فخرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتبعتهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2552 , 4005) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء - رضي الله عنه -. وفي أوله قصة صلح الحديبية. قال الزركشي في " تصحيح العمدة " (ص 64): هذا الحديث يهذا السياق من أفراد البخاري. وكذا عزاه إليه البيهقي في " سننه " , وعبد الحق في " الجمع بين الصحيحين " , والمزيُّ في " الأطراف " , ووقع لصاحب المنتقى ولابن الأثير في " جامع الأصول " أنه من المتفق عليه , ومرادهما قصة صلح الحديبية منه , والمصنف اختصره. والبخاري ذكره في موضعين. انتهى

ابنة حمزة .. الحديث. قوله: (ابنة حمزة) اسمها عمارة , وقيل: فاطمة , وقيل: أُمامة , وقيل: أمة الله وقيل: سلمى، وقيل: عائشة , وقيل: يعلى والأوّل هو المشهور. وذكر الحاكم في " الإكليل " وأبو سعيد في " شرف المصطفى " من حديث ابن عبّاس بسندٍ ضعيفٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان آخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وأنّ عمارة بنت حمزة كانت مع أمّها بمكّة. وحكى المزّيّ في أسمائها أمّ الفضل , لكن صرّح ابن بشكوالٍ. بأنّها كُنية. قوله: (تنادي يا عمّ) كأنّها خاطبت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك إجلالاً له، وإلا فهو ابن عمّها، أو بالنّسبة إلى كون حمزة - وإن كان عمّه من النّسب - فهو أخوه من الرّضاعة، وقد أقرّها على ذلك بقوله لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دونك ابنة عمّك. وفي ديوان حسان بن ثابت , لأبي سعيد السّكّريّ , أنّ عليّاً هو الذي قال لفاطمة. ولفظه " فأخذ عليٌّ أُمامة , فدفعها إلى فاطمة " وذكر أنّ مخاصمة عليّ وجعفر وزيد إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت بعد أن وصلوا إلى مرّ الظّهران. قوله: (دونك) هي كلمة من أسماء الأفعال تدل على الأمر بأخذ الشّيء المشار إليه.

قوله: (حَمَلتْها) (¬1) كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي , وكأنّ الفاء سقطت. قلت: وقد ثبتت في رواية النّسائيّ من الوجه الذي أخرجه منه البخاريّ. وكذا لأبي داود من طريق إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئٍ وهبيرة عن عليٍّ، وكذا لأحمد في حديث عليٍّ. ووقع في رواية أبي ذرّ عن السّرخسيّ والكشميهني " حمّليها " بتشديد الميم المكسورة وبالتّحتانيّة بصيغة الأمر، وللكشميهنيّ " احمليها " بألفٍ بدل التّشديد. وعند الحاكم من مرسل الحسن " فقال عليٌّ لفاطمة وهي في هودجها: أمسكيها عندك ". وعند ابن سعد من مرسل محمّد بن عليّ بن الحسين الباقر بإسنادٍ صحيحٍ إليه: بينما بنت حمزة تطوف في الرّحال , إذ أخذ عليّ بيدها فألقاها إلى فاطمة في هودجها. قوله: (فاختصم فيها عليّ وزيد وجعفر) أي: أخوه , وزيد بن حارثة , أي: في أيّهم تكون عنده، زاد في رواية ابن سعدٍ " حتّى ارتفعت أصواتهم فأيقظوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من نومه ". وكانت خصومتهم في ذلك بعد أن قدموا المدينة، ثبت ذلك في ¬

_ (¬1) وقع في نسخ العمدة (فاحتملتها) ولم أرها في صحيح البخاري ولا عند من أخرجه. والظاهر أنها خطأ كما يدلُّ عليه كلام الشارح.

حديث عليٍّ عند أحمد والحاكم. وفي " المغازي " لأبي الأسود عن عروة في هذه القصّة " فلمّا دنوا من المدينة كلّمه فيها زيد بن حارثة , وكان وصيّ حمزة وأخاه " وهذا لا ينفي أنّ المخاصمة إنّما وقعت بالمدينة، فلعلَّ زيداً سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك , ووقعت المنازعة بعد. ووقع في مغازي سليمان التّيميّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رجع إلى رحله وجد بنت حمزة فقال لها: ما أخرجك؟ قالت: رجلٌ من أهلك، ولَم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراجها. وفي حديث عليّ عند أبي داود , أنّ زيد بن حارثة أخرجها من مكّة. وفي حديث ابن عبّاس المذكور " فقال له عليّ: كيف تترك ابنة عمّك مقيمةً بين ظهراني المشركين؟ " وهذا يشعر بأنّ أمّها إمّا لم تكن أسلمت. فإنّ في حديث ابن عبّاسٍ المذكور , أنّها سلمى بنت عميسٍ - وهي معدودة في الصّحابة - وإمّا أن تكون ماتت. إن لَم يثبت حديث ابن عبّاس. وإنّما أقرّهم على أخذها مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحدٍ من أهلها أراد الخروج، لأنّهم لَم يطلبوها، وأيضاً فإنّ النّساء المؤمنات لَم يدخلن في ذلك، لكن إنّما نزل القرآن في ذلك بعد رجوعهم إلى المدينة. ووقع في رواية أبي سعيدٍ السّكّريّ , أنّ فاطمة قالت لعليٍّ: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آلَى أن لا يصيب منهم أحداً إلَّا ردّه عليهم، فقال لها

عليّ: إنّها ليست منهم إنّما هي منّا. قوله: (فقال عليٌ: أنا أحقّ بها، وهي ابنة عمي) في رواية للبخاري " قال عليّ: أنا أخرجتها وهي بنت عمّي. زاد في حديث عليٍّ عند أبي داود " وعندي ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أحقّ بها ". قوله: (وقال جعفر: ابنت عمي , وخالتها تحتيّ) أي: زوجتي. وفي رواية الحاكم " عنديّ " واسم خالتها أسماء بنت عميسٍ , وصرّح باسمها في حديث عليٍّ عند أحمد. وكان لكلٍّ من هؤلاء الثّلاثة فيها شُبهة: أمّا زيد فللأخوّة التي ذكرتها , ولكونه بدأ بإخراجها من مكّة. وأمّا عليٌّ فلأنّه ابن عمّها , وحملها مع زوجته. وأمّا جعفر فلكونه ابن عمّها , وخالتها عنده. فيترجّح جانب جعفر باجتماع قرابة الرّجل والمرأة منها دون الآخرين. قوله: (وقال زيد: بنت أخي) زاد في حديث عليٍّ " إنّما خرجت إليها ". قوله: (فقضى بها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لخالتها) في حديث ابن عبّاس المذكور فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: جعفر أولى بها. وفي حديث عليّ عند أبي داود وأحمد " أمّا الجارية فلأقضى بها لجعفر ". وفي رواية أبي سعيد السّكّريّ: ادفعاها إلى جعفر فإنّه أوسع منكم. وهذا سببٌ ثالثٌ.

قوله: (وقال: الخالة بمنزلة الأمّ) أي: في هذا الحكم الخاصّ , لأنّها تقرب منها في الحنوّ والشّفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد لِمَا دلَّ عليه السّياق. فلا حجّة فيه لمن زعم أنّ الخالة ترث لأنّ الأمّ ترث، وفي حديث عليّ. وفي مرسل الباقر: الخالة والدة، وإنّما الخالة أمّ. وهي بمعنى قوله " بمنزلة الأمّ " لا أنّها أمٌّ حقيقيّةٌ. ويؤخذ منه أنّ الخالة في الحضانة مقدّمةٌ على العمّة , لأنّ صفيّة بنت عبد المطّلب كانت موجودة حينئذٍ، وإذا قدّمت على العمّة مع كونها أقرب العصبات من النّساء فهي مقدّمة على غيرها. ويؤخذ منه تقديم أقارب الأمّ على أقارب الأب. وعن أحمد رواية: أنّ العمّة مقدّمة في الحضانة على الخالة. وأجيب عن هذه القصّة: بأنّ العمّة لَم تطلب، فإن قيل: والخالة لَم تطلب، قيل: قد طلب لها زوجها، فكما أنّ للقريب المحضون أن يمنع الحاضنة إذا تزوّجت فللزّوج أيضاً أن يمنعها من أخذه، فإذا وقع الرّضا سقط الحرج. وفيه من الفوائد أيضاً. تعظيم صلة الرّحم. بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التّوصّل إليها، وأنّ الحاكم يبيّن دليل الحكم للخصم، وأنّ الخصم يدلي بحجّته. وفيه أنّ الحاضنة إذا تزوّجت بقريب المحضونة لا تسقط حضانتها

إذا كانت المحضونة أنثى أخذاً بظاهر هذا الحديث. قاله أحمد. وعنه: لا فرق بين الأنثى والذّكر، ولا يشترط كونه محرماً , لكن يشترط أن يكون فيه مأموناً. وأنّ الصّغيرة لا تشتهى، ولا تسقط إلَّا إذا تزوّجت بأجنبيٍّ. والمعروف عن الشّافعيّة والمالكيّة. اشتراط كون الزّوج جَدّاً للمحضون. وأجابوا عن هذه القصّة: بأنّ العمّة لَم يطلب , وأنّ الزّوج رضي بإقامتها عنده، وكل من طلبت حضانتها لها كانت متزوّجة , فرجح جانب جعفر بكونه تزوّج الخالة. قوله: (وقال لعليٍّ: أنت منّي وأنا منك) أي: في النّسب والصّهر والمسابقة والمحبّة وغير ذلك من المزايا، ولَم يرد محض القرابة وإلَّا فجعفر شريكه فيها. قوله: (وقال لجعفر) هو أخو عليٍّ شقيقه , وكان أسنَّ منه بعشر سنين , واستشهد بمؤتة , وقد جاوز الأربعين. قوله: (أشبهت خَلْقي وخُلقي) بفتح الخاء الأولى وضمّ الثّانية، في مرسل ابن سيرين عند ابن سعد " أشبه خلقك خلقي، وخلقك خلقي. وهي منقبةٌ عظيمةٌ لجعفرٍ. أمّا الخلْق فالمراد به الصّورة. فقد شاركه فيها جماعة ممّن رأى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، منهم الحسن والحسين , وجعفر بن أبي طالب , وابنه عبد الله بن

جعفر وقُثَم - بالقاف - ابن العبّاس بن عبد المطّلب , وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب , ومسلم بن عقيل بن أبي طالب. ومن غير بني هاشم السّائب بن يزيد المطّلبيّ الجدّ الأعلى للإمام الشّافعيّ , وعبد الله بن عامر بن كريز العبشميّ , وكابس بن ربيعة بن عديّ. فهؤلاء عشرة أنفسٍ غير فاطمة عليها السّلام. وقد كنت نظمت إذ ذاك بيتين في ذلك (¬1). ووقفت بعد ذلك في حديث أنس , على أنّ إبراهيم وَلَد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يشبهه، وكذا في قصّة جعفر بن أبي طالب , أنّ ولَدَيْه عبدَ الله وعوناً كانا يشبهانه. فغيّرتُ البيتين الأوّلين بالزّيادة فأصلحتهما، ورأيت إعادتهما ليكتبهما من لَم يكن كتبهما إذ ذاك: شبه النّبيّ ليج (¬2) سائب وأبي ... سفيان والحسنين الخال أمّهما وجعفر ولداه وابن عامر هم ... ومسلم كابس يتلوه مع قثما ووقع في تراجم الرّجال وأهل البيت ممّن كان يشبهه - صلى الله عليه وسلم - من غير هؤلاء عدّة منهم: إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ¬

_ (¬1) ذكر هذين البيتين قبل ذلك في كتاب المناقب: باب مناقب الحسن والحسين. (¬2) قوله (ليج). أي: ثلاث وأربعون. وهو المعروف بحساب الجمل. فاللام 30. والياء 10 , والجيم 3. فمجموعها 43. وقد توسّع الشارح رحمه الله في هذه المسألة. فيما أخرجه البخاري (3752) في كتاب الفضائل باب مناقب الحسن والحسين. قال: لَم يكن أحدٌ أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن بن علي " فراجعه.

ويحيى بن القاسم بن محمّد بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ. وكان يقال له الشّبيه، والقاسم بن عبد الله بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب. وعليّ بن عليّ بن عبّاد بن رفاعة الرّفاعيّ - شيخ بصريّ من أتباع التّابعين - ذكر ابن سعد عن عفّان قال: كان يشبه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وإنّما لَم أدخل هؤلاء في النّظم لبُعد عهدهم عن عصر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فاقتصرت على من أدركه. والله أعلم. وأمّا شبهه في الخُلُق - بالضّمّ - فخصوصيّة لجعفرٍ , إلَّا أن يقال إنّ مثل ذلك حصل لفاطمة عليها السّلام، فإنّ في حديث عائشة ما يقتضي ذلك (¬1) , ولكن ليس بصريحٍ كما في قصّة جعفرٍ هذه. وهي منقبةٌ عظيمةٌ لجعفرٍ، قال الله تعالى: {وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ}. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في " السنن " (5217) والترمذي (3872) والنسائي في " فضائل الصحابة " (264) عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: وكانت إذا دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إليها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه .. الحديث " وأصله في الصحيحين. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. قال الشارح في " الفتح " (10/ 510): قوله (سمتاً) بفتح المهملة وسكون الميم. هو حسن المنظر في أمر الدين , ويطلق أيضاً على القصد في الأمر وعلى الطريق والجهة. قوله (دلاًّ) بفتح المهملة وتشديد اللام. هو حُسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما , ويطلق أيضاً على الطريق. قوله (وهدياً) قال أبو عبيد: الهدي والدل متقاربان يقال في السكينة والوقار , وفي الهيبة والمنظر والشمائل , قال: والسمت يكون في حسن الهيئة والمنظر من جهة الخير والدين لا من جهة الجمال والزينة , ويطلق على الطريق. وكلاهما جيد بأن يكون له هيئة أهل الخير على طريقة أهل الإسلام. انتهى.

قوله: (وقال لزيد: أنت أخونا) أي: في الإيمان قوله: (ومولانا) أي: من جهة أنّه أعتقه. وفي البخاري عن أنس , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّ مولى القوم من أنفسهم " فوقع منه - صلى الله عليه وسلم - تطييب خواطر الجميع , وإن كان قضى لجعفرٍ فقد بيّن وجه ذلك. وحاصله أنّ المقضيّ له في الحقيقة الخالة وجعفر تبعٌ لها , لأنّه كان القائم في الطّلب لها. وفي حديث عليّ عند أحمد. وكذا في مرسل الباقر " فقام جعفر فحَجِل حول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دار عليه، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا؟ قال: شيءٌ رأيت الحبشة يصنعونه بملوكهم ". وفي حديث ابن عبّاس (¬1) , أنّ النّجاشيّ كان إذا رضّى أحداً من أصحابه. قام فحجل حوله. وحجِل بفتح المهملة وكسر الجيم. أي: وقف على رجلٍ واحدة , وهو الرّقص بهيئةٍ مخصوصةٍ. وفي حديث عليٍّ المذكور أنّ الثّلاثة فعلوا ذلك. ووقع في رواية أبي سعيدٍ السّكّريّ " فدفعناها إلى جعفر , فلم تزل عنده حتّى قُتل، فأوصى بها جعفرٌ إلى عليٍّ فمكثت عنده حتّى بلغت. ¬

_ (¬1) أي: الذي تقدَّم ذكره. وقد أخرجه أيضاً ابن سعد في " الطبقات " (8/ 126).

كتاب القصاص

كتاب القصاص القصاص بكسر القاف وبمهملتين , مأخوذ من القصِّ وهو القطع , أو من اقتصاص الأثر , وهو تتبعه , لأنَّ المُقتصَّ يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها , يقال: اقتصَّ من غريمه , واقتصَّ الحاكمُ لفلان من فلان. الحديث الأول 341 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - , قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا يَحِلُّ دم امرئٍ مسلمٍ، يشهد أن لا إله إلَّا الله، وأني رسول الله، إلَّا بإحدى ثلاثٍ، الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. (¬1) قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحلّ) وقع في رواية سفيان الثّوريّ عن الأعمش. عند مسلم والنّسائيّ زيادة في أوّله. وهي: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والذي لا إله غيره. لا يحلّ. وظاهر قوله " لا يحلّ " إثبات إباحة قتل من استثني، وهو كذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6484) ومسلم (1676) من طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود به. زاد مسلم. قال الأعمش: فحدثت به إبراهيم، فحدثني عن الأسود، عن عائشة بمثله.

بالنّسبة لتحريم قتل غيرهم , وإن كان قتل من أبيح قتله منهم واجباً في الحكم. قوله: (دم امرئٍ مسلم) في رواية الثّوريّ " دم رجلٍ " والمراد لا يحلّ إراقة دمه , أي: كلّه وهو كناية عن قتله. ولو لَم يرق دمه. قوله: (يشهد أن لا إله إلَّا الله) هي صفة ثانية ذُكرت لبيان أنّ المراد بالمسلم هو الآتي بالشّهادتين. أو هي حال مقيّدةٌ للموصوف إشعاراً بأنّ الشّهادة هي العمدة في حقن الدّم، وهذا رجّحه الطّيبيّ , واستشهد بحديث أسامة " كيف تصنع بلا إله إلَّا الله " (¬1). قوله: (إلَّا بإحدى ثلاث) أي: خصال ثلاث، ووقع في رواية الثّوريّ " إلَّا ثلاثة نفر ". قوله: (النّفس بالنّفس) أي: من قتل عمداً بغير حقّ قتل بشرطه، ووقع في حديث عثمان عند النسائي " قتل عمداً فعليه القود ". وفي حديث جابر عند البزّار " ومن قتل نفساً ظلماً ". قوله: (والثّيّب الزّاني) أي: فيحلّ قتله بالرّجم، وقد وقع في حديث عثمان المذكور بلفظ " رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرّجم ". قال النّوويّ: الزّاني يجوز فيه إثبات الياء وحذفها , وإثباتها أشهر. قوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) وللبخاري " والمفارق ¬

_ (¬1) أحرجه مسلم في " صحيحه " (289) من حديث جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها لأسامة في قصته مع الرجل الذي قتله.

لدينه التّارك للجماعة " كذا في رواية أبي ذرّ عن الكشميهنيّ، وللباقين " والمارق من الدّين " لكن عند النّسفيّ والسّرخسيّ والمستملي " والمارق لدينه ". قال الطّيبيّ: المارق لدينه هو التّارك له، من المروق وهو الخروج , زاد مسلم: قال الأعمش: فحدّثت به إبراهيم يعني النّخعيّ فحدّثني عن الأسود يعني: ابن يزيد عن عائشة بمثله. قلت: وهذه الطّريق أغفل المزّيّ في الأطراف ذكرها في مسند عائشة. وأغفل التّنبيه عليها في ترجمة عبد الله بن مرّة عن مسروق عن ابن مسعود. وقد أخرجه مسلم أيضاً بعده من طريق شيبان بن عبد الرّحمن عن الأعمش. ولَم يسق لفظه , لكن قال: بالإسنادين جميعاً. ولَم يقل " والذي لا إله غيره " وأفرده أبو عوانة في " صحيحه " من طريق شيبان باللفظ المذكور سواء. والمراد بالجماعة جماعة المسلمين. أي: فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتّارك أو المفارق لا صفة مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعاً، وهو كقوله قبل ذلك " مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله " فإنّها صفة مفسّرة لقوله " مسلم " وليست قيداً فيه إذ لا يكون مسلماً إلَّا بذلك. ويؤيّد ما قلته أنّه وقع في حديث عثمان " أو يكفر بعد إسلامه " أخرجه النّسائيّ بسندٍ صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضاً " ارتدّ بعد

إسلامه " , وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة " أو كفر بعد ما أسلم ". وفي حديث ابن عبّاس عند الطبراني (¬1) " مرتدّ بعد إيمان ". قال ابن دقيق العيد: الرّدّة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرّجل، وأمّا المرأة ففيها خلاف. وقد استدل بهذا الحديث للجمهور في أنّ حكمها حكم الرّجل لاستواء حكمهما في الزّنا. وتعقّب: بأنّها دلالة اقتران وهي ضعيفة. وقال البيضاويّ (¬2): التّارك لدينه صفة مؤكّدة للمارق , أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم. قال: وفي الحديث دليل لمن زعم أنّه لا يقتل أحدٌ دخل في الإسلام بشيءٍ غير الذي عدّد كترك الصّلاة ولَم ينفصل عن ذلك، وتبعه الطّيبيّ. وقال ابن دقيق العيد: قد يؤخذ من قوله " المفارق للجماعة " أنّ المراد المخالف لأهل الإجماع. فيكون متمسَّكاً لمن يقول: مخالف الإجماع كافرٌ، وقد نسب ذلك إلى بعض النّاس، وليس ذلك بالهيّن , ¬

_ (¬1) في النسخ المطبوعة من الفتح (النسائي) ولعل الصواب " الطبراني " فالحديث في " معجمه الكبير " (11532) وكذا عند أبي يعلى في " مسنده " (2458) من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس، قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله عز وجل أعطى .. وفيه. ألا إن الله عز وجلَّ لَم يرخّص في القتل إلَّا ثلاثاً: مرتدٌ بعد إيمان، أو زانٍ بعد إحصان، أو قاتل نفس فيقتل بقتله ألا هل بلغت. قال الهيثمي في " المجمع " (1/ 172): فيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وهو متروك الحديث. (¬2) هو عبدالله بن عمر الشيرازي , سبق ترجمته (1/ 191)

فإنّ المسائل الإجماعيّة تارة يصحبها التّواتر بالنّقل عن صاحب الشّرع كوجوب الصّلاة مثلاً , وتارة لا يصحبها التّواتر، فالأوّل يكفّر جاحده لمخالفة التّواتر لا لمخالفة الإجماع، والثّاني لا يكفّر به. قال شيخنا في شرح التّرمذيّ: الصّحيح في تكفير منكِر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدّين بالضّرورة كالصّلوات الخمس. ومنهم من عبّر بإنكار ما علم وجوبه بالتّواتر , ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم. وقال ابن دقيق العيد: وقع هنا من يدّعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظنّ أنّ المخالف في حدوث العالم لا يكفّر , لأنّه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسّك بقولنا: إنّ منكر الإجماع لا يكفّر على الإطلاق حتّى يثبت النّقل بذلك متواتراً عن صاحب الشّرع. قال: وهو تمسّكٌ ساقط إمّا عن عمىً في البصيرة أو تعامٍ , لأنّ حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتّواتر بالنّقل. وقال النّوويّ: قوله " التّارك لدينه ": عامٌّ في كلّ من ارتدّ بأيّ ردّة كانت فيجب قتله إن لَم يرجع إلى الإسلام، وقوله " المفارق للجماعة " يتناول كلّ خارج عن الجماعة ببدعةٍ أو نفي إجماع كالرّوافض والخوارج وغيرهم. كذا قال، وسيأتي البحث فيه.

وقال القرطبيّ في المفهم: ظاهر قوله " المفارق للجماعة " أنّه نعت للتّارك لدينه، لأنّه إذا ارتدّ فارق جماعة المسلمين، غير أنّه يلتحق به كل من خرج عن جماعة المسلمين وإن لَم يرتدّ. كمن يمتنع من إقامة الحدّ عليه إذا وجب ويقاتل على ذلك كأهل البغي وقطّاع الطّريق والمحاربين من الخوارج وغيرهم. قال: فيتناولهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، ولو لَم يكن كذلك لَم يصحّ الحصر , لأنّه يلزم أن ينفي من ذكر ودمه حلال فلا يصحّ الحصر، وكلام الشّارع منزّه عن ذلك، فدلَّ على أنّ وصف المفارقة للجماعة يعمّ جميع هؤلاء. قال: وتحقيقه أنّ كل من فارق الجماعة ترك دينه، غير أنّ المرتدّ ترك كلّه والمفارق بغير ردّة ترك بعضه. انتهى. وفيه مناقشة. لأنّ أصل الخصلة الثّالثة الارتداد فلا بدّ من وجوده، والمفارق بغير ردّة لا يسمّى مرتدّاً فيلزم الخلف في الحصر. والتّحقيق في جواب ذلك: أنّ الحصر فيمن يجب قتله عيناً، وأمّا من ذكرهم فإنّ قتل الواحد منهم إنّما يباح إذا وقع حال المحاربة والمقاتلة، بدليل أنّه لو أسر لَم يجز قتله صبراً اتّفاقاً في غير المحاربين، وعلى الرّاجح في المحاربين أيضاً. لكن يرِد على ذلك قتل تارك الصّلاة، وقد تعرّض له ابن دقيق العيد فقال: استدل بهذا الحديث , أنّ تارك الصّلاة لا يقتل بتركها. لكونه ليس من الأمور الثّلاثة، وبذلك استدل شيخُ والدي الحافظ

أبو الحسن بن المفضّل المقدسيّ في أبياته المشهورة، ثمّ ساقها. ومنها وهو كافٍ في تحصيل المقصود هنا. والرّأي عندي أن يعزّره الإمام بكل تعزيرٍ يراه صواباً , فالأصل عصمته إلى أن يمتطي إحدى الثّلاث إلى الهلاك ركابا. قال: فهذا من المالكيّة اختار خلاف مذهبه، وكذا استشكله إمام الحرمين من الشّافعيّة. قلت: تارك الصّلاة اختلف فيه. القول الأول: ذهب أحمد وإسحاق وبعض المالكيّة , ومن الشّافعيّة ابن خزيمة وأبو الطّيّب بن سلمة وأبو عبيد بن جويرية ومنصور الفقيه وأبو جعفر التّرمذيّ , إلى أنّه يكفر بذلك , ولو لَم يجحد وجوبها. وذهب الجمهور (¬1). إلى أنّه يقتل حدّاً القول الثاني: ذهب الحنفيّة ووافقهم المزنيّ. إلى أنّه لا يكفر , ولا يقتل. ومن أقوى ما يستدلّ به على عدم كفره حديث عبادة رفعه: خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد. الحديث. وفيه. ومن لَم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذّبه , وإن شاء أدخله الجنّة. أخرجه مالك وأصحاب السّنن وصحّحه ابن حبّان وابن السّكن وغيرهما. وتمسّك أحمد ومن وافقه , بظواهر أحاديث وردتْ بتكفيره , ¬

_ (¬1) أي: جمهور القول الأول.

وحملها من خالفهم على المستحلّ جمعاً بين الأخبار. والله أعلم. وقال ابن دقيق العيد: وأراد بعض من أدركنا زمانه أن يزيل الإشكال , فاستدل بحديث " أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة " ووجه الدّليل منه أنّه وقف العصمة على المجموع، والمرتّب على أشياء لا يحصل إلَّا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها. قال: وهذا إن قصد الاستدلال بمنطوقه - وهو " أقاتل النّاس إلخ " - فإنّه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد ذهل للفرق بين المقاتلة على الشّيء والقتل عليه، فإنّ المقاتلة مفاعلةٌ تقتضي الحصول من الجانبين فلا يلزم من إباحة المقاتلة على الصّلاة إباحة قتل الممتنع من فعلها إذا لَم يقاتل. وليس النّزاع في أنّ قوماً لو تركوا الصّلاة ونصبوا القتال أنّه يجب قتالهم، وإنّما النّظر فيما إذا تركها إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أو لا، والفرق بين المقاتلة على الشّيء والقتل عليه ظاهرٌ. وإن كان أخذه من آخر الحديث وهو ترتّب العصمة على فعل ذلك , فإنّ مفهومه يدلّ على أنّها لا تترتّب على فعل بعضه هان الأمر لأنّها دلالة مفهوم، ومخالفه في هذه المسألة لا يقول بالمفهوم، وأمّا من يقول به فله أن يدفع حجّته بأنّه عارضته دلالة المنطوق في حديث الباب. وهي أرجح من دلالة المفهوم , فيقدّم عليها. انتهى واستدل به بعض الشّافعيّة لقتل تارك الصّلاة , لأنّه تاركٌ للدّين

الذي هو العمل، وإنّما لَم يقولوا بقتل تارك الزّكاة لإمكان انتزاعها منه قهراً، ولا يقتل تارك الصّيام لإمكان منعه المفطرات , فيحتاج هو أن ينوي الصّيام لأنّه يعتقد وجوبه. واستدل به على أنّ الحرّ لا يقتل بالعبد , لأنّ العبد لا يرجم إذا زنى ولو كان ثيّباً حكاه ابن التّين قال: وليس لأحدٍ أن يفرّق ما جمعه الله إلَّا بدليلٍ من كتاب أو سنّة. قال: وهذا بخلاف الخصلة الثّالثة , فإنّ الإجماع انعقد على أنّ العبد والحرّ في الرّدّة سواء، فكأنّه جعل أنّ الأصل العمل بدلالة الاقتران ما لَم يأت دليل يخالفه. وقال شيخنا في شرح التّرمذيّ: استثنى بعضهم من الثّلاثة قتل الصّائل فإنّه يجوز قتله للدّفع، وأشار بذلك إلى قول النّوويّ يخصّ من عموم الثّلاثة الصّائل ونحوه فيباح قتله في الدّفع. وقد يجاب: بأنّه داخل في المفارق للجماعة , أو يكون المراد لا يحلّ تعمّد قتله. بمعنى أنّه لا يحلّ قتله إلَّا مدافعة بخلاف الثّلاثة. واستحسنه الطّيبيّ , وقال: هو أولى من تقرير البيضاويّ , لأنّه فسّر قوله {النّفس بالنّفس} يحلّ قتل النّفس قصاصاً للنّفس التي قتلها عدواناً , فاقتضى خروج الصّائل ولو لَم يقصد الدّافع قتله. قلت: والجواب الثّاني هو المعتمد، وأمّا الأوّل فتقدّم الجواب عنه. وحكى ابن التّين عن الدّاوديّ: أنّ هذا الحديث منسوخ بآية المحاربة {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض}. قال: فأباح القتل بمجرّد الفساد في الأرض.

قال: وقد ورد في القتل بغير الثّلاث أشياء: منها قوله تعالى {فقاتلوا التي تبغي}. وحديث " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه " (¬1) , وحديث " من أتى بهيمةً فاقتلوه " وحديث " من خرج وأمر النّاس جميعٌ يريد تفرّقهم فاقتلوه " (¬2). وقول عمر " تغرّة أن يقتلا " (¬3) وقول جماعة من الأئمّة: إن تاب أهل القدر وإلا قتلوا. وقال جماعة من الأئمّة: يضرب المبتدع حتّى يرجع أو يموت، وقول جماعة من الأئمّة يقتل تارك الصّلاة. قال: وهذا كلّه زائد على الثّلاث. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4462) والترمذي (1/ 275) وابن ماجه (2561) وأحمد (1/ 300) وابن الجارود (820) والدارقطني (341) والحاكم (4/ 355) وعبد بن حميد (576) وغيرهم من حديث ابن عبّاس. وزاد بعضهم " ومن وجتموه قد أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه ". وفي الحديث اختلافٌ كثيرٌ. ذكره الزيلعي في نصب الراية وغيره. وقد ضعّفه الشارح كما سيأتي. ضمن كلامه. (¬2) أخرج مسلم (1852) عن عرفجة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه ستكون هَنَاتٌ وهناتٌ , فمن أراد أن يفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع , فاضربوه بالسيف كائناً من كان " وفي رواية له " من أتاكم , وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريد أن يشق عصاكم , أو يفرق جماعتكم , فاقتلوه " (¬3) قول عمر. أخرجه البخاري (6830) ضمن حديث طويل في ببيعة أبي بكر. وفيه: من بايعَ رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي تابعه، تغرة أن يقتلا. قال الحافظ: (12/ 150) قوله (تغرة أن يقتلا) بمثناة مفتوحة وغين معجمة مكسورة وراء ثقيلة بعدها هاء تأنيث. أي: حذراً من القتل , وهو مصدر من أغررته تغريراً , أو تغرة , والمعنى أن من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه , وعرضهما للقتل.

قلت: وزاد غيره قتلَ من طلب أخذ مال إنسان أو حريمه بغير حقّ، ومانع الزّكاة المفروضة، ومن ارتدّ ولَم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع وأظهر الشّقاق والخلاف، والزّنديق إذا تاب على رأي، والسّاحر. والجواب عن ذلك كلّه: أنّ الأكثر في المحاربة أنّه إن قَتل قُتل. وبأنّ حكم الآية في الباغي أن يقاتل لا أن يقصد إلى قتله. وبأنّ الخبرين في اللواط وإتيان البهيمة لَم يصحّا. وعلى تقدير الصّحّة فهما داخلان في الزّنا، وحديث الخارج عن المسلمين المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، وأثر عمر من هذا القبيل. والقول في القدريّة وسائر المبتدعة مفرّع على القول بتكفيرهم. وبأنّ قتل تارك الصّلاة عند من لا يكفّره مختلف فيه كما تقدّم إيضاحه. وأمّا من طلب المال أو الحريم فمن حكم دفع الصّائل، ومانع الزّكاة تقدّم جوابه، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتل الزّنديق لاستصحاب حكم كفره، وكذا السّاحر، والعلم عند الله تعالى. وقد حكى ابن العربيّ عن بعض أشياخه: أنّ أسباب القتل عشرة، قال ابن العربيّ: ولا تخرج عن هذه الثّلاثة بحالٍ، فإنّ من سحر أو سبّ نبيّ الله كفّر فهو داخل في التّارك لدينه. والله أعلم. واستُدل بقوله {النّفس بالنّفس} على تساوي النّفوس في القتل

العمد , فيقاد لكل مقتول من قاتله سواء كان حرّاً أو عبداً، وتمسّك به الحنفيّة. وادّعوا أنّ آية المائدة {أنَّ النفسَ بالنفس والعينَ بالعين .. الآية} ناسخة لآية البقرة {كُتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد}. ومنهم. من فرّق بين عبد الجاني وعبد غيره , فأقاد من عبد غيره , دون عبد نفسه. وقال الجمهور: آية البقرة مفسّرة لآية المائدة , فيقتل العبد بالحرّ ولا يقتل الحرّ بالعبد لنقصه. وقال الشّافعيّ: ليس بين العبد والحرّ قصاص إلَّا أن يشاء الحرّ. واحتجّ للجمهور: بأنّ العبد سلعة , فلا يجب فيه إلَّا القيمة لو قتل خطأ. واستدل بعمومه على جواز قتل المسلم بالكافر المستأمن والمعاهد، وأمَّا ترك قتل المسلم بالكافر. فأخذ به الجمهور، لحديث عليّ " لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ " متفق عليه. قال إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن ": الجمع بين الآيتين أولى، فتحمل النّفس على المكافئة، ويؤيّده اتّفاقهم على أنّ الحرّ لو قذف عبداً لَم يجب عليه حدّ القذف. قال: ويؤخذ الحكم من الآية نفسها , فإنّ في آخرها (فمن تصدّق به فهو كفّارة له) والكافر لا يسمّى متصدّقاً ولا مكفّراً عنه، وكذلك العبد لا يتصدّق بجرحه لأنّ الحقّ لسيّده.

وقال أبو ثور: لَمَّا اتّفقوا على أنّه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النّفس كانت النّفس أولى بذلك. وفي الحديث. جواز وصف الشّخص بما كان عليه ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتدّ من المسلمين، وهو باعتبار ما كان.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 342 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوّل ما يُقضى بين الناس يوم القيامة، في الدماء. (¬1) قوله: (أول ما يقضى ... إلخ) أي: التي وقعت بين النّاس في الدّنيا، والمعنى أوّل القضايا القضاء في الدّماء. ويحتمل: أن يكون التّقدير , أوّل ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدّماء. ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رفعه: إنّ أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته. الحديث أخرجه أصحاب السّنن. لأنّ الأوّل محمولٌ على ما يتعلق بمعاملات الخلق. والثّاني فيما يتعلق بعبادة الخالق. وقد جمع النّسائيّ في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين. ولفظه " أوّل ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأوّل ما يقضى بين النّاس في الدّماء ". وجاء في صحيح البخاري ذِكْرُ هذه الأوّليّة بأخصّ ممّا في حديث الباب. فروى عن عليٍّ قال: أنا أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة. يعني: هو ورفيقاه حمزة وعبيدة , وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6168 , 6471) ومسلم (1678) من طرق عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود - رضي الله عنه -

والوليد بن عتبة الذين بارزوا يوم بدر، قال أبو ذرٍّ: فيهم نزلت {هذان خصمان اختصموا في ربّهم} الآية. وفي حديث الصّور الطّويل عن أبي هريرة رفعه: أوّل ما يقضى بين النّاس في الدّماء، ويأتي كلّ قتيل قد حمل رأسه , فيقول: يا ربّ سل هذا فيم قتلني. الحديث. وفي حديث نافع بن جبيرٍ عن ابن عبّاس رفعه: يأتي المقتول معلقاً رأسه بإحدى يديه ملبِّباً قاتله بيده الأخرى , تشخب أوداجه دماً حتّى يقفا بين يدي الله. (¬1) الحديث، ونحوه عند ابن المبارك عن عبد الله بن مسعودٍ موقوفاً. وأمّا كيفيّة القصاص فيما عدا ذلك. فيعلم من حديث أبى هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلّله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لَم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه. أخرجه البخاري. وأخرج ابن ماجه عن ابن عبّاسٍ رفعه: نحن آخر الأمم وأوّل من يحاسب يوم القيامة. وفي الحديث عظم أمر الدّم، فإنّ البداءة إنّما تكون بالأهمّ، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (10/ 306) وفي " الأوسط " (2/ 286) عنه به. وقال الهيثمي في " المجمع " (7/ 581): رجاله رجال الصحيح. وللترمذي (3029) والنسائي (7/ 87) من طريق آخر عن ابن عباس نحوه.

والذّنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانيّة غاية في ذلك. وقد ورد في التّغليظ في أمر القتل آياتٌ كثيرةٌ وآثارٌ شهيرةٌ. و" ما " في هذا الحديث موصولة وهو موصول حرفيّ , ويتعلق الجارّ بمحذوفٍ. أي: أوّل القضاء يوم القيامة القضاء في الدّماء. أي: في الأمر المتعلق بالدّماء. وقد استدل به. على أنّ القضاء يختصّ بالنّاس ولا مدخل فيه للبهائم، وهو غلط , لأنّ مفاده حصر الأوّليّة في القضاء بين النّاس , وليس فيه نفي القضاء بين البهائم بعد القضاء بين النّاس.

باب القسامة

باب القسامة بفتح القاف وتخفيف المهملة هي مصدر أقسم قسماً وقسامة، وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدّم أو على المدّعى عليهم الدّم، وخصّ القسم على الدّم بلفظ القسامة. وقال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان. وقال في المحكم: القسامة الجماعة يقسمون على الشّيء أو يشهدون به. ويمين القسامة منسوب إليهم ثمّ أطلقت على الأيمان نفسها. الحديث الثالث 343 - عن سهل بن أبي حثمة، قال: انطلق عبد الله بن سهلٍ، ومحيّصة بن مسعودٍ إلى خيبر - وهي يومئذٍ صلحٌ - فتفرَّقا، فأتى محيّصة إلى عبد الله بن سهلٍ - وهو يتشحّط في دمه قتيلاً - فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهلٍ ومحيّصة وحويّصة ابنا مسعودٍ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن يتكلَّم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: كبّر كبّر وهو أحدث القوم فسكت، فتكلَّما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف، ولَم نشهد، ولَم نرَ؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قومٍ كفارٍ؟ فعَقَلَه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من عنده. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2555 , 3002) ومسلم (1669) من طرق عن يحيى بن سعيد عن بُشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (6769) ومسلم (1669) من طريق مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة , أنه أخبره هو ورجالٌ من كُبراء قومه. فذكر نحوه.

وفي حديث حماد بن زيدٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُقسم خمسون منكم على رجلٍ منهم، فيُدفع برُمّتِه، قالوا: أمرٌ لَم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتُبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسولَ الله قومٌ كفارٌ؟ فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قِبَله. (¬1) وفي حديث سعيد بن عبيدٍ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبطل دمه، فوداه بمائةٍ من إبل الصّدقة. (¬2) قوله: (سهل بن أبي حثمة) واسم أبي حثمة عامر بن ساعدة بن عامر , ويقال: اسم أبيه عبد الله , فاشتهر هو بالنّسبة إلى جدّه , وهو من بني حارثة بطن من الأوس. (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5791) ومسلم (1669) من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن بُشير بن يسار عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة. (¬2) أخرجه البخاري (6502) ومسلم (1669) من طريق سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار عن سهل - رضي الله عنه -. ساقها البخاري , وتركها مسلم. (¬3) قيل: كان لسهلٍ عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع سنين أو ثمان سنين , وقد حدَّث عنه بأحاديث. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: بايع تحت الشجرة , وشهد المشاهد إلَّا بدراً , وكان دليلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُحدٍ , وقال ابن القطان: هذا لا يصحُّ لاطباق الأئمة على أنه كان ابن ثمان سنين أو نحوها عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. منهم ابن منده وابن حبان وابن السكن والحاكم أبو أحمد والطبري , وجزم بأنه مات في أول خلافة معاوية , وغلط بأنَّ ذلك أبوه. ويظهر لي أنه اشتبه على من قال شهد المشاهد .. الخ. بسهل بن الحنظلية فإنه الذي وصف بما ذكر , ويقال بأنَّ الموصوف بذلك أبوه أبو حثمة. وهو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - خارصاً , وكان الدليل إلى أحد. قال في الإصابة.

قوله: (انطلق عبد الله بن سهلٍ، ومحيّصة بن مسعودٍ إلى خيبر) وللبخاري " انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر ". ومحيّصة - بضمّ الميم وفتح المهملة وتشديد التّحتانيّة مكسورة بعدها صاد مهملة - وكذا ضبط أخيه حويّصة. وحكي: التّخفيف في الاسمين معاً , ورجّحه طائفة. (تنبيه): قوله في نسب محيصة بن مسعود " ابن زيد " يقال: إن الصواب " كعب " بدل زيد. (¬1) قوله: (وهي يومئذٍ صلحٌ) المراد مصالحة أهلها اليهود مع المسلمين. قال تعالى {وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها} , وهذه الآية دالة على مشروعيّة المصالحة مع المشركين، وجنحوا. أي: طلبوا. قاله البخاري. وقال غيره: معنى جنحوا مالوا. وقال أبو عبيدة: السّلم والسِّلم واحد. وهو الصّلح. وقال أبو عمرو: السّلم بالفتح الصّلح، والسّلم بالكسر الإسلام. ¬

_ (¬1) كذا قال رحمه الله. وفي صحيح مسلم (1669) عن بُشير بن يسار , أنَّ رجلاً من الأنصار من بني حارثة يقال له عبدالله بن سهل بن زيد انطلق هو وابن عمٍّ له , يقال له محيصة بن مسعود بن زيد. وساق الحديث

ومعنى الشّرط في الآية , أنّ الأمر بالصّلح مقيّد بما إذا كان الأحظّ للإسلام المصالحة، أمّا إذا كان الإسلام ظاهراً على الكفر , ولَم تظهر المصلحة في المصالحة فلا. وأمّا أصل المسألة فاختلف فيه. فقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على مال يؤدّونه إليهم؟ فقال: لا يصلح ذلك إلَّا عن ضرورة كشغل المسلمين عن حربهم. وقال: لا بأس أن يصالحهم على غير شيء يؤدّونه إليهم كما وقع في الحديبية. وقال الشّافعيّ: إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم، لأنّ القتل للمسلمين شهادة، وإنّ الإسلام أعزّ من أن يعطى المشركون على أن يكفُّوا عنهم، إلَّا في حالة مخافة اصطلام (¬1) المسلمين لكثرة العدوّ، لأنّ ذلك من معاني الضّرورات، وكذلك إذا أُسر رجلٌ مسلمٌ فلم يطلق إلَّا بفدية جاز. قوله: (فتفرّقا) وللشيخين من رواية سعيد بن عبيدٍ عن بشير بن يسارٍ الأنصاريّ عن سهل بن أبي حثمة الأنصاريّ , أنّه أخبره , أنّ نفراً منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرّقوا فيها. وتُحمل أنّه كان معهما تابعٌ لهما. وقد وقع في رواية محمد بن إسحاق عن بشير بن يسار عند (¬2) ابن ¬

_ (¬1) أي: استئصال. وكلُّ شيءٍ اصطُلم فلم يبقَ منه شيء. لسان العرب. (¬2) وقع في المطبوع من الفتح " عن " والصواب " عند ". فقد أخرجه ابن أبي عاصم في " كتاب الديات " له هكذا. (1/ 41).

أبي عاصم: خرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمراً. زاد سليمان بن بلال عند مسلم في روايته عن يحيى بن سعيد عن بشير " في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهي يومئذٍ صلح. وأهلها يهود ". والمراد أنّ ذلك وقع بعد فتحها، فإنّها لَمَّا فتحت أقرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أهلها فيها على أن يعملوا في المزارع بالشّطر ممّا يخرج منها. كما تقدّم بيانه (¬1). وفي رواية أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة عند الشيخين " خرجا إلى خيبر. قوله: (فأتى محيّصة إلى عبد الله بن سهلٍ , وهو يتشحّط في دمه قتيلاً فدَفَنَه) أي: يضطرب فيتمرّغ في دمه فدفنه، وفي رواية الليث عن يحيى بن سعيد عند مسلم " فإذا محيّصة يجد عبد الله بن سهل قتيلاً فدفنه ". وفي رواية سليمان بن بلال " فوجد عبد الله بن سهل مقتولاً في شَرَبة (¬2) فدفنه صاحبه " وفي رواية سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار عند البخاري " فقالوا للذين وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً. ¬

_ (¬1) مضى ذلك في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في البيوع من العمدة برقم (293) (¬2) في المطبوع من الفتح " سربه " وهو تصحيف , والصواب ما أثبتّه , وهو الموافق لِما في صحيح مسلم (1669) ومستخرج أبي عوانة (6033) قال السيوطي في " حاشيته على مسلم " (4/ 270): شربة بفتح الشين المعجمة والرّاء. وهو حوض يكون في أصل النّخلة.

وفي رواية أبي ليلى " فأخبر محيّصة , أنّ عبد الله قتل وطرح في فقير- بفاءٍ مفتوحة ثمّ قاف مكسورة. أي: حفيرة - فأتى محيّصة يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه " قوله: (فانطلق عبد الرحمن بن سهلٍ ومحيّصة وحويّصة ابنا مسعودٍ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في رواية حمّاد بن زيد عن يحيى بن سعيد " فجاء عبد الرّحمن بن سهل وحويّصة ومحيّصة ابنا مسعود إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتكلَّموا في أمر صاحبهم ". وفي رواية سليمان بن بلال " فأتى أخو المقتول عبد الرّحمن ومحيّصة وحويّصة , فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأن عبد الله حيث قتل " زاد أبو ليلى في روايته " وهو - أي حويّصة - أكبر منه، أي: من محيّصة. قوله: (كبّر كبّر , وهو أحدث القوم فسكت) بتكرار الأمر، وكذا في رواية أبي ليلى. وزاد " يريد السّنّ " وللبخاري من رواية سعيد بن عبيد فقال " الكُبْر الكُبْر " بضمّ الكاف وسكون الموحّدة وبالنّصب فيهما على الإغراء. زاد في رواية يحيى بن سعيد " فبدأ عبد الرّحمن يتكلم , وكان أصغر القوم " زاد حمّاد بن زيد عن يحيى عند مسلم " في أمر أخيه " وفي رواية الليث " فذهب عبد الرّحمن يتكلم , فقال: كبّر الكبر " الأولى أمرٌ , والأخرى كالأوّل، ومثله في رواية حمّاد بن زيد. وزاد " أو قال: يبدأ الأكبر ". وفي رواية الليث " فسكت , وتكلم صاحباه ".

والمراد الأكبر في السّنّ إذا وقع التّساوي في الفضل , وإلَّا فيقدّم الفاضل في الفقه والعلم إذا عارضه السن. قوله: (فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم؟) وللبخاري " تأتون بالبيّنة على من قتله، قالوا: ما لنا بيّنة " كذا في رواية سعيد بن عبيد. ولَم يقع في رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ , ولا في رواية أبي قلابة عند البخاري (¬1) للبيّنة ذِكْرٌ , وإنّما قال يحيى في رواية " أتحلفون وتستحقّون قاتلكم أو صاحبكم " هذه رواية بشر بن المفضّل عنه , ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6503) عن أبي قلابة , أنَّ عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس، ثم أذِن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول: القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبَني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ محصنٍ بدمشق أنه قد زنى، لَم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولَم يروه؟ قال: لا، قلت: ... فذكر مناظرة أبي قلابة مع بعضهم , ثم قال أبو قلابة: وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخل عليه نفرٌ من الأنصار، فتحدَّثوا عنده، فخرج رجلٌ منهم بين أيديهم فقتل، فخرجوا بعده، فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، صاحبنا كان تحدَّث معنا، فخرج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشحط في الدم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بمن تظنون، أو مَن ترون قتله؟ قالوا: نرى أن اليهود قتلته، فأرسل إلى اليهود فدعاهم، فقال: آنتم قتلتم هذا؟ قالوا: لا، قال: أترضون نفَلَ خمسين من اليهود ما قتلوه؟ فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين، ثم ينتفلون، قال: أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده ... " قال الحافظ في " الفتح " (12/ 300): كذا أورد أبو قلابة هذه القصة مُرسلة , ويغلب على الظن أنها قصة عبد الله بن سهل ومحيّصة.

وفي رواية حمّاد عنه " أتستحقّون قاتلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين منكم؟ ". وفي رواية عند مسلم " يقسم خمسون منكم على رجلٍ منهم فيدفع برمّته " وفي رواية سليمان بن بلال " تحلفون خمسين يميناً وتستحقّون ". وفي رواية ابن عيينة عن يحيى عند أبي داود " تبرّئكم يهود بخمسين يميناً تحلفون " فبدأ بالمدّعى عليهم. لكن قال أبو داود: إنّه وهم. كذا جزم بذلك. وقد قال الشّافعيّ: كان ابن عيينة لا يثبت أقدّم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأنصار في الأيمان أو اليهود، فيقال له: إنّ في هذا الحديث أنّه قدّم الأنصار فيقول هو ذاك وربّما حدّث به كذلك ولَم يشكّ وفي رواية أبي ليلى " فقال لحويّصة ومحيّصة وعبد الرّحمن: أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم؟ فقالوا: لا " وفي رواية أبي قلابة " فأرسل إلى اليهود فدعاهم , فقال: أنتم قتلتم هذا؟ فقالوا: لا. فقال أترضون نفْلَ خمسين من اليهود ما قتلوه؟ " ونفل بفتح النّون وسكون الفاء. قوله: (وكيف نحلف. ولَم نشهد ولَم نر؟) وفي رواية حمّاد عن يحيى ين سعيد " أمرٌ لَم نره " وفي رواية سليمان " ما شهدنا ولا حضرنا ". قوله: (قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ

بأيمان قومٍ كفارٍ؟) أي: يخلصونكم من الأيمان بأن يحلّفوهم , فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب عليهم شيء وخلصتم أنتم من الأيمان. وفي رواية سعيد بن عبيد " قال فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود " وفي رواية أبي ليلى " فقالوا: ليسوا بمسلمين " وفي رواية الليث " نقبل " بدل " نأخذ ". وفي رواية أبي قلابة " ما يبالون أن يقتلونا أجمعين , ثمّ يحلفون " كذا في رواية سعيد بن عبيد لَم يذكر عرْض الأيمان على المدّعين , كما لَم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البيّنة أوّلاً. وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لَم يحفظ الآخر، فيُحمل على أنّه طلب البيّنة أوّلاً فلم تكن لهم بيّنة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدّعى عليهم فأبوا. وأمّا قول بعضهم: إنّ ذكر البيّنة وهْمٌ , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - قد علم أنّ خيبر حينئذٍ لَم يكن بها أحد من المسلمين , فدعوى نفي العلم مردودةٌ , فإنّه وإن سُلّم أنّه لَم يسكن مع اليهود فيها أحدٌ من المسلمين , لكن في نفس القصّة أنّ جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمراً , فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك , وإن لَم يكن في نفس الأمر كذلك. وقد وجدنا لطلب البيّنة في هذه القصّة شاهداً من وجه آخر. أخرجه النّسائيُّ من طريق عبد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه , أنّ ابن محيّصة الأصغر , أصبح قتيلاً على

أبواب خيبر , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليك برمّته، قال: يا رسولَ الله أنَّى أُصيب شاهدين , وإنّما أصبح قتيلاً على أبوابهم؟ قال: فتحلف خمسين قسامة، قال: فكيف أحلف على ما لا أعلم؟ قال: تستحلف خمسين منهم، قال: كيف وهم يهود؟!. وهذا السّند صحيحٌ حسنٌ , وهو نصٌّ في الحمل الذي ذكرته فتعيّن المصير إليه. وقد أخرج أبو داود أيضاً من طريق عباية بن رفاعة عن جدّه رافع بن خديج قال: أصبح رجلٌ من الأنصار بخيبر مقتولاً، فانطلق أولياؤه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم، قال: لَم يكن ثَمّ أحدٌ من المسلمين وإنّما هم اليهود وقد يجترئون على أعظم من هذا. قوله: (وفي حديث سعيد بن عبيدٍ) هو الطائي الكوفي. يكنى أبا هذيل. روى عنه الثوري وغيره من الأكابر، وأبو نعيم الراوي عنه هنا هو آخر من روى عنه. وثَّقه أحمد وابن معين وآخرون، وقال الآجري عن أبي داود: كان شعبة يتمنى لقاءه. وفي طبقته سعيد بن عبيد الهُنَائي - بضم الهاء وتخفيف النون وهمز ومد - بصري صدوق. أخرج له الترمذي والنسائي.

قوله: (فكرِه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل) في رواية سعيد بن عبيد (¬1) " يُطل " - بضمّ أوّله وفتح الطّاء وتشديد اللام - أي: يهدر. قوله: (فوداه بمائة) ووقع في رواية أبي ليلى " فوداه من عنده " وفي رواية يحيى بن سعيد " فعَقَله النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من عنده " أي: أعطى ديته. وفي رواية حمّاد بن زيد " من قِبَله " بكسر القاف وفتح الموحّدة. أي: من جهته , وفي رواية الليث عنه " فلمّا رأى ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطىعقله " قوله: (من إبل الصّدقة) زعم بعضهم. أنّه غلطٌ من سعيد بن عبيد لتصريح يحيى بن سعيد بقوله " من عنده ". وجمع بعضهم بين الرّوايتين. أولاً. باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصّدقة بمالٍ دفعه من عنده. ثانياً. أو المراد بقوله " من عنده " أي بيت المال المُرصد للمصالح، وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مَجّاناً لِما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين. وقد حمله بعضهم على ظاهره , فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزّكاة في المصالح العامّة , واستدل بهذا الحديث وغيره. قلت: وفيه حديث أبي لاس قال: حملنا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على إبل من إبل ¬

_ (¬1) رواية (يُطَلَّ) وقعت في الفتح من رواية سعيد نفسه. وعليها شرح ابن حجر.

الصّدقة في الحجّ. أخرجه أحمد وإسحاق في مسنديهما وصححه بن خزيمة والحاكم , ولفظ أحمد " على إبلٍ من إبل الصّدقة ضعاف للحجّ , فقلنا: يا رسولَ الله. ما نرى أن تحمل هذه , فقال: إنّما يحمل الله .. الحديث. ورجاله ثقات. إلَّا أنَّ فيه عنعنة ابن إسحاق , ولهذا توقَّف ابن المنذر في ثبوته. وعلى هذا فالمراد بالعنديّة كونها تحت أمره وحكمه، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم. قال القرطبيّ في " المفهم ": فَعَلَ - صلى الله عليه وسلم - ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلباً للمصلحة ودرءاً للمفسدة على سبيل التّأليف، ولا سيّما عند تعذّر الوصول إلى استيفاء الحقّ، ورواية مَن قال " من عنده " أصحّ من رواية مَن قال " من إبل الصّدقة ". وقد قيل: إنّها غلط. والأولى أن لَّا يُغلَّط الرّاوي ما أمكن، فيحتمل أوجهاً منها فذكر ما تقدّم. وزاد: أن يكون تسلف ذلك من إبل الصّدقة ليدفعه من مال الفيء. أو أنّ أولياء القتيل كانوا مستحقّين للصّدقة فأعطاهم. أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة استئلافاً لهم واستجلاباً لليهود. انتهى. وزاد أبو ليلى في روايته " قال سهل: فركضتني ناقة ". وفي رواية

حمّاد بن زيد عن يحيى " أدركتْه ناقة من تلك الإبل , فدخلت مِربداً لهم , فركضتني برجلها " وفي رواية شيبان بن بلال " لقد ركضتني ناقة من تلك الفرائض بالمربد " وفي رواية محمّد بن إسحاق " فوالله ما أنسى ناقة بكرة منها حمراء , ضربتني وأنا أحوزها " وفي حديث الباب من الفوائد مشروعيّة القسامة. قال القاضي عياض: هذا الحديث أصلٌ من أصول الشّرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافّة الأئمّة والسّلف من الصّحابة والتّابعين وعلماء الأمّة وفقهاء الأنصار من الحجازيّين والشّاميّين والكوفيّين وإن اختلفوا في صورة الأخذ به. وروي التّوقّف عن الأخذ به عن طائفة , فلم يروا القسامة ولا أثبتوا بها في الشّرع حكماً، وهذا مذهب الحكم بن عتيبة وأبي قلابة وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وقتادة ومسلم بن خالد وإبراهيم بن عليّة. وإليه ينحو البخاريّ، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلافٍ عنه. قلت: وهذا ينافي ما صدَّر به كلامه , أنّ كافّة الأئمّة أخذوا بها. وروى حمّاد بن سلمة في " مصنّفه "، ومن طريقه ابن المنذر، قال حمّاد عن ابن أبي مُلَيْكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة , فأخبرته , أنّ عبد الله بن الزّبير أقاد بها , وأنّ معاوية. يعني: ابن أبي سفيان لَم يقد بها. وهذا سند صحيح. وقد توقّف ابن بطّال في ثبوته , فقال: قد صحّ عن معاوية أنّه أقاد

بها , ذكر ذلك عنه أبو الزّناد في احتجاجه على أهل العراق. قلت: هو في صحيفة عبد الرّحمن بن أبي الزّناد عن أبيه، ومن طريقه أخرجه البيهقيّ , قال: حدّثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجلٌ من الأنصار رجلاً من بني العجلان , ولَم يكن على ذلك بيّنة ولا لطخ، فأجمع رأي النّاس على أن يحلف ولاة المقتول ثمّ يسلم إليهم فيقتلوه. فركبتُ إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقّاً فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يميناً ثمّ أسلمه إلينا. قلت: ويمكن الجمع بأنّ معاوية لَم يقد بها لَمَّا وقعت له , وكان الحكَم في ذلك، ولَمّا وقعت لغيره. وَكَلَ الأمر في ذلك إليه , ونسب إليه أنّه أقاد بها , لكونه أذن في ذلك. وقد تمسّك مالك بقول خارجة المذكور , فأطلق أنّ القود بها إجماع. ويحتمل: أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثمّ رجع عن ذلك أو بالعكس. وقد أخرج الكرابيسي في " أدب القضاء " بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة أخرى قضى فيها معاوية بالقسامة , لكن لم يصرح فيها بالقتل , وقصة أخرى لمروان قضى فيها بالقتل , وقضى عبد الملك بن مروان بمثل قضاء أبيه. وروى سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا حميد الطويل قال: كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز في قتيل وجد في سوق

البصرة. فكتب إليه عمر رحمه الله: أنًّ من القضايا ما لا يقضى فيه إلى يوم القيامة , وأنَّ هذه القضية لمنهن ". وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال: وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز. فذكر نحوه. وهذا أثر صحيح، وعدي بن أرطاة - بفتح الهمزة وسكون الراء بعدها مهملة - وهو فزاري من أهل دمشق. وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة كما اختلف على معاوية. فذكر ابن بطال , أن في " مصنف حماد بن سلمة " عن ابن أبي مليكة , أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة. قلت: ويجمع بأنه كان يرى بذلك لَمَّا كان أميراً على المدينة ثم رجع لَمَّا ولي الخلافة، ولعلَّ سبب ذلك ما تقدَّم من قصة أبي قلابة (¬1) حيث احتج على عدم القود بها، فكأنه وافقه على ذلك. وأخرج ابن المنذر من طريق الزهري قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أدع القسامة يأتي رجلٌ من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلتُ: إنك إنْ تتركها يوشك أنَّ الرجل يُقتل عند بابك فيبطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة ". وسبق عمرَ بن عبد العزيز إلى إنكار القسامة سالِمُ بنُ عبد الله بن ¬

_ (¬1) تقدَّم ذكر قصة أبي قلابة مع عمر بن العزيز قريباً في الحاشية.

عمر. فأخرج ابن المنذر عنه , أنّه كان يقول: يا لَقوم يحلفون على أمر لَم يروه ولَم يحضروه: ولو كان لي أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالاً , ولَم أقبل لهم شهادة. وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة , فإنّ سالماً من أجل فقهاء المدينة. وأخرج ابن المنذر أيضاً عن ابن عبّاس: أنّ القسامة لا يقاد بها. قال القاضي: واختلف قول مالك في مشروعيّة القسامة في قتل الخطأ. واختلف القائلون بها في العمد هل يجب بها القود أو الدّية؟. فمذهب معظم الحجازيّين. إيجاب القود إذا كملت شروطها، وهو قول الزّهريّ وربيعة وأبي الزّناد ومالك والليث والأوزاعيّ والشّافعيّ في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وروي ذلك عن بعض الصّحابة كابن الزّبير، واختلف عن عمر بن عبد العزيز. وقال أبو الزّناد: قتلنا بالقسامة والصّحابة متوافرون، إنّي لأرى أنّهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان. قلت: إنّما نقل ذلك أبو الزّناد عن خارجة بن زيد بن ثابت. كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقيّ من رواية عبد الرّحمن بن أبي الزّناد عن أبيه، وإلَّا فأبو الزّناد لا يثبت أنّه رأى عشرين من الصّحابة فضلاً عن ألف. ثمّ قال القاضي: وحجّتهم حديث الباب - يعني من رواية يحيى

بن سعيد التي أشرت إليها - قال: فإنّ مجيئه من طرق صحاح لا يدفع، وفيه تبرئة المدّعين ثمّ ردّها حين أبوا على المدّعى عليهم. واحتجّوا بحديث أبي هريرة " البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه إلَّا القسامة ". (¬1) ويقول مالك: أجمعت الأئمّة في القديم والحديث على أنّ المدّعين يبدءون في القسامة، ولأنّ جَنَبَةَ المدّعي إذا قويت بشهادةٍ أو شبهة صارت اليمين له. وهاهنا الشّبهة قويّة. وقالوا: هذه سنّة بحيالها وأصل قائم برأسه لحياة النّاس وردع المعتدين، وخالفت الدّعاوى في الأموال فهي على ما ورد فيها، وكلّ أصل يتّبع ويستعمل ولا تطرح سنّةٌ لسنّةٍ. وأجابوا عن رواية سعيد بن عبيد يعني المذكورة , بقول أهل الحديث , إنّه وهْمٌ من راويه , أسقط من السّياق تبرئة المدّعين باليمين لكونه لَم يذكر فيه ردّ اليمين. واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المقري في " معجمه " (616) والدارقطني في " السنن " (4/ 114) و (5/ 389) والبيهقي في " الكبرى " (8/ 213) وابن عبد البر في " التمهيد " (23/ 204) من طريق مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب به. قال الشارح في " التلخيص " (4/ 107): قال أبو عمر: إسناده لين، وقد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو مرسلاً، وعبد الرزاق أحفظ من مسلم بن خالد وأوثق. ورواه ابن عدي والدارقطني من حديث عثمان بن محمد عن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة. وهو ضعيف أيضاً. وقال البخاري: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، فهذه علة أخرى. انتهى

قبولها وهي تقضي على من لَم يعرفها. قلت: وسيأتي مزيد بيان لذلك. قال القرطبيّ: الأصل في الدّعاوى أنّ اليمين على المدّعى عليه، وحكم القسامة أصل بنفسه لتعذّر إقامة البيّنة على القتل فيها غالباً، فإنّ القاصد للقتل يقصد الخلوة ويترصّد الغفلة، وتأيّدت بذلك الرّواية الصّحيحة المتّفق عليها وبقي ما عدا القسامة على الأصل، ثمّ ليس ذلك خروجاً عن الأصل بالكليّة , بل لأنّ المدّعى عليه إنّما كان القول قوله , لقوّة جانبه بشهادة الأصل له بالبراءة ممّا ادّعي عليه، وهو موجود في القسامة في جانب المدّعي لقوّة جانبه باللوث الذي يقوّي دعواه. قال عياض: وذهب مَن قال بالدّية , إلى تقديم المدّعى عليهم في اليمين، إلَّا الشّافعيّ وأحمد فقالا بقول الجمهور: يبدأ بأيمان المدّعين. وردّها إن أبوا على المدّعى عليهم. وقال بعكسه أهل الكوفة وكثيرٌ من أهل البصرة وبعض أهل المدينة والأوزاعيّ , فقال: يستحلف من أهل القرية خمسين رجلاً خمسين يميناً ما قتلناه ولا علمنا من قتله. فإن حلفوا برئوا , وإن نقصت قسامتهم عن عدد أو نكلوا حلف المدّعون على رجل واحد واستحقّوا، فإن نقصت قسامتهم قاده دية. وقال عثمان البتّيّ من فقهاء البصرة: ثمّ يبدأ بالمدّعى عليهم بالأيمان فإن حلفوا فلا شيء عليهم.

وقال الكوفيّون: إذا حلفوا وجبت عليهم الدّية، وجاء ذلك عن عمر. قال: واتّفقوا كلّهم على أنّها لا تجب بمجرّد دعوى الأولياء حتّى يقترن بها شبهة يغلب على الظّنّ الحكم بها، واختلفوا في تصوير الشّبهة على سبعة أوجه فذكرها، وملخّصها: الأوّل: أن يقول المريض: دمي عند فلان أو ما أشبه ذلك، ولو لَم يكن به أثر أو جرح , فإنّ ذلك يوجب القسامة عند مالك والليث لَم يقل به غيرهما، واشترط بعض المالكيّة الأثر أو الجرح. واحتجّ لمالكٍ بقصّة بقرة بني إسرائيل، قال: ووجه الدّلالة منها. أنّ الرّجل حيّ فأخبر بقاتله. وتعقّب: بخفاء الدّلالة منها، وقد بالغ ابن حزم في ردّ ذلك. واحتجّوا: بأنّ القاتل يتطلب حالة غفلة النّاس فتتعذّر البيّنة، فلو لَم يعمل بقول المضروب لأدّى ذلك إلى إهدار دمه , لأنّها حالة يتحرّى فيها اجتناب الكذب ويتزوّد فيها من البرّ والتّقوى، وهذا إنّما يأتي في حالة المحتضر. الثّاني: أن يشهد من لا يكمل النّصاب بشهادته كالواحد أو جماعة غير عدول , قال بها المذكوران (¬1). ووافقهما الشّافعيّ ومن تبعه. الثّالث: أن يشهد عدلان بالضّرب , ثمّ يعيش بعده أيّاماً ثمّ يموت ¬

_ (¬1) أي: مالك والليث اللذان تقدَّم ذِكرهما.

منه , من غير تخلل إفاقة، فقال المذكوران: تجب فيه القسامة. وقال الشّافعيّ: بل يجب القصاص بتلك الشّهادة. الرّابع: أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه مَن بيده آلة القتل. وعليه أثر الدّم مثلاً ولا يوجد غيره. فتشرع فيه القسامة عند مالك والشّافعيّ، ويلتحق به أن تفترق جماعة عن قتيل. الخامس: أن يقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل. ففيه القسامة عند الجمهور. وفي رواية عن مالك: تختصّ القسامة بالطّائفة التي ليس هو منها , إلَّا إن كان من غيرهما فعلى الطّائفتين. السّادس: المقتول في الزّحمة. قال ابن بطّال: اختلف عليّ وعمر هل تجب ديته في بيت المال أو لا؟ وبه قال إسحاق. أي: بالوجوب، وتوجيهه أنّه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال المسلمين. قلت: ولعل حجّته ما ورد في بعض طرق قصّة حذيفة (¬1). وهو ما أخرجه أبو العبّاس السّرّاج في " تاريخه " من طريق عكرمة , أنّ والد حذيفة قتل يوم أحد قتله بعض المسلمين. وهو يظنّ أنّه من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3116) ومواضع أخرى من طريق عروة عن عائشة. قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم. فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم. فنظر حذيفةُ فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه , فقال حذيفة: غفر الله لكم. قال عروة: فما زالت في حذيفة منه بقية خير حتى لحق بالله.

المشركين فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورجاله ثقات مع إرساله. له شاهد مرسل عن الزهري. أخرجه أبو إسحاق الفزاري في " السنن " , وروى مسدّد في " مسنده " من طريق يزيد بن مذكور , أنّ رجلاً زُحم يوم الجمعة فمات , فوداه عليٌّ من بيت المال. وفي المسألة مذاهب أخرى. منها: قول الحسن البصريّ , إنّ ديته تجب على جميع من حضر. وهو أخصّ من الذي قبله، وتوجيهه أنّه مات بفعلهم فلا يتعدّاهم إلى غيرهم. ومنها: قول الشّافعيّ ومن تبعه إنّه يقال لوليّه: ادّع على من شئت , واحلف فإن حلفت استحققتَ الدّية , وإن نكلتَ حلف المدّعى عليه على النّفي , وسقطت المطالبة، وتوجيهه أنّ الدّم لا يجب إلَّا بالطّلب. ومنها: قول مالك دمه هدر، وتوجيهه أنّه إذا لَم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. السّابع: أن يوجد قتيل في محلّة أو قبيلة. القول الأول: هذا يوجب القسامة عند الثّوريّ والأوزاعيّ وأبي حنيفة وأتباعهم، ولا يوجب القسامة عندهم سوى هذه الصّورة، وشرطها عندهم إلَّا الحنفيّة أن يوجد بالقتيل أثر. القول الثاني: قال داود: لا تجرى القسامة إلَّا في العمد على أهل مدينة أو قرية كبيرة. وهم أعداء للمقتول.

القول الثالث: ذهب الجمهور: إلى أنّه لا قسامة فيه , بل هو هدر , لأنّه قد يقتل ويلقى في المحلة ليتّهموا. وبه قال الشّافعيّ، وهو رواية عن أحمد، إلَّا أن يكون في مثل القصّة التي في حديث الباب فيتّجه فيها القسامة لوجود العداوة. ولَم تر الحنفيّة ومن وافقهم لوثاً يوجب القسامة إلَّا هذه الصّورة. وحجّة الجمهور: القياس على هذه الواقعة، والجامع أن يقترن بالدّعوى شيء يدلّ على صدق المدّعى فيقسم معه ويستحقّ. وقال ابن قدامة: ذهب الحنفيّة إلى أنّ القتيل إذا وجد في محلّ فادّعى وليّه على خمسين نفساً من موضع قتله , فحلفوا خمسين يميناً ما قتلناه , ولا علمنا له قاتلاً , فإن لَم يجد خمسين كرّر الأيمان على من وجد , وتجب الدّية على بقيّة أهل الخطّة، ومن لَم يحلف من المدّعى عليهم حبس حتّى يحلف أو يقرّ. واستدلوا بأثر عمر , أنّه أحلف خمسين نفساً خمسين يميناً , وقضى بالدّية عليهم. وتعقّب: باحتمال أن يكونوا أقرّوا بالخطأ وأنكروا العمد , وبأنّ الحنفيّة لا يعملون بخبر الواحد إذا خالف الأصول ولو كان مرفوعاً , فكيف احتجّوا بما خالف الأصول بخبر واحد موقوف , وأوجبوا اليمين على غير المدّعى عليه؟. واستدل به على القود في القسامة لقوله " فتستحقّون قاتلكم " وفي الرّواية الأخرى " دم صاحبكم "

قال ابن دقيق العيد: الاستدلال بالرّواية التي فيها " فيدفع برمّته " (¬1) أقوى من الاستدلال بقوله " دم صاحبكم " لأنّ قوله " يدفع برمّته " لفظ مستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أنّ الواجب الدّية لبعد استعمال هذا اللفظ. وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر، والاستدلال بقوله " دم صاحبكم " أظهر من الاستدلال بقوله " قاتلكم " أو " صاحبكم " لأنّ هذا اللفظ لا بدّ فيه من إضمار. فيحتمل: أن يضمر دية صاحبكم احتمالاً ظاهراً، وأمّا بعد التّصريح بالدّية فيحتاج إلى تأويل اللفظ بإضمار بدل دم صاحبكم , والإضمار على خلاف الأصل. ولو احتيج إلى إضمار لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدّم أقرب. وأمّا مَن قال. يحتمل: أن يكون قوله " دم صاحبكم " هو القتيل لا القاتل , فيردّه قوله " دم صاحبكم أو قاتلكم ". وتعقّب: بأنّ القصّة واحدة اختلفت ألفاظ الرّواة فيها على ما تقدّم بيانه , فلا يستقيم الاستدلال بلفظٍ منها لعدم تحقّق أنّه اللفظ الصّادر من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. واستدل مَن قال بالقود أيضاً: بما أخرجه مسلم والنّسائيّ من ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في " النهاية " (2/ 267): الرُّمة بالضم: قطعة حبل يُشد بها الأسير أو القاتل إذا قيد إلى القصاص: أي يُسلم إليهم بالحبل الذي شُد به تمكيناً لهم منه لئلا يهرُب، ثم اتَّسعوا فيه حتى قالوا: أخذت الشيء برمته: أي كله. انتهى

طريق الزّهريّ عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرّحمن عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنّ القسامة كانت في الجاهليّة , وأقرّها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه من الجاهليّة وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادّعوه على يهود خيبر. وهذا يتوقّف على ثبوت أنّهم كانوا في الجاهليّة يقتلون في القسامة. وعند أبي داود من طريق عبد الرّحمن بن بجيدٍ - بموحّدةٍ وجيم مصغّر - قال: إنّ سهلاً - يعني ابن أبي حثمة - وهِم في الحديث , أنّ رسول الله كتب إلى يهود: إنّه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه , فكتبوا يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتلاً، قال: فوداه من عنده. وهذا ردّه الشّافعيّ بأنّه مرسل. ويعارض ذلك ما أخرجه ابن منده في " الصّحابة " من طريق مكحول حدّثني عمرو بن أبي خزاعة , أنّه قُتل فيهم قتيل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فجعل القسامة على خزاعة. بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً , فحلف كلّ منهم عن نفسه وغرم الدّية. وعمرو مختلف في صحبته. وأخرج ابن أبي شيبة بسندٍ جيّد إلى إبراهيم النّخعيّ قال: كانت القسامة في الجاهليّة إذا وجد القتيل بين ظهري قوم أقسم منهم خمسين يميناً، ما قتلنا ولا علمنا، فإن عَجَزتْ الأيمان ردّت عليهم , ثمّ عَقَلوا. وتمسّك مَن قال لا يجب فيها إلَّا الدّية:

بما أخرجه الثّوريّ في " جامعه " وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بسندٍ صحيح إلى الشّعبيّ قال: وجد قتيل بين حيّين من العرب , فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيّهما وجدتموه إليه أقرب , فأحلفوهم خمسين يميناً وأغرموهم الدّية. وأخرجه الشّافعيّ عن سفيان بن عيينة عن منصور عن الشّعبيّ , أنّ عمر كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة , أن يقاس ما بين القريتين , فإلى أيّهما كان أقرب , أخرج إليه منهم خمسون رجلاً حتّى يوافوه مكّة , فأدخلهم الحجر فأحلفهم , ثمّ قضى عليهم الدّية فقال: حقنت أيمانكُم دماءَكم , ولا يطل دم رجل مسلم. قال الشّافعيّ: إنّما أخذه الشّعبيّ عن الحارث الأعور والحارث غير مقبول. انتهى وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد , أنّ قتيلاً وجد بين حيّين , فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيّهما أقرب، فألقى ديته على الأقرب , ولكنّ سنده ضعيف. وقال عبد الرّزّاق في " مصنّفه ": قلت لعبيد الله بن عمر العمريّ: أعلمت أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت فعمر؟ قال: لا، قلت: فلم تجترئون عليها؟ فسكت. وأخرج البيهقيّ من طريق القاسم بن عبد الرّحمن , أنّ عمر قال: القسامة توجب العقل , ولا تسقط الدّم.

واستدل به الحنفيّة على جواز سماع الدّعوى في القتل على غير معيّن , لأنّ الأنصار ادّعوا على اليهود أنّهم قتلوا صاحبهم , وسمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعواهم. ورُدّ: بأنّ الذي ذكره الأنصار أوّلاً ليس على صورة الدّعوى بين الخصمين , لأنّ من شرطها إذا لَم يحضر المدّعى عليه أن يتعذّر حضوره سلَّمنا , ولكنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن لهم أنّ الدّعوى إنّما تكون على واحد لقوله " تُقسمون على رجلٍ منهم فيدفع إليكم برمّته " واستُدل بقوله " على رجلٍ منهم " وهو القول الأول. على أنّ القسامة إنّما تكون على رُجلٍ واحد , وهو قول أحمد ومشهور قول مالك. القول الثاني: قال الجمهور: يشترط أن تكون على معيّن. سواء كان واحداً أو أكثر. واختلفوا هل يختصّ القتل بواحدٍ أو يقتل الكلّ؟. وقد تقدّم البحث فيه. القول الثالث: قال أشهب: لهم أن يحلفوا على جماعة , ويختاروا واحداً للقتل , ويسجن الباقون عاماً , ويضربون مائة مائة، وهو قول لَم يُسبق إليه. وفيه. أنّ الحلف في القسامة لا يكون إلَّا مع الجزم بالقاتل، والطّريق إلى ذلك المشاهدة وإخبار من يوثق به , مع القرينة الدّالة على ذلك.

وفيه. أنّ من توجّهت عليه اليمين فنكل عنها لا يقضى عليه , حتّى يردّ اليمين على الآخر. وهو المشهور عند الجمهور. وعند أحمد والحنفيّة: يقضى عليه دون ردّ اليمين. وفيه. أنّ أيمان القسامة خمسون يميناً. واختلف في عدد الحالفين. فقال الشّافعيّ: لا يجب الحقّ حتّى يحلف الورثة خمسين يميناً. سواء قلّوا أم كثروا. فلو كان بعدد الأيمان حلف كلّ واحد منهم يميناً , وإن كانوا أقل أو نكَلَ بعضُهم ردّت الأيمان على الباقين , فإن لَم يمكن إلَّا واحد حلف خمسين يميناً واستحقّ , حتّى لو كان من يرث بالفرض والتّعصيب أو بالنّسب والولاء حلف واستحقّ. وقال مالك: إن كان وليّ الدّم واحداً ضمّ إليه آخر من العصبة ولا يستعان بغيرهم , وإن كان الأولياء أكثر حلف منهم خمسون. وقال الليث: لَم أسمع أحداً يقول إنّها تنزل عن ثلاثة أنفس. وقال الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب: أوّل من نقص القسامة عن خمسين معاوية. قال الزّهريّ: وقضى به عبد الملك , ثمّ ردّه عمر بن عبد العزيز إلى الأمر الأوّل. واستدل به. على تقديم الأسنّ في الأمر المهمّ إذا كانت فيه أهليّة ذلك , لا ما إذا كان عريّاً عن ذلك، وعلى ذلك يحمل الأمر بتقديم الأكبر في حديث الباب , إمّا لأنّ وليّ الدّم لَم يكن متأهّلاً فأقام الحاكم

قريبه مقامه في الدّعوى , وإمّا لغير ذلك. وفيه التّأنيس والتّسلية لأولياء المقتول , لا أنّه حكم على الغائبين , لأنّه لَم يتقدّم صورة دعوى على غائب , وإنّما وقع الإخبار بما وقع فذكر لهم قصّة الحكم على التّقديرين , ومن ثَمّ كتب إلى اليهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور. ويؤخذ منه أنّ مجرّد الدّعوى لا توجب إحضار المدّعى عليه، لأنّ في إحضاره مشغلة عن أشغاله وتضييعاً لماله من غير موجب ثابت لذلك. أمّا لو ظهر ما يقوّي الدّعوى من شبهة ظاهرة. فهل يسوغ استحضار الخصم أو لا؟ محلّ نظر. والرّاجح أنّ ذلك يختلف بالقرب والبعد وشدّة الضّرر وخفّته. وفيه. الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة. وفيه أنّ اليمين قبل توجيهها من الحاكم لا أثر لها , لقول اليهود في جوابهم " والله ما قتلنا " وفي قولهم " لا نرضى بأيمان اليهود " استبعاد لصدقهم , لِما عرفوه من إقدامهم على الكذب , وجراءتهم على الأيمان الفاجرة. واستدل به. على أنّ الدّعوى في القسامة لا بدّ فيها من عداوة أو لوث. واختلف في سماع هذه الدّعوى. ولو لَم توجب القسامة: فعن أحمد روايتان، وبسماعها قال الشّافعيّ , لعموم حديث

" اليمين على المدّعى عليه " بعد قوله " لو يُعطى النّاس بدعواهم لادّعى قوم دماء رجال وأموالهم " , ولأنّها دعوى في حقّ آدميّ فتسمع ويستحلف , وقد يقرّ فيثبت الحقّ في قتله ولا يقبل رجوعه عنه، فلو نكل ردّت على المدّعي. واستحقّ القود في العمد والدّية في الخطأ. وعن الحنفيّة. لا تردّ اليمين، وهي رواية عن أحمد. واستدل به على أنّ المدّعين والمدّعى عليهم إذا نكلوا عن اليمين , وجبت الدّية في بيت المال. وقد تقدّم ما فيه قريباً. واستُدل به. وهو القول الأول. على أنّ من يحلف في القسامة لا يشترط أن يكون رجلاً ولا بالغاً لإطلاق قوله " خمسين منكم، وبه قال ربيعة والثّوريّ والليث والأوزاعيّ وأحمد القول الثاني: قال مالك: لا مدخل للنّساء في القسامة , لأنّ المطلوب في القسامة القتل ولا يسمع من النّساء. القول الثالث: قال الشّافعيّ: لا يحلف في القسامة إلَّا الوارث البالغ , لأنّها يمين في دعوى حكميّة فكانت كسائر الأيمان , ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة. واختلف في القسامة. هل هي معقولة المعنى فيقاس عليها أو لا؟. والتّحقيق أنّها معقولة المعنى , لكنّه خفيّ , ومع ذلك فلا يقاس عليها , لأنّها لا نظير لها في الأحكام، وإذا قلنا إنّ المبدأ فيها يمين

المدّعي , فقد خرجت عن سنن القياس، وشرط القياس أن لا يكون معدولاً به عن سنن القياس كشهادة خزيمة. تنْبيهٌ: نبّه ابن المنير في الحاشية على النّكتة في كون البخاريّ لَم يورد في هذا الباب الطّريق الدّالة على تحليف المدّعي (¬1)، وهي ممّا خالفت فيه القسامة بقيّة الحقوق. فقال: مذهب البخاريّ تضعيف القسامة، فلهذا صدّر الباب بالأحاديث الدّالة على أنّ اليمين في جانب المدّعى عليه. وأورد طريق سعيد بن عبيد. وهو جارٍ على القواعد، وإلزام المدّعي البيّنة ليس من خصوصيّة القسامة في شيء. ثمّ ذكر حديث القسامة الدّالّ على خروجها عن القواعد بطريق العرض في كتاب الموادعة والجزية فراراً من أن يذكرها هنا. فيغلط المستدلّ بها على اعتقاد البخاريّ. قال: وهذا الإخفاء مع صحّة القصد ليس من قبيل كتمان العلم. قلت: الذي يظهر لي أنّ البخاريّ لا يضعّف القسامة من حيث هي، بل يوافق الشّافعيّ في أنّه لا قود فيها، ويخالفه في أنّ الذي يحلف فيها هو المدّعي، بل يرى أنّ الرّوايات اختلفت في ذلك في قصّة الأنصار ويهود خيبر فيردّ المختلف إلى المتّفق عليه من أنّ اليمين على ¬

_ (¬1) أي: طريق يحيى بن سعيد بلفظ " أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم " وقد أورد البخاري في الباب معلّقاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " شاهداك أو يمينه " , ثم أسند رواية سعيد بن عبيد بلفظ: فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله. قالوا: ما لنا بينة. قال: فيحلفون. وهو مقصود ابن المنيّر بقوله " فلهذا صدّر الباب بالأحاديث الدّالة على أنّ اليمين في جانب المدّعى عليه.

المدّعى عليه , فمن ثَمّ أورد رواية سعيد بن عبيد في " باب القسامة " وطريق يحيى بن سعيد في باب آخر، وليس في شيء من ذلك تضعيف أصل القسامة. والله أعلم. وادّعى بعضهم أنّ قوله " تحلفون وتستحقّون؟ " استفهام إنكار واستعظام للجمع بين الأمرين. وتعقّب: بأنّهم لَم يبدءوا بطلب اليمين حتّى يصحّ الإنكار عليهم، وإنّما هو استفهام تقرير وتشريع.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 344 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ جاريةً وُجد رأسها مرضوضاً بين حَجَرين، فقيل: مَن فعل هذا بكِ؟ فلانٌ، فلانٌ، حتى ذُكر يهوديٌ فأومأت برأسها، فأُخذ اليهوديّ فاعترف، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرضّ رأسه بين حجرين. (¬1) ولمسلمٍ والنّسائيّ عن أنسٍ: أنَّ يهودياً قتل جاريةً على أوضاحٍ، فأقاده بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) قوله: (أنّ جاريةً وجد رأسها مرضوضاً بين حجرين) في رواية لهما " أنَّ يهودياً رضَّ رأس جارية بين حجرين " الرّضّ بالضّاد المعجمة والرّضخ بمعنىً. والجارية. يحتمل: أن تكون أمةً , ويحتمل: أن تكون حرّة. لكن دون البلوغ , وقد وقع في رواية هشام بن زيد عن أنس في البخاري " ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2282 , 2592 , 6482 , 6490) ومسلم (1672) من طريق همام , والبخاري (6491) من طريق سعيد كلاهما عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - , أنَّ يهودياً رضَّ رأس جارية بين حجرين. الحديث. تنبيه: لم أره بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف هنا. لا في الصحيحين ولا في غيرها. وأخرجه البخاري (4989 , 6483 , 6485) ومسلم (1672) من طريق شعبة عن هشام بن زيد عن أنس - رضي الله عنه -. مثله. ورواه مسلم (1672) من طريق أبي قلابة عن أنس نحوه. (¬2) أخرجه النسائي في " السنن " (4740) من طريق عبده عن سعيد عن قتادة عن أنس. ولم يروه مسلم بهذا اللفظ كما نبّه عليه الزركشي في كتابه تصحيح العمدة (ص 65)

خرجت جاريةٌ عليها أوضاحٌ بالمدينة فرماها يهوديٌّ بحجرٍ ". وله من هذا الوجه بلفظ " عدا يهوديّ على جارية فأخذ أوضاحاً كانت عليها , ورضخ رأسها. وفيه. فأتى أهلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهي في آخر رمقٍ. وهذا لا يعيّن كونها حرّةً لاحتمال أن يراد بأهلها مواليها , رقيقة كانت أو عتيقة. ولَم أقف على اسمها , لكن في بعض طرقه أنّها من الأنصار. (¬1) ولا تنافي بين قوله " رضّ رأسها بين حجرين " وبين قوله " رماها بحجرٍ " وبين قوله " رضخ رأسها " لأنّه يجمع بينها. بأنّه رماها بحجرٍ فأصاب رأسها فسقطت على حجر آخر. قوله: (فقيل: مَنْ فعل هذا بك؟ فلانٌ، فلانٌ) وللبخاري من طريق حبان عن همام عن قتادة عن أنس " فقيل لها: من فعل بك هذا. أفلانٌ أو فلانٌ؟ " وفي رواية الكشميهنيّ " فلان أو فلان؟ " بحذف الهمزة، وللبخاري من وجه آخر عن همّام " أفلان أفلان؟ " بالتّكرار بغير واو عطف. وجاء بيان الذي خاطبها بذلك في رواية هشام بن زيد عن أنس بلفظ " فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلانٌ قتلك؟ " وبيَّن في رواية أبي قلابة عن أنس عند مسلم وأبي داود " فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ¬

_ (¬1) وقعت هذه اللفظة في صحيح مسلم (1672) من طريق أبي قلابة عن أنس. كما تقدم.

فقال لها: مَن قتلك؟ ". قوله: (حتّى ذُكر يهوديّ) في رواية همام " حتى سمي اليهودي " لَم أقف على اسمه. قوله: (فأومأت برأسها) وقع في رواية هشام بن زيد في البخاري بيان الإيماء المذكور , وأنّه كان تارة دإلَّا على النّفي , وتارة دالاًّ على الإثبات بلفظ " فلان قتلكِ؟ فرفعت رأسها، فأعاد فقال: فلان قتلكِ؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثّالثة: فلان قتلكِ؟ فخفضت رأسها. وهو مشعر بأنّ فلاناً الثّاني غير الأوّل، ووقع التّصريح بذلك في البخاري بلفظ " فأشارت برأسها أن لا، قال: ففلان؟ لرجلٍ آخر يعني - عن رجل آخر - فأشارت أن لا. قال: ففلان؟ لقاتِلِها. فأشارت أن نعم. قال ابن بطّالٍ: ذهب الجمهور إلى أنّ الإشارة إذا كانت مفهمة تتنزّل منزلة النّطق، وخالفه الحنفيّة في بعض ذلك. انتهى وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة. فأمّا في حقوق الله , فقالوا: يكفي ولو من القادر على النّطق. وأمّا في حقوق الآدميّين كالعقود والإقرار والوصيّة ونحو ذلك , فاختلف العلماء فيمن اعتقل لسانه. ثالثها عن أبي حنيفة: إن كان مأيوساً من نطقه. وعن بعض الحنابلة: إن اتّصل بالموت. ورجّحه الطّحاويّ.

وعن الأوزاعيّ: إن سبقه كلام، ونقل عن مكحول , إن قال: فلان حرّ ثمّ أصمت فقيل له: وفلان؟. فأومأ صحّ. وأمّا القادر على النّطق فلا تقوم إشارته مقام نطقه. عند الأكثرين. واختلف هل يقوم مقام النّيّة؟ كما لو طلق امرأته , فقيل له: كم طلقة؟ فأشار بإصبعه. قوله: (فأخذ اليهوديّ فاعترف) في رواية همام عند البخاري " فلم يزل به حتّى أقرّ ". وفي رواية له أيضاً عنده " فجيء به فلم يعترف , فلم يزل به حتّى اعترف ". قال أبو مسعود: لا أعلم أحداً قال في هذا الحديث: فاعترف ولا فأقرّ , إلَّا همّام بن يحيى. قال المُهلَّب: فيه أنّه ينبغي للحاكم أن يستدلّ على أهل الجنايات ثمّ يتلطّف بهم حتّى يقرّوا ليؤخذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاءوا تائبين فإنّه يعرض عمّن لَم يصرّح بالجناية فإنّه يجب إقامة الحدّ عليه إذا أقرّ، وسياق القصّة يقتضي أنّ اليهوديّ لَم تقم عليه بيّنة وإنّما أخذ بإقراره، وفيه أنّه تجب المطالبة بالدّم بمجرّد الشّكوى , وبالإشارة. قال: وفيه دليل على جواز وصيّة غير البالغ , ودعواه بالدّين والدّم. قلت: في هذا نظرٌ , لأنّه لَم يتعيّن كون الجارية دون البلوغ. قال المازري: واستَدل به بعضهم على التّدمية , لأنّها لو لَم تعتبر لَم

يكن لسؤال الجارية فائدة، قال: ولا يصحّ اعتباره مجرّداً , لأنّه خلاف الإجماع فلم يبق إلَّا أنّه يفيد القسامة. وقال النّوويّ: ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتّهم بمجرّد قول المجروح، واستدل بهذا الحديث، ولا دلالة فيه بل هو قول باطل , لأنّ اليهوديّ اعترف كما وقع التّصريح به في بعض طرقه. ونازعه بعض المالكيّة. فقال: لَم يقل مالكٌ ولا أحدٌ من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتّهم بمجرّد قول المجروح، وإنّما قالوا: إنّ قول المحتضر عند موته فلانٌ قتلني لوثٌ يوجب القسامة فيقسم اثنان فصاعداً من عصبته بشرط الذّكوريّة، وقد وافق بعضُ المالكيّة الجمهور. واحتجّ مَن قال بالتّدمية: أنّ دعوى من وصل إلى تلك الحالة , وهي وقت إخلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدّنيا يدلّ على أنّه لا يقول إلَّا حقّاً. قالوا: وهي أقوى من قول الشّافعيّة: إنّ الوليّ يقسم إذا وجد قرب وليّه المقتول رجلاً معه سكّينٌ , لجواز أن يكون القاتل غير من معه السّكّين. قوله: (فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرضّ رأسه بين حجرين) في رواية همام " فرضّ رأسه بالحجارة " أي: دقّ، وفي رواية البخاري " فرضخ رأسه بين حجرين " وللبخاري في رواية حبّان , أنّ همّاماً قال كُلاًّ من اللفظين.

وفي رواية هشام في الصحيحين " فقتله بين حجرين " وفي رواية أبي قلابة عند مسلم " فأمر به فرجم حتّى مات " لكن في رواية أبي داود من هذا الوجه " فقتل بين حجرين ". قال عياض: رضخُه بين حجرين , ورميُه بالحجارة , ورجمُه بها بمعنىً، والجامع أنّه رمي بحجرٍ أو أكثر ورأسه على آخر. واستدل به على وجوب القصاص على الذمّيّ. وتعقّب: بأنّه ليس فيه تصريح بكونه ذمّيّاً , فيحتمل أن يكون معاهداً أو مستأمناً. والله أعلم. وفي الحديث. وهو القول الأول: حجّة للجمهور أنّ القاتل يقتل بما قتل به. وتمسّكوا بقوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. وبقوله تعالى {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}. القول الثاني: خالف الكوفيّون. فاحتجّوا بحديث " لا قود إلَّا بالسّيف " وهو ضعيف. أخرجه البزّار وابن عديّ من حديث أبي بكرة. وذكر البزّار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده. وقال ابن عديّ: طرقه كلها ضعيفة. وعلى تقدير ثبوته. فإنّه على خلاف قاعدتهم , في أنّ السّنّة لا تنسخ الكتاب ولا تخصّصه، وبالنّهي عن المثلة وهو صحيح , لكنّه محمول عند الجمهور على غير المماثلة في القصاص جمعاً بين الدّليلين.

وقال ابن التّين: أجاب بعض الحنفيّة: بأنّ هذا الحديث لا دلالة فيه على المماثلة في القصاص، لأنّ المرأة كانت حيّة والقود لا يكون في حيّ، وتعقّبه , بأنّه إنّما أمر بقتله بعد موتها , لأنّ في الحديث " أفلان قتلك؟ " فدلَّ على أنّها ماتت حينئذٍ لأنّها كانت تجود بنفسها، فلمّا ماتت اقتصّ منه. وادّعى ابن المرابط من المالكيّة: أنّ هذا الحكم كان في أوّل الإسلام , وهو قبول قول القتيل، وأمّا ما جاء أنّه اعترف فهو في رواية قتادة ولَم يقله غيره وهذا ممّا عدّ عليه. انتهى. ولا يخفى فساد هذه الدّعوى , فقتادة حافظٌ زيادته مقبولة , لأنّ غيره لَم يتعرّض لنفيها فلم يتعارضا، والنّسخ لا يثبت بالاحتمال. قال ابن المنذر: قال الأكثر: إذا قتله بشيءٍ يقتل مثله غالباً فهو عمد. وقال ابن أبي ليلى: إن قتل بالحجر أو العصا نُظر. إن كرّر ذلك فهو عمد , وإلا فلا. وقال عطاء وطاوسٌ: شرط العمد أن يكون بسلاحٍ. وقال الحسن البصريّ والشّعبيّ والنّخعيّ والحكم وأبو حنيفة ومن تبعهم: شرطه أن يكون بحديدةٍ. واختلف فيمن قتل بعصاً, فأقيد بالضّرب بالعصا فلم يَمُت. هل يكرّر عليه؟ فقيل: لَم يكرّر. وقيل: إن لَم يمت قتل بالسّيف , وكذا فيمن قتل

بالتّجويع. وقال ابن العربيّ: يستثنى من المماثلة ما كان فيه معصية كالخمر واللواط والتّحريق، وفي الثّالثة خلاف عند الشّافعيّة، والأوّلان بالاتّفاق، لكن قال بعضهم: يقتل بما يقوم مقام ذلك. انتهى. ومن أدلة المانعين حديث المرأة التي رمتْ ضرّتها بعمود الفسطاط فقتلتها، فإنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جعل فيها الدّية (¬1). وفي حديث أنس في قصّة اليهوديّ. وهو القول الأول: حجّة للجمهور. في أنّه لا يشترط في الإقرار بالقتل أن يتكرّر، وهو مأخوذ من إطلاق قوله " فأخذ اليهوديّ فاعترف " فإنّه لَم يذكر فيه عدداً والأصل عدمه. القول الثاني: ذهب الكوفيّون: إلى اشتراط تكرار الإقرار بالقتل مرّتين قياساً على اشتراط تكرار الإقرار بالزّنا أربعاً. تبعاً لعدد الشّهود في الموضعين. قوله: (على أوضاحٍ) فمعناه بسبب أوضاح - وهي بالضّاد المعجمة والحاء المهملة جمع وضحٍ - قال أبو عبيد: هي حليّ الفضّة. ونقل عياض: أنّها حليّ من حجارة، ولعله أراد حجارة الفضّة احترازاً من الفضّة المضروبة أو المنقوشة. قوله: (فأقاده بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنّ العبد يقتل بالحرّ , وأنّ الأنثى تقتل بالذّكر ويقتل بها. إلَّا أنّه ورد عن ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء برقم (347).

بعض الصّحابة كعليٍّ , والتّابعين كالحسن البصريّ , أنّ الذّكر إذا قتل الأنثى فشاء أولياؤها قتله وجب عليهم نصف الدّية , وإلَّا فلهم الدّية كاملة. قال: ولا يثبت عن عليّ , لكن هو قول عثمان البتّيّ أحد فقهاء البصرة، ويدلّ على التّكافؤ بين الذّكر والأنثى , أنّهم اتّفقوا على أنّ مقطوع اليد والأعور لو قتله الصّحيح عمداً لوجب عليه القصاص. ولَم يجب له بسبب عينه أو يده دية. انتهى قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّ الرّجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرّجل , إلَّا رواية عن عليّ وعن الحسن وعطاء. وخالف الحنفيّة فيما دون النّفس. واحتجّ بعضهم: بأنّ اليد الصّحيحة لا تقطع باليد الشّلاء بخلاف النّفس. فإنّ النّفس الصّحيحة تقاد بالمريضة اتّفاقاً. وأجاب ابن القصّار: بأنّ اليد الشّلاء في حكم الميّتة والحيّ لا يقاد بالميّت. وقال ابن المنذر: لَمَّا أجمعوا على القصاص في النّفس , واختلفوا فيما دونها , وجب ردّ المختلف إلى المتّفق. وقال البخاري: وقال أهل العلم: يقتل الرّجل بالمرأة. انتهى. المراد الجمهور، أو أطلق إشارةً إلى وهْيِ (¬1) الطّريق إلى عليّ. أو إلى أنّه من ندرة المخالف. ¬

_ (¬1) من الوهاء. وهو الضعف.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 345 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: لَمَّا فتح الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة، قتلتْ خزاعةُ رجلاً من بني ليثٍ بقتيلٍ كان لهم في الجاهلية، فقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: إنّ الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، أَلَا وإنها لَم تحلُّ لأحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحلِّتْ لي ساعةً من نهارٍ، وإنها ساعتي هذه، حرامٌ، لا يُعضد شجرها، ولا يُختلى شوكها، ولا تُلتقط ساقطتها إلَّا لمنشدٍ، ومن قُتل له قتيلٌ، فهو بخير النّظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى، فقام رجلٌ من أهل اليمن يقال له أبو شاهٍ , فقال: يا رسولَ الله اكتبوا لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتبوا لأبي شاهٍ، ثم قام العباس، فقال: يا رسولَ الله إلَّا الإذخر، فإنا نجعله في بيوتنا، وقبورنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إلَّا الإذخر. (¬1) قوله: (لَمَّا فتح الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة قتلت) في رواية لهما " لَمَّا فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكّة , قام في النّاس ". ظاهره أنّ الخطبة وقعت عقب الفتح، وليس كذلك , بل وقعت قبل الفتح عقب قتل رجلٍ من خزاعة رجلاً من بني ليث، ففي السّياق حذف هذا بيانه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (122 , 2302 , 6486) ومسلم (1355) من طريق شيبان والأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -

ففي الصحيحين من وجه آخر عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير " إنَّ خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه , فأُخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركب راحلته فخطب. فقال: إن الله عزَّ وجلَّ حبس عن مكة الفيل. الحديث ووقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبي شُرْيح , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّ الله حرّم مكّة. فذكر الحديث. وفيه. ثمّ إنّكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرّجل من هذيل، وإنّي عاقله. وقع نحو ذلك في رواية ابن إسحاق عن المقبريّ. كما أوردته في كتاب الحجّ. (¬1) قوله: (قتلتْ خزاعة) أي: القبيلة المشهورة. اختلف في نسبهم. من مضر أم اليمن؟. مع الاتّفاق على أنّهم من ولد عمرو بن لحيّ - باللام والمهملة مصغّر – وهو ابن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السّماء. قال ابن الكلبيّ،: لَمَّا تفرّق أهل سبأ بسبب سيل العرم نزل بنو مازن على ماء يقال له غسّان، فمن أقام به منهم فهو غسّانيّ، وانخزعت منهم عمرو بن لحيّ عن قومهم فنزلوا مكّة وما حولها فسُمّوا خزاعة، وتفرّقت سائر الأزد. وفي ذلك يقول حسّان بن ثابت: ولَمَّا نزلنا بطن مرّ تخزّعت ... خزاعة منّا في جموع كراكر ¬

_ (¬1) حديث أبي شُرْيح - رضي الله عنه -. تقدّم مشروحاً مبسوطاً في كتاب الحج من العمدة. برقم (223)

قوله: (رجلاً من بني ليثٍ بقتيلٍ كان لهم في الجاهلية) بنو ليث قبيلةٌ مشهورةٌ يُنسبون إلى ليث بن بكر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وأمّا هذيل فقبيلة كبيرة يُنسبون إلى هذيل , وهم بنو مدركة بن إلياس بن مضر، وكانت هذيل وبكر من سكّان مكّة , وكانوا في ظواهرها خارجين من الحرم. وأمّا خزاعة. فكانوا غلبوا على مكّة وحكموا فيها , ثمّ أُخرجوا منها فصاروا في ظاهرها، وكانت بينهم وبين بني بكر عداوة ظاهرة في الجاهليّة، وكانت خزاعة حلفاء بني هاشم بن عبد مناف إلى عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان بنو بكر حلفاء قريش. وقد ذكرت في كتاب العلم (¬1) , أنّ اسم القاتل من خزاعة خراش – بمعجمتين - ابن أُميَّة الخزاعيّ، وأنّ المقتول منهم في الجاهليّة كان اسمه أحمر. وأنّ المقتول من بني ليث لَم يسمّ. وكذا القاتل. ثمّ رأيت في " السّيرة النّبويّة " لابن إسحاق , أنّ الخزاعيّ المقتول اسمه منبّه. قال ابن إسحاق في " المغازي ": حدّثني سعيد بن أبي سندر الأسلميّ عن رجل من قومه , قال: كان معنا رجلٌ يقال له أحمر , كان شجاعاً , وكان إذا نام غطّ فإذا طرقهم شيء صاحوا به فيثور مثل الأسد، فغزاهم قومٌ من هذيل في الجاهليّة , فقال لهم ابن الأثوع - ¬

_ (¬1) صحيح البخاري رقم (112) في كتاب العلم.

وهو بالثّاء المثلثة والعين المهملة -: لا تعجلوا حتّى أنظر. فإن كان أحمر فيهم فلا سبيل إليهم، فاستمع فإذا غطيط أحمر فمشى إليه حتّى وضع السّيف في صدره فقتله وأغاروا على الحيّ، فلمّا كان عام الفتح. وكان الغد من يوم الفتح. أتى ابن الأثوع الهذليّ حتّى دخل مكّة وهو على شركه، فرأتْه خزاعة فعرفوه فأقبل خراش بن أُميَّة , فقال: أفرجوا عن الرّجل فطعنه بالسّيف في بطنه فوقع قتيلاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، ولقد قتلتم قتيلاً لَأَدِيَنّه. قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الرّحمن بن حرملة الأسلميّ عن سعيد بن المسيّب قال: لَمَّا بلغ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما صنع خراش بن أُميَّة , قال: إنّ خراشاً لقتّالٌ. يعيبه بذلك. ثمّ ذكر حديث أبي شُرْيح الخزاعيّ كما تقدّم. فهذا قصّة الهذليّ. وأمّا قصّة المقتول من بني ليث فكأنّها أخرى، وقد ذكر ابن هشام , أنّ المقتول من بني ليث اسمه جندب بن الأدلع. وقال: بلغني أنّ أوّل قتيل وداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح , جندب بن الأدلع قتله بنو كعب فوداه بمائة ناقة، لكن ذكر الواقديّ أنّ اسمه جندب بن الأدلع، فرآه جندب بن الأعجب الأسلميّ فخرج يستجيش عليه فجاء خراش فقتله. فظهر أنّ القصّة واحدة , فلعله كان هذليّاً حالف بني ليث أو

بالعكس. ورأيت في آخر الجزء الثّالث من " فوائد أبي عليّ بن خزيمة " أنّ اسم الخزاعيّ القاتل هلال بن أُميَّة، فإن ثبت فلعل هلالاً لقب خراش. والله أعلم. قوله: (فقام النبي - صلى الله عليه وسلم -) في رواية شيبان (¬1) عن يحيى بن أبي كثير: فأخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك فركب راحلته فخطب. قوله: (إنّ الله حبس) أي: منع. قوله: (عن مكّة الفيل) وللبخاري " القتل أو الفيل " القتل. أي: بالقاف والمثنّاة من فوق , أو الفيل. أي: بالفاء المكسورة بعدها ياء تحتانيّة. وهو الصواب اسم الحيوان المشهور. وأشار بحبسه عن مكّة إلى قصّة الحبشة , وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة. وحاصل ما ساقه , أنّ أبرهة الحبشيّ لَمَّا غلب على اليمن - وكان نصرانيّاً - بنى كنيسة وألزم النّاس بالحجّ إليها، فعَمَد بعضُ العرب فاستغفل الحَجَبَة وتغوّط فهرب، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة، فتجهّز في جيش كثيف واستصحب معه فيلاً عظيماً. فلمّا قرب من مكّة خرج إليه عبد المطّلب فأعظمه وكان جميل الهيئة، فطلب منه أن يردّ عليه إبلاً له نهبت فاستقصر همّته. وقال: لقد ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع من الفتح " سفيان " وهو تصحيف. وتقدّم أن رواية شيبان في الصحيحين.

ظننت أنّك لا تسألني إلَّا في الأمر الذي جئت فيه، فقال: إنّ لهذا البيت ربّاً سيحميه، فأعاد إليه إبله، وتقدّم أبرهة بجيوشه فقدّموا الفيل فبرك وعجزوا فيه، وأرسل الله عليهم طيراً مع كلّ واحد ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجراً في منقاره. فألقوها عليهم. فلم يبق منهم أحدٌ إلَّا أصيب. وأخرج ابن مردويه بسندٍ حسن عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: جاء أصحاب الفيل حتّى نزلوا الصّفاح - وهو بكسر المهملة ثمّ فاء ثمّ مهملة موضع خارج مكّة من جهة طريق اليمن - فأتاهم عبد المطّلب فقال: إنّ هذا بيت الله لَم يسلِّط عليه أحداً، قالوا: لا نرجع حتّى نهدمه، فكانوا لا يقدّمون فيلَهم إلَّا تأخّر، فدعا الله الطّير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء فلمّا حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلَّا أخذته الحكّة، فكان لا يحكّ أحدٌ منهم جلده إلَّا تساقط لحمه. قال ابن إسحاق: حدّثني يعقوب بن عتبة قال: حُدّثت أنّ أوّل ما وقعت الحصباء والجدريّ بأرض العرب من يومئذٍ. وعند الطّبريّ بسندٍ صحيح عن عكرمة , أنّها كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السّباع. ولابن أبي حاتم من طريق عبيد بن عمير بسندٍ قويّ: بعث الله عليهم طيراً أنشأها من البحر كأمثال الخطاطيف. فذكر نحو ما تقدّم. قوله: (وسلّط عليها رسوله والمؤمنين) وللبخاري " وسُلط

عليهم رسوله والمؤمنون " هو بضمّ أوّله، ورسول مرفوع , والمؤمنون معطوف عليه. قوله: (ولا تحل لأحدٍ بعدي) وللبخاري من طريق الأوزاعيّ عن يحيى " ولن تحل " وهي أليق بالمستقبل. قوله: (وإنما أُحلَّت لي ساعةً من نهارٍ، وإنها ساعتي هذه، حرامٌ لا يعضد شجرها، ولا يُختلى شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلَّا لمنشدٍ) قد تقدّم الكلام عليه مستوفى في كتاب الحج (¬1) قوله: (ومن قُتل له قتيل) أي: من قُتل له قريب , كان حيّاً فصار قتيلاً بذلك القتل. قوله: (فهو بخير النّظرين) وللبخاري بلفظ " ومن قُتل فهو بخير النّظرين " وهو مختصر. ولا يمكن حمله على ظاهره , لأنّ المقتول لا اختيار له وإنّما الاختيار لوليّه , وقد أشار إلى نحو ذلك الخطّابيّ. ووقع في رواية التّرمذيّ من طريق الأوزاعيّ عن يحيى " فإمّا أن يعفو , وإمّا أن يقتل " والمراد العفو على الدّية جمعاً بين الرّوايتين. ويؤيّده أنّ عنده في حديث أبي شُرْيح " فمن قُتل له قتيل بعد اليوم , فأهله بين خيرتين: إمّا أن يقتلوا أو يأخذوا الدّية ". ولأبي داود وابن ماجه وعلّقه التّرمذيّ من وجه آخر عن أبي شُرْيح بلفظ " فإنّه يختار إحدى ثلاث , إمّا أن يقتصّ، وإمّا أن يعفو، وإمّا أن يأخذ الدّية , فإن أراد الرّابعة فخذوا على يديه " أي: إن أراد زيادة ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه - في الحج من العمدة. برقم (224)

على القصاص أو الدّية قوله: (إما أن يقتل) وللبخاري " وإمّا أن يقاد " أي: يقتل به. ولمسلم " إمّا أن يعطي الدّية , وإمّا أن يقاد أهل القتيل " وهو بيان لقوله " إمّا أن يقاد " قوله: (وإما أن يفدى) وللبخاري " إمّا أن يودي " بسكون الواو. أي: يعطي القاتل أو أولياؤه لأولياء المقتول الدّية. وللبخاري أيضاً بلفظ " إمّا أن يعقل " بدل " إمّا أن يودي " وهو بمعناه، والعقل الدّية. وفي رواية الأوزاعيّ عند البخاري " إمّا أن يفدي " بالفاء بدل الواو، وفي نسخة " وإمّا أن يعطي " أي الدّية. ونقل ابن التّين عن الدّاوديّ , أنّ في رواية أخرى " إمّا أن يودي أو يفادي ". وتعقّبه: بأنّه غير صحيح , لأنّه لو كان بالفاء لَم يكن له فائدة لتقدّم ذِكر الدّية. ولو كان بالقاف واحتمل أن يكون للمقتول وليّان لذكرا بالتّثنية , أي: يقادا بقتيلهما. والأصل عدم التّعدّد. قال: وصحيح الرّواية " إمّا أن يودي أو يقاد " وإنّما يصحّ " يفادى ". إن تقدّمه " أن يقتصّ ". والحاصل تفسير " النّظرين " بالقصاص أو الدّية. وفي الحديث جواز إيقاع القصاص بالحرم , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - خطب بذلك بمكّة ولَم يقيّده بغير الحرم.

وتمسّك بعمومه مَن قال: يقتل المسلم بالذّمّيّ. وقد سبق ما فيه (¬1). ذهب الجمهور: على أنّ المخيّر في القود أو أخذ الدّية هو الوليّ. وقرّره الخطّابيّ بأنّ العفو في الآية (فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ) يحتاج إلى بيان، لأنّ ظاهر القصاص أنْ لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكنّ المعنى أنّ من عفي عنه من القصاص إلى الدّية فعلى مستحقّ الدّية الاتّباع بالمعروف وهو المطالبة , وعلى القاتل الأداء وهو دفع الدّية بإحسانٍ. وذهب مالك والثّوريّ وأبو حنيفة: إلى أنّ الخيار في القصاص أو الدّية للقاتل. قال الطّحاويّ: والحجّة لهم حديث أنس في قصّة الرّبيّع عمّته , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: كتاب الله القصاص. فإنّه حكم بالقصاص ولَم يخيّر، ولو كان الخيار للوليّ لأعلمهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكّم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأنّ الحقّ له في أحدهما، فلمّا حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله " فهو بخير النّظرين " أي: وليّ المقتول مخيّرٌ بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدّية. وتعقّب: بأنّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: كتاب الله القصاص. إنّما وقع عند طلب أولياء المجنيّ عليه في العمد القود , فأعلم أنّ كتاب الله نزل على أنّ ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أول أحاديث الباب برقم (341) , وانظر فتح الباري. كتاب الديات. باب (لا يُقتل المسلم بالكافر).

المجنيّ عليه إذا طلب القود أجيب إليه , وليس فيه ما ادّعاه من تأخير البيان. واحتجّ الطّحاويّ أيضاً: بأنّهم أجمعوا على أنّ الوليّ لو قال للقاتل: رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك , أنّ القاتل لا يُجبر على ذلك , ولا يؤخذ منه كرهاً. وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه. وقال المُهلَّب وغيره: يستفاد من قوله " فهو بخير النّظرين " أنّ الوليّ إذا سئل في العفو على مال. إن شاء قبل ذلك وإن شاء اقتصّ , وعلى الولي اتّباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدلّ على إكراه القاتل على بذل الدّية. واستدل بالآية على أنّ الواجب في قتل العمد القود. والدّية بدلٌ منه. وقيل: الواجب الخيار، وهما قولان للعلماء، وكذا في مذهب الشّافعيّ أصحّهما الأوّل. واختلف في سبب نزول الآية. فقيل: نزلت في حيّين من العرب , كان لأحدهما طَولٌ على الآخر في الشّرف فكانوا يتزوّجون من نسائهم بغير مهر , وإذا قُتل منهم عبدٌ قتلوا به حرّاً أو امرأةٌ قتلوا بها رجلاً. أخرجه الطّبريّ عن الشّعبيّ. وأخرج أبو داود من طريق عليّ بن صالح بن حيّ عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: كان قريظة والنّضير , وكان النّضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجلٌ من قريظة رجلاً من

النّضير قُتل به , وإذا قَتل رجلٌ من النّضير رجلاً من قريظة يودى بمائة وسق من التّمر، فلمّا بُعث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قتلَ رجلٌ من النّضير رجلاً من قريظة , فقالوا: ادفعوه لنا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتوه فنزلت {وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط} والقسط: النّفس بالنّفس، ثمّ نزلت (أفحكم الجاهليّة يبغون). واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدّية في قتل العمد , ولو كان غيلة , وهو أن يخدع شخصاً حتّى يصير به إلى موضع خفيّ فيقتله، خلافاً للمالكيّة. والحقه مالك بالمحارب فإنّ الأمر فيه إلى السّلطان , وليس للأولياء العفو عنه. وهذا على أصله في أنّ حدّ المحارب القتل إذا رآه الإمام , وأنّ " أو " في الآية للتّخيير لا للتّنويع. وفيه أنّ من قَتل متأوّلاً كان حكمه حكم من قَتل خطأ في وجوب الدّية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنّي عاقله. واستدلَّ به بعض المالكيّة على قتل من التجأ إلى الحرم بعد أن يقتل عمداً , خلافاً لِمَن قال: لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج منه. ووجه الدّلالة أنّه - صلى الله عليه وسلم - قاله في قصّة قتيل خزاعة المقتول في الحرم، وأنّ القوَدَ مشروع فيمن قتل عمداً، ولا يعارضه ما ذكر من حرمة الحرم , فإنّ المراد به تعظيمه بتحريم ما حرّم الله، وإقامة الحدّ على الجاني به من جملة تعظيم حرمات الله.

وقد تقدّم شيء من هذا في كتاب الحجّ (¬1). وفي الحديث، أنّ وليّ الدّم يخيّر بين القصاص والدّية. واختلف إذا اختار الدّية. هل يجب على القاتل إجابته؟. القول الأول: ذهب الأكثر إلى ذلك. القول الثاني: عن مالك لا يجب إلَّا برضا القاتل. واستدل بقوله " ومن قُتل له " بأنّ الحقّ يتعلق بورثة المقتول، فلو كان بعضهم غائباً أو طفلاً لَم يكن للباقين القصاص حتّى يبلغ الطّفل ويقدم الغائب. قوله: (فقام رجلٌ من أهل اليمن. يُقال له أبو شاه) أبو شاهٍ بهاءٍ منوّنةٍ , وحكى السّلفيّ , أنّ بعضهم نطق بها بتاءٍ في آخره , وغلَّطه. وقال: هو فارسيّ من فرسان الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن. قوله: (اكتبوا لأبي شاهٍ) زاد الشيخان عن الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعيّ: ما قوله: اكتبوا لي؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وبهذا تظهر مطابقة هذا الحديث للترجمة (¬2). ويستفاد منه. أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدريّ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تكتبوا عنّي ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي شُرْيح في الحج (223) (¬2) ترجم عليه البخاري (باب كتابة العلم)

شيئاً غير القرآن " رواه مسلم. والجمع بينهما. قيل: إنّ النّهي خاصّ بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك. وقيل: إنّ النّهي خاصّ بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد , والإذن في تفريقهما. وقيل: النّهي متقدّم , والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنّه لا ينافيها. وقيل: النّهي خاصّ بمن خشي منه الاتّكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك. ومنهم من أَعلَّ حديث أبي سعيد , وقال: الصّواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاريّ وغيره. قال العلماء: كره جماعة من الصّحابة والتّابعين كتابة الحديث. واستحبّوا أن يؤخذ عنهم حفظاً كما أخذوا حفظاً، لكن لَمَّا قصُرت الهمم وخشي الأئمّة ضياع العلم دوّنوه. وأوّل من دوّن الحديث ابن شهاب الزّهريّ على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثمّ كثر التّدوين ثمّ التّصنيف، وحصل بذلك خير كثير. فلله الحمد قوله: (ثم قام العباس) في رواية للشيخين " ثمّ قام رجلٌ من قريش " هو العباس , ووقع في رواية لابن أبي شيبة " فقال رجلٌ من قريش يقال له شاه " وهو غلَطٌ

قوله: (إلَّا الإذخر) كذا هو في روايتنا بالنّصب، ويجوز رفعه على البدل ممّا قبله. (¬1) ¬

_ (¬1) تقدّم الكلام عليه في شرح حديث ابن عباس في الحج من العمدة. برقم (224)

الحديث السادس

الحديث السادس 346 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - , أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرةٍ عبدٍ أو أمةٍ. فقال: لتأتينّ بِمَن يشهد معك، فشهد معه محمد بن مسلمة. (¬1) قال المصنِّف: إملاص المرأة: أنْ تُلقي جنينها ميتاً. قوله: (استشار الناس) قال ابن بطّال: لا يجوز للقاضي الحكم إلَّا بعد طلب حكم الحادثة من الكتاب أو السّنّة، فإن عدمه رجع إلى الإجماع. فإن لَم يجده. نَظَرَ هل يصحّ الحمل على بعض الأحكام المقرّرة لعلةٍ تجمع بينهما؟. فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها، إلَّا إن عارضتها عِلَّة أخرى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6509) من طريق وهيب , و (6511) من طريق زائدة , و (6887) من طريق أبي معاوية كلهم عن هشام عن أبيه عن المغيرة عن عمر , أنه استشارهم. وأخرجه البخاري (6510) عن عبيد الله بن موسى عن هشام عن أبيه , أن عمر .. دون ذِكْر المغيرة. وتابعه حماد بن زيد وحماد بن سلمة. كما قال أبو داود في " السنن ". قال الحافظ في " الفتح " (6/ 312): هذا صورته الإرسال , لكنْ تبيَّن من الرواية السابقة واللاحقة أنَّ عروة حمله عن المغيرة وإن لَم يصرِّح به في هذه الرواية، وفي عدول البخاري عن رواية وكيع إشارة إلى ترجيح رواية مَن قال فيه: عن عروة عن المغيرة. وهُم الأكثر. انتهى قلت: رواية وكيع. أخرجه مسلم (1689) من طريقه عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة قال: استشار عمر. فذكره.

فيلزمه التّرجيح، فإن لَم يجد عِلَّة استدل بشواهد الأصول وغلبة الاشتباه، فإن لَم يتوجّه له شيء من ذلك رجع إلى حكم العقل. قال: هذا قول ابن الطّيّب، يعني أبا بكر الباقلانيّ، ثمّ أشار إلى إنكار كلامه الأخير بقوله تعالى {ما فرّطنا في الكتاب من شيء}. وقد علم الجميع بأنّ النّصوص لَم تحط بجميع الحوادث فعرفنا أنّ الله قد أبان حكمها بغير طريق النّصّ - وهو القياس - ويؤيّد ذلك قوله تعالى {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} لأنّ الاستنباط هو الاستخراج وهو بالقياس، لأنّ النّصّ ظاهر. ثمّ ذكر في الرّدّ على منكري القياس وألزمهم التّناقض، لأنّ من أصلهم إذا لَم يوجد النّصّ الرّجوع إلى الإجماع. قال: فيلزمهم أن يأتوا بالإجماع على ترك القول بالقياس ولا سبيل لهم إلى ذلك، فوضح أنّ القياس إنّما ينكر إذا استعمل مع وجود النّصّ أو الإجماع لا عند فقد النّصّ والإجماع. وبالله التّوفيق. قوله: (في إملاص المرأة) في رواية البخاري من طريق أبي معاوية عن هشام عن أبي عن المغيرة: سأل عمر بن الخطّاب في إملاص المرأة , وهي التي تضرب بطنها فتلقي جنينها , فقال: أيّكم سمع من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئاً؟. وهذا التّفسير أخصّ من قول أهل اللغة: إنّ الإملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة. أي: قبل حين الولادة، هكذا نقله أبو داود في " السّنن " عن أبي عبيد، وهو كذلك في الغريب له.

وقال الخليل: أملصت المرأة والنّاقة إذا رمت ولدها. وقال ابن القطّاع: أملصت الحامل ألقت ولدها. ووقع في بعض الرّوايات. ملاص بغير ألف كأنّه اسم فعل الولد فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه , أو اسم لتلك الولادة كالخداج. ووقع عند الإسماعيليّ من رواية ابن جريجٍ عن هشام , قال هشام: الملاص للجنين، وهذا يتخرّج أيضاً على الحذف. وقال صاحب البارع: الإملاص الإسقاط، وإذا قبضت على شيء فسقط من يدك , تقول أملص من يدي إملاصاً وملص ملصاً. ووقع في رواية عبيد الله بن موسى عن هشام عند البخاري , أنّ عمر نشد النّاس , من سمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى في السّقط. قوله: (فقال المغيرة) وكذا في رواية عبيد الله بن موسى، وفي رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي " فقام المغيرة بن شعبة فقال: بلى أنا يا أمير المؤمنين " وفيه تجريد. وكان السّياق يقتضي أن يقول: فقلت , وقد وقع في رواية أبي معاوية المذكورة " فقلت: أنا ". قوله: (قضى فيه بغرةٍ عبدٍ أو أمةٍ) وللبخاري " قضى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالغرّة , عبد أو أمة " كذا في رواية عفّان عن وهيب باللام. وهو يؤيّد رواية التّنوين وسائر الرّوايات بغرّةٍ , ومنها رواية أبي معاوية بلفظ " سمعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: فيها غرّة عبد أو أمة ". قوله: (لتأتينّ بمن يشهد معك، فشهد معه محمد بن مسلمة)

وللبخاري " فشهد محمّد بن مسلمة أنّه شهدَ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضى به " كذا في رواية وهيب عن هشام مختصراً , وفي رواية ابن عيينة " فقال عمر: مَن يشهد معك؟ فقام محمّد فشهد بذلك ". وفي رواية أبي معاوية " فقال: لا تبرح حتّى تجيء بالمخرج ممّا قلت , قال: فخرجت فوجدتُ محمّد بن مسلمة فجئت به , فشهد معي أنّه سمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى به " وفي رواية عبيد الله عن هشام " ائت بمن يشهد " , كذا للأكثر بصيغة فعل الأمر من الإتيان، وحُذِفت عند بعضهم الباء من قوله " بمن " ووقع في رواية أبي ذرّ عن غير الكشميهنيّ - بألفٍ ممدودة ثمّ نون ثمّ مثنّاة - بصيغة استفهام المخاطب على إرادة الاستثبات. أي: أنت تشهد، ثمّ استفهمه ثانياً: من يشهد معك؟ قال ابن دقيق العيد: الحديث أصل في إثبات دية الجنين وأنّ الواجب فيه غرّة إمّا عبد وإمّا أمة، وذلك إذا ألقته ميّتاً بسبب الجناية، وتصرّف الفقهاء بالتّقييد في سنّ الغرّة , وليس ذلك من مقتضى الحديث، واستشارة عمر في ذلك أصلٌ في سؤال الإمام عن الحكم إذا كان لا يعلمه , أو كان عنده شكٌّ , أو أراد الاستثبات. وفيه أنّ الوقائع الخاصّة قد تخفى على الأكابر ويعلمها من دونهم، وفي ذلك ردٌّ على المقلِّد إذا استدل عليه بخبرٍ يخالفه , فيجيب لو كان صحيحاً لعلمه فلان مثلاً , فإنّ ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر , فخفاؤه عمّن بعده أجوز.

وقد تعلَّق بقول عمر " لتأتينّ بمن يشهد معك " مَن يرى اعتبار العدد في الرّواية , ويشترط أنّه لا يقبل أقل من اثنين كما في غالب الشّهادات. وهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد، فإنّه قد ثبت قبول الفرد في عدّة مواطن، وطلب العدد في صورة جزئيّة لا يدلّ على اعتباره في كلّ واقعة , لجواز المانع الخاصّ بتلك الصّورة أو وجود سبب يقتضي التّثبّت وزيادة الاستظهار , ولا سيّما إذا قامت قرينة. وقريبٌ من هذا قصّة عمر مع أبي موسى في الاستئذان. قلت: وقد صرّح عمر في قصّة أبي موسى بأنّه أراد الاستثبات (¬1). وقوله " في إملاص المرأة " أصرح في وجوب الانفصال ميّتاً , من قوله في حديث أبي هريرة " قضى في الجنين " (¬2). ¬

_ (¬1) قصة أبي موسى مع عمر. أخرجها البخاري (6245) ومسلم (2153) من طرق , أن أبا موسى جاء إلى عمر , فقال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس، فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف، فقال: ردُّوا عليَّ، فجاء فقال: يا أبا موسى ما ردُّك؟ كنا في شغل، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلَّا فارجع. قال: لتأتيني على هذا ببينة، وإلَّا فعلتُ وفعلتُ. فذهب أبو موسى. قال عمر: إنْ وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لَم يجد بينة فلم تجدوه، فلمَّا أنْ جاء بالعشي وجدوه، قال: يا أبا موسى، ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم، أُبي بن كعب، قال: عَدْل، قال: يا أبا الطفيل ما يقول هذا؟. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يا ابن الخطاب. فلا تكوننَّ عذاباً على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: سبحان الله إنما سمعتُ شيئاً، فأحببتُ أن أتثبَّت .. واللفظ لمسلم (¬2) حديث أبي هريرة سيأتي الكلام عليه مستوفى إن شاء الله بعد هذا الحديث , وفيه شرح لبعض الألفاظ التي لَم تشرح هنا.

وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرّة انفصال الجنين ميّتاً بسبب الجناية، فلو انفصل حيّاً ثمّ مات وجب فيه القود أو الدّية كاملة. ولو ماتت الأمّ ولَم ينفصل الجنين , لَم يجب شيء عند الشّافعيّة. لعدم تيقّن وجود الجنين. وعلى هذا. هل المعتبر نفس الانفصال أو تحقّق حصول الجنين؟. فيه وجهان: أصحّهما الثّاني. ويظهر أثره فيما لو قُدّت نصفين أو شُقّ بطنها فشوهد الجنين، وأمّا إذا خرج رأس الجنين مثلاً بعدما ضرب وماتت الأمّ. ولَم ينفصل. قال ابن دقيق العيد: ويحتاج مَن قال ذلك , إلى تأويل الرّواية وحملها على أنّه انفصل وإن لَم يكن في اللفظ ما يدلّ عليه. قلت: وقع في حديث ابن عبّاس عند أبي داود " فأسقطت غلاماً قد نبت شعره ميّتاً " فهذا صريح في الانفصال، ووقع مجموع ذلك في حديث الزّهريّ. ففي رواية عبد الرّحمن بن خالد بن مسافر في البخاري " فأصاب بطنَها وهي حامل , فقتل ولدها في بطنها ". وفي رواية مالك عند البخاري " فطرحت جنينها " (¬1) واستدل به على أنّ الحكم المذكور خاصّ بولد الحرّة , لأنّ القصّة وردت في ذلك، وقوله " في إملاص المرأة " وإن كان فيه عموم , لكنّ الرّاوي ذكر أنّه شهد واقعة مخصوصة. ¬

_ (¬1) رواية عبد الرحمن بن خالد ومالك هما ضمن حديث أبي هريرة الآتي.

وقد تصرّف الفقهاء في ذلك. فقال الشّافعيّة: الواجب في جنين الأمة عشر قيمة أمّه كما أنّ الواجب في جنين الحرّة عشر ديتها، وعلى أنّ الحكم المذكور خاصّ بمن يحكم بإسلامه. ولَم يتعرّض لجنينٍ محكوم بتهوّده أو تنصّره. ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعاً. وليس هذا من الحديث. وفيه أنّ القتل المذكور لا يجري مجرى العمد. والله أعلم.

الحديث السابع

الحديث السابع 347 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , قال: اقتتلتِ امرأتان من هذيلٍ، فرمتْ إحداهما الأخرى بحجر، فقتَلَتْها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ دية جنينها غرةٌ عبدٌ، أو وليدةٌ وقضى بدية المرأة على عاقلتِها، وورّثها ولدها ومن معهم. فقام حَمَل بن النابغة الهذلي، فقال: يا رسولَ الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكلْ، ولا نطق ولا استهلْ، فمثل ذلك يطلْ؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو من إخوان الكُهّان، من أجل سجعه الذي سجع. (¬1) قوله: (اقتتلت امرأتان من هذيلٍ) في رواية مالك عن ابن شهابٍ عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين " أنّ امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى " , وفي رواية حَمَلٍ التي سأُنبّه عليها " إحداهما لحيانيّة ". قلت: ولحيان بطن من هذيل، وهاتان المرأتان كانتا ضرّتين , وكانتا تحت حَمَل بن النّابغة الهذليّ , فأخرج أبو داود من طريق ابن جريجٍ عن عمرو بن دينار عن طاوسٍ عن ابن عبّاس عن عمر , أنّه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5426 , 5427 , 6359 , 6508 , 6511 , 6512) ومسلم (1681) من طرق عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهذا لفظ يونس عند لمسلم.

سأل عن قضيّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقام حَمَلُ بن مالك بن النّابغة فقال: كنتُ بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى. هكذا رواه موصولاً. وأخرجه الشّافعيّ عن سفيان بن عيينة عن عمر , فلم يذكر ابن عبّاس في السّند. ولفظه " أنّ عمر قال: أذكر الله امرأً سمع من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئاً " وكذا قال عبد الرّزّاق عن معمر عن ابن طاوسٍ عن أبيه , أنّ عمر استشار ". وأخرج الطّبرانيّ من طريق أبي المليح بن أسامة بن عمير الهذليّ عن أبيه قال: كان فينا رجلٌ يقال له حمل بن مالك , له امرأتان إحداهما هذليّة والأخرى عامريّة , فضربت الهذليّة بطن العامريّة ". وأخرجه الحارث من طريق أبي المليح فأرسله , لَم يقل عن أبيه. ولفظه " أنّ حمل بن النّابغة كانت له امرأتان مُلَيْكة وأمّ عفيف ". وأخرج الطّبرانيّ من طريق عون بن عويم قال: كانت أختي مُلَيْكة وامرأة منّا يقال لها أمّ عفيف بنت مسروح , تحت حمل بن النّابغة. فضربت أمّ عفيف مُلَيْكة. وأمّ عفيف - بمهملةٍ وفاءين وزن عظيم - ووقع في " المبهمات " للخطيب، وأصله عند أبي داود والنّسائيّ من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عبّاس , أنّها أمّ غطيف - بغينٍ ثمّ طاء - مهملة مصغّر. وهذا الذي وقفت عليه منقولاً، وبالآخر جزم الخطيب في " المبهمات ". وزاد بعض شرّاح العمدة. وقيل: أمّ مكلف , وقيل: أمّ مُلَيْكة.

قوله: (فرمتْ إحداهما الأخرى بحجر) زاد عبد الرّحمن بن خالد عن الزهري عند البخاري " فأصاب بطنها وهي حامل " وكذا في رواية أبي المليح عند الحارث , لكن قال " فخَذَفت. وقال: فأصاب قُبُلَها ". ووقع في رواية أبي داود المذكورة من طريق حمل بن مالك " فضربت إحداهما الأخرى بمسطحٍ ". وعند مسلم من طريق عبيد بن نضيلة - بنونٍ وضاد معجمة مصغّر - عن المغيرة بن شعبة قال: ضربتْ امرأة ضرّتها بعمود فسطاط , وهي حبلى فقتلتها. وكذا في حديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه: فضربت الهذليّة بطن العامريّة بعمود فسطاط أو خباء. وفي حديث عويم " ضربتها بمسطح بيتها وهي حامل " وكذا عند أبي داود من حديث حمل بن مالك " بمسطح " ومن حديث بريدة , أنّ امرأة خذفت امرأة أخرى. قوله: (فقتلتها وما في بطنها) في رواية مالك " فطرحت جنينها " وفي رواية عبد الرّحمن بن خالد " فقتلت ولدها في بطنها " وفي حديث حمل بن مالك مثله بلفظ " فقتلتها وجنينها " ونحوه في رواية عويم , وكذا في رواية أبي المليح عن أبيه. والجنين بجيمٍ ونونين , وزن عظيم , حمل المرأة ما دام في بطنها، سُمِّي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيّاً فهو ولد , أو ميّتاً فهو سقط، وقد يطلق عليه جنين.

قال الباجيّ في " شرح رجال الموطّأ ": الجنين ما ألقته المرأة ممّا يعرف أنّه ولد , سواء كان ذكراً أو أنثى , ما لَم يستهل صارخاً. كذا قال. قوله: (فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ دية جنينها غرةٌ عبدٌ، أو وليدةٌ) وفي رواية مالك " فقضى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرّةٍ عبد أو أمة " ووقع في حديث أبي هريرة من طريق محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عنه: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرّةٍ عبد أو أمة أو فرس أو بغل. (¬1) وكذا وقع عند عبد الرّزّاق في رواية ابن طاوسٍ عن أبيه عن عمر مرسلاً: فقال حمل بن النّابغة: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدّية في المرأة , وفي الجنين غرّة عبد أو أمة أو فرس. وأشار البيهقيّ إلى أنّ ذكر الفرس في المرفوع وهْم , وأنّ ذلك أُدرج من بعض رواته على سبيل التّفسير للغرّة، وذكر أنّه في رواية حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوسٍ بلفظ " فقضى أنّ في الجنين غرّة , قال طاوسٌ: الفرس غرّة " قلت: وكذا أخرج الإسماعيليّ من طريق حمّاد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال " الفرس غرّة " وكأنّهما رأيا أنّ الفرس أحقّ بإطلاق لفظ الغرّة من الآدميّ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4579) وابن حبان في " صحيحه " (6022)، والدارقطني (3/ 114) والبيهقي (8/ 115) من طريق عيسى بن يونس عن محمد بن عمرو به. قال أبو داود: روى هذا الحديث حماد بن سلمة وخالد بن عبد الله عن محمد بن عمرو. لَم يذكرا أو فرس أو بغل.

ونقل ابن المنذر والخطّابيّ عن طاوسٍ ومجاهد وعروة بن الزّبير " الغرّة عبد أو أمة أو فرس ". وتوسّع داود ومن تبعه من أهل الظّاهر , فقالوا: يجزئ كلّ ما وقع عليه اسم غرّة. والغرّة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس، وقد استعمل للآدميّ في الحديث المتقدّم في الوضوء " إنّ أمّتي يدعون يوم القيامة غرّاً " (¬1). وتطلق الغرّة على الشّيء النّفيس آدميّاً كان أو غيره. ذكراً كان أو أنثى. وقيل: أطلق على الآدميّ غرّة. لأنّه أشرف الحيوان، فإنّ محلّ الغرّة الوجه. والوجه أشرف الأعضاء. وقوله في الحديث " غرّة عبد أو أمة " قال الإسماعيليّ: قَرَأَه العامّة بالإضافة وغيرهم بالتّنوين. وحكى القاضي عياض الخلاف، وقال: التّنوين أوجه لأنّه بيان للغرّة ما هي، وتوجيه الآخر. أنّ الشّيء قد يضاف إلى نفسه , لكنّه نادر. وقال الباجيّ: يحتمل: أن تكون " أو " شكّاً من الرّاوي في تلك الواقعة المخصوصة، ويحتمل: أن تكون للتّنويع , وهو الأظهر. وقيل المرفوع من الحديث قوله " بغرّة " وأمّا قوله " عبد أو أمة " فشكّ من ¬

_ (¬1) تقدّم في كتاب الطهارة في العمدة برقم (11)

الرّاوي في المراد بها. قال: وقال مالك: الحُمران أولى من السّودان في هذا. وعن أبي عمرو بن العلاء قال: الغرّة عبد أبيض أو أمة بيضاء، قال: فلا يجزئ في دية الجنين سوداء. إذ لو لَم يكن في الغرّة معنىً زائد لَمَا ذكرها , ولقال عبد أو أمة. ويقال: إنّه انفرد بذلك. وسائر الفقهاء على الإجزاء فيما لو أخرج سوداء. وأجابوا: بأنّ المعنى الزّائد كونه نفيساً , فلذلك فسّره بعبدٍ أو أمة , لأنّ الآدميّ أشرف الحيوان، وعلى هذا فالذي وقع في رواية محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. من زيادة ذكر الفرس في هذا الحديث وهْمٌ. ولفظه " غرّة عبد أو أمة أو فرس أو بغل ". ويمكن - إنْ كان محفوظاً - أنّ الفرس هي الأصل في الغرّة كما تقدّم. وعلى قول الجمهور. فأقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرّدّ في البيع لأنّ المعيب ليس من الخيار. واستنبط الشّافعيّ من ذلك. أن يكون منتفعاً به , فشرَط أن لا ينقص عن سبع سنين , لأنّ من لَم يبلغها لا يستقلّ غالباً بنفسه فيحتاج إلى التّعهّد بالتّربية فلا يجبر المستحقّ على أخذه. وأخذ بعضهم من لفظ الغلام. أن لا يزيد على خمس عشرة , ولا تزيد الجارية على عشرين.

ومنهم: من جعل الحدّ ما بين السّبع والعشرين. والرّاجح كما قال ابن دقيق العيد: أنّه يجزئ. ولو بلغ السّتّين وأكثر منها. ما لَم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم. والله أعلم. قوله: (وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورّثها ولدها ومن معهم , فقام حمل بن النابغة الهذلي) حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك بن النابغة الهذلي , وكنية حمل المذكور أبو نضلة، وهو صحابي نزل البصرة. وفي رواية معمر من طريق أبي سلمة عند مسلم " فقال قائل: كيف نعقل "؟ وفي رواية عبد الرّحمن بن خالد في البخاري " فقال وليّ المرأة التي غرمت - ثمّ اتّفقا -: كيف أغرم يا رسولَ الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطلّ؟ فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّما هذا من إخوان الكهّان ". وفي مرسل سعيد بن المسيّب عند مالك " قضى في الجنين يقتل في بطن أمّه بغرّةٍ عبد أو وليدة ". وفي رواية الليث في الصحيحين من طريق سعيد نحوه عند التّرمذيّ , ولكن قال " إنّ هذا ليقول بقول شاعر , بل فيه غرّة " وفيه " ثمّ إنّ المرأة التي قضي عليها بالغرّة توفّيت , فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنّ ميراثها لبنيها وزوجها , وأنّ العقل على عصبتها ". وفي رواية عكرمة عن ابن عبّاس: فقال عمّها: إنّها قد أسقطت غلاماً قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة: إنّه كاذب، إنّه والله ما استهل

ولا شرب ولا أكل، فمثله يطلّ. فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أسجع كسجع الجاهليّة وكهانتها. وفي رواية عبيد بن نضيلة عن المغيرة: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرّة لِما في بطنها، فقال رجلٌ من عصبة القاتلة: أنغرم من لا أكل - وفي آخره - أسجعٌ كسجع الأعراب؟ وجعل عليهم الدّية. وفي حديث عويم عند الطّبرانيّ: فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسولَ الله أنغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل هذا يطلّ. فقال: أسجعٌ كسجع الجاهليّة. ونحوه عند أبي يعلى من حديث جابر , لكن قال: فقالت عاقلة القاتلة. وعند البيهقيّ من حديث أسامة بن عميرة: فقال أبوها: إنّما يعقلها بنوها , فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الدّية على العصبة وفي الجنين غرّة، فقال: ما وضع فحل ولا صاح فاستهل، فأبطله فمثله يطلّ. وبهذا يجمع الاختلاف. فيكون كلّ من أبيها وأخيها وزوجها , قالوا ذلك , لأنّهم كلّهم من عصبتها بخلاف المقتولة , فإنّ في حديث أسامة بن عمير , أنّ المقتولة عامريّة والقاتلة هذليّة. ووقع في رواية أسامة " فقال: دعني من أراجيز الأعراب " وفي لفظ " أسجاعة بك " وفي آخر " أسجع كسجع الجاهليّة؟ قيل: يا رسولَ الله إنّه شاعر " وفي لفظ " لسنا من أساجيع الجاهليّة في شيء.

وفيه. فقال: إنّ لها ولداً هم سادة الحيّ وهم أحقّ أن يعقلوا عن أمّهم، قال: بل أنت أحقّ أن تعقل عن أختك من ولدها، فقال: ما لي شيء، قال حَمَلٌ - وهو يومئذٍ على صدقات هذيل وهو زوج المرأة وأبو الجنين -: اقبض من صدقات هذيل " أخرجه البيهقيّ. وفي رواية ابن أبي عاصم " ما له عبد ولا أمة , قال: عشر من الإبل، قالوا: ما له من شيء إلَّا أن تعينه من صدقة بني لحيان فأعانه بها، فسعى حملٌ عليها حتّى استوفاها ". وفي حديثه عند الحارث بن أبي أسامة " فقضى أنّ الدّية على عاقلة القاتلة , وفي الجنين غرّة عبد أو أمة وعشر من الإبل أو مائة شاة " قوله: (كيف أغرم يا رسولَ الله من لا شرب ولا أكل؟) في رواية مالك " من لا أكل ولا شرب ". والأوّل أولى لمناسبة السّجع. ووقع في رواية الكشميهنيّ في رواية مالك " ما لا " بدل " من لا " وهذا هو الذي في " الموطّأ ". وقال أبو عثمان بن جنّيّ: معنى قوله " لا أكل " أي: لَم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع. قوله: (فمثل ذلك يطلّ) للأكثر - بضمّ المثنّاة التّحتانيّة وفتح الطّاء المهملة وتشديد اللام - أي: يهدر، يقال: دم فلان هدر إذا ترك الطّلب بثأره، وطل الدّم - بضمّ الطّاء وبفتحها أيضاً - وحكي " أطل " ولَم يعرفه الأصمعيّ.

ووقع للكشميهنيّ في رواية ابن مسافر (¬1) " بطل " بفتح الموحّدة والتّخفيف من البطلان. كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذرّ. وزعم عياض , أنّه وقع هنا للجميع بالموحّدة، قال: وبالوجهين في الموطّأ. وقد رجّح الخطّابيّ أنّه من البطلان، وأنكره ابن بطّال فقال: كذا يقوله أهل الحديث، وإنّما هو طلّ الدّم إذا هدر. قلت: وليس لإنكاره معنىً بعد ثبوت الرّواية، وهو موجّه، راجعٌ إلى معنى الرّواية الأخرى. قوله: (إنّما هذا من إخوان الكهّان) أي: لمشابهة كلامه كلامهم. (¬2) قوله: (من أجل سجعه الذي سجع) قال القرطبيّ: هو من تفسير الرّاوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة: فقال رجلٌ من عصبة القاتلة يغرم. فذكر نحوه. وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسجع كسجع الأعراب؟. والسّجع هو تناسب آخر الكلمات لفظاً، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفّى. والجمع أسجاع وأساجيع. قال ابن بطّال: فيه ذمّ الكفّار وذمّ من تشبّه بهم في ألفاظهم، وإنّما لَم يعاقبه , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان مأموراً بالصّفح عن الجاهلين. ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الذي تقدّم ذكره. نُسب إلى جدّه. وروايته في صحيح البخاري (5426) عنه عن الزهري. كما تقدّم تخريجه. (¬2) تقدّم الكلام عن تعريف الكهانة وأنواعها مستوفى في كتاب البيوع برقم (269)

واستدل به على ذمّ السّجع في الكلام، ومحلّ الكراهة إذا كان ظاهر التّكلف، وكذا لو كان منسجماً , لكنّه في إبطال حقّ أو تحقيق باطل، فأمّا لو كان منسجماً - وهو في حقّ أو مباح - فلا كراهة. بل ربّما كان في بعضه ما يستحبّ مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطّاعة كما وقع لمثل القاضي الفاضل (¬1) في بعض رسائله , أو إقلاع عن معصية كما وقع لمثل أبي الفرج بن الجوزيّ في بعض مواعظه. وعلى هذا يُحمل ما جاء عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذا عن غيره من السّلف الصّالح. والذي يظهر لي أنّ الذي جاء من ذلك عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يكن عن قصد إلى التّسجيع , وإنّما جاء اتّفاقاً لعظم بلاغته، وأمّا مَن بَعْده فقد يكون كذلك , وقد يكون عن قصد وهو الغالب، ومراتبهم في ذلك متفاوتة جدّاً. والحاصل أنّه إن جمعَ الأمرين من التّكلف وإبطال الحقّ كان ¬

_ (¬1) عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي، المعروف بالقاضي الفاضل: وزير، من أئمة الكتّاب. ولد بعسقلان (بفلسطين) سنة 529 هـ وانتقل إلى الإسكندرية، ثم إلى القاهرة وتوفي فيها سنة 596 هـ. كان من وزراء السلطان صلاح الدين، ومن مقرّبيه، ولم يخدم بعده أحداً. وكان سريع الخاطر في الإنشاء، كثير الرسائل، قيل: لو جُمعت رسائله وتعليقاته لم تقصر عن مئة مجلد، وهو مجيد في أكثرها. الأعلام للزركلي (3: 346). قال الذهبي في السير (15/ 442): انتهت إلى القاضي الفاضل براعة الترسل وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك الفنّ اليد البيضاء، والمعاني المبتكرة، والباع الأطول، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع الكثرة. انتهى

مذموماً، وإن اقتصر على أحدهما كان أخفّ في الذّمّ. ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع: فالمحمود ما جاء عفواً في حقّ، ودونه ما يقع متكلفاً في حقّ أيضاً، والمذموم عكسهما. وفي الحديث من الفوائد أيضاً رفع الجناية للحاكم، ووجوب الدّية في الجنين ولو خرج ميّتاً كما تقدّم تقريره. واستدل به على عدم وجوب القصاص في القتل بالمثقّل , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يأمر فيه بالقود وإنّما أمر بالدّية. وأجاب مَن قال به: بأنّ عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصّغر بحيث يقتل بعضه غالباً ولا يقتل بعضه غالباً، وطرد المماثلة في القصاص إنّما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالباً. وفي هذا الجواب نظر: فإنّ الذي يظهر أنّه إنّما لَم يوجب فيه القود لأنّها لَم يقصد مثلها، وشرط القود العمد , وهذا إنّما هو شبه العمد , فلا حجّة فيه للقتل بالمثقّل ولا عكسه. وفيه ميراث المرأة والزّوج مع الوالد وغيره من الوارثين فلا يسقط إرث واحد منهما بحالٍ، بل يحطّ الولد الزّوج من النّصف إلى الرّبع، ويحطّ المرأة من الرّبع إلى الثّمن. ووجه الدّلالة منه، أنّ ميراث الضّاربة لبنيها وزوجها لا لعصبتها الذين عقلوا عنها فورث الزّوج مع ولده، وكذا لو كان الأب هو الميّت لورثت الأمّ مع الأولاد، أشار إلى ذلك ابن التّين. وكذا لو كان هناك عصبةٌ بغير ولدٍ.

تكميل: قال البخاري " باب جنين المرأة , وأنّ العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد " قال الإسماعيليّ: هكذا ترجم أنّ العقل على الوالد وعصبة الوالد، وليس في الخبر إيجاب العقل على الوالد، فإن أراد الوالدة التي كانت هي الجانية فقد يكون الحكم عليها فإذا ماتت أو عاشت فالعقل على عصبتها. انتهى. والمعتمد ما قال ابن بطّال: مراده أنّ عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته. قلت: وأبوها وعصبة أبيها عصبتها , فطابق لفظ " وأنّ العقل على عصبتها " وبيّنه لفظ الخبر الثّاني " وقضى أنّ دية المرأة على عاقلتها " وإنّما ذكره بلفظ الوالد للإشارة إلى ما ورد في بعض طرق القصّة. وقوله " لا على الولد " قال ابن بطّال: يريد أنّ ولد المرأة إذا لَم يكن من عصبتها لا يعقل عنها , لأنّ العقل على العصبة دون ذوي الأرحام , ولذلك لا يعقل الإخوة من الأمّ. قال: ومقتضى الخبر أنّ من يرثها لا يعقل عنها إذا لَم يكن من عصبتها، وهو متّفق عليه بين العلماء كما قاله ابن المنذر. قلت: وقد ذكرتُ قبل هذا , أنّ في رواية أسامة بن عمير " فقال أبوها: إنّما يعقلها بنوها، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: الدّية على العصبة ".

الحديث الثامن

الحديث الثامن 348 - عن عمران بن حصينٍ - رضي الله عنه - , أنّ رجلاً عضّ يدَ رجلٍ، فنزع يده من فيه، فوقعتْ ثنيّتاه، فاختصما إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: يَعَضُّ أحدكم أخاه، كما يَعَضُّ الفحل، لا دية لك. (¬1) قوله: (أنّ رجلاً عضّ يد رجل) في رواية محمّد بن جعفر عن شعبة عند مسلم عن عمران قال: قاتل يعلى بن أُميَّة رجلاً فعضّ أحدهما صاحبه " الحديث , قال شعبة: وعن قتادة عن عطاء - هو ابن أبي رباح - عن ابن يعلى - يعني صفوان - عن يعلى بن أُميَّة , قال: مثله، وكذا أخرجه النّسائيّ من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة , بهذا السّند , فقال في روايته: بمثل الذي قبله. يعني حديث عمران بن حصين. قلت: ولشعبة فيه سند آخر إلى يعلى. أخرجه النّسائيّ من طريق ابن أبي عديّ وعبيد بن عقيل كلاهما عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن يعلى. ووقع في رواية عبيد بن عقيل , أنّ رجلاً من بني تميم قاتل رجلاً فعضّ يده. ويستفاد من هذه الرّواية تعيين أحد الرّجلين المبهمين وأنّه يعلى بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6497) عن آدم , ومسلم (1673) عن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران - رضي الله عنه -. ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة نحوه. أخرجه مسلم (1673) ولمسلم (1673) من وجه آخر عن ابن سيرين عن عمران - رضي الله عنه - نحوه.

أُميَّة، وقد روى يعلى هذه القصّة في الصحيحين. فبيّن في بعض طرقه , أنّ أحدهما كان أجيراً له، ولفظه عند البخاري في الجهاد: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث. وفيه. فاستأجرتُ أجيراً , فقاتل رجلاً فعضّ أحدهما الآخر. فعُرف أنّ الرّجلين المبهمين يعلى وأجيره , وأنّ يعلى أبْهمَ نفسه , لكن عيّنه عمران بن حصين. ولَم أقف على تسمية أجيره. وأمّا تمييز العاضّ من المعضوض. فوقع بيانه في عند البخاري في " المغازي " من طريق محمّد بن بكر عن ابن جريجٍ في حديث يعلى. قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان بن يعلى أيّهما عضّ الآخر. فنسيتُه. فظنّ أنّه مستمرّ على الإبهام. ولكن وقع عند مسلم والنّسائيّ من طريق بديل بن ميسرة عن عطاء عن صفوان , أنّ أجيراً ليعلى عضّ رجلٌ ذراعَه. وأخرجه النّسائيّ أيضاً عن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان عن ابن جريج بلفظ: فقاتل أجيري رجلاً. فعضّه الآخر. ويؤيّده ما أخرجه النّسائيّ من طريق سفيان بن عبد الله عن عمّيه سلمة بن أُميَّة ويعلى بن أُميَّة قالا: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك , ومعنا صاحب لنا فقاتلا رجلاً من المسلمين , فعضّ الرّجل ذراعه. ويؤيّده أيضاً رواية عبيد بن عقيل التي ذكرتها من عند النّسائيّ

بلفظ " أنّ رجلاً من بني تميم عضّ " فإنّ يعلى تميميّ , وأمّا أجيره فإنّه لَم يقع التّصريح بأنّه تميميّ. وأخرج النّسائيّ أيضاً من رواية محمّد بن مسلم الزّهريّ عن صفوان بن يعلى عن أبيه نحو رواية سلمة. ولفظه: فقاتل رجلاً فعضّ الرّجل ذراعه فأوجعه. وعرف بهذا. أنّ العاضّ هو يعلى بن أُميَّة، ولعل هذا هو السّرّ في إبهامه نفسه. وقد أنكر القرطبيّ أن يكون يعلى هو العاضّ , فقال: يظهر من هذه الرّواية أنّ يعلى هو الذي قاتل الأجير، وفي الرّواية الأخرى " أنّ أجيراً ليعلى عضّ يد رجل " وهذا هو الأولى والأليق. إذ لا يليق ذلك الفعل بيعلى مع جلالته وفضله. قلت: لَم يقع في شيء من الطّرق أنّ الأجير هو العاضّ , وإنّما التبس عليه أنّ في بعض طرقه عند مسلم كما بيّنته " أنّ أجيراً ليعلى عضّ رجلٌ ذراعه " فجوّز أن يكون العاضّ غير يعلى. وأمّا استبعاده أن يقع ذلك من يعلى - مع جلالته - فلا معنى له مع ثبوت التّصريح به في الخبر الصّحيح، فيحتمل: أن يكون ذلك صدر منه في أوائل إسلامه فلا استبعاد. وقال النّوويّ: وأمّا قوله يعني في الرّواية الأولى " أنّ يعلى هو المعضوض " وفي. الرّواية الثّانية والثّالثة المعضوض هو أجير يعلى لا يعلى , فقال الحفّاظ: الصّحيح المعروف أنّ المعضوض أجير يعلى لا

يعلى. قال: ويحتمل أنّهما قضيّتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين. وتعقّبه شيخنا في شرح التّرمذيّ: بأنّه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في الكتب السّتّة ولا غيرها , أنّ يعلى هو المعضوض لا صريحاً ولا إشارة. وقال شيخنا: فيتعيّن على هذا أنّ يعلى هو العاضّ. والله أعلم. قلت: وإنّما تردّد عياض وغيره في العاضّ. هل هو يعلى أو آخر أجنبيّ؟ كما قدّمته من كلام القرطبيّ. والله أعلم. قوله: (فنزع يده من فيه) وكذا في حديث يعلى الماضي في البخاري في رواية الكشميهنيّ " من فمه ". وفي رواية معاذ بن هشام عن أبيه (¬1) عن قتادة عند مسلم " عضّ ذراع رجلٍ فجذبه ". وفي حديث يعلى في البخاري " فعضّ إصبع صاحبه فانتزع إصبعه ". وفي الجمع بين الذّراع والإصبع عُسر، ويبعد الحمل على تعدّد القصّة لاتّحاد المخرج , لأنّ مدارها على عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، فوقع في رواية إسماعيل بن عُليّة عن ابن جريجٍ عنه " إصبعه " وهذه في البخاريّ , ولَم يسق مسلم لفظها. وفي رواية بن ميسرة عن عطاء عند مسلم , وكذا في رواية الزّهريّ ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع من " الفتح " (12/ 275) " هشام عن عروة " وهو خطأ , والتصويب من صحيح مسلم (1673).

عن صفوان عند النّسائيّ " ذراعه " ووافقه سفيان بن عيينة عن ابن جريجٍ في رواية إسحاق بن راهويه عنه. فالذي يترجّح الذّراع، وقد وقع أيضاً في حديث سلمة بن أُميَّة عند النّسائيّ مثل ذلك. وانفراد ابن عُليّة عن ابن جريجٍ بلفظ " الإصبع " لا يقاوم هذه الرّوايات المتعاضدة على الذّراع. والله أعلم. قوله: (فوقعت ثنيّتاه) كذا للأكثر بالتّثنية. وللكشميهنيّ " ثناياه " بصيغة الجمع، وفي رواية هشام المذكورة " فسقطت ثنيّته " بالإفراد , وكذا له في رواية ابن سيرين عن عمران. (¬1) وكذا في رواية سلمة بن أُميَّة بلفظ " فجذب صاحبه يده فطرح ثنيّته ". وقد تترجّح رواية التّثنية , لأنّه يمكن حمل الرّواية التي بصيغة الجمع عليها على رأي من يجيز في الاثنين صيغة الجمع، وردّ الرّواية التي بالإفراد إليها على إرادة الجنس، لكن وقع في رواية محمّد بن بكر " فانتزع إحدى ثنيّتيه " فهذه أصرح في الوحدة. وقول من يقول في هذا بالحمل على التّعدّد بعيدٌ أيضاً لاتّحاد المخرج، ووقع في رواية الإسماعيليّ " فندرت ثنيّته ". قوله: (فاختصما إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في رواية آدم عن شعبة عند ¬

_ (¬1) رواية هشام عند مسلم كما تقدَّم , وعليه فالضمير في قول الشارح (له) أي: لمسلم. لكن وقع عنده في رواية ابن سيرين بالشك فقال (ثنيته أو ثناياه) كما في رواية الكشميهني التي ذكرها الشارح.

البخاري " فاختصموا " كذا في هذا الموضع , والمراد يعلى وأجيره ومن انضمّ إليهما ممّن يلوذ بهما أو بأحدهما، وفي رواية هشام " فرفع إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية ابن سيرين " فاستعدى عليه ". وفي حديث يعلى " فانطلق " هذه رواية ابن عليّة , وفي رواية سفيان " فأتى " , وفي رواية محمّد بن بكر عن ابن جريجٍ في البخاري " فأتيا ". قوله: (فقال: يعضّ) بفتح أوّله والعين المهملة بعدها ضاد معجمة ثقيلة , وفي رواية مسلم " يعمد أحدكم إلى أخيه فيعضّه ". وأصل عضّ عضض بكسر الأولى يعضض بفتحها فأدغمت. قوله: (كما يعضّ الفحل) وفي حديث سلمة " كعضاض الفحل " أي: الذّكر من الإبل , ويطلق على غيره من ذكور الدّوابّ. ووقع في الرّواية التي في الجهاد (¬1). وكذا في حديث هشام " ويقضمها " - بسكون القاف وفتح الضّاد المعجمة على الأفصح - " كما يقضم الفحل " من القضم , وهو الأكل بأطراف الأسنان. والخضم - بالخاء المعجمة بدل القاف - الأكل بأقصاها وبأدنى الأضراس , ويطلق على الدّقّ والكسر , ولا يكون إلَّا في الشّيء الصّلب. حكاه صاحب الرّاعي في اللغة. قوله: (لا دية له) في رواية الكشميهنيّ " لا دية لك " ووقع في رواية هشام " فأبطله , وقال: أردت أن تأكل لحمه ". ¬

_ (¬1) أي: في كتاب الجهاد من صحيح البخاري.

وفي حديث سلمة " ثمّ تأتي تلتمس العقل , لا عقل لها فأبطلها " , وفي رواية ابن سيرين " فقال: ما تأمرني؟ أتأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل , ادفع يدك حتّى يقضمها , ثمّ انزعها " كذا لمسلمٍ. وعند أبي نعيم في " المستخرج " من الوجه الذي أخرجه مسلم " إن شئت أمرناه فعضّ يدك , ثمّ انتزعها أنت " وفي حديث يعلى بن أُميَّة " فأهدرها " , وفي رواية للشيخين " فأبطلها " وهي رواية الإسماعيليّ. وقد أخذ بظاهر هذه القصّة الجمهور , فقالوا: لا يلزم المعضوضَ قصاصٌ ولا ديةٌ , لأنّه في حكم الصّائل. واحتجّوا أيضاً بالإجماع. بأنّ من شهر على آخر سلاحاً ليقتله فدفع عن نفسه , فقُتل الشّاهر أنّه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنّه بدفعه إيّاه عنها، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لَم يلزمه شيء. وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض , وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب في شدقيه أو فكّ لحيته ليرسلها، ومهما أمكن التّخليص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لَم يهدر. وعند الشّافعيّة وجه , أنّه يهدر على الإطلاق، ووجّه أنّه لو دفعه في ذلك ضمن. وعن مالك روايتان. أشهرهما يجب الضّمان.

وأجابوا عن هذا الحديث: الأول: احتمال أن يكون سبب الإنذار شدّة العضّ لا النّزع , فيكون سقوط ثنيّة العاضّ بفعله لا بفعل المعضوض، إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع، ولا يجوز الدّفع بالأثقل مع إمكان الأخفّ. الثاني: قال بعض المالكيّة: العاضّ قصد العضو نفسه , والذي استحقّ في إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به , فوجب أن يكون كلّ منهما ضامناً ما جناه على الآخر، كمن قلع عين رجل فقطع الآخر يده. وتعقّب: بأنّه قياس في مقابل النّصّ فهو فاسد. الثالث: قال بعضهم: لعلَّ أسنانه كانت تتحرّك فسقطت عقب النّزع. وسياق هذا الحديث يدفع هذا الاحتمال. الرابع: تمسّك بعضهم بأنّها واقعة عين ولا عموم لها. وتعقّب: بأنّ البخاريّ أخرج في الإجارة عقب حديث يعلى هذا من طريق أبي بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - , أنّه وقع عنده مثل ما وقع عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وقضى فيه بمثله. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (2146) حديث يعلى. ثم قال: قال ابن جريج: وحدثني عبد الله بن أبى مُلَيْكة عن جدِّه بمثل هذه الصفة , أنَّ رجلاً عضَّ يدَ رجلٍ، فأندر ثنيته، فأهدرها أبو بكر - رضي الله عنه - قال ابن حجر في الفتح (7/ 104) قوله: (قال ابن جريج إلخ) هو بالإسناد المذكور إليه.

وما تقدّم من التّقييد ليس في الحديث , وإنّما أخذ من القواعد الكليّة، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم به , فإنّ النّصّ إنّما ورد في صورة مخصوصة، نبّه على ذلك ابن دقيق العيد. وقد قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكاً هذا الحديث لَمَا خالفه. وكذا قال ابن بطّال: لَم يقع هذا الحديث لمالكٍ وإلَّا لَمَا خالفه. وقال الدّاوديّ: لَم يروه مالك , لأنّه من رواية أهل العراق. وقال أبو عبد الملك: كأنّه لَم يصحّ الحديث عنده , لأنّه أتى من قِبل المشرق. قلت: وهو مُسلَّمٌ في حديث عمران، وأمّا طريق يعلى بن أُميَّة فرواها أهل الحجاز , وحملها عنهم أهل العراق. الخامس: اعتذر بعض المالكيّة بفساد الزّمان. ونقل القرطبيّ عن بعض أصحابهم إسقاط الضّمان , قال: وضمّنه الشّافعيّ وهو مشهور مذهب مالك. وتعقّب: بأنّ المعروف عن الشّافعيّ أنّه لا ضمان، وكأنّه انعكس على القرطبيّ تنْبيهٌ: لَم يتكلم النّوويّ على ما وقع في رواية ابن سيرين عن عمران، فإنّ مقتضاها إجراء القصاص في العضّة، وقد يقال: إنّ العضّ هنا إنّما أذن فيه للتّوصّل إلى القصاص في قلع السّنّ. لكنّ الجواب السّديد في هذا أنّه استفهمه استفهام إنكار لا تقرير

شرع، هذا الذي يظهر لي. والله أعلم. وفي هذه القصّة من الفوائد. التّحذير من الغضب، وأنّ من وقع له ينبغي له أن يكظمه ما استطاع لأنّه أدّى إلى سقوط ثنيّة الغضبان، لأنّ يعلى غضب من أجيره فضربه فدفع الأجير عن نفسه فعضّه يعلى فنزع يده فسقطت ثنيّة العاضّ، ولولا الاسترسال مع الغضب لسلم من ذلك. وفيه رفع الجناية إلى الحاكم من أجل الفصل، وأنّ المرء لا يقتصّ لنفسه. وأنّ المتعدّي بالجناية يسقط ما ثبت له قبلها من جناية إذا ترتّبت الثّانية على الأولى. وفيه جواز تشبيه فعل الآدميّ بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التّنفير عن مثل ذلك الفعل. وقد حكى الكرمانيّ أنّه رأى من صحّف قوله " كما يقضم الفجل " بالجيم بدل الحاء المهملة وحمله على البقل المعروف، وهو تصحيف قبيح. وفيه دفع الصّائل , وأنّه إذا لَم يمكن الخلاص منه إلَّا بجنايةٍ على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدراً، وللعلماء في ذلك اختلاف وتفصيل معروف. وفيه أنّ من وقع له أمرٌ يأنفه أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه كنَّى عن نفسه بأن يقول: فعل رجلٌ أو إنسان أو نحو ذلك كذا وكذا كما

وقع ليعلى في هذه القصّة. وكما وقع لعائشة حيث قالت: قبّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةً من نسائه، فقال لها عروة: هل هي إلَّا أنتِ؟ فتبسّمت. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (25766) وأبو داود (179)، والترمذي (86)، وابن ماجه (502) من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير عن عائشة به. لكن قال: فضحكت. ورواته ثقات , لكن أعلَّه الترمذيُّ وغيرُه بالانقطاع بين حبيب وعروة.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 349 - عن الحسن بن أبي الحسن البصريّ , قال: حدثنا جندب - رضي الله عنه - في هذا المسجد، وما نسينا منه حديثاً، وما نخشى أن يكون جندبٌ كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جُرحٌ فجزع، فأخذ سكيناً فحزَّ بِها يده، فما رقأ الدّم حتى مات، قال الله عزّ وجل: عبدي بادرني بنفسه، حرّمتُ عليه الجنة. (¬1) قوله: (عن الحسن بن أبي الحسن البصريّ) الإمام المشهور، وكان ولي قضاء البصرة مدة لطيفة , ولَّاه أميرها عديُّ بن أرطاة، ومات الحسن سنة عشر ومائة. قوله: (جندب - رضي الله عنه -) ابن عبد الله البجلي. (¬2) قوله: (في هذا المسجد) هو مسجد البصرة. قوله: (وما نسينا منه حديثاً) وللبخاري " وما نسينا منذ حدّثنا " أشار بذلك إلى تحقّقه لِمَا حدّث به وقرب عهده به واستمرار ذكره له. قوله: (وما نخشى أن يكون جندبٌ كذب) فيه إشارة إلى أنّ الصّحابة عدول، وأنّ الكذب مأمون من قبلهم , ولا سيّما على النّبيّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1298 , 3276) ومسلم (113) من طريق جرير بن حازم , ومسلم (113) من طريق شيبان كلاهما الحسن البصري به. والفظ للبخاري. (¬2) تقدّمت ترجمته - رضي الله عنه - في الصلاة رقم (148).

- صلى الله عليه وسلم -. قوله: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ) لَم أقف على اسمه. قوله: (به جرح) بضمّ الجيم وسكون الرّاء بعدها مهملة، وفي رواية للبخاري بلفظ " به جراح " وهو بكسر الجيم. وذكره بعضهم: بضمّ المعجمة وآخره جيم. وهو تصحيف. ووقع في رواية مسلم " أنّ رجلاً خرجت به قرحة " (¬1) وهي بفتح القاف وسكون الرّاء: حبّة تخرج في البدن، وكأنّه كان به جرح ثمّ صار قرحة. قوله: (فجزع) أي: فلم يصبر على أَلَم تلك القرحة. قوله: (فأخذ سكّيناً فحزّ بها يده) السّكّين تذكّر وتؤنّث، وقوله " حزّ " بالحاء المهملة والزّاي هو القطع بغير إبانة. ووقع في رواية مسلم " فلمّا آذته انتزع سهماً من كنانته فنكأها " وهو بالنّون والهمز. أي: نخس موضع الجرح. ويمكن الجمع: بأن يكون فجر الجرح بذبابة السّهم فلم ينفعه فحزّ موضعه بالسّكّين. ودلَّت رواية البخاريّ , على أنّ الجرح كان في يده. قوله: (فما رقأ الدّم) بالقاف والهمز , أي: لَم ينقطع. قوله: (قال الله عزّ وجل: عبدي بادرني بنفسه) وللبخاري " ¬

_ (¬1) وفي روايةٍ لمسلم (113) " خراج " قال السيوطي: بضم الخاء المعجمة وتخفيف الراء القرحة.

بادرني عبدي بنفسه " هو كناية عن استعجال المذكور الموت، وسيأتي البحث فيه. قوله: (حرّمت عليه الجنّة) جارٍ مجرى التّعليل للعقوبة , لأنّه لَمَّا استعجل الموت بتعاطي سببه من إنفاذ مقاتله فجعل له فيه اختياراً عصى الله به , فناسب أن يعاقبه. ودلَّ ذلك على أنّه حزّها لإرادة الموت لا لقصد المداواة التي يغلب على الظّنّ الانتفاع بها. وقد استشكل قوله " بادرني بنفسه " وقوله " حرّمت عليه الجنّة ". لأنّ الأوّل يقتضي أن يكون من قتل فقد مات قبل أجله , لِمَا يوهمه سياق الحديث من أنّه لو لَم يقتل نفسه كان قد تأخّر عن ذلك الوقت وعاش، لكنّه بادر فتقدّم. والثّاني يقتضي تخليد الموحّد في النّار. والجواب عن الأوّل: أنّ المبادرة من حيث التّسبّب في ذلك والقصد له والاختيار، وأطلق عليه المبادرة لوجود صورتها، وإنّما استحقّ المعاقبة , لأنّ الله لَم يطلعه على انقضاء أجله فاختار هو قتل نفسه فاستحقّ المعاقبة لعصيانه. وقال القاضي أبو بكر: قضاء الله مطلق ومقيّد بصفة، فالمطلق يمضي على الوجه بلا صارف، والمقيّد على الوجهين، مثاله. أن يقدّر لواحد أنّ يعيش عشرين سنة إن قتل نفسه , وثلاثين سنة إن لَم يقتل , وهذا بالنّسبة إلى ما يعلم به المخلوق كملك الموت مثلاً. وأمّا بالنّسبة إلى علم الله فإنّه لا يقع إلَّا ما علمه , ونظير ذلك الواجب المخيّر

فالواقع منه معلوم عند الله والعبد مخيّر في أيّ الخصال يفعل. والجواب عن الثّاني من أوجه: أحدها: أنّه كان استحلَّ ذلك الفعل فصار كافراً. ثانيها: كان كافراً في الأصل وعوقب بهذه المعصية زيادة على كفره. ثالثها: أنّ المراد أنّ الجنّة حرّمت عليه في وقت ما كالوقت الذي يدخل فيه السّابقون , أو الوقت الذي يعذّب فيه الموحّدون في النّار ثمّ يخرجون. رابعها: أنّ المراد جنّة معيّنة كالفردوس مثلاً. خامسها: أنّ ذلك ورد على سبيل التّغليظ والتّخويف , وظاهره غير مراد. سادسها: أنّ التّقدير حرّمت عليه الجنّة إن شئت استمرار ذلك. سابعها: قال النّوويّ: يحتمل أن يكون ذلك شرعُ مَن مضى أنّ أصحاب الكبائر يكفرون بفعلها. وفي الحديث تحريم قتل النّفس. سواء كانت نفس القاتل أم غيره، وقتل الغير يؤخذ تحريمه من هذا الحديث بطريق الأولى. وفيه الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه حيث حرّم عليهم قتل نفوسهم , وأنّ الأنفس ملك الله. وفيه التّحديث عن الأمم الماضية , وفضيلة الصّبر على البلاء , وترك التّضجّر من الآلام لئلا يفضي إلى أشدّ منها. وفيه تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النّفس.

وفيه التّنبيه على أنّ حكم السّراية على ما يترتّب عليه ابتداء القتل. وفيه الاحتياط في التّحديث , وكيفيّة الضّبط له والتّحفّظ فيه بذكر المكان , والإشارة إلى ضبط المحدّث لمن حدّثه , ليركن السّامع لذلك، والله أعلم.

كتاب الحدود

كتاب الحدود جمع حدٍّ، وقد حصر بعض العلماء ما قيل بوجوب الحدّ به في سبعة عشر شيئاً. فمن المتّفق عليه. الرّدّة والحرابة , ما لَم يتب قبل القدرة , والزّنا والقذف به وشرب الخمر. سواء أسكر أم لا والسّرقة. ومن المختلف فيه. جحد العارية , وشرب ما يسكر كثيره من غير الخمر , والقذف بغير الزّنا , والتّعريض بالقذف , واللواط - ولو بمن يحلّ له نكاحها - (¬1) وإتيان البهيمة , والسّحاق , وتمكين المرأة القرد وغيره من الدّوابّ من وطئها , والسّحر , وترك الصّلاة تكاسلاً , والفطر في رمضان. هذا كله خارجٌ عمّا تشرع فيه المقاتلة كما لو ترك قومٌ الزّكاة , ونصبوا لذلك الحرب. وأصل الحدّ ما يحجز بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وحدّ الدّار ما يميّزها، وحدّ الشّيء وصفه المحيط به المميّز له عن غيره. وسُمّيت عقوبة الزّاني ونحوه حدّاً لكونها تمنعه المعاودة , أو لكونها مقدّرةً من الشّارع، وللإشارة إلى المنع سُمِّي البوّاب حدّاداً. قال الرّاغب: وتطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي كقوله تعالى ¬

_ (¬1) أي: الزوجة أوالسرية. بأن يولج ذكره في دبرها.

{تلك حدود الله فلا تقربوها} وعلى فعل فيه شيءٌ مقدّرٌ، ومنه {ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} وكأنّها لَمَّا فصلت بين الحلال والحرام سُمِّيت حدوداً. فمنها ما زجر عن فعله , ومنها ما زجر من الزّيادة عليه والنّقصان منه. وأمّا قوله تعالى {إنّ الذين يحادّون الله ورسوله} فهو من الممانعة. ويحتمل: أن يراد استعمال الحديد , إشارة إلى المقاتلة.

الحديث الأول

الحديث الأول 350 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: قَدِم ناسٌ من عُكلٍ أو عُرينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلقاحٍ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحُّوا. قتلوا راعي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النَّعَم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلمَّا ارتفع النهار جِيء بهم، فأمر بهم، فقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وسُمرت أعينهم، وتُركوا في الحرّة يستسقون. فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله، أخرجه الجماعة. (¬1) قوله: (قدم ناسٌ) أي: على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصرّح به البخاري من طريق أبي رجاء عن أبي قلابة عن أنس. قوله: (من عكلٍ أو عرينة) الشّكّ فيه من حمّاد , وللبخاري في المحاربين عن قتيبة عن حمّاد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة " أنّ رهطاً من عكلٍ , أو قال من عرينة. ولا أعلمه إلَّا قال: من عكلٍ ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (231 , 2855 , 3957 , 4334 , 4617 , 4618 , 4619 , 6420 , 6503) ومسلم (1671) من طرق عن أبي قلابة عن أنس - رضي الله عنه -. واللفظ للبخاري. وليس عند مسلم قول أبي قلابة. وأخرجه البخاري (1430 , 3956 , 5362 , 5395) ومسلم (1671) من طرق عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - نحوه. وأخرجه البخاري (5361) من طريق ثابت , ومسلم (1671) من طريق حميد وعبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي ومعاوية بن قرّة كلهم عن أنس بنحوه.

وله في " الجهاد " عن وهيبٍ عن أيّوب " أنّ رهطاً من عكلٍ " ولَم يشكّ , وكذا في " المحاربين " عن يحيى بن أبي كثير , وفي " الدّيات " عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة. وله في " الزّكاة " عن شعبة عن قتادة عن أنس " أنّ ناساً من عرينة " ولَم يشكّ أيضاً , وكذا لمسلمٍ من رواية معاوية بن قرّة عن أنس. وفي البخاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة " أنّ ناساً من عكلٍ وعرينة " بالواو العاطفة , وهو الصّواب. ويؤيّده ما رواه أبو عوانة والطّبريّ من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: كانوا أربعةً من عرينة وثلاثة من عكلٍ. ولا يخالف هذا ما عند البخاري في " الجهاد " من طريق وهيب عن أيّوب , وفي " الدّيات " من طريق حجّاج الصّوّاف عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس , أنّ رهطاً من عكلٍ ثمانية. لاحتمال أن يكون الثّامن من غير القبيلتين , وكان من أتباعهم فلم ينسب. وغفل من نسب عدّتهم ثمانية لرواية أبي يعلى , وهي عند البخاريّ , وكذا عند مسلم. وزعم ابن التّين تبعاً للدّاوديّ , أنّ عرينة هم عكل وهو غلطٌ، بل هما قبيلتان متغايرتان: عكلٌ من عدنان. وعرينة من قحطان. وعُكْل: بضمّ المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرّباب. وعُرَيْنة: بالعين والرّاء المهملتين والنّون مصغّراً حيٌّ من قضاعة وحيٌّ من بجيلة.

والمراد هنا الثّاني. كذا ذكره موسى بن عقبة في " المغازي " , وكذا رواه الطّبريّ من وجهٍ آخر عن أنس. ووقع عند عبد الرّزّاق من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ساقطٍ " أنّهم من بني فزارة ". وهو غلطٌ؛ لأنّ بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكلٍ ولا مع عرينة أصلاً. وذكر ابن إسحاق في " المغازي ": أنّ قدومهم كان بعد غزوة ذي قردٍ , وكانت في جمادى الآخرة سنة ستّ. وذكرها البخاري بعد الحديبية , وكانت في ذي القعدة منها. وذكر الواقديّ: أنّها كانت في شوّالٍ منها , وتبعه ابن سعد وابن حبّان وغيرهما. والله أعلم. وللبخاري في " المحاربين " من طريق وهيب عن أيّوب " أنّهم كانوا في الصّفّة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل ". قوله: (فاجتووا المدينة) زاد في رواية يحيى بن أبي كثير قبل هذا " فأسلموا " , وفي رواية أبي رجاء قبل هذا " فبايعوه على الإسلام ". قال ابن فارس: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه , وإن كنت في نعمة. وقيّده الخطّابيّ بما إذا تضرّر بالإقامة , وهو المناسب لهذه القصّة. وقال القزّاز: اجتووا. أي: لَم يوافقهم طعامها. وقال ابن العربيّ: الجوى داء يأخذ من الوباء. وفي روايةٍ أخرى يعني رواية أبي رجاء المذكورة " استوخموا " قال: وهو بمعناه. وقال غيره: الجوى داء يصيب الجوف.

وللبخاري من رواية سعيدٍ عن قتادة في هذه القصّة " فقالوا: يا نبيّ الله. إنّا كنّا أهل ضرع , ولَم نكن أهل ريف ". وله في " الطّبّ " من رواية ثابتٍ عن أنس , أنّ ناساً كان بهم سقمٌ قالوا: يا رسولَ الله آونا وأطعمنا. فلمّا صحوا , قالوا: إنّ المدينة وخمة. والظّاهر أنّهم قدموا سقاماً , فلمّا صحّوا من السّقم كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، فأمّا السّقم الذي كان بهم , فهو الهزال الشّديد والجهد من الجوع. فعند أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس: كان بهم هزال شديد. وعنده من رواية أبي سعد عنه " مصفرّة ألوانهم ". وأمّا الوخم الذي شكوا منه بعد أن صحّت أجسامهم , فهو من حُمّى المدينة كما عند أحمد من رواية حميدٍ عن أنس. وللبخاري من حديث عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة. ووقع عند مسلم من رواية معاوية بن قرّة عن أنس " وقع بالمدينة المُوم " أي: بضمّ الميم وسكون الواو , قال: وهو البرسام. أي: بكسر الموحّدة , سريانيّ معرّب , أطلق على اختلال العقل , وعلى ورم الرّأس , وعلى ورم الصّدر. والمراد هنا الأخير. فعند أبي عوانة من رواية همّام عن قتادة عن أنس في هذه القصّة " فعظُمت بطونهم " قوله: (فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاحٍ) أي: فأمرهم أن يلحقوا بها , وللبخاري في رواية همّام عن قتادة " فأمرهم أن يلحقوا براعيه ".

وله عن قتيبة عن حمّاد " فأمر لهم بلقاح "؛ بزيادة اللام , فيحتمل أن تكون زائدة , أو للتّعليل , أو لشبه الملك أو للاختصاص , وليست للتّمليك. وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرّة , التي أخرج مسلمٌ إسنادَها " أنّهم بدءوا بطلب الخروج إلى اللقاح فقالوا: يا رسولَ الله قد وقع هذا الوجع , فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل ". وللبخاري من رواية وهيب عن أيّوب أنّهم قالوا: يا رسولَ الله أبغنا رسلاً. أي: اطلب لنا لبناً. قال: ما أجد لكم إلَّا أن تلحقوا بالذّود. والرِّسل: بكسر الرّاء وسكون المهملة اللبن وبفتحتين , المال من الإبل والغنم. وقيل: بل الإبل خاصّةً إذا أرسلت إلى الماء , تسمّى رسلاً , وفي رواية أبي رجاء " هذه نعمٌ لنا تخرج فاخرجوا فيها ". واللقاح: باللام المكسورة والقاف وآخره مهملة: النّوق ذوات الألبان , واحدها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف. وقال أبو عمرو: يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهرٍ , ثمّ هي لبونٌ. وظاهر ما مضى , أنّ اللقاح كانت للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وصرّح بذلك في البخاري عن موسى عن وهيب بسنده فقال " إلَّا أن تلحقوا بإبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وله من رواية الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير بسنده " فأمرهم أن

يأتوا إبل الصّدقة " وكذا له من طريق شعبة عن قتادة. والجمع بينهما. أنّ إبل الصّدقة كانت ترعى خارج المدينة , وصادف بعث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلقاحه إلى المرعى ما طلب هؤلاء النّفر الخروج إلى الصّحراء لشرب ألبان الإبل , فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه , فخرجوا معه إلى الإبل , ففعلوا ما فعلوا , وظهر بذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنّ المدينة تنفي خبثها " متفق عليه. وذكر ابن سعد , أنّ عدد لقاحه - صلى الله عليه وسلم - كانت خمس عشرة , وأنّهم نحروا منها واحدة , يقال: لها الحنّاء , وهو في ذلك متابعٌ للواقديّ , وقد ذكره الواقديّ في " المغازي " بإسنادٍ ضعيفٍ مرسل. قوله: (وأمرهم: أن يشربوا) وللبخاري في رواية أبي رجاء " فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها " بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة عن قتادة " فرخّص لهم أن يأتوا الصّدقة فيشربوا ". فأمّا شربهم ألبان الصّدقة فلأنّهم من أبناء السّبيل. وأمّا شربهم لبن لقاح النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فبإذنه المذكور. وأمّا شربهم البول. القول الأول: احتجّ به مَن قال بطهارته. أمّا من الإبل فبهذا الحديث , وأمّا من مأكول اللحم فبالقياس عليه، وهذا قول مالك وأحمد وطائفةٍ من السّلف ووافقهم من الشّافعيّة ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان والإصطخريّ والرّويانيّ القول الثاني: ذهب الشّافعيّ والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال

والأرواث كلّها من مأكول اللحم وغيره. واحتجّ ابن المنذر لقوله , بأنّ الأشياء على الطّهارة حتّى تثبت النّجاسة. قال: ومن زعم أنّ هذا خاصٌّ بأولئك الأقوام لَم يصب , الخصائص لا تثبت إلَّا بدليلٍ. قال: وفي ترك أهل العلم بيع النّاس أبعار الغنم في أسواقهم , واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديماً وحديثاً من غير نكير , دليل على طهارتها. قلت: وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنّ المختلف فيه لا يجب إنكاره. فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلاً عن طهارته. وقد دلَّ على نجاسة الأبوال كلّها حديث أبي هريرة الذي صحّحه ابن خزيمة وغيره مرفوعاً بلفظ: استنزهوا من البول , فإنّ عامّة عذاب القبر منه. لأنّه ظاهرٌ في تناول جميع الأبوال (¬1) فيجب اجتنابها لهذا الوعيد. ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (1/ 438): هذا ليس بجيد , والصواب طهارة أبوال الإبل ونحوها مما يؤكل لحمه كما في حديث العرنيين و " ال " في قوله - صلى الله عليه وسلم -: استنزهوا من البول. للعهد. والمعهود بينهم بول الناس كما قاله البخاري , وكما يدلُّ عليه حديث القبرين وأثر وأبي موسى المذكور " انتهى كلام ابن باز. قلت: أثر أبي موسى ذكره البخاري معلَّقاً بلفظ " وصلَّى أبو موسى في دار البريد. والسرقين والبرية إلى جنبه، فقال: هاهنا وثَمَّ سواء " قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 437): وصله أبو نعيم شيخ البخاري في " كتاب الصلاة " له قال: حدثنا الأعمش عن مالك بن الحارث - هو السلمي الكوفي - عن أبيه , قال: صلَّى بنا أبو موسى في دار البريد , وهناك سرقين الدواب والبرية على الباب , فقالوا: لو صليت على الباب. فذكره , والسرقين: بكسر المهملة وإسكان الراء. هو الزبل , وحكى فيه ابن سيدة: فتح أوله. وهو فارسي معرب , ويقال: له السرجين بالجيم , وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم يقرب من الكاف. والبرية: الصحراء منسوبة إلى البر , ودار البريد المذكورة موضع , قوله " سواء " يريد أنهما متساويان في صحة الصلاة. وتعقب: بأنه ليس فيه دليل على طهارة أرواث الدواب عند أبي موسى , لأنه يمكن أن يُصلِّي فيها على ثوب يبسطه. وأجيب: بأنَّ الأصل عدمه , وقد رواه سفيان الثوري في " جامعه " عن الأعمش بسنده. ولفظه " صلَّى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين " وهذا ظاهر في أنه بغير حائل. وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب وغيره , أنَّ الصلاة على الطنفسة مُحدَث. وإسناده صحيح والأولى أن يقال: إن هذا من فعل أبي موسى , وقد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره فلا يكون حجة , أو لعلَّ أبا موسى كان لا يرى الطهارة شرطاً في صحة الصلاة , بل يراها واجبة برأسها , وهو مذهب مشهور. ومثله في قصة الصحابي الذي صلَّى بعد أنْ جُرح , وظهر عليه الدم الكثير , فلا يكون فيه حجة على أنَّ الروث طاهر , كما أنه لا حجة في ذاك على أنَّ الدم طاهر. وقياس غير المأكول على المأكول غير واضح , لأنَّ الفرق بينهما متجه لو ثبت أنَّ روث المأكول طاهر , والتمسُّك بعموم حديث أبي هريرة الذي صححه ابن خزيمة وغيره مرفوعاً بلفظ " استنزهوا من البول. فإنَّ عامة عذاب القبر منه " أولى , لأنَّه ظاهر في تناول جميع الابوال. فيجب اجتنابها لهذا الوعيد. والله أعلم

والله أعلم. وقال ابن العربيّ: تعلَّق بهذا الحديث , مَن قال بطهارة أبوال الإبل , وعورضوا بأنّه أذن لهم في شربها للتّداوي. وتعقّب: بأنّ التّداوي ليس حال ضرورة , بدليل أنّه لا يجب فكيف يباح الحرام لِمَا لا يجب؟.

وأجيب: بمنع أنّه ليس حال ضرورة , بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره , وما أبيح للضّرورة لا يسمّى حراماً وقت تناوله لقوله تعالى {وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلَّا ما اضطررتم إليه} فما اضطرّ إليه المرء فهو غير محرّمٍ عليه كالميتة للمضطرّ. والله أعلم. وما تضمّنه كلامه , من أنّ الحرام لا يباح إلَّا لأمرٍ واجبٍ. غير مسلّمٍ، فإنّ الفطر في رمضان حرام , ومع ذلك فيباح لأمرٍ جائز كالسّفر مثلاً. وأمّا قول غيره , لو كان نجساً ما جاز التّداوي به لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الله لَم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها. رواه أبو داود من حديث أمّ سلمة , والنّجس حرام فلا يتداوى به؛ لأنّه غير شفاء. فجوابه: أنّ الحديث محمولٌ على حالة الاختيار، وأمّا في حال الضّرورة فلا يكون حراماً كالميتة للمضطرّ. ولا يرد قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر: إنّها ليست بدواء , إنّها داء. في جواب مَن سأله عن التّداوي بها , فيما رواه مسلم , فإنّ ذلك خاصّ بالخمر ويلتحق به غيرها من المسكر. والفرق بين المسكر وبين غيره من النّجاسات , أنّ الحدّ يثبت باستعماله في حالة الاختيار دون غيره؛ ولأنّ شربه يجرّ إلى مفاسد كثيرةٍ , ولأنّهم كانوا في الجاهليّة يعتقدون أنّ في الخمر شفاءً , فجاء الشّرع بخلاف معتقدهم، قاله الطّحاويّ بمعناه.

وأمّا أبوال الإبل , فقد روى ابن المنذر عن ابن عبّاس مرفوعاً: أنّ في أبوال الإبل شفاءً للذّربة بطونهم. والذّربة: بفتح المعجمة وكسر الرّاء جمع ذربٍ , والذّرب بفتحتين فساد المعدة، فلا يقاس ما ثبت أنّ فيه دواءً على ما ثبت نفي الدّواء عنه. والله أعلم. وبهذه الطّريقة يحصل الجمع بين الأدلة (¬1)، والعمل بمقتضاها كلّها. قوله: (فلمّا صحُّوا , قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم -) في السّياق حذف تقديره " فشربوا من أبوالها وألبانها فلمّا صحّوا ". وقد ثبت ذلك في رواية أبي رجاء. وزاد في رواية وهيب " وسمنوا " وللإسماعيليّ من رواية ثابت " ورجعت إليهم ألوانهم ". قوله: (واستاقوا النّعم) من السّوق , وهو السّير العنيف. قوله: (فجاء الخبر) في رواية وهيب عن أيّوب " الصّريخ " بالخاء المعجمة وهو فعيلٌ بمعنى فاعل , أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم. وهذا الصّارخ أحد الرّاعيين , كما ثبت في صحيح أبي عوانة من رواية معاوية بن قرّة عن أنس، وقد أخرج مسلم إسناده ولفظه ¬

_ (¬1) قال الشيخ ابن باز (1/ 441): ليس بين الأدلة في هذا الباب بحمد الله اختلاف, والصواب طهارة أبوال مأكول اللحم من الأبل وغيرهما كما تقدم الجواب عما ذكره الشارح. ولو كانت الأبوال من الإبل ونحوها نجسة لأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغسل أفواههم عنها , وأوضح لهم حكمها , وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.

" فقتلوا أحد الرّاعيين , وجاء الآخر قد جزع فقال: قد قتلوا صاحبي , وذهبوا بالإبل ". واسم راعي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المقتول يسار - بياءٍ تحتانيّةٍ ثمّ مهملة خفيفة - كذا ذكره ابن إسحاق في " المغازي " , ورواه الطّبرانيّ موصولاً من حديث سلمة بن الأكوع بإسناد صالحٍ , قال: كان للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غلام يقال له يسار. زاد ابن إسحاق " أصابه في غزوة بني ثعلبة " قال سلمة: فرآه يحسن الصّلاة فأعتقه وبعثه في لقاحٍ له بالحرّة , فكان بها " فذكر قصّة العرنيّن , وأنّهم قتلوه. ولَم أقف على تسمية الرّاعي الآتي بالخبر، والظّاهر أنّه راعي إبل الصّدقة. ولَم تختلف روايات البخاريّ , في أنّ المقتول راعي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وفي ذِكْره بالإفراد، وكذا لمسلمٍ , لكن عنده من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس " ثمّ مالوا على الرّعاة فقتلوهم " بصيغة الجمع، ونحوه لابن حبّان من رواية يحيى بن سعيد عن أنس. فيحتمل: أنَّ إبل الصّدقة كان لها رعاة , فقتل بعضهم مع راعي اللقاح , فاقتصر بعض الرّواة على راعي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وذكر بعضهم معه غيره. ويحتمل: أن يكون بعض الرّواة ذكره بالمعنى , فتجوَّز في الإتيان بصيغة الجمع.

وهذا أرجح؛ لأنّ أصحاب المغازي. لَم يذكر أحدٌ منهم أنّهم قتلوا غير يسار. والله أعلم قوله: (فبعث في آثارهم) زاد في رواية الأوزاعيّ " الطّلب " وفي حديث سلمة بن الأكوع " خيلاً من المسلمين أميرهم كُرْز بن جابر الفهريّ " وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون , وهو بضمّ الكاف وسكون الرّاء بعدها زاي. وللنّسائيّ من رواية الأوزاعيّ " فبعث في طلبهم قافةً " أي: جمع قائفٍ , ولمسلمٍ من رواية معاوية بن قرّة عن أنس , أنّهم شبابٌ من الأنصار قريب من عشرين رجلاً , وبعث معهم قائفاً يقتصّ آثارهم. ولَم أقف على اسم هذا القائف , ولا على اسم واحدٍ من العشرين , لكن في مغازي الواقديّ , أنّ السّريّة كانت عشرين رجلاً , ولَم يقل من الأنصار , بل سمّى منهم جماعةً من المهاجرين. منهم بريدة بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميّان , وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيّان , وأبو ذرٍّ وأبو رهمٍ الغفاريّان , وبلال بن الحارث , وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّان وغيرهم. والواقديّ لا يحتجّ به إذا انفرد. فكيف إذا خالف؟. لكن يحتمل أن يكون من لَم يسمّه الواقديّ من الأنصار. فأطلق الأنصار تغليباً , أو قيل للجميع أنصار بالمعنى الأعمّ. وفي مغازي موسى بن عقبة , أنّ أمير هذه السّريّة سعيد بن زيد ,

كذا عنده بزيادة ياء , والذي ذكره غيره , أنّه سعد بسكون العين بن زيد الأشهليّ , وهذا أيضاً أنصاريّ , فيحتمل أنّه كان رأس الأنصار , وكان كُرْزٌ أميرَ الجماعة. وروى الطّبريّ وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجليّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه في آثارهم. لكنّ إسناده ضعيف , والمعروف أنّ جريراً تأخّر إسلامه عن هذا الوقت بمدّة. والله أعلم. قوله: (فلمّا ارتفع) فيه حذف تقديره , فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا , فلمّا ارتفع النّهار جيء بهم. أي: إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أسارى. وللبخاري " فما ترجّل النهار " بالجيم. أي: ارتفع. قوله: (فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم) قال الدّاوديّ: يعني قطع يَدَيْ كلّ واحد ورجليه. قلت: تردّه رواية التّرمذيّ " من خلاف " وكذا ذكره الإسماعيليّ عن الفريابيّ عن الأوزاعيّ بسنده. وللبخاري من رواية الأوزاعيّ أيضاً " ولَم يحسمهم ". والحسم: بفتح الحاء وسكون السّين المهملتين , الكيّ بالنّار لقطع الدّم , حسمته فانحسم كقطعته فانقطع , وحسمت العرق. معناه حبست دم العرق فمنعته أن يسيل، بل تركه ينزف. وقال الدّاوديّ: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حارٍّ. قلت: وهذا من صور الحسم , وليس محصوراً فيه. قال ابن بطّال: إنّما ترك حسمهم , لأنّه أراد إهلاكهم , فأمّا من

قطع في سرقة مثلاً , فإنّه يجب حسمه , لأنّه لا يؤمن معه التّلف غالباً بنزف الدّم. قوله: (وسُمّرت أعينهم) تشديد الميم , وفي رواية أبي رجاء " وسَمَر " بتخفيف الميم. ولَم تختلف روايات البخاريّ في أنّه بالرّاء (¬1). ووقع لمسلمٍ من رواية عبد العزيز " وسمل " بالتّخفيف واللام. قال الخطّابيّ: السّمل. فقء العين بأيّ شيءٍ كان. قال أبو ذؤيب الهذليّ: والعين بعدهم كأنّ حداقها سملت بشوكٍ , فهي عورٌ تدمع قال: والسّمر لغة في السّمل ومخرجهما متقارب. قال: وقد يكون من المسمار يريد أنّهم كحّلوا بأميالٍ قد أحميت. قلت: قد وقع التّصريح بالمراد عند البخاري من رواية وهيب عن أيّوب , ومن رواية الأوزاعيّ عن يحيى كلاهما عن أبي قلابة ولفظه " ثمّ أمر بمسامير فأُحميت , فكحلهم بها " فهذا يوضّح ما تقدّم , ولا يخالف ذلك رواية السّمل؛ لأنّه فقء العين بأيّ شيءٍ كان كما مضى. ¬

_ (¬1) وقعت رواية " سمل " باللام في رواية الأوزاعي عن يحيى عن أبي قلابة عن أنس. في البخاري برقم (6802) في (باب المحاربين من أهل الكفر والردة). وقد ذكر هذا الشارح نفسه في كتاب الحدود , ولعله لَم يستحضر الرواية في شرحه للحديث في كتاب الطهارة. فقال: وقع في رواية الأوزاعي في أول المحاربين " وسَمَلَ " باللام وهما بمعنى، قال ابن التين وغيره: وفيه نظر. قال عياض: سمر العين بالتخفيف كحلها بالمسمار المحمي فيطابق السمل فإنه فُسر بأن يدنى من العين حديدة محماة حتى يذهب نظرُها فيطابق الأول بأن تكون الحديدة مسماراً. قال: وضبطناه بالتشديد في بعض النسخ. والأول أوجه، وفسروا السَّمَل أيضاً بأنه فقء العين بالشوك وليس هو المراد هنا. انتهى

قوله: (وألقوا في الحرّة) هي أرضٌ ذات حجارةٍ سودٍ معروفة بالمدينة , وإنّما ألقوا فيها؛ لأنّها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا. قوله: (يستسقون فلا يسقون) زاد وهيب والأوزاعيّ " حتّى ماتوا " وفي رواية أبي رجاء " ثمّ نبذهم في الشّمس حتّى ماتوا " وفي رواية شعبة عن قتادة " يعضّون الحجارة ". وفي البخاري من رواية ثابت قال أنس: فرأيت الرّجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتّى يموت. ولأبي عوانة من هذا الوجه " يعضّ الأرض ليجد بردها ممّا يجد من الحرّ والشّدّة ". وزعم الواقديّ , أنّهم صلبوا , والرّوايات الصّحيحة تردّه. لكن عند أبي عوانة من رواية أبي عقيل عن أنس " فصلب اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين " كذا ذكرَ ستّة فقط , فإن كان محفوظاً فعقوبتهم كانت موزّعة. ومال جماعة منهم ابن الجوزيّ. إلى أنّ ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص؛ لِما عند مسلم من حديث سليمان التّيميّ عن أنس: إنّما سمل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعينهم؛ لأنّهم سملوا أعين الرّعاة. وقصّر من اقتصر في عزوه للتّرمذيّ والنّسائيّ. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ المثلة في حقّهم وقعت من جهاتٍ , وليس في الحديث إلَّا السّمل , فيحتاج إلى ثبوت البقيّة. قلت: كأنّهم تمسّكوا بما نقله أهل المغازي , أنّهم مثّلوا بالرّاعي وذهب آخرون: إلى أنّ ذلك منسوخٌ.

قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصينٍ في النّهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كلّ مثلة. وتعقّبه ابن الجوزيّ: بأنّ ادّعاء النّسخ يحتاج إلى تاريخ. قلت: يدل عليه ما رواه البخاريّ من حديث أبي هريرة في النّهي عن التّعذيب بالنّار بعد الإذن فيه (¬1) , وقصّة العرنيّن قبل إسلام أبي هريرة. وقد حضر الإذن ثمّ النّهي. وروى قتادة عن ابن سيرين , أنّ قصّتهم كانت قبل أن تنزل الحدود. ولموسى بن عقبة في " المغازي ": وذكروا أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى بعد ذلك عن المُثلة (¬2) بالآية التي في سورة المائدة. وإلى هذا مال البخاريّ , وحكاه إمام الحرمين في النّهاية عن الشّافعيّ. واستشكل القاضي عياض. عدم سقيهم الماء للإجماع على أنّ من وجب عليه القتل فاستسقى , لا يمنع. وأجاب: بأنّ ذلك لَم يقع عن أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا وقع منه نهي عن سقيهم. انتهى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3016) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث فقال: إنْ وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار , ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تُحرقوا فلاناً وفلاناً، وإنَّ النار لا يعذب بها إلَّا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما. (¬2) أخرج البخاري حديث الباب (3956) من طريق قتادة عن أنس فذكر الحديث. قال قتادة: بلغنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.

وهو ضعيفٌ جدّاً؛ لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على ذلك , وسكوته كافٍ في ثبوت الحكم. وأجاب النّوويّ: بأنّ المحارب المرتدّ لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره , ويدل عليه أنّ من ليس معه ماءٌ إلَّا لطهارته ليس له أن يسقيه للمرتدّ ويتيمّم , بل يستعمله ولو مات المرتدّ عطشاً. وقال الخطّابيّ: إنّما فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بهم ذلك؛ لأنّه أراد بهم الموت بذلك , وقيل: إنّ الحكمة في تعطيشهم؛ لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشّفاء من الجوع والوخم. ولأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعا بالعطش على من عطّش آل بيته , في قصّةٍ رواها النّسائيّ وابن وهب من مرسل سعيد بن المسيب. فيحتمل أن يكونوا في تلك الليلة منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من لقاحه في كل ليلةٍ , كما ذكر ذلك ابن سعد. والله أعلم قوله: (قال أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو. وقيل: عامر بن ناتل - بنون ومثناة - بن مالك بن عبيد الجرمي. بفتح الجيم وسكون الراء. قوله: (فهؤلاء سرقوا) أي: لأنّهم أخذوا اللقاح من حرزٍ مثلها. وهذا قاله أبو قلابة استنباطاً. قوله: (وقتلوا) أي: الرّاعي. كما تقدّم. قوله: (وكفروا) هو في رواية سعيدٍ عن قتادة عن أنس عند

البخاري في " المغازي ". وكذا في رواية وهيب عن أيّوب في " الجهاد " في أصل الحديث , وليس موقوفاً على أبي قلابة كما توهّمه بعضهم. وكذا قوله " وحاربوا " ثبت عند أحمد من رواية حميدٍ عن أنس في أصل الحديث " وهربوا محاربين " وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم: قدوم الوفود على الإمام ونظره في مصالحهم. وفيه مشروعيّة الطّبّ والتّداوي بألبان الإبل وأبوالها. وفيه أنّ كل جسدٍ يطبّب بما اعتاده. وفيه قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة إن قلنا إنّ قتلهم كان قصاصاً وفيه المماثلة في القصاص , وليس ذلك من المُثلة المنهيّ عنها , وثبوت حكم المحاربة في الصّحراء وأمّا في القرى ففيه خلاف. وفيه جواز استعمال أبناء السّبيل إبل الصّدقة في الشّرب وفي غيره قياساً عليه بإذن الإمام , وفيه العمل بقول القائف وللعرب في ذلك المعرفة التّامّة. تكميل: قال ابن بطّال: ذهب البخاريّ إلى أنّ آية المحاربة {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسله ...} الآية. نزلت في أهل الكفر والرّدّة، وساق حديث العرنيّين وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة حديث العرنيّين. وفي آخره , قال: بلغنا أنّ هذه الآية نزلت فيهم: {إنّما جزاء الذين يحاربون الله

ورسوله .. الآية}، ووقع مثله في حديث أبي هريرة، وممَن قال ذلك الحسن وعطاء والضّحّاك والزّهريّ. قال: وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطّريق، وهو قول مالك والشّافعيّ والكوفيّين. ثمّ قال: ليس هذا منافياً للقول الأوّل , لأنّها وإن نزلت في العرنيّين بأعيانهم , لكنّ لفظها عامٌّ يدخل في معناه كلّ من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد. قلت: بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة: فمن حملها على الكفر خصّ الآية بأهل الكفر , ومن حملها على المعصية عمّم. ثمّ نقل ابن بطّال عن إسماعيل القاضي , أنّ ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين , يدلّ على أنّ الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين، وأمّا الكفّار فقد نزل فيهم {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرّقاب} إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجاً عن ذلك، وقال تعالى في آية المحاربة {إلَّا الذين تابوا من قبل أن تقْدِروا عليهم} وهي دالةٌ على أنّ من تاب من المحاربين يسقط عنه الطّلب بما ذكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خفّفت عنه القتل.

وأجيب عن هذا الإشكال: بأنّه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتدّ مثلاً أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل. وقد نقل البخاري في " تفسير المائدة " عن سعيد بن جبير , أنّ معنى المحاربة لله الكفر به. وأخرج الطّبريّ من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصّة العرنيّين قال: فذُكر لنا أنّ هذه الآية نزلت فيهم {إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله}، وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس. وأخرج الإسماعيليّ هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العبّاس عن أيّوب عن أبي قلابة عن أنس عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى {إنّما جزاء الذّين يحاربون الله ورسوله} قال: هم من عكل. قلت: قد ثبت في الصّحيحين أنّهم كانوا من عكل وعرينة، فقد وجد التّصريح الذي نفاه ابن بطّال. والمعتمد: أنّ الآية نزلت أوّلاً فيهم , وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطّريق، لكنّ عقوبة الفريقين مختلفة: فإن كانوا كفّاراً يخيّر الإمام فيهم إذا ظفر بهم. وإن كانوا مسلمين فعلى قولين: القول الأول: وهو قول الشّافعيّ والكوفيّين , ينظر في الجناية فمن قَتَل قُتل ومن أخذ المال قُطع , ومن لَم يَقْتل , ولَم يأخذ مالاً نفي، وجعلوا " أو " للتّنويع.

القول الثاني: قال مالك: بل هي للتّخيير , فيتخيّر الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثّلاثة، ورجّح الطّبريّ الأوّل. واختلفوا في المراد بالنّفي في الآية: القول الأول: قال مالك والشّافعيّ يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، زاد مالك فيحبس فيها. القول الثاني: عن أبي حنيفة , بل يحبس في بلده. وتعقّب: بأنّ الاستمرار في البلد , ولو كان مع الحبس إقامة , فهو ضدّ النّفي فإنّ حقيقة النّفي الإخراج من البلد، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل , قال تعالى {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم}. وحجّة أبي حنيفة: أنّه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى. فانفصل عنه مالك بأنّه يحبس بها. وقال الشّافعيّ: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلاناً وذلاً.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 351 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعودٍ، عن أبي هريرة، وزيد بن خالدٍ الجهنيّ - رضي الله عنهم - أنهما قالا: إنّ رجلاً من الأعراب أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: يا رسولَ الله، أنشدك الله إلَّا قضيت بيننا بكتاب الله، فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل، قال: إنَّ ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أنّ على ابني الرّجم، فافتديت منه بمائة شاةٍ ووليدةٍ، فسألتُ أهل العلم: فأخبروني أنما على ابني جلد مائةٍ وتغريب عامٍ، وأنّ على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردٌ عليك، وعلى ابنك جلد مائةٍ، وتغريب عامٍ، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفتْ فارجمها، فغدا عليها، فاعترفتْ، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجِمت. (¬1) العسيف: الأجير. قوله: (عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعودٍ) المدني الهذلي. أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2190 , 2506، 2549، 2575، 6258، 6440، 6443، 6444، 6446، 6451، 6467، 6770، 6831، 6832، 6850) ومسلم (1697) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد. اقتصر بعضهم على أبي هريرة وبعضهم على زيد بن خالد. والأكثر الجمع بينهما

قوله: (عن أبي هريرة وزيد بن خالد) في رواية الحميديّ " عن زيد بن خالد الجهنيّ وأبي هريرة وشبل " وكذا قال أحمد وقتيبة عند النّسائيّ , وهشام بن عمّار وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمّد بن الصّبّاح عند ابن ماجه , وعمرو بن عليّ وعبد الجبّار بن العلاء والوليد بن شجاع وأبو خيثمة ويعقوب الدّورقيّ وإبراهيم بن سعيد الجوهريّ عند الإسماعيليّ , وآخرون عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله. وأخرجه التّرمذيّ عن نصر بن عليّ وغير واحد عن سفيان. ولفظه. سمعت من أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل , أَنّهم كانوا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال التّرمذيّ: هذا وهمٌ من سفيان، وإنّما روى عن الزّهريّ بهذا السّند حديث " إذا زنت الأمة " فذكر فيه شبلاً، وروى حديث الباب بهذا السّند ليس فيه شبل فوهم سفيان في تسويته بين الحديثين. قلت: وسقط ذِكْرُ شِبل من رواية الصّحيحين من طريقه لهذا الحديث. وكذا أخرجاه من طرق عن الزّهريّ: منها عن مالك والليث وصالح بن كيسان، وللبخاريّ من رواية ابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة، ولمسلمٍ من رواية يونس بن يزيد ومعمر كلّهم عن الزّهريّ. ليس فيه شبل. قال التّرمذيّ: وشبل لا صحبة له، والصّحيح ما روى الزّبيديّ

ويونس وابن أخي الزّهريّ فقالوا عن الزّهريّ: عن عبيد الله عن شبل بن خالد عن عبد الله بن مالك الأوسيّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الأمة إذا زنت. قلت: ورواية الزّبيديّ عند النّسائيّ، وكذا أخرجه من رواية يونس عن الزّهريّ، وليس هو في الكتب السّتّة من هذا الوجه إلَّا عند النّسائيّ، وليس فيه " كنت عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (إنّ رجلاً من الأعراب أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) في رواية سفيان " كنّا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقام رجل " وفي رواية شعيب " بينما نحن عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية ابن أبي ذئب " وهو جالس في المسجد ". وفي رواية شعيب في البخاري " إذ قام رجل من الأعراب " , وفي رواية مالك عند البخاري " أنّ رجلين اختصما ". قوله: (فقال: يا رسولَ الله , أنشدك الله) بفتح أوّله ونونٍ ساكنة وضمّ الشّين المعجمة. أي: أسألك بالله، وضمّن أنشدك معنى أذكّرك فحذف الباء , أي: أذكّرك رافعاً نشدتي. أي: صوتي، هذا أصله , ثمّ استعمل في كلّ مطلوب مؤكّد , ولو لَم يكن هناك رفع صوت. وبهذا التّقرير. يندفع إيراد من استشكل رفع الرّجل صوته عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , مع النّهي عنه ثمّ أجاب عنه: بأنّه لَم يبلغه النّهي لكونه أعرابيّاً، أو النّهي لمن يرفعه حيث يتكلم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ظاهر الآية. وذكر أبو عليّ الفارسيّ , أنّ بعضهم رواه بضمّ الهمزة وكسر

المعجمة. وغلَّطه. قوله: (إلَّا قضيت بيننا بكتاب الله) في رواية الليث " إلَّا قضيت لي بكتاب الله " قيل: فيه استعمال الفعل بعد الاستثناء بتأويل المصدر , وإن لَم يكن فيه حرف مصدريّ لضرورة افتقار المعنى إليه، وهو من المواضع التي يقع فيها الفعل موقع الاسم ويراد به النّفي المحصور فيه المفعول، والمعنى هنا لا أسألك إلَّا القضاء بكتاب الله. ويحتمل: أن تكون إلَّا جواب القسم لِمَا فيها من معنى الحصر , وتقديره أسألك بالله لا تفعل شيئاً إلَّا القضاء، فالتّأكيد إنّما وقع لعدم التّشاغل بغيره لا لأنّ لقوله " بكتاب الله " مفهوماً. وبهذا يندفع إيراد من استشكل فقال: لَم يكن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يحكم إلَّا بكتاب الله. فما فائدة السّؤال والتّأكيد في ذلك؟. ثمّ أجاب: بأنّ ذلك من جفاة الأعراب , والمراد بكتاب الله ما حكم به وكتب على عباده. وقيل: المراد القرآن , وهو المتبادر. وقال ابن دقيق العيد: الأوّل أولى لأنّ الرّجم والتّغريب ليسا مذكورين في القرآن إلَّا بواسطة أمر الله باتّباع رسوله، قيل: وفيما قال نظر لاحتمال أن يكون المراد ما تضمّنه قوله تعالى {أو يجعل الله لهنّ سبيلاً} فبيّن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ السّبيل جلد البكر ونفيه ورجم الثّيّب. قلت: وهذا أيضاً بواسطة التّبيين، ويحتمل: أن يراد بكتاب الله الآية التي نسخت تلاوتها. وهي " الشّيخ والشّيخة إذا زنيا

فارجموهما " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في " صحيحه " (6829) حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، ألاَ وإنَّ الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف - قال سفيان: كذا حفظت - ألا وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده. قال الحافظ في " الفتح " (12/ 143): قوله " قال سفيان " هو موصول بالسند المذكور , قوله " كذا حفظت " هذه جملة معترضة بين قوله " أو الاعتراف " وبين قوله " وقد رجم " وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله - شيخ البخاري فيه - فقال بعد قوله أو الاعتراف: وقد قرأناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة , وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده " فسقط من رواية البخاري من قوله " وقرأ .. إلى قوله البتة ". ولعلَّ البخاري هو الذي حذف ذلك عمداً , فقد أخرجه النسائي (7118) عن محمد بن منصور عن سفيان. كرواية جعفر , ثم قال: لا أعلم أحداً ذكر في هذا الحديث " الشيخ والشيخة " غير سفيان , وينبغي أن يكون وهِم في ذلك. قلت (ابن حجر): وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحُفّاظ عن الزهري. فلم يذكروها. وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطإ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب , قال: لَمَّا صَدَرَ عمر من الحج , وقدم المدينة خطب الناس فقال: أيها الناس قد سُنّت لكم السنن وفُرضت لكم الفرائض , وتركتم على الواضحة , ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم , أن يقول قائل: لا نجد حدَّين في كتاب الله , فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا, والذي نفسي بيده. لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. قال مالك: الشيخ والشيخة الثيب والثيبة. ووقع في " الحلية " في ترجمة داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن عمر " لكتبتها في آخر القرآن " ووقعتْ أيضاً في هذا الحديث في رواية أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه. عند البزار , فقال متصلاً بقوله: قد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده: ولولا أن يقولوا كتب عمر ما ليس في كتاب الله لكتبته , قد قرأناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم. وأخرج هذه الجملة النسائي , وصححه الحاكم من حديث أُبي بن كعب قال: ولقد كان فيها. أي: سورة الأحزاب آية الرجم الشيخ. فذكر مثله , ومن حديث زيد بن ثابت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الشيخ والشيخة. مثله إلى قوله البتة. ومن رواية أبي أسامة بن سهل , أنَّ خالته أخبرته , قالت: لقد أقرأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الرجم. فذكره إلى قوله البتة , وزاد (بما قضيا من اللذة). وأخرج النسائي أيضاً , أنَّ مروان بن الحكم , قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا. ألا ترى أنَّ الشابّين الثيبين يرجمان , ولقد ذكرنا ذلك , فقال عمر: أنا أكفيكم , فقال: يا رسول الله أكتبني آية الرجم , قال: لا أستطيع. وروينا في " فضائل القرآن " لابن الضريس من طريق يعلى - وهو ابن حكيم - عن زيد بن أسلم , أن عمر خطب الناس فقال: لا تشكوا في الرجم , فإنه حق , ولقد هممت أن أكتبه في المصحف , فسألت أُبيَّ بنَ كعب فقال: أليس إنني وأنا أستقرئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فدفعت في صدري , وقلت: أستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر. ورجاله ثقات. وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها وهو الاختلاف. وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت , قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان في المصحف فمرَّا على هذه الآية , فقال زيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة , فقال عمر: لَمَّا نزلت. أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - , فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك , فقال عمر: ألا ترى أنَّ الشيخ إذا زنى ولَم يحصن جلد , وأنَّ الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم. فيستفاد من هذا الحديث , السبب في نسخ تلاوتها , لكون العمل على غير الظاهر من عمومها " انتهى كلامه.

وبهذا أجاب البيضاويّ , ويبقى عليه التّغريب. وقيل: المراد بكتاب الله ما فيه من النّهي عن أكل المال بالباطل , لأنّ خصمه كان أخذ منه الغنم والوليدة بغير حقّ , فلذلك قال " الغنم والوليدة ردٌّ عليك ". والذي يترجّح , أنّ المراد بكتاب الله ما يتعلق بجميع أفراد القصّة

ممّا وقع به الجواب الآتي ذكره، والعلم عند الله تعالى. قوله: (فقال الخصم الآخر: وهو أفقه منه) في رواية سفيان " فقام خصمه , وكان أفقه منه " وفي رواية مالك " فقال الآخر وهو أفقههما ". قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": يحتمل أن يكون الرّاوي كان عارفاً بهما قبل أن يتحاكما فوصف الثّاني بأنّه أفقه من الأوّل , إمّا مطلقاً , وإمّا في هذه القصّة الخاصّة. أو استدل بحسن أدبه في استئذانه وترك رفع صوته إن كان الأوّل رفعه وتأكيده السّؤال على فقهه، وقد ورد " أنّ حسن السّؤال نصف العلم " وأورده ابن السّنّيّ في كتاب " رياضة المتعلمين " حديثاً مرفوعاً بسندٍ ضعيف. قوله: (نعم , فاقض بيننا بكتاب الله) في رواية مالك " فقال: أجل " وفي رواية ابن أبي ذئب وشعيب " فقال: صدق. اقض له يا رسولَ الله بكتاب الله " قوله: (وأذن لي) زاد ابن أبي شيبة عن سفيان " حتّى أقول " وفي رواية مالك " أن أتكلم ". قوله: (فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: قل) وفي رواية مالك " قال: تكلم ". قوله: (قال) ظاهر السّياق أنّ القائل هو الثّاني. وجزم الكرمانيّ بأنّ القائل هو الأوّل. واستند في ذلك لِمَا وقع في البخاري عن آدم عن ابن أبي ذئب هنا

" فقال الأعرابيّ: إنّ ابني. بعد قوله في أوّل الحديث. جاء أعرابيّ، وفيه. فقال خصمه ". وهذه الزّيادة شاذّة , والمحفوظ ما في سائر الطّرق كما في رواية سفيان، وكذا في البخاري عن عاصم بن عليّ عن ابن أبي ذئب موافقاً للجماعة. ولفظه " فقال: صدق، اقض له يا رسولَ الله بكتاب الله، إنّ ابني إلخ .. " فالاختلاف فيه على ابن أبي ذئب. وقد وافق آدمَ أبو بكرٍ الحنفيّ. عند أبي نعيم في " المستخرج " ووافق عاصماً يزيد بن هارون. عند الإسماعيليّ. وهذا هو المعتمد، وأنّ قوله في رواية آدم " فقال الأعرابيّ " زيادة , إلَّا إن كان كلٌّ من الخصمين متّصفاً بهذا الوصف، وليس ذلك ببعيدٍ، والله أعلم. قوله: (إنّ ابني) في رواية سفيان عند البخاري " إنّ ابني هذا " فيه أنّ الابن كان حاضراً فأشار إليه، وخلا معظم الرّوايات عن هذه الإشارة. قوله: (كان عسيفاً على هذا) هذه الإشارة الثّانية لخصم المتكلم - وهو زوج المرأة - زاد شعيب في روايته " والعسيف الأجير " وهذا التّفسير مدرج في الخبر، وكأنّه من قول الزّهريّ لِمَا عُرف من عادته أنّه كان يدخل كثيراً من التّفسير في أثناء الحديث. كما بيّنته في مقدّمة كتابي في المدرج. وقد فصَلَه مالك فوقع في سياقه، " كان عسيفاً على هذا ". قال

مالك: والعسيف الأجير. وحذفها سائر الرّواة. والعسيف - بمهملتين - الأجير وزنه ومعناه , والجمع عسفاء كأجراء، ويطلق أيضاً على الخادم وعلى العبد وعلى السّائل. وقيل: يطلق على من يستهان به، وفسّره عبد الملك بن حبيب بالغلام الذي لَم يحتلم، وإن ثبت ذلك فإطلاقه على صاحب هذه القصّة باعتبار حاله في ابتداء الاستئجار. ووقع في رواية للنّسائيّ تعيين كونه أجيراً، ولفظه من طريق عمرو بن شعيب عن ابن شهاب " كان ابني أجيراً لامرأته ". وسُمّي الأجير عسيفاً لأنّ المستأجر يعسفه في العمل والعسف الجور، أو هو بمعنى الفاعل لكونه يعسف الأرض بالتّردّد فيها، يقال: عسف الليل عسفاً إذا أكثر السّير فيه، ويطلق العسف أيضاً على الكفاية، والأجير يكفي المستأجر الأمر الذي أقامه فيه. قوله: (على هذا) ضمّن على معنى عند بدليل رواية عمرو بن شعيب، وفي رواية محمّد بن يوسف عن ابن عيينة عند البخاري " عسيفاً في أهل هذا " وكأنّ الرّجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته من الأمور , فكان ذلك سبباً لِمَا وقع له معها. قوله: (فزنَى بامرأته , وإني أخبرت أنَّ على ابني الرّجم فافتديتُ) زاد الحميديّ عن سفيان " فزنى بامرأته فأخبروني أنّ على ابني الرّجم , فافتديت " وقد ذكر عليّ بن المدينيّ رواية في آخره أنّ سفيان كان يشكّ في هذه الزّيادة فربّما تركها.

وغالب الرّواة عنه كأحمد ومحمّد بن يوسف وابن أبي شيبة لَم يذكروها , وثبتت عند مالك والليث وابن أبي ذئب وشعيب وعمرو بن شعيب. ووقع في رواية آدم " فقالوا لي: على ابنك الرّجم " وفي رواية الحميديّ " فأُخبرت " بضمّ الهمزة على البناء للمجهول، وفي رواية أبي بكر الحنفيّ " فقال لي " بالإفراد، وكذا عند أبي عوانة من رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، فإن ثبتت , فالضّمير في قوله " فافتديت منه " لخصمه، وكأنّهم ظنّوا أنّ ذلك حقٌّ له يستحقّ أن يعفو عنه على مال يأخذه، وهذا ظنٌّ باطل. ووقع في رواية عمرو بن شعيب " فسألت من لا يعلم , فأخبروني أنّ على ابني الرّجم , فافتديت منه ". قوله: (بمائة شاة ووليدة) في رواية سفيان " بمائة شاة وخادم " المراد بالخادم الجارية المعدّة للخدمة , بدليل رواية مالك بلفظ " وجارية لي " وفي رواية ابن أبي ذئب وشعيب " بمائةٍ من الغنم ووليدة ". والوليدة فعيلةٌ من الولادة بمعنى مفعولة. قال الجوهريّ: هي الصّبية والأمة والجمع ولائد. وقيل: إنّها اسم لغير أمّ الولد. قوله: (فسألت أهل العلم: فأخبروني) في رواية سفيان " ثمّ سألتُ رجالاً من أهل العلم فأخبروني " لَم أقف على أسمائهم , ولا

على عددهم , ولا على اسم الخصمين , ولا الابن ولا المرأة. وفي رواية مالك وصالح بن كيسان وشعيب " ثمّ إنّي سألتُ أهل العلم فأخبروني ". ومثله لابن أبي ذئب , لكن قال " فزعموا ". وفي رواية معمر " ثمّ أخبرني أهل العلم " وفي رواية عمرو بن شعيب " ثمّ سألت من يعلم ". قوله: (أنّما على ابني) في رواية سفيان " أنّ على ابني ". قوله: (جلد مائة) بالإضافة للأكثر، وقرأه بعضهم بتنوين جلد مرفوع , وتنوين مائة منصوب على التّمييز , ولَم يثبت روايةً. قوله: (وأن على امرأة هذا الرّجم) في رواية مالك والأكثر " وإنّما الرّجم على امرأته " وفي رواية عمرو بن شعيب " فأخبروني أن ليس على ابني الرّجم ". قوله: (والذي نفسي بيده) في رواية مالك " أما والذي ". وهو قسمٌ كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يقسم به , والمعنى أنّ أمر نفوس العباد بيد الله. أي: بتقديره وتدبيره. وقد وقع في حديث رفاعة بن عرابة عند بن ماجه والطّبرانيّ " كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا حلف , قال: والذي نفسي بيده ". ولابن أبي شيبة من طريق عاصم بن شميخٍ عن أبي سعيدٍ " كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتهد في اليمين , قال: لا. والذي نفس أبي القاسم بيده ". ولابن ماجه من وجهٍ آخر في هذا الحديث " كانت يمين رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - التي يحلف بها , أشهد عند الله والذي نفسي بيده " قوله: (لأقضينّ) بتشديد النّون للتّأكيد. قوله: (بينكما بكتاب الله) في رواية عمرو بن شعيب " بالحقّ " وهي ترجّح أوّل الاحتمالات الماضي ذكرها. وهذا يوهم أنّ الخطاب لهما وليس كذلك، وإنّما هو لوالد العسيف والذي استأجره لَمَّا تحاكما بسبب زنا العسيف بامرأة الذي استأجره. قوله: (الوليدة والغنم ردٌ) في رواية سفيان " المائة شاة والخادم ردٌّ " وفي رواية الكشميهنيّ " عليك " وكذا في رواية مالك. ولفظه " أمّا غنمك وجاريتك فردٌّ عليك " أي: مردود. من إطلاق لفظ المصدر على اسم المفعول , كقولهم ثوبٌ نسجٌ , أي منسوجٌ. ووقع في رواية صالح بن كيسان " أمّا الوليدة والغنم فردّها " وفي رواية عمرو بن شعيب " أمّا ما أعطيته فردٌّ عليك " فإن كان الضّمير في أعطيته لخصمه , تأيّدت الرّواية الماضية , وإن كان للعطاء فلا. قوله: (وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) وافقه الأكثر، ووقع في رواية عمرو بن شعيب " وأمّا ابنك فنجلده مائة ونغرّبه سنة ". وفي رواية مالك وصالح بن كيسان " وجلَدَ ابنه مائة وغرّبه عاماً " وهذا ظاهر في أنّ الذي صدر حينئذٍ كان حكماً لا فتوى، بخلاف رواية سفيان ومن وافقه. قال النّوويّ: هو محمول على أنّه - صلى الله عليه وسلم - علم أنّ الابن كان بكراً وأنّه اعترف بالزّنا، ويحتمل: أن يكون أضمر اعترافه , والتّقدير وعلى

ابنك إن اعترف. والأوّل أليق. فإنّه كان في مقام الحكم، فلو كان في مقام الإفتاء لَم يكن فيه إشكال , لأنّ التّقدير إن كان زنى وهو بكرٌ، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه وسكوته عمّا نسبه إليه، وأمّا العلم بكونه بكراً فوقع صريحاً من كلام أبيه في رواية عمرو بن شعيب , ولفظه " كان ابني أجيراً لامرأة هذا , وابني لَم يحصن ". قوله: (واغد يا أنيس) بنونٍ ومهملة مصغّر قوله: (إلى امرأة هذا) زاد محمّد بن يوسف: فاسألها. قال ابن السّكن في كتاب الصّحابة: لا أدري من هو , ولا وجدت له رواية , ولا ذكراً إلَّا في هذا الحديث. وقال ابن عبد البرّ: هو ابن الضّحّاك الأسلميّ , وقيل: ابن مرثد , وقيل: ابن أبي مرثد، وزيّفوا الأخير بأنّ أنيس بن أبي مرثد , صحابيّ مشهور وهو غنويّ - بالغين المعجمة والنّون - لا أسلميّ - وهو بفتحتين - لا التّصغير. وغلط من زعم أيضاً أنّه أنس بن مالك , وصُغِّر كما صُغِّر في رواية أخرى عند مسلم , لأنّه أنصاريّ لا أسلميّ. ووقع في رواية شعيب وابن أبي ذئب " وأمّا أنت يا أنيس - لرجلٍ من أسلم - فاغد " وفي رواية مالك ويونس وصالح بن كيسان " وأمر أنيساً الأسلميّ , أن يأتي امرأة الآخر " وفي رواية معمر " ثمّ قال لرجلٍ من أسلم , يقال له أنيس: قم يا أنيس فسل امرأة هذا ".

وهذا يدلّ على أنّ المراد بالغدوّ الذّهاب والتّوجّه كما يطلق الرّواح على ذلك، وليس المراد حقيقة الغدوّ , وهو التّأخير إلى أوّل النّهار كما لا يراد بالرّواح التّوجّه نصف النّهار. وقد حكى عياض , أنّ بعضهم استدل به على جواز تأخّر إقامة الحدّ عند ضيق الوقت , واستضعفه بأنّه ليس في الخبر أنّ ذلك كان في آخر النّهار. قوله: (فإن اعترفت فارجمها) في رواية يونس " وأمر أنيساً الأسلميّ أن يرجم امرأة الآخر إذ اعترفت ". قوله: (فاعترفت , فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت) كذا وقع في رواية الليث , واختصره ابن أبي ذئب فقال " فغدا عليها فرجمها " , ونحوه في رواية صالح ابن كيسان، وفي رواية عمرو بن شعيب " وأمّا امرأة هذا فترجم ". وفي رواية سفيان " فغدا عليها فاعترفت فرجمها " كذا للأكثر , ورواية الليث أتمّها , لأنّها تشعر بأنّ أنيساً أعاد جوابها على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأمر حينئذٍ برجمها. ويحتمل: أن يكون المراد أمره الأوّل المعلق على اعترافها , فيتّحد مع رواية الأكثر , وهو أولى. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. الرّجوع إلى كتاب الله نصّاً أو استنباطاً، وجواز القسم على الأمر لتأكيده، والحلف بغير استحلاف، وحسن خلق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وحلمه

على من يخاطبه بما الأولى خلافه، وأنّ من تأسّى به من الحكّام في ذلك يحمد , كمن لا ينزعج لقول الخصم مثلاً احكم بيننا بالحقّ. وقال البيضاويّ: إنّما تواردا على سؤال الحكم بكتاب الله , مع أنّهما يعلمان أنّه لا يحكم إلَّا بحكم الله , ليحكم بينهما بالحقّ الصِّرف , لا بالمصالحة ولا الأخذ بالأرفق، لأنّ للحاكم أنْ يفعل ذلك برضا الخصمين. وفيه. أنّ حسن الأدب في مخاطبة الكبير يقتضي التّقديم في الخصومة ولو كان المذكور مسبوقاً، وأنّ للإمام أن يأذن لمن شاء من الخصمين في الدّعوى إذا جاءا معاً وأمكن أن كلاً منهما يدّعي. واستحباب استئذان المدّعي والمستفتي الحاكم والعالم في الكلام، ويتأكّد ذلك إذا ظنّ أنّ له عذراً. وفيه أنّ من أقرّ بالحدّ وجب على الإمام إقامته عليه. ولو لَم يعترف مشاركه في ذلك. وفيه. أنّ من قذف غيره لا يقام عليه الحدّ إلَّا إن طلبه المقذوف، خلافاً لابن أبي ليلى فإنّه قال: يجب ولو لَم يطلب المقذوف. قلت: وفي الاستدلال به نظر، لأنّ محلّ الخلاف إذا كان المقذوف حاضراً، وأمّا إذا كان غائباً كهذا , فالظّاهر أنّ التّأخير لاستكشاف الحال. فإن ثبت في حقّ المقذوف فلا حدّ على القاذف كما في هذه القصّة. وقد قال النّوويّ تبعاً لغيره: إنّ سبب بعث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنيساً للمرأة

ليعلمها بالقذف المذكور لتطالب بحدّ قاذفها إن أنكرت. قال: هكذا أوّله العلماء من أصحابنا وغيرهم , ولا بدّ منه , لأنّ ظاهره أنّه بعث يطلب إقامة حدّ الزّنا , وهو غير مراد , لأنّ حدّ الزّنا لا يحتاط له بالتّجسّس والتّنقيب عنه , بل يستحبّ تلقين المقرّ به ليرجع كما سيأتي في قصّة ماعز (¬1). وكأنّ لقوله " فإن اعترفت " مقابلاً , أي: وإن أنكرت فأعلمها أنّ لها طلب حدّ القذف , فحُذف لوجود الاحتمال. فلو أنكرت وطلبت لأجيبت. وقد أخرج أبو داود والنّسائيّ من طريق سعيد بن المسيّب عن ابن عبّاس , أنّ رجلاً أقرّ بأنّه زنى بامرأةٍ فجلده النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مائة. ثمّ سأل المرأة , فقالت: كذب , فجلده حدّ الفرية ثمانين. وقد سكت عليه أبو داود وصحّحه الحاكم , واستنكره النّسائيّ. وفيه. أنّ المُخدَّرة التي لا تعتاد البروز , لا تُكلَّف الحضور لمجلس الحكم , بل يجوز أن يرسل إليها من يحكم لها وعليها، وقد ترجم النّسائيّ لذلك. وفيه. أنّ السّائل يذكر كل ما وقع في القصّة , لاحتمال أن يفهم المفتي أو الحاكم من ذلك ما يستدلّ به على خصوص الحكم في المسألة , لقول السّائل " إنّ ابني كان عسيفاً على هذا "، وهو إنّما جاء يسأل عن حكم الزّنا، والسّرّ في ذلك , أنّه أراد أن يقيم لابنه معذرةً ما , ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله الكلام عليه مستوفى. انظر الحديث الآتي برقم (353).

وأنّه لَم يكن مشهوراً بالعهر , ولَم يهجم على المرأة مثلاً , ولا استكرهها، وإنّما وقع له ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التّأنيس والإدلال. فيستفاد منه. الحثّ على إبعاد الأجنبيّ من الأجنبيّة مهما أمكن، لأنّ العشرة قد تفضي إلى الفساد , ويتسوّر بها الشّيطان إلى الإفساد. وفيه. جواز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، والرّدّ على من منع التّابعيّ أن يفتي مع وجود الصّحابيّ مثلاً. وفيه. جواز الاكتفاء في الحكم بالأمر النّاشئ عن الظّنّ مع القدرة على اليقين، لكن إذا اختلفوا على المستفتي يرجع إلى ما يفيد القطع , وإن كان في ذلك العصر الشّريف من يفتي بالظّنّ الذي لَم ينشأ عن أصل. ويحتمل: أن يكون وقع ذلك من المنافقين , أو من قرب عهده بالجاهليّة فأقدم على ذلك. وفيه. أنّ الصّحابة كانوا يفتون في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وفي بلده، وقد عقد محمّد بن سعد في " الطّبقات " باباً لذلك. وأخرج بأسانيد فيها الواقديّ , أنّ منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً وعبد الرّحمن بن عوف وأبيَّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت. وفيه. أنّ الحكم المبنيّ على الظّنّ ينقض بما يفيد القطع. وفيه أنّ الحدّ لا يقبل الفداء، وهو مجمع عليه في الزّنا والسّرقة والحرابة وشرب المسكر.

واختلف في القذف. والصّحيح , أنّه كغيره , وإنّما يجري الفداء في البدن كالقصاص في النّفس والأطراف. وفيه. أنّ الصّلح المبنيّ على غير الشّرع يردّ , ويعاد المال المأخوذ فيه. قال ابن دقيق العيد: وبذلك يتبيّن ضعف عذر من اعتذر من الفقهاء عن بعض العقود الفاسدة بأنّ المتعاوضين تراضيا وأذن كلّ منهما للآخر في التّصرّف، والحقّ أنّ الإذن في التّصرّف مقيّد بالعقود الصّحيحة. وفيه جواز الاستنابة في إقامة الحدّ. واستدل به على وجوب الإعذار والاكتفاء فيه بواحدٍ. وأجاب عياض: باحتمال أن يكون ذلك ثبت عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بشهادة هذين الرّجلين. كذا قال , والذي تقبل شهادته من الثّلاثة , والد العسيف فقط , وأمّا العسيف والزّوج فلا. وغفل بعض من تبع القاضي فقال: لا بدّ من هذا الحمل , وإلا لزم الاكتفاء بشهادة واحد في الإقرار بالزّنا. ولا قائل به. ويمكن الانفصال عن هذا: بأنّ أنيساً بُعث حاكماً , فاستوفى شروط الحكم , ثمّ استأذن في رجمها فأذن له في رجمها. وكيف يتصوّر من الصّورة المذكورة إقامة الشّهادة عليها من غير تقدّم دعوى عليها , ولا على وكيلها مع حضورها في البلد غير متوارية؟ إلَّا أن يقال إنّها شهادة حسبة.

ويجاب: بأنّه لَم يقع هناك صيغة الشّهادة المشروطة في ذلك. قال محمّد بن الحسن: لا يجوز للقاضي أن يقول: أقرّ عندي فلان بكذا لشيءٍ يقضي به عليه من قتل أو مال أو عتق أو طلاق، حتّى يشهد معه على ذلك غيره , وادّعى أنّ مثل هذا الحكم الذي في حديث الباب خاصّ بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: وينبغي أن يكون في مجلس القاضي أبداً عدلان يسمعان من يقرّ , ويشهدان على ذلك , فينفذ الحكم بشهادتهما " نقله ابن بطّال. وقال المُهلَّب: فيه حجّة لمالكٍ في جواز إنفاذ الحاكم رجلاً واحداً في الأعذار، وفي أن يتّخذ واحداً يثق به يكشف عن حال الشّهود في السّرّ، كما يجوز قبول الفرد فيما طريقه الخبر لا الشّهادة. قال: وقد استدل به قوم في جواز تنفيذ الحكم دون إعذار إلى المحكوم عليه. قال: وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنّ الإعذار يشترط فيما كان الحكم فيه بالبيّنة، لا ما كان بالإقرار كما في هذه القصّة، لقوله " فإن اعترفت ". واستُدل به على جواز الحكم بإقرار الجاني من غير ضبط بشهادةٍ عليه، ولكنّها واقعة عينٍ فيحتمل أن يكون أنيس أشهد قبل رجمها. قال عياض: احتجّ قوم بجواز حكم الحاكم في الحدود وغيرها , بما أقرّ به الخصم عنده , وهو أحد قولي الشّافعيّ , وبه قال أبو ثور، وأبى ذلك الجمهور، والخلاف في غير الحدود أقوى. قال: وقصّة أنيس يطرقها احتمال معنى الإعذار كما مضى، وأنّ

قوله " فارجمها " أي بعد إعلامي، أو أنّه فوّض الأمر إليه، فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك بقولهم تحكم، وقد دلَّ قوله " فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حكم فيها , بعد أن أعلمه أنيس باعترافها. كذا قال، والذي يظهر , أنّ أنيساً لَمَّا اعترفت , أعلم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في الاستثبات، مع كونه كان علق له رجمها على اعترافها. واستدل به على أنّ حضور الإمام الرّجم ليس شرطاً. وفيه نظر لاحتمال أنّ أنيساً كان حاكماً , وقد حضر بل باشر الرّجم لظاهر قوله " فرَجَمَها ". وفيه الجمع بين الجلد والتّغريب، وللبخاري من طريق عروة , أنَّ عمر غرّب , ثم لَم تزل تلك السنة. زاد عبد الرّزّاق في روايته عن مالك " حتّى غرّب مروان , ثمّ ترك النّاس ذلك , يعني أهل المدينة ". وهو منقطع , لأنّ عروة لَم يسمع من عمر. لكنّه ثبت عن عمر من وجه آخر , أخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه ابن خزيمة والحاكم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ضرب وغرّب، وأنّ أبا بكر ضرب وغرّب، وأنّ عمر ضرب وغرّب " أخرجوه من رواية عبد الله بن إدريس عنه. وذكر التّرمذيّ: أنّ أكثر أصحاب عبيد الله بن عمر رووه عنه موقوفاً على أبي بكر وعمر.

ونقل محمّد بن نصر في " كتاب الإجماع ": الاتّفاقَ على نفي الزّاني إلَّا عن الكوفيّين. ووافق الجمهورَ منهم ابن أبي ليلى وأبو يوسف. وادّعى الطّحاويّ أنّه منسوخ، كما سأذكره. واختلف القائلون بالتّغريب. فقال الشّافعيّ والثّوريّ وداود والطّبريّ: بالتّعميم. وفي قول للشّافعيّ: لا ينفى الرّقيق. وخصّ الأوزاعيّ النّفي بالذّكوريّة، وبه قال مالك. وقيّده بالحرّيّة، وبه قال إسحاق. وعن أحمد روايتان. واحتجّ من شرط الحرّيّة: بأنّ في نفي العبد عقوبة لمالكه لمنعه منفعته مدّة نفيه، وتصرّف الشّرع , يقتضي أن لا يعاقب إلَّا الجاني، ومن ثَمّ سقط فرض الحجّ والجهاد عن العبد. وقال ابن المنذر: أقسم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قصّة العسيف أنّه يقضي فيه بكتاب الله , ثمّ قال: إنّ عليه جلد مائة وتغريب عام " وهو المبيّن لكتاب الله. وخطب عمر بذلك على رءوس النّاس، وعمل به الخلفاء الرّاشدون فلم ينكره أحد فكان إجماعاً. واختلف في المسافة التي ينفى إليها: فقيل: هو إلى رأي الإمام، وقيل: يشترط مسافة القصر. وقيل: إلى ثلاثة أيّام، وقيل: إلى يومين، وقيل: يوم وليلة. وقيل: من عمل إلى عمل، وقيل: إلى ميل. وقيل: إلى ما ينطلق عليه اسم نفي.

وشرط المالكيّة الحبسَ في المكان الذي ينفى إليه، وسيأتي البحث فيه. في الحديث الذي بعده. ومن عجيب الاستدلال , احتجاج الطّحاويّ لسقوط النّفي أصلاً , بأنّ نفي الأمة ساقط بقوله " بيعوها " كما سيأتي تقريره (¬1). قال: وإذا سقط عن الأمة سقط عن الحرّة لأنّها في معناها، ويتأكّد بحديث " لا تسافر المرأة إلَّا مع ذي محرم ". (¬2) قال: وإذا انتفى أن يكون على النّساء نفي , انتفى أن يكون على الرّجال. كذا قال. وهو مبنيّ على أنّ العموم إذا سقط خصّ الاستدلال به، وهو مذهب ضعيف جدّاً. أمّا الجلد فثابت بكتاب الله، لقوله {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة .. الآية} وقام الإجماع ممّن يعتدّ به على اختصاصه بالبكر وهو غير المحصن. (¬3) واختلفوا في كيفيّة الجلد. القول الأول: عن مالك. يختصّ بالظّهر لقوله في حديث اللعان " البيّنة وإلا جلدٌ في ظهرك ". القول الثاني: قال غيره: يفرّق على الأعضاء , ويتّقى الوجه ¬

_ (¬1) في شرح حديث أبي هريرة الآتي. (¬2) أخرجه البخاري (1862) ومسلم (1341) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬3) سيأتي إن شاء الله تعريف المحصن في حديث قصة ماعز برقم (353).

والرّأس، ويجلد في الزّنا والشّرب والتّعزير قائماً مجرّداً، والمرأة قاعدةً، وفي القذف وعليه ثيابه. القول الثالث: قال أحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يُجرَّد أحدٌ في الحدّ. وليس في الآية للنّفي ذِكْر , فتمسّك به الحنفيّة , فقالوا: لا يزاد على القرآن بخبر الواحد. والجواب: أنّه مشهور لكثرة طرقه ومن عمل به من الصّحابة، وقد عملوا بمثله بل بدونه , كنقض الوضوء بالقهقهة , وجواز الوضوء بالنّبيذ , وغير ذلك ممّا ليس في القرآن. وقد أخرج مسلم من حديث عبادة بن الصّامت مرفوعاً " خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثّيّب بالثّيّب جلد مائة والرّجم ". وأخرج الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس قال: كنّ يُحبسن في البيوت إن ماتت ماتت , وإن عاشت عاشت: لَمَّا نزل {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم , فإن شهدوا فأمسكوهنّ في البيوت حتّى يتوفّاهنّ الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً} حتّى نزلت {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة}. وفيه الاكتفاء بالاعتراف بالمرّة الواحدة , لأنّه لَم ينقل أنّ المرأة تكرّر اعترافها. وفيه الاكتفاء بالرّجم من غير جلد , لأنّه لَم ينقل في قصّتها أيضاً.

وفيه نظرٌ , لأنّ الفعل لا عموم له فالتّرك أولى (¬1). وفيه جواز استئجار الحرّ. وجواز إجارة الأب ولده الصّغير لمن يستخدمه إذا احتاج لذلك. واستدل به على صحّة دعوى الأب لمحجوره , ولو كان بالغاً , لكون الولد كان حاضراً ولَم يتكلم إلَّا أبوه. وتعقّب: باحتمال أن يكون وكيله , أو لأنّ التّداعي لَم يقع إلَّا بسبب المال الذي وقع به الفداء , فكأنّ والد العسيف ادّعى على زوج المرأة بما أخذه منه , إمّا لنفسه , وإمّا لامرأته بسبب ذلك حين أعلمه أهل العلم , بأنّ ذلك الصّلح فاسد ليستعيده منه , سواء كان من ماله أو من مال ولده، فأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بردّ ذلك إليه، وأمّا ما وقع في القصّة من الحدّ , فباعتراف العسيف ثمّ المرأة. وفيه أنّ حال الزّانيين إذا اختلفا , أقيم على كلّ واحد حدّه , لأنّ العسيف جلد والمرأة رجمت، فكذا لو كان أحدهما حرّاً والآخر رقيقاً، وكذا لو زنى بالغ بصبيّةٍ , أو عاقل بمجنونةٍ حدّ البالغ والعاقل دونهما، وكذا عكسه. وفيه. أنّ من قذف ولده لا يحدّ له , لأنّ الرّجل قال: إنّ ابني زنى " ولَم يثبت عليه حدّ القذف. تكميل: أخرج البخاري عن يحيى بن بكيرٍ حدّثنا الليث عن عقيلٍ ¬

_ (¬1) مسألة الاكتفاء بالاعتراف مرة , وكذا الاكتفاء بالرجم دون الجلد. سيأتي إن شاء الله البحث فيهما مستوفى في قصة ماعز - رضي الله عنه - برقم (353).

عن ابن شهابٍ عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيمن زنى , ولَم يحصن بنفي عامٍ، بإقامة الحدّ عليه. وقع في رواية النّسائيّ " أن يُنفى عاماً مع إقامة الحدّ عليه " وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق حجّاج بن محمّد عن الليث. وعُرف أنّ الباء في رواية يحيى بن بكير بمعنى مع. والمراد بإقامة الحدّ , ما ذكر في رواية عبد العزيز جلد المائة , وأطلق عليها الجلد لكونها بنصّ القرآن. وقد تمسّك بهذه الرّواية , من زعم أنّ النّفي تعزير , وأنّه ليس جزءاً من الحدّ. وأجيب: بأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً، وقد وقع التّصريح في قصّة العسيف من لفظ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّ عليه جلد مائة وتغريب عام. وهو ظاهر في كون الكلّ حدّه، ولَم يختلف على راويه في لفظه , فهو أرجح من حكاية الصّحابيّ مع الاختلاف. وممّا يؤيّد كون الحديثين واحداً مع أنّه اختلف على ابن شهاب في تابعيّه وصحابيّه , أنّ الزّيادة التي عن عمر , عند عبد العزيز (¬1) في ¬

_ (¬1) أي: عبد العزيز بن عبد الله الماجشون. وروايته عند البخاري (6443) من طريقه أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن زيد بن خالد الجهني، قال: سمعت , النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر فيمن زنى ولم يحصن: جلد مائة وتغريب عام. قال ابن شهاب: وأخبرني عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب، غرَّب، ثم لم تزل تلك السنة. وقد تقدَّم إعلال الشارح لها بالانقطاع بين عروة وعمر.

حديث زيد بن خالد , وقعت عند عُقيل في حديث أبي هريرة، ففي آخر رواية حجّاج بن محمّد التي أشرت إليها عند الإسماعيليّ. " قال ابن شهاب: وكان عمر ينفي من المدينة إلى البصرة وإلى خيبر ". وفيه إشارة إلى بعد المسافة , وقربها في النّفي بحسب ما يراه الإمام , وأنّ ذلك لا يتقيّد. والذي تحرّر لي من هذا الاختلاف أنّ في حديثي الباب اختصاراً من قصّة العسيف , وأنّ أصل الحديث كان عند عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد جميعاً , فكان يحدّث به عنهما بتمامه , وربّما حدّث عنه عن زيد بن خالد باختصارٍ، وكان عند سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة وحده باختصارٍ. والله أعلم. وفي الحديث جواز الجمع بين الحدّ والتّعزير خلافاً للحنفيّة , إن أُخِذ بظاهر قوله " مع إقامة الحدّ " , وجواز الجمع بين الجلد والنّفي في حقّ الزّاني الذي لَم يحصن , خلافاً لهم أيضاً , إن قلنا إنّ الجميع حدٌّ. واحتجّ بعضهم: بأنّ حديث عبادة الذي فيه النّفي منسوخ بآية النّور , لأنّ فيها الجلد بغير نفي. وتعقّب: بأنّه يحتاج إلى ثبوت التّاريخ، وبأنّ العكس أقرب , فإنّ آية الجلد مطلقة في حقّ كلّ زانٍ , فخصّ منها في حديث عبادة الثّيّب، ولا يلزم من خلوّ آية النّور عن النّفي عدم مشروعيّته , كما لَم يلزم من خلوّها من الرّجم ذلك.

ومن الحجج القويّة: أنّ قصّة العسيف كانت بعد آية النّور , لأنّه كانت في قصّة الإفك , وهي متقدّمة على قصّة العسيف , لأنّ أبا هريرة حضرها , وإنّما هاجر بعد قصّة الإفك بزمانٍ. تكميل آخر: قال البخاري (باب إذا رمى امرأتَه أو امرأةَ غيرِه بالزّنا عند الحاكم والنّاس , هل على الحاكم أن يبعثَ إليها فيسألها عمّا رُميت به). ذكر قصّة العسيف، والحكم المذكور ظاهر فيمن قذف امرأة غيره. وأمّا من قذف امرأته , فكأنّه أخذه من كون زوج المرأة كان حاضراً ولَم ينكر ذلك. وأشار بقوله " هل على الإمام " إلى الخلاف في ذلك، والجمهور على أنّ ذلك بحسب ما يراه الإمام. قال النّوويّ: الأصحّ عندنا وجوبه , والحجّة فيه بعث أنيس إلى المرأة. وتعقّب: بأنّه فعلٌ وقع في واقعة حال لا دلالة فيه على الوجوب , لاحتمال أن يكون سبب البعث ما وقع بين زوجها وبين والد العسيف من الخصام والمصالحة على الحدّ واشتهار القصّة , حتّى صرّح والد العسيف بما صرّح به ولَم ينكر عليه زوجها، فالإرسال إلى هذه , يختصّ بمن كان على مثل حالها من التّهمة القويّة بالفجور، وإنّما علَّق على اعترافها , لأنّ حدّ الزّنا لا يثبت في مثلها إلَّا بالإقرار لتعذّر إقامة البيّنة على ذلك.

وقد تقدّم ذكر ما قيل من الحكمة في إرسال أنيس إلى المرأة المذكورة. وفي الموطّأ " أنّ عمر أتاه رجلٌ , فأخبره أنّه وجد مع امرأته رجلاً , فبعث إليها أبا واقد فسألها عمّا قال زوجها , وأعلمها أنّه لا يؤخذ بقوله فاعترفت، فأمر بها عمر فرُجمت. قال ابن بطّال: أجمع العلماء على أنّ من قذف امرأته أو امرأة غيره بالزّنا , فلم يأت على ذلك ببيّنةٍ أنّ عليه الحدّ، إلَّا إن أقرّ المقذوف، فلهذا يجب على الإمام أن يبعث إلى المرأة يسألها عن ذلك، ولو لَم تعترف المرأة في قصّة العسيف , لوجب على والد العسيف حدّ القذف. وممّا يتفرّع عن ذلك , لو اعترف رجل بأنّه زنى بامرأةٍ معيّنة فأنكرت. هل يجب عليه حدّ الزّنا وحدّ القذف , أو حدّ القذف فقط؟. قال بالأوّل. مالك , وبالثّاني. أبو حنيفة. وقال الشّافعيّ وصاحبا أبي حنيفة: من أقرّ منهما فإنّما عليه حدّ الزّنا فقط، والحجّة فيه أنّه إن كان صدق في نفس الأمر فلا حدّ عليه لقذفها، وإن كان كذب. فليس بزانٍ وإنّما يجب عليه حدّ الزّنا , لأنّ كلّ من أقرّ على نفسه وعلى غيره , لزمه ما أقرّ به على نفسه , وهو مدّعٍ فيما أقرّ به على غيره , فيؤاخذ بإقراره على نفسه دون غيره.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 352 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعودٍ، عن أبي هريرة، وزيد بن خالدٍ الجهنيّ - رضي الله عنهم - قالا: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنت ولَم تحصن؟ قال: إنْ زنت فاجلدوها، ثم إنْ زنت فاجلدوها، ثم إنْ زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفيرٍ. قال ابن شهابٍ: ولا أدري؟ أبعد الثالثة أو الرابعة. (¬1) قال المصنِّف: الضفير: الحبل. قوله: (عن أبي هريرة وزيد بن خالد) سبق التّنبيه في شرح قصّة العسيف , على أنّ الزّبيديّ ويونس زادا في روايتهما لهذا الحديث عن الزّهريّ , شبل بن خليد (¬2) أو ابن حامد. وتقدّم بيانه مفصّلاً. قوله: (سُئل عن الأمة) في رواية حميد بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة عند النسائي " أتى رجلٌ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّ جاريتي زنت فتبيّن زناها، قال: اجلدها " ولَم أقف على اسم هذا الرّجل. قوله: (إذا زنت ولَم تحصن) قال تعالى {ومن لَم يستطع منكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2046 , 2118 , 2417 , 6447) ومسلم (1704) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد. (¬2) وقع في المطبوع من الفتح " خليل " وهو خطأٌ , والصواب ما أثبتّه كما في مصادر التخريج والتراجم التي اطّلعت عليها. وقيل: ابن حامد كما حكاه الشارح , لكن قال البخاري وابن حبّان: هو وهمٌ.

طولاً .. إلى قوله. فإذا أُحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}. قال الواحدي: قرئ المحصنات في القرآن بكسر الصاد وفتحها , إلَّا في قوله تعالى {والمحصنات من النساء إلَّا ما ملكت أيمانكم} فبالفتح جزماً , وقرئ {فإذا أحصن} بالضّمّ وبالفتح، فبالضّمّ معناه التّزويج. وبالفتح معناه الإسلام. وقال غيره: اختلف في إحصان الأمة. فقال الأكثر: إحصانها التّزويج، وقيل: العتق. وعن ابن عبّاس وطائفة , إحصانها التّزويج. ونصره أبو عبيد وإسماعيل القاضي , واحتجّ له. بأنّه تقدّم في الآية قوله تعالى {من فتياتكم المؤمنات} فيبعد أن يقول بعده فإذا أسلمن. قال: فإن كان المراد التّزويج , كان مفهومه أنّها قبل أن تتزوّج لا يجب عليها الحدّ إذا زنت. وقد أخذ به ابن عبّاس , فقال: لا حدّ على الأمة إذا زنت قبل أن تتزوّج، وبه قال جماعة من التّابعين، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو وجه للشّافعيّة. واحتجّ بما أخرجه الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس: ليس على الأمة حدٌّ حتّى تحصن. وسنده حسن , لكن اختلف في رفعه ووقفه , والأرجح وقفه , وبذلك جزم ابن خزيمة وغيره. وادّعى ابن شاهين في " النّاسخ والمنسوخ " أنّه منسوخ بحديث

الباب. وتعقّب: بأنّ النّسخ يحتاج إلى التّاريخ وهو لَم يُعلم، وقد عارضه حديث عليّ " أقيموا الحدود على أرقّائكم , من أُحصن منهم ومن لَم يُحصن ". واختلف أيضاً في رفعه ووقفه، والرّاجح أنّه موقوف، لكنّ سياقه في مُسلم يدلّ على رفعه , فالتّمسّك به أقوى. وإذا حمل الإحصان في الحديث على التّزويج , وفي الآية على الإسلام , حصل الجمع، وقد بيّنت السّنّة أنّها إذا زنت قبل الإحصان تجلد. وقال غيره: التّقييد بالإحصان يفيد أنّ الحكم في حقّها الجلد لا الرّجم، فأخذ حكم زناها بعد الإحصان من الكتاب وحكم زناها قبل الإحصان من السّنّة، والحكمة فيه أنّ الرّجم لا يتنصّف فاستمرّ حكم الجلد في حقّها. قال البيهقيّ: ويحتمل أن يكون نصّ على الجلد في أكمل حاليها , ليستدل به على سقوط الرّجم عنها لا على إرادة إسقاط الجلد عنها إذا لَم تتزوّج، وقد بيّنت السّنّة أنّ عليها الجلد وإن لَم تحصن. قال ابن بطّال: زعم مَن قال لا جلد عليها قبل التّزويج , بأنّه لَم يقل في هذا الحديث " ولَم تحصن " غير مالكٍ، وليس كما زعموا , فقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاريّ عن ابن شهاب كما قال مالك، وكذا رواه طائفة عن ابن عيينة عنه.

قلت: رواية يحيى بن سعيد. أخرجها النّسائيّ , ورواية ابن عيينة. أخرجها البخاري ليس فيها " ولَم تحصن " وزادها النّسائيّ في روايته عن الحارث بن مسكين عن ابن عيينة بلفظ " سئل عن الأمة تزني قبل أن تحصن " , وكذا عند ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمّد بن الصّبّاح كلاهما عن ابن عيينة. وقد رواه عن ابن شهاب أيضاً صالح بن كيسان كما قال مالك. عند البخاري , وكذا أخرجهما مسلم والنّسائيّ. ووقع في رواية سعيد المقبريّ عن أبيه عن أبي هريرة , في الصحيحين بدونها (¬1). وعلى تقدير أنّ مالكاً تفرّد بها , فهو من الحفّاظ وزيادته مقبولة، وقد سبق الجواب عن مفهومها. قوله: (قال: إنْ زنت) قيل: أعاد الزّنا في الجواب غير مقيّد بالإحصان , للتّنبيه على أنّه لا أثر له , وأنّ موجب الحدّ في الأمة مطلق الزّنا. زاد في رواية المقبري: إذا زنت الأمة فتبيَّن زناها فليجلدها ولا يثرِّب. أي: ظهر. وشرَطَ بعضهم أن يظهر بالبينة مراعاة للفظ تبيَّن. وقيل: يُكتفى في ذلك بعلم السيد. وقوله. لا يثرب. التثريب بمثناة ثم مثلثة ثم موحدة فهو التعنيف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2152) ومواضع أخرى , ومسلم (1703) عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه سمعه يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا زنت الأمةُ فتبيَّن زناها فليجلدها ولا يثرِّب، ثم إنْ زنت فليجلدها، ولا يثرِّب، ثم إن زنت الثالثة. فليبعها ولو بحبل من شعر ". وقد ذكر الحافظ بعض رواياته في الشرح هنا.

وزنه ومعناه , وقد جاء بلفظ " ولا يعنفها " في رواية عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عند النسائي. والمعنى لا يجمع عليها العقوبة بالجلد وبالتعيير , وقيل: المراد لا يقتنع بالتوبيخ دون الجلد. وفي رواية سعيد عن أبي هريرة عند عبد الرزاق " ولا يعيّرها ولا يفندها ". قال ابن بطال: يُؤخذ منه أنَّ كل من أُقيم عليه الحد لا يُعزَّر بالتعنيف واللوم , وإنما يليق ذلك بمن صدر منه قبل أن يرفع إلى الإمام للتحذير والتخويف. فإذا رفع وأُقيم عليه الحد كفاه. قلت: وقد تقدم في البخاري: نَهيُه - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّ الذي أقيم عليه حد الخمر , وقال: لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم. قوله: (فاجلدوها) الحدّ اللائق بها المبيّن في الآية {فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشةٍ فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب} وهو نصف ما على الحرّة، وقد وقع في رواية المقبري عن أبي هريرة " فليجلدها الحدّ ". والخطاب في " اجلدوها " لمن يملك الأمة، فاستدل به على أنّ السّيّد يقيم الحدّ على من يملكه من جارية وعبد، أمّا الجارية فبالنّصّ , وأمّا العبد فبالإلحاق. وقد اختلف السّلف فيمن يقيم الحدود على الأرقّاء: القول الأول: قالت طائفة: لا يقيمها إلَّا الإمام , أو من يأذن له , وهو قول الحنفيّة

القول الثاني: عن الأوزاعيّ والثّوريّ. لا يقيم السيّد إلَّا حدّ الزّنا. واحتجّ الطّحاويّ. بما أورده من طريق مسلم بن يسار قال: كان أبو عبد الله رجلٌ من الصّحابة يقول: الزّكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السّلطان. قال الطّحاويّ: لا نعلم له مخالفاً من الصّحابة. وتعقّبه ابن حزم فقال: بل خالفه اثنا عشر نفساً من الصّحابة. القول الثالث: قال آخرون: يقيمها السّيّد , ولو لَم يأذن له الإمام , وهو قول الشّافعيّ. القول الرابع: أخرج عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن ابن عمر , في الأمة إذا زنت ولا زوج لها يحدّها سيّدها، فإن كانت ذات زوج , فأمرُها إلى الإمام. وبه قال مالك. إلَّا إن كان زوجها عبداً لسيّدها , فأمرها إلى السّيّد. واستثنى مالك القطع في السّرقة، وهو وجه للشّافعيّة. وفي آخر: يستثنى حدّ الشّرب. واحتجّ للمالكيّة: بأنّ في القطع مثلةً , فلا يؤمن السّيّد أن يريد أن يمثّل بعبده , فيخشى أن يتّصل الأمر بمن يعتقد أنّه يعتق بذلك , فيدّعي عليه السّرقة لئلا يعتق , فيمنع من مباشرته القطع سدّاً للذّريعة. وأخذ بعض المالكيّة من هذا التّعليل , اختصاصَ ذلك بما إذا كان مستندُ السّرقة علمَ السّيّد أو الإقرار، بخلاف ما لو ثبتت بالبيّنة فإنّه

يجوز للسّيّد لفقد العلة المذكورة. وحجّة الجمهور. حديث عليّ المشار إليه قبل , وهو عند مسلم والثّلاثة. وعند الشّافعيّة خلاف في اشتراط أهليّة السّيّد لذلك. وتمسّك من لَم يشترط , بأنّ سبيله سبيل الاستصلاح فلا يفتقر للأهليّة. وقال ابن حزم: يقيمه السّيّد إلَّا إن كان كافراً، واحتجّ بأنّهم لا يقرّون إلَّا بالصّغار وفي تسليطه على إقامة الحدّ منافاةٌ لذلك. وقال ابن العربيّ: في قول مالك إن كانت الأمة ذات زوج لَم يحدّها الإمام من أجل أنّ للزّوج تعلقاً بالفرج في حفظه عن النّسب الباطل والماء الفاسد، لكنّ حديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يتّبع، يعني: حديث عليّ المذكور الدّالّ على التّعميم في ذات الزّوج وغيرها. وقد وقع في بعض طرقه " من أحصن منهم ومن لَم يحصن ". قوله: (ثمّ بيعوها ولو بضفيرٍ) بفتح الضّاد المعجمة غير المشالة ثمّ فاء , أي: المضفور فعيل بمعنى مفعول. وأصل الضّفر نسج الشّعر وإدخال بعضه في بعض , ومنه ضفائر شعر الرّأس للمرأة وللرّجل. قيل: لا يكون مضفوراً إلَّا إن كان من ثلاث. وقيل: شرطه أن يكون عريضاً. وفيه نظر. زاد يونس وابن أخي الزّهريّ والزّبيديّ ويحيى بن سعيد كلّهم عن

ابن شهاب عند النّسائيّ " والضّفير الحبل " وهكذا أخرجه عن قتيبة عن مالك. وزادها عمّار بن أبي فروة عن محمّد بن مسلم - وهو ابن شهاب الزّهريّ - عند النّسائيّ وابن ماجه، لكن خالف في الإسناد فقال: إنّ محمّد بن مسلم حدّثه , أنّ عروة وعمرة حدّثاه , أنّ عائشة حدّثته أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا زنت الأمة فاجلدوها. وقال في آخره: ولو بضفيرٍ. والضّفير الحبل. وقوله " والضّفير الحبل " مُدرج في هذا الحديث من قول الزّهريّ , على ما بيّن في رواية القعنبيّ عن مالك , عند مسلم وأبي داود. فقال في آخره , قال ابن شهاب: والضّفير الحبل. وكذلك ذكره الدّارقطنيّ في " الموطّآت " منسوباً لجميع من روى الموطّأ إلَّا ابن مهديّ , فإنّ ظاهر سياقه أنّه أدرجه أيضاً. ومنهم: من لَم يذكر قوله " والضّفير الحبل " كما في رواية الباب. ووقع في رواية المقبريّ " ولو بحبلٍ من شعر " قوله: (قال ابن شهاب) هو موصول بالسّند المذكور. قوله: (لا أدري بعد الثّالثة أو الرّابعة) لَم يختلف في رواية مالك في هذا، وكذا في رواية صالح بن كيسان وابن عيينة، وكذا في رواية يونس والزّبيديّ عن الزّهريّ عند النّسائيّ، وكذا في رواية معمر عند مسلم. وأدرجه في رواية يحيى بن سعيد عند النّسائيّ , ولفظه " ثمّ إن زنت

فاجلدوها , ثمّ بيعوها ولو بضفيرٍ بعد الثّالثة أو الرّابعة " ولَم يقل , قال ابن شهاب , وعن قتيبة عن مالك كذلك. وأُدرج أيضاً في رواية محمّد بن أبي فروة عن الزّهريّ في حديث عائشة. عند النّسائيّ. والصّواب التّفصيل. وأمّا الشّكّ في الثّالثة أو في الرّابعة. فوقع في حديث أبي صالح عن أبي هريرة عند التّرمذيّ " فليجلدها ثلاثاً , فإن عادت فليبعها " ونحوه في مرسل عكرمة عند أبي قرّة بلفظ " وإذا زنت الرّابعة فبيعوها " , ووقع في رواية سعيد المقبريّ عن أبي هريرة عند البخاري " ثمّ إن زنت الثّالثة فليبعها ". ومحصّل الاختلاف. هل يجلدها في الرّابعة قبل البيع , أو يبيعها بلا جلدٍ؟. والرّاجح الأوّل , ويكون سكوت من سكت عنه للعلم بأنّ الجلد لا يترك ولا يقوم البيع مقامه. ويمكن الجمع: بأنّ البيع يقع بعد المرّة الثّالثة في الجلد , لأنّه المحقّق فيلغى الشّكّ، والاعتماد على الثّلاث في كثير من الأمور المشروعة. وفي الحديث أنّ الزّنا عيبٌ يردّ به الرّقيق للأمر بالحطّ من قيمة المرقوق إذا وجد منه الزّنا، كذا جزم به النّوويّ تبعاً لغيره. وتوقّف فيه ابن دقيق العيد لجواز أن يكون المقصود الأمر بالبيع , ولو انحطّت القيمة , فيكون ذلك متعلقاً بأمرٍ وجوديّ لا إخباراً عن

حكم شرعيّ , إذ ليس في الخبر تصريح بالأمر من حطّ القيمة. وروى سعيد بن منصور من طريق ابن سيرين , أنّ رجلاً اشترى من رجلٍ جاريةً كانت فَجَرتْ , ولَم يعلم بذلك المشتري، فخاصمه إلى شُرْيح , فقال: إن شاء ردّ من الزّنا. وإسناده صحيح. وفيه أنّ من زنى فأقيم عليه الحدّ ثمّ عاد أعيد عليه، بخلاف من زنى مراراً فإنّه يكتفى فيه بإقامة الحدّ عليه مرّة واحدة على الرّاجح. وفيه الزّجر عن مخالطة الفسّاق ومعاشرتهم , ولو كانوا من الألزام إذا تكرّر زجرهم ولَم يرتدعوا , ويقع الزّجر بإقامة الحدّ فيما شرع فيه الحدّ وبالتّعزير فيما لا حدّ فيه. وفيه. جواز عطف الأمر المقتضي للنّدب على الأمر المقتضي للوجوب , لأنّ الأمر بالجلد واجب , والأمر بالبيع مندوب عند الجمهور خلافاً لأبي ثور وأهل الظّاهر. وادّعى بعض الشّافعيّة , أنّ سبب صرف الأمر عن الوجوب أنّه منسوخ، وممّن حكاه ابن الرّفعة في المطلب. ويحتاج إلى ثبوت. وقال ابن بطّال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحضّ على مساعدة من تكرّر منه الزّنا , لئلا يظنّ بالسّيّد الرّضا بذلك , ولِمَا في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزّنا. قال: وحمله بعضهم على الوجوب , ولا سلف له من الأمّة فلا يستقل به، وقد ثبت النّهي عن إضاعة المال , فكيف يجب بيع الأمة ذات القيمة بحبلٍ من شعر لا قيمة له؟ فدلَّ على أنّ المراد الزّجر عن

معاشرة من تكرّر منه ذلك. وتعقّب: بأنّه لا دلالة فيه على بيع الثّمين بالحقير , وإن كان بعضهم قد استدل به على جواز بيع المطلق التّصرّف ماله بدون قيمته , ولو كان بما يتغابن بمثله إلَّا أنّ قوله " ولو بحبلٍ من شعر " لا يراد به ظاهره , وإنّما ذُكِر للمبالغة كما وقع في حديث " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة " على أحد الأجوبة، لأنّ قدر المفحص لا يسع أن يكون مسجداً حقيقة، فلو وقع ذلك في عين مملوكة لمحجورٍ فلا يبيعها وليّه إلَّا بالقيمة. ويحتمل: أن يطّرد , لأنّ عيب الزّنا تنقص به القيمة عند كلّ أحد , فيكون بيعها بالنّقصان بيعاً بثمن المثل , نبّه عليه القاضي عياض ومن تبعه. وقال ابن العربيّ: المراد من الحديث الإسراع بالبيع وإمضاؤه ولا يتربّص به طلب الرّاغب في الزّيادة، وليس المراد بيعه بقيمة الحبل حقيقة. وفيه أنّه يجب على البائع أن يعلم المشتري بعيب السّلعة , لأنّ قيمتها إنّما تنقص مع العلم بالعيب. حكاه ابن دقيق العيد، وتعقّبه: بأنّ العيب لو لَم يعلم له تنقص القيمة فلا يتوقّف على الإعلام. واستشكل الأمر ببيع الرّقيق إذا زنى , مع أنّ كلّ مؤمن مأمور أن يرى لأخيه ما يرى لنفسه، ومن لازم البيع أن يوافق أخاه المؤمن على أن يقتني ما لا يرضى اقتناءه لنفسه.

وأجيب: بأنّ السّبب الذي باعه لأجله ليس محقّق الوقوع عند المشتري , لجواز أن يرتدع الرّقيق إذا علم أنّه متى عاد أخرج , فإنّ الإخراج من الوطن المألوف شاقّ، ولجواز أن يقع الإعفاف عند المشتري بنفسه أو بغيره. قال ابن العربيّ: يرجى عند تبديل المحلّ تبديل الحال، ومن المعلوم أنّ للمجاورة تأثيراً في الطّاعة وفي المعصية. وقال ابن بطّال: فائدة الأمر ببيع الأمة الزّانية المبالغة في تقبيح فعلها، والإعلام بأنّ الأمة الزّانية لا جزاء لها إلَّا البيع أبداً، وأنّها لا تبقى عند سيّد زجراً لها عن معاودة الزّنا، ولعلَّ ذلك يكون سبباً لإعفافها إمّا أن يزوّجها المشتري أو يعفّها بنفسه أو يصونها بهيبته. قال النّوويّ: وفيه أنّ الزّاني إذا حدّ ثمّ زنى لزمه حدٌّ آخر ثمّ كذلك أبداً، فإذا زنى مرّات ولَم يحدّ فلا يلزمه إلَّا حدٌّ واحدٌ. قلت: من قوله " فإذا زنى " ابتداء كلام قاله لتكميل الفائدة , وإلا فليس في الحديث ما يدلّ عليه إثباتاً ولا نفياً. بخلاف الشّقّ الأوّل فإنّه ظاهر. وفيه إشارة إلى أنّ العقوبة في التّعزيرات إذا لَم يفد مقصودها من الزّجر لا يفعل , لأنّ إقامة الحدّ واجبة، فلمّا تكرّر ذلك ولَم يفد عدل إلى ترك شرط إقامته على السّيّد وهو الملك، ولذلك قال " بيعوها " ولَم يقل: اجلدوها كلما زنت، ذكره ابن دقيق العيد. وقال: قد تعرّض إمام الحرمين لشيءٍ من ذلك فقال: إذا علم

المعزّر في أنّ التّأديب لا يحصل إلَّا بالضّرب المبرّح فليتركه , لأنّ المبرّح يهلك وليس له الإهلاك، وغير المبرّح لا يفيد. قال الرّافعيّ: وهو مبنيّ على أنّ الإمام لا يجب عليه تعزير من يستحقّ التّعزير، فإن قلنا يجب التحق بالحدّ فليعزّره بغير المبرّح. وإن لَم ينزجر. وفيه أنّ السّيّد يقيم الحدّ على عبده وإن لَم يستأذن السّلطان. ويؤخذ من الحديث جواز بيع المدبّر في الجملة، ووجه عموم الأمر ببيع الأَمَة إذا زنت، فيشمل ما إذا كانت مدبّرة أو غير مدبّرة (¬1) واستنبطوا من قوله " فليبعها " (¬2) أنّ المقصود من النّفي الإبعاد عن الوطن الذي وقعت فيه المعصية وهو حاصل بالبيع. وقال ابن بطّال: وجه الدّلالة أنّه قال " فليجلدها " وقال " فليبعها " فدلَّ على سقوط النّفي , لأنّ الذي ينفى لا يقدر على تسليمه إلَّا بعد مدّة فأشبه الآبق. قلت: وفيه نظر. لجواز أن يتسلمه المشتري مسلوب المنفعة مدّة النّفي، أو يتّفق بيعه لمن يتوجّه إلى المكان الذي يصدق عليه وجود النّفي. وقال ابن العربيّ: تستثنى الأمة لثبوت حقّ السّيّد فيقدّم على حقّ ¬

_ (¬1) أورد البخاري حديث الباب وغيرَه في كتاب البيوع. وبوَّب عليه: باب بيع المدبَّر. وسيأتي الكلام إن شاء الله مستوفى عن حكم بيع المدبّر آخر الكتاب. في كتاب العتق. (¬2) هذه الرواية ليست في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة حديث الباب , وإنما جاءت من رواية المقبري عن أبي هريرة في الصحيحين كما تقدَّم ذكره.

الله، وإنّما لَم يسقط الحدّ لأنّه الأصل والنّفي فرع. قلت: وتمامه أن يقال: روعي حقّ السّيّد فيه أيضاً بترك الرّجم , لأنّه فوّت المنفعة من أصلها بخلاف الجلد، واستمرّ نفي العبد إذ لا حقّ للسّيّد في الاستمتاع به. واستدل من استثنى نفي الرّقيق , بأنّه لا وطن له وفي نفيه قطع حقّ السّيّد , لأنّ عموم الأمر بنفي الزّاني عارضه عموم نهي المرأة عن السّفر بغير المحرم. وهذا خاصّ بالإماء من الرّقيق دون الذّكور , وبه احتجّ مَن قال: لا يشرع نفي النّساء مطلقاً. واختلَفَ مَن قال بنفي الرّقيق. فالصّحيح نصف سنة. وفي وجه ضعيف عند الشّافعيّة سنة كاملة. وفي ثالثٍ , لا نفي على رقيق , وهو قول الأئمّة الثّلاثة والأكثر.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 353 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنه قال: أتى رجلٌ من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه، فقال: يا رسولَ الله، إني زنيت فأعرض عنه، فتنحّى تلقاءَ وجهِه، فقال: يا رسولَ الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثَنّى ذلك عليه أربع مراتٍ، فلمَّا شهد على نفسه أربع شهاداتٍ، دعاه رسول الله، فقال: أبكَ جُنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنتَ؟ قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به فارجموه. قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كنتُ فيمن رجمه، فرجمناه بالمُصلَّى. فلمَّا أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرّة، فرجمناه. (¬1) قال المصنِّف: الرَّجل هو ماعز بن مالكٍ، روى قصّته جابر بن سمرة، وعبد الله بن عباسٍ، وأبو سعيدٍ الخدريّ، وبريدة بن الحصيب الأسلميّ - رضي الله عنهم -. قوله: (عن أبي هريرة) رواه عنه أبو سلمة وسعيد بن المسيّب , وهي رواية يحيى بن بكير عن الليث عند البخاري، ووافقه شعيب بن الليث عن أبيه عند مسلم، ورواه البخاري من رواية سعيد بن عفير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4970 , 6430 , 6439 , 6747) ومسلم (1691) من طرق عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (4969 , 6429 , 6434) ومسلم (1691) من طرق عن الزهري عن أبي سلمة وحده عن جابر - رضي الله عنه -. وسيذكر الشارح تفصي ذلك.

عن الليث عن عبد الرّحمن بن خالد عن ابن شهاب. وجمعها مسلم , فوصل رواية عقيل , وعلَّق رواية عبد الرّحمن , فقال بعد رواية الليث عن عقيل: ورواه الليث أيضاً عن عبد الرّحمن بن خالد. قلت: ورواه معمر ويونس وابن جريجٍ عن ابن شهاب عن أبي سلمة وحده عن جابر، وجمع مسلمٌ هذه الطّرق. وأحال بلفظها على رواية عقيل. ورواه البخاريّ من رواية معمر، وعلَّق طرفاً منه ليونس وابن جريجٍ , ووصل رواية يونس قبل هذا. وأمّا رواية ابن جريجٍ , فوصلها مسلم عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرّزّاق عن معمر وابن جريجٍ معاً، ووقعت لنا بعلوٍّ في " مستخرج أبي نعيم " من رواية الطّبرانيّ عن الفربريّ عن عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ وحده. قوله: (أتى رجلٌ) زاد ابن مسافر (¬1) في روايته " من النّاس " وفي رواية يونس ومعمر " أنّ رجلاً من أسلم ". وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم " رأيت ماعز بن مالك الأسلميّ حين جيء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث , وفيه " رجلٌ قصيرٌ أعضل ليس عليه رداء " وفي لفظ " ذو عضلات " بفتح المهملة ثمّ ¬

_ (¬1) ابن مسافر. هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الذي تقدّم ذكره قبل قليل نُسب إلى جدّه.

المعجمة. قال أبو عبيدة: العضلة ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن السّاق. وقال الأصمعيّ: كلّ عصبة مع لحم فهي عضلة. وقال ابن القطّاع: العضلة لحم السّاق والذّراع وكلّ لحمة مستديرة في البدن , والأعضل الشّديد الخلق , ومنه أعضل الأمر إذا اشتدّ، لكن دلت الرّواية الأخرى على أنّ المراد به هنا كثير العضلات. قوله: (إني زنيت) وللبخاري " يا رسولَ الله: إن الأَخِرَ قد زنى. يعني: نفسه " أي: أنّه لَم يجئ مستفتياً لنفسه ولا لغيره , وإنّما جاء مقرّاً بالزّنا ليفعل معه ما يجب عليه شرعاً. وقوله " الأَخِر " بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة , أي: المتأخّر عن السّعادة , وقيل: معناه الأرذل. قوله: (فأعرض عنه فتنحّى تلقاء وجهه) أي: انتقل من النّاحية التي كان فيها إلى النّاحية التي يستقبل بها وجه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية ابن مسافر " فتنحّى لشقّ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أعرض قِبله " بكسر القاف وفتح الموحّدة،، وتلقاء منصوب على الظّرفيّة , وأصله مصدرٌ أقيم مقام الظّرف , أي: مكان تلقاء فحذف مكان قبل. وليس من المصادر تفعال بكسر أوّله إلَّا هذا , وتبيان وسائرها بفتح أوّله، وأمّا الأسماء بهذا الوزن فكثيرة. قوله: (حتّى ثنَّى ذلك عليه) وهو بمثلثةٍ بعدها نون خفيفة. أي:

كرّر، وفي رواية يحيى بن بكير عن الليث " حتّى ردّد ". وفي حديث بريدة عند مسلم " قال: ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه. فرجع غير بعيد ثمّ جاء فقال: يا رسولَ الله طهّرني. وفي لفظ " فلمّا كان من الغد أتاه ". ووقع في مرسل سعيد بن المسيّب عند مالك والنّسائيّ من رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ عن سعيد , أنّ رجلاً من أسلم , قال لأبي بكر الصّدّيق: إنّ الأَخِر زنى، قال: فتب إلى الله , واستتر بستر الله. ثمّ أتى عمر كذلك , فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأعرض عنه ثلاث مرّات، حتّى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله. قوله: (فلمّا شهِد على نفسه أربع شهادات) في رواية للشيخين " أربع مرّات " وفي رواية بريدة المذكورة " حتّى إذا كانت الرّابعة , قال: فبِمَ أطهّرك؟ " وفي حديث جابر بن سمرة من طريق أبي عوانة عن سماك " فشهد على نفسه أربع شهادات " أخرجه مسلم. وأخرجه من طريق شعبة عن سماك قال " فردّه مرّتين " وفي أخرى " مرّتين أو ثلاثاً " قال شعبة: قال سماك: فذكرته لسعيد بن جبير , فقال: إنّه ردّه أربع مرّات , ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم أيضاً " فاعترف بالزّنا ثلاث مرّات ". والجمع بينها. أمّا رواية مرّتين: فتحمل على أنّه اعترف مرّتين في يوم , ومرّتين في يوم آخر لِمَا يشعر به قول بريدة " فلمّا كان من الغد " فاقتصر الرّاوي على أحدهما.

أو مراده اعترف مرّتين في يومين فيكون من ضرب اثنين في اثنين. وقد وقع عند أبي داود من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: جاء ماعز بن مالك إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فاعترف بالزّنا مرّتين فطرده، ثمّ جاء فاعترف بالزّنا مرّتين. وأمّا رواية الثّلاث: فكأنّ المراد الاقتصار على المرّات التي ردّه فيها. وأمّا الرّابعة: فإنّه لَم يردّه بل استثبت فيه , وسأل عن عقله. لكن وقع في حديث أبي هريرة عند أبي داود من طريق عبد الرّحمن بن الصّامت , ما يدلّ على أنّ الاستثبات فيه إنّما وقع بعد الرّابعة. ولفظه " جاء الأسلميّ , فشهد على نفسه أنّه أصاب امرأة حراماً أربع مرّات , كلّ ذلك يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل في الخامسة فقال: تدري ما الزّاني " إلى آخره. والمراد بالخامسة: الصّفة التي وقعت منه عند السّؤال والاستثبات، لأنّ صفة الإعراض وقعت أربع مرّات , وصفة الإقبال عليه للسّؤال وقعت بعدها. قوله: (فقال: أبك جنون؟ قال: لا) في رواية شعيب عند البخاري " وهل بك جنون؟ " وفي حديث بريدة " فسأل أبه جنون؟ , فأخبر بأنّه ليس بمجنونٍ " وفي لفظ " فأرسل إلى قومه , فقالوا: ما نعلمه إلَّا وفيّ العقل من صالحينا ". وفي حديث أبي سعيد " ثمّ سأل قومه , فقالوا: ما نعلم به بأساً , إلَّا أنّه أصاب شيئاً يرى أنّه لا يخرج منه إلَّا أن يقام فيه الحدّ لله ".

وفي مرسل أبي سعيد " بعث إلى أهله. فقال: أشتكى به جِنّة؟ فقالوا: يا رسولَ الله إنّه لصحيح ". ويجمع بينهما: بأنّه سأله ثمّ سأل عنه احتياطاً، فإنّ فائدة سؤاله أنّه لو ادّعى الجنون لكان في ذلك دفع لإقامة الحدّ عليه حتّى يظهر خلاف دعواه، فلمّا أجاب بأنّه لا جنون به سأل عنه لاحتمال أن يكون كذلك ولا يعتدّ بقوله. ومعنى الاستفهام. هل كان بك جنون , أو هل تجنّ تارة وتفيق تارة؟ , وذلك أنّه كان حين المخاطبة مفيقاً. ويحتمل: أن يكون وجّه له الخطاب , والمراد استفهام من حضر ممّن يعرف حاله , وعند أبي داود من طريق نعيم بن هزّال قال: كان ماعز بن مالك يتيماً في حجر أبي , فأصاب جارية من الحيّ، فقال له أبي: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك , ورجاء أن يكون له مخرج " فذكر الحديث. قال عياض: فائدة سؤاله أبك جنون , ستراً لحاله واستبعاد أن يلحّ عاقلٌ بالاعتراف بما يقتضي إهلاكه، ولعله يرجع عن قوله، أو لأنّه سمعه وحده، أو ليتمّ إقراره أربعاً عند من يشترطه. وأمّا سؤاله قومه عنه بعد ذلك , فمبالغة في الاستثبات. وتَعقّب بعضُ الشّرّاح قوله " أو لأنّه سمعه وحده ": بأنّه كلام ساقط , لأنّه وقع في نفس الخبر أنّ ذلك كان بمحضر الصّحابة في المسجد.

قلت: ويردّ بوجهٍ آخر , وهو أنّ انفراده - صلى الله عليه وسلم - بسماع إقرار المقرّ كافٍ في الحكم عليه بعلمه اتّفاقاً , إذ لا ينطق عن الهوى، بخلاف غيره , ففيه احتمال. قوله: (قال: فهل أحصنت) أي: تزوّجت، هذا معناه جزماً هنا، لافتراق الحكم في حدّ من تزوّج ومن لَم يتزوّج. والإحصان , يأتي بمعنى العفّة والتّزويج والإسلام والحرّيّة , لأنّ كلاً منها يمنع المكلَّف من عمل الفاحشة. قال ابن القطّاع: رجل محصِن بكسر الصّاد على القياس , وبفتحها على غير قياس. قلت: يمكن تخريجه على القياس، وهو أنّ المراد هنا من له زوجة عقد عليها ودخل بها وأصابها , فكأنّ الذي زوّجها له أو حمله على التّزويج بها , ولو كانت نفسه أحصنه. أي: جعله في حصن من العفّة , أو منعه من عمل الفاحشة. وقال الرّاغب: يقال للمتزوّجة محصنة , أي: أنّ زوجها أحصنها، ويقال: امرأة محصن بالكسر إذا تصوّر حصنها من نفسها، وبالفتح إذا تصوّر حصنها من غيرها. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّه لا يكون الإحصان بالنّكاح الفاسد ولا الشّبهة، وخالفهم أبو ثور فقال: يكون محصناً. واحتجّ: بأنّ النّكاح الفاسد يعطى أحكام الصّحيح في تقدير المهر ووجوب العدّة , ولحوق الولد , وتحريم الرّبيبة.

وأجيب: بعموم " ادرءوا الحدود ". قال: وأجمعوا على أنّه لا يكون بمجرّد العقد محصناً، واختلفوا إذا دخل بها , وادّعى أنّه لَم يصبها قال: حتّى تقوم البيّنة أو يوجد منه إقرار أو يعلم له منها واحد. وعن بعض المالكيّة , إذا زنى أحد الزّوجين. واختلفوا في الوطء لَم يصدّق الزّاني , ولو لَم يمض لهما إلَّا ليلة , وأمّا قبل الزّنا , فلا يكون محصناً , ولو أقام معها ما أقام. واختلفوا إذا تزوّج الحرُّ أمةً هل تحصنه؟. القول الأول: قال الأكثر: نعم. القول الثاني: عن عطاء والحسن وقتادة والثّوريّ والكوفيّين وأحمد وإسحاق: لا. واختلفوا إذا تزوّج كتابيّة. القول الأول: قال إبراهيم وطاوسٌ والشّعبيّ: لا تحصنه، وعن الحسن: لا تحصنه حتّى يطأها في الإسلام، أخرجهما ابن أبي شيبة. القول الثاني: عن جابر بن زيد وابن المسيّب تحصنه، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير. وقال ابن بطّال: أجمع الصّحابة وأئمّة الأمصار , على أنّ المحصن إذا زنى عامداً عالماً مختاراً فعليه الرّجم. ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة , واعتلُّوا بأنّ الرّجم لَم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربيّ عن طائفة من أهل المغرب لقيهم , وهم

من بقايا الخوارج. واحتجّ الجمهور: بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجم , وكذلك الأئمّة بعده، ولذلك أشار عليّ - رضي الله عنه - بقوله في البخاري: ورجمتها بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وثبت في صحيح مسلم عن عبادة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ سبيلاً. الثّيّب بالثّيّب الرّجم. وفي الصحيحين من حديث عمر , أنّه خطب فقال: إنّ الله بعث محمّداً بالحقّ وأنزل عليه القرآن , فكان ممّا أنزل آية الرّجم. قال ابن التّين: محلّ مشروعيّة سؤال المقرّ بالزّنا عن ذلك إذا كان لَم يعلم أنّه تزوّج تزويجاً صحيحاً ودخل بها، فأمّا إذا علم إحصانه فلا يسأل عن ذلك. ثمّ حكى عن المالكيّة تفصيلاً فيما إذا علم أنّه تزوّج , ولَم يسمع منه إقراراً بالدّخول. فقيل: من أقام مع الزّوجة ليلة واحدة لَم يقبل إنكاره. وقيل: أكثر من ذلك. وهل يحدّ حدّ الثّيّب أو البكر؟ الثّاني أرجح، وكذا إذا اعترف الزّوج بالإصابة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6812) عن سلمة بن كهيل قال: سمعت الشعبي يحدث عن عليٍّ - رضي الله عنه - حين رجم المرأة يوم الجمعة , وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال الحافظ في " الفتح ": زاد علي بن الجعد " وجلدتها بكتاب الله " زاد إسماعيل بن سالم في أوله عن الشعبي " قيل لعلي: جمعتَ حدين " فذكره. وفي رواية عبد الرزاق " أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة " قال الشعبي: وقال أبيُّ بن كعب مثل ذلك

ثمّ قال: إنّما اعترفت بذلك لأملك الرّجعة أو اعترفت المرأة ثمّ قالت: إنّما فعلت ذلك لأستكمل الصّداق، فإنّ كلاً منهما يحدّ حدّ البكر. انتهى. وعند غيرهم يرفع الحدّ أصلاً. ونقل الطّحاويّ عن أصحابهم , أنّ مَن قال لآخر: يا زاني , فصدّقه , أنّه يجلد القائل , ولا يحدّ المصدّق، وقال زفر: بل يحدّ. قلت: وهو قول الجمهور. ورجّح الطّحاويّ قولَ زفر, واستدل بحديث الباب وأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لماعزٍ: أحقٌّ ما بلغني عنك أنّك زنيت؟ قال: نعم، فحدّه (¬1). قال: وباتّفاقهم على أنّ مَن قال لآخر: لي عليك ألف , فقال: صدقت , أنّه يلزمه المال. قوله: (قال: نعم) زاد في حديث بريدة قبل هذا " أشربت خمراً؟ قال: لا. وفيه: فقام رجل فاستنكهه , فلم يجد منه ريحاً ". وزاد في حديث ابن عبّاس عند البخاري " لعلك قبّلت أو غمزت - بمعجمةٍ وزاي - أو نظرت - أي: فأطلقت على كلّ ذلك زناً , ولكنّه لا حدّ في ذلك - قال: لا ". وفي حديث نعيم " فقال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم ". وفي حديث ابن عبّاس المذكور " فقال: أنكتها؟ " لا يكني بفتح ¬

_ (¬1) هذه الرواية أخرجها مسلم في الصحيح (1693) عن ابن عبّاس - رضي الله عنه -.

التّحتانيّة وسكون الكاف من الكناية , أي: أنّه ذكر هذا اللفظ صريحاً , ولَم يكن عنه بلفظٍ آخر كالجماع. ويحتمل: أن يجمع بأنّه ذكر بعد ذكر الجماع , بأنّ الجماع قد يحمل على مجرّد الاجتماع، وفي حديث أبي هريرة المذكور " أنكتها؟ قال: نعم. قال: حتّى دخل ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرّشاء في البئر؟ قال: نعم. قال: تدري ما الزّنا قال: نعم؟ أتيت منها حراماً ما يأتي الرّجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهّرني، فأمر به فرُجم ". وقبله عند النّسائيّ هنا " هل أدخلته وأخرجته؟ قال: نعم ". قوله: (اذهبوا به فارجموه) استدل به على الاكتفاء بالرّجم في حدّ من أحصن من غير جلد. القول الأول: قال الحازميّ: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر , إلى أنّ الزّاني المحصن يجلد ثمّ يرجم. القول الثاني: قال الجمهور - وهي رواية عن أحمد أيضاً - لا يجمع بينهما، وذكروا أنّ حديث عبادة منسوخ يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ " الثّيّب بالثّيّب جلد مائة والرّجم , والبكر بالبكر جلد مائة والنّفي ". والنّاسخ له ما ثبت في قصّة ماعز , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجمه ولَم يذكر الجلد. قال الشّافعيّ: فدلّت السّنّة على أنّ الجلد ثابت على البكر وساقط

عن الثّيّب. والدّليل على أنّ قصّة ماعز متراخية عن حديث عبادة , أنّ حديث عبادة ناسخ لِمَا شرع أوّلاً من حبس الزّاني في البيوت , فنسخ الحبس بالجلد وزيد الثّيّب الرّجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثمّ نسخ الجلد في حقّ الثّيّب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصّة ماعز على الرّجم , وذلك في قصّة الغامديّة والجهنيّة واليهوديّين لَم يذكر الجلد مع الرّجم. وقال ابن المنذر: عارض بعضهم الشّافعيّ , فقال: الجلد ثابت في كتاب الله والرّجم ثابت بسنّة رسول الله كما قال عليّ، وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة , وعمل به عليٌّ ووافقه أُبيّ، وليس في قصّة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم , لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه , ولكونه الأصل فلا يردّ ما وقع التّصريح به بالاحتمال. وقد احتجّ الشّافعيّ بنظير هذا , حين عورض إيجابه العمرة , بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر من سأله أن يحجّ عن أبيه (¬1) ولَم يذكر العمرة. فأجاب الشّافعيّ: بأنّ السّكوت عن ذلك لا يدلّ على سقوطه، قال: فكذا ينبغي أن يجاب هنا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1513) ومسلم (3315) عن ابن عباس - رضي الله عنه - , أنَّ امرأة , قالت: يا رسول الله. إنَّ فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع

قلت: وبهذا ألزم الطّحاويّ أيضاً الشّافعيّة. ولهم أن ينفصلوا , لكن في بعض طرقه " حجّ عن أبيك واعتمر " (¬1) فالتّقصير في ترك ذكر العمرة من بعض الرّواة. وأمّا قصّة ماعز , فجاءت من طرق متنوّعة بأسانيد مختلفة , لَم يذكر في شيء منها أنّه جُلد، وكذلك الغامديّة والجهنيّة وغيرهما، وقال في ماعز " اذهبوا فارجموه " وكذا في حقّ غيره. ولَم يذكر الجلد، فدلَّ ترك ذكره على عدم وقوعه , ودلَّ عدم وقوعه على عدم وجوبه. القول الثالث: من المذاهب المستغربة , ما حكاه ابن المنذر وابن حزم عن أُبيّ بن كعب، زاد ابن حزم: وأبي ذرّ , وابن عبد البرّ , عن مسروق , أنّ الجمع بين الجلد والرّجم خاصّ بالشّيخ والشّيخة، وأمّا الشّابّ فيجلد إن لَم يحصن ويرجم إن أحصن فقط. وحجّتهم في ذلك , حديث " الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة " (¬2). وقال عياض: شذّت فرقةٌ من أهل الحديث , فقالت: الجمع على الشّيخ الثّيّب دون الشّابّ. ولا أصل له. وقال النّوويّ: هو مذهبٌ باطلٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (930) وأبو داود (1810) والنسائي (2621) وابن ماجه (2906) وأحمد (16184) من حديث أبي رزين العقيلي - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله , إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن , قال: حجَّ عن أبيك واعتمر. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. (¬2) تقدَّم تخريجه.

كذا قاله , ونفى أصله ووصفه بالبطلان. إن كان المراد به طريقه , فليس بجيّدٍ , لأنّه ثابت , وإن كان المراد دليله , ففيه نظرٌ أيضاً , لأنّ الآية وردت بلفظ " الشّيخ " ففهم هؤلاء من تخصيص الشّيخ بذلك , أنّ الشّابّ أعذر منه في الجملة، فهو معنىً مناسب. وفيه جمع بين الأدلة , فكيف يوصف بالبطلان؟!. قوله: (قال ابن شهاب) هو موصول بالسّند المذكور. قوله: (فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله) وللشيخين من رواية عقيل وشعيب عن الزهري " أخبرني من سمع جابر بن عبد الله " صرَّح يونس ومعمر في روايتهما بأنه أبو سلمة بن عبد الرحمن , فكأنّ الحديث كان عند أبي سلمة عن أبي هريرة , كما عند سعيد بن المسيّب , وعنده زيادة عليه عن جابر. قوله: (فكنت فيمن رجمه , فرجمناه بالمُصلَّى) في رواية معمر " فأمر به فرجم بالمُصلَّى " وفي حديث أبي سعيد " فما أوثقناه ولا حفرنا له , قال: فرميناه بالعظام والمدر والخزف " بفتح المعجمة والزّاي وبالفاء , وهي الآنية التي تتّخذ من الطّين المشويّ. وكأنّ المراد ما تكسّر منها. وقوله: (بالمُصلَّى) أي: عنده. والمراد المكان الذي كان يُصلِّي عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع الغرقد، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند مسلم " فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد ". وفهم بعضهم كعياضٍ من قوله " بالمُصلَّى " أنّ الرّجم وقع داخله.

وقال: يستفاد منه أنّ المُصلَّى لا يثبت له حكم المسجد , إذ لو ثبت له ذلك لاجتنب الرّجم فيه , لأنّه لا يؤمن التّلويث من المرجوم , خلافاً لِمَا حكاه الدّارميّ , أنّ المُصلَّى يثبت له حكم المسجد ولو لَم يوقف. وتعقّب: بأنّ المراد أنّ الرّجم وقع عنده لا فيه كما سيأتي في البلاط (¬1)، وأنّ في حديث ابن عبّاس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهوديّين عند باب المسجد. وفي رواية موسى بن عقبة , أنّهما رجما قريباً من موضع الجنائز قرب المسجد. وبأنّه ثبت في حديث أمّ عطيّة الأمر بخروج النّساء حتّى الحيّض في العيد إلى المُصلَّى (¬2) وهو ظاهر في المراد. والله أعلم. وقال النّوويّ: ذكر الدّارميّ من أصحابنا , أنّ مصلَّى العيد وغيره إذا لَم يكن مسجداً , يكون في ثبوت حكم المسجد له وجهان , أصحّهما لا. وقال البخاريّ وغيره: في رجم هذا بالمُصلَّى , دليل على أنّ مصلى الجنائز والأعياد إذا لَم يوقف مسجداً لا يثبت له حكم المسجد , إذ لو كان له حكم المسجد , لاجتنب فيه ما يجتنب في المسجد. قلت: وهو كلام عياض بعينه. وليس للبخاريّ منه سوى التّرجمة. قوله: (فلمّا أذلقته) بذالٍ معجمة وفتح اللام بعدها قاف , أي: ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الآتي في قصة رجم اليهوديين برقم (308). (¬2) متفق عليه , وقد تقدّم في العيدين رقم (150)

أقلقته , وزنه ومعناه. قال أهل اللغة: الذّلق بالتّحريك القلق , وممّن ذكره الجوهريّ. وقال في النّهاية: أذلقته بلغت منه الجهد حتّى قلق، يقال: أذلقه الشّيء أجهده. وقال النّوويّ: معنى أذلقته الحجارة , أصابته بحدّها، ومنه انذلق صار له حدٌّ يقطع. قوله: (هرب) في رواية ابن مسافر " جَمَزَ " بجيمٍ وميم مفتوحتين ثمّ زاي , أي: وثب مسرعاً وليس بالشّديد العدو , بل كالقفز. ووقع في حديث أبي سعيد " فاشتدّ , وأسند لنا خلفه ". قوله: (فأدركناه بالحرّة , فرجمناه) زاد معمر في روايته " حتّى مات " وفي حديث أبي سعيد " حتّى أتى عرض - بضمّ أوّله - أي جانب الحرّة، فرميناه بجلاميد الحرّة حتّى سكت ". وعند التّرمذيّ من طريق محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في قصّة ماعز " فلمّا وجد مسّ الحجارة فرّ يشتدّ , حتّى مرّ برجلٍ معه لحي جمل , فضربه , وضربه النّاس حتّى مات ". وعند أبي داود والنّسائيّ من رواية يزيد بن نعيم بن هزّال عن أبيه في هذه القصّة " فوجد مسّ الحجارة فخرج يشتدّ، فلقيه عبد الله بن أنيس , وقد عجَزَ أصحابه , فنزع له بوظيف بعير , فرماه فقتله ". وهذا ظاهره يخالف ظاهر رواية أبي هريرة أنّهم ضربوه معه. لكن يجمع بأنّ قوله في هذا " فقتله " أي: كان سبباً في قتله، وقد

وقع في رواية للطّبرانيّ في هذه القصّة " فضرب ساقه فصرعه، ورجموه حتّى قتلوه ". والوظيف بمعجمةٍ وزن عظيم: خفّ البعير. وقيل: مستدقّ الذّراع والسّاق من الإبل وغيرها. وفي حديث أبي هريرة عند النّسائيّ " فانتهى إلى أصل شجرة فتوسّد يمينه حتّى قتل ". وللنّسائيّ من طريق أبي مالك عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فذهبوا به إلى حائط يبلغ صدره , فذهب يثب فرماه رجل فأصاب أصل أذنه , فصُرع فقتل. وفي هذا الحديث من الفوائد. منقبة عظيمة لماعز بن مالك , لأنّه استمرّ على طلب إقامة الحدّ عليه مع توبته , ليتمّ تطهيره , ولَم يرجع عن إقراره مع أنّ الطّبع البشريّ يقتضي أنّه لا يستمرّ على الإقرار , بما يقتضي إزهاق نفسه , فجاهد نفسه على ذلك وقوي عليها , وأقرّ من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشّهادة مع وضوح الطّريق إلى سلامته من القتل بالتّوبة. ولا يقال , لعله لَم يعلم أنّ الحدّ بعد أن يرفع للإمام يرتفع بالرّجوع , لأنّا نقول: كان له طريق أن يبرز أمره في صورة الاستفتاء فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة , ويبني على ما يجاب به ويعدل عن الإقرار إلى ذلك. ويؤخذ من قضيّته أنّه يستحبّ لمن وقع في مثل قضيّته , أن يتوب

إلى الله تعالى ويستر نفسه , ولا يذكر ذلك لأحدٍ كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأنّ من اطّلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام , كما قال - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصّة " لو سترته بثوبك , لكان خيراً لك ". وبهذا جزم الشّافعيّ - رضي الله عنه - فقال: أحبّ لمن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتجّ بقصّة ماعز مع أبي بكر وعمر. وقال ابن العربيّ: هذا كلّه في غير المجاهر، فأمّا إذا كان متظاهراً بالفاحشة مجاهراً فإنّي أحبّ مكاشفته , والتّبريح به , لينزجر هو وغيره. وقد استشكل استحباب السّتر مع ما وقع من الثّناء على ماعز والغامديّة. وأجاب شيخنا " في شرح التّرمذيّ " بأنّ الغامديّة كان ظهر بها الحبل مع كونها غير ذات زوج فتعذّر الاستتار للاطّلاع على ما يشعر بالفاحشة، ومن ثَمّ قيّد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضدّه , وإن وجد فالرّفع إلى الإمام ليقيم عليه الحدّ أفضل. انتهى. والذي يظهر. أنّ السّتر مستحبّ , والرّفع لقصد المبالغة في التّطهير أحبّ. والعلم عند الله تعالى. وفيه. التّثبّت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته , لِمَا وقع في

هذه القصّة من ترديده والإيماء إليه بالرّجوع , والإشارة إلى قبول دعواه إن ادّعى إكراهاً أو خطأً في معنى الزّنا , أو مباشرة دون الفرج مثلاً أو غير ذلك. وفيه مشروعيّة الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام وفي المسجد , والتّصريح فيه بما يستحيى من التّلفّظ به من أنواع الرّفث في القول , من أجل الحاجة الملجئة لذلك. وفيه نداء الكبير بالصّوت العالي , وإعراض الإمام عن من أقرّ بأمرٍ محتمل لإقامة الحدّ , لاحتمال أن يفسّره بما لا يوجب حدّاً أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك ليرتّب عليه مقتضاه , وأنّ إقرار المجنون لاغٍ، والتّعريض للمقرّ بأن يرجع , وأنّه إذا رجع قبل. قال ابن العربيّ: وجاء عن مالك رواية , أنّه لا أثر لرجوعه، وحديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحقّ أن يتّبع. وفيه. أنّه يستحبّ لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التّوبة منها , ولا يخبر بها أحداً ويستتر بستر الله، وإن اتّفق أنّه يخبر أحداً , فيستحبّ أن يأمره بالتّوبة وستر ذلك عن النّاس كما جرى لماعزٍ مع أبي بكر ثمّ عمر. وقد أخرج قصّته معهما في " الموطّأ " عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب مرسلة، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نعيم بن هزّال عن أبيه. وفي القصّة أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهزّالٍ: لو سترته بثوبك لكان خيراً لك.

وفي " الموطّأ " عن يحيى بن سعيد. ذكرتُ هذا الحديث في مجلسٍ فيه يزيد بن نعيم , فقال هزّال: جدّي جدّي , وهذا الحديث حقٌّ. قال الباجيّ: المعنى خيراً لك ممّا أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتّوبة والكتمان كما أمره أبو بكر وعمر، وذِكْر الثّوب مبالغة , أي: لو لَم تجد السّبيل إلى ستره إلَّا بردائك ممّن علم أمره , كان أفضل ممّا أشرت به عليه من الإظهار. واستدل به على اشتراط تكرير الإقرار بالزّنا أربعاً لظاهر قوله " فلمّا شهد على نفسه أربع شهادات " فإنّ فيه إشعاراً بأنّ العدد هو العلة في تأخير إقامة الحدّ عليه , وإلَّا لأَمرَ برجمه في أوّل مرّة، ولأنّ في حديث ابن عبّاس " قال لماعزٍ: قد شهدتَ على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به فارجموه ". وقد تقدّم ما يؤيّده , ويؤيّد القياس على عدد شهود الزّنا دون غيره من الحدود، وهو قول الكوفيّين والرّاجح عند الحنابلة. وزاد ابن أبي ليلى , فاشترط أن تتعدّد مجالس الإقرار، وهي رواية عن الحنفيّة. وتمسّكوا بصورة الواقعة، لكنّ الرّوايات فيها اختلفت، والذي يظهر أنّ المجالس تعدّدت لكن لا بعدد الإقرار، فأكثر ما نُقل في ذلك أنّه أقرّ مرّتين , ثمّ عاد من الغد فأقرّ مرّتين. كما تقدّم بيانه من عند مسلم. وتأوّل الجمهور , بأنّ ذلك وقع في قصّة ماعز , وهي واقعة حالٍ ,

فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات. ويؤيّد هذا الجواب ما تقدّم في سياق حديث أبي هريرة , وما وقع عند مسلم في قصّة الغامديّة حيث قالت لَمَّا جاءت: طهّرني، فقال: ويحك ارجعي فاستغفري، قالت: أراك تريد أن تردّدني كما ردّدت ماعزاً , إنّها حُبلى من الزّنا. فلم يؤخّر إقامة الحدّ عليها إلَّا لكونها حبلى. فلمّا وضعتْ أمر برجمها , ولَم يستفسرها مرّة أخرى , ولا اعتبر تكرير إقرارها , ولا تعدّد المجالس. وكذا وقع في قصّة العسيف حيث قال: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا , فإن اعترفت فارجمها. وفيه: فغدا عليها , فاعترفت فرجمها. ولَم يذكر تعدّد الاعتراف ولا المجالس. وتقدّم قريباً مع شرحه مستوفىً. وأجابوا عن القياس المذكور: بأنّ القتل لا يقبل فيه إلَّا شاهدان بخلاف سائر الأموال فيقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك أن يشترط الإقرار بالقتل مرّتين، وقد اتّفقوا أنّه يكفي فيه مرّة. فإن قلت: والاستدلال بمجرّد عدم الذّكر في قصّة العسيف وغيره فيه نظرٌ، فإنّ عدم الذّكر لا يدلّ على عدم الوقوع، فإذا ثبت كون العدد شرطاً , فالسّكوت عن ذكره , يحتمل أن يكون لعلم المأمور به. وأمّا قول الغامديّة " تريد أن تردّدني كما ردّدت ماعزاً " فيمكن التّمسّك به. لكن أجاب الطّيبيّ: بأنّ قولها " إنّها حبلى من الزّنا " فيه إشارة إلى

أنّ حالها مغايرة لحال ماعز، لأنّهما وإن اشتركا في الزّنا , لكنّ العلة غير جامعة , لأنّ ماعزاً كان متمكّناً من الرّجوع عن إقراره بخلافها، فكأنّها قالت أنا غير متمكّنة من الإنكار بعد الإقرار , لظهور الحمل بها بخلافه. وتعقّب: بأنّه كان يمكنها أن تدّعي إكراهاً أو خطأ أو شبهة. وفيه. أنّ الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرّجم فيمن أقرّ , وإن كان ذلك مستحبّاً , لأنّ الإمام إذا بدأ مع كونه مأموراً بالتّثبّت والاحتياط فيه , كان ذلك أدعى إلى الزّجر عن التّساهل في الحكم وإلى الحضّ على التّثبّت في الحكم، ولهذا يبدأ الشّهود إذا ثبت الرّجم بالبيّنة. وفيه جواز تفويض الإمام إقامة الحدّ لغيره. واستُدل به على أنّه لا يشترط الحفر للمرجوم , لأنّه لَم يذكر في حديث الباب , بل وقع التّصريح في حديث أبي سعيد عند مسلم فقال: " فما حفرنا له , ولا أوثقناه " , ولكن وقع في حديث بريدة عنده " فحفر له حفيرة ". ويمكن الجمع: بأنّ المنفيّ حفيرة لا يمكنه الوثوب منها , والمثبت عكسه. أو أنّهم في أوّل الأمرلم يحفروا له , ثمّ لَمَّا فرّ فأدركوه حفروا له حفيرة , فانتصب لهم فيها حتّى فرغوا منه. وعند الشّافعيّة: لا يحفر للرّجل. وفي وجه: يتخيّر الإمام , وهو أرجح لثبوته في قصّة ماعز , فالمثبت

مقدّمٌ على النّافي، وقد جمع بينهما بما دلَّ على وجودِ حفْرٍ في الجملة. وفي المرأة أوجه , ثالثها. الأصحّ - إن ثبت زناها بالبيّنة - استحبّ , لا بالإقرار. وعن الأئمّة الثّلاثة في المشهور عنهم. لا يحفر. وقال أبو يوسف وأبو ثور: يحفر للرّجل وللمرأة. وفيه. جواز تلقين المقرّ بما يوجب الحدّ , ما يدفع به عنه الحدّ , وأنّ الحدّ لا يجب إلَّا بالإقرار الصّريح، ومن ثَمّ شرط على من شهد بالزّنا أن يقول رأيته: ولَج ذكره في فرجها أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول أشهد أنّه زنى. وثبت عن جماعة من الصّحابة تلقين المقرّ بالحدّ. كما أخرجه مالك عن عمر , وابن أبي شيبة (¬1) عن أبي الدّرداء , وعن عليّ في قصّة شراحة. (¬2) ومنهم من خصّ التّلقين بمن يظنّ به أنّه يجهل حكم الزّنا , وهو ¬

_ (¬1) وقع في مطبوع الفتح , أخرجه مالك عن عمرو بن أبي شيبة عن أبي الدرداء. ولعلَّ الصواب ما أثبتّه. والله أعلم (¬2) قصة شراحة أخرجها البخاري مختصرة كما تقدَّم ص 415. أما رواية التلقين فقد ذكرها الشارح ضمن روايات الحديث. فقال: وذكر ابن عبد البر , أنَّ في تفسير سنيد بن داود من طريق أخرى إلى الشعبي قال: أُتي علي بشراحة فقال لها: لعلَّ رجلاً استكرهك؟، قالت: لا، قال: فلعله أتاكِ وأنت نائمة؟ قالت: لا. قال: لعلَّ زوجك من عدونا؟ قالت: لا. فأمر بها فحبست، فلما وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة , ثم ردها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها. اهـ

قول أبي ثور. وعند المالكيّة: يستثنى تلقين المشتهر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه وليس ذلك بشرطٍ. وفيه. ترك سجن من اعترف بالزّنا في مدّة الاستثبات وفي الحامل حتّى تضع، وقيل: إنّ المدينة لَم يكن بها حينئذٍ سجنٌ، وإنّما كان يسلم كل جانٍ لوليّه. وقال ابن العربيّ: إنّما لَم يأمر بسجنه ولا التّوكيل به , لأنّ رجوعه مقبول , فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع، ويؤخذ من قوله " هل أحصنت؟ " وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها. وفيه. أنّ إقرار السّكران لا أثر له يؤخذ من قوله " استنكهوه " والذين اعتبروه وقالوا إنّ عقله زال بمعصيته، ولا دلالة في قصّة ماعز , لاحتمال تقدّمها على تحريم الخمر , أو أنّ سكره وقع عن غير معصية. وفيه. أنّ المقرّ بالزّنا إذا أقرّ يترك، فإن صرّح بالرّجوع فذاك , وإلَّا اتّبع ورجم , وهو قول الشّافعيّ وأحمد , ودلالته من قصّة ماعز ظاهرة. وقد وقع في حديث نعيم بن هزّال: هلاَّ تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه. أخرجه أبو داود وصحّحه الحاكم وحسّنه، وللتّرمذيّ نحوه من حديث أبي هريرة. وصحّحه الحاكم أيضاً.

وعند أبي داود من حديث بريدة قال: كنّا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتحدّث , أنّ ماعزاً والغامديّة لو رجعا لَم يطلبهما. وعند المالكيّة في المشهور , لا يترك إذا هرب. وقيل: يشترط أن يؤخذ على الفور. فإن لَم يؤخذ ترك. وعن ابن عيينة. إن أخذ في الحال كمل عليه الحدّ , وإن أخذ بعد أيّام ترك. وعن أشهب. إن ذكر عذراً يقبل ترك وإلَّا فلا، ونقله القعنبيّ عن مالك، وحكى الكجّيّ عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة. ومنهم من قيّده بما بعد إقراره عند الحاكم. واحتجّوا: بأنّ الذين رجموه حتّى مات بعد أن هرب , لَم يلزموا بديته فلو شرع تركه لوجبت عليهم الدّية. والجواب: أنّه لَم يصرّح بالرّجوع، ولَم يقل أحدٌ إنّ حدّ الرّجم يسقط بمجرّد الهرب، وقد عبّر في حديث بريدة بقوله " لعله يتوب " وفيه. أنّ المرجوم في الحدّ لا تشرع الصّلاة عليه إذا مات بالحدّ , ويأتي البحث فيه قريباً. وفيه. أنّ من وجد منه ريح الخمر وجب عليه الحدّ , من جهة استنكاه ماعز بعد أن قال له: أشربت خمراً؟. قال القرطبيّ: وهو قول مالك والشّافعيّ , كذا قال. وقال المازريّ: استدل به بعضهم , على أنّ طلاق السّكران لا يقع. وتعقّبه عياض: بأنّه لا يلزم من درء الحدّ به أنّه لا يقع طلاقه ,

لوجود تهمته على ما يظهره من عدم العقل، قال: ولَم يختلف في غير الطّافح أنّ طلاقه لازم. قال: ومذهبنا التزامه بجميع أحكام الصّحيح , لأنّه أدخل ذلك على نفسه , وهو حقيقة مذهب الشّافعيّ، واستثنى من أُكْرِه , ومن شرب ما ظنّ أنّه غير مسكر , ووافقه بعض متأخّري المالكيّة. وقال النّوويّ: الصّحيح عندنا صحّة إقرار السّكران ونفوذ أقواله فيما له وعليه. قال: والسّؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنّه لو كان سكراناً لَم يقم عليه الحدّ. كذا أطلق , فألزم التّناقض، وليس كذلك. فإنّ مراده لَم يقم عليه الحدّ لوجود الشّبهة , كما تقدّم من كلام عياض. قلت: روى ابن أبي شيبة عن الزّهريّ قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقتُ امرأتي وأنا سكران، فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا , أن يجلده ويفرّق بينه وبين امرأته، حتّى حدّثه أبان بن عثمان بن عفّان عن أبيه , أنّه قال: ليس على المجنون ولا على السّكران طلاق، قال عمر: تأمرونني وهذا يحدّثني عن عثمان؟ فجلده، وردّ إليه امرأته. وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعاً عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعيّ عن أبي يزيد المزنيّ عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ليس لسكران , ولا لمضطَهد طلاق.

المضطهد: بضاد معجمة ساكنة ثمّ طاء مهملة مفتوحة ثمّ هاء ثمّ مهملة , هو المغلوب المقهور. وقد ذهب إلى عدم وقوع طلاق السّكران أيضاً. أبو الشّعثاء وعطاء وطاوسٌ وعكرمة والقاسم وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد صحيحة. وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزنيّ. واختاره الطّحاويّ , واحتجّ بأنّهم أجمعوا على أنّ طلاق المعتوه لا يقع قال: والسّكران معتوه بسكره. وقال بوقوعه طائفة من التّابعين. كسعيد بن المسيّب والحسن وإبراهيم والزّهريّ والشّعبيّ، وبه قال الأوزاعيّ والثّوريّ ومالك وأبو حنيفة. وعن الشّافعيّ قولان: المصحّح منهما وقوعه، والخلاف عند الحنابلة , لكنّ التّرجيح بالعكس. وقال ابن المرابط: إذا تيقّنّا ذهاب عقل السّكران. لَم يلزمه طلاق، وإلا لزمه. وقد جعل الله حدّ السّكر الذي تبطل به الصّلاة أن لا يعلم ما يقول. وهذا التّفصيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه، وإنّما استدل مَن قال بوقوعه مطلقاً بأنّه عاصٍ بفعله لَم يزل عنه الخطاب بذلك، ولا الإثم لأنّه يؤمر بقضاء الصّلوات وغيرها ممّا وجب عليه قبل وقوعه في السّكر أو فيه.

وأجاب الطّحاويّ: بأنّه لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسببٍ من جهته أو من جهة غيره، إذ لا فرق بين من عجَزَ عن القيام في الصّلاة بسببٍ من قبل الله أو من قبل نفسه , كمن كسر رِجْلَ نفسه فإنّه يسقط عنه فرض القيام. وتعقّب: بأنّ القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا. وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصّلوات: بأنّ النّائم يجب عليه قضاء الصّلاة , ولا يقع طلاقه فافترقا. وقال ابن بطّالٍ: الأصل في السّكران العقل، والسّكر شيء طرأ على عقله، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل حتّى يثبت ذهاب عقله. ومن المذاهب الظّريفة فيه قول الليث: يعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله , لأنّه يلتذّ بفعله , ويشفي غيظه , ولا يفقه أكثر ما يقول , وقد قال تعالى {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون}. تكميل: بوّب عليه البخاري " من حَكَم في المسجد , حتّى إذا أتى على حدٍّ , أمر أن يخرج من المسجد فيقام ". كأنّه يشير بهذه التّرجمة إلى من خصّ جوازَ الحُكم في المسجد بما إذا لَم يكن هناك شيء يتأذّى به من في المسجد , أو يقع به للمسجد نقص كالتّلويث. وروى ابن أبي شيبة وعبد الرّزّاق كلاهما من طريق طارق بن شهاب قال: أتي عمر بن الخطّاب برجلٍ في حدّ فقال: أخْرِجَاه من

المسجد , ثمّ اضرباه. وسنده على شرط الشّيخين. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن معقل - وهو بمهملةٍ ساكنة وقاف مكسورة - أنّ رجلاً جاء إلى عليٍّ فسارّه , فقال: يا قنبر. أخْرِجه من المسجد فأقم عليه الحدّ. وفي سنده من فيه مقال. ثمّ ذكر البخاري حديث أبي هريرة في قصّة الذي أقرّ , أنّه زنى فأعرض عنه , وفيه أبك جنون؟ قال: لا. قال: اذهبوا به فارجموه. وهذا القدر , هو المراد في التّرجمة , ولكنّه لا يَسْلَم من خدش , لأنّ الرّجم يحتاج إلى قدر زائد من حفر وغيره ممّا لا يلائم المسجد , فلا يلزم من تركه فيه , ترك إقامة غيره من الحدود. قال ابن بطّال: ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد , الكوفيّون والشّافعيّ وأحمد وإسحاق، وأجازه الشّعبيّ وابن أبي ليلى، وقال مالك: لا بأس بالضّرب بالسّياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد. قال ابن بطّال: وقول من نزّه المسجد عن ذلك أولى، وفي الباب حديثان ضعيفان في النّهي عن إقامة الحدود في المساجد. انتهى. والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدّرداء وواثلة وأبي أُمامة مرفوعاً " جنّبوا مساجدكم صبيانكم " الحديث، وفيه " وإقامة حدودكم ". أخرجه البيهقيّ في الخلافيّات، وأصله في ابن ماجه من حديث واثلة فقط , وليس فيه ذكر الحدود. وسنده ضعيف.

ولابن ماجه من حديث ابن عمر رفعه: خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتّخذ طريقاً. الحديث. وفيه: ولا يُضرب فيه حدّ. وسنده ضعيف أيضاً. وقال ابن المنير: من كَرِه إدخال الميّت المسجد للصّلاة عليه خشية أن يخرج منه شيء , أولى بأن يقول لا يقام الحدّ في المسجد، إذ لا يؤمن خروج الدّم من المجلود، وينبغي أن يكون في القتل أولى بالمنع. تكميل آخر: زاد البخاري في آخره: فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خيراً، وصلَّى عليه. رواه عن محمود حدّثنا عبد الرّزّاق أخبرنا معمرٌ عن الزّهريّ، به. قال البخاري: لَم يقل يونس وابن جريجٍ عن الزّهريّ: فصلَّى عليه. سئل أبو عبد الله: فصلَّى عليه يصحّ؟ قال: رواه معمرٌ , قيل له: رواه غير معمرٍ؟ قال: لا. قوله " فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خيراً " أي: ذكره بجميلٍ، ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم " فما استغفر له ولا سبّه " وفي حديث بريدة عنده " فكان النّاس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، فلبثوا ثلاثاً , ثمّ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: استغفروا لماعز بن مالك. وفي حديث بريدة أيضاً " لقد تاب توبة لو قسمت على أمّة لوسعتهم " وفي حديث أبي هريرة عند النّسائيّ " لقد رأيته بين أنهار الجنّة ينغمس " قال: يعني يتنعّم كذا في الأصل.

وفي حديث جابر عند أبي عوانة " فقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنّة " وفي حديث اللجلاج عند أبي داود والنّسائيّ " ولا تقل له خبيث لهو عند الله أطيب من ريح المسك " وفي حديث أبي الفيض عند التّرمذيّ " لا تشتمه " وفي حديث أبي ذرّ عند أحمد " قد غفر له وأدخل الجنّة ". قوله " وصلَّى عليه " هكذا وقع هنا عن محمود بن غيلان عن عبد الرّزّاق، وخالفه محمّد بن يحيى الذّهليّ وجماعة عن عبد الرّزّاق , فقالوا في آخره " ولَم يصلِّ عليه ". قال المنذريّ في " حاشية السّنن ": رواه ثمانية أنفس عن عبد الرّزّاق فلم يذكروا قوله " وصلَّى عليه ". قلت: قد أخرجه أحمد في " مسنده " عن عبد الرّزّاق , ومسلم عن إسحاق بن راهويه , وأبو داود عن محمّد بن المتوكّل العسقلانيّ , وابن حبّان من طريقه , زاد أبو داود والحسن بن عليّ الخلال , والتّرمذيّ عن الحسن بن عليّ المذكور، والنّسائيّ وابن الجارود عن محمّد بن يحيى الذّهليّ. زاد النّسائيّ ومحمّد بن رافع ونوح بن حبيب , والإسماعيليّ والدّارقطنيّ من طريق أحمد بن منصور الرّماديّ. زاد الإسماعيليّ، ومحمّد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدَّبريّ ومحمّد بن سهل الصّغانيّ. فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس خالفوا محموداً , منهم: من سكت

عن الزّيادة , ومنهم: من صرّح بنفيها. وقول البخاري (ولَم يقل يونس وابن جريجٍ عن الزّهريّ: وصلَّى عليه) أمّا رواية يونس فوصلها البخاري رحمه الله. ولفظه " فأمر به فرجم , وكان قد أحصن ". وأمّا رواية ابن جريجٍ , فوصلها مسلم مقرونةً برواية معمر , ولَم يسق المتن , وساقه إسحاق شيخ مسلم في " مسنده " , وأبو نعيم من طريقه , فلم يذكر فيه " وصلَّى عليه " قوله: " سئل أبو عبد الله. هل قوله (فصلَّى عليه) يصحّ أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا " وقع هذا الكلام في رواية المستملي وحده عن الفربريّ، وأبو عبد الله هو البخاريّ. وقد اعترض عليه في جزمه , بأنّ معمراً روى هذه الزّيادة , مع أنّ المنفرد بها إنّما هو محمود بن غيلان عن عبد الرّزّاق، وقد خالفه العدد الكثير من الحفّاظ , فصرّحوا بأنّه لَم يصل عليه. لكن ظهر لي , أنّ البخاريّ قويت عنده رواية محمود بالشّواهد، فقد أخرج عبد الرّزّاق أيضاً - وهو في " السّنن " لأبي قرّة من وجه آخر - عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف في قصّة ماعز قال: فقيل: يا رسولَ الله أتصلي عليه؟ قال: لا. قال: فلمّا كان من الغد قال: صلَّوا على صاحبكم، فصلَّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنّاس. فهذا الخبر يجمع الاختلاف , فتحمل رواية النّفي على أنّه لَم يصلِّ

عليه حين رجم، ورواية الإثبات على أنّه - صلى الله عليه وسلم - عليه في اليوم الثّاني. وكذا طريق الجمع لِما أخرجه أبو داود عن بريدة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يأمر بالصّلاة على ماعز , ولَم ينه عن الصّلاة عليه. ويتأيّد بما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصينٍ , في قصّة الجهنيّة التي زنت ورجمت , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى عليها، فقال له عمر: أتصلّي عليها وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم. وحكى المنذريّ قولَ من حمل الصّلاة في الخبر على الدّعاء. ثمّ قال: في قصّة الجهنيّة دلالةٌ على توهين هذا الاحتمال. قال: وكذا أجاب النّوويّ فقال: إنّه فاسد , لأنّ التّأويل لا يصار إليه إلَّا عند الاضطرار إليه , ولا اضطرار هنا. وقال ابن العربيّ: لَم يثبت أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على ماعز، قال: وأجاب من منع عن صلاته على الغامديّة لكونها عرفت حكم الحدّ وماعز إنّما جاء مستفهماً. قال: وهو جوابٌ واهٍ، وقيل: لأنّه قتله غضباً لله وصلاته رحمة فتنافيا، قال: وهذا فاسد , لأنّ الغضب. انتهى. قال: ومحلّ الرّحمة باقٍ، والجواب المرضيّ , أنّ الإمام حيث ترك الصّلاة على المحدود كان ردعاً لغيره. قلت: وتمامه أن يقال: وحيث صلَّى عليه يكون هناك قرينة لا يحتاج معها إلى الرّدع , فيختلف حينئذٍ باختلاف الأشخاص.

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة. فقال مالك: يأمر الإمام بالرّجم , ولا يتولاه بنفسه , ولا يرفع عنه حتّى يموت، ويخلى بينه وبين أهله يغسّلونه ويصلون عليه , ولا يُصلِّي عليه الإمام ردعاً لأهل المعاصي إذا علموا أنّه ممّن لا يُصلَّى عليه، ولئلا يجترئ النّاس على مثل فعله. وعن بعض المالكيّة: يجوز للإمام أن يُصلِّي عليه , وبه قال الجمهور. والمعروف عن مالك , أنّه يكره للإمام وأهل الفضل الصّلاة على المرجوم، وهو قول أحمد. وعن الشّافعيّ. لا يكره , وهو قول الجمهور، وعن الزّهريّ. لا يُصلَّى على المرجوم ولا على قاتل نفسه. وعن قتادة. لا يُصلَّى على المولود من الزّنا. وأطلق عياض , فقال: لَم يختلف العلماء في الصّلاة على أهل الفسق والمعاصي والمقتولين في الحدود , وإن كره بعضهم ذلك لأهل الفضل , إلَّا ما ذهب إليه أبو حنيفة في المحاربين , وما ذهب إليه الحسن في الميّتة من نفاس الزّنا , وما ذهب إليه الزّهريّ وقتادة. قال: وحديث الباب في قصّة الغامديّة حجّة للجمهور. والله أعلم

الحديث الخامس

الحديث الخامس 354 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنه قال: إنّ اليهود جاءوا إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له: أنّ امرأةً منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويُجلدون، قال عبد الله بن سلامٍ: كذبتم، إنَّ فيها آية الرجم، فأتَوا بالتوراة فنَشَرُوها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدق يا محمّد، فأمر بهما النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فرُجِما، قال: فرأيت الرجل، يجنأ على المرأة يقيها الحجارة. (¬1) قال المصنِّف: يجنأ: ينحني. الرَّجل الذي وضع يده على آية الرجم. هو عبد الله بن صوريا. قوله: (إنّ اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأة زنيا) ذكر السّهيليّ عن ابن العربيّ , أنّ اسم المرأة بُسرة - بضمّ الموحّدة وسكون المهملة - ولَم يسمّ الرّجل. وذكر أبو داود السّبب في ذلك من طريق الزّهريّ سمعت رجلاً من مزينة , ممّن تبع العلم , وكان عند سعيد بن المسيّب يحدّث عن أبي هريرة قال: زنى رجلٌ من اليهود بامرأةٍ، فقال بعضهم لبعضٍ: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1264 , 3436، 4280، 6450، 6901، 7104) ومسلم (1669) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (6433) من وجهٍ أخر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحوه.

اذهبوا بنا إلى هذا النّبيّ , فإنّه بعث بالتّخفيف , فإن أفتانا بفتيا دون الرّجم قبلناها واحتججنا بها عند الله , وقلنا فتيا نبيٍّ من أنبيائك. قال: فأتوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وهو جالس في المسجد في أصحابه , فقالوا: يا أبا القاسم. ما ترى في رجل وامرأة زنيا منهم. ونقل ابن العربيّ عن الطّبريّ والثّعلبيّ عن المفسّرين قالوا: انطلق قومٌ من قريظة والنّضير منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصّيف وكنانة بن أبي الحقيق وشاس بن قيس ويوسف بن عازوراء , فسألوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وكان رجل وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا واسم المرأة بسرة، وكانت خيبر حينئذٍ حرباً , فقال لهم: اسألوه، فنزل جبريل على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: اجعل بينك وبينهم ابن صوريّا " فذكر القصّة مطوّلة. ولفظ الطّبريّ من طريق الزّهريّ المذكورة " إنّ أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس، وقد زنى رجلٌ منهم بعد إحصانه بامرأةٍ منهم قد أحصنت. فذكر القصّة. وفيها. فقال: اخرجوا إلى عبد الله بن صوريّا الأعور ". قال ابن إسحاق: ويقال: إنّهم أخرجوا معه أبا ياسر بن أحطب ووهب بن يهودا، فخلا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بابن صوريّا " فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث البراء: مرّ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بيهوديٍّ محمّماً مجلوداً. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟ قالوا: نعم.

وهذا يخالف الأوّل , من حيث إنّ فيه أنّهم ابتدءوا السّؤال قبل إقامة الحدّ، وفي هذا أنّهم أقاموا الحدّ قبل السّؤال. ويمكن الجمع بالتّعدّد: بأن يكون الذين سألوا عنهما غير الذي جلدوه. ويحتمل أن يكون: بادروا فجلدوه , ثمّ بدا لهم فسألوا فاتّفق المرور بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك , فأمرهم بإحضارهما فوقع ما وقع والعلم عند الله. ويؤيّد الجمع. ما وقع عند الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس , أنّ رهطاً من اليهود أتوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ومعهم امرأة , فقالوا: يا محمّد ما أنزل عليك في الزّنا. فيتّجه أنّهم جلدوا الرّجل , ثمّ بدا لهم أن يسألوا عن الحكم , فأحضروا المرأة وذكروا القصّة والسّؤال. ووقع في رواية عبيد الله العمريّ عن نافع عن ابن عمر عند مسلم " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتي بيهوديٍّ ويهوديّة زنيا ". ونحوه في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر في البخاري. ولفظه " أَحْدَثَا ". وفي حديث عبد الله بن الحارث عند البزّار " أنّ اليهود أتوا بيهوديّين زنيا , وقد أحصنا ". قوله: (ما تجدون في التّوراة في شأن الرّجم؟) قال الباجيّ: يحتمل: أن يكون علم بالوحي , أنّ حكم الرّجم فيها ثابت على ما شرع , لَم يلحقه تبدّل.

ويحتمل: أن يكون علم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره , ممّن أسلم منهم على وجه حصل له به العلم بصحّة نقلهم. ويحتمل: أن يكون إنّما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه , ثمّ يتعلم صحّة ذلك من قِبَل الله تعالى. قوله: (فقالوا: نفضحهم) بفتح أوّله وثالثه من الفضيحة. قوله: (ويجلدون) وقع بيان الفضيحة في رواية أيّوب عن نافع في البخاري بلفظ " قالوا: نسخّم وجوههما، ونخزيهما " وفي رواية عبيد الله (¬1) بن عمر " قالوا: نسوّد وجوههما ونحمّمهما ونخالف بين وجوههما. ويطاف بهما ". وفي رواية عبد الله بن دينار " أنّ أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه , والتّجبيه " وفي حديث أبي هريرة " يحمّم ويجبّه ويجلد ". وقوله " نحمّمهما " بمهملةٍ ثمّ ميم مثقلة , أي: نسكب عليهما الماء الحميم. وقيل: نجعل في وجوههما الحمة بمهملة وميم خفيفة. أي: السّواد. والتّجبيه , أن يحمل الزّانيان على حمار , وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما. وجزم إبراهيم الحربيّ , بأنّ تفسير التّجبيه من قول الزّهريّ , فكأنّه ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع من الفتح " عبد الله " وهو خطأ , والتصويب من صحيح مسلم (1699).

أدرج في الخبر , لأنّ أصل الحديث من روايته. وقال المنذريّ: يشبه أن يكون أصله الهمزة , وأنّه التّجبئة , وهي الرّدع والزّجر , يقال: جبّأته تجبيئاً. أي: ردعته. والتّجبية أن ينكّس رأسه , فيحتمل: أن يكون من فعل به ذلك , ينكّس رأسه استحياء , فسمّي ذلك الفعل تجبية. ويحتمل: أن يكون من الجبه وهو الاستقبال بالمكروه , وأصله من إصابة الجبهة , تقول جَبَهْته إذا أصبت جبهته كرأسته إذا أصبت رأسه. وقال الفارابيّ: جبّ بفتح الجيم وتشديد الموحّدة , قام قيام الرّاكع , وهو عريان. وقال الباجيّ: ظاهر الأمر , أنّهم قصدوا في جوابهم تحريف حكم التّوراة والكذب على النّبيّ , إمّا رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله , وإمّا لأنّهم قصدوا بتحكيمه التّخفيف عن الزّانيين , واعتقدوا أنّ ذلك يخرجهم عمّا وجب عليهم، أو قصدوا اختبار أمره، لأنّه من المقرّر أنّ من كان نبيّاً لا يقرّ على باطل، فظهر بتوفيق الله نبيّه كذبهم وصدقه , ولله الحمد. قوله: (قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إنّ فيها الرّجم) رواية أيّوب وعبيد الله بن عمر " قال: فأتوا بالتّوراة، قال: فاتلوها إن كنتم صادقين ". قوله: (فأتوا) بصيغة الفعل الماضي، وفي رواية أيّوب " فجاءوا "

وزاد عبيد الله بن عمر " بها فقرءوها " وفي رواية زيد بن أسلم " فأتى بها فنزع الوسادة من تحته , فوضع التّوراة عليها , ثمّ قال: آمنت بك وبمن أنزلك ". (¬1) وفي حديث البراء عند مسلم " فدعا رجلاً من علمائهم , فقال: أنشدك بالله وبمن أنزله " وفي حديث جابر عند أبي داود " فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتي بابن صوريّا ". زاد الطّبريّ في حديث ابن عبّاس " ائتوني برجلين من علماء بني إسرائيل، فأتوه برجلين , أحدهما شابّ والآخر شيخ , قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ". ولابن أبي حاتم من طريق مجاهد , أنّ اليهود استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , في الزّانيين فأفتاهم بالرّجم فأنكروه، فأمرهم أن يأتوا بأحبارهم , فناشدهم فكتموه , إلَّا رجلاً من أصاغرهم أعور فقال: كذبوك يا رسولَ الله في التّوراة ". قوله: (فأَتَوا بالتّوراة فنشروها , فوضع أحدهم يده على آية الرّجم , فقرأ ما قبلها وما بعدها) ونحوه في رواية عبد الله بن دينار , وفي رواية عبيد الله بن عمر " فوضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرّجم , فقرأ ما بين يديها وما وراءها ". وفي رواية أيّوب " فقالوا لرجلٍ ممّن يرضون: يا أعور اقرأ. فقرأ، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4449) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه - به.

حتّى انتهى إلى موضع منها , فوضع يده عليه ". واسم هذا الرّجل عبد الله بن صوريّا كما تقدّم. وقد وقع عند النّقّاش في " تفسيره " , أنّه أسلم، لكن ذكر مكّيّ في " تفسيره " , أنّه ارتدّ بعد أن أسلم، كذا ذكر القرطبيّ. ثمّ وجدته عند الطّبريّ بالسّند المتقدّم في الحديث الماضي (¬1) أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ناشده قال: يا رسولَ الله , إنّهم ليعلمون أنّك نبيّ مرسل , ولكنّهم يحسدونك " وقال في آخر الحديث " ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريّا , ونزلت فيه {يا أيّها الرّسول لا يحزُنْك الذين يسارعون في الكفر} الآية. قوله: (فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا فيها آية الرّجم) في رواية عبد الله بن دينار " فإذا آية الرّجم تحت يده ". ووقع في حديث البراء " فحدُّه الرّجم، ولكنّه كثر في أشرافنا , فكنّا إذا أخذنا الشّريف تركناه , وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشّريف والوضيع , فجعلنا التّحميم والجلد مكان الرّجم ". ووقع بيان ما في التّوراة من آية الرّجم في رواية أبي هريرة " المحصن والمحصنة إذا زنيا , فقامت عليهما البيّنة رُجما، وإن كانت المرأة حُبلى , تربّص بها حتّى تضع ما في بطنها ". وفي حديث جابر عند أبي داود " قالا: نجد في التّوراة إذا شهد ¬

_ (¬1) أي: من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أبي داود. الذي تقدّم في أول شرح هذا الحديث.

أربعة أنّهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما ". زاد البزّار من هذا الوجه " فإن وجدوا الرّجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة وفيها عقوبة، قال: فما منعكما أن ترجموهما , قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل " وفي حديث أبي هريرة " فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذو قرابة من الملك فأخّر عنه الرّجم، ثمّ زنى رجل شريف , فأرادوا رجمه , فحال قومه دونه , وقالوا: ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة ". وفي حديث ابن عبّاس عند الطّبرانيّ " إنّا كنّا شببة , وكان في نسائنا حسن وجه , فكثر فينا , فلم يقم له , فصرنا نجلد " والله أعلم. قوله: (فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجِما) زاد في حديث أبي هريرة " فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: فإنّي أحكم بما في التّوراة " وفي حديث البراء " اللهمّ إنّي أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه ". ووقع في حديث جابر من الزّيادة أيضاً " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشّهود، فجاء أربعة فشهدوا أنّهم رأوا ذكره في فرجها , مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما ". قوله: (فرأيت الرّجلَ يجنأ) وللبخاري " يحني " كذا في رواية أبي ذرّ عن السّرخسيّ. بالحاء المهملة بعدها نون مكسورة ثمّ تحتانيّة ساكنة. وعن المستملي والكشميهنيّ بجيمٍ ونون مفتوحة ثمّ همزة، وهو

الذي قال ابن دقيق العيد: إنّه الرّاجح في الرّواية. وفي رواية أيّوب " يجانئ " بضمّ أوّله وجيم مهموز. قال ابن القطّاع: جنأ على الشّيء حنا ظهره عليه. وقال الأصمعيّ: أجنأ التّرس جعله مجنأً. أي: محدوباً. وقال عياض: الصّحيح في هذا , ما قاله أبو عبيدة. يعني: بالجيم والهمز. وقال ابن عبد البرّ: وقع في رواية يحيى بن يحيى كالسّرخسيّ. والصّواب " يحني " أي: يميل. وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه: الأوّلان والثّالث: بضمّ أوّله والجيم وكسر النّون وبالهمزة. الرّابع: كالأوّل. إلَّا أنّه بالموحّدة بدل النّون. الخامس: كالثّاني. إلَّا أنّه بواوٍ بدل التّحتانيّة. السّادس: كالأوّل. إلَّا أنّه بالجيم. السّابع: بضمّ أوّله وفتح المهملة وتشديد النّون. الثّامن: " يجاني " بالنّون. التّاسع مثله , لكن بالحاء. العاشر: مثله , لكنّه بالفاء بدل النّون وبالجيم أيضاً. ورأيت في " الزّهريّات " للذّهليّ بخطّ الضّياء في هذا الحديث من طريق معمر عن الزّهريّ " يجافي " بجيمٍ وفاء بغير همز , وعلى الفاء

صح صح. قوله: (يقيها) بفتح أوّله ثمّ قاف تفسير لقوله " يحني " وفي رواية عبيد الله بن عمر " فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه " ولابن ماجه من هذا الوجه " يسترها ". وفي حديث ابن عبّاس عند الطّبرانيّ " فلمّا وجد مسّ الحجارة , قام على صاحبته يحني عليها , يقيها الحجارة حتّى قتلا جميعاً , فكان ذلك ممّا صنع الله لرسوله في تحقيق الزّنا منهما ". وفي هذا الحديث من الفوائد. وجوب الحدّ على الكافر الذّمّيّ إذا زنى , وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشّافعيّة. وقد ذهل ابن عبد البرّ , فنقل الاتّفاق على أنّ شرط الإحصان الموجب للرّجم الإسلام. وردّ عليه بأنّ الشّافعيّة وأحمد لا يشترطان ذلك. ويؤيّد مذهبهما , وقوع التّصريح بأنّ اليهوديّين اللذين رجما , كانا قد أحصنا كما تقدّم نقله. وقال المالكيّة ومعظم الحنفيّة وربيعة شيخ مالك: شرط الإحصان الإسلام. وأجابوا عن حديث الباب: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما رجمهما بحكم التّوراة , وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنّما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإنّ في التّوراة الرّجم على المحصن وغير

المحصن. قالوا: وكان ذلك أوّل دخول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان مأموراً باتّباع حكم التّوراة والعمل بها حتّى ينسخ ذلك في شرعه، فرجَمَ اليهوديّين على ذلك الحكم، ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم} إلى قوله {أو يجعل الله لهنّ سبيلاً} ثمّ نسخ ذلك بالتّفرقة بين من أحصن ومن لَم يحصن كما تقدّم. انتهى وفي دعوى الرّجم على من لَم يحصن نظرٌ، لِمَا تقدّم من رواية الطّبريّ وغيره. وقال مالك: إنّما رجم اليهوديّين , لأنّ اليهود يومئذٍ لَم يكن لهم ذمّة فتحاكموا إليه. وتعقّبه الطّحاويّ: بأنّه لو لَم يكن واجباً ما فعله، قال: وإذا أقام الحدّ على من لا ذمّة له , فلأن يقيمه على من له ذمّة أولى. وقال المازريّ: يُعترض على جواب مالك بكونه رجم المرأة , وهو يقول: لا تقتل المرأة إلَّا إن أجاب ذلك كان قبل النّهي عن قتل النّساء. وأيّد القرطبيّ أنّهما كانا حربيّين بما أخرجه الطّبريّ كما تقدّم، ولا حجّة فيه لأنّه منقطع. قال القرطبيّ: ويُعكّر عليه أنَّ مجيئهم سائلين يوجب لهم عهداً , كما لو دخلوا لغرضٍ كتجارةٍ أو رسالة أو نحو ذلك , فإنّهم في أمان

إلى أن يردّوا إلى مأمنهم. قلت: ولَم ينفصل عن هذا إلَّا أن يقول: إنّ السّائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة. وقال النّوويّ: دعوى أنّهما كان حربيّين باطلةٌ بل كانا من أهل العهد. كذا قال. وسلَّم بعض المالكيّة: أنّهما كانا من أهل العهد , واحتجّ بأنّ الحاكم مخيّر إذا تحاكم إليه أهل الذّمّة , بين أن يحكم فيهم بحكم الله , وبين أن يعرض عنهم على ظاهر الآية، فاختار - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة أن يحكم بينهم. وتعقّب: بأنّ ذلك لا يستقيم على مذهب مالك , لأنّ شرط الإحصان عنده الإسلام وهما كانا كافرين. وانفصل ابن العربيّ عن ذلك , بأنّهما كانا محكّمين له في الظّاهر ومختبرين ما عنده في الباطن , هل هو نبيّ حقّ أو مسامح في الحقّ، وهذا لا يرفع الإشكال ولا يخلص عن الإيراد. ثمّ قال ابن العربيّ: في الحديث أنّ الإسلام ليس شرطاً في الإحصان، والجواب بأنّه إنّما رجمهما لإقامة الحجّة على اليهود فيما حكّموه فيه من حكم التّوراة. فيه نظر، لأنّه كيف يقيم الحجّة عليهم بما لا يراه في شرعه. مع قوله {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}؟. قال: وأجيب بأنّ سياق القصّة يقتضي ما قلناه، ومن ثَمّ استدعى شهودهم ليقيم الحجّة عليهم منهم.

إلى أن قال: والحقّ أحقّ أن يتّبع , ولو جاءوني لحكمت عليهم بالرّجم , ولَم أعتبر الإسلام في الإحصان. وقال ابن عبد البرّ: حدّ الزّاني حقّ من حقوق الله. وعلى الحاكم إقامته، وقد كان لليهود حاكم , وهو الذي حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما. وقول بعضهم: إنّ الزّانيين حكّماه دعوى مردودةٌ، واعترض بأنّ التّحكيم لا يكون إلَّا لغير الحاكم، وأمّا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فحكمه بطريق الولاية لا بطريق التّحكيم. وأجاب الحنفيّة عن رجم اليهوديّين: بأنّه وقع بحكم التّوراة. وردّه الخطّابيّ , لأنّ الله قال {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وإنّما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده , كما دلَّت عليه الرّواية المذكورة , فأشار عليهم بما كتموه من حكم التّوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفاً لذلك , لأنّه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدلَّ على أنّه إنّما حكم بالنّاسخ. وأمّا قوله في حديث أبي هريرة: فإنّي أحكم بما في التّوراة. ففي سنده رجل مبهم، ومع ذلك , فلو ثبت لكان معناه لإقامة الحجّة عليهم، وهو موافق لشريعته. قلت: ويؤيّده أنّ الرّجم جاء ناسخاً للجلد كما تقدّم تقريره، ولَم يقل أحدٌ: إنّ الرّجم شرع ثمّ نسخ بالجلد ثمّ نسخ الجلد بالرّجم، وإذا كان حكم الرّجم باقياً منذ شرع , فما حكم عليهما بالرّجم بمجرّد حكم التّوراة , بل بشرعه الذي استمرّ حكم التّوراة عليه , ولَم يقدّر

أنّهم بدّلوه فيما بدّلوا. وأمّا ما جاء من أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجمهما أوّل ما قدم المدينة. لقوله في بعض طرق القصّة " لَمَّا قدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتاه اليهود " (¬1). فالجواب: أنّه لا يلزم من ذلك الفور، ففي بعض طرقه الصّحيحة كما تقدّم أنّهم تحاكموا إليه وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لَم يكمل بناؤه إلَّا بعد مدّة من دخوله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فبطل الفور. وأيضاً ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جزء أنّه حضر ذلك , وعبد الله إنّما قدم مع أبيه مسلماً بعد فتح مكّة، وقد تقدّم حديث ابن عبّاس , وفيه ما يشعر بأنّه شاهد ذلك. وفيه. أنّ المرأة إذا أقيم عليها الحدّ تكون قاعدةً , هكذا استدل به الطّحاويّ، وقد تقدّم أنّهم اختلفوا في الحفر للمرجومة (¬2)، فمن يرى أنّه يحفر لها , تكون في الغالب قاعدةً في الحفرة. واختلافهم في إقامة الحدّ عليها قاعدةً أو قائمةً إنّما هو في الجلد، ففي الاستدلال بصورة الجلد على صورة الرّجم. نظر لا يخفى. وفيه قبول شهادة أهل الذّمّة بعضهم على بعض، وزعم ابن العربيّ أنّ معنى قوله في حديث جابر " فدعا بالشّهود " أي: شهود الإسلام ¬

_ (¬1) أخرجها أبو داود في " السنن " (4451) والبيهقي في " الكبرى " (8/ 430) من طريق ابن إسحاق عن الزهري. قال: سمعتُ رجلاً من مزينة يحدّث عن ابن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال: زنى رجلٌ وامرأةٌ من اليهود وقد أُحصنا، حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة. فذكر الحديث. وقد ذكر الشارح بعضَ ألفاظه في أول الشرح. (¬2) تقدّم في شرح حديث قصة ماعز - رضي الله عنه - الماضي.

على اعترافهما، وقوله " فرجمهما بشهادة الشّهود " أي: البيّنة على اعترافهما. وردّ هذا التّأويل: بقوله في نفس الحديث " إنّهم رأوا ذكَرَه في فرجها كالميل في المكحلة " وهو صريح في أنّ الشّهادة بالمشاهدة لا بالاعتراف. وقال القرطبيّ: الجمهور على أنّ الكافر لا تقبل شهادته على مسلم , ولا على كافر لا في حدّ ولا في غيره , ولا فرق بين السّفر والحضر في ذلك، وقَبِلَ شهادتهم جماعةٌ من التّابعين وبعض الفقهاء , إذا لَم يوجد مسلم، واستثنى أحمد: حالة السّفر إذا لَم يوجد مسلم. وأجاب القرطبيّ عن الجمهور عن واقعة اليهود: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - نفّذ عليهم ما علم أنّه حكم التّوراة , وألزمهم العمل به , إظهاراً لتحريفهم كتابهم وتغييرهم حكمه، أو كان ذلك خاصّاً بهذه الواقعة. كذا قال، والثّاني مردود. وقال النّوويّ: الظّاهر أنّه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر فلعل الشّهود كانوا مسلمين , وإلَّا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعيّن أنّهما أقرّا بالزّنا. قلت: لَم يثبت أنّهم كانوا مسلمين، ويحتمل: أن يكون الشّهود أخبروا بذلك , لسؤال بقيّة اليهود لهم , فسمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلامهم , ولَم يحكم فيهم إلَّا مستنداً لِمَا أطلعه الله تعالى , فحكم في ذلك بالوحي , وألزمهم الحجّة بينهم كما قال تعالى {وشهد شاهد من أهلها} وأنّ

شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذكر , فلمّا رفعوا الأمر إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - استعلم القصّة على وجهها , فذكر كل من حضره من الرّواة ما حفظه في ذلك، ولَم يكن مستند حكم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا ما أطلعه الله عليه. واستدل به بعض المالكيّة. على أنّ المجلود يجلد قائماً , إن كان رجلاً والمرأة قاعدةً , لقول ابن عمر: رأيت الرّجل يقيها الحجارة. فدلَّ على أنّه كان قائماً وهي قاعدة. وتعقّب: بأنّه واقعة عين فلا دلالة فيه , على أنّ قيام الرّجل كان بطريق الحكم عليه بذلك. واستُدل به على رجم المحصن. وقد تقدّم البحث فيه مستوفىً. (¬1) وعلى الاقتصار على الرّجم , ولا يضمّ إليه الجلد. وقد تقدّم الخلاف فيه. كذا احتجّ به بعضهم، ولو احتجّ به لعكسه لكان أقرب , لأنّه في حديث البراء عند مسلم " أنّ الزّاني جلد أوّلاً ثمّ رُجم " كما تقدّم (¬2). لكن يمكن الانفصال , بأنّ الجلد الذي وقع له , لَم يكن بحكم حاكم. وفيه أنّ أنكحة الكفّار صحيحة , لأنّ ثبوت الإحصان فرع ثبوت ¬

_ (¬1) في حديث أبي هريرة الماضي. وكذا في زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬2) بلفظ: مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيهودي مُحمَّماً مجلوداً، فدعاهم - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم. الحديث. وفيه: فأمر به فرُجم. الحديث.

صحّة النّكاح. وفيه أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة، وفي أخذه من هذه القصّة بعدٌ. وفيه أنّ اليهود كانوا يَنسُبون إلى التّوراة ما ليس فيها , ولو لَم يكن ممّا أقدموا على تبديله , وإلا لكان في الجواب حيدة عن السّؤال , لأنّه سأل عمّا يجدون في التّوراة , فعدلوا عن ذلك لِمَا يفعلونه , وأوهموا أنّ فعلهم موافق لِمَا في التّوراة , فأكذبهم عبد الله بن سلام. وقد استدل به بعضهم على أنّهم لَم يسقطوا شيئاً من ألفاظها. والاستدلال به لذلك غير واضحٍ , لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة فلا يدلّ على التّعميم. وكذا من استدل به , على أنّ التّوراة التي أحضرت حينئذٍ كانت كلّها صحيحة سالمة من التّبديل , لأنّه يطرقه هذا الاحتمال بعينه , ولا يردّه قوله " آمنت بك وبمن أنزلك " , لأنّ المراد أصل التّوراة. وفيه اكتفاء الحاكم بترجمانٍ واحد موثوق به. واستُدل به على أنّ شرع من قبلنا شرع لنا , إذا ثبت ذلك لنا بدليل قرآن أو حديث صحيح , ما لَم يثبت نسخه بشريعة نبيّنا أو نبيّهم أو شريعتهم، وعلى هذا فيُحمل ما وقع في هذه القصّة , على أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - علم أنّ هذا الحكم لَم ينسخ من التّوراة أصلاً. وفيه من علامات النّبوّة , من جهة أنّه أشار في الحديث إلى حكم التّوراة , وهو أمّيّ لَم يقرأ التّوراة قبل ذلك , فكان الأمر كما أشار إليه.

تكميل: زاد البخاري في آخره , قال ابن عمر: فرُجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد " وله أيضاً " فرُجِما عند البلاط " , والبلاط: وهو بفتح الموحّدة وفتح اللام. ما تفرش به الدّور من حجارة وآجرّ وغير ذلك. والمراد بالبلاط هنا , موضع معروف عند باب المسجد النّبويّ كان مفروشاً بالبلاط. ويؤيّد ذلك قوله في هذا المتن " فرُجِما عند البلاط ". وقيل: المراد بالبلاط الأرض الصّلبة. سواء كانت مفروشة أم لا. ورجّحه بعضهم. والرّاجح خلافه. قال أبو عبيد البكريّ: البلاط بالمدينة ما بين المسجد والسّوق. وحكى ابن بطّال عن ابن حبيب. أنّ مصلَّى الجنائز بالمدينة , كان لاصقاً بمسجد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ناحية جهة المشرق. انتهى. فإن ثبت ما قال , وإلاّ فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المُصلَّى المتّخذ للعيدين والاستسقاء , لأنّه لَم يكن عند المسجد النّبويّ مكان يتهيّأ فيه الرّجم، وتقدّم في قصّة ماعز " فرجمناه بالمُصلَّى ". (¬1) ودلَّ حديث ابن عمر المذكور , على أنّه كان للجنائز مكان معدّ للصّلاة عليها , فقد يستفاد منه أنّ ما وقع من الصّلاة على بعض الجنائز في المسجد , كان لأمرٍ عارض أو لبيان الجواز. وفي " الموطّأ " عن عمّه أبي سهيل بن مالك بن أبي عامر عن أبيه: ¬

_ (¬1) تقدم في الحديث الماضي

كنّا نسمع قراءة عمر بن الخطّاب , ونحن عند دار أبي جهم بالبلاط. وقد استشكل ابن بطّال ترجمة البخاري " الرجم في البلاط " فقال: البلاط وغيره في ذلك سواء. وأجاب ابن المنير: بأنّه أراد أن ينبّه على أنّ الرّجم لا يختصّ بمكانٍ معيّن للأمر بالرّجم بالمُصلَّى تارة وبالبلاط أخرى. قال: ويحتمل أنّه أراد أن ينبّه على أنّه لا يشترط الحفر للمرجوم , لأنّ البلاط لا يتأتّى الحفر فيه. وبهذا جزم ابن القيّم , وقال: أراد ردّ رواية بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر , فحُفرتْ لماعز بن مالك حفرة فرجم فيها. أخرجه مسلم. قال: هو وهمٌ سرى من قصّة الغامديّة إلى قصّة ماعز. قلت: ويحتمل. أن يكون أراد أن ينبّه على أنّ المكان الذي يجاور المسجد لا يعطى حكم المسجد في الاحترام , لأنّ البلاط المشار إليه موضع كان مجاوراً للمسجد النّبويّ كما تقدّم. ومع ذلك أمر بالرّجم عنده، وقد وقع في حديث ابن عبّاس عند أحمد والحاكم: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم اليهوديّين عند باب المسجد.

الحديث السادس

الحديث السادس 355 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أنّ رجلاً , أو قال امرءاً اطّلع عليك بغير إذنك فخذَفْتَه بحصاةٍ، ففقأت عينه، ما كان عليك جناحٌ. (¬1) قوله: (لو أنّ رجلاً , أو قال: امرءاً اطّلع) في رواية شعيب عن أبي الزناد عند البخاري " لو اطّلع في بيتك أحدٌ " الفاعل مؤخّر. وهو أحدٌ. قوله: (بغير إذنك) احتراز ممّن اطّلع بإذنٍ. وفي رواية شعيب " ولَم تأذن له ". قوله: (فخذفته) بالحاء المهملة , وكذا في رواية شعيب عند أبي ذرّ والقابسيّ وعند غيرهما , بالخاء المعجمة , وهو أوجه , لأنّ الرّمي بحصاةٍ أو نواة ونحوهما , إمّا بين الإبهام والسّبّابة , وإمّا بين السّبّابتين. وجزم النّوويّ , بأنّه في مُسلم بالمعجمة. وقال القرطبيّ: الرّواية بالمهملة خطأ , لأنّ في نفس الخبر أنّه الرّمي بالحصى وهو بالمعجمة جزماً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6493) من طريق شعيب. والبخاري أيضاً (6506) ومسلم (2158) من طريق سفيان بن عيينة كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ولمسلم (2158) عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رفعه نحوه.

قلت: ولا مانع من استعمال المهملة في ذلك مجازاً. قوله: (ففقأتَ عينه) بقافٍ ثمّ همزة ساكنة. أي: شققت عينه، قال ابن القطّاع: فقأ عينه أطفأ ضوأها. قوله: (جناح) أي: إثم أو مؤاخذة. والمراد بالجناح هنا الحرج. وقد أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ " ما كان عليك من حرج " , ومن طريق ابن عجلان عن أبيه عن الزّهريّ عن أبي هريرة " ما كان عليك من ذلك من شيء ". ووقع عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ " من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم , فقد حلَّ لهم أن يفقئوا عينه " أخرجه من رواية أبي صالح عنه. وفيه ردٌّ على من حمل الجناح هنا على الإثم، ورتّب على ذلك وجوب الدّية , إذ لا يلزم من رفع الإثم رفعها , لأنّ وجوب الدّية من خطاب الوضع. ووجه الدّلالة. أنّ إثبات الحلّ يمنع ثبوت القصاص والدّية. وورد من وجه آخر عن أبي هريرة أصرح من هذا , عند أحمد وابن أبي عاصم والنّسائيّ وصحّحه ابن حبّان والبيهقيّ كلّهم من رواية بشير بن نهيك عنه بلفظ " من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم , ففقئوا عينه , فلا دية ولا قصاص " وفي رواية من هذا الوجه " فهو هدر ". واستُدل به. وهو القول الأول. على جواز رمي من يتجسّس , ولو لَم يندفع

بالشّيء الخفيف جاز بالثّقيل، وأنّه إن أصيبت نفسه أو بعضه فهو هدر. القول الثاني: ذهب المالكيّة إلى القصاص , وأنّه لا يجوز قصد العين ولا غيرها، واعتلُّوا: بأنّ المعصية لا تدفع بالمعصية. وأجاب الجمهور: بأنّ المأذون فيه إذا ثبت الإذن لا يسمّى معصية , وإن كان الفعل لو تجرّد عن هذا السّبب يعدّ معصيةً. وقد اتّفقوا على جواز دفع الصّائل ولو أتى على نفس المدفوع، وهو بغير السّبب المذكور معصية فهذا ملحق به مع ثبوت النّصّ فيه. وأجابوا عن الحديث: بأنّه ورد على سبيل التّغليظ والإرهاب، ووافق الجمهورَ منهم ابنُ نافع. وقال يحيى بن عمر منهم: لعل مالكاً لَم يبلغه الخبر. وقال القرطبيّ في " المفهم ": ما كان - صلى الله عليه وسلم - بالذي يهمّ أن يفعل ما لا يجوز أو يؤدّي إلى ما لا يجوز (¬1)، والحمل على رفع الإثم لا يتمّ مع وجود النّصّ برفع الحرج , وليس مع النّصّ قياس. واعتلَّ بعض المالكيّة أيضاً بالإجماع على أنّ من قصد النّظر إلى عورة الآخر ظاهر أنّ ذلك لا يبيح فقء عينه , ولا سقوط ضمانها عمّن فقأها , فكذا إذا كان المنظور في بيته وتجسّس النّاظر إلى ذلك. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (5887) ومسلم (2156) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - , أنَّ رجلاً اطلع في جُحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لو أعلم أنك تنتظرني، لطعنت به في عينيك. إنما جعل الإذن من قِبَل البصر.

ونازع القرطبيّ في ثبوت هذا الإجماع , وقال: إنّ الخبر يتناول كلّ مطّلع. قال: وإذا تناول المطّلع في البيت مع المظنّة فتناوله المحقّق أولى. قلت: وفيه نظرٌ. لأنّ التّطلع إلى ما في داخل البيت لَم ينحصر في النّظر إلى شيء معيّن , كعورة الرّجل مثلاً , بل يشمل استكشاف الحريم , وما يقصد صاحب البيت ستره من الأمور التي لا يجب اطّلاع كلّ أحد عليها، ومن ثَمّ ثبت النّهي عن التّجسس والوعيد عليه حسماً لموادّ ذلك. فلو ثبت الإجماع المدّعى لَم يستلزم ردّ هذا الحكم الخاصّ، ومن المعلوم أنّ العاقل يشتدّ عليه أنّ الأجنبيّ يرى وجه زوجته وابنته ونحو ذلك , وكذا في حال ملاعبته أهله أشدّ ممّا رأى الأجنبيّ ذكره منكشفاً. والذي ألزمه القرطبيّ صحيحٌ في حقّ من يروم النّظر فيدفعه المنظور إليه. وفي وجه للشّافعيّة. لا يشرع في هذه الصّورة. وهل يشترط الإنذار قبل الرّمي؟ وجهان، قيل: يشترط كدفع الصّائل، وأصحّهما: لا , لقوله في الحديث " يختله بذلك " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6900) ومسلم (2157) من حديث أنس - رضي الله عنه - , أنَّ رجلاً اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام إليه بمشقص أو مشاقص، فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختله ليطعنه.

وفي حكم المتطلع من خلل الباب , النّاظر من كوّة من الدّار , وكذا من وقف في الشّارع فنظر إلى حريم غيره , أو إلى شيء في دار غيره. وقيل: المنع مختصّ بمن كان في ملك المنظور إليه. وهل يلحق الاستماع بالنّظر؟. وجهان، الأصحّ. لا، لأنّ النّظر إلى العورة أشدّ من استماع ذكرها، وشرط القياس المساواة أو أولويّة المقيس. وهنا بالعكس. واستدل به على اعتبار قدر ما يُرمى به , بحصى الخذف , لقوله في حديث الباب " فخذفته " فلو رماه بحجرٍ يقتل أو سهم تعلق به القصاص. وفي وجه. لا ضمان مطلقاً , ولو لَم يندفع إلَّا بذلك جاز. ويُستثنى من ذلك , من له في تلك الدّار زوج أو محرم أو متاع , فأراد الاطّلاع عليه فيمتنع رميه للشّبهة. وقيل: لا فرق، وقيل: يجوز إن لَم يكن في الدّار غير حريمه , فإن كان فيها غيرهم أُنذر فإن انتهى وإلَّا جاز. ولو لَم يكن في الدّار إلَّا رجل واحد , هو مالكها أو ساكنها , لَم يجز الرّمي قبل الإنذار إلَّا إن كان مكشوف العورة. وقيل: يجوز مطلقاً , لأنّ من الأحوال ما يكره الاطّلاع عليه كما تقدّم. ولو قصّر صاحب الدّار , بأن ترك الباب مفتوحاً , وكان النّاظر مجتازاً , فنظر غير قاصد لَم يجز، فإن تعمّد النّظر , فوجهان. أصحّهما.

لا. ويلتحق بهذا من نظَرَ من سطح بيته ففيه الخلاف. وقد توسّع أصحاب الفروع في نظائر ذلك. قال ابن دقيق العيد: وبعض تصرّفاتهم مأخوذة من إطلاق الخبر الوارد في ذلك، وبعضها من مقتضى فهم المقصود، وبعضها بالقياس على ذلك، والله أعلم. تكميل: بوّب عليه البخاري " من أخذ حقّه أو اقتصّ دون السلطان " أي: من أخذ حقّه من غريمه , بغير حكم حاكم , أو اقتصّ إذا وجب له على أحد قصاص , في نفس أو طرف , هل يشترط أن يرفع أمره إلى الحاكم , أو يجوز أن يستوفيه دون الحاكم , وهو المراد بالسّلطان في التّرجمة؟. قال ابن بطّال: اتّفق أئمّة الفتوى. على أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يقتصّ من حقّه دون السّلطان. قال: وإنّما اختلفوا , فيمن أقام الحدّ على عبده كما تقدّم تفصيله قال: وأمّا أخذ الحقّ , فإنّه يجوز عندهم أن يأخذ حقّه من المال خاصّة , إذا جحده إيّاه ولا بيّنة عليه كما تقدّم (¬1). ثمّ أجاب عن حديث الباب: بأنّه خرج على التّغليظ والزّجر عن الاطّلاع على عورات النّاس. انتهى. ¬

_ (¬1) وهي مسألة الظفر المشهورة , وقد تقدّم الكلام عليها , ونقل مذاهب أهل العلم بالتفصيل.

قلت: فأمّا من نقل الاتّفاق , فكأنّه استند فيه. إلى ما أخرجه إسماعيل القاضي في " نسخة أبي الزّناد " عن الفقهاء الذين ينتهي إلى قولهم , ومنه: لا ينبغي لأحدٍ أن يقيم شيئاً من الحدود دون السّلطان، إلَّا أنّ للرّجل أن يقيم حدّ الزّنا على عبده. وهذا إنّما هو اتّفاق أهل المدينة في زمن أبي الزّناد. وأمّا الجواب: فإن أراد أنّه لا يعمل بظاهر الخبر , فهو محلّ النّزاع.

باب حد السرقة

باب حد السرقة قال الله تعالى: (والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما) كذا أطلق في الآية اليد , وأجمعوا على أنّ المراد اليمنى إن كانت موجودةً. واختلفوا. فيما لو قطعت الشّمال عمداً أو خطأً , هل يجزئ؟. وقدّم السّارق على السّارقة، وقدّمت الزّانية على الزّاني , لوجود السّرقة غالباً في الذّكوريّة , ولأنّ داعية الزّنا في الإناث أكثر، ولأنّ الأنثى سببٌ في وقوع الزّنا , إذ لا يتأتّى غالباً إلَّا بطواعيتها. وقوله: بصيغة الجمع ثمّ التّثنية، إشارة إلى أنّ المراد جنس السّارق , فلُوحظ فيه المعنى فجمع، والتّثنية بالنّظر , إلى الجنسين المتلفّظ بهما. والسّرقة. بفتح السّين وكسر الرّاء , ويجوز إسكانها , ويجوز كسر أوّله وسكون ثانيه: الأخذ خفيةً. وعرّفت في الشّرع بأخذ شيءٍ خفيةً ليس للآخذ أخذه، ومن اشترط الحِرز , وهم الجمهور , زاد فيه من حرز مثله. قال ابن بطّال: الحِرز مستفادٌ من معنى السّرقة يعني في اللغة، ويقال لسارق الإبل: الخارب بخاءٍ معجمةٍ، وللسّارق في المكيال , مطفّفٌ , وللسّارق في الميزان: مخسرٌ، في أشياء أخرى. ذكرها ابن خالويه في " كتاب ليس ". قال المازريّ ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها , وخصّ السّرقة لقلة ما عداها بالنّسبة إليها من الانتهاب والغصب , ولسهولة إقامة البيّنة على ما عدا السّرقة بخلافها , وشدّد العقوبة فيها

, ليكون أبلغ في الزّجر , ولَم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حمايةً لليد، ثمّ لَمَّا خانت هانت. وفي ذلك إشارة إلى الشّبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعرّيّ. في قوله: يدٌ بِخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قُطعت في ربع دينار؟ فأجابه القاسم عبد الوهّاب المالكيّ بقوله: صيانة العضو أغلاها وأرخصها ... صيانة المال فافهم حكمة الباري وشرْح ذلك. أنّ الدّية لو كانت ربع دينارٍ لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينارٍ لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطّرفين. وقد عسر فهم المعنى المقدّم ذكره في الفرق بين السّرقة وبين النّهب ونحوه. على بعض منكري القياس. فقال: القطع في السّرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى، فإنّ الغصب أكثر هتكاً للحرمة من السّرقة، فدلَّ على عدم اعتبار القياس , لأنّه إذا لَم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي. وجوابه: أنّ الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها.

الحديث السابع

الحديث السابع 356 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قطع في مِجنٍّ قيمته. وفي لفظ: ثمنه ثلاثة دراهم. (¬1) قوله: (أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قطع) معناه أمر , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يكن يباشر القطع بنفسه. وسيأتي أنّ بلالاً هو الذي باشر قطع يد المخزوميّة (¬2). فيحتمل: أن يكون هو الذي كان موكلاً بذلك , ويحتمل: غيره. وقد اختلف في حقيقة اليد. فقيل: أوّلها من المنكب؛ وقيل: من المرفق. وقيل: من الكوع، وقيل: من أصول الأصابع. فحجّة الأوّل: أنّ العرب تطلق الأيدي على ذلك، ومن الثّاني آية الوضوء ففيها {وأيديكم إلى المرافق} ومن الثّالث آية التّيمّم، ففي القرآن {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وبيّنت السّنّة كما تقدّم في بابه (¬3) أنّه - صلى الله عليه وسلم - مسح على كفّيه فقط. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6411 , 6412 , 6413) ومسلم (1686) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. تنبيه: لفظ " قيمته " عند مسلم من طريق مالك عن نافع. وأردها البخاري عن الليث بن سعد معلّقاً. ووصلها مسلم. (¬2) حديث قصة المخزوميّة سيأتي بعد حديث في العمدة. (¬3) تقدّم الكلام عليه مستوفى في باب التيمم.

وأخذ بظاهر الأوّل , بعض الخوارج , ونقل عن سعيد بن المسيّب , واستنكره جماعةٌ. والثّاني: لا نعلم مَن قال به في السّرقة. والثّالث: قول الجمهور , ونقل بعضهم فيه الإجماع. والرّابع: نقل عن عليٍّ , واستحسنه أبو ثور. ورُدّ بأنّه لا يسمّى مقطوع اليد , لغةً ولا عرفًا , بل مقطوع الأصابع. وبحسب هذا الاختلاف , وقع الخلف في محل القطع. فقال بالأوّل الخوارج. وهم محجوجون بإجماع السّلف على خلاف قولهم. وألزم ابنُ حزمٍ الحنفيّةَ , بأن يقولوا بالقطع من المرفق , قياسًا على الوضوء , وكذا التّيمّم عندهم. قال: وهو أولى من قياسهم قدر المهر على نصاب السّرقة. ونقله عياض قولاً شاذًّاً. وحجّة الجمهور: الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الاسم , لأنّ اليد قبل السّرقة كانت محترمة , فلمّا جاء النّصّ بقطع اليد , وكانت تطلق على هذه المعاني , وجب أن لا يترك المتيقّن - وهو تحريمها - إلَّا بمتيقّنٍ وهو القطع من الكفّ. وأمّا الأثر عن عليّ , فأخرجه الدّارقطنيّ من طريق حجيّة بن عديّ , أنّ عليًّا قطع من المفصل.

وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل رجاء بن حيوة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قطع من المفصل. وأورده أبو الشّيخ في كتاب " حدّ السّرقة " من وجه آخر عن رجاء عن عديّ رفعه مثله، ومن طريق وكيع عن سفيان عن أبي الزّبير عن جابر رفعه مثله. وأخرج سعيد بن منصور عن حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار قال: كان عمر يقطع من المفصل , وعليّ يقطع من مشط القدم " وأخرج ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي حيوة , أنّ عليًّا قطعه من المفصل. وجاء عن عليّ , أنّه قطع اليد من الأصابع , والرّجل من مشط القدم. أخرجه عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة عنه , وهو منقطع , وإن كان رجال السّند من رجال الصّحيح، وقد أخرج عبد الرّزّاق من وجه آخر , أنّ عليًّا كان يقطع الرّجل من الكعب. وذكر الشّافعيّ في كتاب " اختلاف عليّ وابن مسعود " , أنّ عليًّا كان يقطع من يد السّارق الخنصر والبنصر والوسطى خاصّة , ويقول: أستحيي من الله أن أتركه بلا عملٍ. وهذا يحتمل: أن يكون بقي الإبهام والسّبّابة , وقطع الكفّ والأصابع الثّلاثة. ويحتمل: أن يكون بقي الكفّ أيضًا. والأوّل أليق , لأنّه موافق لِما نقل البخاريّ , أنّه قطع من الكفّ، وقد وقع في بعض النّسخ بحذف " من " بلفظ " وقطع عليٌّ الكفّ ". والأصل أنّ أوّل شيء يقطع من السّارق اليد اليمنى , وهو قول

الجمهور، وقد قرأ ابن مسعود {فاقطعوا أيمانهما}. وأخرج سعيد بن منصور بسندٍ صحيحٍ عن إبراهيم , قال: هي قراءتنا. يعني أصحاب ابن مسعود. ونقل فيه عياض. الإجماع , وتُعقّب. نعم. قد شذّ مَن قال: إذا قطع الشّمال , أجزأت مطلقًا , كما هو ظاهر النّقل عن قتادة , فقد أخرج عبد الرّزّاق عن معمر عنه , أنّه سُئل عن سارق قُدّم ليقطع فقدّم شماله , فقطعت؟ فقال: لا يزاد على ذلك , قد أقيم عليه الحدّ. وقال مالكٌ: إن كان عمدًا وجب القصاص على القاطع ووجب قطع اليمين، وإن كان خطأً وجبت الدّية , ويجزئ عن السّارق، وكذا قال أبو حنيفة. وعن الشّافعيّ وأحمد قولان في السّارق. قوله: (في مِجنٍّ) المجنّ بكسر الميم وفتح الجيم , مفعل من الاجتنان , وهو الاستتار ممّا يحاذره المستتر , وكسرت ميمه , لأنّه آلة في ذلك. ولأبي داود من رواية ابن جريجٍ أخبرني إسماعيل بن أُميَّة عن نافع. ولفظه " أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قطع يد رجل , سرق ترسًا من صفّة (¬1) النّساء , ثمنه ثلاثة دراهم ". ¬

_ (¬1) وقع في مطبوع الفتح (صيغة) وهو خطأ , والصواب ما أثبتّه , وهو الموافق لروايات الحديث عند أبي داود والنسائي وأحمد والبيهقي وغيرهم.

وللبخاري من طريق عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة , أنّ يد السّارق , لَم تقطع على عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , إلَّا في ثمن مجنٍّ حجفةٍ أو ترسٍ. ووقع عند الإسماعيليّ من طريق هارون بن إسحاق عن عبدة بن سليمان , فيه زيادة قصّة في السّند. ولفظه عن هشام بن عروة , أنّ رجلاً سرق قدحًا , فأتي به عمر بن عبد العزيز , فقال هشام بن عروة قال أَبِي: إنّ اليد لا تقطع في الشّيء التّافه. ثمّ قال: حدّثتني عائشة. وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن عبدة بن سليمان، وهكذا رواه وكيع وغيره عن هشام , لكن أرسله كلّه. فأخرجه ابن أبي شيبة في " مصنّفه " عن وكيع. ولفظه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان السّارق في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , يقطع في ثمن المجنّ , وكان المجنّ يومئذٍ له ثمن , ولَم يكن يقطع في الشّيء التّافه. والحَجَفة بفتح المهملة والجيم ثمّ فاء , هي الدّرقة , وقد تكون من خشب أو عظم , وتغلف بالجلد أو غيره، والتّرس مثله , لكن يطارق فيه بين جلدين , وقيل: هما بمعنىً واحد. وعلى الأوّل " أو " في الخبر للشّكّ , وهو المعتمد. ويؤيّده رواية عبد الله بن المبارك عن هشام في البخاري بلفظ " في أدنى ثمن حجفة , أو ترس , كلّ واحد منهما ذو ثمن ". والتّنوين في قوله " ثمن " للتّكثير , والمراد أنّه ثمن يرغب فيه، فأخرج الشّيء التّافه كما فهمه عروة راوي الخبر.

وليس المراد ترسًا بعينه , ولا حجفة بعينها , وإنّما المراد الجنس , وأنّ القطع كان يقع في كلّ شيء يبلغ قدر ثمن المجنّ , سواء كان ثمن المجنّ كثيرًا أو قليلاً، والاعتماد إنّما هو على الأقلّ , فيكون نصابًا , ولا يقطع فيما دونه. قوله: (قيمته. وفي لفظ: ثمنه) قيمة الشّيء ما تنتهي إليه الرّغبة فيه، وأصله قومةٌ فأبدلت الواو ياءً لوقوعها بعد كسرةٍ، والثّمن ما يقابل به المبيع عند البيع. والذي يظهر أنّ المراد هنا القيمة , وأنّ من رواه بلفظ " الثّمن " إمّا تجوّزاً , وإمّا أنّ القيمة والثّمن كانا حينئذٍ مستويين. قال ابن دقيق العيد: القيمة والثّمن قد يختلفان. والمعتبر إنّما هو القيمة، ولعل التّعبير بالثّمن لكونه صادف القيمة في ذلك الوقت في ظنّ الرّاوي أو باعتبار الغلبة. وقد تمسّك مالك. بحديث ابن عمر , في اعتبار النّصاب بالفضّة. وأجاب الشّافعيّة وسائر من خالفه: بأنّه ليس في طرقه أنّه لا يقطع في أقل من ذلك. وأورد الطّحاويّ حديث سعدٍ الذي أخرجه مالك (¬1) أيضاً , وسنده ضعيف , ولفظه " لا يقطع السّارق إلَّا في المجنّ ". ¬

_ (¬1) في مطبوع الفتح " ابن مالك " ولعل الصواب بحذف ابن. فقد أخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا قطع في ثمر معلق , ولا في حريسة جبل , فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن.

قال: فعلِمْنا أنّه لا يقطع في أقل من ثمن المجنّ، ولكن اختلف في ثمن المجنّ، ثمّ ساق حديث ابن عبّاس. قال: كان قيمة المجنّ الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , عشرة دراهم. قال: فالاحتياط أن لا يقطع إلَّا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها , لوجود الاختلاف فيه. وتُعقّب: بأنّه لو سلم في الدّراهم , لَم يسلم في النّصّ الصّريح في ربع دينار. كما سيأتي إيضاحه، ودفع ما أعلَّه به. والجمع بين ما اختلفت الرّوايات في ثمن المجنّ ممكن , بالحمل على اختلاف الثّمن والقيمة , أو على تعدّد المجانّ التي قطع فيها , وهو أولى. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله " قطع في مجنّ " على اعتبار النّصاب ضعيف , لأنّه حكاية فعل , ولا يلزم من القطع في هذا المقدار عدم القطع فيما دونه , بخلاف قوله " يقطع في ربع دينار فصاعداً " (¬1) , فإنّه بمنطوقه يدلّ على أنّه يقطع فيما إذا بلغه , وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه على أنّه لا قطع فيما دون ذلك. قال: واعتماد الشّافعيّ على حديث عائشة , وهو قول أقوى في الاستدلال من الفعل المجرّد، وهو قويّ في الدّلالة على الحنفيّة , لأنّه صريح في القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدلّ على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأمّا دلالته على عدم ¬

_ (¬1) يعني حديث عائشة الآتي في العمدة.

القطع في دون ربع دينار , فليس هو من حيث منطوقه , بل من حيث مفهومه , فلا يكون حجّة على من لا يقول بالمفهوم. قلت: وقرّر الباجيّ طريق الأخذ بالمفهوم هنا فقال: دلَّ التّقويم على أنّ القطع يتعلق بقدرٍ معلوم , وإلَّا فلا يكون لذكره فائدة، وحينئذٍ فالمعتمد ما ورد به النّصّ صريحاً مرفوعاً في اعتبار ربع دينار. وقد خالف من المالكيّة في ذلك من القدماء , ابن عبد الحكم , وممّن بعدهم ابن العربيّ , فقال: ذهب سفيان الثّوريّ مع جلالته في الحديث , إلى أنّ القطع لا يكون إلَّا في عشرة دراهم. وحجّته أنّ اليد محترمة بالإجماع , فلا تستباح إلَّا بما أجمع عليه , والعشرة متّفق على القطع فيها عند الجميع , فيتمسّك به ما لَم يقع الاتّفاق على ما دون ذلك. وتعقّب: بأنّ الآية دلَّت على القطع في كلّ قليل وكثير، وإذا اختلفت الرّوايات في النّصاب , أخذ بأصحّ ما ورد في الأقلّ، ولَم يصحّ أقلّ من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين: أحدهما: أنّه صريح في الحصر , حيث ورد بلفظ " لا تقطع اليد إلَّا في ربع دينار فصاعداً " وسائر الأخبار الصّحيحة الواردة حكاية فعل , لا عموم فيها. الثّاني: أنّ المعوّل عليه في القيمة الذّهب , لأنّه الأصل في جواهر الأرض كلّها.

ويؤيّده ما نقل الخطّابيّ , استدلالاً على أنّ أصل النّقد في ذلك الزّمان الدّنانير , بأنّ الصّكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل , فعرفت الدّراهم بالدّنانير وحصرت بها. والله أعلم. وحاصل المذاهب في القدر الذي يقطع السّارق فيه يقرب من عشرين مذهباً: الأوّل: يقطع في كلّ قليل وكثير , تافهاً كان أو غير تافه , نقل عن أهل الظّاهر والخوارج , ونقل عن الحسن البصريّ , وبه قال أبو عبد الرّحمن بن بنت الشّافعيّ. الثاني: مقابل هذا القول في الشّذوذ , ما نقله عياض ومن تبعه عن إبراهيم النّخعيّ , أنّ القطع لا يجب إلَّا في أربعين درهماً , أو أربعة دنانير. الثّالث: مثل الأوّل. إلَّا إن كان المسروق شيئاً تافهاً , لحديث عروة الآتي " لَم يكن القطع في شيء من التّافه , ولأنّ عثمان قطع في فخّارة خسيسة , وقال لمن يسرق السّياط: لئن عدتم لأقطعنّ فيه. وقطع ابن الزّبير في نعلين. أخرجهما ابن أبي شيبة , وعن عمر بن عبد العزيز , أنّه قطع في مدٍّ أو مُدّين. الرّابع: تقطع في درهم فصاعداً , وهو قول عثمان البتّيّ , بفتح الموحّدة وتشديد المثنّاة من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة. ونسبه القرطبيّ إلى عثمان فأطلق , ظنّاً منه أنّه الخليفة , وليس

كذلك. الخامس: في درهمين , وهو قول الحسن البصريّ , جزم به ابن المنذر عنه. السّادس: فيما زاد على درهمين , ولو لَم يبلغ الثّلاثة , أخرجه ابن أبي شيبة بسندٍ قويّ عن أنس , أنّ أبا بكر قطع في شيء , ما يساوي درهمين. وفي لفظ: لا يساوي ثلاثة دراهم. السّابع: في ثلاثة دراهم , ويقوّم ما عداها بها , ولو كان ذهباً. وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطّابيّ. عن مالك. الثّامن: مثله. لكن إن كان المسروق ذهباً فنصابه ربع دينار , وإن كان غيرهما فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم , قطع به , وإن لَم تبلغ , لَم يقطع , ولو كان نصف دينار. وهذا قول مالك المعروف عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد. واحتجّ له بما أخرجه أحمد من طريق محمّد بن راشد عن يحيى بن يحيى الغسّانيّ عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة مرفوعاً: اقطعوا في ربع دينار , ولا تقطعوا في أدنى من ذلك. قالت: وكان ربع الدّينار قيمته يومئذٍ ثلاثة دراهم. والمرفوع من هذه الرّواية نصٌّ في أنّ المعتمد والمعتبر في ذلك الذّهب، والموقوف منه , يقتضي أنّ الذّهب يقوّم بالفضّة، وهذا يمكن تأويله فلا يرتفع به النّصّ الصّريح. التّاسع: مثله. إلَّا إن كان المسروق غيرهما , قطع به إذا بلغت قيمته

أحدهما، وهو المشهور عن أحمد , ورواية عن إسحاق. العاشر: مثله. لكن لا يكتفى بأحدهما إلَّا إذا كانا غالبين. فإن كان أحدهما غالباً فهو المعوّل عليه، وهو قول جماعة من المالكيّة. وهو الحادي عشر. الثّاني عشر: ربع دينار أو ما يبلغ قيمته من فضّة أو عرض، وهو مذهب الشّافعيّ , وقد تقدّم تقريره. وهو قول عائشة وعمرة وأبي بكر بن حزم وعمر بن عبد العزيز والأوزاعيّ والليث ورواية عن إسحاق وعن داود. ونقله الخطّابيّ وغيره عن عمر وعثمان وعليّ، وقد أخرجه ابن المنذر عن عمر بسندٍ منقطع , أنّه قال: إذا أخذ السّارق ربع دينار قطع. ومن طريق عمرة: أتي عثمان بسارقٍ سرق أترجّة , قوّمت بثلاثة دراهم من حساب الدّينار باثني عشر , فقطع. ومن طريق جعفر بن محمّد عن أبيه , أنّ عليّاً قطع في ربع دينار , كانت قيمته درهمين ونصفاً. الثّالث عشر: أربعة دراهم , نقله عياض عن بعض الصّحابة , ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد. الرّابع عشر: ثلث دينار , حكاه ابن المنذر عن أبي جعفر الباقر. الخامس عشر: خمسة دراهم , وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى من فقهاء الكوفة , ونقل عن الحسن البصريّ وعن سليمان بن يسار. أخرجه النّسائيّ.

وجاء عن عمر بن الخطّاب: لا تقطع الخَمْس, إلَّا في خمس. أخرجه ابن المنذر من طريق منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيّب عنه. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله , ونقله أبو زيد الدّبوسيّ عن مالك. وشذَّ بذلك. السّادس عشر: عشرة دراهم , أو ما بلغ قيمتها من ذهبٍ أو عرض، وهو قول أبي حنيفة والثّوريّ وأصحابهما. السّابع عشر: دينار , أو ما بلغ قيمته من فضّة أو عرض. حكاه ابن حزم عن طائفة، وجزم ابن المنذر , بأنّه قول النّخعيّ. الثّامن عشر: دينار , أو عشرة دراهم , أو ما يساوي أحدهما. حكاه ابن حزم أيضاً، وأخرجه ابن المنذر عن عليّ. بسندٍ ضعيف , وعن ابن مسعود. بسندٍ منقطع , قال: وبه قال عطاء. التّاسع عشر: ربع دينار فصاعداً من الذّهب , على ما دلَّ عليه حديث عائشة , ويقطع في القليل والكثير من الفضّة والعروض، وهو قول ابن حزم. ونقل ابن عبد البرّ نحوَه عن داود. واحتجّ: بأنّ التّحديد في الذّهب ثبت صريحاً في حديث عائشة , ولَم يثبت التّحديد صريحاً في غيره , فبقي عموم الآية على حاله , فيقطع فيما قل أو كثر , إلَّا إذا كان الشّيء تافهاً، وهو موافقٌ للشّافعيّ إلَّا في قياس أحد النّقدين على الآخر.

وقد أيّده الشّافعيّ. بأنّ الصّرف يومئذٍ كان موافقاً لذلك، واستدل: بأنّ الدّية على أهل الذّهب ألف دينار , وعلى أهل الفضّة اثنا عشر ألف درهم، وتقدّم في قصّة الأترجّة قريباً ما يؤيّده. ويُخرّج من تفصيل جماعة من المالكيّة , أنّ التّقويم يكون بغالب نقد البلد , إن ذهباً فبالذّهب , وإن فضّة فبالفضّة. تمامُ العشرين مذهباً. وقد ثبت في حديث ابن عمر , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم. وثبت , لا قطع في أقل من ثمن المجنّ , وأقلّ ما ورد في ثمن المجنّ ثلاثة دراهم , وهي موافقة للنّصّ الصّريح في القطع في ربع دينار , وإنّما ترك القول , بأنّ الثّلاثة دراهم نصاب يقطع فيه مطلقاً , لأنّ قيمة الفضّة بالذّهب تختلف , فبقي الاعتبار بالذّهب كما تقدّم. والله أعلم. واستُدل به على وجوب قطع السّارق. ولو لَم يسرق من حرز، وهو قول الظّاهريّة، وأبي عبيد الله البصريّ من المعتزلة. وخالفهم الجمهور فقالوا: العامّ إذا خصّ منه شيء بدليلٍ , بقي ما عداه على عمومه وحجّته , سواء كان لفظه ينبئ عمّا ثبت في ذلك الحكم بعد التّخصيص , أم لا , لأنّ آية السّرقة عامّةٌ في كلّ من سرق , فخصّ الجمهور منها , مَن سرق مِن غير حرز فقالوا: لا يقطع، وليس في الآية ما ينبئ عن اشتراط الحرز. وطرد البصريُّ أصلَه في الاشتراط المذكور , فلم يشترط الحرز ليستمرّ الاحتجاج بالآية.

نعم. وزعم ابن بطّال , أنّ شرط الحرز مأخوذ من معنى السّرقة , فإن صحّ ما قال سقطت حجّة البصريّ أصلاً. واستُدل به على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب , لأنّ آية السّرقة نزلت في سارق رداء صفوان أو سارق المجنّ , وعمل بها الصّحابة في غيرهما من السّارقين. واستدل بإطلاق ربع دينار على أنّ القطع يجب بما صدق عليه ذلك من الذّهب , سواء كان مضروباً أو غير مضروب جيّداً كان أو رديئاً. وقد اختلف فيه التّرجيح عند الشّافعيّة , ونصّ الشّافعيّ في الزّكاة على ذلك. وأطلق في السّرقة , فجزم الشّيخ أبو حامد وأتباعه بالتّعميم هنا. وقال الإصطخريّ: لا يقع إلَّا في المضروب , ورجّحه الرّافعيّ. وقيّد الشّيخ أبو حامد النّقل عن الإصطخريّ , بالقدر الذي ينقص بالطّبع. واستدل بالقطع في المجنّ. على مشروعيّة القطع في كلّ ما يتموّل قياساً. واستثنى الحنفيّة. ما يسرع إليه الفساد , وما أصله الإباحة , كالحجارة واللبن والخشب والملح والتّراب والكلأ والطّير، وفيه رواية عن الحنابلة، والرّاجح عندهم في مثل السّرجين القطع , تفريعاً على جواز بيعه. وفي هذا تفاريع أخرى , محلّ بسطها كتب الفقه. وبالله التّوفيق.

قوله: (ثلاثة دراهم) وللنّسائي من طريق مخلد بن يزيد عن حنظلة عن نافع " قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجنٍّ قيمته خمسة دراهم ". وخالف الجميعَ , فقال " خمسة دراهم " وقول الجماعة " ثلاثة دراهم " , هو المحفوظ.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 357 - عن عائشة رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تقطع اليد، في ربع دينارٍ فصاعداً. (¬1) قوله: (تقطع اليد) في رواية يونس عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عند الشيخين " تقطع يد السّارق ". وفي رواية حرملة عن ابن وهب عن يونس عند مسلم " لا تقطع يد السّارق إلَّا في ربع دينار " وكذا عنده من طريق سليمان بن يسار عن عمرة. وأخرجه النّسائيّ (¬2) من رواية عبد الرّحمن بن أبي الرّجال بن محمّد بن عبد الرّحمن عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعًا , ولفظه " تقطع يد السّارق في ثمن المجنّ , وثمن المجنّ ربع دينار ". وأخرجه من طريق سليمان بن يسار عن عمرة بلفظ: لا تقطع يد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6407) ومسلم (1684) من طرق عن الزهري عن عمرة. زاد يونس: وعروة عن عائشة عنها. وأخرجه مسلم (1684) من طريق سفيان بن عيينة. فخالفهم في لفظه كما سيأتي في الشرح. وأخرجه البخاري (5407) ومسلم (1684) من وجوهٍ أخرى عن عمرة عن عائشة. وأخرجه البخاري (6408 , 6409 , 6410) ومسلم (1684) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لم تُقطع يدُ سارقٍ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المجن , ترس أو حجفة , وكان كل واحدٍ منهما ذا ثمن. (¬2) وأخرجه البخاري في " الصحيح " (6791) من رواية يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن عمرة به مختصراً. بلفظ " تقطع اليد في ربع دينار "

السّارق فيما دون ثمن المجنّ، قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار. قوله: (فصاعدًا) قال صاحب المحكم: يختصّ هذا بالفاء , ويجوز ثمّ بدلها ولا تجوز الواو. وقال ابن جنّيٍّ: هو منصوبٌ على الحال المؤكّدة , أي: ولو زاد , ومن المعلوم أنّه إذا زاد لَم يكن إلَّا صاعدًا. قلت: ووقع في رواية سليمان بن يسار عن عمرة عند مسلم " فما فوقه " بدل " فصاعدًا " وهو بمعناه. ورواه مالك في " الموطّأ " عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة: ما طال عليّ ولا نسيت، القطع في ربع دينارٍ فصاعدًا " - وهو إن لَم يكن رفعه صريحًا - لكنّه في معنى المرفوع، وأخرجه الطّحاويّ من رواية ابن عيينة عن يحيى كذلك، ومن رواية جماعة عن عمرة موقوفًا على عائشة. قال ابن عيينة: ورواية يحيى مشعرةٌ بالرّفع , ورواية الزّهريّ صريحةٌ فيه , وهو أحفظهم. وقد أخرجه مسلم من طريق أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم عن عمرة , مثل رواية سليمان بن يسار عنها , التي أشرت إليها آنفًا. وكذا أخرجه النّسائيّ من طريق ابن الهاد بلفظ " لا تقطع يد السّارق إلَّا في ربع دينار فصاعدًا " وأخرجه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة موقوفًا.

وحاول الطّحاويّ تعليل رواية أبي بكر المرفوعة , برواية ولده الموقوفة , وأبو بكر أتقن وأعلم من ولده، على أنّ الموقوف في مثل هذا لا يخالف المرفوع , لأنّ الموقوف محمول على طريق الفتوى. والعجب. أنّ الطّحاويّ ضعّف عبد الله بن أبي بكر في موضع آخر , ورام هنا تضعيف الطّريق القويمة بروايته. وكأنّ البخاريّ أراد الاستظهار لرواية الزّهريّ عن عمرة , بموافقة محمّد بن عبد الرّحمن الأنصاريّ عنها (¬1) , لِما وقع في رواية ابن عيينة عن الزّهريّ من الاختلاف في لفظ المتن , هل هو من قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أو من فعله. وكذا رواه ابن عيينة عن غير الزّهريّ , فيما أخرجه النّسائيّ عن قتيبة عنه عن يحيى بن سعيد وعبد ربّه بن سعيد وزريق صاحب أيلة , أنّهم سمعوا عمرة عن عائشة , قالت: القطع في ربع دينار فصاعدًا. ثمّ أخرجه النّسائيّ من طرقٍ عن يحيى بن سعيد به مرفوعًا وموقوفًا. وقال: الصّواب ما وقع في رواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة: ما طال عليّ العهد ولا نسيت , القطع في ربع دينار فصاعدًا: وفي هذا إشارة إلى الرّفع. والله أعلم. وقد تعلَّق بذلك بعض من لَم يأخذ بهذا الحديث , فذكره يحيى بن ¬

_ (¬1) أي: أنَّ البخاري روى طريق محمد بن عبد الرحمن عن عمرة عقِب رواية الزهري تقويةً له. انظر تخريج حديث الباب.

يحيى وجماعة عن ابن عيينة بلفظ " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع السّارق في ربع دينار فصاعدًا. (¬1) أورده الشّافعيّ والحميديّ وجماعة عن ابن عيينة بلفظ " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقطع اليد " الحديث. وعلى هذا التّعليل عوّل الطّحاويّ , فأخرج الحديث عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة بلفظ " كان يقطع ". وقال: هذا الحديث لا حجّة فيه , لأنّ عائشة إنّما أخبرت عمّا قطع فيه , فيحتمل أن يكون ذلك لكونها قوّمت ما وقع القطع فيه إذ ذاك , فكان عندها ربع دينار , فقالت: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار. مع احتمال أن تكون القيمة يومئذٍ أكثر. وتعقّب: باستبعاد أن تجزم عائشة بذلك مستندة إلى ظنّها المجرّد، وأيضًا فاختلاف التّقويم , وإن كان ممكنًا , لكن محال في العادة أن يتفاوت هذا التّفاوت الفاحش , بحيث يكون عند قوم أربعة أضعاف قيمته عند آخرين، وإنّما يتفاوت بزيادةٍ قليلة أو نقصٍ قليلٍ , ولا يبلغ المثل غالبًا. وادّعى الطّحاويّ. اضطراب الزّهريّ في هذا الحديث , لاختلاف الرّواة عنه في لفظه. وردّ: بأنّ من شرط الاضطراب أن تتساوى وجوهه , فأمّا إذا رجّح بعضها فلا، ويتعيّن الأخذ بالرّاجح، وهو هنا كذلك , لأنّ ¬

_ (¬1) رواية ابن عيينة. أخرجها مسلم في " صحيحه " (1684) عن يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر عنه.

جُلَّ الرّواة عن الزّهريّ ذكروه عن لفظ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , على تقرير قاعدة شرعيّة في النّصاب , وخالفهم ابن عيينة تارة , ووافقهم تارة , فالأخذ بروايته الموافقة للجماعة أولى. وعلى تقدير أن يكون ابن عيينة اضطرب فيه , فلا يقدح ذلك في رواية من ضبَطَه. وأمّا نقل الطّحاويّ عن المحدّثين , أنّهم يقدّمون ابن عيينة في الزّهريّ على يونس , فليس متّفقًا عليه عندهم , بل أكثرهم على العكس. وممّن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزّهريّ , يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصريّ. وذكر: أنّ يونس صحِب الزّهريّ أربع عشرة سنة , وكان يزامله في السّفر , وينزل عليه الزّهريّ إذا قدم أيلة , وكان يذكر , أنّه كان يسمع الحديث الواحد من الزّهريّ مرارًا، وأمّا ابن عيينة , فإنّما سمع منه سنة ثلاثٍ وعشرين ومائة , ورجع الزّهريّ فمات في التي بعدها. ولو سُلّم أنّ ابن عيينة أرجح في الزّهريّ من يونس , فلا معارضة بين روايتيهما , فتكون عائشة أخبرت بالفعل والقول معًا , وقد وافق الزّهريَّ في الرّواية عن عمرة جماعةٌ كما سبق. وقد وقع الطّحاويّ فيما عابه على من احتجّ بحديث الزّهريّ , مع اضطرابه على رأيه , فاحتجّ بحديث محمّد بن إسحاق عن أيّوب بن موسى عن عطاء عن ابن عبّاس قال: قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً في

مجنّ , قيمته دينار أو عشرة دراهم. أخرجه أبو داود واللفظ له , وأحمد والنّسائيّ والحاكم، ولفظ الطّحاويّ: كان قيمة المجنّ الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. وهو أشدّ في الاضطراب من حديث الزّهريّ. فقيل: عنه هكذا. وقيل: عنه عن عمرو بن شعيب عن عطاء عن ابن عبّاس. وقيل: عنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه , ولفظه " كانت قيمة المجنّ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم ". وقيل: عنه عن عمرو عن عطاء مرسلاً. وقيل: عن عطاء عن أيمن , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجنٍّ , قيمته دينار. كذا قال منصور والحكم بن عتيبة عن عطاء. وقيل: عن منصور عن مجاهد وعطاء جميعًا عن أيمن. وقيل: عن مجاهد عن أيمن بن أمّ أيمن عن أمّ أيمَن قالت: لَم يُقطع في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا في ثمن المجنّ , وثمنه يومئذٍ دينار " أخرجه النّسائيّ، ولفظ الطّحاويّ: لا تقطع يد السّارق إلَّا في حجفة , وقوّمت يومئذٍ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا أو عشرة دراهم. وفي لفظ له " أدنى ما يقطع فيه السّارق ثمن المجنّ، وكان يقوّم يومئذٍ بدينارٍ ". واختلف في لفظه أيضًا على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه. فقال حجّاج بن أرطاة عنه بلفظ " لا قطع فيما دون عشرة دراهم " , وهذه الرّواية لو ثبتت لكانت نصًّا في تحديد النّصاب , إلَّا أنّ حجّاج

بن أرطاة ضعيف ومدلّس , حتّى ولو ثبتت روايته لَم تكن مخالفة لرواية الزّهريّ , بل يجمع بينهما , بأنّه كان أوّلاً لا قطع فيما دون العشرة , ثمّ شرع القطع في الثّلاثة فما فوقها , فزيد في تغليظ الحدّ كما زيد في تغليظ حدّ الخمر كما سيأتي. وأمّا سائر الرّوايات. فليس فيها إلَّا إخبار عن فعلٍ وقع في عهده - صلى الله عليه وسلم - , وليس فيه تحديد النّصاب , فلا ينافي رواية ابن عمر الماضية " أنّه قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم " وهو مع كونه حكاية فعلٍ , فلا يخالف حديث عائشة من رواية الزّهريّ , فإنّ ربع دينار صرفه ثلاثة دراهم. وقد أخرج البيهقيّ من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن يسار عن عمرة قالت: قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار. وأخرج أيضًا من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم قال: أتيت بنبطيٍّ قد سرق , فبعثتُ إلى عمرة فقالت: أي بُنيّ. إن لَم يكن بلغ ما سرق ربع دينار فلا تقطعه , فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدّثتني عائشة أنّه قال: لا قطع إلَّا في ربع دينار فصاعدًا. فهذا يعارض حديث ابن إسحاق الذي اعتمده الطّحاويّ , وهو من رواية ابن إسحاق أيضًا. وجمع البيهقيّ بين ما اختلف في ذلك عن عائشة , بأنّها كانت تحدّث به تارة وتارة تُستفتى فتُفتي، واستند إلى ما أخرجه من طريق عبد الله

بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم عن عمرة , أنّ جارية سرقت، فسئلت عائشة , فقالت: القطع في ربع دينار فصاعدًا. تنبيه: روى النسائي من رواية القاسم بن مبرور عن يونس عن الزهري عن عروة بلفظ " أو نصف دينار فصاعدًا ". وهي رواية شاذّة. تكميل: اختلف السّلف فيمن سرق فقطع , ثمّ سرق ثانيًا. القول الأول: قال الجمهور: تقطع رجله اليسرى، ثمّ إن سرق فاليد اليسرى، ثمّ إن سرق فالرّجل اليمنى. واحتجّ لهم: بآية المحاربة , وبفعل الصّحابة , وبأنّهم فهموا من الآية أنّها في المرّة الواحدة , فإذا عاد السّارق وجب عليه القطع ثانيًا , إلى أن لا يبقى له ما يقطع، ثمّ إن سرق عزّر وسجن. القول الثاني: يقتل في الخامسة , قاله أبو مصعب الزّهريّ المدنيّ صاحب مالك. وحجّته ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ من حديث جابر قال: جيء بسارقٍ إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسولَ الله إنّما سرق، قال: اقطعوه، ثمّ جيء به الثّانية فقال اقتلوه - فذكر مثله إلى أن قال - فأتي به الخامسة فقال: اقتلوه. قال جابرٌ: فانطلقنا به , فقتلناه ورميناه في بئرٍ. قال النّسائيّ: هذا حديث منكر , ومصعب بن ثابت راويه , ليس

بالقويّ. وقد قال بعض أهل العلم , كابن المنكدر والشّافعيّ: إنّ هذا منسوخٌ. وقال بعضهم: هو خاصٌّ بالرّجل المذكور , فكأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على أنّه واجب القتل , ولذلك أمر بقتله من أوّل مرّةٍ. ويحتمل: أنّه كان من المفسدين في الأرض. قلت: وللحديث شاهدٌ من حديث الحارث بن حاطب أخرجه النّسائيّ ولفظه , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتي بلصٍّ فقال: اقتلوه، فقالوا: إنّما سرق. فذكر نحو حديث جابر في قطع أطرافه الأربع , إلَّا أنّه قال في آخره: ثمّ سرق الخامسة في عهد أبي بكرٍ , فقال أبو بكر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثمّ دفعه إلى فتيةٍ من قريشٍ , فقتلوه. قال النّسائيّ: لا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا. قلت: نقل المنذريّ تبعًا لغيره فيه الإجماع، ولعلهم أرادوا أنّه استقرّ على ذلك، وإلا فقد جزم الباجيّ في " اختلاف العلماء " أنّه قول مالك ثمّ قال: وله قول آخر لا يقتل. وقال عياض: لا أعلم أحدًا من أهل العلم قال به , إلَّا ما ذكره أبو مصعب صاحب مالك في مختصره , عن مالك وغيره من أهل المدينة , فقال: ومن سرق ممّن بلغ الحلم قطع يمينه , ثمّ إن عاد فرجله اليسرى , ثمّ إن عاد فيده اليسرى , ثمّ إن عاد فرجله اليمنى , فإن

سرق في الخامسة قُتل كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ’ وعمر بن عبد العزيز. انتهى. القول الثالث: تقطع اليد بعد اليد , ثمّ الرّجل بعد الرّجل , نقل عن أبي بكر وعمر. ولا يصحّ، وأخرج عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن القاسم بن محمّد , أنّ أبا بكر قطع يد سارق في الثّالثة. ومن طريق سالم بن عبد الله , أنّ أبا بكر إنّما قطع رجله , وكان مقطوع اليد. ورجال السّندين ثقات مع انقطاعهما. القول الرابع: تقطع الرّجل اليسرى بعد اليمنى , ثمّ لا قطع , أخرجه عبد الرّزّاق من طريق الشّعبيّ عن عليّ. وسنده ضعيفٌ، ومن طريق أبي الضّحى , أنّ عليًّا نحوه. ورجاله ثقات مع انقطاعه. وبسندٍ صحيح عن إبراهيم النّخعيّ: كانوا يقولون: لا يترك ابن آدم مثل البهيمة , ليس له يدٌ يأكل بها ويستنجي بها. وبسندٍ حسن عن عبد الرّحمن بن عائذ , أنّ عمر. أراد أن يقطع في الثّالثة , فقال له عليٌّ: اضربه واحبسه ففعل. وهذا قول النّخعيّ والشّعبيّ والأوزاعيّ والثّوريّ وأبي حنيفة. القول الخامس: قاله عطاء: لا يقطع شيءٌ من الرّجلين أصلاً على ظاهر الآية , وهو قول الظّاهريّة. قال ابن عبد البرّ: حديث القتل في الخامسة منكر , وقد ثبت " لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاث " وثبت " السّرقة فاحشة وفيها عقوبة " وثبت عن الصّحابة , قطع الرّجل بعد اليد وهم يقرءون

{والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما}. كما اتّفقوا على الجزاء في الصّيد , وإن قتل خطأً , وهم يقرءون {ومن قتله منكم متعمّدًا فجزاء مثل ما قتل من النّعم} , ويمسحون على الخُفّين , وهم يقرءون غسل الرّجلين، وإنّما قالوا جميع ذلك بالسّنّة.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 358 - عن عائشة رضي الله عنها، أنّ قريشاً أهمّهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يُكلِّم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلَّا أسامة بن زيدٍ، حِبّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلَّمه أسامة، فقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحدّ، وايم الله، لو أنّ فاطمة بنت محمدٍ سرقت، لقطعت يدها. (¬1) وفي لفظ: كانت امرأةٌ تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها. (¬2) قوله: (عن عائشة) كذا قال الحفّاظ من أصحاب ابن شهاب عن عروة. وشذّ عمر بن قيس الماصر - بكسر المهملة - فقال: ابن شهاب عن عروة عن أمّ سلمة. فذكر حديث الباب سواء. أخرجه أبو الشّيخ في " كتاب السّرقة " والطّبرانيّ , وقال: تفرّد به عمر بن قيس، يعني من حديث أمّ سلمة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2505 , 3288، 3526، 4053، 6405، 6406، 6415) ومسلم (1688) من طريق يونس والليث عن الزهري عن عروة عن عائشة. (¬2) أخرجه مسلم (1688) من طريق معمر عن الزهري به.

قال الدّارقطنيّ في " العلل ": الصّواب رواية الجماعة. قوله: (أنّ قريشًا) أي: القبيلة المشهورة، والمراد بهم هنا من أدرك القصّة التي تذكر بمكّة. وهم ولد النّضر بن كناية، وبذلك جزم أبو عبيدة , أخرجه ابن سعد عن أبي بكر بن الجهم. وروى عن هشام بن الكبليّ عن أبيه: كان سكّان مكّة يزعمون أنّهم قريش دون سائر بني النّضر , حتّى رحلوا إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: من قريش؟ قال: من ولد النّضر بن كنانة. وقيل: إنّ قريشًا هم ولد فهر بن مالك بن النّضر، وهذا قول الأكثر. وبه جزم مصعب , قال: ومن لَم يلده فهر فليس قرشيًّا. وقيل: أوّل من نسب إلى قريش قصيّ بن كلاب، فروى ابن سعد , أنّ عبد الملك بن مروان سأل محمّد بن جبير: متى سُمِّيت قريشٌ قريشاً؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرّقها. فقال: ما سمعتُ بهذا، ولكن سمعتُ , أنّ قصيًّا كان يقال له القرشيّ، ولَم يُسمّ أحدٌ قريشًا قبله. وروى ابن سعد من طريق المقداد: لَمَّا فرغ قصيّ من نفي خزاعة من الحرم , تجمّعت إليه قريش , فسمّيت يومئذٍ قريشًا لحال تجمّعها، والتّقرّش التّجمّع. وقيل: لتلبّسهم بالتّجارة , وقيل: غير ذلك. قوله: (أهمّهم شأن) أي: أجلبت إليهم همًّا , أو صيّرتهم ذوي همٍّ بسبب ما وقع منها، يقال: أهمّني الأمر. أي: أقلقني.

وفي الصحيحين من رواية قتيبة عن الليث عن ابن شهاب " أهمّهم شأن المرأة ". أي: أمرها المتعلق بالسّرقة. وقد وقع في رواية مسعود بن الأسود الآتي التّنبيه عليها " لَمَّا سرقت تلك المرأة , أعظمنا ذلك , فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ومسعود المذكور من بطن آخر من قريش، وهو من بني عديّ بن كعب رهط عمر. وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تقطع يدها , لعلمهم أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يرخّص في الحدود، وكان قطع السّارق معلومًا عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السّارق فاستمرّ الحال فيه. وقد عقد ابن الكلبيّ بابًا لمن قطع في الجاهليّة بسبب السّرقة , فذكر قصّة الذين سرقوا غزال الكعبة , فقُطعوا في عهد عبد المطّلب جدّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وذكر من قطع في السّرقة , عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم. ومقيس بن قيس بن عديّ بن سعد بن سهم وغيرهما , وأنّ عوفًا السّابق لذلك. قوله: (المخزوميّة) نسبة إلى مخزوم بن يقظة. بفتح التّحتانيّة والقاف بعدها ظاءٌ معجمةٌ. مشالةٌ ابن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مرّة الذي نسب إليه بنو عبد مناف. ووقع في رواية إسماعيل بن أُميَّة عن محمّد بن مسلم , وهو الذي عند النّسائيّ " سرقت امرأة من قريش من بني مخزوم ". واسم المرأة على الصّحيح , فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم , وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد

الصّحابيّ الجليل الذي كان زوج أمّ سلمة قبل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قُتل أبوها كافرًا يوم بدر قتله حمزة بن عبد المطّلب، ووهِم من زعم أنّ له صحبةً. وقيل: هي أمّ عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد , وهي بنت عم المذكورة , أخرجه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ قال: أخبرني بشر بن تيم , أنّها أمّ عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وهذا معضلٌ، ووقع مع ذلك في سياقه أنّه قاله عن ظنٍّ وحسبانٍ. وهو غلطٌ ممَن قاله , لأنّ قصّتها مغايرةٌ للقصّة المذكورة في هذا الحديث , كما سأوضّحه. قال ابن عبد البرّ في " الاستيعاب ": فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد , هي التي قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدها , لأنّها سرقت حليًّا , فكلمت قريشٌ أسامة , فشفع فيها , وهو غلامٌ. الحديث. قلت: وقد ساق ذلك ابن سعد في ترجمتها في " الطّبقات " من طريق الأجلح بن عبد الله الكنديّ عن حبيب بن أبي ثابت رفعه , أنّ فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد سرقت حليًّا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فاستشفعوا. الحديث. وأورد عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ في " المبهمات " من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن عمّار الدّهنيّ عن شقيق قال: سرقت فاطمة بنت أبي أسد بنت أخي أبي سلمة، فأشفقت قريش أن يقطعها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. الحديث. والطّريق الأولى أقوى.

ويمكن أن يقال: لا منافاة بين قوله بنت الأسود , وبنت أبي الأسود , لاحتمال أن تكون كنية الأسود أبا الأسود. وأمّا قصّة أمّ عمرٍو. فذكرها ابن سعد أيضًا وابن الكلبيّ " في المثالب " وتبعه الهيثم بن عديّ , فذكروا أنّها خرجت ليلاً , فوقعت بركبٍ نزولٍ , فأخذت عيبةً لهم , فأخذها القوم فأوثقوها، فلمّا أصبحوا , أتوا بها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فعاذت بحقوي أمّ سلمة، فأمر بها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقطعت، وأنشدوا في ذلك شعرًا , قاله خنيس بن يعلى بن أُميَّة. وفي رواية ابن سعد , أنّ ذلك كان في حجّة الوداع. وفي صحيح البخاري , أنّ قصّة فاطمة بنت الأسود كانت عام الفتح (¬1). فظهر تغاير القصّتين , وأنّ بينهما أكثر من سنتين، ويظهر في ذلك خطأ من اقتصر على أنّها أمّ عمرٍو كابن الجوزيّ، ومن ردّدها بين فاطمة وأمّ عمرو كابن طاهر وابن بشكوال ومن تبعهما. فلله الحمد. وقد تقلد ابن حزمٍ ما قاله بشر بن تيم , لكنّه جعل قصّة أمّ عمرو بنت سفيان في جحد العارية. وقصّة فاطمة في السّرقة، وهو غلطٌ أيضًا لوقوع التّصريح في قصّة أمّ عمرو بأنّها سرقت. قوله: (التي سرقت) زاد يونس في روايته " في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2505) عن عائشة , أن امرأة سرقت في غزوة الفتح، فأتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمر بها فقطعت يدها، قالت عائشة: فحسنت توبتها، وتزوَّجت، وكانت تأتي بعدَ ذلك، فأرفع حاجتَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

, في غزوة الفتح " ووقع بيان المسروق في حديث مسعود بن أبي الأسود - المعروف بابن العجماء - فأخرج ابن ماجه , وصحّحه الحاكم من طريق محمّد بن إسحاق عن محمّد بن طلحة بن ركانة عن أمّه عائشة بنت مسعود بن الأسود عن أبيها قال: لَمَّا سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكلمه. وسنده حسنٌ، وقد صرّح فيه ابن إسحاق بالتّحديث في رواية الحاكم، وكذا علَّقه أبو داود. فقال: روى مسعود بن الأسود. وقال التّرمذيّ بعد حديث عائشة المذكور هنا: وفي الباب عن مسعود بن العجماء. انتهى وقد أخرجه أبو الشّيخ في " كتاب السّرقة " من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمّد بن طلحة فقال: عن خالته بنت مسعود بن العجماء عن أبيها. فيحتمل أن يكون محمّد بن طلحة. سمعه من أمّه ومن خالته. ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت , الذي أشرتُ إليه " أنّها سرقت حليًّا ". ويمكن الجمع: بأنّ الحليّ كان في القطيفة , فالذي ذكر القطيفة أراد بما فيها، والذي ذكر الحليّ ذكر المظروف دون الظّرف. ثمّ رجَح عندي , أنّ ذكر الحليّ في قصّة هذه المرأة , وهْمٌ كما سأبيّنه. ووقع في مرسل الحسن بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب , فيما أخرجه

عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ أخبرني عمرو بن دينار , أنّ الحسن أخبره , قال: سرقت امرأة، قال عمرو: وحسبت أنّه قال: من ثياب الكعبة. الحديث، وسنده إلى الحسن صحيحٌ. فإن أمكن الجمع , وإلَّا فالأوّل أقوى. وقد وقع في رواية معمر عن الزّهريّ في هذا الحديث " أنّ المرأة المذكورة كانت تستعير المتاع وتجحده " أخرجه مسلمٌ وأبو داود، وأخرجه النّسائيّ من رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزّهريّ بلفظ " استعارت امرأةٌ على ألسنة ناسٍ يعرفون , وهي لا تعرف , حليًّا فباعته وأخذت ثمنه " الحديث. وقد بيّنه أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام , فيما أخرجه عبد الرّزّاق بسندٍ صحيحٍ إليه , أنّ امرأةً جاءت امرأةً , فقالت: إنّ فلانة تستعيرك حليًّا فأعارتها إيّاه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها فسألتها , فقالت: ما استعرتك شيئًا، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت , فجاءت إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فدعاها فسألها , فقالت: والذي بعثك بالحقّ ما استعرت منها شيئًا , فقال: اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها. فأتوه فأخذوه، وأمر بها فقطعت. الحديث فيحتمل: أن تكون سرقت القطيفة وجحدت الحليّ، وأطلق عليها في جحد الحليّ , في رواية حبيب بن أبي ثابت سرقت مجازًا. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": اختلف على الزّهريّ , فقال الليث ويونس وإسماعيل بن أُميَّة وإسحاق بن راشد " سرقت "

وقال: معمر وشعيب " إنّها استعارت وجحدت ". قال: ورواه سفيان بن عيينة عن أيّوب بن موسى عن الزّهريّ , فاختلف عليه سندًا ومتنًا: فرواه البخاريّ في " الشّهادات " عن عليّ بن المدينيّ عن ابن عيينة قال: ذهبت أسأل الزّهريّ عن حديث المخزوميّة فصاح عليّ، فقلت لسفيان: فلم يحفظه عن أحدٍ قال: وجدت في كتابٍ كتبه أيّوب بن موسى عن الزّهريّ , وقال فيه " إنّها سرقت "، وهكذا قال محمّد بن منصورٍ عن ابن عيينة " إنّها سرقت " أخرجه النّسائيّ عنه، وعن رزق الله بن موسى عن سفيان كذلك , لكن قال: أتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بسارقٍ فقطعه " فذكره مختصرًا، ومثله لأبي يعلى عن محمّد بن عبّاد عن سفيان، وأخرجه أحمد عن سفيان كذلك , لكن في آخره " قال سفيان: لا أدري ما هو ". وأخرجه النّسائيّ أيضًا عن إسحاق بن راهويه عن سفيان عن الزّهريّ بلفظ " كانت مخزوميّة تستعير المتاع وتجحده " الحديث , وقال في آخره: قيل لسفيان: مَن ذكره؟ قال: أيّوب بن موسى. فذكره بسنده المذكور، وأخرجه من طريق ابن أبي زائدة عن ابن عيينة عن الزّهريّ بغير واسطةٍ. وقال فيه: سرقت. قال شيخنا: وابن عيينة لَم يسمعه من الزّهريّ , ولا ممّن سمعه من الزّهريّ , إنّما وجده في كتاب أيّوب بن موسى , ولَم يصرّح بسماعه من أيّوب بن موسى , ولهذا قال في رواية أحمد: لا أدري كيف هو. كما تقدّم.

وجزم جماعة بأنّ معتمرًا تفرّد عن الزّهريّ بقوله " استعارت وجحدت ". وليس كذلك , بل تابعه شعيب كما ذكره شيخنا عند النّسائيّ، ويونس كما أخرجه أبو داود من رواية أبي صالح كاتب الليث عن الليث عنه، وعلَّقه البخاريّ لليث عن يونس , لكن لَم يسق لفظه , وكذا ذكر البيهقيّ. أنّ شبيب بن سعيد رواه عن يونس، وكذلك رواه ابن أخي الزّهريّ عن الزّهريّ , أخرجه ابن أيمن في " مصنّفه " عن إسماعيل القاضي بسنده إليه، وأخرج أصله أبو عوانة في " صحيحه ". والذي اتّضح لي. أنّ الحديثين محفوظان عن الزّهريّ , وأنّه كان يحدّث تارةً بهذا وتارةً بهذا، فحدّث يونس عنه بالحديثين، واقتصرتْ كلّ طائفةٍ من أصحاب الزّهريّ غير يونس على أحد الحديثين. فقد أخرج أبو داود والنّسائيّ وأبو عوانة في " صحيحه " من طريق أيّوب عن نافعٍ عن ابن عمر , أنّ امرأةً مخزوميّةً كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها. وأخرجه النّسائيّ وأبو عوانة أيضًا من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافعٍ بلفظ " استعارت حليًّا " وقد اختلف نَظَر العلماء في ذلك. القول الأول: أخذ بظاهره أحمد في أشهر الرّوايتين عنه وإسحاق , وانتصر له ابن حزم من الظّاهريّة.

القول الثاني: ذهب الجمهور. إلى أنّه لا يقطع في جحد العارية , وهي رواية عن أحمد أيضًا. وأجابوا عن الحديث: بأنّ رواية من روى " سرقت " أرجح، وبالجمع بين الرّوايتين بضربٍ من التّأويل. فأمّا التّرجيح فنقل النّوويّ. أنّ رواية معمر شاذّة , مخالفة لجماهير الرّواة، قال: والشّاذّة لا يُعمل بها. وقال ابن المنذر في الحاشية وتبعه المحبّ الطّبريّ: قيل: إنّ معمرًا انفرد بها. وقال القرطبيّ: رواية " أنّها سرقت " أكثر وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده من بين الأئمّة الحفّاظ، وتابعه على ذلك من لا يُقتدى بحفظه , كابن أخي الزّهريّ ونمطه. هذا قول المحدّثين. قلت: سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يشعر بأنّه لَم يقف على رواية شعيب ويونس بموافقة معمر , إذ لو وقف عليها لَم يجزم بتفرّد معمر , وأنّ من وافقه كابن أخي الزّهريّ ونمطه , ولا زاد القرطبيّ نسبة ذلك للمحدّثين , إذ لا يُعرف عن أحدٍ من المحدّثين , أنّه قرن شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد وأيّوب بن موسى بابن أخي الزّهريّ , بل هم متّفقون على أنّ شعيبًا ويونس أرفع درجةً في حديث الزّهريّ من ابن أخيه. ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف عن الزّهريّ ترجيحٌ بالنّسبة إلى

اختلاف الرّواة عنه , إلَّا لكون رواية " سرقت " متّفقًا عليها , ورواية " جحدت " انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع إذا أمكن بين الرّوايتين. وقد جاء عن بعض المحدّثين , عكس كلام القرطبيّ فقال: لَم يختلف على معمر ولا على شعيب وهما في غاية الجلالة في الزّهريّ، وقد وافقهما ابن أخي الزّهريّ، وأمّا الليث ويونس - وإن كانا في الزّهريّ كذلك - فقد اختلف عليهما فيه، وأمّا إسماعيل بن أُميَّة وإسحاق بن راشد فدون معمر وشعيب في الحفظ. قلت: وكذا اختلف على أيّوب بن موسى كما تقدّم، وعلى هذا فيتعادل الطّريقان ويتعيّن الجمع , فهو أولى من إطراح أحد الطّريقين. فقال بعضهم كما تقدّم عن ابن حزم وغيره: هما قصّتان مختلفتان لامرأتين مختلفتين. وتعقّب: بأنّ في كلٍّ من الطّريقين أنّهم استشفعوا بأسامة , وأنّه شفع وأنّه قيل له " لا تشفع في حدٍّ من حدود الله " , فيبعد أنّ أسامة يسمع النّهي المؤكّد عن ذلك , ثمّ يعود إلى ذلك مرّةً أخرى , ولا سيّما إن اتّحد زمن القصّتين. وأجاب ابن حزم: أولاً. أنّه يجوز أن ينسى. ثانياً. يجوز أن يكون الزّجر عن الشّفاعة في حدّ السّرقة تقدّم , فظنّ أنّ الشّفاعة في جحد العارية جائزٌ , وأن لا حدّ فيه فشفع , فأجيب بأنّ فيه الحدّ أيضًا.

ولا يخفى ضعف الاحتمالين. وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء: أنّ القصّة لامرأةٍ واحدةٍ استعارت وجحدت وسرقت , فقطعت للسّرقة لا للعارية. قال: وبذلك نقول. وقال الخطّابيّ في " معالم السّنن " بعد أن حكى الخلاف , وأشار إلى ما حكاه ابن المنذر: وإنّما ذكرت العارية والجحد في هذه القصّة تعريفًا لها بخاصّ صفتها , إذ كانت تكثر ذلك كما عرفت بأنّها مخزوميّة، وكأنّها لَمَّا كثر منها ذلك ترقّت إلى السّرقة , وتجرّأت عليها. وتلقّف هذا الجواب من الخطّابيّ جماعةٌ منهم البيهقيّ فقال: تحمل رواية من ذكر جحد العارية على تعريفها بذلك، والقطع على السّرقة. وقال المنذريّ نحوه، ونقله المازريّ ثمّ النّوويّ عن العلماء. وقال القرطبيّ: يترجّح أنّ يدها قطعت على السّرقة , لا لأجل جحد العارية من أوجهٍ: أحدها: قوله في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية " لو أنّ فاطمة سرقت " فإنّ فيه دلالةً قاطعةً على أنّ المرأة قطعت في السّرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السّرقة لاغيًا، ولقال: لو أنّ فاطمة جحدت العارية. قلت: وهذا قد أشار إليه الخطّابيّ أيضًا. ثانيها: لو كانت قطعت في جحد العارية , لوجب قطع كل من جحد شيئًا إذا ثبت عليه , ولو لَم يكن بطريق العارية.

ثالثها: أنّه عارض ذلك حديث: ليس على خائنٍ , ولا مختلسٍ , ولا منتهبٍ قطعٌ. وهو حديثٌ قويٌّ. قلت: أخرجه الأربعة وصحّحه أبو عوانة والتّرمذيّ من طريق ابن جريجٍ عن أبي الزّبير عن جابر رفعه، وصرّح ابن جريجٍ في رواية للنّسائيّ بقوله: أخبرني أبو الزّبير. ووهّم بعضهم هذه الرّواية، فقد صرّح أبو داود , بأنّ ابن جريجٍ لَم يسمعه من أبي الزّبير، قال: وبلغني عن أحمد. أنّما سمعه ابن جريجٍ من ياسين الزّيّات. ونقل ابن عديّ في " الكامل " عن أهل المدينة أنّهم قالوا: لَم يسمع ابن جريجٍ من أبي الزّبير. وقال النّسائيّ: رواه الحفّاظ من أصحاب ابن جريجٍ عنه عن أبي الزّبير , فلم يقل أحدٌ منهم أخبرني , ولا أحسبه سمعه. قلت: لكن وجد له متابعٌ عن أبي الزّبير , أخرجه النّسائيّ أيضًا من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزّبير، لكن أبو الزّبير مدلسٌ أيضًا , وقد عنعنه عن جابرٍ، لكن أخرجه ابن حبّان من وجهٍ آخر عن جابرٍ بمتابعة أبي الزّبير فقوي الحديث. وقد أجمعوا على العمل به إلَّا من شذّ، فنقل ابن المنذر عن إياس بن معاوية أنّه قال: المختلس يقطع، كأنّه ألحقه بالسّارق لاشتراكهما في الأخذ خفيةً، ولكنّه خلاف ما صرّح به في الخبر، وإلَّا ما ذكر من قطع جاحد العارية.

وأجمعوا على أن لا قطع على الخائن في غير ذلك ولا على المنتهب , إلَّا إن كان قاطع طريقٍ. والله أعلم. وعارضه غيره ممّن خالف. فقال ابن القيّم الحنبليّ: لا تنافي بين جحد العارية وبين السّرقة، فإنّ الجحد داخل في اسم السّرقة , فيجمع بين الرّوايتين بأنّ الذين قالوا " سرقت " أطلقوا على الجحد سرقة. كذا قال , ولا يخفى بُعده. قال: والذي أجاب به الخطّابيّ مردودٌ , لأنّ الحكم المرتّب على الوصف معمول به، ويقوّيه. أنّ لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الرّوايتين , القطع على السّرقة , وفي الأخرى على الجحد على حدٍّ سواء، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلميّة، فكلٌّ من الرّوايتين دلَّ على أنّ عِلَّة القطع كلٌّ من السّرقة وجحد العارية على انفراده. ويؤيّد ذلك أنّ سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكرٌ للسّرقة ولا للشّفاعة من أسامة، وفيه التّصريح بأنّها قطعت في ذلك. وأبسط ما وجدت من طرقه. ما أخرجه النّسائيّ في رواية له , أنّ امرأة كانت تستعير الحليّ في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فاستعارت من ذلك حليًّا فجمعته ثمّ أمسكته، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: لتتب امرأةٌ إلى الله تعالى وتؤدّ ما عندها، مرارًا. فلم تفعل، فأمر بها فقطعت. وأخرج النّسائيّ بسندٍ صحيحٍ من مرسل سعيد بن المسيّب , أنّ

امرأةً من بني مخزوم استعارت حليًّا على لسان أناس فجحدت، فأمر بها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقطعت. وأخرجه عبد الرّزّاق بسندٍ صحيحٍ أيضًا إلى سعيد قال: أتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ في بيت عظيم من بيوت قريش , قد أتت أناسًا , فقالت: إنّ آل فلانٍ يستعيرونكم كذا فأعاروها , ثمّ أتوا أولئك فأنكروا، ثمّ أنكرت هي، فقطعها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن دقيق العيد: صنيع صاحب " العمدة " حيث أورد الحديث بلفظ الليث ثمّ قال: وفي لفظٍ فذكر لفظ معمر , يقتضي أنّها قصّة واحدة , واختلف فيها هل كانت سارقةً أو جاحدةً، يعني: لأنّه أورد حديث عائشة باللفظ الذي أخرجاه من طريق الليث , ثمّ قال: وفي لفظ " كانت امرأةٌ تستعير المتاع وتجحده فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها " وهذه رواية معمر في مسلم فقط. قال: وعلى هذا فالحجّة في هذا الخبر في قطع المستعير ضعيفة , لأنّه اختلاف في واقعة واحدة , فلا يبتّ الحكم فيه بترجيح من روى أنّها جاحدة على الرّواية الأخرى، يعني: وكذا عكسه فيصحّ أنّها قطعت بسبب الأمرين، والقطع في السّرقة متّفقٌ عليه , فيترجّح على القطع في الجحد المختلف فيه. قلت: وهذه أقوى الطّرق في نظري. وقد تقدّم الرّدّ على من زعم أنّ القصّة وقعت لامرأتين فقطعتا في أوائل الكلام على هذا الحديث.

والإلزام الذي ذكره القرطبيّ - في أنّه لو ثبت القطع في جحد العارية للزم القطع في جحد غير العارية - قويٌّ أيضًا، فإنّ من يقول بالقطع في جحد العارية لا يقول به في جحد غير العارية , فيقاس المختلف فيه على المتّفق عليه , إذ لَم يقل أحدٌ بالقطع في الجحد على الإطلاق. وأجاب ابن القيّم: بأنّ الفرق بين جحد العارية وجحد غيرها , أنّ السّارق لا يمكن الاحتراز منه , وكذلك جاحد العارية , بخلاف المختلس من غير حرزٍ والمنتهب، قال: ولا شكّ أنّ الحاجة ماسّةٌ بين النّاس إلى العارية، فلو علم المعير أنّ المستعير إذا جحد لا شيء عليه لجرّ ذلك إلى سدّ باب العارية. وهو خلاف ما تدلّ عليه حكمة الشّريعة، بخلاف ما إذا علم أنّه يقطع , فإنّ ذلك يكون أدعى إلى استمرار العارية. وهي مناسبةٌ لا تقوم بمجرّدها حجّةٌ , إذا ثبت حديث جابرٍ في أن لا قطع على خائن، وقد فرّ من هذا بعض مَن قال بذلك , فخصّ القطع بمن استعار على لسان غيره مخادعًا للمستعار منه ثمّ تصرّف في العارية وأنكرها لَمَّا طولب بها، فإنّ هذا لا يقطع بمجرّد الخيانة , بل لمشاركته السّارق في أخذ المال خفيةً. تنْبيهٌ: قول سفيان المتقدّم: ذهبت أسأل الزّهريّ عن حديث المخزوميّة التي سرقت , فصاح عليّ " , ممّا يكثر السّؤال عنه وعن سببه.

وقد أوضح ذلك بعض الرّواة عن سفيان، فرأينا في كتاب " المحدّث الفاضل " لأبي محمّد الرّامهرمزيّ من طريق سليمان بن عبد العزيز أخبرني محمّد بن إدريس قال: قلت لسفيان بن عيينة: كم سمعت من الزّهريّ؟ قال: أمّا مع النّاس فما أحصي، وأمّا وحدي فحديث واحد، دخلت يومًا من باب بني شيبة , فإذا أنا به جالس إلى عمود فقلت: يا أبا بكرٍ حدّثني حديث المخزوميّة التي قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدها، قال: فضرب وجهي بالحصى , ثمّ قال: قم؛ فما يزال عبدٌ يقدم علينا بما نكره، قال: فقمت منكسرًا، فمرّ رجلٌ فدعاه فلم يسمع , فرماه بالحصى فلم يبلغه فاضطرّ إليّ , فقال: ادعه لي، فدعوته له فأتاه فقضى حاجته، فنظر إليّ فقال: تعال، فجئت فقال: أخبرني سعيد بن المسيّب وأبو سلمة عن أبي هريرة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العجماء جبارٌ .. الحديث، ثمّ قال لي: هذا خيرٌ لك من الذي أردت. قلت: وهذا الحديث الأخير. أخرجه مسلمٌ والأربعة من طريق سفيان , بدون القصّة. قوله: (فقالوا: من يُكلِّم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟) أي: يشفع عنده فيها أن لا تقطع إمّا عفوًا وإمّا بفداءٍ. وقد وقع ما يدلّ على الثّاني في حديث مسعود بن الأسود , ولفظه بعد قوله أعظمنا ذلك " فجئنا إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقيّة، فقال: تطهّر خيرٌ لها ". وكأنّهم ظنّوا أنّ الحدّ يسقط بالفدية , كما ظنّ ذلك من أفتى والد

العسيف الذي زنى بأنّه يفتدي منه بمائة شاةٍ ووليدةٍ. ووجدت لحديث مسعود هذا شاهدًا عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو , أنّ امرأة سرقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال قومها: نحن نفديها. قوله: (فقالوا: ومن يجترئ عليه) بسكون الجيم وكسر الرّاء يفتعل من الجرأة , بضمّ الجيم وسكون الرّاء وفتح الهمزة، ويجوز فتح الجيم والرّاء مع المدّ. والذي استفهم بقوله: " من يُكلِّم " غير الذي أجاب بقوله " ومن يجترئ " والجرأة هي الإقدام بإدلالٍ، والمعنى ما يجترئ عليه إلَّا أسامة. وقال الطّيبيّ: الواو عاطفة على محذوف , تقديره لا يجترئ عليه أحدٌ لمهابته، لكنّ أسامة له عليه إدلالٌ فهو يجسر على ذلك. ووقع في حديث مسعود بن الأسود بعد قوله تطهّر خيرٌ لها " فلمّا سمعنا لين قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أتينا أسامة ". ووقع في رواية يونس الماضية في البخاري " ففزع قومها إلى أسامة " أي: لجئوا , وفي رواية أيّوب بن موسى فيه أيضاً " فلم يجترئ أحد أن يكلمه إلَّا أسامة ". وكان السّبب في اختصاص أسامة بذلك , ما أخرجه ابن سعد من طريق جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأسامة: لا تشفع في حدٍّ، وكان إذا شفع شفّعه. بتشديد الفاء. أي:

قبل شفاعته، وكذا وقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشفّعه. قوله: (حِبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بكسر المهملة بمعنى محبوب مثل قسم بمعنى مقسومٍ، وفي ذلك تلميح بقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه. أخرجه البخاري. لأنّه كان يحبّ أباه قبله حتّى تبنّاه , فكان يقال له زيد بن محمّدٍ. وأمّه أمّ أيمن حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هي أمّي بعد أمّي. (¬1) وكان يجلسه على فخذه بعد أن كبر. كما في البخاري. قوله: (فكلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وللبخاري " فكلَّم رسولَ الله " بالنّصب , وفي الكلام شيء مطويّ تقديره , فجاءوا إلى أسامة فكلموه في ذلك فجاء أسامة إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمه. ووقع في رواية يونس " فأتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمه فيها " فأفادت هذه الرّواية أنّ الشّافع يشفع بحضرة المشفوع له , ليكون أعذر له عنده إذا لَم تقبل شفاعته. وعند النّسائيّ من رواية إسماعيل بن أُميَّة " فكلَّمه فزبره " بفتح الزّاي والموحّدة. أي: أغلظ له في النّهي حتّى نسبه إلى الجهل، لأنّ الزّبر بفتحٍ ثمّ سكونٍ هو العقل. وفي رواية يونس " فكلَّمه فتلوّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". زاد شعيب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

عند النّسائيّ " وهو يكلّمه ". وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت " فلمّا أقبل أسامة , ورآه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تكلّمني يا أسامة ". قوله: (فقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله) بهمزة الاستفهام الإنكاريّ , لأنّه كان سبق له منع الشّفاعة في الحدّ قبل ذلك. زاد يونس وشعيب , فقال أسامة: استغفر لي يا رسولَ الله " ووقع في حديث جابر عند مسلم والنّسائيّ , أنّ امرأة من بني مخزوم سرقت، فأتي بها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فعاذت بأمّ سلمة. بذالٍ معجمة , أي: استجارت. أخرجاه (¬1) من طريق معقل بن يسار عن عبيد الله عن أبي الزّبير عن جابر. وذكره أبو داود تعليقًا، والحاكم موصولاً من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزّبير عن جابر: فعاذت بزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال المنذريّ: يجوز أن تكون عاذت بكلٍّ منهما. وتعقّبه شيخنا في شرح التّرمذيّ: بأنّ زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , كانت ماتت قبل هذه القصّة , لأنّ هذه القصّة كما تقدّم كانت في غزوة الفتح , وهي في رمضان سنة ثمانٍ , وكان موت زينب قبل ذلك في جمادى الأولى من السّنة , فلعل المراد أنّها عاذت بزينب ربيبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وهي بنت أمّ سلمة فتصحّفت على بعض الرّواة. قلت: أو نسبت زينب بنت أمّ سلمة إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مجازًا لكونها ربيبته , فلا يكون فيه تصحيف. ¬

_ (¬1) أي: مسلم والنسائي , كما تقدَّم العزو لهما.

ثمّ قال شيخنا: وقد أخرج أحمد هذا الحديث من طريق ابن أبي الزّناد عن موسى بن عقبة. وقال فيه: فعاذت بربيب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. براءٍ وموحّدة مكسورة وحذف لفظ بنت، وقال في آخره: قال ابن أبي الزّناد: وكان ربيب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سلمة بن أبي سلمة وعمر بن أبي سلمة فعاذت بأحدهما. قلت: وقد ظفرت بما يدلّ على أنّه عمر بن أبي سلمة، فأخرج عبد الرّزّاق من مرسل الحسن بن محمّد بن عليّ , قال: سرقت امرأة - فذكر الحديث. وفيه. فجاء عمر بن أبي سلمة فقال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أي أبَه، إنّها عمّتي، فقال: لو كانت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها. قال عمرو بن دينار الرّاوي عن الحسن: فلم أشكّ أنّها بنت الأسود بن عبد الأسد. قلت: ولا منافاة بين الرّوايتين عن جابر، فإنّه يحمل على أنّها استجارت بأمّ سلمة بأولادها واختصّها بذلك لأنّها قريبتها وزوجها عمّها، وإنّما قال عمر بن أبي سلمة " عمّتي " من جهة السّنّ، وإلا فهي بنت عمّه أخي أبيه، وهو كما قالت خديجة لورقة في قصّة المبعث: أيْ عمّ. اسمع من ابن أخيك. وهو ابن عمّها أخي أبيها أيضًا. ووقع عند أبي الشّيخ من طريق أشعث عن أبي الزّبير عن جابر , أنّ امرأة من بني مخزوم سرقت، فعاذت بأسامة. وكأنّها جاءت مع قومها فكلَّموا أسامة بعد أن استجارت بأمّ سلمة. ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت " فاستشفعوا على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -

بغير واحد فكلموا أسامة ". قوله: (ثمّ قام فاختطب) وللبخاري " فخطب , فقال: يا أيّها النّاس " وفي رواية قتيبة بحذف يا من أوّله. وفي رواية يونس " فلمّا كان العشيّ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا , فأثنى على الله بما هو أهله , ثمّ قال: أمّا بعد ". قوله: (إنما أهلك الذين من قبلكم) في رواية أبي الوليد " هلك " وكذا لمحمّد بن رمح عند مسلم، وفي رواية سفيان عند النّسائيّ " إنّما هلك بنو إسرائيل " وللبخاري " إنّما ضلَّ من كان قبلكم " قال ابن دقيق العيد: الظّاهر أنّ هذا الحصر ليس عامًّا، فإنّ بني إسرائيل كان فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصرٍ مخصوصٍ وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود فلا ينحصر ذلك في حدّ السّرقة. قلت: يؤيّد هذا الاحتمال. ما أخرجه أبو الشّيخ في " كتاب السّرقة " من طريق زاذان عن عائشة مرفوعًا: أنّهم عطّلوا الحدود عن الأغنياء وأقاموها على الضّعفاء. والأمور التي أشار إليها الشّيخ منها حديث ابن عمر في قصّة اليهوديّين اللذين زنيا. وتقدّم شرحه (¬1). وفي حديث ابن عبّاس في أخذ الدّية من الشّريف إذا قتل عمدًا والقصاص من الضّعيف , وغير ذلك. ¬

_ (¬1) تقدّم. انظر رقم (354)

قوله: (أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه) وفي رواية سفيان عند النّسائيّ " حين كانوا إذا أصاب فيهم الشّريف الحدّ تركوه , ولَم يقيموه عليه ". وللبخاري من رواية الليث عن الزهري " كانوا يقيمون الحد على الوضيع , ويتركون على الشريف " هو من الوضع وهو النّقص، ووقع هنا بلفظ " الوضيع " وفي رواية الباب بلفظ " الضّعيف " وهي رواية الأكثر في هذا الحديث. وقد رواه بلفظ " الوضيع " أيضًا النّسائيّ من طريق إسماعيل بن أُميَّة عن الزّهريّ، والشّريف يقابل الاثنين لِما يستلزم الشّرف من الرّفعة والقوّة، ووقع للنّسائيّ أيضًا في رواية لسفيان بلفظ " الدّون الضّعيف ". قوله: (وايم الله) ووقع مثله في رواية إسحاق بن راشد، ووقع في رواية أبي الوليد " والذي نفسي بيده " وفي رواية يونس " والذي نفس محمّد بيده ". وقوله " ايم الله " بكسر الهمزة وبفتحها والميم مضمومة، وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسمٌ عند الجمهور , وحرفٌ عند الزّجّاج. وهمزته همزة وصل عند الأكثر , وهمزة قطع عند الكوفيّين ومن وافقهم لأنّه عندهم جمع يمين. وعند سيبويه ومن وافقه أنّه اسمٌ مفردٌ، واحتجّوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه.

قال ابن مالكٍ: فلو كان جمعًا لَم تحذف همزته، واحتجّ بقول عروة بن الزّبير لَمَّا أصيب بولده ورجله " ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت " (¬1) قال: فلو كان جمعًا لَم يتصرّف فيه بحذف بعضه. قال: وفيه اثنتا عشرة لغةً جمعتها في بيتين وهما: همز ايم وايمن فافتح واكسر او أم قل أو قل م أو من بالتّثليث قد شكلا وأيمن اختم به والله كلاًّ أضف ... إليه في قسمٍ تستوف ما نقلا قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك: فاته أم بفتح الهمزة , وهيم بالهاء بدل الهمزة , وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم الأندلسيّ في " شرح المفصّل " وقال غيره: أصله يمين الله ويجمع أيمنًا , فيقال: وأيمن الله. حكاه أبو عبيدة , وأنشد لزهير بن أبي سلمى: فتجمع أيمنٌ منّا ومنكم ... بمقسمةٍ تمور بها الدّماء وقالوا عند القسم: وايمن الله، ثمّ كثر فحذفوا النّون كما حذفوها مِن " لَم يكن " فقالوا " لَم يك " ثمّ حذفوا الياء فقالوا " أم الله " ثمّ حذفوا الألف فاقتصروا على الميم مفتوحةً ومضمومةً ومكسورةً، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في " غريب الحديث " (4/ 405 - 406) عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه. وسنده صحيح. قال أبو عبيد: ليمنك وأيمنك إنماهي يمين , وهي كقولهم: يمين الله. كانوا يحلفون بها , قال امرؤ القيس: فقلتُ يمين الله أبرح قاعداً ... ولو ضربوا رأسي لديك وأوصالي. انتهى وأخرجه الدينوري في " المجالسة " (8/ 336) والبيهقي في " الشعب " (12/ 346) (13/ 469) من طرق عن هشام. بلفظ " وأيمك.

وقالوا أيضًا: من الله بكسر الميم وضمّها، وأجازوا في أيمن فتح الميم وضمّها وكذا في أيم. ومنهم من وصل الألف. وجعل الهمزة زائدةً أو مسهّلةً , وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين. وقال الجوهريّ: قالوا: أيم الله ’ وربّما حذفوا الياء , فقالوا: أم الله , وربّما أبقوا الميم وحدها مضمومةً , فقالوا: م الله , وربّما كسروها , لأنّها صارت حرفًا واحدًا فشبّهوها بالباء. قالوا: وألفها ألف وصلٍ عند أكثر النّحويّين , ولَم يجئ ألف وصلٍ مفتوحة غيرها، وقد تدخل اللام للتّأكيد فيقال: ليمن الله , قال الشّاعر: فقال فريق القوم لَمَّا نشدتهم ... نعم وفريقٌ ليمن الله ما ندري وذهب ابن كيسان وابن درستويه: إلى أنّ ألفها ألف قطعٍ , وإنّما خفّفت همزتها وطرحت في الوصل لكثرة الاستعمال. وذهب المبرّد: إلى أنّها عوضٌ من واو القسم , وأنّ معنى قوله " وايم الله " والله لأفعلن. ونقل عن ابن عبّاس " أنّ يمين الله من أسماء الله " ومنه قول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي ومن ثَمّ قال المالكيّة والحنفيّة: إنّه يمينٌ. وعند الشّافعيّة: إن نوى اليمين انعقدت , وإن نوى غير اليمين لَم ينعقد يمينًا , وإن أطلق فوجهان.

أصحّهما , لا ينعقد إلَّا إن نوى، وعن أحمد روايتان. أصحّهما الانعقاد. وحكى الغزاليّ في معناه وجهين. أحدهما: أنّه كقوله تالله , والثّاني: كقوله أحلف بالله. وهو الرّاجح، ومنهم: من سوّى بينه وبين لعمر الله. وفرّق الماورديّ بأنّ لعمر الله شاع في استعمالهم عرفًا بخلاف ايم الله. واحتجّ بعض مَن قال منهم بالانعقاد مطلقًا: بأنّ معناه يمين الله ويمين الله من صفاته، وصفاته قديمةٌ، وجزم النّوويّ في التّهذيب. أنّ قول " وايم الله " كقوله: وحقّ الله. وقال: إنّه تنعقد به اليمين عند الإطلاق وقد استغربوه. ووقع في حديث أبي هريرة ما يقوّيه، وهو قوله في قصّة سليمان بن داود عليهما السّلام: وايم الذي نفس محمّد بيده , لو قال: إن شاء الله لجاهدوا. والله أعلم. واستدل مَن قال بالانعقاد مطلقًا بهذا الحديث , ولا حجّة فيه إلَّا على التّقدير المتقدّم , وأنّ معناه وحقّ الله. قوله: (لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت) هذا من الأمثلة التي صحّ فيها أنّ " لو " حرف امتناع لامتناعٍ، وقد أتقن القول في ذلك صاحب المغني (¬1). ¬

_ (¬1) أي: ابن هشام صاحب كتاب " مغني اللبيب عن كتب الأعاريب " وهو جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الحنبلي النحوي الأنصاري. المُتوفى سنة 761 هـ.

قال ابن بطّالٍ: لو تدلّ عند العرب على امتناع الشّيء لامتناع غيره , تقول: لو جاءني زيدٌ لأكرمتك. معناه إنّي امتنعت من إكرامك لامتناع مجيء زيدٍ , وعلى هذا جرى أكثر المتقدّمين. وقد ذكر ابن ماجه عن محمّد بن رمح شيخه في هذا الحديث. سمعت الليث يقول عقب هذا الحديث: قد أعاذها الله من أن تسرق. وكلّ مسلم ينبغي له أن يقول هذا. ووقع للشّافعيّ , أنّه لَمَّا ذكر هذا الحديث قال: فذكر عضوًا شريفًا من امرأة شريفة , واستحسنوا ذلك منه لِما فيه من الأدب البالغ. وإنّما خصّ - صلى الله عليه وسلم - فاطمة ابنته بالذّكر لأنّها أعزّ أهله عنده، ولأنّه لَم يبق من بناته حينئذٍ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحدّ على كل مكلفٍ وترك المحاباة في ذلك، ولأنّ اسم السّارقة وافق اسمها عليها السّلام , فناسب أن يضرب المثل بها. تنْبيهٌ: في روايةٍ للبخاري " لو فاطمة " كذا للأكثر (¬1). قال ابن التّين: التّقدير لو فعلت فاطمة ذلك لأنّ " لو " يليها الفعل دون الاسم. قلت: الأولى التّقدير بما جاء في الطّريق الأخرى " لو أنّ فاطمة " كذا في رواية الكشميهنيّ هنا , وهي ثابتة في سائر طرق هذا الحديث ¬

_ (¬1) أي: أكثر الرواة لصحيح البخاري.

في غير هذا الموضع. ولو هنا شرطيّةٌ , وحذْف أنّ ورد معها كثيرًا كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي عند مسلم " لو أهل عمان أتاهم رسولي " (¬1) فالتّقدير لو أنّ أهل عمان. وقد أنكر بعض الشّرّاح من شيوخنا على ابن التّين إيراده هنا بحذف أنّ، ولا إنكار عليه , فإنّ ذلك ثابتٌ هنا في رواية أبي ذرّ عن غير الكشميهنيّ، وكذا هو في رواية النّسفيّ. ووقع في رواية إسحاق بن راشد عن ابن شهاب عند النّسائيّ " لو سرقت فاطمة " وهو يساعد تقدير ابن التّين. قوله: (لقطعت يدها) كذا للأكثر. وللبخاري " لقطع محمّدٌ يدها " وهو تجريدٌ، زاد يونس في روايته من رواية ابن المبارك عنه كما في البخاري " ثمّ أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها ". ووقع في حديث ابن عمر في رواية للنّسائيّ " قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها " وفي أخرى له " فأمر بها فقطعت " وفي حديث جابر عند الحاكم " فقطعها ". ¬

_ (¬1) الحديث في صحيح مسلم (2544) من حديث أبي برزة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رجلاً إلى حي من أحياء العرب، فسبُّوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن أهل عمان أتيت، ما سبّوك ولا ضربوك " هكذا عنده بإثبات (أنَّ) وقد عزاه الحافظ في الفتح في عدة مواضع لمسلم بدونها. ولعلَّه هكذا في نسخته وقد أخرجه أحمد (33/ 17) وأبو يعلى (7432) والبزار (3845) وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (2293) بأسانيد على شرط مسلم. بحذفها.

وذكر أبو داود تعليقًا عن محمّد بن عبد الرّحمن بن غنج عن نافع عن صفيّة بنت أبي عبيد نحو حديث المخزوميّة , وزاد فيه. قال: فشهد عليها. وزاد يونس أيضًا في روايته " قالت عائشة: فحسنت توبتها بعدُ وتزوّجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الإسماعيليّ من طريق نعيم بن حمّاد عن ابن المبارك , وفيه. قال عروة: قالت عائشة. ووقع في رواية شعيب عند الإسماعيليّ في الشّهادات , وفي رواية ابن أخي الزّهريّ عند أبي عوانة كلاهما عن الزّهريّ , قال: وأخبرني القاسم بن محمّد , أنّ عائشة قالت: فنكحت تلك المرأة رجلاً من بني سليم وتابت , وكانت حسنة التّلبّس , وكانت تأتيني فأرفع حاجتها .. الحديث. وكأنّ هذه الزّيادة كانت عند الزّهريّ عن عروة. وعن القاسم جميعًا عن عائشة , وعند أحدهما زيادة على الآخر. وفي آخر حديث مسعود بن الحكم عند الحاكم , قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الله بن أبي بكر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان بعد ذلك يرحمها ويصلها. وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد , أنّها قالت: هل لي من توبة يا رسولَ الله؟ فقال: أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمّك. ونقل الطحاوي الإجماع على قبول شهادة السارق إذا تاب.

وفي هذا الحديث من الفوائد: منع الشّفاعة في الحدود، والمنع مقيّد بما إذا انتهى ذلك إلى أولي الأمر، وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت الذي أشرت إليه. وفيه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأسامة لَمَّا شفع فيها: لا تشفع في حدٍّ , فإنّ الحدود إذا انتهت إليّ فليس لها متركٌ. وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رفعه: تعافوا الحدود فيما بينكم , فما بلغني من حدٍّ فقد وجب. ترجم له أبو داود (العفو عن الحدّ ما لَم يبلغ السّلطان) وصحّحه الحاكم. وسنده إلى عمرو بن شعيبٍ صحيحٌ. وأخرج أبو داود أيضًا وأحمد وصحّحه الحاكم من طريق يحيى بن راشد , قال: خرج علينا ابن عمر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله , فقد ضادّ الله في أمره. وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر أصحّ منه عن ابن عمر موقوفًا. وللمرفوع شاهد من حديث أبي هريرة في " الأوسط " للطّبرانيّ. وقال: فقد ضادّ الله في ملكه. وأخرج أبو يعلى من طريق أبي المحيّاة عن أبي مطرٍ: رأيت عليًّا أتي بسارقٍ , فذكر قصّة فيها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بسارقٍ. فذكر قصّة فيها. قالوا: يا رسولَ الله أفلا عفوت؟ قال: ذلك سلطان سوء الذي يعفو عن الحدود بينكم. وأخرج الطّبرانيّ عن عروة بن الزّبير قال: لقي الزّبير سارقًا فشفع

فيه، فقيل له: حتّى يبلغ الإمام , فقال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشّافع والمشفّع. وأخرج " الموطّأ " عن ربيعة عن الزّبير نحوه. وهو منقطع مع وقفه، وهو عند ابن أبي شيبة بسندٍ حسنٍ عن الزّبير موقوفًا , وبسندٍ آخر حسنٍ عن عليٍّ نحوه كذلك. وبسندٍ صحيح عن عكرمة , أنّ ابن عبّاس وعمّارًا والزّبير أخذوا سارقًا فخلوا سبيله , فقلت لابن عبّاسٍ: بئسما صنعتم حين خليتم سبيله، فقال: لا أمّ لك. أما لو كنت أنت لسرّك أن يخلى سبيلك. وأخرجه الدّارقطنيّ من حديث الزّبير موصولاً مرفوعًا بلفظ: اشفعوا ما لَم يصل إلى الوالي , فإذا وصل الوالي فعفا فلا عفا الله عنه. والموقوف هو المعتمد. وفي الباب غير ذلك حديث صفوان بن أُميَّة. عند أحمد وأبي داود والنّسائيّ وابن ماجه والحاكم في قصّة الذي سُرق رداؤه , ثمّ أراد أن لا يقطع , فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: هلَّا قبل أن تأتيني به. وحديث ابن مسعود في قصّة الذي سرق , فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقطعه فرأوا منه أسفًا عليه فقالوا: يا رسولَ الله كأنّك كرهت قطعه، فقال: وما يمنعني؟ لا تكونوا أعوانًا للشّيطان على أخيكم، إنّه ينبغي للإمام إذا أنهي إليه حدٌّ أن يقيمه، والله عفوٌّ يحبّ العفو. وفي الحديث قصّةٌ مرفوعةٌ، وأُخرج موقوفًا. أخرجه أحمد وصحّحه الحاكم. وحديث عائشة مرفوعًا: أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلَّا في

الحدود. أخرجه أبو داود. ويستفاد منه جواز الشّفاعة فيما يقتضي التّعزير. وقد نقل ابن عبد البرّ وغيره فيه الاتّفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة في ندب السّتر على المسلم، وهي محمولة على ما لَم يبلغ الإمام. واختلف العلماء في ذلك. فقال أبو عمر بن عبد البرّ: لا أعلم خلافًا أنّ الشّفاعة في ذوي الذّنوب حسنة جميلة ما لَم تبلغ السّلطان، وأنّ على السّلطان أن يقيمها إذا بلغته. وذكر الخطّابيّ وغيره عن مالك , أنّه فرّق بين من عرف بأذى النّاس ومن لَم يعرف، فقال: لا يشفع للأوّل مطلقًا. سواء بلغ الإمام أم لا، وأمّا من لَم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لَم يبلغ الإمام. وتمسّك بحديث الباب. وهو القول الأول: من أوجب إقامة الحدّ على القاذف إذا بلغ الإمام ولو عفا المقذوف، وهو قول الحنفيّة والثّوريّ والأوزاعيّ. القول الثاني: قال مالكٌ والشّافعيّ وأبو يوسف: يجوز العفو مطلقًا , ويدرأ بذلك الحدّ , لأنّ الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف لجاز أن يقيم البيّنة بصدق القاذف , فكانت تلك شبهةً قويّةً. وفيه دخول النّساء مع الرّجال في حدّ السّرقة. وفيه قبول توبة السّارق، ومنقبة لأسامة. وفيه ما يدلّ على أنّ فاطمة عليها السّلام عند أبيها - صلى الله عليه وسلم - في أعظم

المنازل , فإنّ في القصّة إشارةً إلى أنّها الغاية في ذلك عنده. ذكره ابن هبيرة. وقد تقدّمت مناسبة اختصاصها بالذّكر دون غيرها من رجال أهله، ولا يؤخذ منه أنّها أفضل من عائشة لأنّ من جملة ما تقدّم من المناسبة كون اسم صاحبة القصّة وافق اسمها , ولا تنتفي المساواة. وفيه ترك المحاباة في إقامة الحدّ على من وجب عليه , ولو كان ولدًا أو قريبًا أو كبير القدر , والتّشديد في ذلك والإنكار على من رخّص فيه , أو تعرّض للشّفاعة فيمن وجب عليه. وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر , للمبالغة في الزّجر عن الفعل , ومراتب ذلك مختلفةٌ، ولا يحقّ ندب الاحتراز من ذلك حيث لا يترجّح التّصريح بحسب المقام. كما تقدّم نقله عن الليث والشّافعيّ. ويؤخذ منه جواز الإخبار عن أمر مقدّر يفيد القطع بأمرٍ محقّقٍ. وفيه أنّ من حلف على أمرٍ لا يتحقّق أنّه يفعله أو لا يفعله لا يحنث , كمَن قال لمن خاصم أخاه: والله لو كنت حاضرًا لهشّمت أنفك، خلافًا لِمَن قال يحنث مطلقًا. وفيه جواز التّوجّع لمن أقيم عليه الحدّ بعد إقامته عليه. وقد حكى ابن الكلبيّ في قصّة أمّ عمرو بنت سفيان , أنّ امرأة أسيد بن حضير أوتها بعد أن قُطعت , وصنعت لها طعامًا , وأنّ أسيدًا ذكر ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كالمنكِر على امرأته فقال: رحمتها رحمها الله.

وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم , ولا سيّما من خالف أمر الشّرع. وتمسّك به بعض مَن قال: إنّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا , لأنّ فيه إشارة إلى تحذيرٍ من فعل الشّيء الذي جرّ الهلاك إلى الذين من قبلنا لئلا نهلك كما هلكوا. وفيه نظرٌ، وإنّما يتمّ أن لو لَم يرد قطع السّارق في شرعنا، وأمّا اللفظ العامّ فلا دلالة فيه على المدّعى أصلاً.

باب حد الخمر

باب حد الخمر الحديث العاشر 359 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِي برجلٍ قد شرب الخمر، فجلده بجريدةٍ نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلمَّا كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوفٍ: أخفّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر - رضي الله عنه - (¬1). قوله: (أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِي برجلٍ قد شرب الخمر) الرجل المذكور لَم أقف على اسمه صريحاً , لكن جاء ما يؤخذ منه , أنه النعيمان (¬2). قوله: (فجلده بجريدةٍ نحو أربعين). اختلف في اشتراط الجلد على ثلاثة أقوال , وهي أوجهٌ عند الشّافعيّة: أصحّها: يجوز الجلد بالسّوط , ويجوز الاقتصار على الضّرب بالأيدي والنّعال والثّياب. ثانيها: يتعيّن الجلد. ثالثها: يتعيّن الضّرب. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1706) والبخاري (6391 , 6394) من طريق شعبة وغيره عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - به. واللفظ لمسلم. واختصره البخاري ولفظه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. وسينبّه عليه الشارح. (¬2) يشير الشارح إلى ما أخرجه البخاري في " صحيحه " (2316) عن عقبة بن الحارث قال: جيء بالنعيمان، أو ابن النعيمان شارباً. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان في البيت أن يضربوا , قال: فكنت أنا فيمن ضربه، فضربناه بالنعال والجريد.

وحجّة الرّاجح: أنّه فعل في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ولَم يثبت نسخه والجلد في عهد الصّحابة فدلَّ على جوازه. وحجّة الآخر: أنّ الشّافعيّ قال في " الأمّ ": لو أقام عليه الحدّ بالسّوط فمات وجبت الدّية , فسوّى بينه وبين ما إذا زاد , فدلَّ على أنّ الأصل الضّرب بغير السّوط، وصرّح أبو الطّيّب ومن تبعه بأنّه لا يجوز بالسّوط. وصرّح القاضي حسين بتعيين السّوط , واحتجّ بأنّه إجماع الصّحابة. ونقل عن النّصّ في القضاء ما يوافقه. ولكن في الاستدلال بإجماع الصّحابة نظرٌ. فقد قال النّوويّ في " شرح مسلمٍ ": أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنّعال وأطراف الثّياب، ثمّ قال: والأصحّ جوازه بالسّوط، وشذّ مَن قال. هو شرطٌ , وهو غلطٌ منابذٌ للأحاديث الصّحيحة. قلت: وتوسّط بعض المتأخّرين , فعيّن السّوط للمتمرّدين , وأطراف الثّياب والنّعال للضّعفاء , ومن عداهم بحسب ما يليق بهم. وهو متّجهٌ. ونقل ابن دقيق العيد عن بعضهم: أنّ معنى قوله " نحواً من أربعين " تقدير أربعين ضربةً بعصاً مثلاً لا أنّ المراد عددٌ معيّنٌ، ولذلك وقع في بعض طرق عبد الرّحمن بن أزهر , أنّ أبا بكرٍ سأل من حضر ذلك الضّربَ , فقوّمه أربعين , فضرب أبو بكرٍ أربعين. قال: وهذا عندي خلاف الظّاهر، ويبعده قوله في الرّواية الأخرى

" جلد في الخمر أربعين " قلت: ويُبعد التّأويل المذكور ما سيأتي من رواية همّامٍ في حديث أنسٍ: فأمر عشرين رجلاً فجلده كلّ رجلٍ جلدتين بالجريد والنّعال. قوله: (فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوفٍ: أخفّ الحدود ثمانون) ووقع لبعض رواة مسلمٍ " أخفّ الحدود ثمانين ". قال ابن دقيق العيد: فيه حذف عامل النّصب , والتّقدير جعله. وتعقّبه الفاكهيّ , فقال: هذا بعيدٌ أو باطلٌ. وكأنّه صدر عن غير تأمّلٍ لقواعد العربيّة , ولا لمراد المتكلم إذ لا يجوز أجود النّاس الزّيدين على تقدير اجعلهم , لأنّ مراد عبد الرّحمن الإخبار بأخفّ الحدود لا الأمر بذلك , فالذي يظهر أنّ راوي النّصب وهِمَ , واحتمال توهيمه أولى من ارتكاب ما لا يجوز لفظاً ولا معنىً. وردّ عليه تلميذه ابن مرزوق. بأن عبد الرّحمن مستشار , والمستشار مسؤل والمستشير سائلٌ , ولا يبعد أن يكون المستشار آمراً. قال: والمثال الذي مثّل به غير مطابقٍ. قلت: بل هو مطابقٌ لِما ادّعاه أنّ عبد الرّحمن قصد الإخبار فقط , والحقّ أنّه أخبر برأيه مستنداً إلى القياس , وأقرب التّقادير أخفّ الحدود أجده ثمانين أو أجد أخف الحدود ثمانين فنصبهما. وأغرب ابن العطّار صاحب النّوويّ في شرح العمدة. فنقل عن بعض العلماء , أنّه ذكره بلفظ " أخفّ الحدود ثمانون " بالرّفع ,

وأعربه مبتدأً وخبراً , قال: ولا أعلمه منقولاً روايةً. كذا قال. والرّواية بذلك ثابتةٌ. والأولى في توجيهها ما أخرجه مسلمٌ أيضاً من طريق معاذ بن هشامٍ عن أبيه عن قتادة عن أنس " ثمّ جلد أبو بكرٍ أربعين , فلمّا كان عمر ودنا النّاس من الرّيف والقرى , قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرّحمن بن عوفٍ: أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود , قال: فجلد عمر ثمانين. فيكون المحذوف من هذه الرّواية المختصرة " أرى أن تجعلها " وأداة التّشبيه. وأخرج النّسائيّ من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن قتادة " فضربه بالنّعال نحواً من أربعين , ثمّ أتي به أبو بكرٍ فصنع به مثل ذلك " ورواه همّامٌ عن قتادة بلفظ " فأمر قريباً من عشرين رجلاً فجلده كلّ رجلٍ جلدتين بالجريد والنّعال " أخرجه أحمد والبيهقيّ. وهذا يجمع بين ما اختلف فيه على شعبة , وأنّ جملة الضّربات كانت نحو أربعين , لا أنّه جلده بجريدتين أربعين , فتكون الجملة ثمانين كما أجاب به بعض النّاس. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ " جلد بالجريد والنّعال أربعين " علَّقه أبو داود بسندٍ صحيحٍ. ووصله البيهقيّ , وكذا أخرجه مسلمٌ من طريق وكيعٍ عن هشامٍ بلفظ " كان يضرب في الخمر ". مثله. وقد نسب صاحب العمدة قصّة عبد الرّحمن هذه إلى تخريج

الصّحيحين , ولَم يخرّج البخاريّ منها شيئاً. وبذلك جزم عبد الحقّ في الجمع , ثمّ المنذريّ. نعم. ذكر معنى صنيع عمر فقط في حديث السّائب في البخاري , وسيأتي بسط ذلك. قوله: (فأمر به عمر - رضي الله عنه -) وللبخاري عن السّائب بن يزيد، قال: كنّا نؤتى بالشّارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمْرةِ أبي بكرٍ وصدراً من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتّى كان آخر إمْرَة عمر، فجلد أربعين، حتّى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين. ووقع في مرسل عبيد بن عمير - أحد كبار التّابعين - فيما أخرجه عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عنه نحو حديث السّائب , وفيه: أنّ عمر جعله أربعين سوطاً، فلمّا رآهم لا يتناهون جعله ستّين سوطاً، فلمّا رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطاً , وقال: هذا أدنى الحدود. وهذا يدلّ على أنّه وافق عبد الرّحمن بن عوف في أنّ الثّمانين أدنى الحدود، وأراد بذلك الحدود المذكورة في القرآن , وهي حدّ الزّنا وحدّ السّرقة للقطع وحدّ القذف , وهو أخفّها عقوبةً وأدناها عدداً. وقد مضى سبب ذلك. وكلام عبد الرّحمن فيه حيث قال: أخفّ الحدود ثمانون , فأمر به عمر. وأخرج مالك في " الموطّأ " عن ثور بن يزيد , أنّ عمر استشار في الخمر , فقال له عليّ بن أبي طالبٍ: نرى أن تجعله ثمانين، فإنّه إذا شرب سكر , وإذا سكر هذى , واذا هذى افترى. فجلد عمر في

الخمر ثمانين، وهذا معضلٌ. وقد وصله النّسائيّ والطّحاويّ من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عبّاس مطوّلاً , ولفظه " أنّ الشّرّاب كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنّعال والعصا , حتّى توفّي فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم , فقال أبو بكرٍ: لو فرضنا لهم حدّاً , فتوخّى نحو ما كانوا يضربون في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فجلدهم أربعين حتّى توفّي، ثمّ كان عمر فجلدهم كذلك , حتّى أتي برجلٍ. فذكر قصّةً , وأنّه تأوّل قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصّالحات جناح فيما طعموا} وأنّ ابن عبّاس ناظره في ذلك , واحتجّ ببقيّة الآية. وهو قوله تعالى {إذا ما اتّقوا} والذي يرتكب ما حرّمه الله ليس بمتّقٍ، فقال عمر: ما ترون؟ فقال عليّ: فذكره. وزاد بعد قوله. وإذا هذى افترى , وعلى المفتري ثمانون جلدةً فأمر به عمر فجلده ثمانين. ولهذا الأثر عن عليّ طرقٌ أخرى. منها: ما أخرجها الطّبرانيّ والطّحاويّ والبيهقيّ من طريق أسامة بن زيد عن الزّهريّ عن حميد بن عبد الرّحمن , أنّ رجلاً من بني كلب يقال له ابن دبرة , أخبره , أنّ أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين , وكان عمر يجلد فيها أربعين، قال: فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر , فقلت: إنّ النّاس قد انهمكوا في الخمر , واستخفّوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال: ووجدت عنده عليّاً وطلحة والزّبير وعبد

الرّحمن بن عوفٍ في المسجد، فقال عليّ .. فذكر مثل رواية ثور الموصولة. ومنها: ما أخرجه عبد الرّزّاق عن معمر عن أيّوب عن عكرمة , أنّ عمر شاور النّاس في الخمر , فقال له عليّ: إنّ السّكران إذا سكر هذى. الحديث. ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي عبد الرّحمن السّلميّ عن عليّ قال: شرب نفرٌ من أهل الشّام الخمر , وتأوّلوا الآية المذكورة , فاستشار عمر فيهم فقلت: أرى أن تستتيبهم , فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين , وإلَّا ضربتُ أعناقهم , لأنّهم استحلّوا ما حرّم الله، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين. وأخرج أبو داود والنّسائيّ من حديث عبد الرّحمن بن أزهر في قصّة الشّارب الذي ضربه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحنينٍ. وفيه: فلمّا كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: أنّ النّاس قد انهمكوا في الشّرب وتحاقروا العقوبة، قال: وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين، وقال عليٌّ. فذكر مثله وأخرج عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ ومعمر عن ابن شهاب قال: فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطاً , وفرض فيها عمر ثمانين. قال الطّحاويّ: جاءت الأخبار متواترة عن عليّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يسنّ في الخمر شيئاً، ويؤيّده ذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييدٌ بعددٍ

حديث أبي هريرة وحديث عقبة بن الحارث (¬1) وحديث عبد الرّحمن بن أزهر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتي برجلٍ قد شرب الخمر , فقال للنّاس: اضربوه، فمنهم من ضربه بالنّعال , ومنهم من ضربه بالعصا , ومنهم من ضربه بالجريد، ثمّ أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تراباً فرمى به في وجه. وتعقّب: بأنّه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله , وهو ما عند أبي داود والنّسائيّ في هذا الحديث " ثمّ أتي أبو بكرٍ بسكران فتوخّى الذي كان من ضربهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربه أربعين، ثمّ أتي عمر بسكران فضربه أربعين ". فإنّه يدلّ على أنّه - وإن لَم يكن في الخبر تنصيصٌ على عددٍ معيّنٍ - ففيما اعتمده أبو بكرٍ حجّةٌ على ذلك. ويؤيّده ما أخرجه مسلم من طريق حضين - بمهملةٍ وضادٍ معجمةٍ مصغّر - ابن المنذر , أنّ عثمان أَمَرَ عليّاً بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده فجلده، فلمّا بلغ أربعين قال: أمسك، جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين , وجلد أبو بكرٍ أربعين وجلد عمر ثمانين وكلٌّ سنّةٌ، وهذا أحبّ إليّ. فإنّ فيه الجزم بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلَّا بعض الرّوايات الماضية عن أنسٍ ففيها " نحو الأربعين ". ¬

_ (¬1) حديث عقبة - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في " صحيحه " (2316) كما تقدم , وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري (6777) أيضاً نحوه. وفيه " فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه "

والجمع بينها: أنّ عليّاً أطلق الأربعين فهو حجّة على من ذكرها بلفظ التّقريب. وادّعى الطّحاويّ. أنّ رواية أبي ساسان (¬1) هذه ضعيفة لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأنّ راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالدّاناج - بنونٍ وجيمٍ - ضعيفٌ. وتعقّبه البيهقيّ: بأنّه حديث صحيح مخرّج في المسانيد والسّنن، وأنّ التّرمذيّ سأل البخاريّ عنه فقوّاه، وقد صحّحه مسلمٌ , وتلقّاه النّاس بالقبول. وقال ابن عبد البرّ: إنّه أثبت شيءٍ في هذا الباب. قال البيهقيّ: وصحّة الحديث إنّما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفّاظ الحديث وقبلوهم، وتضعيفه الدّاناج لا يقبل , لأنّ الجرح بعد ثبوت التّعديل لا يقبل إلَّا مفسّراً، ومخالفة الرّاوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه , ولا سيّما مع ظهور الجمع. قلت: وثّق الدّاناجَ المذكور أبو زرعة والنّسائيّ، وقد ثبت عن عليٍّ في هذه القصّة من وجهٍ آخر , أنّه جلد الوليد أربعين. ثمّ ساقه (¬2) من طريق هشام بن يوسف عن معمرٍ , وقال: أخرجه البخاريّ. ¬

_ (¬1) هو حُضين بن المُنذر الذي تقدَّم ذكره. (¬2) أي: البيهقي رحمه الله.

وهو كما قال، وقد أخرجه في مناقب عثمان , قال فيه " إنّه جلد ثمانين ". وفي رواية معمرٍ " فجلد الوليد أربعين جلدةً " وهذه الرّواية أصحّ من رواية يونس , والوهم فيه من الرّاوي عنه. شبيب بن سعيدٍ. وطعن الطّحاويّ ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضاً , بأنّ عليّاً قال: وهذا أحبّ إليّ. أي: جلد أربعين , مع أنّ عليّاً جلد النّجاشيّ الشّاعر في خلافته ثمانين، وبأنّ ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن عليٍّ , أنّ حدّ النّبيذ ثمانون. والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أنّه لا تصحّ أسانيد شيء من ذلك عن عليٍّ. الثّاني: على تقدير ثبوته , فإنّه يجوز أنّ ذلك يختلف بحال الشّارب، وأنّ حدّ الخمر لا ينقص عن الأربعين , ولا يزاد على الثّمانين، والحجّة إنّما هي في جزمه بأنّه - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين. وقد جمع الطّحاويّ بينهما: بما أخرجه هو والطّبريّ من طريق أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين , أنّ عليّاً جلد الوليد بسوطٍ له طرفان. وأخرج الطّحاويّ أيضاً من طريق عروة مثله , لكن قال. له ذنبان , أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان. قال الطّحاويّ: ففي هذا الحديث , أنّ عليّاً جلده ثمانين , لأنّ كلّ سوط سوطان. وتعقّب: بأنّ السّند الأوّل منقطعٌ , فإنّ أبا جعفر ولد بعد موت

عليّ بأكثر من عشرين سنةً، وبأنّ الثّاني في سنده ابن لهيعة , وهو ضعيفٌ , وعروة لَم يكن في الوقت المذكور مميّزاً , وعلى تقدير ثبوته فليس في الطّريقين , أنّ الطّرفين أصاباه في كل ضربةٍ. وقال البيهقيّ: يحتمل أن يكون ضربه بالطّرفين عشرين , فأراد بالأربعين ما اجتمع من عشرين وعشرين، ويوضّح ذلك قوله في بقيّة الخبر " وكلٌّ سنّةٌ , وهذا أحبّ إليّ " لأنّه لا يقتضي التّغاير، والتّأويل المذكور يقتضي أن يكون كلٌّ من الفريقين جلد ثمانين فلا يبقى هناك عدد يقع التّفاضل فيه. وأمّا دعوى من زعم أنّ المراد بقوله " هذا " الإشارة إلى الثّمانين , فيلزم من ذلك أن يكون عليٌّ رجّح ما فعل عمر , على ما فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر , وهذا لا يظنّ به قاله البيهقيّ. واستدل الطّحاويّ لضعف حديث أبي ساسان. بما تقدّم ذكره من قول عليّ " إنّه إذا سكر هذى إلخ ". قال: فلمّا اعتمد عليٌّ في ذلك على ضرب المثل , واستخرج الحدّ بطريق الاستنباط , دلَّ على أنّه لا توقيف عنده من الشّارع في ذلك، فيكون جزمه بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين غلطاً من الرّاوي، إذ لو كان عنده الحديث المرفوع لَم يعدل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصّحابة كعمر وسائر من ذكر في ذلك شيءٌ مرفوعٌ لأنكروا عليه. وتُعقّب: بأنّه إنّما يتّجه الإنكار لو كان المنزع واحداً , فأمّا مع

الاختلاف فلا يتّجه الإنكار، وبيان ذلك. أنّ في سياق القصّة ما يقتضي أنّهم كانوا يعرفون أنّ الحدّ أربعون , وإنّما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع يزيد على ما كان مقرّراً. ويشير إلى ذلك ما وقع من التّصريح في بعض طرقه , أنّهم احتقروا العقوبة وانهمكوا , فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى الحدّ المذكور قدرَه , إمّا اجتهاداً , بناءً على جواز دخول القياس في الحدود فيكون الكلّ حدّاً، أو استنبطوا من النّصّ معنىً يقتضي الزّيادة في الحدّ لا النّقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التّعزير تحذيراً وتخويفاً، لأنّ من احتقر العقوبة إذا عرف أنّها غلظت في حقّه كان أقرب إلى ارتداعه. فيحتمل: أن يكونوا ارتدعوا بذلك , ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك , فرأى عليّ الرّجوع إلى الحدّ المنصوص , وأعرض عن الزّيادة لانتفاء سببها. ويحتمل: أن يكون القدر الزّائد كان عندهم خاصّاً بمن تمرّد وظهرت منه أمارات الاشتهار بالفجور. ويدلّ على ذلك أنّ في بعض طرق حديث الزّهريّ عن حميد بن عبد الرّحمن عند الدّارقطنيّ وغيره: فكان عمر إذا أتي بالرّجل الضّعيف تكون منه الزّلة جلده أربعين. قال: وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين. وقال المازريّ: لو فهم الصّحابة أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حدّ في الخمر حدّاً

معيّناً , لَمَا قالوا فيه بالرّأي كما لَم يقولوا بالرّأي في غيره، فلعلهم فهموا أنّه ضرب فيه باجتهاده في حقّ من ضربه. انتهى. وقد وقع التّصريح بالحدّ المعلوم فوجب المصير إليه , ورجح القول بأنّ الذي اجتهدوا فيه زيادةً على الحدّ إنّما هو التّعزير , على القول بأنّهم اجتهدوا في الحدّ المعيّن لِمَا يلزم منه من المخالفة التي ذكرها. كما سبق في تقريره. وقد أخرج عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ أنبأنا عطاء , أنّه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم، فلمّا كان عمر فعل ذلك حتّى خشي فجعله أربعين سوطاً، فلمّا رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطاً , وقال: هذا أخفّ الحدود. والجمع بين حديث عليّ المصرّح بأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين وأنّه سنّةٌ , وبين حديثه في البخاري , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يسنّه. (¬1) بأن يُحمل النّفي على أنّه لَم يحدّ الثّمانين , أي: لَم يسنّ شيئاً زائداً على الأربعين. يؤيّده قوله " وإنّما هو شيءٌ صنعناه نحن " يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله " لو مات لوديته ". أي: في الأربعين الزّائدة , وبذلك جزم البيهقيّ وابن حزم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6778) وأخرجه مسلم أيضاً (4555) من طريق عمير بن سعيد النخعي , قال: سمعت عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ما كنتُ لأقيمَ حداً على أحدٍ فيموتَ، فأجدَ في نفسي، إلَّا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديتُه، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنَّه.

ويحتمل: أن يكون قوله " لَم يسنّه " أي: الثّمانين , لقوله في الرّواية الأخرى " وإنّما هو شيء صنعناه " فكأنّه خافَ من الذي صنعوه باجتهادهم أن لا يكون مطابقاً، واختصّ هو بذلك لكونه الذي كان أشار بذلك , واستدل له , ثمّ ظهر له أنّ الوقوف عندما كان الأمر عليه أوّلاً أولى , فرجع إلى ترجيحه , وأخبر بأنّه لو أقام الحدّ ثمانين فمات المضروب وداه للعلة المذكورة. ويحتمل: أن يكون الضّمير في قوله " لَم يسنّه " لصفة الضّرب وكونها بسوط الجلد. أي: لَم يسنّ الجلد بالسّوط , وإنّما كان يضرب فيه بالنّعال وغيرها ممّا تقدّم ذكره. أشار إلى ذلك البيهقيّ. وقال ابن حزم أيضاً: لو جاء عن غير عليٍّ من الصّحابة في حكم واحد أنّه مسنونٌ وأنّه غير مسنونٍ , لوجب حمل أحدهما على غير ما حمل عليه الآخر فضلاً عن عليٍّ مع سعة علمه وقوّة فهمه، وإذا تعارض خبر عمير بن سعيد (¬1) وخبر أبي ساسان. فخبر أبي ساسان أولى بالقبول , لأنّه مصرّحٌ فيه برفع الحديث عن عليٍّ , وخبر عمير موقوف على عليّ، وإذا تعارض المرفوع والموقوف قدّم المرفوع. وأمّا دعوى ضعف سند أبي ساسان فمردودة , والجمع أولى مهما أمكن من توهين الأخبار الصّحيحة. وعلى تقدير أن تكون إحدى الرّوايتين وهماً , فرواية الإثبات مقدّمةٌ على رواية النّفي، وقد ساعدتها رواية أنس على اختلاف ألفاظ ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق.

النّقلة عن قتادة , وعلى تقدير أن يكون بينهما تمام التّعارض فحديث أنس سالمٌ من ذلك. واستدل بصنيع عمر في جلد شارب الخمر ثمانين. وهو القول الأول. على أنّ حدّ الخمر ثمانون , وهو قول الأئمّة الثّلاثة وأحد القولين للشّافعيّ واختاره ابن المنذر. القول الثاني: وهو القول الآخر للشّافعيّ. وهو الصّحيح أنّه أربعون. قلت: جاء عن أحمد كالمذهبين. قال القاضي عياض: أجمعوا على وجوب الحدّ في الخمر , واختلفوا في تقديره، فذهب الجمهور إلى الثّمانين. وقال الشّافعيّ في المشهور عنه , وأحمد في رواية وأبو ثور وداود: أربعين. وتبعه على نقل الإجماع ابن دقيق العيد والنّوويّ ومن تبعهما. وتُعقّب: بأنّ الطّبريّ وابن المنذر وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أنّ الخمر لا حدّ فيها , وإنّما فيها التّعزير. واستدلّوا بأحاديث الباب (¬1) فإنّها ساكتة عن تعيين عدد الضّرب , وأصرحها حديث أنسٍ , ولَم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطّرق عنه. وقد قال عبد الرّزّاق: أنبأنا ابن جريجٍ ومعمر. سئل ابن شهاب: ¬

_ (¬1) أي: حديث عقبة بن الحارث وأبي هريرة. وقد تقدّم تخريجهما , وكذا حديث السائب بن يزيد المذكور في الشرح.

كم جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر؟ فقال: لَم يكن فرض فيها حدّاً، كان يأمر من حضره , أن يضربوه بأيديهم ونعالهم , حتّى يقول لهم: ارفعوا. وورد أنّه لَم يضربه أصلاً , وذلك فيما أخرجه أبو داود والنّسائيّ بسندٍ قويٍّ عن ابن عبّاس , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يوقّت في الخمر حدّاً، قال ابن عبّاس: وشرب رجلٌ فسَكِر , فانطلق به إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فلمّا حاذى دار العبّاس انفلت , فدخل على العبّاس فالتزمه , فذكر ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فضحك , ولَم يأمر فيه بشيءٍ. وأخرج الطّبريّ من وجه آخر عن ابن عبّاس: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر إلَّا أخيراً، ولقد غزا تبوك , فغشى حجرته من الليل سكرانٌ , فقال: ليقم إليه رجلٌ فيأخذ بيده حتّى يردّه إلى رحله. والجواب: أنّ الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحدّ , لأنّ أبا بكر تحرّى ما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ضرب السّكران , فصيّره حدّاً واستمرّ عليه، وكذا استمرّ من بعده وإن اختلفوا في العدد. وجمع القرطبيّ بين الأخبار: بأنّه لَم يكن أوّلاً في شرب الخمر حدٌّ , وعلى ذلك يحمل حديث ابن عبّاس في الذي استجار بالعبّاس، ثمّ شرع فيه التّعزيز على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثمّ شرع الحدّ , ولَم يطّلع أكثرهم على تعيينه صريحاً مع اعتقادهم أنّ فيه الحدّ المعيّن، ومن ثَمّ توخّى أبو بكرٍ ما فعل بحضرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاستقرّ عليه الأمر، ثمّ رأى عمر ومن وافقه الزّيادة على الأربعين إمّا حدّاً

بطريق الاستنباط وإمّا تعزيراً. قلت: وبقي ما ورد في الحديث , أنّه إن شرب فحدّ ثلاث مرّات , ثمّ شرب قتل في الرّابعة , وفي رواية في الخامسة. وهو حديثٌ مخرّجٌ في السّنن من عدّة طرق أسانيدها قويّةٌ. ونقل التّرمذيّ الإجماع على ترك القتل. وهو محمولٌ على من بعد من نقل غيرُه عنه القول به , كعبد الله بن عمرو فيما أخرجه أحمد. والحسن البصريّ وبعض أهل الظّاهر. وبالغ النّوويّ فقال: كلّ قولٍ باطل مخالفٌ لإجماع الصّحابة فمن بعدهم , والحديث الوارد فيه منسوخٌ , إمّا بحديث " لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاث " وإمّا لأنّ الإجماع دلَّ على نسخه. قلت: بل دليل النّسخ منصوص , وهو ما أخرجه أبو داود من طريق الزّهريّ عن قبيصة في هذه القصّة قال: فأتي برجلٍ قد شرب فجلده، ثمّ أتي به قد شرب فجلده، ثمّ أتي به فجلده , ثمّ أتي به فجلده , فرفع القتل , وكانت رخصةً. (¬1) واحتجّ مَن قال: إنّ حدّه ثمانون , بالإجماع في عهد عمر , حيث وافقه على ذلك كبار الصّحابة. وتعقّب: بأنّ عليّاً أشار على عمر بذلك , ثمّ رجع عليّ عن ذلك ¬

_ (¬1) توسّع الشارح رحمه الله في هذه المسألة في شرح حديث عمر في قصة الرّجل الذي كان يُدعى حماراً , وقد شرب الخمر مراراً. وهو في صحيح البخاري (6780) في " باب ما يكره من لعن الشارب .. " فراجعه.

واقتصر على الأربعين , لأنّها القدر الذي اتّفقوا عليه , وفي زمن أبي بكرٍ , مستندين إلى تقدير ما فعل بحضرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وأمّا الذي أشار به فقد تبيّن من سياق قصّته أنّه أشار بذلك ردعاً للذين انهمكوا , لأنّ في بعض طرق القصّة كما تقدّم أنّهم احتقروا العقوبة. وبهذا تمسّك الشّافعيّة فقالوا: أقلّ ما في حدّ الخمر أربعون , وتجوز الزّيادة فيه إلى الثّمانين على سبيل التّعزير , ولا يجاوز الثّمانين. واستندوا إلى أنّ التّعزير إلى رأي الإمام , فرأى عمر فعله بموافقة عليٍّ , ثمّ رجع عليّ ووقف عند ما فعله النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر , ووافقه عثمان على ذلك. وأمّا قول عليّ " وكلٌّ سنّةٌ " فمعناه أنّ الاقتصار على الأربعين سنّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فصار إليه أبو بكر، والوصول إلى الثّمانين سنّة عمر ردعاً للشّاربين الذين احتقروا العقوبة الأولى , ووافقه من ذكر في زمانه للمعنى الذي تقدّم. وسوّغ لهم ذلك. إمّا اعتقادهم جواز القياس في الحدود. على رأي من يجعل الجميع حدّاً. وإمّا أنّهم جعلوا الزّيادة تعزيراً بناء على جواز أن يبلغ بالتّعزير قدر الحدّ , ولعلهم لَم يبلغهم الخبر الآتي في باب التّعزير (¬1). وقد تمسّك بذلك مَن قال بجواز القياس في الحدود , وادّعى إجماع الصّحابة، وهي دعوى ضعيفةٌ لقيام الاحتمال. ¬

_ (¬1) يعني: حديث أبي بردة - رضي الله عنه - الآتي بعد هذا في العمدة.

وقد شنّع ابن حزم على الحنفيّة في قولهم: إنّ القياس لا يدخل في الحدود والكفّارات مع جزم الطّحاويّ ومن وافقه منهم بأنّ حدّ الخمر وقع بالقياس على حدّ القذف، وبه تمسّك مَن قال بالجواز من المالكيّة والشّافعيّة. واحتجّ من منع ذلك: بأنّ الحدود والكفّارات شرعت بحسب المصالح، وقد تشترك أشياء مختلفة , وتختلف أشياء متساوية. فلا سبيل إلى علم ذلك إلَّا بالنّصّ. وأجابوا عمّا وقع في زمن عمر: بأنّه لا يلزم من كونه جلد قدر حدّ القذف أن يكون جعل الجميع حدّاً , بل الذي فعلوه محمولٌ على أنّهم لَم يبلغهم أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حدّ فيه أربعين , إذ لو بلغهم لَمَا جاوزوه كما لَم يجاوزوا غيره من الحدود المنصوصة، وقد اتّفقوا على أنّه لا يجوز أن يستنبط من النّصّ معنىً يعود عليه بالإبطال , فرجح أنّ الزّيادة كانت تعزيراً. ويؤيّده ما أخرجه أبو عبيد في " غريب الحديث " بسندٍ صحيحٍ عن أبي رافع بن عمر , أنّه أتي بشاربٍ , فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غداً فاضربه، فجاء عمر فوجده يضربه ضرباً شديداً , فقال: كم ضربته؟ قال: ستّين. قال: اقتصّ عنه بعشرين. قال أبو عبيد: يعني اجعل شدّة ضربك له قصاصاً بالعشرين التي بقيت من الثّمانين. قال أبو عبيد: فيؤخذ من هذا الحديث. أنّ ضرب الشّارب لا

يكون شديداً , وأن لا يضرب في حال السّكر. لقوله " إذا أصبحت فاضربه ". قال البيهقيّ: ويؤخذ منه أنّ الزّيادة على الأربعين ليست بحدٍّ , إذ لو كانت حدّاً لَما جاز النّقص منه بشدّة الضّرب إذ لا قائل به. وقال صاحب " المفهم " ما ملخّصه بعد أن ساق الأحاديث الماضية: هذا كلّه يدلّ على أنّ الذي وقع في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان أدباً وتعزيراً، ولذلك قال عليٌّ: فإنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يسنّه، فلذلك ساغ للصّحابة الاجتهاد فيه , فألحقوه بأخفّ الحدود، وهذا قول طائفةٍ من علمائنا. ويرد عليهم قول عليٍّ: جلد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أربعين. وكذا وقوع الأربعين في عهد أبي بكر وفي خلافة عمر أوّلاً أيضاً ثمّ في خلافة عثمان، فلولا أنّه حدٌّ لاختلف التّقدير، ويؤيّده قيام الإجماع على أنّ في الخمر الحدّ , وإن وقع الاختلاف في الأربعين والثّمانين. قال: والجواب. أنّ النّقل عن الصّحابة اختلف في التّحديد والتّقدير، ولا بدّ من الجمع بين مختلف أقوالهم، وطريقه أنّهم فهموا أنّ الذي وقع في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كان أدباً من أصل ما شاهدوه من اختلاف الحال، فلمّا كثر الإقدام على الشّرب ألحقوه بأخفّ الحدود المذكورة في القرآن، وقوّى ذلك عندهم وجود الافتراء من السّكر فأثبتوها حدّاً، ولهذا أطلق عليٌّ , أنّ عمر جلد ثمانين , وهي سنّةٌ , ثمّ ظهر لعليٍّ أنّ الاقتصار على الأربعين أولى مخافة أن يموت فتجب فيه الدّية ,

ومراده بذلك الثّمانون. وبهذا يجمع بين قوله " لَم يسنّه " وبين تصريحه بأنّه - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين. قال: وغاية هذا البحث. أنّ الضّرب في الخمر تعزيرٌ يمنع من الزّيادة على غايته وهي مختلفٌ فيها. قال: وحاصل ما وقع من استنباط الصّحابة , أنّهم أقاموا السّكر مقام القذف , لأنّه لا يخلو عنه غالباً فأعطوه حكمه، وهو من أقوى حجج القائلين بالقياس، فقد اشتهرت هذه القصّة , ولَم ينكرها في ذلك الزّمان منكرٌ. قال: وقد اعترض بعض أهل النّظر. بأنّه إن ساغ إلحاق حدّ السّكر بحدّ القذف , فليحكم له بحكم الزّنا والقتل , لأنّهما مظنّته , وليقتصروا في الثّمانين على من سكر لا على من اقتصر على الشّرب , ولَم يسكر. قال: وجوابه. أنّ المظنّة موجودةٌ غالباً في القذف نادرةٌ في الزّنا والقتل، والوجود يحقّق ذلك، وإنّما أقاموا الحدّ على الشّارب وإن لَم يسكر مبالغةً في الرّدع , لأنّ القليل يدعو إلى الكثير , والكثير يسكر غالباً وهو المظنّة. ويؤيّده أنّهم اتّفقوا على إقامة الحدّ في الزّنا بمجرّد الإيلاج , وإن لَم يتلذّذ ولا أنزل ولا أكمل. قلت: والذي تحصّل لنا من الآراء في حدّ الخمر ستّة أقوالٍ: القول الأوّل: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يجعل فيها حدّاً معلوماً , بل كان

يقتصر في ضرب الشّارب على ما يليق به. قال ابن المنذر: قال بعض أهل العلم: أتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بسكران فأمرهم بضربه وتبكيته، فدلَّ على أن لا حدّ في السّكر, بل فيه التّنكيل والتّبكيت , ولو كان ذلك على سبيل الحدّ لبيّنه بياناً واضحاً. قال: فلمّا كثر الشّرّاب في عهد عمر استشار الصّحابة، ولو كان عندهم عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ محدودٌ لَما تجاوزوه كما لَم يتجاوزوا حدّ القذف , ولو كثر القاذفون وبالغوا في الفحش، فلمّا اقتضى رأيهم أن يجعلوه كحدّ القذف، واستدل عليٌّ بما ذكر من أنّ في تعاطيه ما يؤدّي إلى وجود القذف غالباً أو إلى ما يشبه القذف، ثمّ رجع إلى الوقوف عند تقدير ما وقع في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، دلَّ على صحّة ما قلناه، لأنّ الرّوايات في التّحديد بأربعين اختلفت عن أنس , وكذا عن عليّ , فالأولى أن لا يتجاوزوا أقل ما ورد أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ضربه , لأنّه المحقّقُ سواء كان ذلك حدّاً أو تعزيراً. القول الثّاني: أنّ الحدّ فيه أربعون , ولا تجوز الزّيادة عليها. القول الثّالث: مثله , لكن للإمام أن يبلغ به ثمانين، وهل تكون الزّيادة من تمام الحدّ أو تعزيراً؟. قولان. القول الرّابع: أنّه ثمانون , ولا تجوز الزّيادة عليها. القول الخامس: كذلك , وتجوز الزّيادة تعزيراً. وعلى الأقوال كلّها , هل يتعيّن الجلد بالسّوط , أو يتعيّن بما عداه , أو يجوز بكلٍّ من ذلك؟. أقوالٌ.

القول السّادس: إن شرب فجلد ثلاث مرّاتٍ فعاد الرّابعة وجب قتله، وقيل: إن شرب أربعاً فعاد الخامسة وجب قتله. وهذا السّادس في الطّرف الأبعد من القول الأوّل. وكلاهما شاذٌّ. وأظنّ الأوّل رأي البخاريّ , فإنّه لَم يترجم بالعدد أصلاً , ولا أخرج في العدد الصّريح شيئاً مرفوعاً. وتمسّك مَن قال لا يزاد على الأربعين: بأنّ أبا بكرٍ تحرّى ما كان في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فوجده أربعين فعمل به. ولا يعلم له في زمنه مخالفٌ، فإن كان السّكوت إجماعاً. فهذا الإجماع سابقٌ على ما وقع في عهد عمر , والتّمسّك به أولى , لأنّ مستنده فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ومن ثَمَّ رجع إليه عليٌّ ففعله في زمن عثمان بحضرته وبحضرة من كان عنده من الصّحابة , منهم عبد الله بن جعفر الذي باشر ذلك والحسن بن عليّ، فإن كان السّكوت إجماعاً فهذا هو الأخير فينبغي ترجيحه. وتمسّك مَن قال بجواز الزّيادة: بما صنع في عهد عمر من الزّيادة. ومنهم من أجاب عن الأربعين: بأنّ المضروب كان عبداً , وهو بعيدٌ فاحتمل الأمرين: أن يكون حدّاً أو تعزيراً. وتمسّك مَن قال بجواز الزّيادة على الثّمانين تعزيراً: بما أخرجه سعيد بن منصورٍ والبغويّ في الجعديّات , أنّ عمر حدّ الشّارب في رمضان , ثمّ نفاه إلى الشّام. وبما أخرجه ابن أبي شيبة , أنّ عليّاً جلد النّجاشيّ الشّاعر ثمانين , ثمّ أصبح فجلده عشرين بجراءته بالشّرب في رمضان.

وتقدّم الكلام في جواز الجمع بين الحدّ والتّعزير. في الكلام على تغريب الزّاني. (¬1) وتمسّك مَن قال يقتل في الرّابعة أو الخامسة: بما أخرجه الشّافعيّ في " رواية حرملة عنه " وأبو داود وأحمد والنّسائيّ والدّارميّ وابن المنذر وصحّحه ابن حبّان كلّهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة رفعه: إذا سكر فاجلدوه، ثمّ إذا سكر فاجلدوه، ثمّ إذا سكر فاجلده، ثمّ إذا سكر فاقتلوه. ولبعضهم. فاضربوا عنقه. وقد استقرّ الإجماع على ثبوت حدّ الخمر , وأن لَّا قتل فيه (¬2) واستمرّ الاختلاف في الأربعين والثّمانين، وذلك خاصٌّ بالحرّ المسلم. وأمّا الذّمّيّ. فلا يحدّ فيه، وعن أحمد رواية: أنّه يحدّ. وعنه: إن سكر. والصّحيح عندهم كالجمهور. وأمّا من هو في الرّقّ , فهو على النّصف من ذلك إلَّا عند أبي ثور وأكثر أهل الظّاهر , فقالوا: الحرّ والعبد في ذلك سواءٌ , لا ينقص عن الأربعين. نقله ابن عبد البرّ وغيره عنهم. وخالفهم ابن حزم , فوافق الجمهور. ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي هريرة في قصة العسيف , وقد مضى برقم (351). (¬2) تقدّم دليل النسخ قبل قليل. وانظر التعليق عليه.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 360 - عن أبي بُرْدة هانىء بن نيار البلويّ الأنصاريّ - رضي الله عنه - , أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يُجلد فوق عشرة أسواطٍ، إلَّا في حدٍّ من حدود الله. (¬1) قوله: (عن أبي بردة) في رواية علي بن إسماعيل بن حماد عن عمرو بن علي - شيخ البخاري فيه - بسنده إلى عبد الرحمن بن جابر قال: حدَّثني رجلٌ من الأنصار، قال أبو حفص - يعني عمرو بن علي المذكور -: هو أبو بردة بن نيار. أخرجه أبو نعيم. وفي رواية عمرو بن الحارث حدثني عبد الرحمن بن جابر , أنَّ أباه حدَّثه , أنه سمع أبا بردة الأنصاري. ووقع في الطريق الثانية (¬2) من رواية فضيل بن سليمان عن مسلم بن أبي مريم. حدثني عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد سَمَّاه حفص بن ميسرة - وهو أوثق من فضيل بن سليمان - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6458) ومسلم (1708) من طريق عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه عن أبي بردة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (6456) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن بكير عن سليمان عن عبد الرحمن عن أبي بردة. دون قوله (عن أبيه) ... وأخرجه البخاري (6457) عن عمرو بن علي عن فضيل بن سليمان عن مسلم بن أبي مريم حدثني عبد الرحمن بن جابر عمّن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -. نحوه. (¬2) أي: عند البخاري. كما تقدّم في التخريج.

فقال فيه: عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه. أخرجه الإسماعيلي. قلت: قد رواه يحيى بن أيوب عن مسلم بن أبي مريم مثل رواية فضيل. أخرجه أبو نعيم في " المستخرج ". قال الإسماعيلي: ورواه إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن رجلٍ من الأنصار. قلت: وهذا لا يعيِّن أحد التفسيرين، فإن كُلاًّ من جابر وأبي بردة أنصاريٌ. قال الإسماعيلي: لم يُدخلِ الليثُ عن يزيد بين عبد الرحمن وأبي بردة أحداً , وقد وافقه سعيد بن أيوب عن يزيد. ثم ساقه من روايته كذلك. وحاصل الاختلاف. هل هو عن صحابي مُبهم أو مُسمَّى؟ الراجح الثاني. ثم الراجح أنه أبو بردة بن نيار. وهل بين عبد الرحمن وأبي بردة واسطة. وهو جابر أو لا؟ الراجح الثاني أيضاً. وقد ذكر الدارقطني في " العلل " الاختلاف ثم قال: القول قول الليث ومن تابعه، وخالف ذلك في جميع التتبع. فقال: القول قول عمرو بن الحارث , وقد تابعه أسامة بن زيد. قلت: ولم يقدح هذا الاختلاف عن الشيخين في صحة الحديث

فإنه كيفما دار يدور على ثقة. ويحتمل: أن يكون عبد الرحمن وقع له فيه ما وقع لبكير بن الأشج في تحديث عبد الرحمن بن جابر لسليمان بحضرة بكير , ثم تحديث سليمان بكيراً به عن عبد الرحمن. أو أنَّ عبد الرحمن سمع أبا بردة لَمَّا حدَّث به أباه , وثبَّته فيه أبوه فحدَّث به تارة بواسطة أبيه , وتارة بغير واسطة. وادعى الأصيلي (¬1) أنَّ الحديثَ مضطربٌ فلا يحتج به لاضطرابه. وتعقب: بأنَّ عبد الرحمن ثقة فقد صرَّح بسماعه، وإبهام الصحابي لا يضر، وقد اتفق الشيخان على تصحيحه , وهما العمدة في التصحيح. وقد وجدتُ له شاهداً بسند قوي , لكنه مرسل. أخرجه الحارث بن أبي أسامة من رواية عبد الله بن أبي بكر بن الحارث بن هشام رفعه: لا يَحلُّ أن يُجلد فوق عشرة أسواط إلَّا في حدٍّ. وله شاهد آخر عن أبي هريرة عند ابن ماجه. ستأتي الإشارة إليه. قوله: (هانىء بن نيار) وهو بكسر النون وتخفيف الياء المثناة من تحت وآخره راء. (¬2) قوله: (لا يُجلد) بضمّ أوّله بصيغة النّفي، ولبعضهم بالجزم، ويؤيّده ما وقع في البخاري بصيغة النّهي " لا تجلدوا ". ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن ابراهيم , سبق ترجمته (1/ 114) (¬2) تقدّمت ترجمة أبي بردة - رضي الله عنه -. انظر رقم (147).

قوله: (فوق عشرة أسواط) وللبخاري " فوق عشر جلدات " وفي رواية له أيضاً " لا عقوبة فوق عشر ضربات ". قوله: (إلَّا في حدّ من حدود الله) ظاهره أنّ المراد بالحدّ ما ورد فيه من الشّارع عددٌ من الجلد أو الضّرب مخصوص أو عقوبة مخصوصة. والمتّفق عليه من ذلك الزّنا والسّرقة وشرب المسكر والحرابة والقذف بالزّنا والقتل والقصاص في النّفس والأطراف والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الأخيرين حدّاً. واختلف في أشياء كثيرة يستحقّ مرتكبها العقوبة , هل تُسمّى عقوبته حدّاً أو لا؟. وهي جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسّحاق وأكل الدّم والميتة - في حال الاختيار - ولحم الخنزير، وكذا السّحر والقذف بشرب الخمر وترك الصّلاة تكاسلاً والفطر في رمضان والتّعريض بالزّنا. وذهب بعضهم. إلى أنّ المراد بالحدّ في حديث الباب حقّ الله. قال ابن دقيق العيد: بلغني أنّ بعض العصريّين قرّر هذا المعنى بأنّ تخصيص الحدّ بالمقدّرات المقدّم ذكرها أمرٌ اصطلاحيّ من الفقهاء، وأنّ عرف الشّرع أوّل الأمر كان يطلق الحدّ على كلّ معصية كبرت أو صغرت. وتعقّبه ابن دقيق العيد , أنّه خروج عن الظّاهر ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه.

قال: ويردّ عليه. أنّا إذا أجزنا في كلّ حقّ من حقوق الله أن يزاد على العشر لَم يبق لنا شيء يختصّ المنع به، لأنّ ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزّيادة هو ما ليس بمحرّمٍ، وأصل التّعزير أنّه لا يشرع فيما ليس بمحرّمٍ فلا يبقى لخصوص الزّيادة معنىً. قلت: والعصريّ المشار إليه أظنّه ابن تيميّة. وقد تقلَّد صاحبه ابن القيّم المقالة المذكورة , فقال: الصّواب في الجواب. أنّ المراد بالحدود هنا الحقوق التي هي أوامر الله ونواهيه، وهي المراد بقوله {ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظّالمون} وفي أخرى {فقد ظلم نفسه} وقال {تلك حدود الله فلا تقربوها} وقال {ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً}. قال: فلا يزاد على العشر في التّأديبات التي لا تتعلق بمعصيةٍ كتأديب الأب ولده الصّغير. قلت: ويحتمل أن يفرّق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه وهو المستثنى في الأصل، وما لَم يرد فيه تقدير. فإن كان كبيرة جازت الزّيادة فيه , وأطلق عليه اسم الحدّ كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى. وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزّيادة. فهذا يدفع إيراد الشّيخ تقيّ الدّين على العصريّ المذكور - إن كان ذلك مراده - وقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة بالتّعزير بلفظ: لا تعزّروا فوق عشرة أسواط.

وقد اختلف السّلف في مدلول هذا الحديث. القول الأول: أخذ بظاهره الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشّافعيّة. القول الثاني: قال مالك والشّافعيّ وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزّيادة على العشر. ثمّ اختلفوا. فقال الشّافعيّ: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحدّ الحرّ أو العبد؟. قولان، وفي قول أو وجه يستنبط: كلّ تعزير من جنس حدّه ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعيّ " لا يبلغ به الحدّ ". ولَم يفصّل. وقال الباقون: هو إلى رأي الإمام بالغاً ما بلغ. وهو اختيار أبي ثور، وعن عمر , أنّه كتب إلى أبي موسى: لا تجلد في التّعزير أكثر من عشرين. وعن عثمان: ثلاثين , وعن عمر: أنّه بلغ بالسّوط مائة , وكذا عن ابن مسعود. وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزّر إلَّا من تكرّر منه، ومن وقع منه مرّة واحدة معصيةٌ لا حدّ فيها فلا يعزّر. وعن أبي حنيفة: لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف: لا يزاد على خمس وتسعين جلدة، وفي رواية عن مالك وأبي يوسف. لا يبلغ ثمانين. وأجابوا عن الحديث بأجوبةٍ: الأول: ما تقدّم.

الثاني: قصره على الجلد , وأمّا الضّرب بالعصا مثلاً وباليد فتجوز الزّيادة , لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الإصطخريّ من الشّافعيّة , وكأنّه لَم يقف على الرّواية الواردة بلفظ الضّرب. الثالث: أنّه منسوخ. دلَّ على نسخه إجماع الصّحابة. وردّ: بأنّه قال به بعض التّابعين , وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار. الرابع: معارضة الحديث بما هو أقوى منه , وهو الإجماع على أنّ التّعزير يخالف الحدود , وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها فيصير مثل الحدّ، وبالإجماع على أنّ التّعزير موكولٌ إلى رأي الإمام فيما يرجع إلى التّشديد والتّخفيف لا من حيث العدد , لأنّ التّعزير شرع للرّدع , ففي النّاس من يردعه الكلام , ومنهم من لا يردعه الضّرب الشّديد، فلذلك كان تعزيرُ كلِّ أحدٍ بحسبه. وتعقّب: بأنّ الحدّ لا يزاد فيه، ولا ينقص فاختلفا، وبأنّ التّخفيف والتّشديد مسلمٌ , لكن مع مراعاة العدد المذكور , وبأنّ الرّدع لا يراعى في الأفراد , بدليل أنّ من النّاس من لا يردعه الحدّ، ومع ذلك لا يجمع عندهم بين الحدّ والتّعزير، فلو نظر إلى كل فردٍ لقيل بالزّيادة على الحدّ , أو الجمع بين الحدّ والتّعزير. ونقل القرطبيّ: أنّ الجمهور قالوا بما دلَّ عليه حديث الباب. وعكسه النّوويّ , وهو المعتمد , فإنّه لا يعرف القول به عن أحد من الصّحابة.

واعتذر الدّاوديّ فقال: لَم يبلغ مالكاً هذا الحديث , فكان يرى العقوبة بقدر الذّنب، وهو يقتضي. أنّه لو بلغه ما عدل عنه , فيجب على من بلغه أن يأخذ به.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور الأيمان: بفتح الهمزة جمع يمين، وأصل اليمين في اللّغة اليد. وأطلقت على الحلف , لأنّهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كلٌّ بيمين صاحبه. وقيل: لأنّ اليد اليمنى من شأنها حفظ الشّيء , فسمّي الحلف بذلك لحفظ المحلوف عليه، وسُمّي المحلوف عليه يميناً لتلبّسه بها. ويجمع اليمين أيضاً على أيمن كرغيفٍ وأرغف. وعُرّفت شرعاً , بأنّها توكيد الشّيء بذكر اسم أو صفة لله , وهذا أخصر التّعاريف وأقربها. والنّذور جمع نذر , وأصله الإنذار بمعنى التّخويف. وعرّفه الرّاغب: بأنّه إيجاب ما ليس بواجبٍ لحدوث أمرٍ.

الحديث الأول

الحديث الأول 361 - عن عبد الرحمن بن سَمُرة - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسألِ الإمارة، فإنك إنْ أُعطيتها عن مسألةٍ وُكلت إليها، وإنْ أُعطيتها عن غير مسألةٍ أُعنتَ عليها، وإذا حلفت على يمينٍ، فرأيتَ غيرها خيراً منها، فكفّر عن يَمينك، وائتِ الذي هو خيرٌ. (¬1) قوله: (عن عبد الرحمن بنِ سمرةَ - رضي الله عنه -) في رواية إبراهيم بن صدقة عن يونس بن عبيد عن الحسن " وكان غزا معه كابُلَ شتوة أو شتوتين " (¬2) أخرجه أبو عوانة في " صحيحه ". وكذا للطبراني من طريق أبي حمزة إسحاق بن الربيع عن الحسن , لكن بلفظ: غزونا مع عبد الرحمن بن سمرة. وأخرجه أيضاً من طريق علي بن زيد عن الحسن حدثني عبد الرحمن بن سمرة. ومن طريق المبارك بن فضالة عن الحسن حدثنا عبد الرحمن. وقد خرج طرقَه الحافظ عبد القادر الرهاوي في " الأربعين البلدانية " له عن سبعة وعشرين نفساً من الرواة عن الحسن. ثم قال: رواه عن الحسن العدد الكثير من أهل مكة والمدينة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6342 , 6343 , 6727 , 6728) ومسلم (1652) من طرق عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -. (¬2) وقع في المطبوع (كإبل شنوءة أو شنوءتين).وهو تصحيف واضح. والشتوة مفرد شتاء.

والبصرة والكوفة والشام. ولعلهم يزيدون على الخمسين، ثم خرَّج طرقَه الحافظُ يوسف بن خليل عن أكثر من ستين نفساً عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة. وسرد الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده في " تذكرته " أسماء مَن رواه عن الحسن فبلغوا مائة وثمانين نفساً وزيادة. ثم قال: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن سمرة. عبد الله بن عمرو وأبو موسى وأبو الدرداء وأبو هريرة وأنس وعدي بن حاتم وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وعمران بن حصين. انتهى. ولَمَّا أخرج الترمذي حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: وفي الباب. فذكر الثمانية المذكورين أولاً , وأهمل خمسة. واستدركهم شيخنا في شرح الترمذي إلَّا ابن مسعود وابن عمر , وزاد: معاوية بن الحكم وعوف بن مالك الجشمي - والد أبي الأحوص - وأُذينة - والد عبد الرحمن - فكملوا ستةَ عشر نفساً. قلت: أحاديث المذكورين كلها فيما يتعلق باليمين، وليس في حديث أحد منهم " لا تسأل الإمارة ". ولم يذكر ابن منده , أنَّ أحداً رواه عن عبد الرحمن بن سمرة غير الحسن , لكن ذكر عبد القادر , أنَّ محمد بن سيرين رواه عن عبد الرحمن. ثم أسند من طريق أبي عامر الخراز عن الحسن وابن سيرين , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة. الحديث.

وقال: غريبٌ ما كتبته إلا من هذا الوجه، والمحفوظ رواية الحسن عن عبد الرحمن. انتهى. وهذا - مع ما في سنده من ضعف - ليس فيه التصريح برواية ابن سيرين عن عبد الرحمن، وأخرجه يوسف بن خليل الحافظ من رواية عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الرحمن بن سمرة. أورده من " المعجم الأوسط " للطبراني، وهو في ترجمة محمد بن علي المروزي بسنده إلى عكرمة قال: كان اسم عبد الرحمن بن سمرة عبد كلوب فسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن فمرَّ به، وهو يتوضأ فقال: تعال يا عبد الرحمن لا تطلب الإمارة. الحديث. وهذا لم يصرِّح فيه عكرمة بأنه حمله عن عبد الرحمن , لكنه محتمل. قال الطبراني: لم يروه عن عكرمة إلا عبد الرحمن بن كيسان، ولا عنه إلا ابنه إسحاق تفرد به أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب. قلت: عبد الله بن كيسان ضعفه أبو حاتم الرازي، وابنه إسحاق لينه أبو أحمد الحاكم. قوله: (يا عبد الرحمن بن سمرة) يعني ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد منافٍ، وقيل: بين حبيب وعبد شمس ربيعة. وكنية عبد الرّحمن أبو سعيد، وهو من مسلمة الفتح. وقيل: كان اسمه قبل الإسلام عبد كلالٍ بضمّ أوّله والتّخفيف (¬1). وقد شهد فتوح العراق , وكان فتح سجستان على يديه، أرسله ¬

_ (¬1) تقدَّم قبل قليل الدليل عليه عند الطبراني.

عبد الله بن عامر أمير البصرة لعثمان على السّريّة ففتحها وفتح غيرها. وقال ابن سعد: مات سنة خمسين , وقيل بعدها بسنةٍ، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث. قوله: (لا تسأل) هذا الذي في أكثر طرق الحديث. ووقع في رواية يونس بن عبيد (¬1) عن الحسن لفظ " لا تتمنّينّ " بصيغة النّهي عن التّمنّي مؤكّداً بالنّون الثّقيلة، والنّهي عن التّمنّي أبلغ من النّهي عن الطّلب. قوله: (الإمارة) بكسر الهمزة. أي: الولاية قوله: (عن مسألة) أي: سؤالٍ. قوله: (وُكلت إليها) بضمّ الواو وكسر الكاف مخفّفاً ومشدّداً وسكون اللام، ومعنى المخفّف. أي: صرف إليها , ومن وُكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدّعاء " ولا تكلني إلى نفسي " (¬2). ووكل أمره ¬

_ (¬1) رواية يونس عن الحسن. أخرجها البخاري (7147) ومسلم (1652). لكن بلفظ (لا تسأل.) كذا عند البخاري , أمّا مُسلم فلم يسق لفظ يونس , وإنّما أحاله على رواية جرير بن حازم رواية العمدة. ولم أر هذه اللفظة عند من خرَّج الحديث من طريق يونس. وقد أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في " مسند أبي حنيفة " (1/ 115) من طريق زياد الجصَّاص عن الحسن. بلفظ (لا تتمنين .. (¬2) أخرجه النسائي (6/ 147) والحاكم (1/ 730). صحَّحه على شرط الشيخين , والبيهقي في " شعب الإيمان " (1/ 476، رقم 761)، والضياء في " المختارة " (6/ 300، رقم 2320) من طريق زيد بن الحباب أخبرني عثمان بن موهب الهاشمي سمعت أنس بن مالك يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة: ما يمنعكِ أن تسمعي ما أوصيكِ به , أو تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث , أصلح لي شأني كلّه , ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين. قال الضياء: إسناده حسن. وذكره ابن حجر في موضع آخر من الفتح. وسكت عنه وجاء هذا الدعاء من طريق آخر عن أنس , وله شاهد من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - مطولاً عند البخاري في " الأدب المفرد " (701).

إلى فلان صرفه إليه. ووكّله بالتّشديد: استحفظه. ومعنى الحديث. أنّ من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه. ويستفاد منه أنّ طلب ما يتعلق بالحكم مكروه , فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك , وأنّ من حرص على ذلك لا يعان. ويعارضه في الظّاهر ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه: من طلب قضاء المسلمين حتّى يناله , ثمّ غلب عدلُه جورَه فله الجنّة، ومن غلب جوره عدله فله النّار. والجمع بينهما: أنّه لا يلزم من كونه لا يُعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي , أو يحمل الطّلب هنا على القصد , وهناك على التّولية. وقد روى البخاري من حديث أبي موسى: " إنّا لا نولِّي من حرص ". ولذلك عبّر في مقابله بالإعانة، فإنّ من لَم يكن له من الله عون على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل فلا ينبغي أن يجاب سؤاله. ومن المعلوم أنّ ولايةً لا تخلو من المشقّة، فمن لَم يكن له من الله إعانة تورّط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لَم

يتعرّض للطّلب أصلاً، بل إذا كان كافياً وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصّادق بالإعانة، ولا يخفى ما في ذلك من الفضل. قال المُهلَّب (¬1): جاء تفسير الإعانة عليها في حديث بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس رفعه: من طلب القضاء واستعان عليه بالشّفعاء وُكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدّده. أخرجه ابن المنذر. قلت: وكذا أخرجه التّرمذيّ من طريق أبي عوانة عن عبد الأعلى الثّعلبيّ، وأخرجه هو وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي عوانة , ومن طريق إسرائيل عن عبد الأعلى. فأسقط خيثمةَ من السّند. قال التّرمذيّ: ورواية أبي عوانة أصحّ. وقال في رواية أبي عوانة: حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل. وصحَّحه. وتُعقّب: بأنّ ابن معين ليّن خيثمةَ , وضعّف عبدَ الأعلى، وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى: ليس بقويٍّ. قال المُهلَّب: وفي معنى الإكراه عليه أن يُدعى إليه فلا يرى نفسه أهلاً لذلك هيبةً له وخوفاً من الوقوع في المحذور , فإنّه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدّد؛ والأصل فيه أنّ من تواضع لله رفعه الله. وقال ابن التّين (¬2): هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف ¬

_ (¬1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12). (¬2) هو عبدالواحد بن التين , سبق ترجمته (1/ 151)

{اجعلني على خزائن الأرض} وقال سليمان {وهبْ لي مُلكاً}. قال: ويحتمل: أن يكون في غير الأنبياء. قوله: (وإذا حلفت على يمينٍ) سيأتي توجيهه إن شاء الله في الكلام على حديث أبي موسى قريباً في قوله " لا أحلف على يمين ". وقد اختلف فيما تضمّنه حديث عبد الرّحمن بن سمرة , هل لأحد الْحُكمين تعلّقٌ بالآخر أو لا؟. فقيل: له به تعلّقٌ، وذلك أنّ أحد الشّقّين أن يعطى الإمارة من غير مسألة , فقد لا يكون له فيها أربٌ فيمتنع فيلزم فيحلف , فأمر أن ينظر ثمّ يفعل الذي هو أولى , فإن كان في الجانب الذي حلف على تركه فيحنث ويكفّر، ويأتي مثله في الشّقّ الآخر. قوله: (فرأيتَ غيرَها) أي: غير المحلوف عليه، وظاهر الكلام عود الضّمير على اليمين، ولا يصحّ عوده على اليمين بمعناها الحقيقيّ , بل بمعناها المجازيّ، والمراد بالرّؤية هنا الاعتقاديّة لا البصريّة. قال عياض (¬1): معناه إذا ظهر له أنّ الفعل أو التّرك خيرٌ له في دنياه أو آخرته , أو أوفق لمراده وشهوته ما لَم يكن إثماً. قلت: وقد وقع عند مسلم في حديث عديّ بن حاتم " فرأى غيرها أتقى لله , فليأت التّقوى ". وهو يشعر بقصر ذلك على ما فيه طاعةٌ. وينقسم المأمور به أربعة أقسامٍ , إن كان المحلوف عليه فعلاً فكان ¬

_ (¬1) هو القاضي عياض بن موسى اليحصبي , سبق ترجمته (1/ 103)

التّرك أولى، أو كان المحلوف عليه تركاً فكان الفعل أولى، أو كان كلّ منهما فعلاً وتركاً , لكن يدخل القسمان الأخيران في القسمين الأوّلين؛ لأنّ من لازم فعل أحد الشّيئين أو تركه ترك الآخر أو فعله. قوله: (فكفّر عن يَمينك، وائت الذي هو خيرٌ) هكذا للكثير منهم , وللبخاري " فأت الذي هو خيرٌ وكفّر عن يمينك " هكذا وقع للأكثر. وسأذكر من رواه بلفظ " ثمّ ائت الذي هو خير ". ووقع في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند أبي داود " فرأى غيرها خيراً منها فليدعها , وليأت الذي هو خير , فإنّ كفّارتها تركها ". فأشار أبو داود إلى ضعفه , وقال: الأحاديث كلّها فليكفّر عن يمينه إلَّا شيئاً لا يعبأ به. انتهى كأنّه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: من حلف فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير فهو كفّارته. ويحيى ضعيفٌ جدّاً. (¬1) وقد وقع في حديث عديّ بن حاتم عند مسلم ما يُوهم ذلك، وأنّه أخرجه بلفظ " من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خيرٌ. وليترك يمينه ". هكذا أخرجه من وجهين. ولَم يذكر ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في " الكبرى " (10/ 34) من طريق يحيى بن سعيد عن يحيى به. قال أبو داود في " السنن ": قلت لأحمد (ابن حنبل)، روى يحيى بن سعيد، عن يحيى بن عبيد الله، فقال: تركه بعد ذلك، وكان أهلاً لذلك , قال أحمد: أحاديثه مناكير، وأبوه لا يُعرف. انتهى

الكفّارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ " فرأى خيراً منها فليكفّرها , وليأت الذي هو خير ". ومداره في الطّرق كلّها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عديّ، والذي زاد ذلك حافظٌ فهو المعتمد. قال الشّافعيّ: في الأمر بالكفّارة مع تعمّد الحنث دلالة على مشروعيّة الكفّارة في اليمين الغموس؛ لأنّها يمين حانثة. واستدل به على أنّ الحالف يجب عليه فعل أيّ الأمرين كان أولى من المضيّ في حلفه أو الحنث والكفّارة. وانفصل عنه مَن قال: إنّ الأمر فيه للنّدب بما في الصحيحين في قصّة الأعرابيّ الذي قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص , فقال: أفلح إنْ صدق. فلم يأمره بالحنث والكفّارة , مع أنّ حلفه على ترك الزّيادة مرجوح بالنّسبة إلى فعلها. قال ابن المنذر: رأى ربيعة والأوزاعيّ ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرّأي أنّ الكفّارة تجزئ قبل الحنث. إلَّا أنّ الشّافعيّ استثنى الصّيام , فقال: لا يجزئ إلَّا بعد الحنث. وقال أصحاب الرّأي: لا تجزئ الكفّارة قبل الحنث. قلت: ونقل الباجيّ عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصّدقة والعتق، ووافق الحنفيّة أشهب من المالكيّة وداود الظّاهريّ , وخالفه ابن حزم. واحتجّ لهم الطّحاويّ: بقوله تعالى {ذلك كفّارة أيمانكم إذا

حلفتم} فإذاً المراد إذا حلفتم فحنثتم. وردّه مخالفوه فقالوا: بل التّقدير فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التّقدير أعمّ من ذلك، فليس أحد التّقديرين بأولى من الآخر. واحتجّوا أيضاً: بأنّ ظاهر الآية أنّ الكفّارة وجبت بنفس اليمين. وردّه من أجاز: بأنّها لو كانت بنفس اليمين لَم تسقط عمّن لَم يحنث اتّفاقاً. واحتجّوا أيضاً: بأنّ الكفّارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوّعٌ، فلا يقوم التّطوّع مقام الفرض. وانفصل عنه من أجاز: بأنّه يشترط إرادة الحنث، وإلاَّ فلا يجزئ كما في تقديم الزّكاة. وقال عياض: اتّفقوا على أنّ الكفّارة لا تجب إلَّا بالحنث، وأنّه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحبّ مالكٌ والشّافعيّ والأوزاعيّ والثّوريّ تأخيرها بعد الحنث. قال عياض: ومنع بعض المالكيّة تقديم كفّارة حنث المعصية؛ لأنّ فيه إعانة على المعصية، وردّه الجمهور. قال ابن المنذر: واحتجّ للجمهور بأنّ اختلاف ألفاظ حديثي أبي موسى وعبد الرّحمن لا يدلّ على تعيين أحد الأمرين، وإنّما أمرَ الحالفَ بأمرين فإذا أتى بهما جميعاً فقد فعل ما أمر به، وإذا لَم يدلّ الخبر على المنع فلم يبق إلَّا طريق النّظر، فاحتجّ للجمهور بأنّ عقد اليمين لَمَّا كان يحلّه الاستثناء، وهو كلام فلأن تحله الكفّارة، وهو

فعلٌ ماليٌّ أو بدنيٌّ أولى، ويرجّح قولهم أيضاً بالكثرة. وذكر أبو الحسن بن القصّار وتبعه عياض وجماعة: أنّ عدّة مَن قال بجواز تقديم الكفّارة , أربعة عشر صحابيّاً وتبعهم فقهاء الأمصار إلَّا أبا حنيفة، مع أنّه قال فيمن أخرج ظبيةً من الحرم إلى الحلّ فولدت أولاداً ثمّ ماتت في يده هي وأولادها: أنّ عليه جزاءها وجزاء أولادها، لكن إن كان حين إخراجها أدّى جزاءها لَم يكن عليه في أولادها شيءٌ , مع أنّ الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفّارة اليمين أولى. وقال ابن حزم: أجاز الحنفيّة تعجيل الزّكاة قبل الحول وتقديم زكاة الزّرع، وأجازوا تقديم كفّارة القتل قبل موت المجنيّ عليه. واحتجّ للشّافعيّ: بأنّ الصّيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصّلاة والصّيام، بخلاف العتق والكسوة والإطعام فإنّها من حقوق الأموال فيجوز تقديمها كالزّكاة. ولفظ الشّافعيّ في " الأمّ ": إن كفّر بالإطعام قبل الحنث رجوت أن يجزئ عنه، وأمّا الصّوم فلا , لأنّ حقوق المال يجوز تقديمها بخلاف العبادات فإنّها لا تقدّم على وقتها كالصّلاة والصّوم، وكذا لو حجّ الصّغير والعبد لا يجزئ عنهما إذا بلغ أو عتق. وقال في موضع آخر: من حلف فأراد أن يحنث فأحبُّ إليّ أن لا يكفّر حتّى يحنث فإن كفّر قبل الحنث أجزأ، وساق نحوه مبسوطاً. وادّعى الطّحاويّ: أنّ إلحاق الكفّارة بالكفّارة أولى من إلحاق

الإطعام بالزّكاة. وأجيب: بالمنع. وأيضاً: فالفرق الذي أشار إليه الشّافعيّ بين حقّ المال وحقّ البدن ظاهر جدّاً، وإنّما خصّ منه الشّافعيّ الصّيام بالدّليل المذكور. ويؤخذ من نصّ الشّافعيّ أنّ الأولى تقديم الحنث على الكفّارة، وفي مذهبه وجهٌ اختلف فيه التّرجيح أنّ كفّارة المعصية يستحبّ تقديمها. قال القاضي عياض: الخلاف في جواز تقديم الكفّارة مبنيّ على أنّ الكفّارة رخصة لحل اليمين أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنّها رخصة شرعها الله لحل ما عقد من اليمين , فلذلك تجزئ قبل وبعد. قال المازريّ: للكفّارة ثلاث حالات. أحدها: قبل الحلف. فلا تجزئ اتّفاقاً. ثانيها: بعد الحلف والحنث. فتجزئ اتّفاقاً. ثالثها: بعد الحلف وقبل الحنث. ففيها الخلاف. وقد اختلف لفظ الحديث , فقدّم الكفّارة مرّةً وأخّرها أخرى , لكن بحرف الواو الذي لا يوجب رتبةً، ومن منع رأى أنّها لَم تجز فصارت كالتّطوّع , والتّطوّع لا يجزئ عن الواجب. وقال الباجيّ وابن التّين وجماعة: الرّوايتان دالتان على الجواز , لأنّ الواو لا ترتّب.

قال ابن التّين: فلو كان تقديم الكفّارة لا يجزئ لأَبَانه. ولقال: فليأت ثمّ ليكفّر؛ لأنّ تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز، فلمّا تركهم على مقتضى اللسان دلَّ على الجواز. قال: وأمّا الفاء في قوله " فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك " فهي كالفاء الذي في قوله " فكفّر عن يمينك وأت الذي هو خير ". ولو لَم تأت الثّانية لَما دلّت الفاء على التّرتيب , لأنّها أبانت ما يفعله بعد الحلف وهما شيئان كفّارةٌ وحنثٌ، ولا ترتيب فيهما، وهو كمَن قال: إذا دخلت الدّار فكلْ واشرب. قلت: قد ورد في بعض الطّرق بلفظ " ثمّ " التي تقتضي التّرتيب عند أبي داود والنّسائيّ في حديث الباب، ولفظ أبي داود من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة به " كفّر عن يمينك , ثمّ ائت الذي هو خيرٌ ". وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه , لكن أحال بلفظ المتن على ما قبله. وأخرجه أبو عوانة في " صحيحه " من طريق سعيد كأبي داود، وأخرجه النّسائيّ من رواية جرير بن حازم عن الحسن مثله. لكن أخرجه البخاريّ ومسلم من رواية جرير. بالواو، وهو في حديث عائشة عند الحاكم أيضاً بلفظ " ثمّ ". وفي حديث أمّ سلمة عند الطّبرانيّ نحوه. ولفظه " فليكفّر عن يمينه , ثمّ ليفعل الذي هو خيرٌ ".

الحديث الثاني

الحديث الثاني 362 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني والله - إن شاء الله - لا أحلفُ على يمينٍ فأرى غيرها خيراً منها، إلَّا أتيتُ الذي هو خيرٌ، وتحلَّلتها. (¬1) قوله: (إني والله إن شاء الله) قال أبو موسى المدينيّ في كتابه " الثّمين في استثناء اليمين ": لَم يقع قوله " إن شاء الله " في أكثر الطّرق لحديث أبي موسى. انتهى. وسقط لفظ " والله " من نسخة ابن المنير (¬2) , فاعترض بأنّه ليس في حديث أبي موسى يمينٌ. وليس كما ظنّ , بل هي ثابتة في الأصول، وإنّما أراد البخاريّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2694 , 4124 , 5198 , 5199 , 6273 , 6342 , 7116) ومسلم (1649) من طرق عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم بن عاصم عن زهدم الجرمي: كنا عند أبي موسى فأتي - وذكر دجاجة - وعنده رجلٌ من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي فدعاه للطعام , فقال: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته. فحلفتُ لا آكل. فقال: هلمَّ فلأحدثكم عن ذاك. إني أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ من الأشعريين نستحمِلُه , فقال: واللهِ لا أحملكم , وما عندي ما أحملكم. وأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهَبِ إبل فسأل عنا , فقال: أين النفر الأشعريون؟. فأمر لنا بخمس ذود غُر الذرى. فلمَّا انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا. فرجعنا إليه. فقلنا: إنا سألناك أنْ تحملنا فحلفت أن لا تحملَنا. أفنسيتَ؟ قال: لستُ أنا حملتكم , ولكنَّ الله حملكم. وإني والله. فذكره. وأخرجه مسلم (1649) من وجوه أخرى عن زهدم به. نحوه. وأخرجه البخاري (6249 , 6300 , 6340) ومسلم (1649) من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه به نحوه. دون مسألة الدجاج. (¬2) هو علي بن محمد الاسكندراني , سبق ترجمته (2/ 378)

بإيراده (¬1) بيان صيغة الاستثناء بالمشيئة. وأشار أبو موسى المدينيّ في الكتاب المذكور إلى أنّه - صلى الله عليه وسلم - قالها للتّبرّك لا للاستثناء , وهو خلاف الظّاهر. والاستثناء استفعال من الثنيا - بضم المثلثة وسكون النون بعدها تحتانية - ويقال لها الثنوى أيضاً - بواو بدل الياء مع فتح أوله - وهي من ثنيت الشيء إذا عطفته كأن المستثني عطف بعض ما ذكره، لأنها في الاصطلاح إخراج بعض ما يتناوله اللفظ. وأداتها إلَّا وأخواتها. وتُطلق أيضاً على التعاليق، ومنها التعليق على المشيئة، وهو المراد في هذه ترجمة البخاري " باب الاستثناء في الأيمان "، فإذا قال: لأفعلن كذا إن شاء الله تعالى استثنى، وكذا إذا قال لا أفعل كذا إن شاء الله. ومثله في الْحُكم أن يقول إلَّا أن يشاء الله، أو إلَّا إن شاء الله، ولو أتى بالإرادة والاختيار بدل المشيئة جاز، فلو لم يفعل إذا أثبت أو فعل إذا نفى لم يحنث، فلو قال إلَّا أنْ غيَّر الله نيتي أو بدل، أو إلَّا أن يبدو لي أو يظهر، أو إلا أنْ أشاء أو أريد أو أختار فهو استثناء أيضاً، لكن يشترط وجود المشروط. واتفق العلماء كما حكاه ابن المنذر. على أنَّ شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفظ المستثني به , وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ. وذكر عياض أنَّ بعض المتأخرين منهم خرَّج - من قول مالك: إنَّ ¬

_ (¬1) أورد البخاري حديث أبي موسى في باب الاستثناء في الأيمان.

اليمين تنعقد بالنية - أنَّ الاستثناء يجزئ بالنية، لكن نقل في التهذيب أنَّ مالكاً نصَّ على اشتراط التلفظ باليمين. وأجاب الباجي: بالفرق أنَّ اليمين عقدٌ والاستثناء حَلٌّ، والعقد أبلغ من الحل فلا يلتحق باليمين. قال ابن المنذر: واختلفوا في وقته. فالأكثر: على أنه يشترط أن يتصل بالحلف. قال مالك: إذا سكت أو قطع كلامه فلا ثنيا. وقال الشافعي: يشترط وصل الاستثناء بالكلام الأول، ووصلُه أن يكون نسقاً. فإن كان بينهما سكوت انقطع إلَّا إن كانت سكتةَ تذكّرٍ أو تنفّسٍ أو عِي أو انقطاعِ صوت، وكذا يقطعه الأخذ في كلام آخر. ولَخَّصه ابن الحاجب فقال: شرطه الاتصال لفظاً , أو ما في حكمه. كقطعه لتنفس أو سعال ونحوه مما لا يمنع الاتصال عُرفاً. واختلف هل يقطعه ما يقطعه القبول عن الإيجاب؟. على وجهين للشافعية. أصحهما: أنه ينقطع بالكلام اليسير الأجنبي، وإن لم ينقطع به الإيجاب والقبول. وفي وجه: لو تخلل أستغفر الله لم ينقطع، وتوقف فيه النووي (¬1). ونصُّ الشافعي يؤيده حيث قال: تذكر فإنه من صور التذكر عرفاً، ¬

_ (¬1) هو يحيى بن شرف , سبق ترجمته (1/ 22)

ويلتحق به لا إله إلا الله ونحوها. وعن طاوس والحسن: له أن يستثنى ما دام في المجلس. وعن أحمد نحوه , وقال: ما دام في ذلك الأمر. وعن إسحاق مثله. وقال: إلا أن يقع السكوت. وعن قتادة: إذا استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم. وعن عطاء: قدر حلب ناقة، وعن سعيد بن جبير: إلى أربعة أشهر، وعن مجاهد: بعد سنتين. وعن ابن عباس أقوال منها: له، ولو بعد حين، وعنه كقول سعيد، وعنه شهر، وعنه سنة، وعنه أبداً. قال أبو عبيد: وهذا لا يؤخذ على ظاهره؛ لأنه يلزم منه أن لا يحنث أحدٌ في يمينه، وأن لا تتصور الكفارة التي أوجبها الله - تعالى - على الحالف. قال: ولكن وجه الخبر سقوط الإثم عن الحالف لتركه الاستثناء؛ لأنه مأمور به في قوله تعالى {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} فقال ابن عباس: إذا نسي أن يقول إن شاء الله يستدركه، ولم يرد أنَّ الحالف إذا قال ذلك بعد أن انقضى كلامه أنَّ ما عقده باليمين ينحل. وحاصله حمل الاستثناء المنقول عنه على لفظ إن شاء الله فقط، وحمل إن شاء الله على التبرك. وعلى ذلك حمل الحديث المرفوع الذي أخرجه أبو داود وغيره موصولاً ومرسلاً , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والله

لأَغزونَّ قريشاً ثلاثاً. ثم سكت. ثم قال: إن شاء الله. أو على السكوت لتنفس أو نحوه. وكذا ما أخرجه ابن إسحاق - في سؤالِ مَن سأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قصة أصحاب الكهف -: غداً أُجيبكم، فتأخر الوحي فنزلت {ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أنْ يشاءَ الله} فقال: إن شاء الله. مع أنَّ هذا لم يرد هكذا من وجه ثابت. ومن الأدلة على اشتراط اتصال الاستثناء بالكلام , قوله في حديث الباب " فليكفر عن يمينه " فإنه لو كان الاستثناء يفيد بعد قطع الكلام لقال فليستثن؛ لأنه أسهل من التكفير. وكذا قوله تعالى لأيوب {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} فإن قوله استثن أسهل من التحيّل لِحل اليمين بالضرب، وللزم منه بطلان الإقرارات والطلاق والعتق فيستثنى من أقرَّ أو طلق أو أعتق بعد زمان , ويرتفع حكم ذلك. فالأولى تأويل ما نُقل عن ابن عباس وغيره من السلف في ذلك. وإذا تقرر ذلك. فقد اختلف. هل يشترط قصد الاستثناء من أول الكلام أو لا؟. حكى الرافعي فيه وجهين. ونقل عن أبي بكر الفارسي أنه نقل الإجماع على اشتراط وقوعه قبل فراغ الكلام، وعلَّله بأن الاستثناء بعد الانفصال ينشأ بعد وقوع الطلاق مثلاً. وهو واضح. ونقْلُه مُعارَض بما نقله ابن حزم , أنه لو وقع متصلاً به كفى.

واستدل بحديث ابن عمر رفعه: من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث. (¬1) واحتجَّ بأنه عقب الحلف بالاستثناء باللفظ، وحينئذ يتحصل ثلاث صور: أن يقصد من أوله أو من أثنائه - ولو قبل فراغه أو بعد تمامه - فيختص. نقل الإجماع بأنه لا يفيد في الثالث، وأبعد من فهم أنه لا يفيد في الثاني أيضاً. والمراد بالإجماع المذكور إجماع من قال يشترط الاتصال، وإلَّا فالخلاف ثابت كما تقدم. والله أعلم. وقال ابن العربي: قال بعض علمائنا: يشترط الاستثناء قبل تمام اليمين. قال: والذي أقول: إنه لو نوى الاستثناء مع اليمين لم يكن يميناً ولا استثناءً، وإنما حقيقة الاستثناء: أن يقع بعد عقد اليمين فيحلّها الاستثناء المتصل باليمين، واتفقوا على أنَّ من قال: لا أفعل كذا إنْ شاء الله إذا قصد به التبرك فقط ففعل يحنث، وإن قصد الاستثناء فلا حنث عليه. واختلفوا إذا أطلق , أو قدَّم الاستثناء على الحلف , أو أخره. هل يفترق الحكم.؟ ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله كلام الشارح عليه مستوفى في شرح حديث أبي هريرة الآتي برقم (364)

واتفقوا على دخول الاستثناء في كل ما يحلف به إلَّا الأوزاعي فقال: لا يدخل في الطلاق والعتق والمشي إلى بيت الله، وكذا جاء عن طاوس , وعن مالك مثله، وعنه إلا المشي. وقال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى والليث: يدخل في الجميع إلا الطلاق. وعن أحمد: يدخل الجميع إلا العتق. واحتج بتشوف الشارع له، وورد فيه حديث عن معاذ رفعه: إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن شاء الله لم تطلق، وإن قال لعبده: أنتَ حرٌ إن شاء الله فإنه حر. قال البيهقي: تفرَّد به حميد بن مالك وهو مجهول، واختلف عليه في إسناده. واحتج من قال: لا يدخل في الطلاق بأنه لا تَحلُّه الكفارة، وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء. فلمَّا لم يَحلّه الأقوى لم يَحلّه الأضعف. وقال ابن العربي: الاستثناء أخو الكفارة. وقد قال الله تعالى {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} فلا يدخل في ذلك إلَّا اليمين الشرعية. وهي الله. قوله: (لا أحلف على يمين) أي: محلوف يمين، فأطلق عليه لفظ يمينٍ للملابسة , والمراد ما شأنه أن يكون محلوفاً عليه؛ فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون فيه تضمين. فقد وقع في روايةٍ لمسلمٍ

" على أمر ". ويحتمل: أن يكون " على " بمعنى الباء، فقد وقع في رواية النّسائيّ " إذا حلفت بيمينٍ " ورجح الأوّل بقوله " فرأيت غيرها خيراً منها "؛ لأنّ الضّمير في غيرها لا يصحّ عوده على اليمين. وأجيب: بأنّه يعود على معناها المجازيّ للملابسة أيضاً. وقال ابن الأثير في النّهاية: الحلف هو اليمين فقوله: أحلف. أي: أعقد شيئاً بالعزم والنّيّة، وقوله " على يمين " تأكيدٌ لعقده وإعلام بأنّه ليست لغواً. قال الطّيبيّ (¬1): ويؤيّده رواية النّسائيّ بلفظ " ما على الأرض يمين أحلف عليها " الحديث، قال: فقوله: أحلف عليها صفة مؤكّدة لليمين. قال: والمعنى لا أحلف يميناً جزماً لا لغو فيها , ثمّ يظهر لي أمرٌ آخر يكون فعله أفضل من المضيّ في اليمين المذكورة إلَّا فعلته وكفّرت عن يميني. قال: فعلى هذا يكون قوله " على يمين " مصدراً مؤكّداً لقوله " أحلف ". تكملةٌ: اختلف هل كفّر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه المذكور؟ كما اختلف هل كفّر في قصّة حلفه على شرب العسل , أو على غشيان مارية.؟ فروي عن الحسن البصريّ , أنّه قال: لَم يكفّر أصلاً؛ لأنّه مغفورٌ له ¬

_ (¬1) هو الحسن بن محمد , سبق ترجمته (1/ 23)

، وإنّما نزلت كفّارة اليمين تعليماً للأمّة. وتعقّب: بما أخرجه التّرمذيّ من حديث عمر - في قصّة حلفه على العسل أو مارية - " فعاتبه الله , وجعل له كفّارة يمين " , وهذا ظاهر في أنّه كفّر , وإن كان ليس نصّاً في ردّ ما ادّعاه الحسن. وظاهرٌ أيضاً في حديث الباب " وكفّرت عن يميني " أنّه لا يترك ذلك، ودعوى أنّ ذلك كلّه للتّشريع بعيدٌ. قوله: (إلَّا أتيتُ الذي هو خيرٌ، وتحلَّلتها) في رواية لهما من وجه آخر عن حمّاد بن زيدٍ عن غيلان بن جريرٍ عن أبي بُرْدة عن أبي موسى " إلَّا كفّرت عن يميني، وأتيت الذي هو خيرٌ ". وللبخاري حدّثنا أبو النّعمان حدّثنا حمّادٌ , وقال " إلَّا كفّرت عن يميني وأتيت الذي هو خيرٌ , أو أتيت الذي هو خيرٌ وكفّرت " (¬1) فزاد فيه التّردّد في تقديم الكفّارة وتأخيرها، وكذا أخرجه أبو داود عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن زيد. بالتّرديد فيه أيضاً. قوله: (وتحلَّلتها) (¬2) كذا في رواية حمّاد وعبد الوارث وعبد الوهّاب كلّهم عن أيّوب. (¬3) ولَم يذكر في رواية عبد السّلام (¬4) عن ¬

_ (¬1) الخلاف في تقديم الحنث على الكفارة والعكس في حديث أبي موسى كحديث عبد الرحمن بن سمرة المتقدّم. وقد تقدّم الكلام على الخلاف في المسألة مستوفى في الحديث الماضي. (¬2) لفظة (تحلّلتها) إنما جاءت في رواية زهدم عن أبي موسى , أمّا رواية أبي بردة ففيها (كفّرت) وكلا الطريقين متفقٌ عليهما. (¬3) رواية حماد هي رواية العمدة هنا. أمَّا عبد الوهاب فساقها البخاري. وأحالها مسلمٌ على رواية حماد. أمَّا رواية عبد الوارث فانفرد البخاري بها. (¬4) ابن حرب. وقد ذُكرت لفظة (تحلَّلتها) في بعض نسخ البخاري من طريقه.

أيوب عند البخاري " وتحلَّلتها " , وكذا لَم يذكرها أبو السّليل عن زهدم عند مسلم. ووقع في رواية حماد عن غيلان عن أبي بُرْدة في الصحيحين " إلَّا كفّرت عن يميني " بدل " وتحللتها ". ومعنى تحللتها: فعلت ما ينقل المنع الذي يقتضيه إلى الإذن فيصير حلالاً، وإنّما يحصل ذلك بالكفّارة. ويؤيّد أنّ المراد بقوله " تحلَّلتها " كفّرت عن يميني , وقوع التّصريح به في رواية حمّاد بن زيد وعبد السّلام وغيرهما. وهو يرجّح أحد احتمالين , أبداهما ابن دقيق العيد (¬1). ثانيهما: إتيان ما يقتضي الحنث , فإنّ التّحلّل يقتضي سبق العقد، والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التّحلّل الإتيان بخلاف مقتضاها. لكن يلزم على هذا أن يكون فيه تكرارٌ لوجود قوله " أتيت الذي هو خيرٌ " فإنّ إتيان الذي هو خيرٌ تحصل به مخالفة اليمين والتّحلّل منها. لكن يمكن أن تكون فائدته التّصريح بالتّحلّل، وذكره بلفظٍ يناسب الجواز صريحاً ليكون أبلغ ممّا لو ذكره بالاستلزام. وقد يقال: إنّ الثّاني أقوى , لأنّ التّأسيس أولى من التّأكيد. ¬

_ (¬1) هو محمد بن علي , سبق ترجمته (1/ 12)

وقيل: معنى " تحلّلتها " خرجت من حرمتها إلى ما يحلّ منها , وذلك يكون بالاستثناء بشرطه السّابق. لكن لا يتّجه في هذه القصّة (¬1) إلَّا إن كان وقع منه استثناء لَم يشعروا به , كأن يكون قال: إن شاء الله مثلاً , أو قال: والله لا أحملكم إلَّا إن حصل شيء , ولذلك قال: وما عندي ما أحملكم. ¬

_ (¬1) تقدّم ذِكر سبب الحديث في تخريج حديث الباب. فانظره.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 363 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. (¬1) ولمسلمٍ: فمن كان حالفاً، فليحلف بالله، أو ليصمت. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6271) ومسلم (1646) من طريق يونس وغيره عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - به. (¬2) هذه الرواية عند مسلم (1646) كما قال. وأخرجها البخاري أيضاً (2533 , 5757 , 6270) - لكن من حديث ابن عمر , - وليس من حديث أبيه - من طرق عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: ألا إن الله ينهاكم أنْ تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت. قال الشارح رحمه الله (11/ 647): قوله (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير) هذا السياق يقتضي أنَّ الخبر من مسند ابن عمر، وكذا وقع في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ولم أر عن نافع في ذلك اختلافاً إلَّا ما حكى يعقوب بن شيبة , أن عبد الله بن عمر العمري - الضعيف المُكَّبر - رواه عن نافع فقال " عن ابن عمر عن عمر " قال: ورواه عبيد الله بن عمر العمري المصغَّر الثقة عن نافع فلم يقل فيه " عن عمر " وهكذا رواه الثقات عن نافع، لكن وقع في رواية أيوب عن نافع , أن عمر لم يقل فيه عن ابن عمر. قلت (ابن حجر): قد أخرجه مسلم من طريق أيوب فذكره، وأخرجه أيضاً عن جماعة من أصحاب نافع بموافقة مالك، ووقع للمزي في " الأطراف " أنه وقع في رواية عبد الكريم " عن نافع عن ابن عمر " في مسند عمر، وهو مُعتَرض فإنَّ مسلماً ساق أسانيده فيه إلى سبعة أنفس من أصحاب نافع منهم عبد الكريم , ثم قال سبعتهم " عن نافع عن ابن عمر " بمثل هذه القصة، وقد أورد المزي طرق الستة الآخرين في مسند ابن عمر على الصواب , ووقع الاختلاف في رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. انتهى قلت: ورواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر. أخرجها البخاري (3624 , 6272 , 6966) ومسلم (1646). نحوه.

وفي رواية: قال عمر: فوالله ما حلفت بها، منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهي عنها، ذاكراً ولا آثراً. (¬1) قال المصنِّف: يعني: حاكياً عن غيري. أنه حلف بها. قوله: (إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وللبخاري من طريق يونس عن ابن شهاب: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية معمر عن ابن شهاب بهذا السّند. عن عمر سمعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أحلف بأبي فقال: إنّ الله. فذكر الحديث. أخرجه أحمد عنه هكذا. وفي رواية سفيان بن عيينة عن ابن شهاب " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع عمر - وهو يحلف بأبيه - وهو يقول: وأَبي وأَبي ". (¬2) وفي رواية إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عند مسلم من الزّيادة " وكانت قريشٌ تحلف بآبائها ". وللشيخين من رواية الليث عن نافعٍ عن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنّه أدرك عمر بن الخطّاب في ركبٍ، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إنّ .. " ووقع في " مصنّف ابن أبي شيبة " من طريق عكرمة قال: قال عمر ¬

_ (¬1) هذه الرواية ضمن حديث سالم عن أبيه الذي تقدّم تخريجه. كان الأولى بالشارح ذِكرها معه. (¬2) رواية سفيان. أخرجها مسلم في " صحيحه " (1646) , لكن لم يسق لفظها , وإنما أحالها على رواية يونس ومعمر , وهي رواية الباب , وقد أخرجها الترمذي في " الجامع " (1533) والنسائي في " الكبرى " (4689) من طريق سفيان. فذكرها.

: حدّثت قوماً حديثاً , فقلت: لا وأبي، فقال رجلٌ من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم، فالتفتّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو أنّ أحدكم حلف بالمسيح هلك , والمسيح خير من آبائكم. وهذا مرسلٌ يتقوّى بشواهده. وقد أخرج التّرمذيّ من وجه آخر عن ابن عمر , أنّه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله، فإنّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , يقول: من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك. قال التّرمذيّ: حسنٌ. وصحَّحه الحاكم. والتّعبير بقوله " فقد كفر أو أشرك " للمبالغة في الزّجر والتّغليظ في ذلك. وقد تمسّك به مَن قال بتحريم ذلك , لكن لَمَّا كان حلف عمر بذلك قبل أن يقتضي النّهي كان معذوراً فيما صنع، فلذلك اقتصر على نهيه ولَم يؤاخذه بذلك , لأنّه تأوّل أنّ حقّ أبيه عليه يقتضي أنّه يستحقّ أن يحلف به، فبيّن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ الله لا يحبّ لعبده أن يحلف بغيره. وقد أخرج النّسائيّ وأبو داود في " رواية ابن داسة " عنه من حديث أبي هريرة بزيادة. ولفظه " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمّهاتكم ولا بالأنداد , ولا تحلفوا إلَّا بالله " الحديث. قوله: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) قال العلماء: السّرّ في النّهي عن الحلف بغير الله أنّ الحلف بالشّيء يقتضي تعظيمه , والعظمة في الحقيقة إنّما هي لله وحده.

وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصّة، لكن قد اتّفق الفقهاء على أنّ اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العليّة. واختلفوا في انعقادها ببعض الصّفات (¬1). وكأنّ المراد بقوله " بالله " الذّات لا خصوص لفظ الله، وأمّا اليمين بغير ذلك فقد ثبت المنع فيها، وهل المنع للتّحريم؟. قولان عند المالكيّة، كذا قال ابن دقيق العيد. والمشهور عندهم الكراهة، والخلاف أيضاً عند الحنابلة , لكن المشهور عندهم التّحريم، وبه جزم الظّاهريّة. وقال ابن عبد البرّ: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع. ومراده بنفي الجواز الكراهة أعمّ من التّحريم والتّنزيه. فإنّه قال في موضعٍ آخر: أجمع العلماء على أنّ اليمين بغير الله مكروهةٌ منهيٌّ عنها لا يجوز لأحدٍ الحلف بها، والخلاف موجود عند ¬

_ (¬1) قال الشارح رحمه الله في " الفتح " (9/ 642) في شرح حديث ابن عمر في البخاري: كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - , لا ومقلب القلوب ": وفي هذا الحديث حجة لمن أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث، ولا نزاع في أصل ذلك، وإنما الخلاف في أي صفة تنعقد بها اليمين؟، والتحقيق أنها مختصَّة بالتي لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب. قال القاضي أبو بكر بن العربي: في الحديث جواز الحلف بأفعال الله إذا وصف بها، ولَم يذكر اسمه، قال: وفرَّق الحنفية بين القدرة والعلم , فقالوا: إنْ حَلَفَ بقدرة الله انعقدت يمينه , وإن حلف بعلم الله لَم تنعقد؛ لأنَّ العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}. والجواب: أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم، والكلام إنما هو في الحقيقة .. الخ " انتهى. وسيأتي إن شاء الله. مزيد بسط في آخر شرح الحديث

الشّافعيّة من أجل قول الشّافعيّ: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشعر بالتّردّد، وجمهور أصحابه على أنّه للتّنزيه. وقال إمام الحرمين (¬1): المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتّفصيل، فإن اعتقد في المحلوف فيه من التّعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به , وكان بذلك الاعتقاد كافراً، وعليه يتنزّل الحديث المذكور، وأمّا إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التّعظيم فلا يكفر بذلك , ولا تنعقد يمينه. قال الماورديّ: لا يجوز لأحدٍ أن يحلف أحداً بغير الله , لا بطلاقٍ ولا عتاقٍ ولا نذرٍ , وإذا حلَّف الحاكمُ أحداً بشيءٍ من ذلك وجب عزله لجهله قوله: (ذاكراً) أي: عامداً. قوله: (ولا آثراً) بالمدّ وكسر المثلثة , أي: حاكياً عن الغير، أي: ما حلفت بها , ولا حكيت ذلك عن غيري. ويدلّ عليه ما وقع في رواية عقيل عن ابن شهاب عند مسلم: ما حلفت بها منذ سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها، ولا تكلمت بها. وقد استشكل هذا التّفسير لتصدير الكلام بحلفت , والحاكي عن غيره لا يسمّى حالفاً. وأجيب: باحتمال أن يكون العامل فيه محذوفاً. أي: ولا ذكرتها آثراً عن غيري. أو يكون ضمّن حلفت معنى تكلمت , ويقوّيه رواية ¬

_ (¬1) هو عبدالملك الجويني , سبق ترجمته (1/ 283)

عقيل. وجوّز شيخنا في شرح التّرمذيّ: لقوله " آثراً " معنىً آخر. أي: مختاراً، يقال آثر الشّيء إذا اختاره، فكأنّه قال: ولا حلفت بها مؤثراً لها على غيرها. قال شيخنا: ويحتمل أن يرجع قوله " آثراً " إلى معنى التّفاخر بالآباء في الإكرام لهم، ومنه قولهم: مأثرة ومآثر وهو ما يروى من المفاخر. فكأنّه قال: ما حلفت بآبائي ذاكراً لمآثرهم. وجوّز في قوله " ذاكراً " أن يكون من الذُّكر - بضمّ المعجمة - كأنّه احترز عن أن يكون ينطق بها ناسياً، وهو يناسب تفسير آثراً بالاختيار , كأنّه قال: لا عامداً ولا مختاراً. وجزم ابن التّين في شرحه , بأنّه من الذّكر - بالكسر لا بالضّمّ - قال: وإنّما هو لَم أقله من قِبَل نفسي , ولا حدّثت به عن غيري أنّه حلف به. قال: وقال الدّاوديّ (¬1): يريد ما حلفت بها , ولا ذكرت حلف غيري بها كقوله: إنّ فلاناً قال: وحقّ أبي مثلاً. واستُشكل أيضاً أنّ كلام عمر المذكور , يقتضي أنّه تورّع عن النّطق بذلك مطلقاً , فكيف نطق به في هذه القصّة؟. وأجيب: بأنّه اغتفر ذلك لضرورة التّبليغ. وفي هذا الحديث من الفوائد. ¬

_ (¬1) هو أحمد بن نصر , سبق ترجمته (1/ 312)

الزّجر عن الحلف بغير الله، وإنّما خصّ في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خصّ لكونه كان غالباً عليه لقوله في الرّواية الأخرى " وكانت قريشٌ تحلف بآبائها ". ويدلّ على التّعميم قوله " من كان حالفاً فلا يحلف إلَّا بالله ". وأمّا ما ورد في القرآن من القسم بغير الله. ففيه جوابان: أحدهما: أنّ فيه حذفاً , والتّقدير. وربّ الشّمس ونحوه. الثّاني: أنّ ذلك يختصّ بالله , فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به , وليس لغيره ذلك. وأمّا ما وقع ممّا يخالف ذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيّ: أفلح وأبيه إن صدق. ففيهم من طعن في صحّة هذه اللفظة. قال ابن عبد البرّ: هذه اللفظة غير محفوظة , وقد جاءت عن راويها وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ " أفلح والله إن صدق " قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ " أفلح وأبيه " لأنّها لفظةٌ منكرةٌ تردّها الآثار الصّحاح. ولَم تقع في رواية مالك أصلاً (¬1). ¬

_ (¬1) رواية مالك. أخرجها البخاري في " الصحيح " (46) ومسلم (11) عنه عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله، يقول: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلَّا أنْ تَطَّوّع , والصوم والزكاة , فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح إنْ صدق. وأخرجه مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل به. وفيه " أفلح وأبيه إن صدق "

وزعم بعضهم: أنّ بعض الرّواة عنه صحّف قوله " وأبيه " من قوله " والله ". وهو محتمل , ولكنّ مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصّدّيق - في قصّة السّارق الذي سرق حليّ ابنته - , فقال في حقّه: وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ. أخرجه في الموطّأ وغيره. قال السّهيليّ: وقد ورد نحوه في حديث آخر مرفوع , قال للذي سأل: أيّ الصّدقة أفضل؟ فقال: وأبيك لتنبّأنّ. أخرجه مسلم. فإذا ثبت ذلك فيجاب بأجوبةٍ: الجواب الأوّل: أنّ هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنّهي إنّما ورد في حقّ من قصد حقيقة الحلف. وإلى هذا جنح البيهقيّ، وقال النّوويّ: إنّه الجواب المرضيّ. الجواب الثّاني: أنّه كان يقع في كلامهم على وجهين: الأول: للتّعظيم الثاني: للتّأكيد، والنّهي إنّما وقع عن الأوّل , فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتّأكيد لا للتّعظيم. قول الشّاعر: لعمر أبي الواشين إنّي أحبّها وقول الآخر: فإن تك ليلى استودعتني أمانةً ... فلا وأبي أعدائها لا أذيعها. فلا يظنّ أنّ قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها , كما لَم يقصد

الآخر تعظيم والد من وشى به، فدلَّ على أنّ القصد بذلك تأكيد الكلام لا التّعظيم. وقال البيضاويّ (¬1): هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرّد التّقرير والتّأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النّداء لمجرّد الاختصاص دون القصد إلى النّداء. وقد تعقّب الجواب: بأنّ ظاهر سياق حديث عمر يدلّ على أنّه كان يحلفه , لأنّ في بعض طرقه , أنّه كان يقول " لا وأبي , لا وأبي (¬2) , فقيل له: لا تحلفوا ". فلولا أنّه أتى بصيغة الحلف ما صادف النّهي محلاًّ. ومن ثَمّ قال بعضهم - وهو الجواب الثّالث -: إنّ هذا كان جائزاً ثمّ نسخ , قاله الماورديّ , وحكاه البيهقيّ. وقال السّبكيّ: أكثر الشّرّاح عليه، حتّى قال ابن العربيّ: وروي أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يحلف بأبيه حتّى نهي عن ذلك. قال: وترجمة أبي داود تدلّ على ذلك، يعني قوله (باب الحلف بالآباء) ثمّ أورد الحديث المرفوع الذي فيه " أفلح وأبيه إن صدق ". قال السّهيليّ: ولا يصحّ , لأنّه لا يظنّ بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يحلف ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي , سبق ترجمته (1/ 191) (¬2) لم أر هذه اللفظة مكرَّرة , وقد جاءت هذه اللفظة دون تكرار. عند مالك في " موطأ محمد بن الحسن " (754) عن نافع عن ابن عمر به. وأيضاً عند ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة كما ذكره الشارح قبلاً , ولها طرق أخرى. أمَّا رواية " وأبي وأبي " دون زيادة " لا " فهي عند مسلم كما تقدّم.

بغير الله ولا يقسم بكافرٍ، تالله إنّ ذلك لبعيدٌ من شيمته. وقال المنذريّ: دعوى النّسخ ضعيفة لإمكان الجمع , ولعدم تحقّق التّاريخ. الجواب الرّابع: أنّ في الجواب حذفاً تقديره , أفلح وربّ أبيه. قاله البيهقيّ. الجواب الخامس: أنّه للتّعجّب. قاله السّهيليّ. قال: ويدلّ عليه أنّه لَم يرد بلفظ " أبي " وإنّما ورد بلفظ " وأبيه " أو " وأبيك " بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضراً أو غائباً. الجواب السّادس: أنّ ذلك خاصّ بالشّارع دون غيره من أمّته. وتعقّب: بأنّ الخصائص لا تثبت بالاحتمال. وفي الحديث أنّ من حلف بغير الله مطلقاً لَم تنعقد يمينه. سواء كان المحلوف به يستحقّ التّعظيم لمعنىً غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصّلحاء والملوك والآباء والكعبة، أو كان لا يستحقّ التّعظيم كالآحاد، أو يستحقّ التّحقير والإذلال كالشّياطين والأصنام وسائر من عبد من دون الله. واستثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبيّنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - , فقال: تنعقد به اليمين وتجب الكفّارة بالحنث، فاعتلَّ بكونه أحد ركني الشّهادة التي لا تتمّ إلَّا به.

وأطلق ابن العربيّ نسبته لمذهب أحمد (¬1) , وتعقّبه: بأنّ الأيمان عند أحمد لا تتمّ إلَّا بفعل الصّلاة , فيلزمه أنّ من حلف بالصّلاة أن تنعقد يمينه , ويلزمه الكفّارة إذا حنث. ويمكن الجواب عن إيراده , والانفصال عمّا ألزمهم به. وفيه الرّدّ على مَن قال: إن فعلت كذا فهو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ أو كافرٌ أنّه ينعقد يميناً , ومتى فعل تجب عليه الكفّارة، وقد نقل ذلك عن الحنفيّة والحنابلة. ووجه الدّلالة من الخبر: أنّه لَم يحلف بالله , ولا بما يقوم مقام ذلك. وسيأتي مزيد لذلك بعد (¬2). وفيه أنّ مَن قال: أقسمت لأفعلن كذا لا يكون يميناً؛ وعند الحنفيّة يكون يميناً، وكذا قال مالك وأحمد , لكن بشرط أن ينوي بذلك الحلف بالله وهو متّجهٌ، وقد قال بعض الشّافعيّة: إن قال عليّ أمانة الله لأفعلن كذا , وأراد اليمين أنّه يمين وإلا فلا. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النّهي عن الحلف بغير ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية في الفتاوى: وإنما نعرف النزاع فى الحلف بالأنبياء. فعن أحمد فى الحلف بالنبى - صلى الله عليه وسلم - روايتان. إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور مالك وأبى حنيفة والشافعى والثانية: ينعقد اليمين به. واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضى وأتباعه - وابن المنذر وافق هؤلاء - وقصر أكثر هؤلاء النزاع فى ذلك على النبىِّ خاصة. وعدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء , وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق - وان كان نبياً - قول ضعيف فى الغاية مخالف للأصول والنصوص. انتهى (¬2) انظر حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - الآتي برقم (367).

الله. فقالت طائفة: هو خاصّ بالأيمان التي كان أهل الجاهليّة يحلفون به تعظيماً لغير الله تعالى كاللات والعزّى والآباء , فهذه يأثم الحالف بها ولا كفّارة فيها. وأمّا ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله: وحقّ النّبيّ والإسلام والحجّ والعمرة والهدي والصّدقة والعتق ونحوها ممّا يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلاً في النّهي. وممَن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممّن لقيناه. واحتجّوا بما جاء عن الصّحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدي والصّدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النّهي المذكور، فدلَّ على أنّ ذلك عندهم ليس على عمومه؛ إذ لو كان عامّاً لنهوا عن ذلك , ولَم يوجبوا فيه شيئاً. انتهى. وتعقّبه ابن عبد البرّ: بأنّ ذكر هذه الأشياء، وإن كانت بصورة الحلف فليست يميناً في الحقيقة وإنّما خرج عن الاتّساع، ولا يمين في الحقيقة إلَّا بالله. وقال المُهلَّب: كانت العرب تحلف بأبائها وآلهتها فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم لينسيهم ذكر كلّ شيء سواه ويبقى ذكره؛ لأنّه الحقّ المعبود فلا يكون اليمين إلَّا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء. وقال الطّبريّ: في حديث عمر - يعني حديث الباب - أنّ اليمين

لا تنعقد إلَّا بالله وأنّ من حلف بالكعبة أو آدم أو جبريل ونحو ذلك لَم تنعقد يمينه , ولزمه الاستغفار لإقدامه على ما نهي عنه , ولا كفّارة في ذلك. وأمّا ما وقع في القرآن من القسم بشيءٍ من المخلوقات , فقال الشّعبيّ: فالخالق يقسم بما شاء من خلقه , والمخلوق لا يقسم إلَّا بالخالق، قال: ولأن أقسم بالله فأحنث أحبّ إليّ من أن أقسم بغيره فأبرّ. وجاء مثله عن ابن عبّاس وابن مسعود وابن عمر. ثمّ أسند عن مطرّف عن عبد الله , أنّه قال: إنّما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم , ولدلالتها على خالقها. وقد أجمع العلماء على من وجبت له يمين على آخر في حقٍّ عليه أنّه لا يحلف له إلَّا بالله، فلو حلف له بغيره , وقال: نويت ربّ المحلوف به لَم يكن ذلك يميناً. وقال ابن هبيرة في كتاب " الإجماع ": أجمعوا على أنّ اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته كعزّته وجلاله وعلمه وقوّته وقدرته، واستثنى أبو حنيفة علم الله فلم يره يميناً، وكذا حقّ الله. واتّفقوا على أنّه لا يحلف بمعظّمٍ غير الله كالنّبيّ، وانفرد أحمد في رواية , فقال: تنعقد.

وقال عياض: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أنّ الحلف بأسماء الله وصفاته لازم إلَّا ما جاء عن الشّافعيّ من اشتراط نيّة اليمين في الحلف بالصّفات، وإلا فلا كفّارة. وتُعقّب إطلاقه ذلك عن الشّافعيّ، وإنّما يحتاج إلى النّيّة عنده ما يصحّ إطلاقه عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره. وأمّا ما لا يطلق في معرض التّعظيم شرعاً إلَّا عليه تنعقد اليمين به , وتجب الكفّارة إذا حنث كمقلب القلوب وخالق الخلق ورازق كلِّ حيّ، وربّ العالمين وفالق الحبّ وبارئ النّسمة، وهذا في حكم الصّريح كقوله: والله، وفي وجه لبعض الشّافعيّة , أنّ الصّريح الله فقط. ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال: قصدت غير الله. هل ينفعه في عدم الحنث؟ والمشهور عن المالكيّة التّعميم، وعن أشهب: التّفصيل في مثل , وعزّة الله. إن أراد التي جعلها بين عبادة فليست بيمينٍ، وقياسه أن يطّرد في كلّ ما يصحّ إطلاقه عليه وعلى غيره، وقال به ابن سحنونٍ منهم في عزّة الله. وفي العتبيّة: أنّ من حلف بالمصحف لا تنعقد، واستنكره بعضهم , ثمّ أوّلها على أنّ المراد. إذا أراد جسم المصحف، والتّعميم عند الحنابلة حتّى لو أراد بالعلم والقدرة المعلوم والمقدور انعقدت. والرّاجح: أنّ صفات الذّات منها يلتحق بالصّريح فلا تنفع معها

التّورية إذا تعلق به حقّ آدميٍّ، وصفات الفعل تلتحق بالكناية، فعزّة الله من صفات الذّات وكذا جلاله وعظمته. قال الشّافعيّ فيما أخرجه البيهقيّ في المعرفة: مَن قال وحقّ الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله يريد اليمين أو لا يريده. فهي يمين. انتهى. وقال غيره: والقدرة. تحتمل: صفة الذّات فتكون اليمين صريحة. وتحتمل: إرادة المقدور فتكون كناية كقول من يتعجّب من الشّيء: انظر إلى قدرة الله، وكذا العلم كقوله: اللهمّ اغفر لنا علمك فينا , أي: معلومك. تنْبيهٌ: وقع في رواية محمّد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر في آخر هذا الحديث زيادةٌ. أخرجها ابن ماجه من طريقه بلفظ. سمع النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق , ومن حُلف له بالله فليرض , ومن لَم يرض بالله فليس من الله. وسنده حسنٌ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 364 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: قال: سليمان بن داود عليهما السلام، لأَطُوفنَّ الليلة على تسعين امرأةً، تلد كلّ امرأةٍ منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقُل، فطاف بِهنّ، فلم تلد منهنّ إلَّا امرأةٌ واحدةٌ: نصف إنسانٍ، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قال: إن شاء الله لَم يحنث، وكان ذلك درَكَاً لحاجته. (¬1) قال المصنِّف: قوله: (قيل له: قل إن شاء الله) يعني. قال له الملَك. قوله: (سليمان بن داود) ابن إيشا - بكسر الهمز وسكون التّحتانيّة بعدها معجمة - ابن عوبد بوزن جعفر - بمهملة وموحّدة - ابن باعر - بموحّدة ومهملة مفتوحة - ابن سلمون بن يارب - بتحتانيّة وآخره موحّدة - ابن رام بن حضرون - بمهملة ثمّ معجمة - ابن فارص - بفاء وآخره مهملة - ابن يهوذا بن يعقوب. قوله: (لأطوفن الليلة) في رواية الحمويّ والمستملي " لأطيفن " (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4944 , 6341) ومسلم (1654) من طريق عبد الله بن طاوس وهشام بن حجير كلاهما طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (6263) ومسلم (1654) من طريق أبي الزناد , والبخاري معلّقاً (2664) من طريق جعفر بن ربيعة كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة نحوه. وأخرجه البخاري (7031) ومسلم (1654) من طريق أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة نحوه. (¬2) وهي رواية لمسلم أيضاً (1654) من طريق ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -

وهما لغتان. طاف بالشّيء وأطاف به إذا دار حوله وتكرّر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع. واللام جواب القسم وهو محذوف، أي: والله لأطوفنَّ، ويؤيّده قوله في آخره " لَم يحنث " , لأنّ الحنث لا يكون إلَّا عن قسم، والقسم لا بدّ له من مقسم به. وقال بعضهم: اللام ابتدائيّة. والمراد بعدم الحنث وقوع ما أراد. وقد مشى ابن المنذر على هذا في كتابه الكبير فقال " باب استحباب الاستثناء في غير اليمين لِمَن قال سأفعل كذا " وساق هذا الحديث. وجزم النّوويّ: بأنّ الذي جرى منه ليس بيمينٍ؛ لأنّه ليس في الحديث تصريحٌ بيمينٍ. كذا قال!. وقد ثبت ذلك في بعض طرق الحديث. واختلف في الذي حلف عليه. هل هو جميع ما ذُكر؟ أو دورانه على النّساء فقط دون ما بعده من الحمل والوضع وغيرهما؟. والثّاني أوجه؛ لأنّه الذي يقدر عليه، بخلاف ما بعده فإنّه ليس إليه، وإنّما هو مجرّد تمنّي حصول ما يستلزم جلب الخير له، وإلَّا فلو كان حلف على جميع ذلك لَم يكن إلَّا بوحيٍ، ولو كان بوحيٍ لَم يتخلف، ولو كان بغير وحيٍ لزم أنّه حلف على غير مقدور له , وذلك لا يليق بجنابه. قلت: وما المانع من جواز ذلك , ويكون لشدّة وثوقه بحصول مقصوده جزم بذلك وأكّد بالحلف، فقد ثبت في الحديث الصّحيح

" إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه " (¬1) قوله: (على سبعين امرأة) وللبخاري من رواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة فقال " تسعين " بتقديم المثنّاة , ورجّح البخاري رواية تسعين على سبعين. وذكر: أنّ ابن أبي الزّناد رواه كذلك. قلت: وقد رواه سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس فقال: " تسعين " كما في البخاري من طريقه. ولكن رواه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان فقال: " سبعين " بتقديم السّين، وكذا هو في " مسند الحميديّ " عن سفيان، وكذا أخرجه مسلم من رواية ورقاء عن، والبخاري من رواية المغيرة عن أبي الزناد. وأخرجه الإسماعيليّ والنّسائيّ وابن حبّان من طريق هشام بن عروة عن أبي الزّناد قال: " مائة امرأة ". وكذا قال طاوسٌ عن أبي هريرة كما في البخاري من رواية معمر، وكذا قال أحمد عن عبد الرّزّاق (¬2). وللبخاري من رواية هشام بن حجير عن طاوس " تسعين " ورواه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2703) ومسلم (1675) من حديث أنس - رضي الله عنه - (¬2) أي: أنَّ أحمد رواه في " المسند " (13/ 142) عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه بلفظ " مائة امرأة " ووقع في مطبوع الفتح (6/ 561). وكذا قال أحمد عن عبد الرزاق من رواية هشام بن حجير عن طاوس تسعين ". انتهى. وهي تُوهم أنَّ معمراً رواه من طريق ابن حجير بلفظ " تسعين " , وهو خطأ , والظاهر أن فيه سقطاً , والصواب ما أثبتُّه هنا , وهو الموافق للمُسند. والله أعلم

مسلم عن عبد بن حميدٍ عن عبد الرّزّاق فقال " سبعين ". وللبخاري من رواية أيّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة " كان لسليمان ستّون امرأة " , ورواه أحمد وأبو عوانة من طريق هشام عن ابن سيرين فقال: " مائة امرأة ". وكذا قال عمران بن خالد عن ابن سيرين عند ابن مردويه. وللبخاري من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج فقال: " مائة امرأة أو تسع وتسعون " على الشّكّ. (¬1) فمحصّل الرّوايات ستّون وسبعون وتسعون وتسع وتسعون ومائة. والجمع بينها: أنّ السّتّين كنّ حرائر. وما زاد عليهنّ كنّ سراري أو بالعكس. وأمّا السّبعون فللمبالغة، وأمّا التّسعون والمائة فكنّ دون المائة وفوق التّسعين , فمَن قال: تسعون ألغى الكسر , ومَن قال: مائة جبَرَه , ومن ثَمّ وقع التّردّد في رواية جعفر. وأمّا قول بعض الشّرّاح: ليس في ذكر القليل نفي الكثير , وهو من مفهوم العدد. وليس بحجّة عند الجمهور. فليس بكافٍ في هذا المقام، وذلك أنّ مفهوم العدد معتبر عند كثيرين. ونصَّ الشّافعيّ على أنّه حجّة، وجزم بنقله عنه الشّيخ أبو حامد ¬

_ (¬1) رواية جعفر بن ربيعة علَّقها البخاري (2664). وقال الليث: حدّثني جعفر به. قال ابن حجر في " الفتح " (6/ 34): وصلَه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق يحيى بن بكير عن الليث بهذا الإسناد.

والماورديّ وغيرهما، ولكن شرطه أن لا يخالفه المنطوق. قلت: والذي يظهر مع كون مخرج الحديث عن أبي هريرة واختلاف الرّواة عنه أنّ الحكم للزّائد , لأنّ الجميع ثقاتٌ. وذكر أبو موسى المدينيّ في كتابه المذكور: أنّ في بعض نسخ مسلم عقب قصّة سليمان هذا الاختلاف في هذا العدد , وليس هو من قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وإنّما هو من النّاقلين. ونقل الكرمانيّ (¬1): أنّه ليس في الصّحيح أكثر اختلافاً في العدد من هذه القصّة. قلت: وغاب عن هذا القائل حديث جابر في قدر ثمن الجمل (¬2). وقد حكى وهب بن منبّه في " المبتدأ ": أنّه كان لسليمان ألف امرأة ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرّيّة. ونحوه ممّا أخرج الحاكم في " المستدرك " من طريق أبي معشر عن محمّد بن كعب قال: بلغَنَا أنّه كان لسليمان ألف بيت من قوارير على الخشب. فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرّيّة. قوله: (تلد كلُّ امرأةٍ منهن غلاماً، يقاتل في سبيل الله) في رواية لهما عن أبي الزناد " تحملُ كلّ امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله ". وقوله " تلد " فيه حذفٌ تقديره فتعلق فتحمل فتلد، وكذا في قوله " يقاتل " تقديره فينشأ فيتعلم الفروسيّة فيقاتل، وساغ الحذف , لأنّ ¬

_ (¬1) هو محمد بن يوسف , سبق ترجمته (1/ 18) (¬2) تقدم الكلام على حديث جابر - رضي الله عنه - في البيوع. انظر رقم (334).

كلّ فعل منها مسبّب عن الذي قبله، وسبب السّبب سببٌ. هذا قاله على سبيل التّمنّي للخير، وإنّما جزم به لأنّه غلب عليه الرّجاء، لكونه قصد به الخير وأمر الآخرة لا لغرض الدّنيا. قال بعض السّلف: نبّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على آفة التّمنّي والإعراض عن التّفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء ليمضي فيه القدر. قوله: (فقيل له: قل: إن شاء الله) في رواية أبي الزناد " فقال له صاحبه: إن شاء الله " , وفي رواية معمر عن ابن طاوسٍ عند البخاري " فقال له الملك ". وفي رواية هشام بن حجير عن طاوس عند البخاري " فقال له صاحبه، قال سفيان: يعني الملك ". وفي هذا إشعار بأنّ تفسير صاحبه بالملك ليس بمرفوع، لكن في " مسند الحميديّ " عن سفيان " فقال له صاحبه أو الملك " بالشّكّ، ومثلها لمسلم. وفي الجملة ففيه ردٌّ على من فسّر صاحبه بأنّه الذي عنده علم من الكتاب، وهو آصف - بالمدّ وكسر المهملة بعدها فاء - ابن برخيا - بفتح الموحّدة وسكون الرّاء وكسر المعجمة بعدها تحتانيّة -. وقال القرطبيّ (¬1): في قوله " فقال له صاحبه أو الملك " إنْ كان صاحبه فيعني به وزيره من الإنس والجنّ، وإن كان الملك فهو الذي ¬

_ (¬1) صاحب المفهم أحمد بن عمر , سبق ترجمته (1/ 26)

كان يأتيه بالوحي. وقال: وقد أبعد مَن قال المراد به خاطره. وقال النّوويّ: قيل: المراد بصاحبه الملك، وهو الظّاهر من لفظه، وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدميّ. قلت: ليس بين قوله صاحبه والملك منافاةٌ، إلَّا أنّ لفظة " صاحبه " أعمّ، فمن ثَمّ نشأ لهم الاحتمال، ولكنّ الشّكّ لا يؤثّر في الجزم، فمن جزم بأنّه الملك حجّة على من لَم يجزم. قوله: (فلم يقل) قال عياض: بيّن في الطّريق الأخرى بقوله " فنسي ". قلت: هي رواية ابن عيينة عن شيخه هشام بن حجير، وفي رواية معمر قال: " ونسي أن يقول إن شاء الله " ومعنى قوله: " فلم يقل " أي: بلسانه لا أنّه أبى أن يفوّض إلى الله بل كان ذلك ثابتاً في قلبه، لكنّه اكتفى بذلك أوّلاً ونسي أن يجريه على لسانه لَمَّا قيل له لشيء عرض له. قيل: الحكمة في ذلك أنّه صرف عن الاستثناء السّابق القدر، وأبعد مَن قال في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ , والتّقدير فلم يقل: إن شاء الله , فقيل له: قل إن شاء الله، وهذا إن كان سببه أنّ قوله " فنسي " يغني عن قوله " فلم يقل " , فكذا يقال إنّ قوله " فقال له صاحبه: قل إن شاء الله " فيستلزم أنّه كان لَم يقلها، فالأولى عدم ادّعاء التّقديم والتّأخير.

ومن هنا يتبيّن أنّ تجويز من ادّعى أنّه تعمّد الحنث مع كونه معصية لكونها صغيرة لا يؤاخذ بها. لَم يصب دعوى ولا دليلاً. وقال القرطبيّ: قوله " فلم يقل " أي: لَم ينطق بلفظ إن شاء الله بلسانه، وليس المراد أنّه غفل عن التّفويض إلى الله بقلبه، والتّحقيق أنّ اعتقاد التّفويض مستمرٌّ له , لكنّ المراد بقوله " فنسي " أنّه نسي أن يقصد الاستثناء الذي يرفع حكم اليمين. ففيه تعقّبٌ على من استدلَّ به لاشتراط النّطق في الاستثناء. قوله: (فطاف بهنّ) في رواية ابن عيينة " فأطاف بهنّ " وقد تقدّم توجيهه. قوله: (فلم تلد منهنّ إلَّا امرأةٌ واحدةٌ: نصف إنسانٍ) في رواية مغيرة عن أبي الزناد " إلَّا واحداً ساقطاً أحد شقّيه ". وفي رواية شعيب " فلم يحمل منهنّ إلَّا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل ". وفي رواية أيّوب عن ابن سيرين " ولدت شقّ غلام ". حكى النّقّاش في " تفسيره ": أنّ الشّقّ المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيّه. وقد قال غيرُ واحدٍ من المفسّرين: إنّ المراد بالجسد المذكور شيطان وهو المعتمد، والنّقّاش صاحب مناكير. قوله: (لو قال: إن شاء الله لَم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته) في رواية مغيرة " لو قالها لجاهدوا في سبيل الله " , وفي رواية ابن سيرين " لو استثنى لحملت كلّ امرأة منهنّ فولدت فارساً يقاتل في سبيل

الله " , وعند البخاري من طريق معمر " وكان أرجى لحاجته ". وفي رواية شعيب " وايم الذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء الله " , وزاد في آخره " فرساناً أجمعون " هكذا وقع في هذه الرّواية , وفي سائر الطّرق كما تقدّم بغير يمينٍ. واستدل بما وقع في هذا الموضع على جواز إضافة " ايم " إلى غير لفظ الجلالة. وأجيب: بأنّه نادر , ومنه قول عروة بن الزّبير في قصّته " ليمنك لئن ابتليتَ فقد عافيتَ " (¬1) فأضافها إلى الضّمير. قوله: (دركاً) بفتحتين من الإدراك , وهو كقوله تعالى: {لا تخاف دركاً} أي: لحاقاً، والمراد أنّه كان يحصل له ما طلب , ولا يلزم من إخباره - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حقّ سليمان في هذه القصّة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيّته، بل في الاستثناء رجوّ الوقوع وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع. وبهذا يجاب عن قول موسى للخضر {ستجدني إن شاء الله صابراً} مع قول الخضر له آخراً {ذلك تأويل ما لَم تسطع عليه صبراً} وفي الحديث فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه، وأن كثيراً من المباح والملاذّ يصير مستحبّاً بالنّيّة والقصد. وفيه استحباب الاستثناء لِمَن قال: سأفعل كذا. ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه , وتقدم الكلام على لفظة (ايم) مبسوطاً في معناها ولغاتها في كتاب الحدود برقم (358).

وفيه أنّ إتباع المشيئة اليمين يرفع حكمها، وهو متّفق عليه بشرط الاتّصال. وتقدّم بيان ذلك مع بسط فيه. (¬1) وقد قيل هو خاصّ بسليمان عليه السّلام , وأنّه لو قال في هذه الواقعة: إن شاء الله حصل مقصوده، وليس المراد أنّ كلّ مَن قالها وقع ما أراد. ويؤيّد ذلك أنّ موسى عليه السّلام قالها عندما وعد الخضر أنّه يصبر عمّا يراه منه ولا يسأله عنه , ومع ذلك فلم يصبر كما أشار إلى ذلك في الحديث الصّحيح " رحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتّى يقصّ الله علينا من أمرهما ". وقد قالها الذّبيح فوقع ما ذكر في قوله عليه السّلام {ستجدني إن شاء الله من الصّابرين} فصبر حتّى فداه الله بالذّبح. وقد سُئل بعضُهم عن الفرق بين الكليم والذّبيح في ذلك , فأشار إلى أنّ الذّبيح بالغ في التّواضع في قوله {من الصّابرين} حيث جعل نفسه واحداً من جماعة فرزقه الله الصّبر. قلت: وقد وقع لموسى عليه السّلام أيضاً نظير ذلك مع شعيب حيث قال له {ستجدني إن شاء الله من الصّالحين} فرزقه الله ذلك. قال ابن التّين: ليس الاستثناء في قصّة سليمان الذي يرفع حكم اليمين ويحلّ عقده، وإنّما هو بمعنى الإقرار لله بالمشيئة والتّسليم ¬

_ (¬1) انظر حديث أبي موسى المتقدَّم برقم (362).

لحكمه فهو نحو قوله {ولا تقولنّ لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلك غداً إلَّا أن يشاء الله}. وقال أبو موسى في كتابه المذكور (¬1) نحو ذلك. ثمّ قال بعد ذلك: وإنّما أخرج مسلم من رواية عبد الرّزّاق عن معمر عن عبد الله بن طاوسٍ عن أبيه عن أبي هريرة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حلف فقال: إن شاء الله لَم يحنث. كذا قال: وليس هو عند مسلم بهذا اللفظ، وإنّما أخرج قصّة سليمان وفي آخره " لو قال: إن شاء الله لَم يحنث " نعم. أخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ من هذا الوجه بلفظ " مَن قال .. إلخ ". قال التّرمذيّ: سألت محمّداً عنه فقال: هذا خطأٌ، أخطأ فيه عبد الرّازق فاختصره من حديث معمر بهذا الإسناد في قصّة سليمان بن داود. قلت: وقد أخرجه البخاريّ عن محمود بن غيلان عن عبد الرّزّاق بتمامه. وأشرت إلى ما فيه من فائدة، وكذا أخرجه مسلم. وقد اعترض ابن العربيّ: بأنّ ما جاء به عبد الرّزّاق في هذه الرّواية لا يناقض غيرها؛ لأنّ ألفاظ الحديث تختلف باختلاف أقوال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التّعبير عنها لتبيّن الأحكام بألفاظٍ، أي: فيخاطب كلّ قوم بما يكون أوصل لأفهامهم , وإمّا بنقل الحديث على المعنى على أحد القولين. ¬

_ (¬1) أي: كتاب " الثمين في استثناء اليمين " وقد تقدّم في حديث أبي موسى - رضي الله عنه -.

وأجاب شيخنا في شرح التّرمذيّ: بأنّ الذي جاء به عبد الرّزّاق في هذه الرّواية ليس وافياً بالمعنى الذي تضمّنته الرّواية التي اختصره منها، فإنّه لا يلزم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: لو قال سليمان: إن شاء الله لَم يحنث. أن يكون الحكم كذلك في حقّ كلّ أحد غير سليمان، وشرط الرّواية بالمعنى عدم التّخالف، وهنا تخالف بالخصوص والعموم. قلت: وإذا كان مخرج الحديث واحداً فالأصل عدم التّعدّد. لكن قد جاء لرواية عبد الرّزّاق المختصرة شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه أصحاب السّنن الأربعة وحسّنه التّرمذيّ وصحَّحه الحاكم من طريق عبد الوارث عن أيّوب - وهو السّختيانيّ - عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. فلا حنث عليه. قال التّرمذيّ: رواه غير واحد عن نافع موقوفاً، وكذا رواه سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ولا نعلم أحداً رفعه غير أيّوب. وقال إسماعيل بن إبراهيم: كان أيّوب أحياناً يرفعه وأحياناً لا يرفعه. وذكر في " العلل " , أنّه سأل محمّداً عنه , فقال: أصحاب نافع رووه موقوفاً إلَّا أيّوب، ويقولون: إنّ أيّوب في آخر الأمر وقفه. وأسند البيهقيّ عن حمّاد بن زيد قال: كان أيّوب يرفعه ثمّ تركه. وذكر البيهقيّ: أنّه جاء من رواية أيّوب بن موسى وكثير بن فرقد وموسى بن عقبة وعبد الله بن العمريّ المكبّر وأبي عمرو بن العلاء وحسّان بن عطيّة كلّهم عن نافع مرفوعاً. انتهى.

ورواية أيّوب بن موسى. أخرجها ابن حبّان في " صحيحه "، ورواية كثير. أخرجها النّسائيّ والحاكم في " مستدركه "، ورواية موسى بن عقبة. أخرجها ابن عديّ في ترجمة " داود بن عطاء " أحد الضّعفاء عنه، وكذا أخرج رواية أبي عمرو بن العلاء، وأخرج البيهقيّ رواية حسّان بن عطيّة ورواية العمريّ. وأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والبيهقيّ من طريق مالك وغيره عن نافع موقوفاً، وكذا أخرج سعيد والبيهقيّ من طريقه رواية سالم. والله أعلم. وتعقّبَ بعضُ الشّرّاح كلامَ التّرمذيّ في قوله " لَم يرفعه غير أيّوب " وكذا رواه سالم عن أبيه موقوفاً. قال شيخنا: قد رواه هو من طريق موسى بن عقبة مرفوعاً , ولفظه " من حلف على يمين فاستثنى على أثره , ثمّ لَم يفعل ما قال: لَم يحنث " انتهى. ولَم أر هذا في التّرمذيّ، ولا ذكره المزّيّ في ترجمة موسى بن عقبة عن نافع في " الأطراف "، وقد جزم جماعة , أنّ سليمان عليه السّلام كان قد حلف كما بيّنته. والحقّ أنّ مراد البخاريّ من إيراد قصّة سليمان في " باب الاستثناء في الأيمان " أن يبيّن أنّ الاستثناء في اليمين يقع بصيغة " إن شاء الله " فذكر حديث أبي موسى المصرّح بذكرها مع اليمين (¬1) ثمّ ذكر قصّة ¬

_ (¬1) أي: قوله في حديث أبي موسى الماضي " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين .. "

سليمان لمجيء قوله - صلى الله عليه وسلم - فيها تارة بلفظ " لو قال: إن شاء الله " وتارة بلفظ " لو استثنى " فأطلق على لفظ " إن شاء الله " أنّه استثناء. فلا يعترض عليه بأنّه ليس في قصّة سليمان يمين. وقال ابن المنير في الحاشية: وكأنّ البخاريّ يقول: إذا استثني من الأخبار فكيف لا يستثنى من الأخبار المؤكّد بالقسم. وهو أحوج في التّفويض إلى المشيئة. وقد استدل بهذا الحديث مَن قال: الاستثناء إذا عقب اليمين ولو تخلل بينهما شيء يسير لا يضرّ، فإنّ الحديث دلَّ على أنّ سليمان لو قال: إن شاء الله عقب قول الملك له " قل إن شاء الله " لأفاد منع التّخلّل بين كلاميه بمقدار كلام الملك. وأجاب القرطبيّ: باحتمال أن يكون الملك قال ذلك في أثناء كلام سليمان، وهو احتمال ممكن يسقط به الاستدلال المذكور. وفيه أنّ الاستثناء لا يكون إلَّا باللفظ , ولا يكفي فيه النّيّة. وهو اتّفاق إلَّا ما حكي عن بعض المالكيّة. وفيه ما خصّ به الأنبياء من القوّة على الجماع الدّالّ ذلك على صحّة البنية وقوّة الفحوليّة وكمال الرّجوليّة مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم. وقد وقع للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أبلغ المعجزة , لأنّه مع اشتغاله بعبادة ربّه وعلومه ومعالجة الخلق كان متقللاً من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في

ليلة بغسل واحد. وهنّ إحدى عشرة امرأة (¬1). ويقال: إنّ كلّ من كان أتقى لله فشهوته أشدّ , لأنّ الذي لا يتّقي يتفرّج بالنّظر ونحوه. وفيه جواز الإخبار عن الشّيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظّنّ , فإنّ سليمان عليه السّلام جزم بما قال , ولَم يكن ذلك عن وحي وإلا لوقع، كذا قيل. وقال القرطبيّ: لا يظنّ بسليمان عليه السّلام أنّه قطع بذلك على ربّه إلَّا من جهل حال الأنبياء وأدبهم مع الله تعالى. وقال ابن الجوزيّ: فإن قيل: من أين لسليمان أن يخلق من مائه هذا العدد في ليلة؟ لا جائز أن يكون بوحي لأنّه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه لأنّ الإرادة لله. والجواب: أنّه من جنس التّمنّي على الله , والسّؤال له أن يفعل , والقسم عليه كقول أنس بن النّضر " والله لا يكسر سنّها " (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الصحيح " (268) من طريق قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة , قال: قلت لأنس: أَوَكان يطيقه؟ قال: كنا نتحدَّث أنه أُعطي قوة ثلاثين , وفي رواية لهما " تسع نسوة ". وقد ذكر الشارح رحمه الله في " الفتح " (1/ 490) وجه الجمع بينهما. (¬2) أخرجه البخاري في " الصحيح " (4611) عن أنس - رضي الله عنه - قال: كَسرت الرُّبيّع ثنيةَ جاريةٍ من الأنصار، فطلب القومُ القصاصَ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص، فقال أنس بن النضر عمُّ أنس بن مالك: لا والله، لا تكسر سنها يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنس كتاب الله القصاص. فرضي القوم , وقبلوا الأرش، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه.

ويحتمل: أن يكون لَمَّا أجاب الله دعوته أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده كان هذا عنده من جملة ذلك فجزم به. وأقرب الاحتمالات ما ذكرته أوّلاً. وبالله التّوفيق. قلت: ويحتمل أن يكون أوحي إليه بذلك مقيّداً بشرط الاستثناء فنسي الاستثناء فلم يقع ذلك لفقدان الشّرط، ومن ثَمّ ساغ له أوّلاً أن يحلف. وأبعد من استدل به على جواز الحلف على غلبة الظّنّ. وفيه جواز السّهو على الأنبياء، وأنّ ذلك لا يقدح في علوّ منصبهم. وفيه جواز الإخبار عن الشّيء أنّه سيقع , ومستند المخبر الظّنّ مع وجود القرينة القويّة لذلك. وفيه جواز إضمار المقسم به في اليمين لقوله: " لأطّوّفن " مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لَم يحنث " فدلَّ على أنّ اسم الله فيه مقدّر، فإن قال أحدٌ بجواز ذلك. فالحديث حجّة له بناء على أنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد تقريره على لسان الشّارع. وإن وقع الاتّفاق على عدم الجواز فيحتاج إلى تأويله كأن يقال: لعل التّلفّظ باسم الله وقع في الأصل وإن لَم يقع في الحكاية، وذلك ليس بممتنع، فإنّ مَن قال: والله لأطوفنّ. يصدق أنّه قال: لأطّوّفن فإنّ اللافظ بالمركّب لافظ بالمفرد. وفيه حجّة لِمَن قال: لا يشترط التّصريح بمقسم به معيّن، فمَن قال أحلف أو أشهد ونحو ذلك فهو يمين وهو قول الحنفيّة، وقيّده

المالكيّة بالنّيّة. وقال بعض الشّافعيّة: ليست بيمين مطلقاً. وفيه جواز استعمال لو ولولا. وفيه استعمال الكناية في اللفظ الذي يستقبح ذكره لقوله " لأطّوّفن " بدل قوله: لأجامعن.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 365 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حلف على يمينٍ صبْرٍ يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ، هو فيها فاجرٌ، لقي اللهَ وهو عليه غضبان. ونزلت {إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} إلي آخر الآية. (¬1) قوله: (من حلف على يمين صبر) بفتح الصّاد وسكون الموحّدة، ويمين الصّبر هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها , يقال: أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحقّ. وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عند البخاري " هو عليها فاجر ليقتطع " , وكأنّ فيها حذفاً تقديره هو في الإقدام عليها، والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وقد وقع في رواية شعبة عند البخاري " على يمينٍ كاذبةٍ " قوله: (يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ) في رواية حجّاج بن منهال عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2229 , 2285، 2380، 2523، 2525، 2528، 2531، 4275، 6283، 6299، 6761) ومسلم (138) من طرق عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. وفيه: فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا. فذكر الحديث الآتي بعده. وأخرجه البخاري (7007) ومسلم (138) من طريق جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين كلاهما عن شقيق به. دون ذكر الأشعث. تنبيه: الطريق الأول , مِن الرواة من اقتصر على الأعمش , ومنهم على منصور , ومنهم من رواه عنهما جميعاً كشعبة وسفيان عند البخاري.

أبي عوانة عن الأعمش عند البخاري " ليقتطع بها " بزيادة لام تعليل , ويقتطع يفتعل من القطع. كأنّه قطعه عن صاحبه. أو أخذ قطعة من ماله بالحلف المذكور. قوله: (لقي الله وهو عليه غضبان) في حديث وائل بن حجرٍ عند مسلم " وهو عنه معرضٌ " وفي رواية كردوسٍ عن الأشعث عند أبي داود " إلَّا لقي الله وهو أجذم ". وفي حديث أبي أُمامة بن ثعلبة عند مسلم والنّسائيّ نحوه في هذا الحديث " فقد أوجب الله له النّار. وحرّم عليه الجنّة " , وفي حديث عمران عند أبي داود " فليتبوّأ مقعده من النّار ". قوله: (فنزلت: إنّ الذين يشترون بعهد الله) وفي رواية " فأنزل الله تصديق ذلك. الآية ". كذا في رواية الأعمش ومنصور عن شقيق عند البخاري. ووقع في رواية جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين عند مسلم والتّرمذيّ وغيرهما جميعاً عن أبي وائل عن عبد الله سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف على مالِ امرئٍ مسلمٍ بغير حقّه. الحديث. ثمّ قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله {إنّ الذين يشترون بعهد الله} فذكر هذه الآية. (¬1) ولولا التّصريح بأنّها نزلت في ذلك لكان ظاهر هذه الرّواية أنّها نزلت قبل ذلك. فروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - , أنّ ¬

_ (¬1) وهو في البخاري أيضاً (7007) بهذا اللفظ. ومن هذا الطريق كما تقدّم في التخريج.

رجلاً أقام سلعةً في السّوق، فحلف فيها، لقد أُعطى بها ما لَم يعطه، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين " فنزلت: {إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ..} إلى آخر الآية. ويجوز أنّها نزلت في الأمرين معاً، ولفظ الآية أعمّ من ذلك , ولهذا وقع في صدر حديث ابن مسعودٍ ما يقتضي ذلك. وقال الكرمانيّ: لعل الآية لَم تبلغ ابنَ أبي أوفى إلَّا عند إقامته السّلعة , فظنّ أنّها نزلت في ذلك، أو أنّ القصّتين وقعتا في وقت واحد فنزلت الآية، واللفظ عامٌّ متناولٌ لهما ولغيرهما. وذكر الطّبريّ من طريق عكرمة , أنّ الآية نزلت في حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التّوراة من شأن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وقالوا وحلفوا أنّه من عند الله. وقصّ الكلبيّ في " تفسيره " في ذلك قصّةً طويلةً , وهي محتملةٌ أيضاً. لكن المعتمد في ذلك ما ثبت في الصّحيح. قوله: (بعهد الله) أي قول القائل: عليّ عهد الله لأفعلنّ كذا. قال الرّاغب: العهد حفظ الشّيء ومراعاته، ومن ثَمّ قيل للوثيقة عهدة. ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق. ويراد به أيضاً ما أمر به في الكتاب والسّنّة مؤكّداً , وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنّذر.

قلت: وللعهد معانٍ أخرى غير هذه. كالأمان والوفاء والوصيّة واليمين ورعاية الحرمة والمعرفة واللقاء عن قرب والزّمان والذّمّة، وبعضها قد يتداخل. قال ابن المنذر: من حلف بالعهد فحنث لزمه الكفّارة. سواء نوى أم لا. عند مالك والأوزاعيّ والكوفيّين، وبه قال الحسن والشّعبيّ وطاوسٌ وغيرهم. قلت: وبه قال أحمد. وقال عطاء والشّافعيّ وإسحاق وأبو عبيد: لا تكون يميناً إلَّا إذا نوى. وقال الشّافعيّ فيمَن قال: أمانة الله مثله. وأغرب إمام الحرمين فادّعى اتّفاق العلماء على ذلك، ولعله أراد من الشّافعيّة ومع ذلك فالخلاف ثابت عندهم. كما حكاه الماورديّ وغيره عن أبي إسحاق المروزيّ. واحتجّ للمذهب: بأنّ عهد الله يُستعمل في وصيّته لعباده باتّباع أوامره وغير ذلك كما ذكر , فلا يحمل على اليمين إلَّا بالقصد. وقال الشّافعيّ: إذا قال عليّ عهد الله. احتمل أن يريد معهوده , وهو وصيّته فيصير كقوله عليّ فرض الله , أي: مفروضة فلا يكون يميناً؛ لأنّ اليمين لا تنعقد بمحدث، فإن نوى بقوله عهد الله اليمين انعقدت. وقال ابن المنذر: قد قال الله تعالى {أَلَم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا

تعبدوا الشّيطان} فمَن قال: عليّ عهد الله صدق؛ لأنّ الله أخبر أنّه أخذ علينا العهد فلا يكون ذلك يميناً إلَّا إن نواه، واحتجّ الأوّلون: بأنّ العرف قد صار جارياً به فحمل على اليمين. وقال ابن التّين: هذا لفظٌ يستعمل على خمسة أوجه: الأوّل: علي عهد الله، والثّاني: وعهد الله، الثّالث: عهد الله، الرّابع: أعاهد الله، الخامس: عليّ العهد. وقد طرد بعضهم ذلك في الجميع , وفصّل بعضهم , فقال: لا شيء في ذلك إلَّا إن قال عليّ عهد الله ونحوها، وإلَّا فليست بيمينٍ نوى أو لَم ينو. قوله: (وأيمانهم ثمناً قليلاً) يستفاد من الآية أنّ العهد غير اليمين لعطف اليمين عليه، ففيه حجّة على من احتجّ بها بأنّ العهد يمين. واحتجّ بعض المالكيّة: بأنّ العرف جرى على أنّ العهد والميثاق والكفالة والأمانة أيمانٌ؛ لأنّها من صفات الذّات، ولا يخفى ما فيه. قال ابن بطّال (¬1): وجه الدّلالة أنّ الله خصّ العهد بالتّقدمة على سائر الأيمان فدلَّ على تأكّد الحلف به؛ لأنّ عهد الله ما أخذه على عباده، وما أعطاه عباده كما قال تعالى {ومنهم من عاهد الله} الآية لأنّه قدّم على ترك الوفاء به. انتهى ¬

_ (¬1) ((هو علي بن خلف , سبق ترجمته (1/ 34)

الحديث السادس

الحديث السادس 366 - عن الأشعث بن قيسٍ - رضي الله عنه - قال: كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شاهداك أو يمينه، قلت: إذاً يحلف، ولا يبالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حلف على يمينٍ صبرٍ يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ، هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان. (¬1) قوله: (عن الأشعث بن قيس) بن معديكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الكندي. (¬2) ¬

_ (¬1) هذ الحديث هو نفسه حديث ابن مسعود الماضي. وتقدّم تخريجه فانظره (¬2) يكنى أبا محمد , قال ابن سعد: وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر في سبعين راكباً من كندة , وكان من ملوك كندة , وهو صاحب مرباع حضر موت. قاله ابن الكلبي. وكان اسمه معد يكرب , وإنما لُقِّب بالأشعث قال محمد بن يزيد: عن رجاله كان اسمه معد يكرب. وكان أبدا أشعث الرأس فسُمي الأشعث. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم: شهدت جنازةً فيها الأشعث وجرير فقدَّم الأشعث جريراً , وقال: إنه لم يرتدّ , وقد كنتُ ارتددتُ. ورواه ابن السكن وغيره. وكان الأشعث قد ارتدَّ فيمن ارتدَّ من الكنديين , وأُسر فأُحضر إلى أبي بكر فأسلم فاطلقه , وزوجه أخته أم فروة. في قصة طويلة. ثم شهد الأشعث اليرموك بالشام والقادسية وغيرها بالعراق , وسكن الكوفة , وشهد مع علي صفين. وله معه أخبار , قال خليفة وأبو نعيم وغير واحد: مات بعد قتل عليٍّ بأربعين ليلة , وصلَّى عليه الحسن بن علي , وقيل مات سنة 42. وفي الطبراني من طريق أبي إسرائيل الملائي عن أبي إسحاق. ما يدلُّ على أنه تأخر عن ذلك , فإن أبا إسحاق كان صغيراً على عهد عليٍّ , وقد ذكر في هذه القصة , أنه كان له على رجلٍ من كندة دين , وأنه دخل مسجدهم فصلَّى الفجر فوضع بين يديه كيس وحلَّة ونعل فسأل عن ذلك فقالوا: قدم الأشعث الليلة من مكة. وفيه أيضاً من وجه آخر استأذن الأشعث على معاوية بالكوفة وعنده الحسن بن علي وابن عباس فذكر قصته , لكن هذا لا يدفع ما تقدم. وقال أبو حسان الزيادي: مات وله 63 سنة. من الإصابة بتجوز.

قوله: (كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ) في رواية أبي عوانة عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود عند البخاري " كان لي بئر في أرض ابن عمٍّ لي " , وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عند البخاري " أرضٌ ". وزعم الإسماعيليّ , أنّ أبا حمزة (¬1) تفرّد بذكر البئر عن الأعمش , قال: ولا أعلم فيمن رواه عن الأعمش إلَّا قال: " في أرض ". قال: والأكثرون أولى بالحفظ من أبي حمزة. انتهى. وليس كما قال. فقد وافقه أبو عوانة كما ترى، وكذا للبخاري من رواية الثّوريّ عن الأعمش ومنصور جميعاً، ومثله في رواية شعبة , لكن بيّن أنّ ذلك في حديث الأعمش وحده. ووقع في رواية جرير عن منصور " في شيء " ولبعضهم " في بئر ". ووقع عند أحمد من طريق عاصم عن شقيق أيضاً " في بئر ". والأكثر. أنّ الخصومة كانت في بئر يدّعيها الأشعث في أرض لخصمه، وفي رواية أبي معاوية " كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرض فجحدني ". ¬

_ (¬1) أبو حمزة هو محمد بن ميمون السكري. وروايته هذه أخرجها البخاري (2229) عن الأعمش , وفيها زيادات سيشير إليها الشارح رحمه الله.

ويُجمع: بأنّ المراد أرض البئر لا جميع الأرض التي هي أرض البئر، والبئر من جملتها. ولا منافاة بين قوله: ابن عمّ لي , وبين قوله: من اليهود؛ لأنّ جماعة من اليمن كانوا تهوّدوا لمَّا غلب يوسف ذو نواسٍ على اليمن. فطردَ عنها الحبشةَ , فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل " السّيرة النّبويّة " مبسوطاً. واسم ابن عمّه المذكور معدان بن معد يكرب الكندي، ولقبه الجفشيش بوزن فعليلٍ مفتوح الأوّل. واختلف في ضبط هذا الأوّل على ثلاثة أقوالٍ: أشهرها: بالجيم والشّين معجمةً في الموضعين. وقيل: اسمه جرير. وقيل: معدّان. حكاه ابن طاهر، والمعروف أنّه اسم. وكنيته أبو الخير. وأخرج الطّبرانيّ من طريق الشّعبيّ عن الأشعث قال: خاصم رجلٌ من الحضرميّين رجلاً منّا يقال له الجفشيش إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أرضٍ له، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للحضرميّ: جئ بشهودك على حقّك , وإلاَّ حلف لك. الحديث. قلت: وهذا يخالف السّياق الذي في الصّحيح، فإن كان ثابتاً حُمل على تعدّد القصّة، وقد أخرج أحمد والنّسائيّ من حديث عديّ بن عميرة الكنديّ , قال: خاصم رجلٌ من كندة - يقال له امرؤ القيس بن عابس الكنديّ - رجلاً من حضرموت في أرض. فذكر نحو قصّة

الأشعث. وفيه: إن مكّنته من اليمين ذهبت أرضي، وقال: من حلف. فذكر الحديث. وتلا الآية. ومعد يكرب جدّ الجفشيش. وهو جدّ الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمّه حقيقة. ووقع في رواية لأبي داود من طريق كردوس عن الأشعث , أنّ رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أرض من اليمن. فذكر قصّةً تشبه قصّة الباب إلَّا أنّ بينهما اختلافاً في السّياق. وأظنّها قصّة أخرى , فإنّ مسلماً أخرج من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: جاء رجلٌ من حضرموت ورجلٌ من كندة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال الحضرميّ: إنّ هذا غلبني على أرض كانت لأبي. وإنّما جوّزتُ التّعدّد؛ لأنّ الحضرميّ يغاير الكنديّ؛ لأنّ المدّعي في حديث الباب هو الأشعث وهو الكنديّ جزماً , والمُدّعي في حديث وائل هو الحضرميّ فافترقا. ويجوز أن يكون الحضرميّ: نسب إلى البلد لا إلى القبيلة , فإنّ أصل نسبة القبيلة كانت إلى البلد ثمّ اشتهرت النّسبة إلى القبيلة، فلعل الكنديّ في هذه القصّة كان يسكن حضرموت فنسب إليها , والكنديّ لَم يسكنها فاستمرّ على نسبته. وقد ذكروا الجفشيش في الصّحابة، واستشكله بعض مشايخنا

لقوله في الطّريق المذكورة قريباً " إنّه يهوديّ " ثمّ قال: يحتمل أنّه أسلم. قلت: وتمامه أن يقال: إنّما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أوّلاً. ويؤيّد إسلامه أنّه وقع في رواية كردوس عن الأشعث في آخر القصّة , أنّه لَمّا سمع الوعيد المذكور قال: هي أرضه، فترك اليمين تورّعاً، ففيه إشعار بإسلامه. ويؤيّده أنّه لو كان يهوديّاً ما بالَى بذلك , لأنّهم يستحلّون أموال المسلمين، وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى حكاية عنهم {ليس علينا في الأمّيّين سبيلٌ} أي: حرجٌ. ويؤيّد كونه مسلماً أيضاً رواية الشّعبيّ الآتية قريباً. قوله: (فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في رواية أبي عوانة " فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية الثّوريّ " خاصمته " , وفي رواية أبي معاوية " فجحدني , فقدّمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قوله: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شاهداك أو يمينه) في رواية أبي عوانة " فقال: بيّنتك أو يمينه " , وفي رواية أبي معاوية " فقال: ألك بيّنةٌ؟ فقلت: لا. فقال لليهوديّ: احلف " , وفي رواية أبي حمزة " فقال لي: شهودك. قلت: ما لي شهود. قال: فيمينه " , وفي رواية وكيع عند مسلم " ألك عليه بيّنةٌ ". وارتفع " شاهداك " على أنّه خبر مبتدأ محذوف. تقديره المثبت لك

أو الحجّة أو ما يثبت لك، والمعنى ما يثبت لك شهادة شاهديك أو لك إقامة شاهديك. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه فارتفع، وحذف الخبر للعلم به. والأصل في هذا التّقدير قول سيبويه: المثبت لك ما تدّعيه شاهداك، وتأويله المثبت لك هو شهادة شاهديك .. إلخ. وفي رواية أبي حمزة بلفظ " شهودك أو يمينه " بالنّصب فيهما. أي: أحضر شهودك أو اطلب يمينه. وفيه أنّه أطلق اليمين في جانب المدّعى عليه. ولَم يقيّده بشيءٍ دون شيء. وأشار البخاري (¬1) إلى الرّدّ على الكوفيّين في تخصيصهم اليمين على المدّعى عليه في الأموال دون الحدود. وذهب الشّافعيّ والجمهور إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنّكاح ونحوه. واستثنى مالك النّكاح والطّلاق والعتاق والفدية , فقال: لا يجب في شيء منها اليمين حتّى يقيم المدّعي البيّنة ولو شاهداً واحداً. وقوله " شاهداك أو يمينه " روى نحو هذه القصّة وائل بن حجرٍ. وزاد فيها " ليس لك إلَّا ذلك " أخرجه مسلم وأصحاب السّنن. واستدل بهذا الحصر على ردّ القضاء باليمين والشّاهد. ¬

_ (¬1) لقوله في صحيحه: (باب اليمين على المدعى عليه فى الأموال والحدود , وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: شاهداك أو يمينه.)

وأجيب: بأنّ المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - " شاهداك " أي: بيّنتك. سواء كانت رجلين , أو رجلاً وامرأتين , أو رجلاً ويمين الطّالب، وإنّما خصّ الشّاهدين بالذّكر لأنّه الأكثر الأغلب، فالمعنى شاهداك أو ما يقوم مقامهما. ولو لزم من ذلك ردّ الشّاهد واليمين - لكونه لَم يُذكر - للزم ردّ الشّاهد والمرأتين لكونه لَم يذكر فوضح التّأويل المذكور، والملجئ إليه ثبوت الخبر باعتبار الشّاهد واليمين، فدلَّ على أنّ ظاهر لفظ الشّاهدين غير مراد , بل المراد هو أو ما يقوم مقامه. وقيل: لا يُقضى باليمين مع الشّاهد الواحد إلَّا عند فقد الشّاهدين أو ما قام مقامهما من الشّاهد والمرأتين، وهو وجه للشّافعيّة، وصحَّحه الحنابلة. ويؤيّده ما رواه الدّارقطنيّ من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعاً: قضى الله ورسوله في الحقّ بشاهدين. فإن جاء بشاهدين أخذ حقّه. وإن جاء بشاهدٍ واحد حلف مع شاهده. وأجاب بعض الحنفيّة: بأنّ الزّيادة على القرآن نسخ، وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر، ولا تقبل الزّيادة من الأحاديث إلَّا إذا كان الخبر بها مشهوراً. وأجيب: بأنّ النّسخ رفع الحكم ولا رفع هنا. وأيضاً. فالنّاسخ والمنسوخ لا بدّ أن يتواردا على محلّ واحد , وهذا غير متحقّق في الزّيادة على النّصّ، وغاية ما فيه أنّ تسمية الزّيادة

كالتّخصيص نسخاً اصطلاح فلا يلزم منه نسخ الكتاب بالسّنّة، لكن تخصيص الكتاب بالسّنّة جائز , وكذلك الزّيادة عليه كما في قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. وأجمعوا على تحريم نكاح العمّة مع بنت أخيها. وسند الإجماع في ذلك السّنّة الثّابتة (¬1). وكذلك قطع رجل السّارق في المرّة الثّانية، وأمثلة ذلك كثيرة. وقد أخذَ مَن ردّ الحكم بالشّاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة , كلّها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنّبيذ والوضوء من القهقهة ومن القيء والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء , واستبراء المسبيّة , وترك قطع من سرق ما يُسرع إليه الفساد , وشهادة المرأة الواحدة في الولادة , ولا قود إلَّا بالسّيف , ولا جمعة إلَّا في مصر جامع , ولا تقطع الأيدي في الغزو , ولا يرث الكافر المسلم , ولا يؤكل الطّافي من السّمك , ويحرم كلّ ذي نابٍ من السّباع ومخلب من الطّير , ولا يقتل الوالد بالولد , ولا يرث القاتل من القتيل. وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمّن الزّيادة على عموم الكتاب. وأجابوا: بأنّها أحاديث شهيرة موجب العمل بها لشهرتها. فيقال لهم: وحديث القضاء بالشّاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة، بل ثبت من طرق صحيحة متعدّدة. ¬

_ (¬1) تقدم في النكاح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - رقم (309)

فمنها: ما أخرجه مسلم من حديث ابن عبّاس , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمينٍ وشاهد. وقال في اليمين: إنّه حديثٌ صحيحٌ لا يرتاب في صحّته. وقال ابن عبد البرّ: لا مطعن لأحدٍ في صحّته ولا إسناده. وأمّا قول الطّحاويّ: إنّ قيس بن سعد لا تعرف له رواية عن عمرو بن دينار. لا يقدح في صحّة الحديث , لأنّهما تابعيّان ثقتان مكّيّان , وقد سمع قيس من أقدم من عمرو، وبمثل هذا لا تردّ الأخبار الصّحيحة. ومنها: حديث أبي هريرة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشّاهد. وهو عند أصحاب السّنن ورجاله مدنيّون ثقات، ولا يضرّه أنّ سهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدّث به ربيعة , لأنّه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه عن أبيه، وقصّته بذلك مشهورة في سنن أبي داود وغيرها. ومنها: حديث جابر مثل حديث أبي هريرة. أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه , وصحَّحه ابن خزيمة وأبو عوانة. وفي الباب عن نحو من عشرين من الصّحابة فيها الحسان والضّعاف، وبدون ذلك تثبت الشّهرة، ودعوى نسخه مردودة , لأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال. وأمّا احتجاج مالك في " الموطّأ ". بأنّ اليمين تتوجّه على المدّعي عند النّكول , وردّ اليمين بغير حلف فإذا حلف ثبت الحقّ بغير

خلاف فيكون حلف المدّعي ومعه شاهد آخر أولى، فهو متعقّبٌ. ولا يردّ على الحنفيّة , لأنّهم لا يقولون بردّ اليمين. وقال الشّافعيّ: القضاء بشاهدٍ ويمين لا يخالف ظاهر القرآن , لأنّه لَم يمنع أن يجوز أقلّ ممّا نصّ عليه، يعني: والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم فضلاً عن مفهوم العدد. والله أعلم. وقال ابن العربيّ: أظرف ما وجدت لهم في ردّ الحكم بالشّاهد واليمين أمران: أحدهما: أنّ المراد قضى بيمين المنكر مع شاهد الطّالب، والمراد أنّ الشّاهد الواحد لا يكفي في ثبوت الحقّ فيجب اليمين على المدّعى عليه، فهذا المراد بقوله: قضى بالشّاهد واليمين. وتعقّبه ابن العربيّ: بأنّه جهل باللّغة، لأنّ المعيّة تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في المتضادّين. ثانيهما: حمله على صورة مخصوصة , وهي أنّ رجلاً اشترى من آخر عبداً مثلاً فادّعى المشتري أنّ به عيباً , وأقام شاهداً واحداً , فقال البائع: بعته بالبراءة , فيحلف المشتري أنّه ما اشترى بالبراءة ويردّ العبد. وتعقّبه: بنحو ما تقدّم، ولأنّها صورة نادرة ولا يحمل الخبر عليها. قلت: وفي كثير من الأحاديث الواردة في ذلك ما يبطل هذا التّأويل. والله أعلم قوله: (قلت: إذاً يحلف، ولا يبالي) في رواية أبي عوانة " قلت:

إذاً يحلف عليها يا رسولَ الله " , لَم يقع في رواية أبي حمزة ما بعد قوله " يحلف " بلفظ " أذن يحلف " بالنّصب لوجود شرائطه من الاستقبال وغيره. وحكى ابن خروف جواز الرّفع في مثل هذا. وزاد في رواية أبي معاوية " إذاً يحلف ويذهب بمالي " , ووقع في حديث وائل من الزّيادة بعد قوله ألك بيّنةٌ , قال: لا , قال: فلك يمينه، قال: إنّه فاجرٌ ليس يبالي ما حلف عليه , وليس يتورّع من شيءٍ، قال: ليس لك منه إلَّا ذلك. ووقع في رواية الشّعبيّ عن الأشعث قال: أرضي أعظم شأناً أن يحلف عليها، فقال: إنّ يمين المسلم يدرأ بها أعظم من ذلك. قوله: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حلف) فذكر مثل حديث ابن مسعودٍ سواء. وزاد " وهو فيها فاجرٌ ". وهذه الزّيادة وقعت في حديث ابن مسعودٍ عند أبي حمزة وغيره. وزاد أبو حمزة " فأنزل الله ذلك تصديقاً له " أي: لحديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَم يقع في رواية منصور حديث " من حلف " من رواية الأشعث بل اقتصر على قوله " فأنزل الله " وساق الآية. ووقع في رواية كردوس عن الأشعث " فتهيّأ الكنديّ لليمين " وفي حديث وائلٍ: فانطلق ليحلف، فلمّا أدبر , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث. ووقع في رواية الشّعبيّ عن الأشعث , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنْ هو

حلف كاذباً أدخله الله النّار. فذهب الأشعث فأخبره القصّة , فقال: أصلِح بيني وبينه، قال: فأصلح بينهما. وفي حديث عديّ بن عميرة , فقال له أمرؤ القيس: ما لمن تركها يا رسولَ الله؟ قال: الجنّة. قال: أشهد أنّي قد تركتها له كلها. وهذا يؤيّد ما أشرت إليه من تعدّد القصّة. وفي الحديث سماع الحاكم الدّعوى فيما لَم يره إذا وُصف وحدّد وعرفه المتداعيان، لكن لَم يقع في الحديث تصريحٌ بوصفٍ ولا تحديدٍ. فاستدلَّ به القرطبيّ على أنّ الوصف والتّحديد ليس بلازمٍ لذاته , بل يكفي في صحّة الدّعوى تمييز المدّعى به تمييزاً ينضبط به. قلت: ولا يلزم من ترك ذكر التّحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع، ولا يستدلّ بسكوت الرّاوي عنه بأنّه لَم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطاً بدليله. فإذا ثبت حمل على أنّه ذكر في الحديث، ولَم ينقله الرّاوي. وفيه أنّ الحاكم يسأل المدّعي هل له بيّنة؟ وقد ترجم بذلك البخاري في الشّهادات " وأنّ البيّنة على المدّعي في الأموال كلّها ". واستدل به لمالكٍ في قوله: إنّ من رضي بيمين غريمه , ثمّ أراد إقامة البيّنة بعد حلفه أنّها لا تسمع , إلَّا إن أتى بعذرٍ يتوجّه له في ترك إقامتها قبل استحلافه. قال ابن دقيق العيد: ووجهه أنّ " أو " تقتضي أحد الشّيئين. فلو جاز إقامة البيّنة بعد الاستحلاف لكان له الأمران معاً , والحديث

يقتضي أنّه ليس له إلَّا أحدهما. قال: وقد يجاب بأنّ المقصود من هذا الكلام نفي طريقٍ أخرى لإثبات الحقّ فيعود المعنى إلى حصر الحجّة في البيّنة واليمين. ثمّ أشار إلى أنّ النّظر إلى اعتبار مقاصد الكلام , وفهمه يضعف هذا الجواب. قال: وقد يستدلّ الحنفيّة به في ترك العمل بالشّاهد واليمين في الأموال. قلت: والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشّاهد واليمين أنّها زيادة صحيحةٌ يجب المصير إليها لثبوت ذلك بالمنطوق، وإنّما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم. واستدل به على توجيه اليمين في الدّعاوي كلّها على من ليست له بيّنةٌ. وفيه بناء الأحكام على الظّاهر , وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلاً. وفيه دليلٌ للجمهور , أنّ حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لَم يكن حلالاً له خلافاً لأبي حنيفة. كذا أطلقه النّوويّ. وتعقّب: بأنّ ابن عبد البرّ نقل الإجماع على أنّ الحكم لا يحلّ حراماً في الباطن في الأموال. قال: واختلفوا في حل عصمة نكاحٍ من عقد عليها بظاهر الحكم وهي في الباطن بخلافه. فقال الجمهور: الفروج كالأموال، وقال

أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكيّة: إنّ ذلك إنّما هو في الأموال دون الفروج، وحجّتهم في ذلك اللعان. انتهى. وقد طرد ذلك بعض الحنفيّة في بعض المسائل في الأموال، والله أعلم. قال ابن بطّال: هذا الحديث حجّة في أنّ حكم الحاكم في الظّاهر لا يحلّ الحرام ولا يبيح المحظور، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - حذّر أمّته عقوبة من اقتطع من حقّ أخيه شيئاً بيمينٍ فاجرة، والآية المذكورة من أشدّ وعيد جاء في القرآن، فيؤخذ من ذلك أنّ من تحيّل على أخيه وتوصّل إلى شيء من حقّه بالباطل فإنّه لا يحلّ له لشدّة الإثم فيه. وفيه التّشديد على من حلف باطلاً ليأخذ حقّ مسلمٍ، وهو عند الجميع محمولٌ على من مات على غير توبةٍ صحيحةٍ. وعند أهل السّنّة محمولٌ على من شاء الله أن يعذّبه كما قرّرناه مراراً. وآخرها في الكلام على حديث أبي ذرٍّ (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1180) ومواضع أخرى , ومسلم (94) عن أبي ذر , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاني آت من ربي، فأخبرني , أو قال: بشرني , أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قال ابن حجر في " الفتح ": وقال النووي بعد أن ذكر المتون في ذلك والاختلاف في هذا الحكم: مذهب أهل السنة بأجمعهم أنَّ أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقناً بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان ديّناً أو سليماً من المعاصي دخل الجنة برحمة الله وحرم على النار، وإنْ كان من المُخلّطين بتضييع الأوامر , أو بعضها وارتكاب النواهي أو بعضها , ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أنْ يشاء الله أنْ يعفو عنه، فإنْ شاء أنْ يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة، انتهى. وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول. تقديره. وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، لكنه قبل ذلك إن مات مصراً على المعصية في مشيئة الله. وتقدير الثاني في حديث أبي هريرة عند مسلم: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله إلَّا حرَّمه الله على النار. إلا أن يشاء الله أو حرَّمه على نار الخلود. والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.

وقوْله {ولا ينْظر الله إليْه} قال في الكشّاف: هو كنايةٌ عن عدم الإحسان إليه عند من يجوّز عليه النّظر مجازٌ عند من لا يجوّزه , والمراد بترك التّزكية ترك الثّناء عليه وبالغضب إيصال الشّرّ إليه. وقال المازريّ: ذكر بعض أصحابنا: أنّ فيه دلالة على أنّ صاحب اليد أولى بالمدّعى فيه. وفيه التّنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء؛ لأنّه بدأ بالطّالب فقال: ليس لك إلَّا يمين الآخر، ولَم يحكم بها للمدّعى عليه إذا حلف , بل إنّما جعل اليمين تصرف دعوى المدّعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدّعى عليه أن لا يحكم له بملك المدّعى فيه , ولا بحيازته بل يقرّه على حكم يمينه. واستدل به على أنّه لا يشترط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط أو يكونا ممّن يتّهم بذلك ويليق به , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر المدّعى عليه هنا بالحلف بعد أن سمع الدّعوى، ولَم يسأل عن حالهما. وتعقّب: بأنّه ليس فيه التّصريح بخلاف ما ذهب إليه مَن قال به من المالكيّة لاحتمال أن يكون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - علم من حاله ما أغناه عن السّؤال فيه، وقد قال خصمه عنه: إنّه فاجرٌ لا يبالي ولا يتورّع عن شيء " ولَم ينكر عليه ذلك , ولو كان بريئاً ممّا قال لبادر للإنكار عليه.

بل في بعض طرق الحديث ما يدلّ على أنّ الغصب المدّعى به وقع في الجاهليّة , ومثل ذلك تسمع الدّعوى بيمينه فيه عندهم. وفي الحديث أيضاً , أنّ يمين الفاجر تسقط عنه الدّعوى، وأنّ فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه، ولا إبطال إقراره ولولا ذلك لَم يكن لليمين معنى، وأنّ المدّعى عليه إن أقرّ أنّ أصل المدّعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه ما لَم يعلم إنكاره لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال. قال: وفيه أنّ من جاء بالبيّنة قضي له بحقّه من غير يمينٍ , لأنّه محالٌ أن يسأله عن البيّنة دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له بيّنتك ويمينك على صدقها. وتعقّب: بأنّه لا يلزم من كونه لا يحلف مع بيّنته على صدقها فيما شهدت أنّ الحكم له لا يتوقّف بعد البيّنة على حلفه بأنّه ما خرج عن ملكه ولا وهبه مثلاً وأنّه يستحقّ قبضه، فهذا - وإن كان لَم يذكر في الحديث - فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يشعر بالاستغناء عن ذكر ذلك؛ لأنّ في بعض طرقه أنّ الخصم اعترف وسلَّم المدّعى به للمدّعي فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أنّ المدّعي ذكر أنّه لا بيّنة له فلم تكن اليمين إلَّا في جانب المدّعى عليه فقط. وقال القاضي عياض: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً البداءة بالسّماع من الطّالب ثمّ من المطلوب. هل يقرّ أو ينكر؟ ثمّ طلب البيّنة من الطّالب إن أنكر المطلوب، ثمّ توجيه اليمين على المطلوب

إذا لَم يجد الطّالب البيّنة، وأنّ الطّالب إذا ادّعى أنّ المدّعى به في يد المطلوب فاعترف استغنى عن إقامة البيّنة بأنّ يد المطلوب عليه. قال: وذهب بعض العلماء إلى أنّ كلّ ما يجري بين المتداعيين من تسابٍّ بخيانةٍ وفجورٍ هدرٌ لهذا الحديث. وفيه نظرٌ؛ لأنّه إنّما نسبه إلى الغصب في الجاهليّة وإلى الفجور وعدم التّوقّي في الأيمان في حال اليهوديّة فلا يطّرد ذلك في حقّ كلّ أحد. وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفاً من أن يحلف باطلاً فيرجع إلى الحقّ بالموعظة. واستدل به القاضي أبو بكر بن الطّيّب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه فيقول له: ألك دليلٌ على ذلك؟ فإن قال نعم. سأله عنه , ولا يقول له ابتداءً: ما دليلك على ذلك؟. ووجه الدّلالة أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال للطّالب: ألك بيّنةٌ؟ ولَم يقل له قرّب بيّنتك. وفيه إشارةٌ إلى أنّ لليمين مكاناً يختصّ به لقوله في بعض طرقه " فانطلق ليحلف " وقد عهد في عهده - صلى الله عليه وسلم - الحلف عند منبره. وبذلك احتجّ الخطّابيّ (¬1) فقال: كانت المحاكمة والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فانطلق المطلوب ليحلف فلم يكن انطلاقه إلَّا إلى المنبر؛ لأنّه كان في المسجد فلا بدّ أن يكون انطلاقه إلى موضعٍ أخصّ منه. وفيه أنّ الحالف يحلف قائماً لقوله " فلمّا قام ليحلف ". وفيه نظرٌ؛ ¬

_ (¬1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

لأنّ المراد بقوله قام ما تقدّم من قوله: " انطلق ليحلف ". واستدل به الشّافعيّ أنّ من أسلم وبيده مالٌ لغيره أنّه يرجع إلى مالكه إذا أثبته. وعن المالكيّة. اختصاصه بما إذا كان المال لكافرٍ، وأمّا إذا كان لمسلمٍ وأسلم عليه الذي هو بيده فإنّه يقرّ بيده. والحديث حجّة عليهم. وقال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه أنّ الآية المذكورة في هذا الحديث نزلت في نقض العهد، وأنّ اليمين الغموس لا كفّارة فيها؛ لأنّ نقض العهد لا كفّارة فيه. كذا قال، وغايته أنّها دلالة اقترانٍ. وقال النّوويّ: يدخل في قوله " من اقتطع حقّ امرئٍ مسلمٍ " من حلف على غير مال كجلد الميتة والسّرجين وغيرهما ممّا ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزّوجة بالقسم، وأمّا التّقييد بالمسلم فلا يدلّ على عدم تحريم حقّ الذّمّيّ بل هو حرام أيضاً، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة. انتهى وهو تأويلٌ حسنٌ , لكن ليس في الحديث المذكور دلالةٌ على تحريم حقّ الذّمّيّ بل ثبت بدليلٍ آخر. والحاصل أنّ المسلم والذّمّيّ لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقّهما باطلاً، وإنّما يفترق قدر العقوبة بالنّسبة إليهما. قال: وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنّه لا فرق بين قليل

الحقّ وكثيره في ذلك. وكأنّ مراده عدم الفرق في غلظ التّحريم لا في مراتب الغلظ. وقد صرّح ابن عبد السّلام في " القواعد " بالفرق بين القليل والكثير , وكذا بين ما يترتّب عليه كثير المفسدة وحقيرها. وقد ورد الوعيد في الحالف الكاذب في حقّ الغير مطلقاً في حديث أبي ذرٍّ " ثلاثةٌ لا يكلمهم الله , ولا ينظر إليهم. الحديث، وفيه. والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " أخرجه مسلم. وله شاهدٌ عند أحمد وأبي داود والتّرمذيّ من حديث أبي هريرة بلفظ " ورجل حلف على سلعته بعد العصر كاذباً ".

الحديث السابع

الحديث السابع 367 - عن ثابت بن الضّحّاك الأنصاريّ - رضي الله عنه - , أنه بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة، وأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: من حلف على يمينٍ بملةٍ غير الإسلام، كاذباً متعمداً، فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيءٍ عذّب به يوم القيامة، وليس على رجلٍ نذرٌ فيما لا يملك. وفي رواية: ولعن المؤمن كقتله. (¬1) وفي رواية: ومن ادعى دعوى كاذبةً، ليتكثّر بها، لَم يزده الله إلَّا قلةً. (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1297 , 3938 , 4562 , 5700 , 5754 , 6276) ومسلم (110) من طرق عن أبي قلابة عن ثابت - رضي الله عنه -. قال في " الإصابة " (1/ 507): ثابت بن الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاريّ الأشهليّ. شهد بيعة الرضوان، كما ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي قلابة أنه حدثه بذلك , وذكر ابن مندة , أن البخاريّ ذكر أنه شهد بدراً , وتعقّبه أبو نعيم فقال: إنما ذكر البخاريّ أنه شهد الحديبيّة. قلت: وذكر التّرمذيّ أيضاً أنه شهد بدراً. وقال ابن شاهين: عن ابن أبي داود وابن السّكن من طريق أبي بكر بن أبي الأسود: كان ثابت بن الضّحاك الأشهلي رديفَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق , ودليله إلى حمراء الأسد، وكان ممن بايع تحت الشّجرة. وقال البغويّ، عن أبي موسى هارون بن عبد اللَّه: يكنى أبا زيد، مات في أيام ابن الزبير. وكذا أرّخه الطّبريّ وابن سعد وأبو أحمد الحاكم , وزاد بعضهم سنة 64. وقال عمرو بن عليّ: مات سنة 54. ولعله تبِع الواقديّ. انتهى. (¬2) هذه الرواية تفرّد بها مسلم (110) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة به. قال النووي في " شرحه لمسلم " (2/ 121): قوله (دعوى كاذبة) هذه هي اللغة الفصيحة , يقال: دعوى باطل وباطلة وكاذب وكاذبة. حكاهما صاحب المحكم , والتأنيث أفصح. قال القاضي عياض: هو عامٌ في كل دعوى يتشبّع بها المرء بما لَم يعط. مِن مال يختال في التجمل به من غيره , أو نسب ينتمي إليه , أو علم يتحلى به. وليس هو من حملته , أو دين يظهره. وليس هو من أهله , فقد أعلمَ - صلى الله عليه وسلم - أنه غير مبارك له في دعواه , ولا زاك ما اكتسبه بها , ومثله الحديث الآخر اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب. انتهى

قوله: (بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة) أي: التي كانت بيعة الرضوان تحتها , وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض , وكنا ألفا وأربع مائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة ". وهذا صريحٌ في فضل أصحاب الشّجرة , فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكّة وبالمدينة وبغيرهما. وعند أحمد بإسنادٍ حسنٍ عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: لَمَّا كان بالحديبية , قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا توقدوا ناراً بليلٍ , فلمّا كان بعد ذلك , قال: أوقدوا واصطنعوا , فإنّه لا يدرك قومٌ بعدكم صاعكم ولا مدّكم. وعند مسلمٍ من حديث جابرٍ مرفوعاً: لا يدخل النّارَ من شهد بدراً والحديبية. وروى مسلمٌ أيضاً من حديث أمّ مبشّرٍ , أنّها سمعت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يدخل النّار أحدٌ من أصحاب الشّجرة. وكان السّبب في البيعة تحت الشّجرة. ما ذكر ابن إسحاق قال: حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزمٍ , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أنّ عثمان قد قتل فقال: لئن كانوا قتلوه لأناجزنّهم، فدعا النّاس إلى البيعة

فبايعوه على القتال على أن لا يفرّوا. قال: فبلغهم بعد ذلك أنّ الخبر باطلٌ , ورجع عثمان. وذكر أبو الأسود في " المغازي " عن عروة السّبب في ذلك مطوّلاً قال: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نزل بالحديبية أحبّ أن يبعث إلى قريشٍ رجلاً يخبرهم بأنّه إنّما جاء معتمراً، فدعا عمر ليبعثه , فقال: والله لا آمنهم على نفسي، فدعا عثمان فأرسله , وأمره أن يبشّر المستضعفين من المؤمنين بالفتح قريباً، وأنّ الله سيظهر دينه. فتوجّه عثمان فوجد قريشاً نازلين ببلدحٍ، قد اتّفقوا على أن يمنعوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكّة، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص قال: وبعثتْ قريشٌ بديلَ بن ورقاء وسهيلَ بن عمرو إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " فذكر القصّة المطوّلة في البخاري (¬1). قال: وأَمِن النّاس بعضهم بعضاً، وهم في انتظار الصّلح، إذ رمى رجل من الفريقين رجلاً من الفريق الآخر فكانت معاركة، وتراموا بالنّبل والحجارة. فارتهن كلّ فريقٍ من عندهم، ودعا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى البيعة، فجاءه المسلمون وهو نازل تحت الشّجرة التي كان يستظلّ بها، فبايعوه على أن لا يفرّوا، وألقى الله الرّعب في قلوب الكفّار فأذعنوا إلى المصالحة ". وروى البيهقيّ في " الدّلائل " من مرسل الشّعبيّ. قال: كان أوّل من انتهى إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دعا النّاس إلى البيعة تحت الشّجرة أبو سنان الأزديّ. ¬

_ (¬1) أخرجها البخاري (2731) في كتاب الشروط. باب " الشروط في الجهاد .. "

وروى مسلم في حديث سلمة بن الأكوع قال: ثمّ إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى البيعة فبايعه أوّل النّاس .. فذكر الحديث. وقول جابر: لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشّجرة. فهذا يدلّ على أنّه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزّمان الطّويل يضبط موضعها. ففيه دلالةٌ على أنّه كان يعرفها بعينها , لأنّ الظّاهر أنّها حين مقالته تلك كانت هلكت إمّا بجفافٍ أو بغيره، واستمرّ هو يعرف موضعها بعينه. ثمّ وجدت عند ابن سعد بإسنادٍ صحيحٍ عن نافعٍ , أنّ عمر بلغه , أنّ قوماً يأتون الشّجرة فيصلّون عندها فتوعّدهم، ثمّ أمر بقطعها فقُطِعت. قوله: (من حلف على يمينٍ بملةٍ غير الإسلام) الْمِلة - بكسر الميم وتشديد اللام - الدّين والشّريعة، وهي نكرة في سياق الشّرط فتعمّ جميع الْمِلَلِ من أهل الكتاب كاليهوديّة والنّصرانيّة ومَن لَحِق بهم من المجوسيّة والصّابئة وأهل الأوثان والدّهريّة والمعطّلة وعبدة الشّياطين والملائكة وغيرهم. ولَم يجزم البخاري (¬1) بالحكم. هل يكفُرُ الحالف بذلك أو لا.؟. لكنّ تصرّفه يقتضي أن لا يكفُر بذلك , لأنّه علَّق حديث " من ¬

_ (¬1) بوَّب على الحديث بقوله (باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام. وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلَّا الله. ولَم ينسبه إلى الكفر.

حلف باللات والعزّى فليقل لا إله إلَّا الله " (¬1). ثم قال: ولَم ينسبه إلى الكفر. وتمام الاحتجاج أن يقول: لكونه اقتصر على الأمر بقول لا إله إلَّا الله، ولو كان ذلك يقتضي الكفر لأمره بتمام الشّهادتين، والتّحقيق في المسألة التّفصيل الآتي. قال ابن المنذر: اختلف فيمَن قال: أكفر بالله ونحو ذلك إنْ فعلتُ ثمّ فعل. القول الأول: قال ابن عبّاس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفّارة عليه , ولا يكون كافراً إلَّا إن أضمر ذلك بقلبه. القول الثاني: قال الأوزاعيّ والثّوريّ والحنفيّة وأحمد وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفّارة. قال ابن المنذر: والأوّل أصحّ لقوله " من حلف باللاّت والعزّى فليقل لا إله إلَّا الله " ولَم يذكر كفّارة، زاد غيره: ولذا قال: من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال. فأراد التّغليظ في ذلك حتّى لا يجترئ أحدٌ عليه. ونقل أبو الحسن بن القصّار من المالكيّة عن الحنفيّة أنّهم احتجّوا لإيجاب الكفّارة: بأنّ في اليمين الامتناع من الفعل وتضمّن كلامه بما ذكر تعظيماً للإسلام. ¬

_ (¬1) أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وتعقّب ذلك: بأنّهم قالوا فيمَن قال: وحقّ الإسلام إذا حنث , لا تجب عليه كفّارة فأسقطوا الكفّارة إذا صرّح بتعظيم الإسلام وأثبتوها إذا لَم يصرّح. قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشّيء حقيقةً هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله واللهِ والرّحمنِ، وقد يطلق على التّعليق بالشّيء يمينٌ كقولهم من حلف بالطّلاق فالمراد تعليق الطّلاق , وأُطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحنث والمنع. وإذا تقرّر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثّاني لقوله " كاذباً متعمّداً " والكذب يدخل القضيّة الإخباريّة التي يقع مقتضاها تارة، ولا يقع أخرى. وهذا بخلاف قولنا: والله وما أشهد فليس الإخبار بها عن أمر خارجيّ بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما: أن يتعلق بالمستقبل كقوله: إن فعل كذا فهو يهوديٌّ. الثّاني: يتعلق بالماضي كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهوديٌّ، وقد يتعلق بهذا من لَم ير فيه الكفّارة لكونه لَم يذكر فيه كفّارةً , بل جعل المرتّب على كذبه قوله " فهو كما قال " قال ابن دقيق العيد: ولا يكفر في صورة الماضي إلَّا إن قصد التّعظيم، وفيه خلاف عند الحنفيّة. لكونه يتخيّر معنىً فصار كما لو قال: هو يهوديّ. ومنهم مَن قال: إن كان لا يعلم أنّه يمين لَم يكُفر , وإن كان يعلم

أنّه يكُفر بالحنث به كَفَر , لكونه رضي بالكُفر حين أقدم على الفعل. وقال بعض الشّافعيّة: ظاهر الحديث أنّه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذباً. والتّحقيق التّفصيل: فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر. وإن قصد حقيقة التّعليق فينظر: فإن كان أراد أن يكون متّصفاً بذلك كفر؛ لأنّ إرادة الكفر كفرٌ، وإن أراد البعد عن ذلك لَم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيهاً؟. الثّاني هو المشهور. قال ابن بطّال: كنت أسأل المُهلَّب كثيراً عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبني بأجوبةٍ مختلفة والمعنى واحد , قال قوله " فهو كما قال ": يعني فهو كاذب لا كافر، إلَّا أنّه لَمَّا تعمّد الكذب الذي حلف عليه والتزم الملة التي حلف بها , قال - صلى الله عليه وسلم -: فهو كما قال. منِ التزام تلك الْمِلّة - إن صحّ قصده بكذبه إلى التزامها في تلك الحالة - لا في وقت ثانٍ إذا كان على سبيل الخديعة للمحلوف له. قلت: وحاصله أنّه لا يصير بذلك كافراً , وإنّما يكون كالكافر في حال حلفه بذلك خاصّة. وتقدّم أنّ غيره حمل الحديث على الزّجر والتّغليظ، وأنّ ظاهره غير مراد، وفيه غير ذلك من التّأويلات. قوله: (كاذباً متعمّداً) قال عياض: تفرّد بزيادتها سفيان الثّوريّ , وهي زيادةٌ حسنةٌ يستفاد منها أنّ الحالف المتعمّد إن كان مطمئنّ

القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لَم يكفر، وإن قاله معتقداً لليمين بتلك الملة لكونها حقّاً كفر، وإن قالها لمجرّد التّعظيم لها احتمل. قلت: وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النّسخ لَم يكفر أيضاً. ودعواه أنّ سفيان تفرّد بها. إن أراد بالنّسبة لرواية مُسلم فعسى. فإنّه أخرجه من طريق شعبة عن أيّوب وسفيان عن خالد الحذّاء جميعاً عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك. وبيّن أنّ لفظ " متعمّداً " لسفيان. ولَم ينفرد بها سفيان. فقد أخرجه البخاري من طريق يزيد بن زريع عن خالد، وكذا أخرجها النّسائيّ من طريق محمّد بن أبي عديّ عن خالد. ولهذه الخصلة في حديث ثابت بن الضّحّاك شاهد من حديث بريدة. أخرجه النّسائيّ , وصحَّحه من طريق الحسين عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه: مَن قال: إنّي بريءٌ من الإسلام. فإنْ كان كاذباً فهو كما قال، وإنْ كان صادقاً لَم يعد إلى الإسلام سالِماً. يعني: إذا حلف بذلك، وهو يؤيّد التّفصيل الماضي، ويخصّص بهذا عموم الحديث الماضي. ويحتمل: أن يكون المراد بهذا الكلام التّهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم، وكأنّه قال: فهو مستحقٌّ مثل عذاب من اعتقد ما قال.

ونظيره " من ترك الصّلاة فقد كفر " أي: استوجب عقوبة من كفر. وقال ابن المنذر: قوله " فهو كما قال " ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر , بل المراد أنّه كاذب ككذب المعظّم لتلك الجهة. قوله: (ومن قتل نفسه بشيءٍ عذّب به يوم القيامة) في رواية لهما " في نار جهنّم " , وقوله " بشيءٍ " أعمّ ممّا وقع في رواية مسلم " بحديدةٍ " (¬1). ولمسلمٍ من حديث أبي هريرة: ومن تحسّى سُمّاً. قال ابن دقيق العيد: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخرويّة للجنايات الدّنيويّة، ويؤخذ منه أنّ جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم , لأنّ نفسه ليست ملكاً له مطلقاً بل هي لله تعالى فلا يتصرّف فيها إلَّا بما أذن له فيه. انتهى قيل: وفيه حجّةٌ لمن أوجب المماثلة في القصاص خلافاً لمن خصّصه بالمحدّد. وردّه ابن دقيق العيد: بأنّ أحكام الله لا تقاس بأفعاله، فليس كلّ ما ذكر أنّه يفعله في الآخرة يشرع لعباده في الدّنيا كالتّحريق بالنّار مثلاً وسقي الحَمِيم الذي يقطّع به الأمعاء. ¬

_ (¬1) وأخرجها البخاري أيضاً من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - (1297) في كتاب الجنائز " باب ما جاء في قاتل النفس ". وكذا حديث أبي هريرة الذي بعده , فقد أخرجه البخاري في الطب برقم (5442)

وحاصله أنّه يستدلّ للمماثلة في القصاص بغير هذا الحديث , وقد استدلّوا بقوله تعالى {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها}. قوله: (وليس على رجلٍ نذرٌ فيما لا يملك) وللبخاري بلفظ " وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك " وقد أخرجه التّرمذيّ مقتصراً على هذا القدر من الحديث. وأخرج أبو داود سبب هذا الحديث مقتصراً عليه أيضاً. ولفظه: نذر رجل على عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر ببوانة - يعني موضعاً - وهو بفتح الموحّدة وتخفيف الواو وبنونٍ - فذكر الحديث. وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصينٍ. في قصّة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنّ الذين أسروا المرأة انتهبوها. فنذرت إن سلِمتْ أن تنحرها، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لا نذر في معصية الله , ولا فيما لا يملك ابن آدم. وأخرجه النّسائيّ من حديث عبد الرّحمن بن سمرة , مثله. وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي ثعلبة. الحديث دون القصّة بنحوه. وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ " لا يمين عليك , ولا نذر في معصية الرّبّ , ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ". وأخرجه أبو داود والنّسائيّ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مثله، ورواته لا بأس بهم , لكن اختلف في سنده على عمرٍو.

واختلف فيمن وقع منه النّذر في ذلك. هل تجب فيه كفّارة؟ القول الأول: قال الجمهور: لا. القول الثاني: عن أحمد والثّوريّ وإسحاق وبعض الشّافعيّة والحنفيّة. نعم. ونقل التّرمذيّ اختلاف الصّحابة في ذلك كالقولين. واتّفقوا على تحريم النّذر في المعصية، واختلافهم إنّما هو في وجوب الكفّارة. واحتجّ من أوجبها بحديث عائشة: لا نذر في معصية وكفّارته كفّارة يمين. أخرجه أصحاب السّنن ورواته ثقات، لكنّه معلولٌ؛ فإنّ الزّهريّ رواه عن أبي سلمة , ثمّ بيّن أنّه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. فدلَّسه بإسقاط اثنين، وحسّن الظّنّ بسليمان , وهو عند غيره ضعيف باتّفاقهم. وحكى التّرمذيّ عن البخاريّ , أنّه قال: لا يصحّ. ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النّسائيّ. وضعّفه وشواهد أخرى ذكرتها آنفاً، وأخرج الدّارقطنيّ من حديث عديّ بن حاتم نحوه. وفي الباب أيضاً عموم حديث عقبة بن عامر: كفّارة النّذر كفّارة اليمين. أخرجه مسلم. وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب. وبعضهم على النّذر المطلق.

لكن أخرج التّرمذيّ وابن ماجه حديث عقبة بلفظ: كفّارة النّذر إذا لَم يُسمّ كفّارة يمين. ولفظ ابن ماجه " من نذر نذراً لَم يسمّه " الحديث. وفي الباب حديث ابن عبّاس رفعه: من نذر نذراً لَم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين. أخرجه أبو داود، وفيه " ومن نذر في معصية فكفّارته كفّارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفّارته كفّارة يمين " ورواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفاً. وهو أشبه، وأخرجه الدّارقطنيّ من حديث عائشة. وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه , لكن قالوا: إنّ النّاذر مخيّر بين الوفاء بما التزمه وكفّارة اليمين، وفي حديث عائشة في البخاري: من نَذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه. وهو بمعنى حديث: لا نذر في معصية. ولو ثبتت الزّيادة لكانت مبينة لِما أُجمل فيه. واحتجّ بعض الحنابلة: بأنّه ثبت عن جماعة من الصّحابة , ولا يُحفظ عن صحابيّ خلافه , قال: والقياس يقتضيه، لأنّ النّذر يمين كما وقع في حديث عقبة (¬1) لَمَّا نذرت أخته أن تحجّ ماشيةً لتكفّر عن يمينها. فسمّى النّذر يميناً. ومن حيث النّظر: هو عقده لله تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله ملتزماً بشيء ثمّ بين أنّ النّذر آكدّ من اليمين , ورتّب عليه ¬

_ (¬1) سيأتي في العمدة إن شاء الله برقم (370).

أنّه لو نذر معصية ففعلها لَم تسقط عنه الكفّارة بخلاف الحالف، وهو وجه للحنابلة، واحتجّ له بأنّ الشّارع نهى عن المعصية وأمر بالكفّارة فتعيّنت. فائدة: استدل بحديث " لا نذر في معصية " لصحّة النّذر في المباح , لأنّ فيه نفي النّذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتاً. واحتجّ مَن قال: إنّه يشرع في المباح. بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وأخرجه أحمد والتّرمذيّ من حديث بريدة , أنّ امرأة قالت: يا رسولَ الله إنّي نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال: أوف بنذرك. وزاد في حديث بريدة , أنّ ذلك وقت خروجه في غزوة. فنذرت إنْ ردّه الله تعالى سالماً. قال البيهقيّ: يُشبه أن يكون أذن لها في ذلك لِما فيه من إظهار الفرح بالسّلامة، ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النّذر به. ويدلّ على أنّ النّذر لا ينعقد في المباح حديث ابن عبّاس في البخاري , فإنّه أمر النّاذر بأن يقوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظلّ ويصوم ولا يفطر بأن يتمّ صومه ويتكلم ويستظلّ ويقعد " فأمره بفعل الطّاعة وأسقط عنه المباح. وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أيضاً: إنّما النّذر ما يُبتغى به وجه الله. والجواب عن قصّة التي نذرت الضّرب بالدّفّ: ما أشار إليه

البيهقيّ. ويمكن أن يقال: إنّ من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوباً كالنّوم في القائلة للتّقوّي على قيام الليل وأكلة السّحر للتّقوّي على صيام النّهار. فيمكن أن يقال: إنّ إظهار الفرح بعود النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سالماً معنى مقصود يحصل به الثّواب. قوله: (ولعن المؤمن كقتله) وللبخاري " ومن لعن مؤمناً فهو كقتله ". واللعن الدّعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى. وقد أخرج أبو داود عن أبي الدّرداء بسندٍ جيّد رفعه " إنّ العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السّماء، فتغلق أبواب السّماء دونها، ثمّ تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لَم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها ". وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسندٍ حسن. وآخر عند أبي داود والتّرمذيّ عن ابن عبّاس. ورواته ثقات، ولكنّه أُعلَّ بالإرسال.

باب النذر

باب النذر النّذر في اللّغة: التزام خيرٍ أو شرٍّ. وفي الشّرع: التزام المكلف شيئاً لَم يكن عليه منجّزاً أو معلقاً. وهو قسمان نذر تبرّرٍ ونذر لجاجٍ. ونذر التّبرّر قسمان. القسم الأول: ما يتقرّب به ابتداء كـ (لله) عليّ أن أصوم كذا , ويلتحق به ما إذا قال: لله عليّ أن أصوم كذا شكراً على ما أنعم به عليّ من شفاء مريضي مثلاً. وقد نقل بعضهم الاتّفاق على صحّته واستحبابه , وفي وجهٍ شاذٍّ لبعض الشّافعيّة أنّه لا ينعقد. القسم الثاني: ما يتقرّب به معلقاً بشيءٍ ينتفع به إذا حصل له كـ: إن قدم غائبي , أو كفاني شرّ عدوّي. فعليّ صوم كذا مثلاً. والمُعلَّق لازمٌ اتّفاقاً , وكذا المنجّز في الرّاجح. ونذر اللجاج قسمان. القسم الأول: ما يعلّقه على فعل حرامٍ , أو ترك واجبٍ. فلا ينعقد في الرّاجح , إلَّا إن كان فرض كفايةٍ , أو كان في فعله مشقّةٌ فيلزمه , ويلتحق به ما يعلقه على فعل مكروهٍ. القسم الثاني: ما يعلّقه على فعلٍ خلاف الأولى أو مباحٍ أو ترك مستحبٍّ. وفيه ثلاثة أقوالٍ للعلماء: الوفاء أو كفّارة يمين أو التّخيير بينهما. واختلف التّرجيح عند الشّافعيّة , وكذا عند الحنابلة , وجزم الحنفيّة بكفّارة اليمين في الجميع , والمالكيّة بأنّه لا ينعقد أصلاً.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 368 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله إني كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلةً. وفي روايةٍ: يوماً في المسجد الحرام، قال: فأوف بنذرك. (¬1) تقدّم شرحه مستوفى في الاعتكاف برقم (214). الحديث التاسع 369 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنه نهى عن النذر، وقال: إنّه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يستخرج به من البخيل. (¬2) قوله: (نهى عن النذر) في لفظ لمسلمٍ من هذا الوجه عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النّذر. وجاء بصيغة النّهي الصّريحة في رواية العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: لا تنذروا. وللبخاري من طريق فليح بن سليمان حدّثنا سعيد بن الحارث , أنّه سمع ابن عمر - رضي الله عنه - يقول: أَوَلم يُنهوا عن النّذر؟ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ النذر لا يُقدِّم شيئاً , ولا يُؤخِّر. الحديث. ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه رقم (214). (¬2) أخرجه البخاري (6234 , 6315) ومسلم (1639) من طرق عن منصور عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وللبخاري (6314) من طريق سعيد بن الحارث , ومسلم (1639) من طريق عبد الله بن دينار كلاهما عن ابن عمر نحوه.

كذا فيه، وكأنّه اختصر السّؤال , فاقتصر على الجواب. وقد بيّنه الحاكم في " المستدرك " من طريق المعافى بن سليمان، والإسماعيليّ من طريق أبي عامر العقديّ ومن طريق أبي داود. واللفظ له. قالا: حدّثنا فليح عن سعيد بن الحارث , قال: كنت عند ابن عمر فأتاه مسعود بن عمرو - أحد بني عمرو بن كعب - فقال: يا أبا عبد الرّحمن , إنّ ابني كان مع عمر بن عبيد الله بن معمر بأرض فارس , فوقع فيها وباءٌ وطاعونٌ شديدٌ , فجعلتُ على نفسي. لئن سلَّم الله ابني ليمشين إلى بيت الله تعالى، فقدم علينا وهو مريض , ثمّ مات. فما تقول؟ فقال ابن عمر: أَوَلَم تُنهوا عن النّذر؟ إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث المرفوع. وزاد: أوف بنذرك. وقال أبو عامر: فقلت: يا أبا عبد الرّحمن. إنّما نذرتُ أن يمشي ابني. فقال: أوف بنذرك , قال سعيد بن الحارث فقلت له: أتعرف سعيد بن المسيّب؟ قال: نعم. قلت له: اذهب إليه ثمّ أخبرني ما قال لك، قال: فأخبرني أنّه قال له: امش عن ابنك , قلت: يا أبا محمّد , وترى ذلك مقبولاً؟ قال: نعم، أرأيت لو كان على ابنك دين لا قضاء له فقضيته. أكان ذلك مقبولاً؟ قال: نعم. قال: فهذا مثل هذا. انتهى. وأبو عبد الرّحمن كنية عبد الله بن عمر , وأبو محمّد كنية سعيد بن المسيّب، وأخرجه ابن حبّان في " النّوع السّادس والسّتّين من القسم الثّالث " من طريق زيد بن أبي أنيسة متابعاً لفليح بن سليمان عن سعيد

بن الحارث. فذكر نحوه بتمامه , ولكن لَم يُسمّ الرّجل. وهذا الفرع غريبٌ , وهو أن ينذر عن غيره فيلزم الغير الوفاء بذلك , ثمّ إذا تعذّر لزم النّاذر. وقد كنت أستشكل ذلك، ثمّ ظهر لي أنّ الابنَ أقرّ بذلك والتزم به، ثمّ لَمَّا مات أمره ابن عمر وسعيد أن يفعل ذلك عن ابنه كما يفعل سائر القرب عنه كالصّوم والحجّ والصّدقة. ويحتمل: أن يكون مختصّاً عندهما بما يقع من الوالد في حقّ ولده. فيعقد لوجوب برّ الوالدين على الولد بخلاف الأجنبيّ. قوله: (إنه لا يأتي بخيرٍ) وللبخاري من رواية سعيد بن الحارث " لا يقدّم شيئاً ولا يؤخّر " , ولهما من رواية عبد الله بن مرة عن ابن عمر " لا يردّ شيئاً " وهي أعمّ، ونحوها في حديث أبي هريرة في الصحيحين " لا يأتي ابنَ آدم النّذرُ بشيءٍ لَم يكن قدّر له ". وفي رواية العلاء المشار إليها " فإنّ النّذر لا يغني من القدر شيئاً " , وفي لفظ عنه " لا يردّ القدر " , وفي حديث أبي هريرة عنده " لا يقرّب من ابن آدم شيئاً لَم يكن الله قدّره له ". ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة، وفيها إشارة إلى تعليل النّهي عن النّذر. وقد اختلف العلماء في هذا النّهي: فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوّله. قال ابن الأثير في النّهاية: تكرّر النّهي عن النّذر في الحديث، وهو

تأكيد لأمره وتحذير عن التّهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزّجر عنه حتّى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنّهي يصير معصيةً فلا يلزم، وإنّما وجه الحديث أنّه قد أعلمهم أنّ ذلك أمر لا يجرّ لهم في العاجل نفعاً ولا يصرف عنهم ضرّاً ولا يغيّر قضاء , فقال: لا تنذروا على أنّكم تدركون بالنّذر شيئاً لَم يقدّره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدّره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإنّ الذي نذرتموه لازمٌ لكم. انتهى كلامه. ونسَبَه بعض شرّاح المصابيح للخطّابيّ , وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير , فقال: كان أبو عبيد يقول: وجه النّهي عن النّذر والتّشديد فيه ليس هو أن يكون مأثماً، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفّى به ولا حَمِد فاعله، ولكنّ وجهه عندي تعظيم شأن النّذر وتغليظ أمره , لئلا يتهاون به فيفرّط في الوفاء به ويترك القيام به. ثمّ استدل بما ورد من الحثّ على الوفاء به في الكتاب والسّنّة. وإلى ذلك أشار المازريّ بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أنّ الغرض بهذا الحديث التّحفّظ في النّذر والحضّ على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي: أن يكون وجه الحديث أنّ النّاذر يأتي بالقربة مستثقلاً لها لَمَّا صارت عليه ضربة لازبٍ، وكلّ ملزوم فإنّه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار. ويحتمل: أن يكون سببه أنّ النّاذر لَمَّا لَم ينذر القربة إلَّا بشرط أن

يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نيّة المتقرّب. قال: ويشير إلى هذا التّأويل قوله " إنّه لا يأتي بخيرٍ " وقوله " إنّه لا يقرّب من ابن آدم شيئاً لَم يكن الله قدّره له " وهذا كالنّصّ على هذا التّعليل. انتهى. والاحتمال الأوّل: يعمّ أنواع النّذر. والثّاني يخصّ نوع المجازات. وزاد القاضي عياض: ويقال: إنّ الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنّه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه، والنّهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظنّ بعض الجهلة. قال: ومحصّل مذهب مالكٍ أنّه مباح. إلَّا إذا كان مؤبّداً لتكرّره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتّكلّف من غير طيب نفس وغير خالص النّيّة فحينئذٍ يكره. قال: وهذا أحد محتملات قوله " لا يأتي بخيرٍ " أي: إنّ عقباه لا تحمد , وقد يتعذّر الوفاء به، وقد يكون معناه لا يكون سبباً لخيرٍ لَم يقدّر كما في الحديث. وبهذا الاحتمال الأخير صدّر ابن دقيق العيد كلامه. فقال: يحتمل أن تكون الباء للسّببيّة كأنّه قال: لا يأتي بسبب خير في نفس النّاذر وطبعه في طلب القربة والطّاعة من غير عوضٍ يحصل له، وإن كان يترتّب عليه خيرٌ، وهو فعل الطّاعة التي نذرها، لكنّ سبب ذلك الخير حصول غرضه. وقال النّوويّ: معنى قوله " لا يأتي بخيرٍ " أنّه لا يردّ شيئاً من

القدر كما بيّنته الرّوايات الأخرى. تنبيهٌ: قوله " لا يأتي " كذا للأكثر، ووقع في بعض النّسخ " لا يأت " بغير ياء وليس بلحنٍ؛ لأنّه قد سمع نظيره من كلام العرب. وقال الخطّابيّ في الأعلام: هذا باب من العلم غريبٌ، وهو أن ينهى عن فعل شيء حتّى إذا فعل كان واجباً، وقد ذكر أكثر الشّافعيّة - ونقله أبو عليّ السّنجيّ عن نصّ الشّافعيّ - أنّ النّذر مكروه لثبوت النّهي عنه , وكذا نقل عن المالكيّة , وجزم به عنهم ابن دقيق العيد. وأشار ابن العربيّ إلى الخلاف عنهم. والجزم عن الشّافعيّة بالكراهة. قال: واحتجّوا بأنّه ليس طاعة محضة , لأنّه لَم يقصد به خالص القربة وإنّما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضرراً بما التزمه. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنّها كراهة تحريمٍ , وتوقّف بعضهم في صحّتها. وقال التّرمذيّ بعد أن ترجم كراهة النّذر، وأورد حديث أبي هريرة. ثمّ قال: وفي الباب عن ابن عمر. العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم كرهوا النّذر. وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النّذر في الطّاعة وفي المعصية، فإن نذر الرّجل في الطّاعة فوفّى به فله فيه أجرٌ، ويكره له النّذر. قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكال على القواعد فإنّها تقتضي أنّ الوسيلة إلى الطّاعة طاعةٌ كما أنّ الوسيلة إلى المعصية معصيةٌ، والنّذر

وسيلة إلى التزام القربة فيلزم أن يكون قربة إلَّا أنّ الحديث دلَّ على الكراهة. ثمّ أشار إلى التّفرقة بين نذر المجازاة فحمل النّهي عليه , وبين نذر الابتداء فهو قربة محضةٌ. وقال ابن أبي الدّم في شرح الوسيط: القياس استحبابه، والمختار أنّه خلاف الأولى وليس بمكروهٍ. كذا قال، ونوزع بأنّ خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهيٍ , والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النّهي عن النّذر بخصوصه فيكون مكروهاً. وإنّي لأتعجّب ممّن انطلق لسانه بأنّه ليس بمكروهٍ مع ثبوت النهي الصّريح عنه , فأقلّ درجاته أن يكون مكروهاً كراهة تنزيه. وممّن بنى على استحبابه النّوويّ في شرح المهذّب فقال: إنّ الأصحّ أنّ التّلفّظ بالنّذر في الصّلاة لا يبطلها , لأنّها مناجاة لله فأشبه الدّعاء. انتهى. وإذا ثبت النّهي عن الشّيء مطلقاً فترك فعله داخل الصّلاة أولى فكيف يكون مستحبّاً؟ وأحسن ما يُحمل عليه كلام هؤلاء نذر التّبرّر المحض بأن يقول: لله عليّ أن أفعل كذا أو لأفعلنه على المجازاة. وقد حمل بعضهم النّهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه. حكاه شيخنا في شرح التّرمذيّ. ولَمَّا نقل ابن الرّفعة عن أكثر الشّافعيّة كراهة النّذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزاليّ أنّه مستحبّ؛ لأنّ الله أثنى على من وفّى به

, ولأنّه وسيلة إلى القربة فيكون قربة. قال: يمكن أن يتوسّط فيقال: الذي دلَّ الخبر على كراهته نذر المجازاة، وأمّا نذر التّبرّر فهو قربة محضة؛ لأنّ للنّاذر فيه غرضاً صحيحاً، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التّطوّع. انتهى. وجزم القرطبيّ في " المفهم " بحمل ما ورد في الأحاديث من النّهي على نذر المجازاة. فقال: هذا النّهي محلّه أن يقول مثلاً: إن شفى الله مريضي فعليّ صدقة كذا، ووجه الكراهة أنّه لَمَّا وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنّه لَم يتمحّض له نيّة التّقرّب إلى الله تعالى لِما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعارضة، ويوضّحه أنّه لو لَم يشف مريضه لَم يتصدّق بما علَّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل فإنّه لا يخرج من ماله شيئاً إلَّا بعوضٍ عاجلٍ يزيد على ما أخرج غالباً. وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله " إنّما يستخرج به من البخيل ما لَم يكن البخيل يخرجه ". (¬1) قال: وقد ينضمّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أنّ النّذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أنّ الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النّذر، وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضاً " فإنّ النّذر لا يردّ من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6316) ومسلم (1641) من طريق الأعرج عن أبي هريرة رفعه: إن النذر لا يقرِّب من ابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره له، ولكنَّ النذر يوافقُ القدرَ، فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أنْ يخرج. واللفظ لمسلم. وقد ذكر في الشرح بعض ألفاظه. وسيأتي أيضاً.

قدر الله شيئاً " والحالة الأولى تقارب الكفر والثّانية خطأ صريح. انتهى قلت: بل تقرب من الكفر أيضاً. ثمّ نقل القرطبيّ عن العلماء حمل النّهي الوارد في الخبر على الكراهة , وقال: الذي يظهر لي أنّه على التّحريم في حقّ من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرّماً، والكراهة في حقّ من لَم يعتقد ذلك. انتهى. وهو تفصيلٌ حسنٌ. ويؤيّده قصّة ابن عمر راوي الحديث في النّهي عن النّذر فإنّها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطّبريّ بسندٍ صحيحٍ عن قتادة في قوله تعالى {يوفون بالنّذر} قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والعمرة وما افترض عليهم. فسمّاهم الله أبراراً. وهذا صريح في أنّ الثّناء وقع في غير نذر المجازاة. وكأنّ البخاريّ رمز في التّرجمة (¬1) إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك , وقد يشعر التّعبير بالبخيل أنّ المنهيّ عنه من النّذر ما فيه مال فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطّاعة. كما في الحديث المشهور: البخيل من ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليّ. أخرجه النّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان، أشار إلى ذلك شيخنا في ¬

_ (¬1) حيث قال (باب الوفاء بالنذر , وقول الله " يوفون بالنذر ")

شرح التّرمذيّ. ثمّ نقل القرطبيّ الاتّفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه. ولَم يفرّق بين المُعلّق وغيره. انتهى والاتّفاق الذي ذكره مُسلَّم، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنّذر المعلق نظرٌ. قوله: (وإنّما يستخرج به من البخيل) وللبخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: فيستخرج الله به من البخيل فيؤتيني عليه ما لَم يكن يؤتيني عليه من قبل. كذا للأكثر. أي: يعطيني. ووقع في رواية الكشميهنيّ (¬1) " يؤتني " بالجزم. ووجّهت بأنّها بدلٌ من قوله " يكن " فجزمت بلم، ووقع في رواية مالك " يؤتي " في الموضعين، وفي رواية ابن ماجه " فييسّر عليه ما لَم يكن ييسّر عليه من قبل ذلك ". وفي رواية مسلم " فيخرج بذلك من البخيل ما لَم يكن البخيل يريد أن يخرج ". وهذه أوضح الرّوايات. قال البيضاويّ: عادة النّاس تعليق النّذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرّةٍ، فنهي عنه لأنّه فعل البخلاء؛ إذ السّخيّ إذا أراد أن يتقرّب بادر إليه , والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلَّا في مقابلة عوض يستوفيه أوّلاً فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني ¬

_ (¬1) هو أبو الهيثم محمد بن مكي , سبق ترجمته (1/ 32)

من القدر شيئاً فلا يسوق إليه خيراً، لَم يقدّر له ولا يردّ عنه شرّاً قضي عليه، لكنّ النّذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لَم يكن ليخرجه. قال ابن العربيّ: فيه حجّة على وجوب الوفاء بما التزمه النّاذر، لأنّ الحديث نصَّ على ذلك بقوله " يستخرج به " فإنّه لو لَم يلزمه إخراجه لَما تمّ المراد من وصفه بالبخل من صدور النّذر عنه؛ إذ لو كان مخيّراً في الوفاء لاستمرّ لبخله على عدم الإخراج. وفي الحديث الرّدّ على القدريّة. وأمّا ما أخرجه التّرمذيّ من حديث أنس: إنّ الصّدقة تدفع ميتة السّوء. فظاهره يعارض قوله " إنّ النّذر لا يردّ القدر ". ويُجمع بينهما: بأنّ الصّدقة تكون سبباً لدفع ميتة السّوء، والأسباب مقدّرة كالمسبّبات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الرّقى. هل تردّ من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله. أخرجه أبو داود والحاكم. ونحوه قول عمر: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. ومثل ذلك مشروعيّة الطّبّ والتّداوي. وقال ابن العربيّ: النّذر شبيه بالدّعاء فإنّه لا يردّ القدر , ولكنّه من القدر أيضاً، ومع ذلك فقد نهي عن النّذر وندب إلى الدّعاء، والسّبب فيه أنّ الدّعاء عبادةٌ عاجلةٌ، ويظهر به التّوجّه إلى الله والتّضرّع له والخضوع، وهذا بخلاف النّذر فإنّ فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضّرورة. والله أعلم.

وفي الحديث أنّ كلّ شيء يبتدئه المُكلّف من وجوه البرّ أفضل ممّا يلتزمه بالنّذر. قاله الماورديّ. وفيه الحثّ على الإخلاص في عمل الخير وذمّ البخل، وأنّ من اتّبع المأمورات واجتنب المنهيّات لا يعدّ بخيلاً. تنْبيهٌ: قال ابن المنير: مناسبة أحاديث الباب لترجمة الوفاء بالنّذر. قوله " يستخرج به من البخيل ". وإنّما يخرج البخيل ما تعيّن عليه إذ لو أخرج ما يتبرّع به لكان جواداً. وقال الكرمانيّ: يؤخذ معنى التّرجمة من لفظ " يستخرج ". قلت: ويحتمل أن يكون البخاريّ أشار إلى تخصيص النّذر المنهيّ عنه بنذر المعاوضة واللجاج بدليل الآية، فإنّ الثّناء الذي تضمّنته محمول على نذر القربة، فيُجمع بين الآية والحديث بتخصيص كلٍّ منهما بصورةٍ من صور النّذر. والله أعلم. قوله: (من البخيل) كذا في أكثر الرّوايات، ووقع في رواية مسلم في حديث ابن عمر " من الشّحيح ". وكذا للنّسائيّ. وفي رواية ابن ماجه " من اللئيم ". ومدار الجميع على منصور بن المعتمر عن عبد الله بن مرّة. فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرّواة عن منصور، والمعاني متقاربة؛ لأنّ الشّحّ أخصّ واللّؤمَ أعمّ. قال الرّاغب: البخل إمساك ما يقتضى عمّن يستحقّ، والشّحّ بخلٌ مع حرصٍ، واللّؤم فعل ما يلام عليه.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 370 - عن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - , قال: نذرتْ أختي أن تَمشيَ إلى بيت الله الحرام حافيةً، فأمرتْنِي أن أستفْتِي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفْتيْتُه، فقال: لتمش ولتركب. (¬1) قوله: (عن عقبة بن عامر) هو الجهنيّ. كذا وقع عند أحمد ومسلم وغيرهما في هذا الحديث. (¬2) قوله: (نذرت أختي) قال المنذريّ وابن القسطلانيّ والقطب الحلبيّ ومن تبعهم: هي أمّ حبّان بنت عامر، وهي بكسر المهملة وتشديد الموحّدة، ونسبوا ذلك لابن ماكولا فوهِموا. فإنّ ابن ماكولا إنّما نقله عن ابن سعد، وابن سعد إنّما ذكر في طبقات النّساء أمّ حبّان بنت عامر بن نابي - بنونٍ وموحّدة - ابن زيد بن حرام - بمهملتين - الأنصاريّة. قال: وهي أخت عقبة بن عامر بن نابي، شهد بدراً، وهي زوج حرام بن محيّصة، وكان ذكرَ قبل عقبة بن عامر بن نابي الأنصاريّ , وأنّه شهد بدراً , ولا رواية له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1767) ومسلم (1644) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة - رضي الله عنه -. وليس عند البخاري (حافية). (¬2) تقدّمت ترجمته - رضي الله عنه - في حديث رقم (310)

وهذا كلّه مغاير للجهنيّ. فإنّ له رواية كثيرة. ولَم يشهد بدراً , وليس أنصاريّاً، فعلى هذا لَم يُعرف اسم أخت عقبة بن عامر الجهنيّ، وقد كنت تبعت في المقدّمة من ذكرتُ ثمّ رجعتُ الآن عن ذلك. وبالله التّوفيق. قوله: (أن تَمشي إلى بيت الله) ولأحمد وأصحاب السّنن من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر الجهنيّ , أنّ أخته نذرت أنْ تمشي حافية غير مختمرة. وزاد الطّبريّ من طريق إسحاق بن سالم عن عقبة بن عامر " وهي امرأة ثقيلة والمشي يشقّ عليها ". ولأبي داود من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس , أنّ عقبة بن عامر سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: إنّ أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، وشكا إليه ضعفها. قوله: (فقال - صلى الله عليه وسلم -: لتمش ولتركب) في رواية عبد الله بن مالك " مرها فلتختمر , ولتركب , ولتصم ثلاثة أيّام " وروى مسلم عقب هذا الحديث حديثَ عبد الرّحمن بن شماسة - وهو بكسر المعجمة وتخفيف الميم بعدها مهملة - عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رفعه: كفّارة النّذر كفّارة اليمين. ولعله مختصر من هذا الحديث، فإنّ الأمر بصيام ثلاثة أيّام هو أحد أوجه كفّارة اليمين. لكن وقع عند البيهقي في رواية عكرمة المذكورة. قال: فلتركب ولتهد بدنة. وأصله عند أبي داود بلفظ " ولتهد

هدياً ". ووهِم من نسب إليه أنّه أخرج هذا الحديث بلفظ " ولتهد بدنةً " , وأورده من طريق أخرى عن عكرمة بغير ذِكر الهدي. وأخرجه الحاكم من حديث ابن عبّاس بلفظ: جاء رجلٌ , فقال: إنّ أختي حلفت أن تمشي إلى البيت، وإنّه يشقّ عليها المشي، فقال: مُرها فلتركب إذا لَم تستطع أن تمشي , فما أغنى الله أن يشقّ على أختك. ومن طريق كريب عن ابن عبّاس , جاء رجلٌ فقال: يا رسولَ الله. إنّ أختي نذرت أن تحجّ ماشية، فقال: إنّ الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، لتحجّ راكبةً ثمّ لتكفّر يمينها. وأخرجه أصحاب السّنن من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تحجّ ماشية غير مختمرة. فذكرتْ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مر أختك فلتختمر , ولتركب , ولتصم ثلاثة أيّام. ونقل التّرمذيّ عن البخاريّ: أنّه لا يصحّ فيه الهدي. وقد أخرج الطّبرانيّ من طريق أبي تميم الجيشانيّ عن عقبة بن عامر في هذه القصّة " نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافيةً حاسرةً. وفيه: لتركب ولتلبس ولتصم " , وللطّحاويّ من طريق أبي عبد الرّحمن الحبليّ عن عقبة بن عامر نحوه. وأخرج البيهقيّ بسندٍ ضعيف عن أبي هريرة: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في جوف الليل إذ بصر بخيَالٍ نفرتْ منه الإبل، فإذا امرأة

عريانة نافضةٌ شعرها، فقالت: نذرتُ أن أحجّ ماشيةً عريانة نافضةً شعري، فقال: مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دماً. وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه: إذا نذر أحدكم أن يحجّ ماشياً فليهد هدياً وليركب. وفي سنده انقطاع. وفي الحديث صحّة النّذر بإتيان البيت الحرام. وعن أبي حنيفة إذا لَم ينو حجّاً ولا عمرةً لا ينعقد. ثمّ إن نَذَرَه راكباً لزمه , فلو مشى لزمه دم لترفّهه بتوفّر مؤنة الرّكوب، وإن نَذَرَه ماشياً لزمه من حيث أحرم إلى أن تنتهي العمرة أو الحجّ، وهو قول صاحبي أبي حنيفة. فإن ركب بعذرٍ أجزأه , ولزمه دم في أحد القولين عن الشّافعيّ. واختلف. هل يلزمه بدنةٌ أو شاةٌ؟. وإنْ ركب بلا عذر لزمه الدّم، وعن المالكيّة في العاجز يرجع من قابِل فيمشي ما ركب إلَّا إنْ عجَزَ مطلقاً فيلزمه الهدي، وليس في طرق حديث عقبة ما يقتضي الرّجوع، فهو حجّة للشّافعيّ ومن تبِعه. وعن عبد الله بن الزّبير: لا يلزمه شيء مطلقاً. قال القرطبيّ: زيادة الأمر بالهدي رواتها ثقات ولا تردّ، وليس سكوت من سكت عنها بحجّةٍ على من حفظها وذكرها. قال: والتّمسّك بالحديث في عدم إيجاب الرّجوع ظاهر، ولكنّ عمدة مالك عمل أهل المدينة.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 371 - عن عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنه - , أنه قال: استفتَى سعدُ بنُ عبادة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في نذرٍ كان على أُمّه، توفّيت قبل أن تقضيَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فاقضه عنها. (¬1) قوله: (عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنّه قال: استفتى سعدُ بنُ عبادة) كذا رواه مالك , وتابعه الليث وبكر بن وائل وغيرهما عن الزّهريّ عن عبيد الله بن عبد الله. وقال سليمان بن كثير عن الزّهريّ عن عبيد الله: عن ابن عبّاس عن سعد بن عبادة , أنّه استفتى. جعله من مسند سعد. أخرج جميع ذلك النّسائيّ. وأخرجه أيضاً من رواية الأوزاعيّ , ومن رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن الزّهريّ على الوجهين. وابن عبّاس لَم يدرك القصّة كما سيأتي، فتعيّن ترجيح رواية من زاد فيه " عن سعد بن عبادة " ويكون ابن عبّاس قد أخذه عنه. ويحتمل: أن يكون أخذه عن غيره , ويكون قول مَن قال " عن سعد بن عبادة " لَم يقصد به الرّواية، وإنّما أراد عن قصّة سعدِ بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2610) عن عبد الله بن يوسف , ومسلم (1638) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي عتبة عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (6320, 6558) ومسلم (1738) من طرق أخرى عن الزهري به.

عبادة فتتّحد الرّوايتان. قوله: (استفتى سعد بن عبادة) أي: ابن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة يكنى أبا ثابت، وهو والد قيس بن سعد أحد مشاهير الصحابة. وكان سعدٌ كبيرَ الخزرج , وأحد المشهورين بالجود، ومات بحوران من أرض الشام سنة أربع عشرة , أو خمس عشرة في خلافة عمر. قوله: (في نذرٍ كان على أمّه) هي عمرة بنت مسعود. وقيل: سعد بن قيس بن عمرو. أنصاريّة خزرجيّة. ذكر ابن سعد , أنّها أسلمت وبايعت وماتت سنة خمس والنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غزوة دومة الجندل وابنها سعد بن عبادة معه، قال: فلمّا رجعوا جاء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى على قبرها. وعلى هذا فهذا الحديث مرسل صحابيّ , لأنّ ابن عبّاس كان حينئذٍ مع أبويه بمكّة؛ والذي يظهر أنّه سمعه من سعد بن عبادة. قوله: (توفّيت قبل أن تقضيه) وللبخاري " إنّ أمّي ماتت وعليها نذر " , وفي رواية قتيبة عن مالك " لَم تقضه " (¬1). وفي رواية سليمان بن كثير المذكورة " أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ ¬

_ (¬1) لَم أجد هذه الرواية عن قتيبة عن مالك , وإنما أخرجها أبو داود (3307) عن القعنبي , والبغوي في " شرح السنة " (10/ 38) من طريق أبي مصعب كلاهما عن مالك. بهذا اللفظ. ولعلّ الشارح أراد القعنبي. أمَّا رواية قتيبة فقد أخرجها الشيخان عنه عن الليث عن الزهري. وهو لفظ رواية العمدة.

قال: أعتق عن أمّك " فأفادت هذه الرّواية بيان ما هو النّذر المذكور، وهو أنّها نذرت أن تعتق رقبة فماتت قبل أن تفعل. ويحتمل: أن تكون نذرت نذراً مطلقاً غير معيّن. فيكون في الحديث حجّة لمن أفتى في النّذر المطلق بكفّارة يمين، والعتق أعلى كفّارات الأيمان، فلذلك أمره أن يعتق عنها. وحكى ابن عبد البرّ عن بعضهم: أنّ النّذر الذي كان على والدة سعد صيام، واستند إلى حديث ابن عبّاس في البخاري , أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله إنّ أمّي ماتت وعليها صوم. الحديث، ثمّ ردّه بأنّ في بعض الرّوايات عن ابن عبّاس: جاءت امرأة فقالت: إنّ أختي ماتت. قلت: والحقّ أنّها قصّة أخرى، وقد أوضحت ذلك في كتاب الصّيام (¬1). تكملة: أخرج البخاري من وجه آخر عن ابن عبّاس , أنَّ سعد بن عبادة - رضي الله عنه - توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إنّ أمّي توفّيت وأنا غائب عنها. فهل ينفعها شيء إن تصدّقت به عنها؟. قال: نعم. الحديث. ولا تنافي بينه وبين قوله " إنّ أمّي ماتت وعليها نذر ". لاحتمال أن يكون سأل عن النّذر وعن الصّدقة عنها. ¬

_ (¬1) تقدّم الكلام على حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه - في كتاب الصيام في العمدة برقم (196) وسيأتي كلام الشارح عن تعيين النذر بعد قليل. بأبسط من ذلك.

وبيّن النّسائيّ من وجه آخر الصّدقة المذكورة. فأخرج من طريق سعيد بن المسيّب عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسولَ الله إنّ أمّي ماتت، أفأتصدّق عنها؟ قال: نعم. قلت: فأيّ الصّدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. وأخرجه الدّارقطنيّ في " غرائب مالك " من طريق حمّاد بن خالد عنه بإسناد الحديث , لكن بلفظ , إنّ سعداً قال: يا رسولَ الله. أتنتفع أمّي إن تصدّقت عنها. وقد ماتت؟ قال: نعم. قال: فما تأمرني؟ قال: اسق الماء. والمحفوظ عن مالك ما وقع في هذا الباب. والله أعلم. قوله: (فاقضه عنها) زاد البخاري " فأفتاه أن يقضيه عنها , فكانت سُنّة بعدُ " أي: صار قضاء الوارث ما على المورث طريقةً شرعيّةً أعمّ من أن يكون وجوباً أو ندباً. ولَم أر هذه الزّيادة في غير رواية شعيب عن الزّهريّ. فقد أخرج الحديث الشّيخان من رواية مالك والليث , وأخرجه مسلم أيضاً من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل، والنّسائيّ من رواية الأوزاعيّ، والإسماعيليّ من رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلّهم عن الزّهريّ بدونها، وأظنّها من كلام الزّهريّ. ويحتمل: من شيخه. وفيها تعقّب على ما نُقل عن مالك: لا يحجّ أحدٌ عن أحدٍ.

واحتجّ: بأنّه لَم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه حجّ عن أحد، ولا أمر به، ولا أذن فيه. فيقال لمن قلَّد: قد بلغ ذلك غيرَه؛ وهذا الزّهريّ معدود في فقهاء أهل المدينة، وكان شيخه في هذا الحديث. وقد استدل بهذه الزّيادة ابن حزم للظّاهريّة ومن وافقهم في أنّ الوارث يلزمه قضاء النّذر عن مورثه في جميع الحالات. قال: وقد وقع نظير ذلك في حديث الزّهريّ عن سهيل في اللعان لَمَّا فارقها الرّجل قبل أن يأمره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بفراقها , قال: فكانت سنّة. واختلف في تعيين نذر أمّ سعد. فقيل: كان صوماً. لِما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس , جاء رجل فقال: يا رسولَ الله إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر. أفأقضيه عنها؟ قال: نعم الحديث. وتعقّب: بأنّه لَم يتعيّن أنّ الرّجل المذكور هو سعد بن عبادة. وقيل: كان عتقاً. قاله ابن عبد البرّ. واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمّد , أنّ سعد بن عبادة قال: يا رسولَ الله إنّ أمّي هلكت. فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم. وتعقّب: بأنّه مع إرساله. ليس فيه التّصريح بأنّها كانت نذرت ذلك. وقيل: كان نذرها صدقة، ودليله في " الموطّأ " وغيره من وجه آخر عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة عن

أبيه عن جده , أنّ سعداً خرج مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه وحضرت أمَّه الوفاةُ في المدينة , فقيل لأُمِّه: أوصي، قالت: المال مال سعدٍ؛ فتوفّيت قبل أن يقدم , فقال: يا رسولَ الله. هل ينفعها أن أتصدّق عنها؟ قال: نعم. وعند أبي داود من وجه آخر نحوه. وزاد: فأيّ الصّدقة أفضل؟ قال: الماء. الحديث. وليس في شيء من ذلك التّصريح بأنّها نذرت ذلك. قال عياض: والذي يظهر أنّه كان نذرها في المال أو مبهماً. قلت: بل ظاهر حديث الباب أنّه كان معيّناً عند سعد، والله أعلم. وفي الحديث قضاء الحقوق الواجبة عن الميّت. وقد ذهب الجمهور إلى أنّ من مات، وعليه نذرٌ ماليٌّ أنّه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لَم يوص , إلَّا إن وقع النّذر في مرض الموت فيكون من الثّلث. وشرط المالكيّة والحنفيّة. أن يوصي بذلك مطلقاً. واستدل للجمهور بقصّة أمّ سعد هذه، وقول الزّهريّ: إنّها صارت سنّةً بعدُ، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرّع به. وفيه استفتاء الأعلم، وفيه فضل برّ الوالدين بعد الوفاة والتّوصّل إلى براءة ما في ذمّتهم. وقد اختلف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان. هل يكون كالأمر بعد الحظر أو لا؟.

فرجّح صاحب " المحصول " أنّه مثله، والرّاجح عند غيره أنّه للإباحة كما رجّح جماعةٌ في الأمر بعد الحظر أنّه للاستحباب. وفيه أنّ ترك الوصيّة جائز , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يذمّ أمّ سعد على ترك الوصيّة , قاله ابن المنذر. وتعقّب: بأنّ الإنكار عليها قد تعذّر لموتها وسقط عنها التّكليف. وأجيب: بأنّ فائدة إنكار ذلك لو كان منكراً ليتّعظ غيرها ممّن سمعه، فلمّا أقرّ على ذلك دلَّ على الجواز. وفيه ما كان الصّحابة عليه من استشارة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدّين. وفيه الجهاد في حياة الأمّ وهو محمول على أنّه استأذنها. وفيه السّؤال عن التّحمّل والمسارعة إلى عمل البرّ , والمبادرة إلى برّ الوالدين. تكميل: قال البخاري: وأمر ابن عمر امرأةً جعلت أمُّها على نفسها صلاة بقباءٍ - يعني فماتت - فقال: صلّي عنها. (¬1) وأخرج مالك عن عبد الله بن أبي بكر. أي: ابن محمّد بن عمرو بن حزم عن عمّته , أنّها حدّثته عن جدّته , أنّها كانت جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباءٍ فماتت ولَم تقضه , فأفتى عبد الله بن عبّاس ابنتها أن تمشي عنها. وأخرجه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن جبير. قال مرّة: ¬

_ (¬1) لَم يذكر الشارح رحمه الله مَن وَصَل هذا التعليق عن ابن عمر - رضي الله عنه - , لا في الفتح ولا في كتابه " تغليق التعليق "

عن ابن عبّاس قال: إذا مات وعليه نذر قضى عنه وليّه. ومن طريق عون بن عبد الله بن عتبة , أنّ امرأة نذرت أن تعتكف عشرة أيّام فماتت ولَم تعتكف , فقال ابن عبّاس: اعتكف عن أمّك. وجاء عن ابن عمر وابن عبّاس خلاف ذلك. فقال مالك في " الموطّأ ": إنّه بلغه , أنّ عبد الله بن عمر كان يقول: لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ , ولا يصوم أحدٌ عن أحد. وأخرج النّسائيّ من طريق أيّوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس. قال: لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ , ولا يصوم أحد عن أحد. أورده ابن عبد البرّ من طريقه موقوفاً , ثمّ قال: والنّقل في هذا عن ابن عبّاس مضطرب. قلت: ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حقّ من مات , والنّفي في حقّ الحيّ. ثمّ وجدت عنه ما يدلّ على تخصيصه في حقّ الميّت بما إذا مات وعليه شيء واجب , فعند ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ: سئل ابن عبّاس عن رجل مات وعليه نذر. فقال: يصام عنه النّذر. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله " صلي عنها ". العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث. فعدّ منها الولد , لأنّ الولد من كسبه فأعماله الصّالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى صلي عنها أنّ صلاتك مكتتبةٌ لها ولو

كنت إنّما تنوي عن نفسك. كذا قال , ولا يخفى تكلّفه. وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك جنح ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك. وفيه تعقّب على ابن بطّال حيث نقل الإجماع , أنّه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ لا فرضاً ولا سنّة. لا عن حيّ ولا عن ميّت. ونقل عن المُهلَّب , أنّ ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنيّة , ولكان الشّارع أحقّ بذلك أن يفعله عن أبويه، ولما نهي عن الاستغفار لعمّه، ولبطل معنى قوله {ولا تكسب كلّ نفسٍ إلَّا عليها}. انتهى وجميع ما قال لا يخفى وجه تعقّبه. خصوصاً ما ذكره في حقّ الشّارع، وأمّا الآية فعمومها مخصوص اتّفاقاً. والله أعلم. تنْبيهٌ: ذكر الكرمانيّ أنّه وقع في بعض النّسخ. قال: صلي عليها. وجّه بأنّ " على " بمعنى " عن " على رأيٍ. قال: أو الضّمير راجعٌ إلى قباءٍ.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 372 - عن كعب بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله إنّ من توبتي أنْ أنْخَلِع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَمسِك عليك بعضَ مالِك، فهو خيرٌ لك. (¬1) قوله: (عن كعب بن مالكٍ) (¬2) قوله: (قلت: يا رسولَ الله إنّ من توبتي) أي: الحديث الطّويل في قصّة تخلّفه في غزوة تبوك , ونَهْي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن كلامِه وكلامِ رفيقَيه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2606 , 4156 , 4399 , 6312) ومسلم (2769) من طرق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن عبد الله بن كعب عن كعب بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) ابن أبي كعب بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلِمة، بكسر اللام، أبو عبد اللَّه الأنصاري السّلمي بفتحتين، ويقال أبو بشير , ويقال أبو عبد الرحمن. روى البغويّ عن إسماعيل من ولد كعب بن مالك، قال: كانت كنية كعب بن مالك في الجاهلية أبا بشير، فكنَّاه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أبا عبد اللَّه. ولم يكن لمالكٍ ولد غير كعب الشاعر المشهور، وشهد العقبة وبايع بها , وتخلّف عن بدر , وشهد أُحداً وما بعدها، وتخلّف في تبوك، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم. وقال ابن سيرين: قال كعب بن مالك بيتين كانا سبب إسلام دوس، وهما: قضينا من تهامة كلّ وتر ... وخيبر ثمّ أغمدنا السّيوفا تخبّرنا ولو نطقت لقالت قواطعهنّ دوساً أو ثقيفا فلمَّا بلغ ذلك دوساً قالوا: خذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف. قال ابن حبّان: مات أيام قتل علي بن أبي طالب. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ذهب بصره في خلافة معاوية , وقال البغويّ: بلغني أنه مات بالشام في خلافة معاوية. الإصابة بتجوز.

وعند ابن مردويه من وجه آخر عن كعب بن مالك: لَمَّا نزلت توبتي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبَّلت يده وركبته. قوله: (أن أنخلع) بنونٍ وخاءٍ معجمةٍ. أي: أعرى من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه. قوله: (صدقةً) هو مصدر في موضع الحال. أي: متصدّقاً، أو ضمّن أنخلع معنى أتصدّق , وهو مصدر أيضاً. قوله: (أمسك عليك بعضَ مالك , فهو خير لك) زاد أبو داود عن أحمد بن صالح (¬1) عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب " فقلت: إنّي أمسك سهمي الذي بخيبر ". وهو عند البخاري من وجه آخر عن ابن شهاب. ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزّهريّ بهذا السّند عند أبي داود بلفظ: إنّ من توبتي أن أخرج من مالي كلّه لله ورسوله صدقةً، قال: لا، قلت: فنصفه؟، قال: لا، قلت: فثلثه؟ قال: نعم، قلت: فإنّي أمسك سهمي الذي بخيبر. وأخرج من طريق ابن عيينة عن الزّهريّ عن ابن كعب بن مالك عن أبيه , أنّه قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث. وفيه. وإنّي أنخلع من مالي كلّه صدقة، قال: يجزي عنك الثّلث. وفي حديث أبي لبابة عند أحمد وأبي داود نحوه. وقد اختلف السّلف فيمن نذر أن يتصدّق بجميع ماله على عشرة ¬

_ (¬1) وهو شيخ البخاري في هذا الحديث.

مذاهب. القول الأول: قال مالك: يلزمه الثّلث بهذا الحديث. ونوزع. في أنّ كعب بن مالك لَم يصرّح بلفظ النّذر ولا بمعناه، بل يحتمل أنّه نجّز النّذر، ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن، والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهرٍ في صدور النّذر منه، وإنّما الظّاهر أنّه أراد أن يؤكّد أمر توبته بالتّصدّق بجميع ماله شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليه. وقال الفاكهانيّ في شرح العمدة: كان الأولى بكعبٍ أن يستشير ولا يستبدّ برأيه، لكن كأنّه قامت عنده حالٌ لفرحه بتوبته. ظهر له فيها أنّ التّصدّق بجميع ماله مستحقٌّ عليه في الشّكر. فأورد الاستشارة بصيغة الجزم. انتهى وكأنّه أراد أنّه استبدّ برأيه في كونه جزم بأنّ من توبته أن ينخلع من جميع ماله إلَّا أنّه نجّز ذلك. وقال ابن المنير: لَم يبتّ كعب الانخلاع بل استشار. هل يفعل أو لا؟. قلت: ويحتمل أن يكون استفهم وحذفت أداة الاستفهام، ومن ثَمّ كان الرّاجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء لمن التزم أن يتصدّق بجميع ماله إلَّا إذا كان على سبيل القربة. القول الثاني: إن كان مليّاً لزمه، وإن كان فقيراً فعليه كفّارة يمين، وهذا قول الليث.

القول الثالث: عن ابن وهب. كقول الليث. وزاد: وإن كان متوسّطاً يخرج قدر زكاة ماله. القول الرابع: عن أبي حنيفة. يخرج قدر زكاة ماله بغير تفصيل , وهو قول ربيعة القول الخامس: عن الشّعبيّ وابن أبي لبابة. لا يلزم شيء أصلاً. القول السادس: عن قتادة. يلزم الغنيّ العشر والمتوسّط السّبع والمملق الخمس. القول السابع: يلزم الكلّ إلَّا في نذر اللجاج فكفّارته يمين. القول الثامن: عن سحنونٍ يلزمه أن يخرج ما لا يضرّ به. القول التاسع: عن الثّوريّ والأوزاعيّ وجماعة. يلزمه كفّارة يمين بغير تفصيل. القول العاشر: عن النّخعيّ يلزمه الكلّ بغير تفصيل. وإذا تقرّر ذلك فمناسبة حديث كعب لترجمة البخاري " باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة " أنّ معنى التّرجمة أنّ من أهدى أو تصدّق بجميع ماله إذا تاب من ذنب , أو إذا نذر. هل ينفذ ذلك إذا نجّزه أو علقه؟. وقصّة كعب منطبقة على الأوّل - وهو التّنجيز - لكن لَم يصدر منه تنجيزٌ كما تقرّر، وإنّما استشار فأشير عليه بإمساك البعض فيكون الأولى لمن أراد أن ينجز التّصدّق بجميع ماله أو يعلقه أن يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنّه لو نجّزه لَم ينفذ.

أمّا التّصدّق بجميع المال فيختلف باختلاف الأحوال. الحال الأولى: من كان قويّاً على ذلك يعلم من نفسه الصّبر لَم يمنع. وعليه يتنزّل فعل أبي بكر الصّدّيق وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين ولو كان بهم خصاصةٌ. الحال الثانية: من لَم يكن كذلك فلا. وعليه يتنزّل " لا صدقة إلَّا عن ظهر غنىً " وفي لفظ " أفضل الصّدقة ما كان عن ظهر غنىً " (¬1) قال ابن دقيق العيد: في حديث كعب أنّ للصّدقة أثراً في محو الذّنوب. ومن ثَمّ شرعت الكفّارة الماليّة. ونازعه الفاكهانيّ فقال: التّوبة تجبّ ما قبلها، وظاهر حال كعب أنّه أراد فعل ذلك على جهة الشّكر. قلت: مراد الشّيخ أنّه يؤخذ من قول كعب " إنّ من توبتي .. إلخ " أنّ للصّدقة أثراً في قبول التّوبة التي يتحقّق بحصولها محو الذّنوب، والحجّة فيه تقرير النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له على القول المذكور. ويؤخذ منها جواز وقف المشاع، وشاهده قوله " أمسك عليك بعض مالك " فإنّه ظاهر في أمره بإخراج بعض ماله وإمساك بعض ماله من غير تفصيل بين أن يكون مقسوماً أو مشاعاً، فيحتاج من منع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1361) ومواضع أخرى , ومسلم (1034) من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -. أما لفظ " لا صدقة إلَّا .. " فأخرجه الإمام أحمد (7155) من طريق عطاء عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (1428) من جه آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ حديث حكيم بن حزام.

وقف المشاع إلى دليل المنع. والمخالف فيه محمّد بن الحسن , لكن خصّ المنع بما يمكن قسمته. واحتجّ له الجوريّ - بضمّ الجيم - وهو من الشّافعيّة: بأنّ القسمة بيع , وبيع الوقف لا يجوز. وتعقّب: بأنّ القسمة إفراز , فلا محذور. والله أعلم.

باب القضاء

باب القضاء الحديث الأول 373 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ. (¬1) وفي لفظ: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ (¬2). قوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه) في رواية الإسماعيليّ من طريق محمّد بن خالد الواسطيّ عن إبراهيم بن سعد عن أبيه , أنّ رجلاً من آل أبي جهل أوصى بوصايا فيها أَثَرَة في ماله، فذهبتُ إلى القاسم بن محمّد أستشيره , فقال القاسم: سمعت عائشة. فذكره. وسيأتي بيان الأثرة المذكورة في رواية المخرميّ المعلّقة عن العلاء بن عبد الجبّار. قوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) علَّقه البخاري عن عبد الله بن جعفر المخرميّ - بفتح الميم وسكون المعجمة وفتح الرّاء نسبة إلى المسور بن مخرمة - فجعفر هو ابن عبد الرّحمن بن المسور بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2550) ومسلم (1718) من طريق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها. قال البخاري: رواه عبد الله بن جعفر المخرَّمي وعبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم. قلت: وقد وصل مسلمٌ رواية ابن جعفر كما سيأتي. (¬2) أخرجه مسلم (1718) من طريق عبد الله بن جعفر الزهري عن سعد بن إبراهيم به. وقد علَّقه البخاري كما تقدّم.

مخرمة. وروايته هذه. وصلها مسلم من طريق أبي عامر العقديّ , والبخاريّ في " كتاب خلق أفعال العباد " كلاهما عنه عن سعد بن إبراهيم. سألت القاسم بن محمّد عن رجل له مساكن فأوصى بثلث كلّ مسكن منها , قال: يجمع ذلك كلّه في مسكن واحد. فذكر المتن. وليس لعبد الله بن جعفر في البخاريّ سوى هذا الموضع. وللدارقطني من طريق عبد العزيز بن محمّد عن عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم بلفظ: من فعل أمراً ليس عليه أمرنا فهو ردّ. وقد روّيناه في " كتاب السّنّة لأبي الحسين بن حامد " من طريق محمّد بن إسحاق عن عبد الواحد , وفيه قصّة قال: عن سعد بن إبراهيم قال: كان الفضل بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب أوصى بوصيّةٍ، فجعل بعضها صدقة وبعضها ميراثاً وخلط فيها، وأنا يومئذٍ على القضاء، فما دريت كيف أقضي فيها، فصلَّيت بجنب القاسم بن محمّد فسألته , فقال: أَجِز من ماله الثّلث وصيّة، وردّ سائر ذلك ميراثاً، فإنّ عائشة حدّثتني. فذكره بلفظ إبراهيم بن سعد. وفي هذه الرّواية دلالة على أنّ قوله في رواية الإسماعيليّ المتقدّمة " من آل أبي جهل " وهمٌ، وإنّما هو من آل أبي لهب، وعلى أنّ قوله في رواية مسلم " يجمع ذلك كلّه في مسكن واحد " هو بقيّة الوصيّة. وليس هو من كلام القاسم بن محمّد، لكن صرّح أبو عوانة في روايته

بأنّه كلام القاسم بن محمّد. وهو مشكل جدّاً , فالذي أوصى بثلث كلّ مسكن أوصى بأمرٍ جائز اتّفاقاً. وأمّا إلزام القاسم بأن يجمع في مسكن واحد , ففيه نظرٌ. لاحتمال أن يكون بعض المساكن أغلى قيمة من بعض. لكن يحتمل أن تكون تلك المساكن متساوية فيكون الأولى أن تقع الوصيّة بمسكنٍ واحد من الثّلاثة، ولعلَّه كان في الوصيّة شيء زائد على ذلك يوجب إنكارها كما أشارت إليه رواية أبي الحسين بن حامد. والله أعلم. وقد استشكل القرطبيّ شارح مسلم ما استشكلته، وأجاب عنه: بالحمل على ما إذا أراد أحد الفريقين الفدية، أو الموصى لهم القسمة وتمييز حقّه، وكانت المساكن بحيث يضمّ بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذٍ تقوم المساكن قيمة التّعديل ويجمع نصيب الموصى لهم في موضع واحد , ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك. والله أعلم. وهذا الحديث معدودٌ من أصول الإسلام وقاعدةٌ من قواعده، فإنّ معناه: من اخترع في الدّين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه. قال النّوويّ: هذا الحديث ممّا ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك.

وقال الطّرقيّ (¬1): هذا الحديث يصلح أن يسمّى نصف أدلة الشّرع، لأنّ الدّليل يتركّب من مقدّمتين، والمطلوب بالدّليل إمّا إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدّمة كبرى في إثبات كلّ حكم شرعيّ ونفيه، لأنّ منطوقه مقدّمة كليّة في كلّ دليل نافٍ لحكمٍ، مثل أن يقال في الوضوء بماءٍ نجس: هذا ليس من أمر الشّرع، وكلّ ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود. فالمقدّمة الثّانية ثابتة بهذا الحديث، وإنّما يقع النّزاع في الأولى. ومفهومه أنّ من عمل عملاً عليه أمر الشّرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنّيّة: هذا عليه أمر الشّرع، وكلّ ما كان عليه أمر الشّرع فهو صحيح. فالمقدّمة الثّانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النّزاع. فلو اتّفق أن يوجد حديث يكون مقدّمة أولى في إثبات كلّ حكم شرعيّ ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشّرع، لكن هذا الثّاني لا يوجد، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشّرع. والله أعلم. قوله: (ردّ) معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول، ¬

_ (¬1) هو الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت بن محمد الأصبهاني. وطرْق: من قرى أصبهان. سكن برد، وكان متفنناً، له تصانيف، إلَّا أنه جهل، وقال بقدم الروح. سمع: عبد الوهاب بن مندة وطبقته، وجال في الطلب، ولحق أبا القاسم بن البسري. توفي في شوال , سنة إحدى وعشرين وخمس مائة. قاله الذهبي في " السير " (14/ 372). وقال ابن النجار كما في الوافي للصفدي. (6/ 175): له مصنفات حسنة منها كتاب اللوامع في أطراف الصحيحين

مثل خلق ومخلوق ونسخ ومنسوخ، وكأنّه قال: فهو باطل غير معتدّ به. واللفظ الثّاني وهو قوله " من عمل " أعمّ من اللفظ الأوّل. وهو قوله " من أحدث " فيحتجّ به في إبطال جميع العقود المنهيّة , وعدم وجود ثمراتها المرتّبة عليها , وفيه ردّ المحدثات , وأنّ النّهي يقتضي الفساد، لأنّ المنهيّات كلّها ليست من أمر الدّين فيجب ردّها. ويستفاد منه أنّ حكم الحاكم لا يغيّر ما في باطن الأمر لقوله " ليس عليه أمرنا " والمراد به أمر الدّين. وفيه أنّ الصّلح الفاسد منتقض، والمأخوذ عليه مستحقّ الرّدّ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 374 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلتْ هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ، لا يُعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ، إلَّا ما أخذتُ من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جُناحٍ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذي من ماله بالمعروف، ما يكفيك ويكفي بنِيكِ. (¬1) قوله: (هند بنت عتبة) وللبخاري من رواية يحيى عن هشام عن أبيه " أنّ هنداً بنت عتبة " كذا في هذه الرّواية هنداً بالصّرف. (¬2) ووقع في رواية الزّهريّ عن عروة. بغير صرف " هند بنت عتبة بن ربيعة ". أي ابن عبد شمس بن عبد منافٍ. وفي رواية الشّافعيّ عن أنس بن عياض عن هشام " أنّ هنداً أمّ معاوية , وكانت هند لَمَّا قتل أبوها عتبة وعمّها شيبة وأخوها الوليد يوم بدر شقّ عليها، فلمّا كان يوم أحد وقتل حمزة فرحت بذلك , وعمَدَتْ إلى بطنه فشقّتها , وأخذت كبده فلاكتْها ثمّ لفظتْها، فلمّا كان يوم الفتح , ودخل أبو سفيان مكّة مسلماً بعد أن أسرته خيل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2097 , 2328، 3613، 5044، 5049، 5055، 6265، 6742، 6758) ومسلم (1714) من طريق الزهري. وكذا هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) وقعت هذه الرواية بالصرف في صحيح البخاري (5049) في كتاب النفقات. كما ذكر الشارح. وكذا وقع عند ابن الجارود (1025) من طريق يحيى بن سعيد.

النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة , فأجاره العبّاس , غضبت هند لأجل إسلامه، وأخذت بلحيته , ثمّ إنّها بعد استقرار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمكّة , جاءت فأسلمت وبايعت ". وكانت من عقلاء النّساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزوميّ , ثمّ طلقها في قصّة جرت، فتزوّجها أبو سفيان فأنتجت عنده، وهي القائلة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا شرط على النّساء المبايعة ولا يسرقن ولا يزنين " وهل تزني الحرّة؟ " (¬1). وماتت هند في خلافة عمر. وقد كانت هند في منزلة أمّهات نساء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , لأنّ أمّ حبيبة إحدى زوجاته بنت زوجها أبي سفيان. وفي الصحيحين. أنّها قالت له: يا رسولَ الله. ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلّوا من أهل خبائك، وما على ظهر الأرض اليوم أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزّوا من أهل خبائك. فقال: أيضاً والذي نفسي بيده. ثمّ قالت: يا رسولَ الله، إنّ أبا سفيان. إلخ. وذكر ابن عبد البرّ: أنّها ماتت في المحرّم سنة أربع عشرة , يوم مات أبو قحافة والد أبي بكر الصّدّيق. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (4754) من طريق غبطة أم عمرو - عجوز من بني مجاشع - حدثتني عمتي عن جدتي عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتبايعه .. فذكر الحديث. قال الحافظ في " التلخيص " (2/ 53): في إسناده مجهولات. ثم ذكر ابن حجر طرقاً أخرى له , وفيها نظرٌ.

وأخرج ابن سعد في " الطّبقات " ما يدلّ على أنّها عاشت بعد ذلك، فروى عن الواقديّ عن ابن أبي سبرة عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم , أنّ عمر استعمل معاوية على عمل أخيه، فلم يزل والياً لعمر حتّى قُتل , واستخلف عثمان فأقرّه على عمله وأفرده بولاية الشّام جميعاً، وشخص أبو سفيان إلى معاوية , ومعه ابناه عتبة وعنبسة، فكتبت هند إلى معاوية قد قدم عليك أبوك وأخواك، فاحمل أباك على فرس وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة على حمار وأعطه ألف درهم، ففعل ذلك. فقال أبو سفيان: أشهد بالله أنّ هذا عن رأي هند. قلت: كان عتبة منها وعنبسة من غيرها , أمّه عاتكة بنت أبي أزيهر الأزديّ. وفي " الأمثال للميدانيّ , أنّها عاشت بعد وفاة أبي سفيان، فإنّه ذكر قصّة فيها , أنّ رجلاً سأل معاوية أن يزوّجه أمّه؟ فقال: إنّها قعدت عن الولد. قوله: (إنّ أبا سفيان) هو صخر بن حرب بن أُميَّة بن عبد شمس زوجها، وكان قد رأس في قريش بعد وقعة بدر، وسار بهم في أحد، وساق الأحزاب يوم الخندق، ثمّ أسلم ليلة الفتح قوله: (رجلٌ شحيحٌ) في رواية للشيخين " رجل مِسّيك , فهل عليَّ حرجٌ من أن أطعم من الذي له عيالنا ". واختلف في ضبطه. فالأكثر. بكسر الميم وتشديد السّين على المبالغة.

وقيل: بوزن شحيح. قال النّوويّ: هذا هو الأصحّ من حيث اللّغة , وإن كان الأوّل أشهر في الرّواية. ولَم يظهر لي كون الثّاني أصحّ , فإنّ الآخر مستعمل كثيراً مثل شرّيب وسكّير , وإن كان المخفّف أيّهما فيه نوع مبالغة , لكنّ المشدّد أبلغ. قال في النّهاية في كتاب الأشخاص: المشهور في كتب اللّغة الفتح والتّخفيف. وفي كتب المحدّثين الكسر والتّشديد. والشّحّ البخل مع حرص، والشّحّ أعمّ من البخل , لأنّ البخل يختصّ بمنع المال , والشّحّ بكل شيء. وقيل: الشّحّ لازم كالطّبع , والبخل غير لازم. قال القرطبيّ: لَم ترد هند وصف أبي سفيان بالشّحّ في جميع أحواله، وإنّما وصفت حالها معه , وأنّه كان يقتّر عليها وعلى أولادها، وهذا لا يستلزم البخل مطلقاً فإنّ كثيراً من الرّؤساء يفعل ذلك مع أهله , ويؤثر الأجانب استئلافاً لهم. قلت: وورد في بعض الطّرق لقول هند هذا سبب يأتي ذكره قريباً. قوله: (إلَّا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليّ في ذلك من جناحٍ) وللبخاري " إلَّا ما أخذت منه , وهو لا يعلم ". زاد الشّافعيّ في روايته " سرّاً، فهل عليّ في ذلك من شيء؟ " , ووقع في رواية الزّهريّ " فهل عليّ حرج أن أطعم من الذي له عيالنا "؟.

قوله: (خذي من ماله بالمعروف، ما يكفيك ويكفي بَنِيْك) وللبخاري من رواية هشام عن أبيه " فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وفي رواية شعيب عن الزّهريّ في الصحيحين " لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف ". قال القرطبيّ: قوله " خذي " أمر إباحة بدليل قوله " لا حرج " والمراد بالمعروف القدر الذي عُرف بالعادة أنّه الكفاية. قال: وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظاً لكنّها مقيّدة معنىً، كأنّه قال: إن صحّ ما ذكرتِ. وقال غيره: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - علم صدقها فيما ذكرت فاستغنى عن التّقييد. واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة. وفيه من الفوائد: جواز ذِكر الإنسان بالتّعظيم كاللقب والكنية. كذا قيل. وفيه نظرٌ، لأنّ أبا سفيان كان مشهوراً بكنيته دون اسمه , فلا يدلّ قولها " إنّ أبا سفيان " على إرادة التّعظيم. وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخر. وفيه أنّ من نسب إلى نفسه أمراً عليه فيه غضاضة فليقرنه بما يقيم عذره في ذلك. وفيه جواز سماع كلام الأجنبيّة عند الحكم , والإفتاء عند من يقول إنّ صوتها عورة , ويقول جاز هنا للضّرورة.

وفيه أنّ القول قول الزّوجة في قبض النّفقة، لأنّه لو كان القول قول الزّوج إنّه منفق لكلفت هذه البيّنة على إثبات عدم الكفاية. وأجاب المازريّ عنه: بأنّه من باب تعليق الفتيا لا القضاء. وفيه وجوب نفقة الزّوجة , وقد انعقد الإجماع على الوجوب. لكن اختلفوا في تقديرها. القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنها مقدّرة بالكفاية، وهو قول للشّافعيّ حكاه الجوينيّ. القول الثاني: المشهور عن الشّافعيّ أنّه قدّرها بالأمداد , فعلى الموسر كلّ يوم مدّان , والمتوسّط مدّ ونصف والمعسر مدّ، وتقريرها بالأمداد رواية عن مالك أيضاً. ووافق الجمهورَ من الشّافعيّة أصحابُ الحديث كابن خزيمة وابن المنذر ومن غيرهم أبو الفضل بن عبدان، وقال الرّويانيّ في " الحلية ": هو القياس. وتمسّك بعض الشّافعيّة بأنّها لو قدّرت بالحاجة لسقطت نفقة المريضة والغنيّة في بعض الأيّام، فوجب إلحاقها بما يشبه الدّوام , وهو الكفّارة لاشتراكهما في الاستقرار في الذّمّة. ويقوّيه قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} فاعتبروا الكفّارة بها , والأمداد معتبرة في الكفّارة. ويخدش في هذا الدّليل أنّهم صحّحوا الاعتياض عنه، وبأنّها لو أَكلتْ معه على العادة سقطت بخلاف الكفّارة فيهما.

والرّاجح من حيث الدّليل أنّ الواجب الكفاية، ولا سيّما وقد نقل بعض الأئمّة الإجماع الفعليّ في زمن الصّحابة والتّابعين على ذلك , ولا يحفظ عن أحدٍ منهم خلافه. قال النّوويّ في " شرح مسلم ": وهذا الحديث حجّة على أصحابنا. قلت: وليس صريحاً في الرّدّ عليهم، لكنّ التّقدير بالأمداد محتاج إلى دليل , فإن ثبت حملت الكفاية في حديث الباب على القدر المقدّر بالأمداد، فكأنّه كان يعطيها وهو موسر ما يعطي المتوسّط , فأذن لها في أخذ التّكملة. وفيه اعتبار النّفقة بحال الزّوجة، وهو قول الحنفيّة. واختار الخصّاف منهم أنّها معتبرة بحال الزّوجين معاً. قال صاحب " الهداية ": وعليه الفتوى، والحجّة فيه ضمّ قوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته} الآية إلى هذا الحديث. وذهبت الشّافعيّة: إلى اعتبار حال الزّوج تمسّكاً بالآية، وهو قول بعض الحنفيّة. وفيه وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، والأصحّ عند الشّافعيّة اعتبار الصّغر أو الزّمانة. وفيه وجوب نفقة خادم المرأة على الزّوج. قال الخطّابيّ: لأنّ أبا سفيان كان رئيس قومه , ويبعد أن يمنع زوجته وأولاده النّفقة، فكأنّه كان يعطيها قدر كفايتها وولدها دون

من يخدمهم , فأضافت ذلك إلى نفسها , لأنّ خادمها داخل في جملتها. قلت: ويحتمل أن يتمسّك لذلك بقوله في بعض طرقه " أن أطعم من الذي له عيالنا ". (¬1) واستُدل به على وجوب نفقة الابن على الأب , ولو كان الابن كبيراً. وتعقّب: بأنّها واقعة عين ولا عموم في الأفعال، فيحتمل أن يكون المراد بقولها " بنيّ " بعضهم أي: من كان صغيراً أو كبيراً زمناً لا جميعهم. واستدل به على أنّ من له عند غيره حقّ وهو عاجز عن استيفائه , جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقّه بغير إذنه , وتسمى مسألة الظّفر. وبها قال الشّافعيّ، فجزم بجواز الأخذ فيما إذا لَم يمكن تحصيل الحقّ بالقاضي , كأن يكون غريمه منكراً ولا بيّنة له عند وجود الجنس , فيجوز عنده أخذه إن ظفر به , وأخذ غيره بقدره إن لَم يجده ويجتهد في التّقويم ولا يحيف. فإن أمكن تحصيل الحقّ بالقاضي. فالأصحّ عند أكثر الشّافعيّة الجواز أيضاً. وعن أبي حنيفة: المنع، وعنه: يأخذ جنس حقّه , ولا يأخذ من غير جنس حقّه إلَّا أحد النّقدين بدل الآخر. وعن مالك: ثلاث روايات كهذه الآراء. ¬

_ (¬1) هذه الرواية في الصحيحين كما تقدَّم في الشرح.

وعن أحمد: المنع مطلقاً. واتّفقوا على أنّ محلّ الجواز في الأموال لا في العقوبات البدنيّة لكثرة الغوائل في ذلك، ومحلّ الجواز في الأموال أيضاً ما إذا أمن الغائلة كنسبته إلى السّرقة ونحو ذلك. قال الخطّابيّ: يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس وغير الجنس، لأنّ منزل الشّحيح لا يجمع كلّ ما يحتاج إليه من النّفقة والكسوة وسائر المرافق اللازمة , وقد أطلق لها الإذن في أخذ الكفاية من ماله. قال: ويدلّ على صحّة ذلك قولها في رواية أخرى " وإنّه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي ". قلت: ولا دلالة فيه لِما ادّعاه من أنّ بيت الشّحيح لا يحتوي على كلّ ما يحتاج إليه , لأنّها نفت الكفاية مطلقاً , فتناول جنس ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه. ودعواه أنّ منزل الشّحيح كذلك مسلَّمة , لكن من أين له أنّ منزل أبي سفيان كان كذلك؟. والذي يظهر من سياق القصّة , أنّ منزله كان فيه كلّ ما يحتاج إليه إلَّا أنّه كان لا يمكّنها إلَّا من القدر الذي أشارت إليه , فاستأذنت أن تأخذ زيادة على ذلك بغير علمه. وقد وجّه ابن المنيّر قوله , أنّ في قصّة هند دلالة على أنّ لصاحب الحقّ أن يأخذ من غير جنس حقّه بحيث يحتاج إلى التّقويم، لأنّه - صلى الله عليه وسلم -

أذن لهندٍ أن تفرض لنفسها وعيالها قدر الواجب، وهذا هو التّقويم بعينه , بل هو أدقّ منه وأعسر. واستدل به على أنّ للمرأة مدخلاً في القيام على أولادها وكفالتهم والإنفاق عليهم، وفيه اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قبل الشّرع. وقال القرطبيّ: فيه اعتبار العرف في الشّرعيّات خلافاً لمن أنكر ذلك لفظاً , وعمل به معنىً كالشّافعيّة. كذا قال، والشّافعيّة إنّما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النّصّ الشّرعيّ , أو لَم يرشد النّصّ الشّرعيّ إلى العرف. واستدل به الخطّابيّ على جواز القضاء على الغائب، وترجم البخاريّ في كتاب الأحكام " القضاء على الغائب " وأورد هذا الحديث من طريق سفيان الثّوريّ عن هشام بلفظ " إنّ أبا سفيان رجل شحيح , فأحتاج أن آخذ من ماله، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وذكر النّوويّ , أنّ جمعاً من العلماء من أصحاب الشّافعيّ , ومن غيرهم استدلّوا بهذا الحديث لذلك، حتّى قال الرّافعيّ في " القضاء على الغائب ": احتجّ أصحابنا على الحنفيّة في منعهم القضاء على الغائب بقصّة هند، وكان ذلك قضاء من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على زوجها وهو غائب. قال النّوويّ: ولا يصحّ الاستدلال، لأنّ هذه القصّة كانت بمكّة ,

وكان أبو سفيان حاضراً بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائباً عن البلد أو مستتراً لا يقدر عليه أو متعزّزاً، ولَم يكن هذا الشّرط في أبي سفيان موجوداً فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء، وقد وقع في كلام الرّافعيّ في عدّة مواضع أنّه كان إفتاء. انتهى. واستدل بعضهم على أنّه كان غائباً بقول هند " لا يعطيني " إذ لو كان حاضراً لقالت لا ينفق عليّ، لأنّ الزّوج هو الذي يباشر الإنفاق. وهذا ضعيف. لِجواز أن يكون عادته أن يعطيها جملة , ويأذن لها في الإنفاق مفرّقاً. نعم. قول النّوويّ , إنّ أبا سفيان كان حاضراً بمكّة حقٌّ، وقد سبقه إلى الجزم بذلك السّهيليّ، بل أورد أخصّ من ذلك , وهو أنّ أبا سفيان كان جالساً معها في المجلس، لكن لَم يسق إسناده. وقد ظفرتُ به في " طبقات ابن سعد " أخرجه بسندٍ رجاله رجال الصّحيح، إلَّا أنّه مرسل عن الشّعبيّ , أنّ هنداً لَمَّا بايعت , وجاء قوله ولا يسرقن قالت: قد كنت أصبت من مال أبي سفيان , فقال أبو سفيان: فما أصبتِ من مالي فهو حلال لكِ. قلت: ويمكن تعدّد القصّة , وأنّ هذا وقع لَمَّا بايعت ثمّ جاءت مرّة أخرى فسألت عن الحكم، وتكون فهمت من الأوّل إحلال أبي سفيان لها ما مضى فسألت عمّا يستقبل. لكن يشكل على ذلك. ما أخرجه ابن منده في " المعرفة " من طريق

عبد الله بن محمّد بن زاذان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت هند لأبي سفيان: إنّي أريد أن أبايع، قال: فإن فعلت فاذهبي معك برجلٍ من قومك، فذهبت إلى عثمان فذهب معها، فدخلت منتقبة فقال: بايعي أن لا تشركي .. الحديث، وفيه: فلمّا فرغت. قالت: يا رسولَ الله. إنّ أبا سفيان رجل بخيل - الحديث - قال: ما تقول يا أبا سفيان؟ قال: أمّا يابساً فلا، وأمّا رطباً فأحلّه. وذكر أبو نعيمٍ في " المعرفة " , أنّ عبد الله تفرّد به بهذا السّياق وهو ضعيف. وأوّل حديثه يقتضي , أنّ أبا سفيان لَم يكن معها , وآخره يدلّ على أنّه كان حاضراً. لكن يحتمل: أن يكون كلّ منهما توجّه وحده , أو أرسل إليه لَمَّا اشتكت منه. ويؤيّد هذا الاحتمال الثّاني. ما أخرجه الحاكم في تفسير الممتحنة من " المستدرك " عن فاطمة بنت عتبة , أنّ أبا حذيفة بن عتبة ذهب بها وبأختها هند يبايعان فلمّا اشترط. ولا يسرقن , قالت هند: لا أبايعك على السّرقة، إنّي أسرق من زوجي، فكفّ حتّى أرسل إلى أبي سفيان يتحلّل لها منه , فقال: أمّا الرّطب فنعم , وأمّا اليابس فلا. والذي يظهر لي أنّ البخاريّ لَم يرد أنّ قصّة هند كان قضاء على أبي سفيان وهو غائب، بل استدل بها على صحّة القضاء على الغائب , ولو لَم يكن ذلك قضاء على غائب بشرطه، بل لمَّا كان أبو سفيان غير

حاضر معها في المجلس وأذن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه قدر كفايتها كان في ذلك نوع قضاء على الغائب , فيحتاج من منعه أن يجيب عن هذا. وقد انبنى على هذا خلاف يتفرّع منه. وهو أنّ الأب إذا غاب أو امتنع من الإنفاق على ولده الصّغير , أذن القاضي للأمّ إذا كانت فيها أهليّة ذلك في الأخذ من مال الأب إن أمكن , أو في الاستقراض عليه والإنفاق على الصّغير. وهل لها الاستقلال بذلك بغير إذن القاضي؟. وجهان ينبنيان على الخلاف في قصّة هند، فإن كانت إفتاء جاز لها الأخذ بغير إذن، وإن كانت قضاء فلا يجوز إلَّا بإذن القاضي. وممّا رجح به أنّه كان قضاء لا فتيا , التّعبير بصيغة الأمر حيث قال لها " خذي " ولو كان فتيا لقال مثلاً: لا حرج عليكِ إذا أخذت، ولأنّ الأغلب من تصرّفاته - صلى الله عليه وسلم - إنّما هو الحكم. وممّا رجح به أنّه كان فتوى , وقوع الاستفهام في القصّة في قولها " هل عليّ جناح "؟ , ولأنّه فوّض تقدير الاستحقاق إليها، ولو كان قضاء لَم يفوّضه إلى المدّعي، ولأنّه لَم يستحلفها على ما ادّعته ولا كلفها البيّنة. والجواب: أنّ في ترك تحليفها أو تكليفها البيّنة حجّة لمن أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه , فكأنّه - صلى الله عليه وسلم - علم صدقها في كلّ ما ادّعت به. وعن الاستفهام أنّه لا استحالة فيه من طالب الحكم.

وعن تفويض قدر الاستحقاق أنّ المراد الموكول إلى العرف كما تقدم. وفيه القضاء على الغائب في حقوق الآدميّين دون حقوق الله بالاتّفاق، حتّى لو قامت البيّنة على غائب بسرقةٍ مثلاً، حكم بالمال دون القطع. قال ابن بطّال: أجاز مالك والليث والشّافعيّ وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار إلَّا إن طالت غيبته أو انقطع خبره. وأنكر ابن الماجشون صحّة ذلك عن مالك وقال: العمل بالمدينة على الحكم على الغائب مطلقاً حتّى لو غاب بعد أن توجّه عليه الحكم قضي عليه. وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: لا يُقضى على الغائب مطلقاً. وأمّا من هرب أو استتر بعد إقامة البيّنة , فينادي القاضي عليه ثلاثاً , فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه. وقال ابن قدامة: أجازه أيضاً ابن شبرمة والأوزاعيّ وإسحاق وهو أحد الرّوايتين عن أحمد. ومنعه أيضاً الشّعبيّ والثّوريّ , وهي الرّواية الأخرى عن أحمد. قال: واستثنى أبو حنيفة مَن له وكيل مثلاً، فيجوز الحكم عليه بعد الدّعوى على وكيله. واحتجّ من منع بحديث عليٍّ - رضي الله عنه - رفعه: لا تقضي لأحد الخصمين

حتّى تسمع من الآخر. وهو حديث حسن، أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وغيرهما. وبحديث: الأمر بالمساواة بين الخصمين. (¬1) وبأنّه لو حضر لَم تسمع بيّنة المدّعي حتّى يسأل المدّعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنّه لو جاز الحكم مع غيبته لَم يكن الحضور واجباً عليه. وأجاب من أجاز: بأنّ ذلك كلّه لا يمنع الحكم على الغائب , لأنّ حجّته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها , ولو أدّى إلى نقض الحكم السّابق، وحديث عليٍّ محمول على الحاضرين. وقال ابن العربيّ: حديث عليٍّ، إنّما هو مع إمكان السّماع , فأمّا مع تعذّره بمغيبٍ فلا يمنع الحكم، كما لو تعذّر بإغماءٍ أو جنون أو حجر أو صغر، وقد عمل الحنفيّة بذلك في الشّفعة والحكم على من عنده للغائب مال أن يدفع منه نفقة زوج الغائب , وقد احتجّ بقصة هند الشّافعيّ وجماعة لجواز القضاء على الغائب. وتعقّب: بأنّ أبا سفيان كان حاضراً في البلد كما تقدّم. تنْبيهٌ: أشكل على بعضهم استدلال البخاريّ بهذا الحديث على مسألة الظّفر في " كتاب الأشخاص " حيث ترجم له " قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه " , واستدلاله به على جواز القضاء على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في " السنن " (3588) والإمام أحمد (26/ 29) والحاكم (7029) من طريق مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير , قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أنَّ الخصمين يقعدان بين يَدي الْحَكَمِ. ومصعب بن ثابت ضعيف.

الغائب. لأنّ الاستدلال به على مسألة الظّفر لا تكون إلَّا على القول , بأنّ مسألة هند كانت على طريق الفتوى. والاستدلال به على مسألة القضاء على الغائب , لا يكون إلَّا على القول بأنّها كانت حكماً. والجواب أن يقال: كلّ حكم يصدر من الشّارع , فإنّه ينزّل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصحّ الاستدلال بهذه القصّة للمسألتين. والله أعلم. واستدلَّ به البخاري على أنَّ للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر النّاس إذا لَم يخف الظّنون والتّهمة. وقال أبو حنيفة ومن وافقه: للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق النّاس , وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود , لأنّها مبنيّة على المسامحة. وله في حقوق النّاس تفصيل، قال: إن كان ما علمه قبل ولايته لَم يحكم , لأنّه بمنزلة ما سمعه من الشّهود وهو غير حاكم، بخلاف ما علمه في ولايته. وأمّا قوله " إذا لَم يخف الظّنون والتّهمة " فقيّد به قول من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه , لأنّ الذين منعوا ذلك مطلقاً , اعتلّوا بأنّه غير معصوم فيجوز أن تلحقه التّهمة إذا قضى بعلمه أن يكون حكم لصديقه على عدوّه , فحسمت المادّة. فجعل البخاري محلّ الجواز ما

إذا لَم يخف الحاكم الظّنون والتّهمة. وأشار إلى أنّه يلزم من المنع من أجل حسم المادّة , أن يسمع مثلاً رجلاً طلَّق امرأته طلاقاً بائناً. ثمّ رفعته إليه فأنكر فإذا حلَّفه فحلف لزم أن يديمه على فرج حرام فيفسق به , فلم يكن له بدٌّ من أن لا يقبل قوله ويحكم عليه بعلمه، فإن خشي التّهمة فله أن يدفعه , ويقيم شهادته عليه عند حاكم آخر. وقال الكرابيسيّ (¬1): الذي عندي أنّ شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهوراً بالصّلاح والعفاف والصّدق , ولَم يعرف بكبير زلة ولَم يؤخذ عليه خربة بحيث تكون أسباب التّقى فيه موجودة وأسباب التّهم فيه مفقودة , فهذا الذي يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقاً. قلت: وكأنّ البخاريّ أخذ ذلك عنه , فإنّه من مشايخه. (¬2) قال ابن بطّال: احتجّ من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه , بحديث الباب فإنّه - صلى الله عليه وسلم - قضى لها بوجوب النّفقة لها ولولدها لعلمه بأنّها زوجة أبي سفيان ولَم يلتمس على ذلك بيّنة، ومن حيث النّظر أنّ علمه أقوى من الشّهادة لأنّه يتيقّن ما علمه، والشّهادة قد تكون كذباً. وحجّة من منع قوله حديث أمّ سلمة " إنّما أقضي له بما أسمع " ولَم يقل بما أعلم. وقال للحضرميّ " شاهداك أو يمينه " وفيه " وليس ¬

_ (¬1) الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي الفقيه البغدادي , قال ابن قانع: توفي سنة 245. (¬2) أي: الكرابيسي. وقال الشارح في " لسان الميزان " (2/ 305) في ترجمة الكرابيسي: ويقال: أنه من جملة مشائخ البخاري صاحب الصحيح.

لك إلَّا ذلك " ولِمَا يخشى من قضاة السّوء أن يحكم أحدهم بما شاء , ويحيل على علمه. واحتجّ من منع مطلقاً بالتّهمة. واحتجّ من فصّل: بأنّ الذي علمه الحاكم قبل القضاء كان على طريق الشّهادة , فلو حكم به لحكم بشهادة نفسه فصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضاً فيكون كالحاكم بشاهدٍ واحد، وأمّا في حال القضاء ففي حديث أمّ سلمة " فإنّما أقضي له على نحو ما أسمع " ولَم يفرّق بين سماعه من شاهد أو مدّعٍ. وقال ابن المنير: لَم يتعرّض ابن بطّال لمقصود الباب، وذلك أنّ البخاريّ احتجّ لجواز الحكم بالعلم بقصّة هند، فكان ينبغي للشّارح أن يتعقّب ذلك بأن لا دليل فيه , لأنّه خرج مخرج الفتيا , وكلام المفتي يتنزّل على تقدير صحّة إنهاء المستفتي، فكأنّه قال: إن ثبت أنّه يمنعك حقّك جاز لك استيفاؤه مع الإمكان. قال: وقد أجاب بعضهم بأنّ الأغلب من أحوال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحكم والإلزام، فيجب تنزيل لفظه " عليه " لكن يردّ عليه أنّه - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر في قصّة هند أنّه يعلم صدقها، بل ظاهر الأمر أنّه لَم يسمع هذه القصّة إلَّا منها , فكيف يصحّ الاستدلال به على حكم الحاكم بعلمه؟. قلت: وما ادّعى نفيه بعيد، فإنّه لو لَم يعلم صدقها لَم يأمرها بالأخذ؛ واطّلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه فلا بدّ من سبق علم.

ويؤيّد اطّلاعه على حالها من قبل أن تذكر ما ذكرت من المصاهرة، ولأنّه قَبِل قولها إنّها زوجة أبي سفيان بغير بيّنة واكتفى فيه بالعلم، ولأنّه لو كانت فتيا لقال مثلاً تأخذ، فلمّا أتى بصيغة الأمر بقوله " خذي " دلَّ على الحكم. ثمّ قال ابن المنير أيضاً: لو كان حكماً لاستدعى معرفة المحكوم به، والواقع أنّ المحكوم به غير معيّن، كذا قال. والله أعلم. تنْبيهٌ: اتّفقوا على أنّه يقضي في قبول الشّاهد وردّه بما يعلمه منه من تجريح أو تزكية. ومحصّل الآراء في هذه المسألة سبعة (¬1). ثالثها: في زمن قضائه خاصّةً. رابعها: في مجلس حكمه. خامسها: في الأموال دون غيرها. سادسها: مثله وفي القذف أيضاً وهو عن بعض المالكيّة. سابعها: في كلّ شيء إلَّا في الحدود , وهذا هو الرّاجح عند الشّافعيّة. وقال ابن العربيّ: لا يقضي الحاكم بعلمه، والأصل فيه عندنا الإجماع على أنّه لا يحكم بعلمه في الحدود، ثمّ أحدث بعض الشّافعيّة قولاً مخرّجاً أنّه يجوز فيها أيضاً حين رأوا أنّها لازمة لهم. كذا قال , فجرى على عادته في التّهويل والإقدام على نقل الإجماع ¬

_ (¬1) ترك الشارح ذكر القولين الأولين كعادة أهل العلم في الاختصار , وللعلم بهما ولو لَم يُذكرا , والقولان هما المنع مطلقاً والجواز مطلقاً.

مع شهرة الاختلاف. وفيه الإحالة على العرف فيما ليس فيه تحديدٌ شرعيٌّ لقوله " خذي من ماله ما يكفيك بالمعروف ". قال ابن المنير وغيره: مقصود البخاري بهذه التّرجمة (¬1) إثبات الاعتماد على العرف، وأنّه يقضى به على ظواهر الألفاظ. ولو أنّ رجلاً وكّل رجلاً في بيع سلعةٍ فباعها بغير النّقد الذي عرف النّاس لَم يجز، وكذا لو باع موزوناً أو مكيلاً بغير الكيل أو الوزن المعتاد. وذكر القاضي الحسين من الشّافعيّة. أنّ الرّجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه، فمنها الرّجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصّفات الإضافيّة كصغر ضبّة الفضّة وكبرها وغالب الكثافة في اللحية ونادرها وقرب منزله وبعده وكثرة فعلٍ أو كلامٍ وقلته في الصّلاة، ومقابلاً بعوضٍ في البيع وعيناً وثمن مثلٍ ومهر مثلٍ وكفء نكاحٍ ومؤنةٍ ونفقةٍ وكسوةٍ وسكنى وما يليق بحال الشّخص من ذلك. ومنها الرّجوع إليه في المقادير كالحيض والطّهر وأكثر مدّة الحمل وسنّ اليأس. ومنها الرّجوع إليه في فعل غير منضبطٍ يترتّب عليه الأحكام كإحياء الموات والإذن في الضّيافة ودخول بيت قريبٍ وتبسّطٍ مع ¬

_ (¬1) بقوله (باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والكيل والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة)

صديقٍ , وما يعدّ قبضاً وإيداعاً وهديّةً وغصباً وحفظ وديعةٍ وانتفاعاً بعاريةٍ. ومنها الرّجوع إليه في أمرٍ مخصّصٍ كألفاظ الأيمان وفي الوقف والوصيّة والتّفويض ومقادير المكاييل والموازين والنّقود وغير ذلك. وفي قصّة هند بنت عتبة أنّه أذن لها في أخذ نفقة بنيها من مال الأب فدلَّ على أنّها تجب عليه دونها. فأراد البخاريّ أنّه لَمَّا لَم يلزم الأمّهات نفقة الأولاد في حياة الآباء. فالحكم بذلك مستمرّ بعد الآباء. ويقوّيه قوله تعالى {وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ} أي: رزق الأمّهات وكسوتهنّ من أجل الرّضاع للأبناء، فكيف يجب لهنّ في أوّل الآية , ويجب عليهنّ نفقة الأبناء في آخرها؟.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 375 - عن أمّ سلمة رضي الله عنها، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جَلَبَةَ خَصمٍ بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: ألا إنما أنا بشرٌ مثلكم، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعضٍ، فأحسب أنه صادقٌ، فأقضي له، فمن قضيت له بحقّ مسلمٍ، فإنما هي قطعةٌ من النار فليحملها أو يذرها. (¬1) قوله: (سمع جلَبَةَ خصمٍ) وللبخاري من رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب " سمع خصومة " , وفي رواية شعيب عن الزّهريّ عند البخاري " سمع جلبة خصام ". والجَلَبة بفتح الجيم واللام: اختلاط الأصوات، وقوله " خصم " بفتح الخاء وسكون الصّاد، وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمثنّى مذكّراً ومؤنّثاً , ويجوز جمعه وتثنيته كما في رواية " خصوم " وكما في قوله تعالى: {هذان خصمان}. ولمسلمٍ من طريق معمر عن هشام " لَجبة " بتقديم اللام على الجيم، وهي لغة فيها. فأمّا الخصوم. فلم أقف على تعيينهم , ووقع التّصريح بأنّهما كانا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2326 , 2534، 6566، 6748، 6759، 6762) ومسلم (1713) من طريق الزهري وكذا هشام كلاهما عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها. واللفظ لمسلم.

اثنين. في رواية عبد الله بن رافع عن أمّ سلمة عند أبي داود ولفظه: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان يختصمان. (¬1) وأمّا الخصومة. فبيّن في رواية عبد الله بن رافع , أنّها كانت في مواريث لهما. وفي لفظ عنده " في مواريث وأشياء قد درست ". قوله: (بباب حجرته) في رواية شعيب ويونس عند مسلم " عند بابه " والحجرة المذكورة هي منزل أمّ سلمة , ووقع عند مسلم في رواية معمر " بباب أمّ سلمة ". قوله: (إنّما أنا بشر) البشر الخلق يطلق على الجماعة والواحد، بمعنى أنّه منهم , والمراد أنّه مشارك للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختصّ بها في ذاته وصفاته. والحصر هنا مجازيّ , لأنّه يختصّ بالعلم الباطن , ويسمّى قصر قلب , لأنّه أتى به ردّاً على من زعم أنّ من كان رسولاً فإنّه يعلم كلّ غيب حتّى لا يخفى عليه المظلوم. قوله: (وإنما يأتيني الخصم , فلعلَّ بعضَكم أنْ يكونَ أبلغَ من بعض) في رواية سفيان الثّوري عند البخاري " وإنّكم تختصمون إليّ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3584) والإمام أحمد (27475) وابن الجارود في " المنتقى " (1000) والبيهقي (6/ 108) والدارقطني في " السنن " (5/ 428) وغيرهم من طرق عن أسامة بن زيد عن ابن رافع به. بلفظ: أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان يختصمان في مواريث لهما، لَم تكن لهما بيّنة إلَّا دعواهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فذكر حديث الباب. فبكى الرجلان الحديث. واللفظ لأبي داود. وظاهر كلام الشارح أن القصة واحدة. وقد ذكر أبو داود هذا الطريقَ عقِب حديث الباب.

, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض " , ومثله لمسلمٍ من طريق أبي معاوية. وقوله " ألحن " بمعنى " أبلغ " لأنّه من لحن بمعنى فطن وزنه ومعناه، والمراد: أنّه إذا كان أفطن كان قادراً على أن يكون أبلغ في حجّته من الآخر. وقوله " فلعل " هي هنا بمعنى عسى. قوله: (فأحسب أنّه صادق) هذا يؤذن أنّ في الكلام حذفاً تقديره " وهو في الباطن كاذب " وفي رواية معمر " فأظنّه صادقاً ". قوله: (فأقضي له) في رواية صالح بن كيسان " فأقضي له بذلك " وفي رواية أبي داود من طريق الثّوريّ " فأقضي له عليه على نحو ممّا أسمع " ومثله في رواية أبي معاوية. وفي رواية عبد الله بن رافع " إنّي إنّما أقضي بينكم برأيي فيما لَم ينزل عليّ فيه ". قوله: (فمن قضيت له بحقّ مسلم) في رواية مالك ومعمر " فمن قضيت له بشيءٍ من حقّ أخيه " وفي رواية الثّوريّ " فمن قضيت له من أخيه شيئاً " وكأنّه ضمّن قضيت معنى. أعطيت. ووقع عند أبي داود عن محمّد بن كثير - شيخ البخاريّ فيه - عن سفيان " فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيءٍ فلا يأخذه ". وفي رواية عبد الله بن رافع عند الطّحاويّ والدّارقطنيّ " فمن قضيت له بقضيّةٍ أراها يقطع بها قطعة ظلماً , فإنّما يقطع له بها قطعة

من نار. إسطاماً (¬1) يأتي بها في عنقه يوم القيامة ". والإسطام بكسر الهمزة وسكون المهملة والطّاء المهملة " قطعة " فكأنّها للتّأكيد. قوله: (فإنّما هي) الضّمير للحالة أو القصّة. قوله: (قطعة من النّار) أي: الذي قضيت له به بحسب الظّاهر , إذا كان في الباطن لا يستحقّه فهو عليه حرام يئول به إلى النّار. وقوله " قطعة من النّار " تمثيل يفهم منه شدّة التّعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التّشبيه كقوله تعالى {إنّما يأكلون في بطونهم ناراً}. قوله: (فليحملها أو يذرها) في رواية صالح بن كيسان " فليأخذها أو ليتركها ". وفي رواية مالك عن هشام عند البخاري " فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعة من النّار " قال الدّارقطنيّ: هشام - وإن كان ثقة - لكنّ الزّهريّ أحفظ منه، وحكاه الدّارقطنيّ عن شيخه أبي بكر النّيسابوريّ. قلت: ورواية الزّهريّ ترجع إلى رواية هشام. فإنّ الأمر فيه للتّهديد لا لحقيقة التّخيير، بل هو كقوله. {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في " النهاية " (2/ 924): هي الحديدة التي تُحرّك بها النار وتسعر. أي: أقطع له ما يسعر به النار على نفسه ويشعلها , أو أقطع له ناراً مسعرة. وتقديره ذات إسطام. قال الأزهري: لا أدري أهي عربية أم أعجمية عرّبت. ويقال: لحدّ السيف سطام وسطمٌ

قال ابن التّين: هو خطاب للمقضى له، ومعناه: أنّه أعلم من نفسه، هل هو محقٌّ أو مبطل؟ فإن كان محقّاً فليأخذ، وإن كان مبطلاً فليترك، فإنّ الحكم لا ينقل الأصل عمّا كان عليه. تنْبيهٌ: زاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث: فبكى الرّجلان، وقال كلّ منهما: حقّي لك , فقال لهما النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أمّا إذا فعلتما , فاقتسما وتوخّيا الحقّ، ثمّ استهما، ثمّ تحاللا. (¬1) وفي هذا الحديث من الفوائد. إثم من خاصم في باطل حتّى استحقّ به في الظّاهر شيئاً هو في الباطل حرام عليه. وفيه أنّ من ادّعى مالاً - ولَم يكن له بيّنة - فحلف المدّعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف، أنّه لا يبرّأ في الباطن، وأنّ المدّعي لو أقام بيّنة بعد ذلك تنافي دعواه سمعت وبطل الحكم. وفيه أنّ من احتال لأمرٍ باطل بوجهٍ من وجوه الحيل حتّى يصير حقّاً في الظّاهر ويحكم له به , أنّه لا يحلّ له تناوله في الباطن , ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم. وفيه أنّ المجتهد قد يخطئ فيردّ به على من زعم أنّ كلّ مجتهد ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه قريباً عند أبي داود وغيره. ولفظه عند أبي داود (ثم تحالَّا) , ولفظ أحمد وغيره (ثم ليحلِّل). ولم أره باللفظ الذي ذكره الشارح. قال في عون المعبود (9/ 364): (ثم تحالَّا) بتشديد اللام. أي: ليجعل كل واحد منكما صاحبَه في حلٍّ من قِبَله بإبراء ذمته , ولفظ المشكاة (ثم ليحلل) كل واحد منكما صاحبه. انتهى.

مصيب , وفيه أنّ المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر. وفيه أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي بالاجتهاد فيما لَم ينزل عليه فيه شيء , وخالف في ذلك قوم , وهذا الحديث من أصرح ما يحتجّ به عليهم. وفيه أنّه ربّما أدّاه اجتهاده إلى أمرٍ فيحكم به , ويكون في الباطن بخلاف ذلك , لكنّ مثل ذلك لو وقع لَم يقرّ عليه - صلى الله عليه وسلم - لثبوت عصمته. واحتجّ من منع مطلقاً. أولاً. بأنّه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتّباعه في جميع أحكامه، حتّى قال تعالى {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم} الآية: ثانياً. أنّ الإجماع معصوم من الخطأ، فالرّسول أولى بذلك لعلوّ رتبته. والجواب عن الأوّل: أنّ الأمر إذا استلزم إيقاع الخطأ لا محذور فيه، لأنّه موجود في حقّ المقلدين , فإنّهم مأمورون باتّباع المفتي والحاكم , ولو جاز عليه الخطأ. والجواب عن الثّاني: أنّ الملازمة مردودةٌ , فإنّ الإجماع إذا فرض وجوده دلَّ على أنّ مستندهم ما جاء عن الرّسول، فرجع الاتّباع إلى الرّسول لا إلى نفس الإجماع. والحديث حجّة لمن أثبت أنّه قد يحكم بالشّيء في الظّاهر، ويكون الأمر في الباطن بخلافه , ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلاً ولا نقلاً.

وأجاب من منعه: بأنّ الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنيّة على الإقرار أو البيّنة، ولا مانع من وقوع ذلك فيها، ومع ذلك فلا يقرّ على الخطأ، وإنّما الممتنعة أن يقع فيه الخطأ أن يخبر عن أمر بأنّ الحكم الشّرعيّ فيه كذا , ويكون ذلك ناشئاً عن اجتهاده , فإنّه لا يكون إلَّا حقّاً، لقوله تعالى {وما ينطق عن الهوى} الآية. وأجيب: بأنّ ذلك يستلزم الحكم الشّرعيّ , فيعود الإشكال كما كان. ومن حجج من أجاز ذلك. قوله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم , فيحكم بإسلام من تلفّظ بالشّهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك. والحكمة في ذلك مع أنّه كان يمكن اطّلاعه بالوحي على كلّ حكومة , أنّه لمَّا كان مشرّعاً كان يحكم بما شرع للمكلفين , ويعتمده الحكّام بعده، ومن ثَمّ قال: إنّما أنا بشر. أي: في الحكم بمثل ما كلفوا به. وإلى هذه النّكتة أشار البخاري بإيراده حديث عائشة في قصّة ابن وليدة زمعة , حيث حكم - صلى الله عليه وسلم - بالولد لعبد بن زمعة وألحقه بزمعة، ثمّ لَمَّا رأى شبهة بعتبة أمر سودة أن تحتجب منه احتياطاً. ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصّة المتلاعنين لَمَّا وضعت التي لوعنت ولداً

يشبه الذي رُميت به: لولا الأيمان لكان لي ولها شأنٌ. فأشار البخاريّ إلى أنّه - صلى الله عليه وسلم - حكم في ابن وليدة زمعة بالظّاهر، ولو كان في نفس الأمر ليس من زمعة , ولا يسمّى ذلك خطأ في الاجتهاد، ولا هو من موارد الاختلاف في ذلك. وسبقه إلى ذلك الشّافعيّ , فإنّه لَمَّا تكلم على حديث الباب قال: وفيه أنّ الحكم بين النّاس يقع على ما يسمع من الخصمين بما لفظوا به , وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك، وأنّه لا يقضى على أحدٍ بغير ما لَفَظَ به , فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب الله وسنّة نبيّه , قال: ومثل هذا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة، فلمّا رأى الشّبه بيّناً بعتبة , قال: احتجبي منه يا سودة. (¬1) ولعل السّرّ في قوله {إنّما أنا بشر} امتثال قول الله تعالى {قل إنّما أنا بشر مثلكم} أي: في إجراء الأحكام على الظّاهر الذي يستوي فيه جميع المكلفين، فأُمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به، ليتمّ الاقتداء به , وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظّاهرة من غير نظر إلى الباطن. والحاصل أنّ هنا مقامين. أحدهما: طريق الحكم , وهو الذي كلف المجتهد بالتّبصّر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصّواب. وفيه البحث. والآخر: ما يبطنه الخصم. ولا يطّلع عليه إلَّا الله ومن شاء من ¬

_ (¬1) قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - في عبد بن زمعة تقدَّم في كتاب اللعان برقم (330)

رسله , فلم يقع التّكليف به. قال الطّحاويّ: ذهب قومٌ. إلى أنّ الحكم بتمليك مالٍ أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك، إن كان في الباطن كما هو في الظّاهر نفذ على ما حكم به، وإن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشّهادة أو غيرها , لَم يكن الحكم موجباً للتّمليك , ولا الإزالة ولا النّكاح ولا الطّلاق ولا غيرها، وهو قول الجمهور، ومعهم أبو يوسف. وذهب آخرون: إلى أنّ الحكم إن كان في مالٍ، وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظّاهر، لَم يكن ذلك موجباً لحله للمحكوم له , وإن كان في نكاح أو طلاق فإنّه ينفذ باطناً وظاهراً. وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه , وهو المال , واحتجّوا لِما عداه بقصّة المتلاعنين فإنّه - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين المتلاعنين , مع احتمال أن يكون الرّجل قد صدق فيما رماها به. قال: فيؤخذ من هذا أنّ كلّ قضاء ليس فيه تمليك مالٍ أنّه على الظّاهر , ولو كان الباطن بخلافه وأنّ حكم الحاكم يحدث في ذلك التّحريم والتّحليل بخلاف الأموال. وتعقّب: بأنّ الفرقة في اللعان إنّما وقعت عقوبة للعلم بأنّ أحدهما كاذبٌ، وهو أصلٌ برأسه فلا يقاس عليه. وأجاب غيره من الحنفيّة:

أولاً: أنّ ظاهر الحديث يدلّ على أنّ ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بيّنة هناك ولا يمينٌ، وليس النّزاع فيه , وإنّما النّزاع في الحكم المرتّب على الشّهادة. ثانياً: أنّ " مَن " في قوله " فمَن قضيت له " شرطيّة , وهي لا تستلزم الوقوع , فيكون من فرض ما لَم يقع , وهو جائز فيما تعلق به غرضٌ , وهو هنا محتمل لأَنْ يكون للتّهديد والزّجر عن الإقدام على أخذ أموال النّاس باللسن والإبلاغ في الخصومة، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطناً في العقود والفسوخ , لكنّه لَم يسق لذلك , فلا يكون فيه حجّة لمن منع. ثالثاً: أنّ الاحتجاج به يستلزم أنّه - صلى الله عليه وسلم - يقرّ على الخطأ , لأنّه لا يكون ما قضى به قطعة من النّار إلَّا إذا استمرّ الخطأ، وإلا فمتى فرض أنّه يطّلع عليه , فإنّه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويردّ الحقّ لمستحقّه. وظاهر الحديث يخالف ذلك، فإمّا أن يسقط الاحتجاج به ويؤوّل على ما تقدّم، وإمّا أن يستلزم استمرار التّقرير على الخطأ وهو باطل. والجواب عن الأوّل: أنّه خلاف الظّاهر، وكذا الثّاني. والجواب عن الثّالث: أنّ الخطأ الذي لا يقرّ عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لَم يوح إليه فيه، وليس النّزاع فيه , وإنّما النّزاع في الحكم الصّادر منه بناءً على شهادة زورٍ أو يمينٍ فاجرة فلا يُسمّى خطأ للاتّفاق على وجوب العمل بالشّهادة وبالإيمان، وإلَّا لكان الكثير من الأحكام يسمّى خطأ وليس كذلك.

وعلى هذا فالحجّة من الحديث ظاهرة في شمول الخبر: الأموال والعقود والفسوخ. والله أعلم. ومن ثَمّ قال الشّافعيّ: إنّه لا فرق في دعوى حلّ الزّوجة لمن أقام بتزويجها بشاهدي زورٍ وهو يعلم بكذبهما، وبين من ادّعى على حرٍّ أنّه في ملكه وأقام بذلك شاهدي زورٍ , وهو يعلم حرّيّته، فإذا حكم له الحاكم بأنّه ملكه لَم يحلّ له أن يسترقّه بالإجماع. قال النّوويّ: والقول بأنّ حكم الحاكم يحلّ ظاهراً وباطناً مخالف لهذا الحديث الصّحيح، وللإجماع السّابق على قائلة , ولقاعدةٍ أجمع العلماء عليها ووافقهم القائل المذكور، وهو أنّ الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال. وقال ابن العربيّ: إن كان حاكماً نفذ على المحكوم له أو عليه , وإن كان مفتياً لَم يحل، فإن كان المفتى له مجتهداً يرى بخلاف ما أفتاه به لَم يجز، وإلَّا جاز. والله أعلم. قال: ويستفاد من قوله " وتوخّيا الحقّ " جواز الإبراء من المجهول؛ لأنّ التّوخّي لا يكون في المعلوم. وقال القرطبيّ: شنّعوا على مَن قال ذلك قديماً وحديثاً لمخالفة الحديث الصّحيح؛ ولأنّ فيه صيانة المال وابتذال الفروج، وهي أحقّ أن يحتاط لها وتصان. واحتجّ بعض الحنفيّة: بما جاء عن عليّ , أنّ رجلاً خطب امرأة فأبت , فادّعى أنّه تزوّجها وأقام شاهدين، فقالت المرأة: إنّهما شهدا

بالزّور، فزوّجني أنت منه فقد رضيت، فقال: شاهداك زوّجاك. وأمضى عليها النّكاح. وتعقّب: بأنّه لَم يثبت عن عليّ. واحتجّ المذكور من حيث النّظر: بأنّ الحاكم قضى بحجّةٍ شرعيّة فيما له ولاية الإنشاء فيه , فجعل الإنشاء تحرّزاً عن الحرام، والحديث صريح في المال وليس النّزاع فيه، فإنّ القاضي لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، ويملك إنشاء العقود والفسوخ، فإنّه يملك بيع أمة زيد مثلاً من عمرو حال خوف الهلاك للحفظ وحال الغيبة، ويملك إنشاء النّكاح على الصّغيرة، والفرقة على العينين، فيجعل الحكم إنشاء احترازاً عن الحكم، ولأنّه لو لَم ينفذ باطناً فلو حكم بالطّلاق لبقيت حلالاً للزّوج الأوّل باطناً وللثّاني ظاهراً، فلو ابتلي الثّاني مثل ما ابتلي الأوّل حلَّت للثّالث، وهكذا فتحلّ لجمعٍ متعدّد في زمن واحد، ولا يخفى فحشه بخلاف ما إذا قلنا بنفاذه باطناً فإنّها لا تحلّ إلَّا لواحدٍ. انتهى. وتعقّب: بأنّ الجمهور إنّما قالوا في هذا: تحرم على الثّاني مثلاً إذا علم أنّ الحكم ترتّب على شهادة الزّور، فإذا اعتمد الحكم وتعمّد الدّخول بها فقد ارتكب محرّماً كما لو كان الحكم بالمال فأكله، ولو ابتلي الثّاني كان حكم الثّالث كذلك والفحش إنّما لزم من الإقدام على تعاطي المحرّم، فكان كما لو زنوا ظاهراً واحداً بعد واحد. وقال ابن السّمعانيّ: شرط صحّة الحكم وجود الحجّة وإصابة

المحلّ، وإذا كانت البيّنة في نفس الأمر شهود زورٍ لَم تحصل الحجّة، لأنّ حجّة الحكم هي البيّنة العادلة فإنّ حقيقة الشّهادة إظهار الحقّ؛ وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإن كان الشّهود كذبة لَم تكن شهادتهم حقّاً. قال: فإن احتجّوا بأنّ القاضي حكم بحجّةٍ شرعيّة أمر الله بها , وهي البيّنة العادلة في علمه ولَم يكلف بالإطلاع على صدقهم في باطن الأمر، فإذا حكم بشهادتهم فقد امتثل ما أمر به , فلو قلنا لا ينفذ في باطن الأمر للزم إبطال ما وجب بالشّرع , لأنّ صيانة الحكم عن الإبطال مطلوبة , فهو بمنزلة القاضي في مسألة اجتهاديّة على مجتهد لا يعتقد ذلك , فإنّه يجب عليه قبول ذلك وإن كان لا يعتقده صيانة للحكم. وأجاب ابن السّمعانيّ: بأنّ هذه الحجّة للنّفوذ , ولهذا لا يأثم القاضي , وليس من ضرورة وجوب القضاء نفوذ القضاء حقيقة في باطن الأمر، وإنّما يجب صيانة القضاء عن الإبطال إذا صادف حجّة صحيحة. والله أعلم. فرعٌ: لو كان المحكوم له يعتقد خلاف ما حكم له به الحاكم، هل يحلّ له أخذ ما حكم له به أو لا؟. كمن مات ابن ابنه , وترك أخاً شقيقاً , فرفعه لقاضٍ يرى في الجدّ رأي أبي بكر الصّدّيق، فحكم له بجميع الإرث دون الشّقيق، وكان الجدّ المذكور يرى رأي الجمهور. نقل ابن المنذر عن الأكثر , أنّه يجب على الجدّ أن يشارك الأخ

الشّقيق عملاً بمعتقده , والخلاف في المسألة مشهور. واستدل بالحديث لِمَن قال: إنّ الحاكم لا يحكم بعلمه بدليل الحصر في قوله " إنّما أقضي له بما أسمع " وقد تقدّم البحث فيه قبل (¬1). وفيه: إنّ التّعمّق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحقّ وعكسه مذموم، فإنّ المراد بقوله أبلغ. أي: أكثر بلاغةً , ولو كان ذلك في التّوصّل إلى الحقّ لَم يذمّ , وإنّما يذمّ من ذلك ما يتوصّل به إلى الباطل في صورة الحقّ. فالبلاغة إذن لا تذمّ لذاتها , وإنّما تذمّ بحسب التّعلّق الذي يمدح بسببه وهي في حدّ ذاتها ممدوحة. وهذا كما يذمّ صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره ممّن لَم يصل إلى درجته , ولا سيّما إن كان الغير من أهل الصّلاح , فإنّ البلاغة إنّما تذمّ من هذه الحيثيّة بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجيّة عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها بل كلّ فتنة توصل إلى المطلوب محمودة في حدّ ذاتها , وقد تذمّ أو تمدح بحسب متعلقها. واختلف في تعريف البلاغة. فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ، وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتّصرّف من غير إضمار، وقيل: قليل لا يبهم وكثير لا يسأم؛ وقيل: إجمال اللفظ ¬

_ (¬1) في شرح حديث عائشة في قصة هند بنت عتبة رضي الله عنها قبل حديث.

واتّساع المعنى، وقيل: تقليل اللفظ وتكثير المعنى، وقيل: حسن الإيجاز مع إصابة المعنى، وقيل: سهولة اللفظ مع البديهة، وقيل: لمحة دالة أو كلمة تكشف عن البغية، وقيل: الإيجاز من غير عجَزَ والإطناب من غير خطأ، وقيل: النّطق في موضعه والسّكوت في موضعه، وقيل: معرفة الفصل والوصل، وقيل: الكلام الدّالّ أوّله على آخره وعكسه. وهذا كلّه عن المتقدّمين. وعرّف أهل المعاني والبيان البلاغةَ: بأنّها مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحة وهي خلوّه عن التّعقيد، وقالوا: المراد بالمطابقة ما يحتاج إليه المتكلم بحسب تفاوت المقامات، كالتّأكيد وحذفه، والحذف وعدمه، أو الإيجاز والإسهاب ونحو ذلك، والله أعلم. وفيه الرّدّ على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمرٍ خارجيّ من بيّنة ونحوها. واحتجّ بأنّ الشّاهد المتّصل به أقوى من المنفصل عنه. ووجه الرّدّ عليه: كونه - صلى الله عليه وسلم - أعلى في ذلك من غيره مطلقاً، ومع ذلك فقد دلَّ حديثه هذا على أنّه إنّما يحكم بالظّاهر في الأمور العامّة , فلو كان المدّعى صحيحاً لكان الرّسول أحقّ بذلك، فإنّه أعلم أنّه تجري الأحكام على ظاهرها، ولو كان يمكن أنّ الله يطلعه على غيب كلّ قضيّة. وسبب ذلك: أنّ تشريع الأحكام واقع على يده , فكأنّه أراد تعليم غيره من الحكّام أن يعتمدوا ذلك.

نعم: لو شهدت البيّنة مثلاً بخلاف ما يعلمه علماً حسّيّاً بمشاهدةٍ أو سماع، يقينيّاً أو ظنّيّاً راجحاً لَم يجز له أن يحكم بما قامت به البيّنة، ونقل بعضهم الاتّفاق , وإن وقع الاختلاف في القضاء بالعلم، كما تقدّم , تكون عند الحاكم في ولايته القضاء. وفي الحديث أيضاً: موعظة الإمام الخصوم ليعتمدوا الحقّ والعمل بالنّظر الرّاجح وبناء الحكم عليه , وهو أمرٌ إجماعيّ للحاكم والمفتي، والله سبحانه وتعالى أعلم. تكميل: بوّب عليه البخاري " القضاء في قليل المال وكثيره سواءٌ ". قال ابن المنير: القضاء عامّ في كلّ شيء: قلَّ أو جلَّ لقوله فيه " فمن قضيت له بحقّ مسلم " , وهو يتناول القليل والكثير. وكأنّه أشار بهذه التّرجمة إلى الرّدّ على مَن قال: إنّ للقاضي أن يستنيب بعض من يريد في بعض الأمور دون بعض، بحسب قوّة معرفته ونفاذ كلمته في ذلك , وهو منقول عن بعض المالكيّة. أو على مَن قال: لا يجب اليمين إلَّا في قدر معيّن من المال، ولا تجب في الشّيء التّافه. أو على من كان من القضاة لا يتعاطى الحكم في الشّيء التّافه، بل إذا رفع إليه ردّه إلى نائبه مثلاً , قاله ابن المنير. قال: وهو نوع من الكبر، والأوّل أليق بمراد البخاريّ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 376 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كتب أبي , أوكتبتُ له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة، وهو قاضٍ بسجستان، أنْ لَّا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يحكم أحدٌ بين اثنين، وهو غضبان. (¬1) وفي رواية: لا يقضين حكَمٌ بين اثنين وهو غضبان. قوله: (كتب أَبي) تقدّمت ترجمة أبي بكرة. (¬2) قوله: (كتب أبي , أوكتبت له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة) في رواية مسلم من طريق أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرّحمن , قال: كتب أبي. وكتبت له إلى عبيد الله بن أبي بكرة. ووقع في العمدة " كتب أبي , وكتبت له إلى ابنه عبيد الله .. إلخ " , وهو موافق لسياق مسلم إلَّا أنّه زاد لفظ " ابنه " (¬3). قيل: معناه كتب أبو بكرة بنفسه مرّة , وأمر ولده عبد الرّحمن أن يكتب لأخيه , فكتب له مرّة أخرى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6739) ومسلم (1717) من طريق عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة به. واللفظ لمسلم. ولفظ البخاري هي الرواية التي بعده. (¬2) انظر حديثه في البيوع رقم (282) (¬3) هو كما قال ابن حجر رحمه الله فليست كلمة (ابنه) في صحيح مسلم , فلعل المقدسيّ صاحب العمدة رحمه الله لفّق رواية مسلم برواية البخاري , ولفظه عند البخاري " كتب أبو بكرة إلى ابنه .. " غير مسمّى.

قلت: ولا يتعيّن ذلك، بل الذي يظهر أنّ قوله " كتب أبي " أي: أمر بالكتابة، وقوله " وكتبت له " أي: باشرت الكتابة التي أمر بها، والأصل عدم التّعدّد. ويؤيّده قوله في المتن المكتوب " إنّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " , فإنّ هذه العبارة لأبي بكرة لا لابنه عبد الرّحمن، فإنّه لا صحبة له. وذكر البخاريّ في " تاريخه " وابن سعدٍ , أنّ عبد الرّحمن كان أوّل مولودٍ ولد بالبصرة بعد أن بنيت , وأرخها ابنُ زيدٍ سنة أربع عشرة , وذلك في أوائل خلافة عمر - رضي الله عنه -. قوله: (وهو قاضٍ بسجستان) هي جملة حاليّة , وسجستان بكسر المهملة والجيم على الصّحيح بعدهما مثنّاة ساكنة , وهي إلى جهة الهند بينها وبين كرمان مائة فرسخ منها أربعون فرسخاً مفازة ليس فيها ماء. ويُنسب إليها سجستانيّ وسجزتيّ بزايٍ بدل السّين الثّانية والتّاء وهو على غير قياس. وسجستان لا تصرف للعلميّة والعجمة , أو زيادة الألف والنّون. قال ابن سعد في " الطّبقات ": كان زياد في ولايته على العراق قرّب أولاد أخيه لأمّه أبي بكرة وشرّفهم وأقطعهم , وولَّى عبيد الله بن أبي بكر سجستان، قال: ومات أبو بكرة في ولاية زياد. قوله: (أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان) وللبخاري " أن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان ".

قوله: (لا يقضينّ حكم بين اثنين وهو غضبان) وفي رواية الشّافعيّ عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة " لا يقضي القاضي , أو لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان " ولَم يذكر القصّة. والْحَكَم بفتحتين هو الحاكم، وقد يطلق على القيّم بما يسند إليه. قال المُهلَّب: سبب هذا النّهي , أنّ الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحقّ فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار. وقال ابن دقيق العيد: فيه النّهي عن الحكم حالة الغضب لِما يحصل بسببه من التّغيّر الذي يختلّ به النّظر , فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه. قال: وعدّاه الفقهاء بهذا المعنى إلى كلّ ما يحصل به تغيّر الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النّعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلّقاً يشغله عن استيفاء النّظر، وهو قياس مظنّة على مظنّة، وكأنّ الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النّفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره. وقد أخرج البيهقيّ بسندٍ ضعيف عن أبي سعيد رفعه: لا يقض القاضي إلَّا وهو شبعان ريّان. وقول الشّيخ " وهو قياس مظنّة على مظنّة " صحيح، وهو استنباط معنىً دلَّ عليه النّصّ , فإنّه لَمَّا نهى عن الحكم حالة الغضب فهم منه أنّ الحكم لا يكون إلَّا في حالة استقامة الفكر، فكانت عِلَّة

النّهي المعنى المشترك وهو تغيّر الفكر، والوصف بالغضب يسمّى عِلَّة بمعنى أنّه مشتمل عليه , فألحق به ما في معناه كالجائع. قال الشّافعيّ في " الأمّ ": أكره للحاكم أن يحكم وهو جائع أو تعب أو مشغول القلب فإنّ ذلك يغيّر القلب. فرعٌ: لو خالف فحكم في حال الغضب. صحّ إن صادف الحقّ مع الكراهة، هذا قول الجمهور، وفي الصحيحين: أنّه - صلى الله عليه وسلم - قضى للزّبير بشراج الحرّة بعد أن أغضبه خصم الزّبير. لكن لا حجّة فيه لرفع الكراهة عن غيره لعصمته - صلى الله عليه وسلم - , فلا يقول في الغضب إلَّا كما يقول في الرّضا. (¬1) قال النّوويّ في حديث اللّقطة (¬2): فيه جواز الفتوى في حال الغضب , وكذلك الحكم وينفذ , ولكنّه مع الكراهة في حقّنا , ولا يكره في حقّه - صلى الله عليه وسلم - , لأنّه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف على غيره، وأبعد مَن قال: يحمل على أنّه تكلم في الحكم قبل وصوله في الغضب إلى تغيّر الفكر. ¬

_ (¬1) أخرج الإمام أحمد (6510) وأبو داود (3646) عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كلَّ شىء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه. فنهتني قريش , وقالوا: أتكتب كل شىء تسمعه. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب. فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأومأ باصبعه إلى فيه فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلَّا حق. (¬2) حديث اللقطة تقدّم في باب اللقطة رقم (297) من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -. ولفظة الغضب لَم يذكرها صاحب العمدة , وهي إحدى روايات الصحيحين. بلفظ " وسُئل عن ضالة الإبل؟ فغضب واحمرت وجنتاه. فذكر الحديث.

ويؤخذ من الإطلاق أنّه لا فرق بين مراتب الغضب ولا أسبابه، وكذا أطلقه الجمهور. وفصّل إمام الحرمين والبغويّ. فقيّدا الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله. واستغرب الرّويانيّ هذا التّفصيل , واستبعده غيره لمخالفته لظواهر الحديث , وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم حال الغضب. وقال بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم في حالة الغضب لثبوت النّهي عنه , والنّهي يقتضي الفساد. وفصّل بعضهم: بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثّر , وإلَّا فهو محلّ الخلاف، وهو تفصيل معتبر. وقال ابن المنير: أدخل البخاريّ حديث أبي بكرة الدّالّ على المنع , ثمّ حديث أبي مسعود (¬1) الدّالّ على الجواز , تنبيهاً منه على طريق الجمع بأن يجعل الجواز خاصّاً بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لوجود العصمة في حقّه والأمن من التّعدّي، أو أنّ غضبه إنّما كان للحقّ , فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع، وهو كما قيل في شهادة العدوّ: إن كانت دنيويّة ردّت , وإن كانت دينيّة لَم تردّ , قاله ابن دقيق العيد وغيره. وفي الحديث أنّ الكتابة بالحديث كالسّماع من الشّيخ في وجوب ¬

_ (¬1) حديث أبي مسعود , أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلانٍ مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشدَّ غضباً منه يومئذ، ثم قال: إن منكم منفرين .. " الحديث وقد تقدّم في العمدة برقم (85)

العمل، وأمّا في الرّواية فمنع منها قوم إذا تجرّدت عن الإجازة، والمشهور الجواز. نعم. الصّحيح عند الأداء أن لا يطلق الإخبار , بل يقول كتب إليّ أو كاتبني أو أخبرني في كتابه. وفيه ذكر الحكم مع دليله في التّعليم، ويجيء مثله في الفتوى. وفيه شفقة الأب على ولده , وإعلامه بما ينفعه , وتحذيره من الوقوع فيما ينكر. وفيه نشر العلم للعمل به والاقتداء , وإن لَم يسأل العالم عنه.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 377 - وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى، يا رسولَ الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: أَلا وقول الزور، وشهادة الزور، فمازال يكرّرها، حتى قلنا: ليته سكت. (¬1) قوله: (ألا أنبّئكم) في رواية بشر بن المفضّل عن الجريريّ عند البخاري " ألا أخبركم ". وقد نظم كُلاًّ من العقوق وشهادة الزّور بالشّرك في آيتين. إحداهما: قوله تعالى: {وقضى ربّك ألا تعبدوا إلَّا إيّاه وبالوالدين إحساناً}. ثانيهما: قوله تعالى: {فاجتنبوا الرّجس من الأوثان واجتنبوا قول الزّور}. قوله: (بأكبر الكبائر ثلاثاً) أي: قالها ثلاث مرّات على عادته في تكرير الشّيء ثلاث مرّات تأكيداً لينبّه السّامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره. وفهِمَ بعضهم منه أنّ المراد بقوله: " ثلاثاً " عدد الكبائر , وهو بعيد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2511 , 5631، 5918، 6521) ومسلم (87) من طرق عن سعيد الجريري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.

ويؤيّد الأوّل: أنّ أوّل رواية إسماعيل بن عليّة عن الجريري عند البخاري: أكبر الكبائر الإشراك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزّور ثلاثاً. وقد اختلف السّلف. القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنّ من الذّنوب كبائر، ومنها صغائر. القول الثاني: شذّت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ. فقال: ليس في الذّنوب صغيرة , بل كلّ ما نهى الله عنه كبيرة. ونقل ذلك عن ابن عبّاس، وحكاه القاضي عياض عن المحقّقين. واحتجّوا بأنّ كلّ مخالفة لله فهي بالنّسبة إلى جلاله كبيرة. ونسبه ابن بطّال إلى الأشعريّة. فقال: انقسام الذّنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامّة الفقهاء، وخالفهم من الأشعريّة أبو بكر بن الطّيّب وأصحابه فقالوا: المعاصي كلّها كبائر، وإنّما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرّمة صغيرة بإضافتها إلى الزّنا وكلّها كبائر. قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجباً باجتناب ذنب آخر بل كلّ ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وأجابوا عن الآية التي احتجّ أهل القول الأوّل بها , وهي قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}: أنّ المراد الشّرك.

وقد قال الفرّاء: من قرأ " كبائر " فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشّرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: {كذّبت قوم نوح المرسلين} , ولَم يرسل إليهم غير نوح، قالوا: وجواز العقاب على الصّغيرة كجوازه على الكبيرة. انتهى. قال النّوويّ: قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسّنّة إلى القول الأوّل. وقال الغزاليّ في " البسيط ": إنكار الفرق بين الصّغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه. قلت: قد حقّق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره , وبيّن أنّه لا يخالف ما قاله الجمهور. فقال في " الإرشاد ": المرضيّ عندنا أنّ كلّ ذنب يعصى الله به كبيرة، فربّ شيء يعدّ صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حقّ الملك لكان كبيرة، والرّبّ أعظم من عصي، فكلّ ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم؛ ولكنّ الذّنوب وإن عظمت فهي متفاوته في رتبها. وظنّ بعض النّاس أنّ الخلاف لفظيّ , فقال: التّحقيق أنّ للكبيرة اعتبارين: فبالنّسبة إلى مقايسة بعضها لبعضٍ فهي تختلف قطعاً، وبالنّسبة إلى الآمر النّاهي فكلّها كبائر. انتهى. والتّحقيق: أنّ الخلاف معنويّ، وإنّما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدّالّ على أنّ الصّغائر تكفّر باجتناب الكبائر (¬1)، والله ¬

_ (¬1) كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح مسلم (233) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لِما بينهن، ما لَم تغش الكبائر " وفي رواية له " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر.

أعلم. وقال القرطبيّ: ما أظنّه يصحّ عن ابن عبّاس , أنّ كلّ ما نهى الله عزّ وجل عنه كبيرة , لأنّه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصّغائر والكبائر في قوله: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلَّا اللمم} وقوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم} , فجعل في المنهيّات صغائر وكبائر، وفرّق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السّيّئات في الآية مشروطاً باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن؟ قلت: ويؤيّده ما أخرجه الشيخان عن ابن عبّاس في تفسير اللمم قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق .. الحديث " , لكنّ النّقل المذكور عنه. أخرجه إسماعيل القاضي والطّبريّ بسندٍ صحيح على شرط الشّيخين إلى ابن عبّاس. فالأولى أن يكون المراد بقوله: نهى الله عنه " محمولاً على نهي خاصّ , وهو الذي قرن به وعيد كما قيّد في الرّواية الأخرى عن ابن عبّاس , فيحمل مطلقه على مقيّده جمعاً بين كلاميه.

وقال الطّيبيّ: الصّغيرة والكبيرة أمران نسبيّان، فلا بدّ من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء: الطّاعة أو المعصية أو الثّواب. فأمّا الطّاعة فكلّ ما تكفّره الصّلاة مثلاً هو من الصّغائر، وكلّ ما يكفّره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر. وأمّا المعصية فكلّ معصية يستحقّ فاعلها بسببها وعيداً أو عقاباً أزيد من الوعيد أو العقاب المستحقّ بسبب معصية أخرى فهي كبيرة. وأمّا الثّواب ففاعل المعصية إذا كان من المقرّبين فالصّغيرة بالنّسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حقّ بعض الأنبياء على أمور لَم تعدّ من غيرهم معصية. انتهى. وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصّص عموم من أطلق أنّ علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حقّ فاعلها، لكن يلزم منه أنّ مطلق قتل النّفس مثلاً ليس كبيرة، كأنّه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب , لكن ورد الوعيد والعقاب في حقّ قاتل ولده أشدّ، فالصّواب ما قاله الجمهور , وأنّ المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبيرة وأكبر. والله أعلم. قال النّوويّ: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافاً كثيراً منتشراً. فروي عن ابن عبّاس , أنّها كلّ ذنب ختمه الله بنارٍ أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصريّ. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنارٍ في الآخرة , أو أوجب فيه حدّاً في الدّنيا.

قلت: وممّن نصّ على هذا الأخير الإمام أحمد. فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشّافعيّة الّماورديّ , ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجّه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عبّاس. أخرجه ابن أبي حاتم بسندٍ لا بأس به، إلَّا أنّ فيه انقطاعاً. وأخرج من وجه آخر متّصل لا بأس برجاله أيضاً عن ابن عبّاس , قال: كلّ ما توعّد الله عليه بالنّار كبيرة. وقد ضبط كثير من الشّافعيّة الكبائر بضوابط أخرى. منها قول إمام الحرمين: كلّ جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدّين ورقّة الدّيانة. وقول الحليميّ: كلّ محرّم لعينه منهيّ عنه لمعنىً في نفسه. وقال الرّافعيّ: هي ما أوجب الحدّ. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنصّ كتاب أو سنّة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأوّل أميل؛ لكنّ الثّاني أوفق لِما ذكروه عند تفصيل الكبائر. انتهى كلامه. وقد استُشكل بأنّ كثيراً ممّا وردت النّصوص بكونه كبيرة لا حدّ فيه كالعقوق. وأجاب بعض الأئمّة: بأنّ مراد قائله ضبط ما لَم يرد فيه نصّ بكونه كبيرة. وقال ابن عبد السّلام في " القواعد ": لَم أقف لأحدٍ من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر

بتهاون مرتكبها بدينه إشعاراً دون الكبائر المنصوص عليها. قلت: وهو ضابط جيّد. وقال القرطبيّ في " المفهم ": الرّاجح أنّ كلّ ذنب نصّ على كِبَره أو عظمه أو توعّد عليه بالعقاب أو علق عليه حدّ أو شدّد النّكير عليه فهو كبيرة، وكلام ابن الصّلاح يوافق ما نقل أوّلاً عن ابن عبّاس، وزاد إيجاب الحدّ، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. فأمّا ما ورد النّصّ الصّريح بكونه كبيرة كما في حديث أبي هريرة " اجتنبوا السّبع الموبقات " (¬1) فقد ورد في الأحاديث زيادة على السّبع المذكورات ممّا نصّ على كونها كبيرة أو موبقة. وقد ذهب آخرون: إلى أنّ الذّنوب التي لَم ينصّ على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها. فقال الواحديّ: ما لَم ينصّ الشّارع على كونه كبيرة , فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم. والله أعلم. فصلٌ. قوله: (أكبر الكبائر) ليس على ظاهره من الحصر بل من فيه مقدّرة، فقد ثبت في أشياء أخر أنّها من أكبر الكبائر. منها حديث أنس في قتل النّفس في الصحيحين، وحديث ابن ¬

_ (¬1) وهو في الصحيحين , وتمامه " قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلَّا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات "

مسعود في الصحيحين " أي الذّنب أعظم؟ " فذكر فيه الزّنا بحليلة الجار , وحديث عبد الله بن أنيس الجهنيّ مرفوعاً قال: من أكبر الكبائر - فذكر منها - اليمين الغموس. أخرجه التّرمذيّ بسندٍ حسن، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد. وحديث أبي هريرة رفعه: إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عِرْض رجل مسلم. أخرجه ابن أبي حاتم بسندٍ حسن، وحديث بريدة رفعه: من أكبر الكبائر فذكر منها منع فضل الماء ومنع الفحل. أخرجه البزّار بسندٍ ضعيف. وحديث ابن عمر رفعه: أكبر الكبائر سوء الظّنّ بالله. أخرجه ابن مردويه بسندٍ ضعيف، ويقرب منه حديث أبي هريرة مرفوعاً: ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي. الحديث. أخرجه البخاري. وحديث عائشة: أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم. أخرجه الشّيخان، وفي البخاري حديث عبد الله بن عمرو: من أكبر الكبائر أن يسبّ الرّجل أباه. ولكنّه من جملة العقوق. قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله " أكبر الكبائر " انقسام الذّنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أنّ في الذّنوب صغائر، لكن فيه نظر؛ لأنّ مَن قال كلّ ذنب كبيرة , فالكبائر والذّنوب عنده متواردان على شيء واحد، فكأنّه قيل: ألا أنبّئكم بأكبر الذّنوب؟ قال: ولا يلزم من كون الذي ذكر أنّه أكبر الكبائر استواؤها , فإنّ الشّرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه.

قوله: (الإشراك بالله) قال ابن دقيق العيد: يحتمل: أن يراد به مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذّكر لغلبته في الوجود، لا سيّما في بلاد العرب، فذكر تنبيهاً على غيره من أصناف الكفر. ويحتمل: أن يراد به خصوصه , إلَّا أنّه يرد على هذا الاحتمال , أنّه قد يظهر أنّ بعض الكفر أعظم من الشّرك , وهو التّعطيل , فيترجّح الاحتمال الأوّل على هذا. قال ابن بطّال: قوله تعالى " إنّ الشّرك لظلمٌ عظيم " دالة على أنّه لا إثم أعظم من الشّرك، وأصل الظّلم وضع الشّيء في غير موضعه , فالمشرك أصل من وضع الشّيء في غير موضعه , لأنّه جعل لمن أخرجه من العدم إلى الوجود مساوياً فنسب النّعمة إلى غير المنعم بها، وقوله تعالى {لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين} خوطب بها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره، والإحباط المذكور مقيّد بالموت على الشّرك لقوله تعالى {فيمت وهو كافر , فأولئك حبطت أعمالهم}. قوله: (وعقوق الوالدين) تقدّم الكلام عليه (¬1) قوله: (وكان متّكئاً) قيل: الاتّكاء الاضطجاع، وفي حديث عمر في البخاري " وهو متّكئ على سرير " أي: مضطجع، بدليل قوله " قد أثّر السّرير في جنبه " كذا قال عياض. وفيه نظرٌ , لأنّه يصحّ مع عدم تمام الاضطجاع. ¬

_ (¬1) في حديث المغيرة بن شعبة في الصلاة برقم (135)

وقد قال الخطّابيّ: كلّ معتمد على شيء متمكّن منه , فهو متّكئ. وإيراد البخاريّ حديث خبّاب المعلَّق (¬1) يشير به إلى أنّ الاضطجاع اتّكاء وزيادة. وأخرج الدّارميّ والتّرمذيّ وصحَّحه هو وأبو عوانة وابن حبّان عن جابر بن سمرة: رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - متّكئاً على وسادة. ونقل ابن العربيّ عن بعض الأطبّاء , أنّه كره الاتّكاء، وتعقّبه: بأنّ فيه راحة كالاستناد والاحتباء. وورد في مثل ذلك حديث أنس في قصّة ضمام بن ثعلبة لَمَّا قال: أيّكم ابن عبد المطّلب؟ فقالوا: ذلك الأبيض المتّكئ. قال المُهلَّب: يجوز للعالِم والمفتي والإمام الاتّكاء في مجلسه بحضرة النّاس لألمٍ يجده في بعض أعضائه , أو لراحةٍ يرتفق بذلك , ولا يكون ذلك في عامّة جلوسه. قوله: (فجلس) في رواية بشر بن المفضّل عن الجريريّ في البخاري " وجلس وكان متّكئاً " يشعر بأنّه اهتمّ بذلك حتّى جلس بعد أن كان متّكئاً , ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه. قوله: (ألا وقول الزور، وشهادة الزور) كذا وقع في العمدة بالواو. وفي رواية ابن عليّة " شهادة الزّور أو قول الزّور ". ¬

_ (¬1) قال البخاري: باب مَن اتَّكأ بين يدي أصحابه , قال خباب: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة، قلت: ألا تدعو الله، فقعد. الحديث. ووصله البخاري (3639) وفي مواضع أخرى مطوّلاً.

وأشار البخاري إلى أنّ قوله تعالى {والذين لا يشهدون الزّور .. الآية} , سيقت في ذمّ متعاطي شهادة الزّور , وهو اختيارٌ منه لأحد ما قيل في تفسيرها. وقيل: المراد بالزّور هنا الشّرك , وقيل: الغناء , وقيل: غير ذلك. قال الطّبريّ: أصل الزّور تحسين الشّيء ووصفه بخلاف صفته , حتّى يخيّل لمن سمعه أنّه بخلاف ما هو به قال: وأولى الأقوال عندنا , أنّ المراد به مدح من لا يشهد شيئاً من الباطل. والله أعلم. والشهادة مصدر شهد يشهد. قال الجوهريّ: الشّهادة خبر قاطع، والمشاهدة المعاينة مأخوذة من الشّهود أي الحضور؛ لأنّ الشّاهد مشاهدٌ لِما غاب عن غيره , وقيل: مأخوذة من الإعلام. قوله: (فما زال يكرّرها، حتى قلنا: ليته سكت) أي: تمنّيناه يسكت إشفاقاً عليه لِما رأوا من انزعاجه في ذلك , وفي رواية خالد الواسطي عن الجريري عند البخاري " فما زال يقولها حتّى قلت: لا يسكت ". وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - , والمحبّة له والشّفقة عليه. وقال ابن دقيق العيد: اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بشهادة الزّور , يحتمل: أن يكون لأنّها أسهل وقوعاً على النّاس، والتّهاون بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعاً؛ لأنّ الشّرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطّبع، وأمّا قول الزّور فإنّ الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها، وليس

ذلك لعظمها بالنّسبة إلى ما ذكر معها. قال: وأمّا عطف الشّهادة على القول , فينبغي أن يكون تأكيداً للشّهادة , لأنّا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقاً كبيرة وليس كذلك، وإذا كان بعض الكذب منصوصاً على عظمه كقوله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}. وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده. قال: وقد نصّ الحديث الصّحيح على أنّ الغيبة والنّميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلاً. والله أعلم. وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأنّ كلّ شهادة زور قول زور بغير عكس، ويحتمل: قول الزّور على نوع خاصّ منه. قلت: والأولى ما قاله الشّيخ. ويؤيّده وقوع الشّكّ في ذلك في حديث أنس (¬1) وفيه " قول الزّور أو قال: شهادة الزّور " قال شعبة: وأكبر ظنّي أنّه شهادة الزّور , فدلَّ على أنّ المراد شيء واحد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5977) ومسلم (88) من طريق شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ذَكَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر، أو سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور، أو قال: شهادة الزور " قال شعبة: .... "

وقال القرطبيّ: شهادة الزّور , هي الشّهادة بالكذب ليتوصّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس , أو أخذ مال , أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضرراً منها , ولا أكثر فساداً بعد الشّرك بالله. وزعم بعضهم: أنّ المراد بشهادة الزّور في هذا الحديث الكفر، فإنّ الكافر شاهد بالزّور وهو ضعيف. وقيل: المراد من يستحلّ شهادة الزّور وهو بعيد، والله أعلم وفي هذا الحديث استحباب إعادة الموعظة ثلاثاً لتفهم، وانزعاج الواعظ في وعظه ليكون أبلغ في الوعي عنه والزّجر عن فعل ما ينهى عنه. وفيه غلظ أمر شهادة الزّور لِما يترتّب عليها من المفاسد وإن كانت مراتبها متفاوتة، وضابط الزّور وصف الشّيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشّهادة فيختصّ بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه " لابس ثوبي زور " (¬1) , ومنه تسمية الشّعر الموصول زوراً كما في البخاري. وتقدّم بيان الاختلاف في المراد بقوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزّور} , وأنّ الرّاجح أنّ المراد به في الآية الباطل , والمراد لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5219) ومسلم (2130) من حديث أسماء، أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن لي ضرةً، فهل عليَّ جناح إن تشبَّعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المُتشبِّع بما لَم يعط كلابس ثوبي زور.

يحضرونه. وفيه التّحريض على مجانبة كبائر الذّنوب ليحصل تكفير الصّغائر بذلك كما وعد الله عزّ وجل. وفيه إشفاق التّلميذ على شيخه إذا رآه منزعجاً , وتمنّي عدم غضبه لِما يترتّب على الغضب من تغيّر مزاجه. والله أعلم.

الحديث السادس

الحديث السادس 378 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يُعطى الناس بدعواهم، لادّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهم، ولكن اليمين على المُدّعى عليه. (¬1) قوله: (ولكن اليمين على الْمدّعى عليه) أخرجه البخاري ومسلم مختصراً من طريق نافع بن عمر الجمحيّ عن ابن أبي مُلَيْكة عن ابن عباس , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين على المدّعى عليه. وأخرجه البخاري من طريق ابن جريجٍ عن ابن أبي مُلَيْكة. مثله، وذكر فيه قصّة المرأتين اللتين ادّعت إحداهما على الأخرى أنّها جرحَتْها (¬2). وقد أخرجه الطّبرانيّ من رواية سفيان عن نافع بن عمر (¬3) بلفظ " البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه " وقال: لَم يروه عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4277) ومسلم (1711) من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس - رضي الله عنه - به. واللفظ لمسلم. وذكر البخاري سبب الحديث. كما سيذكر الشارح. وأخرجه البخاري (2379 , 2524) ومسلم (1711) من طريق نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة به مختصراً. (¬2) وتمامه " فادَّعت على الأخرى، فرُفع إلى ابن عباس، فقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو يُعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم، ذكّروها بالله , واقرءوا عليها: {إن الذين يشترون بعهد الله} [آل عمران: 77] فذكّروها فاعترفت، فقال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اليمين على المدعى عليه. (¬3) وقع في المطبوع. نافع عن ابن عمر وهو خطأ.

سفيان إلَّا الفريابيّ. وأخرجه الإسماعيليّ من رواية ابن جريجٍ بلفظ " ولكنّ البيّنة على الطّالب واليمين على المطلوب ". وأخرجه البيهقيّ من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريجٍ وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مُلَيْكة , قال: كنت قاضياً لابن الزّبير على الطّائف، فذكر قصّة المرأتين، فكتبت إلى ابن عبّاس، فكتب إليّ: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر. وهذه الزّيادة ليست في الصّحيحين، وإسنادها حسن. وقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كون البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لو يُعطى النّاس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم. وقال العلماء: الحكمة في ذلك لأنّ جانب المدّعي ضعيف , لأنّه يقول خلاف الظّاهر فكلف الحجّة القويّة وهي البيّنة , لأنّها لا تجلب لنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضرراً فيقوى بها ضعف المدّعي، وجانب المدّعى عليه قويّ , لأنّ الأصل فراغ في ذمّته فاكتفي منه باليمين وهي حجّة ضعيفة , لأنّ الحالف يجلب لنفسه النّفع ويدفع الضّرر , فكان ذلك في غاية الحكمة. واختلف الفقهاء في تعريف المدّعي والمدّعى عليه، والمشهور فيه تعريفان:

الأوّل: المدّعي من يخالف قوله الظّاهر والمدّعى عليه بخلافه. الثّاني: مَن إذا سكت تُرك وسكوته , والمدّعى عليه من لا يخلى إذا سكت. والأوّل أشهر، والثّاني أسلم. وقد أُورد على الأوّل بأنّ المودع إذا ادّعى الرّدّ أو التّلف فإنّ دعواه تخالف الظّاهر، ومع ذلك فالقول قوله. وقيل: في تعريفهما: غير ذلك. القول الأول: استدل بقوله " اليمين على المدّعى عليه " للجمهور بحمله على عمومه في حقّ كلّ واحد. سواء كان بين المدّعي والمدّعى عليه , اختلاط أم لا. القول الثاني: عن مالك: لا تتوجّه اليمين إلَّا على مَن بينه وبين المدّعي اختلاط , لئلا يبتذل أهلُ السّفه أهلَ الفضل بتحليفهم مراراً. القول الثالث: قريبٌ من مذهب مالك. قول الإصطخريّ من الشّافعيّة: إنّ قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدّعي لَم يُلتفت إلى دعواه. واستُدل بقوله " لادّعى ناس دماء ناس وأموالهم " على إبطال قول المالكيّة في التّدمية، ووجه الدّلالة تسويته - صلى الله عليه وسلم - بين الدّماء والأموال. وأجيب: بأنّهم لَم يسندوا القصاص مثلاً إلى قول المدّعي بل للقسامة، فيكون قوله ذلك لوثاً يقوّي جانب المدّعي في بداءته بالأيمان.

تكميل: ذهب الشّافعيّ والجمهور: إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنّكاح ونحوه. واستثنى مالك: النّكاح والطّلاق والعتاق والفدية , فقال: لا يجب في شيء منها اليمين حتّى يقيم المدّعي البيّنة ولو شاهداً واحداً. وخصّ الكوفيّون: اليمين على المدّعى عليه في الأموال دون الحدود.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة الحديث الأول 379 - عن النّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول. وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: إنّ الحلال بيّنٌ، وإنّ الحرام بيّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأَ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أنْ يرتعَ فيه، أَلَا وإنَّ لكل ملكٍ حمىً، أَلا وإنَّ حمى الله محارمُه، أَلَا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحتْ صلح الجسد كلّه، وإذا فسدتْ فسد الجسد كلّه، أَلا وهي القلب. (¬1) قوله: (النعمان بن بشير). ولأبي عوانة في " صحيحه " من طريق أبي حريز - وهو بفتح الحاء المهملة وآخره زاي - عن الشّعبيّ , أنّ النّعمان بن بشير خطب به بالكوفة , وقد دخل النّعمان الكوفة وولي إِمْرتها , وفي رواية لمسلمٍ , أنّه خطب به بحمص. ويجمع بينهما: بأنّه سمع منه مرّتين، فإنّه ولي إمرة البلدين واحدة بعد أخرى. قوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول , وأهوى النعمان بإصبعيه إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (52 , 1946) ومسلم (1559) من طريق زكرياء عن الشعبي عن النعمان - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم. وأخرجه مسلم (1559) من طرق أخرى عن الشعبي نحوه.

أذنيه) زادها مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا. وفي هذا ردّ لقول الواقديّ ومن تبعه: إنّ النّعمان لا يصحّ سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على صحّة تحمّل الصّبيّ المميّز , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مات وللنّعمان ثمان سنين، وزكريّاء موصوف بالتّدليس , ولَم أره في الصّحيحين وغيرهما من روايته عن الشّعبيّ إلَّا معنعناً. ثمّ وجدته في " فوائد ابن أبي الهيثم " من طريق يزيد بن هارون عن زكريّاء حدّثنا الشّعبيّ، فحصل الأمن من تدليسه. تكمِلةٌ: توارد أكثر الأئمّة المخرّجين له على إيراده في كتاب البيوع , لأنّ الشّبهة في المعاملات تقع فيها كثيراً، وله تعلّقٌ أيضاً بالنّكاح وبالصّيد والذّبائح والأطعمة والأشربة وغير ذلك ممّا لا يخفى. والله المستعان. فائدة: ادّعى أبو عمرو الدّانيّ: أنّ هذا الحديث لَم يروه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غير النّعمان بن بشير. فإن أراد من وجه صحيح فمُسلَّمٌ، وإلَّا فقد روّيناه من حديث ابن عمر وعمّار في " الأوسط " للطّبرانيّ، ومن حديث ابن عبّاس في " الكبير " له، ومن حديث واثلة في " التّرغيب " للأصبهانيّ، وفي أسانيدها مقال. وادّعى أيضاً أنّه لَم يروه عن النّعمان غير الشّعبيّ. وليس كما قال، فقد رواه عن النّعمان أيضاً خيثمة بن عبد الرّحمن

عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب عند الطّبرانيّ. لكنّه مشهور عن الشّعبيّ. رواه عنه جمع جمٌّ من الكوفيّين، ورواه عنه من البصريّين عبد الله بن عون، وقد ساق البخاريّ إسناده في البيوع. ولَم يسق لفظه , فأخرجه أبو داود والنّسائيّ وغيرهما بلفظ " إنّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن , وبينهما أمور مشتبهات - وأحياناً يقول: مشتبهةٌ - وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: إنّ الله حمى حمىً، وإنّ حمى الله ما حرّم، وأنّه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه، وأنّه من يخالط الرّيبة يوشك أن يجسر ". قوله: (الحلال بيّن والحرام بيّن) أي: في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظّاهرة. وفيه تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيح: الأوّل: أنّ الشّيء إمّا أن ينصّ على طلبه مع الوعيد على تركه، فهو الحلال البيّن. الثّاني: أن ينصّ على تركه مع الوعيد على فعله، فهو الحرام البيّن. فمعنى قوله " الحلال بيّن " أي لا يحتاج إلى بيانه , ويشترك في معرفته كلّ أحدٍ. الثالث: أن لا ينصّ على واحدٍ منهما , فهو مشتبهٌ لخفائه فلا يدرى هل هو حلال أو حرام، وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه , لأنّه إن كان في نفس الأمر حراماً فقد برئ من تبعتها , وإن كان حلالاً فقد

أجر على تركها بهذا القصد , لأنّ الأصل في الأشياء مختلفٌ فيه حظراً وإباحةً. والأوّلان قد يردان جميعاً , فإن علم المتأخّر منهما , وإلا فهو من حيّز القسم الثّالث. قوله: (وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ) بوزن مفتعلات بتاءٍ مفتوحة وعين خفيفة مكسورة , والمعنى أنّها موحّدة اكتسبت الشّبه من وجهين متعارضين. وللبخاري " وبينهما مشبّهات " بوزن مفعّلات بتشديد العين المفتوحة , وهي رواية مسلم، أي: شبّهت بغيرها ممّا لَم يتبيّن به حكمها على التّعيين. ورواه الدّارميّ عن أبي نعيمٍ - شيخ البخاريّ فيه - عن زكريّاء بلفظ " وبينهما متشابهات ". قوله: (لا يعلمهنّ كثير من النّاس) أي: لا يعلم حكمها. وجاء واضحاً في رواية التّرمذيّ بلفظ " لا يدري كثيرٌ من النّاس أمن الحلال هي أم من الحرام ". ومفهوم قوله " كثير " أنّ معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من النّاس وهم المجتهدون، فالشّبهات على هذا في حقّ غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدّليلين. قوله: (فمن اتّقى الشّبهات) بالضّمّ جمع شبهة. أي: حذر منها كذا عند مسلم والإسماعيليّ " الشّبهات " وللبخاري " المشبّهات "

والاختلاف في لفظها بين الرّواة نظير التي قبلها. قوله: (استبرأ) بالهمز بوزن استفعل من البراءة، أي: برّأ دينه من النّقص وعرضه من الطّعن فيه؛ لأنّ من لَم يعرف باجتناب الشّبهات لَم يسلم لقول من يطعن فيه. وفيه دليل على أنّ من لَم يتوقّ الشّبهة في كسبه ومعاشه فقد عرّض نفسه للطّعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدّين ومراعاة المروءة. قوله: (ومن وقع في الشّبهات) فيها أيضاً ما تقدّم من اختلاف الرّواة. واختلف في حكم الشّبهات. فقيل: التّحريم، وهو مردود. وقيل: الكراهة، وقيل: الوقف. وهو كالخلاف فيما قبل الشّرع. وحاصل ما فسّر به العلماء الشّبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة كما تقدّم. ثانيها: اختلاف العلماء , وهي منتزعة من الأولى. ثالثها: أنّ المراد بها مسمّى المكروه , لأنّه يجتذبه جانبا الفعل والتّرك. رابعها: أنّ المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطّرفين من كلّ وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطّرفين باعتبار ذاته، راجح

الفعل أو التّرك باعتبار أمر خارج. ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القبّاريّ (¬1) عنه , أنّه كان يقول: المكروه عَقَبةٌ بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرّق إلى الحرام، والمباح عَقَبةٌ بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرّق إلى المكروه. وهو منزعٌ حسنٌ. ويؤيّده رواية ابن حبّان من طريقٍ ذكَرَ مُسلمٌ إسنادها , ولَم يسق لفظها , فيها من الزّيادة: اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه. والمعنى أنّ الحلال حيث يخشى أن يئول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرّم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلاً من الطّيّبات، فإنّه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحقّ أو يفضي إلى بطر النّفس، وأقلّ ما فيه الاشتغال عن مواقف العبوديّة، وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان. والذي يظهر لي رجحان الوجه الأوّل على ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كلّ من الأوجه مراداً. ويختلف ذلك باختلاف النّاس: فالعالِم الفطن لا يخفى عليه تمييز ¬

_ (¬1) بالفتح وتشديد الموحدة. القدوة الزاهد أحمد أبو القاسم بن منصور الاسكندراني، توفي سنة 662، وقد أسنَّ. تبصير المنتبه (3/ 1153) لابن حجر.

الحكم فلا يقع له ذلك إلَّا في الاستكثار من المباح أو المكروه. كما تقرّر قبل، ودونه تقع له الشّبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال. ولا يخفى أنّ المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهيّ في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهيّ غير المحرّم على ارتكاب المنهيّ المحرّم إذا كان من جنسه. أو يكون ذلك لشبهةٍ فيه , وهو أنّ من تعاطى ما نُهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع , فيقع في الحرام ولو لَم يختر الوقوع فيه. ووقع عند البخاري من رواية أبي فروة عن الشّعبيّ في هذا الحديث " فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم كان لِما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما يشكّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ". وهذا يرجّح الوجه الأوّل كما أشرت إليه. وأبو فروة المذكور هو الأكبر. واسمه عروة بن الحارث الهمدانيّ الكوفيّ، ولهم أبو فروة الأصغر الجهنيّ الكوفيّ. واسمه مسلم بن سالمٍ , ما له في البخاريّ سوى حديث واحدٍ في أحاديث الأنبياء. تنْبيهٌ: استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي الاستدلال بذلك نظر، إلَّا إن أراد به أنّه مجمل في حقّ بعض دون بعض، أو أراد الرّدّ على منكري القياس فيحتمل ما قال. والله أعلم. قوله: (وقع في الحرام كالراعي يرعى) وللبخاري " ومن وقع في

الشّبهات كراعٍ يرعى " , هكذا في جميع نسخ البخاريّ محذوف جواب الشّرط إن أعربت " من " شرطيّة. وقد ثبت المحذوف في رواية الدّارميّ عن أبي نعيمٍ - شيخ البخاريّ فيه - عن زكريّاء فقال " ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى ". ويمكن إعراب " مَن " في سياق البخاريّ موصولة فلا يكون فيه حذف، إذ التّقدير والذي وقع في الشّبهات مثل راعٍ يرعى. والأوّل أولى. لثبوت المحذوف في صحيح مسلم وغيره من طريق زكريّا التي أخرجه منها البخاري، وعلى هذا فقوله " كراعٍ يرعى " جملة مستأنفة وردت على سبيل التّمثيل للتّنبيه بالشّاهد على الغائب , والحمى المحميّ، أطلق المصدر على اسم المفعول. وفي اختصاص التّمثيل بذلك نكتة، وهي أنّ ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصّة يتوعّدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشّديدة، فمثّل لهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما هو مشهور عندهم. فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له ولو اشتدّ حذره. وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد الفاذّة فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه. فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقّاً، وحماه محارمه.

تنْبيهٌ: ادّعى بعضهم أنّ التّمثيل من كلام الشّعبيّ، وأنّه مدرج في الحديث، حكى ذلك أبو عمرو الدّانيّ. ولَم أقف على دليله إلَّا ما وقع عند ابن الجارود والإسماعيليّ من رواية ابن عون عن الشّعبيّ، قال ابن عون في آخر الحديث: لا أدري المثل من قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو من قول الشّعبيّ. قلت: وتردُّدُ ابنِ عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجاً؛ لأنّ الأثبات قد جزموا باتّصاله ورفعه، فلا يقدح شكّ بعضهم فيه. وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرّواة - كأبي فروة عن الشّعبيّ - لا يقدح فيمن أثبته؛ لأنّهم حفّاظ. ولعل هذا هو السّرّ في حذف البخاريّ قوله " وقع في الحرام " ليصير ما قبل المثل مرتبطاً به فيسلم من دعوى الإدراج. وممّا يقوّي عدم الإدراج رواية ابن حبّان الماضية، وكذا ثبوت المثل مرفوعاً في رواية ابن عبّاس وعمّار بن ياسر أيضاً. قوله: (ألا وإن لكل ملكٍ حِمى، أَلَا وإنَّ حِمى الله محارمه) وللبخاري " ألا وإنّ حمى الله في أرضه ". والمراد بالمحارم فعل المنهيّ المحرّم أو ترك المأمور الواجب، ولهذا وقع في رواية أبي فروة عن الشعبي عند البخاري التّعبير بالمعاصي بدل المحارم. وقوله " ألا " للتّنبيه على صحّة ما بعدها، وفي إعادتها وتكريرها دليل على عظم شأن مدلولها.

قوله: (مضغة) أي: قدر ما يمضغ، وعبّر بها هنا عن مقدار القلب في الرّؤية، وسمّي القلب قلباً لتقلّبه في الأمور، أو لأنّه خالص ما في البدن، وخالص كلّ شيء قلبه، أو لأنّه وضع في الجسد مقلوباً. وقوله: (إذا صلحت .. وإذا فسدت) هو بفتح عينهما وتضمّ في المضارع. وحكى الفرّاء , الضّمّ في ماضي صلح، وهو يضمّ وفاقاً إذا صار له الصّلاح هيئة لازمة لشرفٍ ونحوه، والتّعبير بإذا لتحقّق الوقوع غالباً، وقد تأتي بمعنى إن كما هنا. وخصّ القلب بذلك لأنّه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرّعيّة، وبفساده تفسد. وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحثّ على صلاحه، والإشارة إلى أنّ لطيب الكسب أثراً فيه. والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركّبه الله فيه. ويستدلّ به على أنّ العقل في القلب، ومنه قوله تعالى {فتكون لهم قلوب يعقلون بها}. وقوله تعالى {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}. قال المفسّرون: أي: عقْل. وعبّر عنه بالقلب لأنّه محلّ استقراره. فائدة: لَم تقع هذه الزّيادة التي أوّلها " ألا وإنّ في الجسد مضغة " إلَّا في رواية الشّعبيّ، ولا هي في أكثر الرّوايات عن الشّعبيّ، إنّما تفرّد بها في الصّحيحين زكريّا المذكور عنه، وتابعه مجاهد عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطّبرانيّ.

وعبّر في بعض رواياته عن الصّلاح والفساد بالصّحّة والسّقم، ومناسبتها لِما قبلها بالنّظر إلى أنّ الأصل في الاتّقاء والوقوع هو ما كان بالقلب؛ لأنّه عماد البدن. وقد عظّم العلماء أمر هذا الحديث فعدّوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبى داود، وفيه البيتان المشهوران وهما: عمدة الدّين عندنا كلمات مـ ... سندات من قول خير البريّه اترك المشبهات وازهد ودع ... ما ليس يعنيك واعملن بنيّه (¬1) والمعروف عن أبي داود عدّ " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه .. الحديث " (¬2) بدل " ازهد فيما في أيدي النّاس " (¬3) وجعله بعضُهم ثالثَ ثلاثة حذف الثّاني. وأشار ابن العربيّ: إلى أنّه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام. قال القرطبيّ: لأنّه اشتمل على التّفصيل بين الحلال وغيره، وعلى ¬

_ (¬1) حديث النية هو حديث عمر المتقدِّم برقم (1). أمَّا حديث (ودع ما ليس يعنيك) فأخرجه مالك في " الموطأ " (3350) وأحمد (3/ 259) والترمذي (2317) وابن ماجة (3976) وغيرهم. (¬2) أخرجه البخاري (6585) ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً " دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. (¬3) أخرجه ابن ماجه (4102) والحاكم (4/ 348) من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ازهد في الدنيا يُحبّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يُحبّك الناس.

تعلّق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن تردّ جميع الأحكام إليه. وفي الحديث دليلٌ على جواز الجرح والتّعديل. قاله البغويّ في " شرح السّنّة " واستنبط منه بعضهم منع إطلاق الحلال والحرام على ما لا نصَّ فيه , لأنّه من جملة ما لَم يستبن. لكنّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يعلمها كثيرٌ من النّاس. يشعر بأنّ منهم من يعلمها.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 380 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: أنفجنا أرنباً بِمرّ الظّهران، فسعى القوم فلَغِبوا، وأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة، فذبحها، وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوركها أو فخذيها فقبله. (¬1) قال المُصنِّف: لغبوا: تعبوا وأعيوا قوله: (أنفجنا) بفاءٍ مفتوحة وجيم ساكنة. أي: أثرنا. وفي رواية مسلم " استنفجنا " وهو استفعال منه، يقال: نفج الأرنب إذا ثار وعدا، وانتفج كذلك، وأنفجته إذا أثّرته من موضعه. ويقال: إنّ الانتفاج الاقشعرار , فكأنّ المعنى جعلناها بطلبنا لها تنتفج، والانتفاج أيضاً ارتفاع الشّعر وانتفاشه. ووقع في شرح مسلم للمازريّ " بعجنا " بموحّدةٍ وعين مفتوحة، وفسّره بالشّقّ من بعج بطنه إذا شقّه. وتعقّبه عياض: بأنّه تصحيف، وبأنّه لا يصحّ معناه من سياق الخبر , لأنّ فيه أنّهم سعوا في طلبها بعد ذلك، فلو كان شقّوا بطنها. كيف كانوا يحتاجون إلى السّعي خلفها؟. قوله: (أرنباً) دويبّة معروفة تشبه العناق , لكن في رجليها طول بخلاف يديها، والأرنب اسم جنس للذّكر والأنثى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2433 , 5171 , 2515) ومسلم (1953) من طريق شعبة عن هشام بن زيد عن أنس - رضي الله عنه -.

ويقال للذّكر أيضاً: الْخُزَز وزن عمر بمعجماتٍ. وللأنثى عكرشة، وللصّغير خِرنق - بكسر المعجمة وسكون الرّاء وفتح النّون بعدها قاف - هذا هو المشهور. وقال الجاحظ: لا يقال أرنب إلَّا للأنثى، ويقال: إنّ الأرنب شديدة الجبن كثيرة الشّبق , وأنّها تكون سنة ذكراً وسنة أنثى وأنّها تحيض، وسأذكر من خرّجه، ويقال: إنّها تنام مفتوحة العين. قوله: (بمرّ الظّهران) مرّ بفتح الميم وتشديد الرّاء، والظّهران بفتح المعجمة بلفظ تثنية الظّهر، اسم موضع على مرحلة من مكّة. وقد يسمّى بإحدى الكلمتين تخفيفاً، وهو المكان الذي تسمّيه عوامّ المصريّين بطن مرو. والصّواب مرّ بتشديد الرّاء. وهو وادٍ معروف على خمسة أميال من مكّة إلى جهة المدينة. وقد ذكر الواقديّ. أنّه من مكّة على خمسة أميال. وزعم ابن وضّاح , أنّ بينهما أحداً وعشرين ميلاً. وقيل: ستّة عشر , وبه جزم البكريّ. قال النّوويّ: والأوّل غلط وإنكار للمحسوس. ومرّ قرية ذات نخل وزرع ومياه. قلت: وقول البكريّ هو المعتمد. والله أعلم. قوله: (فسعى القوم فلغبوا) بمعجمةٍ وموحّدة. أي: تعبوا وزنه ومعناه، ووقع بلفظ " تعبوا " في رواية الكشميهنيّ.

وأغرب الدّاوديّ، فقال: معناه عطشوا. وتعقّبه ابن التّين. وقال: ضبطوا لغبوا بكسر الغين , والفتح أعرف. قوله: (فأخذتها) زاد البخاري " فأدركتها فأخذتها " , ولمسلمٍ " فسعيت حتّى أدركتها ". ولأبي داود من طريق حمّاد بن سلمة عن هشام بن زيد عن أنس " وكنت غلاماً حزوّراً " وهو بفتح المهملة والزّاي والواو المشدّدة بعدها راء , ويجوز سكون الزّاي وتخفيف الواو , وهو المراهق. قوله: (إلى أبي طلحة) هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام - وهو بمهملتين - الأنصاري الخزرجي النجاري، زوج أم سليم والدة أنس. روى ابن سعد والحاكم وغيرهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس " أنَّ أبا طلحة قرأ {انفروا خفافاً وثقالاً} فقال: استنفرنا الله شيوخاً وشباناً جهّزوني، فقال له بنوه: نحن نغزو عنك، فأبى فجهزوه، فغزا في البحر فمات، فدفنوه بعد سبعة أيام. ولم يتغير. وأقام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً أو أربعاً وعشرين سنة. قوله: (فذبحها) زاد في رواية الطّيالسيّ " بمروة " , وزاد في رواية حمّاد المذكورة " فشويتها ". قوله: (فبعث بوركها أو فخذيها) وللبخاري " بوركيها أو فخذيها " وله من طريق شعبة عن هشام بن زيد " قال: فخذيها لا

شكّ فيه , قال: فقِبَله، قلت: وأكل منه؟ قال: وأكل منه، ثمّ قال بعد: قَبِلَه ". يشير إلى أنّه يشكّ في الوركين خاصّة، وأنّ الشّكّ في قوله: " فخذيها أو وركيها " ليس على السّواء، أو كان يشكّ في الفخذين ثمّ استيقن، وكذلك شكّ في الأكل ثمّ استيقن القبول , فجزم به آخراً. ووقع في رواية حمّاد " بعجزها ". قوله: (فَقَبِلَها) أي: الهديّة، وتقدّم في رواية شعبة " قلت: وأكل منه؟ قال: وأكل منه. ثمّ قال: فقبله " , وللتّرمذيّ من طريق أبي داود الطّيالسيّ فيه " فأكله، قلت: أكله؟ قال: قبله ". وهذا التّرديد لهشام بن زيد وقّف جدّه أنساً على قوله " أكله " , فكأنّه توقّف في الجزم به , وجزم بالقبول. وقد أخرج الدّارقطنيّ من حديث عائشة: أُهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرنب وأنا نائمة فخبّأ لي منها العجز، فلمّا قمت أطعمني. وهذا لو صحّ لأشعر بأنّه أكل منها، لكن سنده ضعيف. ووقع في " الهداية " للحنفيّة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أكل من الأرنب حين أهدي إليه مشويّاً وأمر أصحابه بالأكل منه. وكأنّه تلقّاه من حديثين: فأوّله من حديث الباب وقد ظهر ما فيه. والآخر من حديث أخرجه النّسائيّ من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة: جاء أعرابيّ إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأرنبٍ قد شواها فوضعها بين يديه، فأمسك. وأمر أصحابه أن يأكلوا.

ورجاله ثقات، إلَّا أنّه اختُلف فيه على موسى بن طلحة اختلافاً كثيراً. وفي الحديث جواز أكل الأرنب , وهو قول العلماء كافّة. إلَّا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمر من الصّحابة , وعن عكرمة من التّابعين , وعن محمّد بن أبي ليلى من الفقهاء. واحتجّ: بحديث خزيمة بن جزء , قلت: يا رسولَ الله، ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله ولا أحرّمه، قالت: فإنّي آكل ما لا تحرّمه. ولِمَ يا رسولَ الله؟ قال: نبّئت أنّها تدمى. وسنده ضعيف. ولو صحّ. لَم يكن فيه دلالة على الكراهة. كما سيأتي تقريره بعد (¬1). وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ: جيء بها إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يأكلها , ولَم ينه عنها , زعم أنّها تحيض. أخرجه أبو داود. وله شاهد عن عمر عند إسحاق بن راهويه في " مسنده ". وحكى الرّافعيّ عن أبي حنيفة أنّه حرّمها، وغلَّطه النّوويّ في النّقل عن أبي حنيفة. وفي الحديث أيضاً جواز استثارة الصّيد والغدوّ في طلبه. وأمّا ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ من حديث ابن عبّاس رفعه: من اتّبع الصّيد غفل. فهو محمول على من واظب على ذلك حتّى يشغله عن غيره من المصالح الدّينيّة وغيرها. وفيه أنّ آخذ الصّيد يملكه بأخذه ولا يشاركه من أثاره معه. ¬

_ (¬1) في شرح حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في الضب برقم (388)

وفيه هديّة الصّيد وقبولها من الصّائد , وإهداء الشّيء اليسير الكبير القدر إذا علم من حاله الرّضا بذلك. وفيه أنّ وليّ الصّبيّ يتصرّف فيما يملكه الصّبيّ بالمصلحة. وفيه استثبات الطّالب شيخه عمّا يقع في حديثه ممّا يحتمل أنّه يضبطه كما وقع لهشام بن زيد مع أنس - رضي الله عنه -.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 381 - عن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالت: نَحرْنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرساً، فأكلناه. (¬1) وفي رواية: ونحن في المدينة. (¬2) قوله: (عن أسماء بنت أبي بكرٍ) الصدّيق. (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5191 , 5193 , 5200) ومسلم (1942) من طرق عن هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن أسماء رضي الله عنها. (¬2) أخرجه البخاري (5192) من رواية عبدة عن هشام بن عروة به. (¬3) والدة عبد الله بن الزبير بن العوام التيمية , وهي بنت أبي بكر الصديق. وأمها قتلة أو قتيلة بنت عبد العزي قرشية من بني عامر بن لؤي أسلمت قديماً بمكة. قال ابن إسحاق: بعد سبعة عشر نفساً , وتزوجها الزبير بن العوام , وهاجرتْ وهي حامل منه بولده عبد الله فوضعته بقباء , وعاشت إلى أن ولِي ابنُها الخلافة , ثم إلى أنْ قُتل , وماتت بعده بقليل , وكانت تلقب ذات النطاقين. قال أبو عمر: سَمَّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأنها هيأت له لَمَّا أراد الهجرة سفرةً فاحتاجت إلى ما تشدّها به فشقَّت خمارها نصفين فشدَّت بنصفه السفرة واتخذت النصف الآخر منطقاً. قال: كذا ذكر ابن إسحاق وغيره قلت: وأصل القصة في صحيح مسلم. دون التصريح برفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن السكن من طريق أبي المحياة يحيى بن يعلى التيمي عن أبيه. قال: دخلتُ مكة بعد أنْ قُتل ابنُ الزبير فرأيته مصلوباً , ورأيت أمَّه أسماء عجوزاً طوالة مكفوفة فدخلتْ حتى وقفتْ على الحجاج , فقالت: أما آن لهذا الراكب أنْ ينزل , قال: المنافق. قالت: لا والله ما كان منافقاً , وقد كان صواماً قواماً. قال: اذهبي فإنكِ عجوز قد خرفت. فقالت: لا والله ما خرفت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يخرج في ثقيف كذاب ومُبير. فأما الكذَّاب فقد رأيناه , وأما المُبير فأنت هو. فقال الحجاج: منه المنافقون. وأخرج ابن سعد بسند حسن عن ابن أبي مليكة: كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي. وما يغفر الله أكثر. وقال هشام بن عروة عن أبيه: بلغتْ أسماء مائة سنة لم يسقط لها سنٌّ , ولم يُنكر لها عقل. وقال أبو نعيم الأصبهاني: ولدت قبل الهجرة بـ 27 سنة , وعاشت إلى أوائل سنة 24 , قيل: عاشت بعد ابنها 20 يوماً , وقيل غير ذلك. من الإصابة بتجوز. (7/ 486)

قوله: (نَحرْنا) أورده البخاري من رواية سفيان الثّوريّ , ومن رواية جرير كلاهما عن هشام بن عروة موصولاً بلفظ " نحرنا " , وقال في آخره: تابعه وكيع وابن عيينة عن هشام في النّحر. وأورده أيضاً من رواية عبدة - وهو ابن سليمان - عن هشام بلفظ " ذبحنا " ورواية ابن عيينة التي أشار إليها. وصلها البخاري من رواية الحميديّ عن سفيان - وهو ابن عيينة - به , وقال " نحرنا ". ورواية وكيع. أخرجها أحمد عنه بلفظ " نحرنا "، وأخرجها مسلم عن محمّد بن عبد الله بن نمير حدّثنا أبي وحفص بن غياث ووكيع ثلاثتهم عن هشام " بلفظ " نحرنا ". وأخرجه عبد الرّزّاق عن معمر والثّوريّ جميعاً عن هشام بلفظ " نحرنا ". وقال الإسماعيليّ: قال همّام وعيسى بن يونس وعليّ بن مسهر عن هشام بلفظ " نحرنا " , واختلف على حمّاد بن زيد وابن عيينة , فقال أكثر أصحابهما " نحرنا " وقال بعضهم " ذبحنا ". وأخرجه الدّارقطنيّ من رواية مؤمّل بن إسماعيل عن الثّوريّ ووهيب بن خالد , ومن رواية ابن ثوبان - وهو عبد الرّحمن بن ثابت بن ثوبان - , ومن رواية يحيى القطّان كلّهم عن هشام بلفظ " ذبحنا " ,

ومن رواية أبي معاوية عن هشام " انتحرنا " , وكذا أخرجه مسلم من رواية أبي معاوية وأبي أسامة , ولَم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة عنهما بلفظ " نحرنا ". وهذا الاختلاف كلّه عن هشام. وفيه إشعار بأنّه كان تارة يرويه بلفظ " ذبحنا " وتارة بلفظ " نحرنا " , وهو مصير منه إلى استواء اللفظين في المعنى، وأنّ النّحر يطلق عليه ذبح والذّبح يطلق عليه نحر. ولا يتعيّن مع هذا الاختلاف ما هو الحقيقة في ذلك من المجاز , إلَّا إن رجح أحد الطّريقين. وأمّا أنّه يُستفاد من هذا الاختلاف جواز نحر المذبوح وذبح المنحور كما قاله بعض الشّرّاح. فبعيدٌ، لأنّه يستلزم أن يكون الأمر في ذلك وقع مرّتين، والأصل عدم التّعدّد مع اتّحاد المخرج. وقد جرى النّوويّ على عادته في الحمل على التّعدّد , فقال بعد أن ذكر اختلاف الرّواة في قولها نحرنا وذبحنا: يُجمع بين الرّوايتين بأنّهما قضيّتان، فمرّة نحروها ومرّة ذبحوها. ثمّ قال: ويجوز أن تكون قصّة واحدة. وأحد اللفظين مجاز والأوّل أصحّ. كذا قال. والله أعلم تكميل: النّحر في الإبل خاصّة، وأمّا غير الإبل فيذبح، وقد جاءت أحاديث في ذبح الإبل وفي نحر غيرها. وقال ابن التّين: الأصل في الإبل النّحر، وفي الشّاة ونحوها الذّبح،

وأمّا البقر فجاء في القرآن ذكر ذبحها وفي السّنّة ذكر نحرها. واختلف في ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح. فأجازه الجمهور. ومنع ابن القاسم. وروى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك: من نحر البقر فبئس ما صنع , ثم تلا {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. إلى .. فذبحوها وما كادوا يفعلون} وعن أشهب: إنْ ذبحَ بعيراً من غير ضرورة لم يؤكل. قوله: (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرساً فأكلناه) وفي رواية للدّارقطنيّ " فأكلناه نحن وأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قوله: (وفي رواية: ونحن في المدينة) يستفاد منه أنّ ذلك بعد فرض الجهاد، فيردّ على من استند إلى منع أكلها بعلة أنّها من آلات الجهاد. ومن قولها " نحن وأهل بيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " الرّدّ على من زعم أنّه ليس فيه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على ذلك، مع أنّ ذلك لو لَم يرد لَم يظنّ بآل أبي بكر أنّهم يقدمون على فعل شيء في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا وعندهم العلم بجوازه، لشدّة اختلاطهم بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفّر داعية الصّحابة إلى سؤاله عن الأحكام. ومن ثَمّ كان الرّاجح , أنّ الصّحابيّ إذا قال " كنّا نفعل كذا على عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " كان له حكم الرّفع، لأنّ الظّاهر اطّلاع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصّحابيّ. فكيف بآل أبي

بكر الصّدّيق؟. مسائل: المسألة الأولى: روى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء قال: الذبح قطع الأوداج، قلت: فذبح ذابحٌ، فلم يقطع أوداجها؟ قال: ما أراه إلَّا قد ذكاها، فليأكلها. قوله: والذبح قطع الأوداج. جمع ودَجَ بفتح الدال المهملة والجيم. وهو العرق الذي في الأخدع، وهما عرقان متقابلان. قيل: ليس لكل بهيمة غير ودجين فقط , وهما محيطان بالحلقوم، ففي الإتيان بصيغة الجمع نظر، ويمكن أن يكون أضاف كل ودجين إلى الأنواع كلها، هكذا اقتصر عليه بعض الشراح. وبقي وجه آخر. وهو أنه أطلق على ما يقطع في العادة ودجاً تغليباً. فقد قال أكثر الحنفية في كتبهم: إذا قطع من الأوداج الأربعة ثلاثة حصلت التذكية، وهما الحلقوم والمريء وعرقان من كل جانب. وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج أجزأ، فإن قطع أقلَّ فلا خير فيها. وقال الشافعي: يكفي ولو لم يقطع من الودجين شيئاً، لأنهما قد يسلان من الإنسان وغيره فيعيش. وعن الثوري: إن قطع الودجين أجزأ , ولو لم يقطع الحلقوم والمريء.

وعن مالك والليث: يشترط قطع الودجين والحلقوم فقط. واحتج له بما في حديث رافع " ما أنهر الدم " (¬1) وإنهاره إجراؤه، وذلك يكون بقطع الأوداج لأنها مجرى الدم. وأما المريء: فهو مجرى الطعام , وليس به من الدم ما يحصل به إنهار، كذا قال. المسألة الثانية: روى عبد الرزاق عن نافع , أنَّ ابن عمر نهى عن النخع , يقول: يقطع ما دون العظم , ثم يدع حتى يموت. قوله " النخع " بفتح النون وسكون الخاء المعجمة. فسره في الخبر بأنه قطع ما دون العظم. والنخاع: عرق أبيض في فقار الظهر إلى القلب، يقال له خيط الرقبة. وقال الشافعي: النخع أن تذبح الشاة ثم يكسر قفاها من موضع المذبح، أو تضرب ليعجل قطع حركتها. وأخرج أبو عبيد في " الغريب " عن عمر , أنه نهى عن الفرس في الذبيحة. ثم حكى عن أبي عبيدة , أنَّ الفرس هو النخع، يقال: فرست الشاة ونخعتها، وذلك أن ينتهي بالذبح إلى النخاع. وهو عظم في الرقبة. قال: ويقال أيضاً هو الذي يكون في فقار الصلب شبيه بالمخ , وهو ¬

_ (¬1) متفق عليه. وسيأتي إن شاء الله برقم (393).

متصل بالقفا، نهى أن ينتهى بالذبح إلى ذلك. قال أبو عبيد: أما النخع فهو على ما قال، وأما الفرس. فيقال هو الكسر، وإنما نهى أن تكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد. ويبين ذلك أن في الحديث " ولا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق ". قلت: يعني في حديث عمر المذكور، وكذا ذكره الشافعي عن عمر. المسألة الثالثة: روى أبو موسى الزَّمِن (¬1) من رواية أبي مجلز , سألت ابن عمر عن ذبيحة قطع رأسها، فأمر ابن عمر بأكلها. وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح , أنَّ ابن عباس سُئل عمن ذبح دجاجة فطيَّر رأسها. فقال: ذكاة وَحِية - بفتح الواو وكسر الحاء المهملة بعدها تحتانية ثقيلة - أي: سريعة، منسوبة إلى الوحاء , وهو الإسراع والعجلة. وروى ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس , أنَّ جزاراً لأنس ذبحَ دجاجةً فاضطربتْ فذبحها من قفاها فأطار رأسها، فأرادوا طرحها، فأمرهم أنس بأكلها. (¬2) ¬

_ (¬1) هو محمد بن المثنى العنزي. شيخ الشَّيخين. (¬2) هذه الآثار علَّقها البخاري في صحيحه " كتاب الذبائح والصيد " في 24 باب النحر والذبح.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 382 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحُمر الأهليّة، وأَذِن في لحوم الخيل. (¬1) ولمسلم وحده قال: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهليّ. (¬2) قوله: (نهى عن لحوم الحمر الأهليّة) أخرج البخاري من طريق سفيان، قال عمرٌو: قلت لجابر بن زيدٍ: يزعمون , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن حمر الأهليّة؟ فقال: قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرٍو الغفاريّ عندنا بالبصرة , ولكن أَبَى ذاك البحر ابن عبّاسٍ، وقرأ: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً}. وفي رواية ابن مردويه وصحَّحه الحاكم من طريق محمّد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشّعثاء عن ابن عبّاس , قال: كان أهل الجاهليّة يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذّراً , فبعث الله نبيّه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرّم حرامه، فما أحلَّ فيه فهو حلال، وما حرّم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو , وتلا هذه {قل لا أجد .... إلى آخرها}. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3982 , 5201 , 5204) ومسلم (1941) من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه مسلم (1941) من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله به.

والاستدلال بهذا للحلِّ إنّما يتمّ فيما لَم يأت فيه نصٌّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك , والتّنصيص على التّحريم مقدّم على عموم التّحليل وعلى القياس. وعن ابن عبّاس , أنّه توقّف في النّهي عن الحمر: هل كان لمعنىً خاصّ، أو للتّأييد؟. ففي البخاري عن الشّعبيّ عنه , أنّه قال: لا أدري أَنَهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنّه كان حمولة النّاس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرّمها البتّة يوم خيبر؟. وهذا التّردّد أصحّ من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة. وكذا فيما أخرجه الطّبرانيّ وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عبّاس قال: إنّما حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمر الأهليّة مخافة قلّة الظّهر. وسنده ضعيف. وفي البخاري في حديث ابن أبي أوفى (¬1) قال: فتحدّثنا أنّه إنّما نهى عنها لأنّها لَم تخمّس , وقال بعضهم: نَهى عنها لأنّها كانت تأكل العذرة. قلت: وقد أزال هذه الاحتمالاتِ من كونها لَم تخمّس , أو كانت جلالة , أو كانت انتُهبت , حديثُ أنس في الصحيحين , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه جاءٍ، فقال: أُكلت الحمر، ثمّ جاءه جاءٍ، فقال: أُكلت الحمر، ثمّ جاءه جاءٍ، فقال: أُفنيت الحمر، فأمر منادياً فنادى في النّاس: إنّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهليّة، فإنّها ¬

_ (¬1) هذه إحدى روايات حديث ابن أبي أوفي - رضي الله عنه - الآتي بعد هذا الحديث من العمدة.

رجسٌ , فأكفئت القدور، وإنّها لتفور باللحم. حيث قال " فإنها رجسٌ " وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة (¬1). قال القرطبيّ: قوله: " فإنّها رجس " ظاهر في عود الضّمير على الحمر لأنّها المتحدّث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجّس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دالٌّ على تحريمها لعينها لا لمعنىً خارج. وقال ابن دقيق العيد: الأمر بإكفاء القدر ظاهر أنّه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى. إن صحَّ رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يُعلّل الحكم بأكثر من عِلَّة، وحديث أبي ثعلبة (¬2) صريح في التّحريم فلا معدل عنه. وأمّا التّعليل بخشية قلة الظّهر. فأجاب عنه الطّحاويّ بالمعارضة بالخيل، فإنّ في حديث جابر النّهي عن الحمر والإذن في الخيل مقروناً، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزّتها وشدّة حاجتهم إليها. والجواب عن آية الأنعام: أنّها مكّيّة , وخبر التّحريم متأخّر جدّاً فهو مقدّم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " الصحيح " (5497) في كتاب المغازي عن سلمة بن الأكوع قال: لَمّا أمسوا يوم فتحوا خيبر أوقدوا النيران، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: علامَ أوقدتم هذه النيران؟ قالوا: لحوم الْحُمر الإنسية، قال: أهريقوا ما فيها، واكسروا قدورها , فقام رجلٌ من القوم، فقال: نهريق ما فيها ونغسلها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أو ذاك. (¬2) حديث أبي ثعلبة - رضي الله عنه - سيأتي شرحه إن شاء الله برقم (284).

وأيضاً: فنصّ الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنّه حينئذٍ لَم يكن نزل في تحريم المأكول إلَّا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضاً تحريم ما أهلّ لغير الله به والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السّباع والحشرات. قال النّوويّ: قال بتحريم الحمر الأهليّة أكثر العلماء من الصّحابة فمن بعدهم، ولَم نجد عن أحدٍ من الصّحابة في ذلك خلافاً لهم إلَّا عن ابن عبّاس، وعند المالكيّة ثلاث روايات. ثالثها الكراهة. وأمّا الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن أبجر , قال: أصابتنا سنة (¬1)، فلم يكن في مالي ما أُطعم أهلي إلَّا سمان الْحُمُر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنّك حرّمت لحوم الحمر الأهليّة وقد أصابتنا سنة، قال: أطعم أهلك من سمين حُمرك، فإنّما حرّمتها من أجل جوالي القرية. يعني الجلالة. وإسناده ضعيف، والمتن شاذّ مخالف للأحاديث الصّحيحة، فالاعتماد عليها. وأمّا الحديث الذي أخرجه الطّبرانيّ عن أمّ نصر المحاربيّة , أنّ رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهليّة , فقال: أليس ترعى الكلأ وتأكل الشّجر؟ قال: نعم، قال: فأصب من لحومها. ¬

_ (¬1) أي: الجدب والمجاعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرّة قال: سألت. فذكر نحوه، ففي السّندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التّحريم. قال الطّحاويّ: لو تواتر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الحمر الأهليّة لكان النّظر يقتضي حلّها , لأنّ كلّ ما حرّم من الأهليّ أجمع على تحريمه إذا كان وحشيّاً كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حلّ الحمار الوحشيّ فكان النّظر يقتضي حلّ الحمار الأهليّ. قلت: ما ادّعاه من الإجماع مردودٌ، فإنّ كثيراً من الحيوان الأهليّ مختلف في نظيره من الحيوان الوحشيّ كالهرّ. قوله: (وأذن في لحوم الخيل) وللبخاري " رخّص " بدل " أذن ". ولمسلم في رواية ابن جريجٍ عن أبي الزبير عن جابر: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهليّ , وفي حديث ابن عبّاس عند الدّارقطنيّ " أمر " قال الطّحاويّ: وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجّوا بالأخبار المتواترة في حلّها، ولو كان ذلك مأخوذاً من طريق النّظر لَما كان بين الخيل والحمر الأهليّة فرق، ولكنّ الآثار إذا صحّت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يقال بها ممّا يوجبه النّظر، ولا سيّما وقد أخبر جابر أنّه - صلى الله عليه وسلم - أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدلَّ ذلك على اختلاف حكمهما. قلت: وقد نقل الحلَّ بعضُ التّابعين عن الصّحابة من غير استثناء

أحدٍ، فأخرج ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح على شرط الشّيخين عن عطاء قال: لَم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريجٍ: قلت له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم. وأمّا ما نقل في ذلك عن ابن عبّاس من كراهتها , فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرّزّاق بسندين ضعيفين. ويدلّ على ضعف ذلك عنه ما تقدّم صحيحاً عنه أنّه استدل لإباحة الحمر الأهليّة بقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً} فإنّ هذا - إن صلح مستمسكاً لحل الحمر - صلح للخيل ولا فرق. وتقدّم فيه أيضاً أنّه توقّف في سبب المنع من أكل الحمر. هل كان تحريماً مؤبّداً. أو بسبب كونها كانت حمولة النّاس؟. وهذا يأتي مثله من الخيل أيضاً , فيبعد أن يثبت عنه القول بتحريم الخيل والقول بالتّوقّف في الحمر الأهليّة. بل أخرج الدّارقطنيّ بسندٍ قويّ عن ابن عبّاس مرفوعاً مثل حديث جابر , ولفظه: نهى رسول - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهليّة , وأمر بلحوم الخيل. وصحّ القول بالكراهة عن الحكم بن عتيبة ومالك وبعض الحنفيّة. وعن بعض المالكيّة والحنفيّة التّحريم. وقال الفاكهيّ: المشهور عند المالكيّة الكراهة، والصّحيح عند المحقّقين منهم التّحريم، وقال أبو حنيفة في " الجامع الصّغير ": أكره لحم الخيل. فحمله أبو بكر الرّازيّ على التّنزيه.

وقال: لَم يطلق أبو حنيفة فيه التّحريم , وليس هو عنده كالحمار الأهليّ، وصحّح عنه أصحاب المحيط والهداية والذّخيرة التّحريم، وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم: يأثم آكله , ولا يسمّى حراماً، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك المنع , وأنّه احتجّ بالآية الآتي ذكرها، وأخرج محمّد بن الحسن في " الآثار " عن أبي حنيفة بسندٍ له عن ابن عبّاس نحو ذلك. وقال القرطبيّ في " شرح مسلم ": مذهب مالك الكراهة، واستدلَّ له ابن بطّال بالآية. وقال ابن المنيّر: الشّبه الخلقيّ بينها وبين البغال والحمير ممّا يؤكّد القول بالمنع، فمن ذلك هيئتها وزهومة لحمها، وغلظه، وصفة أرواثها، وأنّها لا تجترّ، قال: وإذا تأكّد الشّبه الخلقيّ التحق بنفي الفارق وبعد الشّبه بالأنعام المتّفق على أكلها. انتهى. وقد تقدّم من كلام الطّحاويّ ما يؤخذ منه الجواب عن هذا. وقال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة: الدّليل في الجواز مطلقاً واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالباً في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله , ولو كثر لأدّى إلى قتلها فيفضي إلى فنائها فيئول إلى النّقص من إرهاب العدوّ الذي وقع الأمر به في قوله تعالى {ومن رباط الخيل}. قلت: فعلى هذا فالكراهة لسببٍ خارجٍ وليس البحث فيه، فإنّ الحيوان المتّفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى

ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه، وكذا قوله إنّ وقوع أكلها في الزّمن النّبويّ كان نادراً، فإذا قيل بالكراهة قلَّ استعماله فيوافق ما وقع قبل. انتهى. وهذا لا ينهض دليلاً للكراهة بل غايته أن يكون خلاف الأولى، ولا يلزم من كون أصل الحيوان حل أكله فناؤه بالأكل. وأمّا قول بعض المانعين: لو كانت حلالاً لجازت الأضحيّة بها. فمنتقض بحيوان البرّ , فإنّه مأكول ولَم تشرع الأضحيّة به، ولعل السّبب في كون الخيل لا تشرع الأضحيّة بها استبقاؤها , لأنّه لو شرع فيها جميع ما جاز في غيرها لفاتت المنفعة بها في أهمّ الأشياء منها , وهو الجهاد. وذكر الطّحاويّ وأبو بكر الرّازيّ وأبو محمّد بن حزم من طريق عكرمة بن عمّار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر والخيل والبغال. قال الطّحاويّ: وأهل الحديث يضعّفون عكرمة بن عمّار. قلت: لا سيّما في يحيى بن أبي كثير، فإنّ عكرمة - وإن كان مختلفاً في توثيقه - فقد أخرج له مسلم، لكن إنّما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير. وقد قال يحيى بن سعيد الّقطّان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة. وقال البخاريّ حديثه عن يحيى مضطرب. وقال النّسائيّ: ليس به

بأس إلَّا في يحيى. وقال أحمد: حديثه عن غير إياس بن سلمة مضطرب، وهذا أشدّ ممّا قبله، ودخل في عمومه يحيى بن أبي كثير أيضاً. وعلى تقدير صحّة هذه الطّريق فقد اختلف عن عكرمة فيها، فإنّ الحديث عند أحمد والتّرمذيّ من طريقه ليس فيه للخيل ذكرٌ، وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فالرّوايات المتنوّعة عن جابر المفصّلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتّصالاً , وأتقن رجالاً , وأكثر عدداً. وأعلَّ بعض الحنفيّة حديث جابر. بما نقله عن ابن إسحاق , أنّه لَم يشهد خيبر. وليس بعلةٍ , لأنّ غايته أن يكون مرسل صحابيّ. ومن حُجج من منع أكل الخيل. حديث خالد بن الوليد المخرّج في السّنن , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل. وتعقّب: بأنّه شاذّ منكر، لأنّ في سياقه أنّه شهد خيبر، وهو خطأ. فإنّه لَم يُسلم إلَّا بعدها على الصّحيح، والذي جزم به الأكثر. أنّ إسلامه كان سنة الفتح. والعمدة في ذلك على ما قال مصعب الزّبيريّ , وهو أعلم النّاس بقريشٍ قال: كتب الوليد بن الوليد إلى خالد حين فرّ من مكّة في عمرة القضيّة حتّى لا يرى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمكّة , فذكر القصّة في سبب إسلام خالد، وكانت عمرة القضيّة بعد خيبر جزماً. وأُعلّ أيضاً بأنّ في السّند راوياً مجهولاً، لكن قد أخرج الطّبريّ من

طريق يحيى بن أبي كثير عن رجل من أهل حمص قال: كنّا مع خالد، فذكر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرّم لحوم الحمر الأهليّة وخيلها وبغالها. وأُعل بتدليس يحيى وإبهام الرّجل. وادّعى أبو داود: أنّ حديث خالد بن الوليد منسوخ. ولَم يبيّن ناسخه. وكذا قال النّسائيّ: الأحاديث في الإباحة أصحّ، وهذا - إن صحّ - كان منسوخاً. وكأنّه لَمَّا تعارض عنده الخبران , ورأى في حديث خالد " نهى " , وفي حديث جابر " أَذِن " حمل الإذن على نسخ التّحريم. وفيه نظرٌ , لأنّه لا يلزم من كون النّهي سابقاً على الإذن أن يكون إسلام خالد سابقاً على فتح خيبر، والأكثر على خلافه , والنّسخ لا يثبت بالاحتمال. وقد قرّر الحازميّ النّسخ بعد أن ذكر حديث خالد , وقال: هو شاميّ المخرج، جاء من غير وجه بما ورد في حديث جابر من " رخّص " و " أذن " , لأنّه من ذلك يظهر أنّ المنع كان سابقاً والإذن متأخّراً فيتعيّن المصير إليه. قال: ولو لَم ترد هذه اللفظة لكانت دعوى النّسخ مردودة لعدم معرفة التّاريخ. انتهى. وليس في لفظ رخّص وأذن ما يتعيّن معه المصير إلى النّسخ، بل الذي يظهر أنّ الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصليّة، فلمّا نهاهم الشّارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خشي أن

يظنّوا أنّ الخيل كذلك لشبهها بها فأذن في أكلها دون الحمير والبغال. والرّاجح. أنّ الأشياء قبل بيان حكمها في الشّرع لا توصف لا بحلٍّ ولا حرمة. فلا يثبت النّسخ في هذا. ونقل الحازميّ أيضاً تقرير النّسخ بطريقٍ أخرى , فقال: إنّ النّهي عن أكل الخيل والحمير كان عامّاً من أجل أخذهم لها قبل القسمة والتّخميس، ولذلك أمر بإكفاء القدور، ثمّ بيّن بندائه بأنّ لحوم الحمر رجس أنّ تحريمها لذاتها، وأنّ النّهي عن الخيل إنّما كان بسبب ترك القسمة خاصّة. ويعكّر عليه: أنّ الأمر بإكفاء القدور إنّما كان بطبخهم فيها الحمر كما هو مصرّح به في الصّحيح لا الخيل , فلا يتمّ مراده. والحقّ: أنّ حديث خالد - ولو سُلِّم أنّه ثابت - لا ينهض معارضاً لحديث جابر الدّالّ على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. (¬1) وقد ضعّف حديثَ خالدٍ أحمدُ والبخاريّ وموسى بن هارون والدّارقطنيّ والخطّابيّ وابن عبد البرّ وعبد الحقّ وآخرون. وجمع بعضهم بين حديث جابر وخالد: بأنّ حديث جابر دالٌّ على الجواز في الجملة. وحديث خالد دالٌّ على المنع في حالة دون حالة، لأنّ الخيل في خيبر كانت عزيزة , وكانوا محتاجين إليها للجهاد، فلا يعارض النّهي المذكور، ولا يلزم وصف أكل الخيل بالكراهة المطلقة فضلاً عن التّحريم. ¬

_ (¬1) أي: الذي تقدّم في العمدة قبله.

وقد وقع عند الدّارقطنيّ في حديث أسماء " كانت لنا فرس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها ". وأجاب عن حديث أسماء: بأنّها واقعة عين. فلعلَّ تلك الفرس كانت كبرت بحيث صارت لا ينتفع بها في الجهاد , فيكون النّهي عن الخيل لمعنىً خارجٍ لا لذاتها، وهو جمع جيّد. وزعم بعضهم: أنّ حديث جابر في الباب دالٌّ على التّحريم لقوله " رخّص " لأنّ الرّخصة استباحة المخطور مع قيام المانع، فدلَّ على أنّه رخّص لهم فيها بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدلّ ذلك على الحلّ المطلق. وأجيب: بأنّ أكثر الرّوايات جاء بلفظ الإذن , وبعضها بالأمر , فدلَّ على أنّ المراد بقوله " رخّص " أذِنَ. لا خصوص الرّخصة باصطلاح من تأخّر عن عهد الصّحابة. ونوقض أيضاً: بأنّ الإذن في أكل الخيل لو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهليّة أولى بذلك لكثرتها وعزّة الخيل حينئذٍ. ولأنّ الخيل يُنتفع بها فيما يُنتفع بالحمير من الحمل وغيره، والحمير لا ينتفع بها فيما ينتفع بالخيل من القتال عليها. والواقع كما سيأتي صريحاً في الحديث الذي يليه (¬1) , أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقة القدور التي طبخت فيها الْحُمُر مع ما كان بهم من الحاجة , فدلَّ ذلك على أنّ الإذن في أكل الخيل إنّما كان للإباحة العامّة لا ¬

_ (¬1) انظر حديث ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - الآتي.

لخصوص الضّرورة. وأمّا ما نقل عن ابن عبّاس ومالك وغيرهما من الاحتجاج للمنع بقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} فقد تمسّك بها أكثر القائلين بالتّحريم. وقرّروا ذلك بأوجهٍ: أحدها: أنّ اللام للتّعليل. فدلَّ على أنّها لَم تخلق لغير ذلك، لأنّ العلة المنصوصة تفيد الحصر , فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية. ثانيها: عطَفَ البغال والحمير فدلَّ على اشتراكها معها في حكم التّحريم , فيحتاج من أفرد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل. ثالثها: أنّ الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كانت ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم , لأنّه يتعلق به بقاء البنية بغير واسطة، والحكيم لا يمتنّ بأدنى النّعم ويترك أعلاها، ولا سيّما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها. رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الرّكوب والزّينة. هذا ملخّص ما تمسّكوا به من هذه الآية. والجواب على سبيل الإجمال الجواب الأول: أنّ آية النّحل مكّيّة اتّفاقاً , والإذن في أكل الخيل

كان بعد الهجرة من مكّة بأكثر من ستّ سنين، فلو فهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الآية المنع لَما أذن في الأكل. الجواب الثاني: آية النّحل ليست نصّاً في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه. الجواب الثالث: على سبيل التّنزّل , فإنّما يدلّ ما ذكر على ترك الأكل، والتّرك أعمّ من أن يكون للتّحريم أو للتّنزيه أو خلاف الأولى، وإذا لَم يتعيّن واحد منها بقي التّمسّك بالأدلة المصرّحة بالجواز. وعلى سبيل التّفصيل. أوّلاً: فلو سلَّمنا أنّ اللام للتّعليل لَم نسلِّم إفادة الحصر في الرّكوب والزّينة، فإنّه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتّفاقاً، وإنّما ذكر الرّكوب والزّينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ونظيره حديث البقرة المذكور في الصّحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: إنّا لَم نخلق لهذا , إنّما خلقنا للحرث. فإنّه مع كونه أصرح في الحصر لَم يقصد به الأغلب، وإلَّا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتّفاقاً. وأيضاً فلو سلّم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به. ثانياً: دلالة العطف إنّما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة. ثالثاً: الامتنان إنّما قصد به غالباً ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل , فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولَم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزّتها في

بلادهم، بخلاف الأنعام فإنّ أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كلّ من الصّنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشّقّ للزم مثله في الشّقّ الآخر. رابعاً: لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى. للزم مثله في البقر وغيرها ممّا أبيح أكله ووقع الامتنان بمنفعةٍ له أخرى. والله أعلم.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 383 - عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - , قال: أصابتْنا مجاعةٌ ليالي خيبر، فلمَّا كان يوم خيبر، وقعنا في الْحُمر الأهلية فانتحرناها، فلمَّا غلتْ بِها القدور، نادى منادي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أكفئوا القدور، وربَّما قال: ولا تأكلوا من لحوم الْحمر الأهليّة شيئاً. (¬1) الحديث السادس 384 - عن أبي ثعلبة الْخُشنيّ - رضي الله عنه -، قال: حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهليّة. (¬2) قوله: (عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -) اسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي. شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة. وعُمِّر عبد الله إلى أن كان آخر من مات من الصحابة بالكوفة , وذلك سنة سبع وثمانين. (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2986) ومسلم (1937) من طرق عن سليمان الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفي - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (5206) ومسلم (1936) من طريق ابن شهاب الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة - رضي الله عنه -. (¬3) قال الشارح في " الفتح " (7/ 5): وضبَطَ أهلُ الحديث آخرَ من مات من الصحابة – وهو على الإطلاق - أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي كما جزم به مسلم في صحيحه , وكان موته سنة مائة , وقيل: سنة سبع ومائة , وقيل: سنة عشر ومائة. وهو مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بشهر: على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحدٌ.

قوله: (وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها) ذكر الواقديّ. أنّ عدّة الْحُمر التي ذبحوها كانت عشرين أو ثلاثين. كذا رواه بالشّكّ. قوله: (نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وقع عند مسلم عن أنس , أنّ الذي نادى بذلك هو أبو طلحة. وعزاه النّوويّ لرواية أبي يعلى. فنُسب إلى التّقصير. ووقع عند مسلم أيضاً " أنّ بلالاً نادى بذلك " , ووقع عند النّسائيّ عن أبي ثعلبة فيه قصّة , ولفظه: غزونا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خيبر والنّاس جياع، فوجدوا حمراً إنسيّة , فذبحوا منها، فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عبد الرّحمن بن عوف فنادى: ألا إنّ لحوم الحمر الإنسيّة لا تحلّ. ولعلَّ عبد الرّحمن نادى أوّلاً بالنّهي مطلقاً، ثمّ نادى أبو طلحة وبلال بزيادةٍ على ذلك , وهو قوله " فإنّها رجس، فأكفئت القدور وإنّها لتفور باللحم ". ووقع في الشّرح الكبير للرّافعيّ: أنّ المنادي بذلك خالد بن الوليد. وهو غلط , فإنّه لَم يشهد خيبر , وإنّما أسلم بعد فتحها. قوله: (ولا تأكلوا من لحوم الْحُمر الأهليّة شيئاً) زاد الشيخان: قال ابن أبي أوفى: فتحدّثنا أنّه إنّما نهى عنها , لأنّها لَم تُخمّس، وقال بعضهم: نهى عنها البتّة , لأنّها كانت تأكل العذرة. (¬1). وفيه اختلافهم في سبب النّهي , هل هو لكونها لَم تخمّس , أو ¬

_ (¬1) تقدّم في حديث جابر - رضي الله عنه - الماضي كلام الشارح عن هذه العلل , وعن حكم أكل الحمر الأهليّة. فراجعه.

لتحريم الحمر الأهليّة؟. وفي الحديث إشعار بأنّ عادتهم جرت بالإسراع إلى المأكولات وانطلاق الأيدي فيها. ولولا ذلك ما قدموا بحضرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد ظهر أنّه لَم يأمرهم بإراقة لحوم الحمر إلَّا لأنّها لَم تُخمّس. وأمّا حديث ثعلبة بن الحكم قال: أصبْنا يوم خيبر غنماً .. فذكر الأمر بإكفائها. وفيه: فإنّها لا تحلّ النّهبة. (¬1) قال ابن المنذر: إنّما كان ذلك لأجل ما وقع من النّهبة، لأنّ أكل نَعَم أهل الحرب غير جائز. ومن أحاديث الباب. حديث عبد الله بن أبي أوفى أيضاً: أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرّجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه , ثمّ ينصرف. أخرجه أبو داود والحاكم والطّحاويّ. ولفظه " فيأخذ منه حاجته ". وللبخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كنّا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه. قوله " ولا نرفعه " أي: ولا نحمله على سبيل الادّخار. ويحتمل: أن يريد ولا نرفعه إلى متولي أمر الغنيمة. أو إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ولا نستأذنه في أكله , اكتفاءً بما سبق منه من الإذن. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (3938) والطيالسي رقم (1195) وأحمد (5/ 367) والطبراني في " الكبير " (1371 - 1380) من طرق عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم - رضي الله عنه - به. وصحَّحه ابن حبان (1679) والحاكم (2/ 134)

والجمهور. على جواز أخذ الغانمين من القوت وما يصلح به , وكلّ طعام يعتاد أكله عموماً، وكذلك علف الدّوابّ، سواء كان قبل القسمة أو بعدها، بإذن الإمام وبغير إذنه. والمعنى فيه. أنّ الطّعام يعزّ في دار الحرب فأبيح للضّرورة. والجمهور أيضاً. على جواز الأخذ ولو لَم تكن الضّرورة ناجزة. واتّفقوا على جواز ركوب دوابّهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم في حال الحرب، ورَدُّ ذلك بعد انقضاء الحرب. وشرطَ الأوزاعيّ فيه إذن الإمام، وعليه أن يردّه كلَّما فرغتْ حاجتُه، ولا يستعمله في غير الحرب، ولا ينتظر بردّه انقضاء الحرب لئلا يعرّضه للهلاك. وحجّته حديث رويفع بن ثابت مرفوعاً: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابّة من المغنم فيركبها حتّى إذا أعجفها ردّها إلى المغانم , وذكر في الثّوب مثل ذلك. وهو حديثٌ حسنٌ. أخرجه أبو داود والطّحاويّ. ونُقل عن أبي يوسف , أنّه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج يبقي دابّته أو ثوبه , بخلاف من ليس له ثوب ولا دابّة. وقال الزّهريّ: لا يأخذ شيئاً من الطّعام ولا غيره إلَّا بإذن الإمام. وقال سليمان بن موسى: يأخذ إلَّا إن نهى الإمام. وقال ابن المنذر. قد وردت الأحاديث الصّحيحة في التّشديد في الغلول، واتّفق علماء الأمصار على جواز أكل الطّعام، وجاء الحديث

بنحو ذلك فليقتصر عليه، وأمّا العلف فهو في معناه. وقال مالك: يباح ذبح الأنعام للأكل كما يجوز أخذ الطّعام. وقيّده الشّافعيّ بالضّرورة إلى الأكل حيث لا طعام. تنْبيهٌ: قوله: " البتّة " معناه القطع، وألفها ألف وصلٍ. وجزم الكرمانيّ بأنّها ألف قطع على غير القياس، ولَم أر ما قاله في كلام أحدٍ من أهل اللّغة. قال الجوهريّ: الانبتات الانقطاع، ورجل منبتٌّ. أي: منقطع به، ويقال: لا أفعله بتّةً , ولا أفعله البتّة لكل أمرٍ لا رجعة فيه، ونصبه على المصدر. انتهى. ورأيته في النّسخ المعتمدة بألف وصلٍ. والله أعلم قوله في حديث أبي ثعلبة: (حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهليّة). وقع عند النّسائيّ من وجه آخر عن أبي ثعلبة فيه قصّة , ولفظه: غزونا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خيبر والنّاس جياع، فوجدوا حمراً إنسيّة فذبحوا منها، فأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرّحمن بن عوف فنادى: ألا إنّ لحوم الحمر الإنسيّة لا تحلّ. (¬1) ¬

_ (¬1) تقدّم الكلام على مسائله مستوفاة , في حديث جابر - رضي الله عنه - المتقدم قريباً (382).

الحديث السابع

الحديث السابع 385 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - , قال: دخلتُ أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة، فأُتي بضبٍّ محنوذٍ، فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضبٌ يا رسولَ الله، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده. فقلت: أحرامٌ هو يا رسولَ الله؟، قال: لا، ولكنه لَم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه، قال خالدٌ: فاجتررته فأكلته، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ينظر. (¬1) قال المصنِّف: المحنوذ: المشوي بالرضف. وهي الحجارة المُحماة. قوله: (عن ابن عبّاس - رضي الله عنه -) (¬2) وللشيخين من طريق يونس عن ابن شهابٍ عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيفٍ الأنصاريّ، أنّ عبد الله بن عبّاسٍ أخبره، أنّ خالد بن الوليد، الذي يقال له: سيف الله، أخبره. وهذا الحديث ممّا اختلف فيه على الزّهريّ , هل هو من مسند ابن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5076 , 5085، 5217) ومسلم (1945 , 1946) من طرق عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن ابن عباس - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم من طريق مالك. ومنهم من قال: عن ابن عباس عن خالد. فجعله من مسند خالد بن الوليد كما سيُذكر في الشرح. (¬2) تقدّمت ترجمته في حديث رقم (18).

عبّاس أو من مسند خالد؟ , وكذا اختلف فيه على مالك. فقال الأكثر: عن ابن عبّاس عن خالد. وقال يحيى بن بكير في " الموطّأ " وطائفة عن مالك بسنده: عن ابن عبّاس وخالد , أنّهما دخلا. وقال يحيى بن يحيى التّميميّ عن مالك بلفظ: عن ابن عبّاس قال: دخلت أنا وخالد على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه مسلم عنه , وكذا أخرجه من طريق عبد الرّزّاق عن معمر عن الزّهريّ بلفظ عن ابن عبّاس قال: أُتِي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ونحن في بيت ميمونة بضبّين مشويّين. وقال هشام بن يوسف عن معمر عند البخاري: كالجمهور. والجمع بين هذه الرّوايات. أنّ ابن عبّاس كان حاضراً للقصّة في بيت خالته ميمونة كما صرّح به في إحدى الرّوايات، وكأنّه استثبت خالد بن الوليد في شيء منه لكونه الذي كان باشر السّؤال عن حكم الضّبّ , وباشر أكله أيضاً، فكان ابن عبّاس ربّما رواه عنه. ويؤيّد ذلك , أنّ محمّد بن المنكدر حدّث به عن أبي أُمامة بن سهل عن ابن عبّاس قال: أُتِي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وهو في بيت ميمونة , وعنده خالد بن الوليد بلحمِ ضبٍّ. الحديث. أخرجه مسلم، وكذا رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس , فلم يذكر فيه خالداً. كما في الصحيحين. قوله: (دخلت أنا وخالد بن الوليد) أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة - بفتح التحتانية والقاف والمشالة - ابن مرة

بن كعب، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر جميعاً في مرة بن كعب. يكنى أبا سليمان، وكان من فرسان الصحابة، أسلم بين الحديبية والفتح، ويقال: قبل غزوة مؤتة بشهرين، وكانت في جمادى سنة ثمان، ومن ثم جزم مُغلْطاي بأنها كانت في صفر , وكان الفتح بعد ذلك في رمضان. وحكى ابن أبي خيثمة , أنه أسلم سنة خمس، وهو غلط. فإنه كان بالحديبية طليعة للمشركين. وهي في ذي القعدة سنة ست. وقال الحاكم: أسلم سنة سبع، زاد غيره. وقيل: عمرة القضاء، والراجح الأول وما وافقه. وقد أخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه , أنَّ خالد بن الوليد فقَدَ قلنسوة فقال: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق رأسه، فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلَّا رزقت النصر. وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة مشاهد ظهرتْ فيها نَجابته، ثم كان قتل أهل الردة على يديه ثم فتوح البلاد الكبار، ومات على فراشه سنة إحدى وعشرين. وبذلك جزم ابن نمير، وذلك في خلافة عمر بحمص. وقد أخرج ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبَّه الله على الكفار.

قوله: (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة) زاد يونس في روايته " وهي خالته وخالة ابن عبّاس ". قلت: واسم أمّ خالد لُبابة الصّغرى، واسم أمّ ابن عبّاس لُبابة الكبرى , وكانت تكنّى أمّ الفضل بابنها الفضل بن عبّاس، وهما أختا ميمونة. والثّلاث بنات الحارث بن حزن - بفتح المهملة وسكون الزّاي - الهلاليّ. قوله: (فأُتِي بضبٍّ) هو دويبة تشبه الجرذون، لكنّه أكبر من الجرذون، ويكنّى أبا حسل - بمهملتين مكسورة ثمّ ساكنة - ويقال للأنثى ضبّة، وبه سُمِّيت القبيلة. وبالْخَيف من منىً جبل يقال له ضبّ. والضّبّ داء في خفّ البعير. ويقال: إنّ لأصل ذَكَر الضّبّ فرعين، ولهذا يقال: له ذكران. وذكر ابن خالويه: أنّ الضّبّ يعيش سبعمائة سنة، وأنّه لا يشرب الماء، ويبول في كلّ أربعين يوماً قطرة، ولا يسقط له سنّ، ويقال: بل أسنانه قطعة واحدة. وحكى غيره: أنّ أكل لحمه يذهب العطش، ومن الأمثال " لا أفعل كذا حتّى يرِدَ (¬1) الضّبّ " يقوله من أراد أن لا يفعل الشّيء , لأنّ الضّبّ لا يرِدُ , بل يكتفي بالنّسيم وبرْد الهواء، ولا يخرج من جحره ¬

_ (¬1) بفتح الياء وكسر الراء. قال في " النهاية ": يقال: وَرَدْتُ الماءَ أرِدُهُ وُرُوداً إذا حَضَرْتَه لِتَشْرَب. والوِرْدُ: الماء الذي تَرِدُ عليه. انتهى

في الشّتاء. قوله: (محنوذ) زاد يونس في روايته " قدِمت به أختها حُفيدة " وهي بمهملةٍ وفاء مصغّر. وللشيخين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس , أنّ أمّ حفيدة بنت الحارث بن حزن خالة ابن عبّاس , أهدت للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سمناً وأقطاً وأضبّاً. وفي رواية عوف عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن الطّحاويّ " جاءت أمّ حفيدة بضبٍّ وقُنفذ ". وذِكْر القنفذ فيه غريبٌ. وقد قيل: في اسمها: هزيلة بالتّصغير , وهي رواية الموطّأ من مرسل عطاء بن يسار. فإن كان محفوظاً فلعل لها اسمين , أو اسم ولقب. وحكى بعض شرّاح العمدة في اسمها: حُميدة بميمٍ , وفي كنيتها: أمّ حميدٍ بميمٍ بغير هاء، وفي رواية بهاءٍ وبفاءٍ , ولكن براءٍ بدل الدّال وبعينٍ مهملة بدل الحاء بغير هاء، وكلّها تصحيفات. وقوله " محنوذ " بمهملةٍ ساكنة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة. أي: مشويّ بالحجارة المحماة , ووقع في رواية معمر " بضبٍّ مشويّ ". قال أبو عبيدة في قوله تعالى {فما لبث أن جاء بعجلٍ حنيذ}: أي: محنوذ , وهو المشويّ. مثل قتيل في مقتول. وروى الطّبريّ عن وهب بن منبّه عن سفيان الثّوريّ مثله، وعن

ابن عبّاس أخصّ منه قال: حنيذ. أي: نضيج , ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: الحنيذ المشويّ النّضيج. ومن طرق عن قتادة والضّحاك وابن إسحاق مثله. ومن طريق السّدّيّ قال: الحنيذ المشويّ في الرّضف. أي: الحجارة المحماة، وعن مجاهد والضّحاك نحوه. وهذا أخصّ من جهة أخرى , وبه جزم الخليل صاحب اللّغة. ومن طريق شمر بن عطيّة قال: الحنيذ الذي يقطر ماؤه بعد أن يشوى، وهذا أخصّ من جهة أخرى. والله أعلم قوله: (فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده) زاد يونس " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلَّ ما يُقدِّم يده لطعامٍ حتّى يُسمّى له ". وأخرج إسحاق بن راهويه والبيهقيّ في الشّعب من طريق يزيد بن الحوتكيّة عن عمر - رضي الله عنه - , أنّ أعرابيّاً جاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأرنبٍ يهديها إليه، وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل من الهديّة حتّى يأمر صاحبها فيأكل منها , من أجل الشّاة التي أهديت إليه بخيبر. الحديث. وسنده حسن. قوله: (فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضبٌ يا رسولَ الله) في رواية يونس " فقدّمت الضّبّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قلَّما يُقدَّم إليه طعامٌ حتّى يحدّث به , ويُسمَّى له، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده إلى الضّبّ، فقالت امرأة من النّسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قدّمتنّ له، هو الضّبّ يا رسولَ الله.

وكأنّ المرأة أرادت أنّ غيرها يخبره، فلمّا لَم يخبروا بادرت هي فأخبرت. وللبخاري من طريق الشّعبيّ عن ابن عمر قال: كان ناسٌ من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم سعد يعني. ابن أبي وقّاص , فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ولمسلمٍ من طريق يزيد بن الأصمّ عن ابن عبّاس , أنّه بينما هو عند ميمونة وعندها الفضل بن عبّاس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى إذ قرّب إليهم خوان عليه لحم، فلمّا أراد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل , قالت له ميمونة: إنّه لحم ضبّ، فكفّ يده. وعُرف بهذه الرّواية اسم التي أُبهمت في الرّواية الأخرى. وعند الطّبرانيّ في " الأوسط " من وجه آخر صحيح. فقالت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو. قال ابن التّين: إنّما كان يسأل , لأنّ العرب كانت لا تعاف شيئاً من المآكل لقلتها عندهم، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - قد يعاف بعض الشّيء فلذلك كان يسأل. قلت: ويحتمل أن يكون سبب السّؤال أنّه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يكثر الكون في البادية فلم يكن له خبرة بكثير من الحيوانات. أو لأنّ الشّرع ورد بتحريم بعض الحيوانات وإباحة بعضها , وكانوا لا يحرّمون منها شيئاً، وربّما أتوا به مشويّاً أو مطبوخاً فلا يتميّز عن غيره إلَّا بالسّؤال عنه.

قوله: (فرفع يده) زاد يونس " عن الضّبّ ". ويؤخذ منه أنّه أكل من غير الضّبّ ممّا كان قدّم له من غير الضّبّ، كما تقدّم أنّه كان فيه غير الضّبّ، وقد جاء صريحاً في رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس كما في البخاري، قال: فأكل الأقط وشرب اللبن. قوله: (لَم يكن بأرض قومي) في رواية يزيد بن الأصمّ " هذا لحم لَم آكله قطّ ". قال ابن العربيّ: اعترض بعض النّاس على هذه اللفظة " لَم يكن بأرض قومي " بأنّ الضّباب كثيرة بأرض الحجاز. قال ابن العربيّ: فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو، فإنّه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو ذكرت له بغير اسمها أو حدَثَتْ بعد ذلك. وكذا أنكر ابن عبد البرّ ومن تبعه. أن يكون ببلاد الحجاز شيء من الضّباب. قلت: ولا يحتاج إلى شيء من هذا , بل المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - " بأرض قومي " قريش فقط فيختصّ النّفي بمكّة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز. وقد وقع في رواية يزيد بن الأصمّ عند مسلم " دعانا عروس بالمدينة فقرّب إلينا ثلاثة عشر ضبّاً، فآكلٌ وتاركٌ " الحديث، فبهذا يدلّ على كثرة وجدانها بتلك الدّيار.

قوله: (فأجدني أعافه) بعينٍ مهملة وفاء خفيفة. أي: أتكرّه أكله، يقال عفت الشّيء أعافه. ووقع في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس عند البخاري " فتركهنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كالمتقذّر لهنّ، ولو كنّ حراماً لَما أُكلن على مائدة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ولَما أمر بأكلهنّ. كذا أطلق الأمر , وكأنّه تلقّاه من الإذن المستفاد من التّقرير، فإنّه لَم يقع في شيء من طرق حديث ابن عبّاس بصيغة الأمر إلَّا في رواية يزيد بن الأصمّ عند مسلم , فإنّ فيها " فقال لهم: كُلوا، فأكَلَ الفضلُ وخالد والمرأة ". وكذا في رواية الشّعبيّ عن ابن عمر , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: كلوا. وأطعموا فإنّه حلال , أو قال: لا بأس به , ولكنّه ليس طعامي. وفي هذا كلّه بيان سبب ترك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنّه بسبب أنّه ما اعتاده. وقد ورد لذلك سبب آخر. أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار. فذكر معنى حديث ابن عبّاس , وفي آخره. فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: كُلا - يعني لخالدٍ وابن عبّاس - فإنّني يحضرني من الله حاضرة. قال المازريّ: يعني الملائكة، وكأنّ للحم الضّبّ ريحاً فترك أكله لأجل ريحه، كما ترك أكل الثّوم مع كونه حلالاً. قلت: وهذا - إنْ صحّ - يمكن ضمّه إلى الأوّل , ويكون لتركه الأكل من الضّبّ سببان.

قوله: (قال خالد: فاجْتَرَرْتُه) بجيمٍ ورائين، هذا هو المعروف في كتب الحديث. وضبطه بعض شرّاح " المهذّب " بزايٍ قبل الرّاء , وقد غلَّطه النّوويّ. قوله: (ينظر) زاد يونس في روايته " إِلَيَّ ". وفي هذا الحديث من الفوائد. جواز أكل الضّبّ، وحكى عياض: عن قوم تحريمه. وعن الحنفيّة. كراهته. وأنكر ذلك النّوويّ , وقال: لا أظنّه يصحُّ عن أحدٍ، فإن صحّ. فهو محجوج بالنّصوص وبإجماع مَن قبله. قلت: قد نقله ابن المنذر عن عليّ، فأيّ إجماع يكون مع مخالفته؟. ونقل التّرمذيّ كراهته عن بعض أهل العلم. وقال الطّحاويّ في " معاني الآثار ": كره قوم أكل الضّبّ، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن. قال: واحتجّ محمّد بحديث عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أُهدي له ضبّ فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتعطينه ما لا تأكلين؟. قال الطّحاويّ: ما في هذا دليل على الكراهة لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن لا يكون ما يتقرّب به إلى الله إلَّا من خير الطّعام، كما نهى أن يتصدّق بالتّمر الرّديء. انتهى.

وقد جاء عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه نهى عن الضّبّ. أخرجه أبو داود بسندٍ حسن، فإنّه من رواية إسماعيل بن عيّاش عن ضمضم بن زرعة عن شُرْيح بن عتبة عن أبي راشد الحبرانيّ عن عبد الرّحمن بن شبل. وحديث ابن عيّاش عن الشّاميّين قويّ، وهؤلاء شاميّون ثقات. ولا يغترّ بقول الخطّابيّ: ليس إسناده بذاك، وقول ابن حزم: فيه ضعفاء ومجهولون، وقول البيهقيّ: تفرّد به إسماعيل بن عيّاش وليس بحجّةٍ، وقول ابن الجوزيّ: لا يصحّ. ففي كلّ ذلك تساهل لا يخفى، فإنّ رواية إسماعيل عن الشّاميّين قويّة عند البخاريّ , وقد صحّح التّرمذيّ بعضها. وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرّحمن بن حسنة: نزلنا أرضاً كثيرة الضّباب. الحديث، وفيه أنّهم طبخوا منها , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إنّ أمّة من بني إسرائيل مُسخت دوابّ في الأرض , فأخشى أن تكون هذه فأكفئوها. أخرجه أحمد وصحَّحه ابن حبّان والطّحاويّ. وسنده على شرط الشّيخين إلَّا الضّحّاك فلم يخرّجا له. وللطّحاويّ من وجه آخر عن زيد بن وهب , ووافقه الحارث بن مالك ويزيد بن أبي زياد ووكيع في آخره. فقيل له: إنّ النّاس قد اشتووها أكلوها، فلم يأكل , ولَم ينه عنه. والأحاديث الماضية. وإنْ دلَّت على الحلّ تصريحاً وتلويحاً نصّا وتقريراً، فالجمع بينها وبين هذا , حمل النّهي فيه على أوّل الحال عند تجويز أن يكون ممّا مسخ وحينئذٍ أمر بإكفاء القدور، ثمّ توقّف فلم

يأمر به , ولَم ينه عنه. وحمل الأذن فيه على ثاني الحال لَمَّا علم أنّ الممسوخ لا نسل له، ثمّ بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرّمه، وأُكِل على مائدته فدلَّ على الإباحة. وتكون الكراهة للتّنزيه في حقّ من يتقذّره، وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذّره، ولا يلزم من ذلك أنّه يُكره مطلقاً. وقد أفهم كلام ابن العربيّ , أنّه لا يحلّ في حقّ من يتقذّره لِمَا يتوقّع في أكله من الضّرر وهذا لا يختصّ بهذا، ووقع في حديث يزيد بن الأصمّ. أخبرت ابن عبّاس بقصّة الضّبّ، فأكثر القوم حوله حتّى قال بعضهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا آكله , ولا أنهى عنه , ولا أحرّمه، فقال ابن عبّاس: بئس ما قلتم، ما بعث نبيّ الله إلَّا محرّماً , أو محللاً. أخرجه مسلم. قال ابن العربيّ: ظنّ ابن عبّاس أنّ الذي أخبر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا آكله , أراد لا أحلّه. فأنكر عليه , لأنّ خروجه من قسم الحلال والحرام محال. وتعقّبه شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": بأنّ الشّيء إذا لَم يتّضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشّبهات فيكون من حكم الشّيء قبل ورود الشّرع، والأصحّ كما قال النّوويّ , أنّه لا يحكم عليها بحلٍّ ولا حرمة. قلت: وفي كون مسألة الكتاب من هذا النّوع نظرٌ، لأنّ هذا إنّما هو

إذا تعارض الحكم على المجتهد، أمّا الشّارع إذا سئل عن واقعة فلا بدّ أن يذكر فيها الحكم الشّرعيّ. وهذا هو الذي أراده ابن العربيّ , وجعل محطّ كلام ابن عبّاس عليه. ثمّ وجدت في الحديث زيادةَ لفظةٍ سقطتْ من رواية مسلم , وبها يتّجه إنكار ابن عبّاس ويستغنى عن تأويل ابن العربيّ " لا آكله " بلا أحلّه , وذلك أنّ أبا بكر بن أبي شيبة - وهو شيخ مسلم فيه - أخرجه في " مسنده " بالسّند الذي ساقه به عند مسلم , فقال في روايته " لا آكله , ولا أنهى عنه , ولا أحلّه , ولا أحرّمه ". ولعل مسلماً حذفها عمداً لشذوذها، لأنّ ذلك لَم يقع في شيء من الطّرق لا في حديث ابن عبّاس ولا غيره. وأشهر مَن روى عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " لا آكله , ولا أحرّمه " ابن عمر كما في الصحيحين، وليس في حديثه " لا أحلّه " , بل جاء التّصريح عنه بأنّه حلال. فلم تثبت هذه اللفظة. وهي قوله " لا أحلّه " , لأنّها - وإن كانت من رواية يزيد بن الأصمّ - وهو ثقة - لكنّه أخبر بها عن قوم كانوا عند ابن عبّاس. فكانت رواية عن مجهول، ولَم يقل يزيد بن الأصمّ إنّهم صحابة حتّى يغتفر عدم تسميتهم. واستدل بعض من منع أكله: بحديث أبي سعيد عند مسلم والنّسائيّ من حديث أبي سعيد: قال رجلٌ: يا رسولَ الله. إنّا بأرضٍ مضبّة، فما تأمرنا؟ قال: ذُكر لي أنّ أمة من بني إسرائيل مُسخت،

فلم يأمر ولَم ينه. وقوله " مضبّة " - بضمّ أوّله وكسر المعجمة - أي: كثيرة الضّباب. وهذا يمكن أن يفسّر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود والنّسائيّ من حديثه قال: أصبت ضباباً فشويت منها ضبّاً، فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأخذ عُوداً فعدّ به أصابعه , ثمّ قال: إنّ أمّة من بني إسرائيل مسخت دوابّ في الأرض، وإنّي لا أدري أيّ الدّوابّ هي، فلم يأكل ولَم ينه. وسنده صحيح. وقال الطّبريّ: ليس في الحديث الجزم بأنّ الضّبّ ممّا مسخ، وإنّما خشي أن يكون منهم فتوقّف عنه، وإنّما قال ذلك قبل أن يعلم الله تعالى نبيّه أنّ الممسوخ لا ينسلّ. وبهذا أجاب الطّحاويّ , ثمّ أخرج من طريق المعرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود , قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير. أهي ممّا مسخ؟ قال: إنّ الله لَم يهلك قوماً أو يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة. وأصل هذا الحديث في مسلم. ثمّ قال الطّحاويّ بعد أن أخرجه من طرق ثمّ أخرج حديث ابن عمر: فثبت بهذه الآثار , أنّه لا بأس بأكل الضّبّ، وبه أقول. قال: وقد احتجّ محمّد بن الحسن لأصحابه بحديث عائشة، فساقه الطّحاويّ من طريق حمّاد بن سلمة عن

حمّاد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: أُهدي للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه فقال لها: أتعطيه ما لا تأكلين؟. قال محمّد: دلَّ ذلك على كراهته لنفسه ولغيره. وتعقّبه الطّحاويّ: باحتمال أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى {ولستم بآخذيه إلَّا أن تُغمضوا فيه} ثمّ ساق الأحاديث الدّالة على كراهة التّصدّق بحشف التّمر (¬1) , وبحديث البراء: كانوا يحبّون الصّدقة بأرداء تمرهم، فنزلت {أنفقوا من طيّبات ما كسبتم} الآية. قال: فلهذا المعنى كره لعائشة الصّدقة بالضّبّ لا لكونه حراماً. انتهى وهذا يدلّ على أنّه فهم عن محمّد أنّ الكراهة فيه للتّحريم، والمعروف عن أكثر الحنفيّة فيه كراهة التّنزية. وجنح بعضهم إلى التّحريم وقال: اختلفت الأحاديث وتعذّرت معرفة المتقدّم فرجّحنا جانب التّحريم تقليلاً للنّسخ. انتهى. ودعواه التّعذّر ممنوعة لِما تقدّم. والله أعلم. ويتعجّب من ابن العربيّ حيث قال: قولهم إنّ الممسوخ لا ينسل ¬

_ (¬1) قال الحافظ في " الفتح " (1/ 516) روى النسائي من حديث عوف بن مالك الأشجعي , قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيده عصاً , وقد علَّق رجلٌ قنا حشَفٍ , فجعل يطعن في ذلك القنو , ويقول: لو شاء ربُّ هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا. وإسناده قوي. انتهى

دعوى، فإنّه أمر لا يُعرف بالعقل وإنّما طريقه النّقل، وليس فيه أمر يعوّل عليه. كذا قال , وكأنّه لَم يستحضره من صحيح مسلم. ثمّ قال: وعلى تقدير ثبوت كون الضّبّ ممسوخاً فذلك لا يقتضي تحريم أكله , لأنّ كونه آدميّاً قد زال حكمه , ولَم يبق له أثر أصلاً، وإنّما كره - صلى الله عليه وسلم - الأكل منه لِمَا وقع عليه من سخط الله كما كره الشّرب من مياه ثمود. انتهى. ومسألة جواز أكل الآدميّ إذا مسخ حيواناً مأكولاً لَم أرها في كتب فقهائنا. وفي الحديث أيضاً الإعلام بما شكّ فيه لإيضاح حكمه، وأنّ مطلق النّفرة وعدم الاستطابة لا يستلزم التّحريم، وأنّ المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان لا يعيب الطّعام إنّما هو فيما صنعه الآدميّ لئلا ينكسر خاطره وينسب إلى التّقصير فيه؛ وأمّا الذي خلق كذلك فليس نفور الطّبع منه ممتنعاً. وفيه أنّ وقوع مثل ذلك ليس بمعيبٍ ممّن يقع منه خلافاً لبعض المُتنطّعة. وفيه أنّ الطّباع تختلف في النّفور عن بعض المأكولات، وقد يستنبط منه أنّ اللحم إذا أنتن لَم يحرم لأنّ بعض الطّباع لا تعافه. وفيه دخول أقارب الزّوجة بيتها إذا كان بإذن الزّوج أو رضاه. وذهل ابن عبد البرّ هنا ذهولاً فاحشاً , فقال: كان دخول خالد بن

الوليد بيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصّة قبل نزول الحجاب. وغفل عمّا ذكره هو أنّ إسلام خالد كان بين عمرة القضيّة والفتح، وكان الحجاب قبل ذلك اتّفاقاً، وقد وقع في حديث الباب " قال خالد: أحرام هو يا رسولَ الله "؟ فلو كانت القصّة قبل الحجاب لكانت قبل إسلام خالد، ولو كانت قبل إسلامه لَم يسأل عن حلال ولا حرام، ولا خاطب بقوله يا رسولَ الله. وفيه جواز الأكل من بيت القريب والصّهر والصّديق، وكأنّ خالداً ومن وافقه في الأكل أرادوا جبر قلب الذي أهدته، أو لتحقّق حكم الحلّ، أو لامتثال قوله - صلى الله عليه وسلم -: كلوا , وفهم من لَم يأكل أنّ الأمر فيه للإباحة. وفيه أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤاكل أصحابه ويأكل اللحم حيث تيسّر؛ وأنّه كان لا يعلم من المغيّبات إلَّا ما علمه الله تعالى. وفيه وفور عقل ميمومة أمّ المؤمنين وعظيم نصيحتها للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنّها فهمت مظنّة نفوره عن أكله بما استقرّت منه، فخشيت أن يكون ذلك كذلك فيتأذّى بأكله لاستقذاره له فصدقت فراستها. ويؤخذ منه أنّ من خشي أن يتقذّر شيئاً لا ينبغي أن يدلس له لئلا يتضرّر به، وقد شوهد ذلك من بعض النّاس.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 386 - عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -، قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزواتٍ، نأكل الجراد. (¬1) قوله: (سبع غزوات) وللبخاري من طريق شعبة عن أبي يعفور (¬2) عن ابن أبي أوفى " سبع غزواتٍ أو ستّاً " كذا للأكثر. ولا إشكال فيه. ووقع في رواية النّسفيّ " أو ستّ " بغير تنوين. ووقع في توضيح ابن مالك " سبع غزوات أو ثماني " وتكلم عليه , فقال: الأجود: أن يقال سبع غزوات أو ثمانية بالتّنوين , لأنّ لفظ ثمانٍ. وإن كان كلفظ جوارٍ في أنّ ثالث حروفه ألف بعدها حرفان ثانيهما ياء. فهو يخالفه في أنّ جواري جمع , وثمانية ليس بجمعٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5176) ومسلم (1952) من طرق عن أبي يعفور عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم. (¬2) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 768) يعفور: بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم الفاء هو العبدي، واسمه وقدان , وقيل: واقد، وقال مسلم: اسمه واقد ولقبه وقدان، وهو الأكبر، وأبو يعفور الأصغر اسمه عبد الرحمن بن عبيد، وكلاهما ثقة من أهل الكوفة، وليس للأكبر في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الصلاة في " أبواب الركوع من صفة الصلاة ". وجزم النووي بأنه الأصغر , والصواب أنه الأكبر، وبذلك جزم الكلاباذي وغيره , والنووي تَبِع في ذلك ابن العربي وغيره. والذي يرجِّح كلام الكلاباذي جَزْمُ الترمذي بعد تخريجه بأن راوي حديث الجراد هو الذي اسمه واقد , ويقال وقدان. وهذا هو الأكبر. ويؤيده أيضاً أن ابن أبي حاتم جزم في ترجمة الأصغر بأنه لَم يسمع من عبد الله بن أبي أوفى .. انتهى

واللفظ بهما في الرّفع والجرّ سواء، ولكنّ تنوين ثمانٍ تنوين صرف وتنوين جوارٍ تنوين عوض، وإنّما يفترقان بالنّصب. واستمرّ يتكلم على ذلك , ثمّ قال: وفي ذكره له بلا تنوين ثلاثة أوجه. أجودها: أن يكون حذفَ المضافَ إليه وأبقى المضافَ على ما كان عليه قبل الحذف، ومثله قول الشّاعر: خمس ذود أو ستّ عوّضت منها. ... البيت. الوجه الثّاني: أن يكون المنصوب كتب بغير ألف على لغة ربيعة. وذكر وجهاً آخر يختصّ بالثّمان. ولَم أره في شيء من طرق الحديث لا في البخاريّ ولا في غيره بلفظ ثمان، فما أدري كيف وقع هذا. وهذا الشّكّ في عدد الغزوات من شعبة، وقد أخرجه مسلم من رواية شعبة بالشّكّ أيضاً؛ والنّسائيّ من روايته بلفظ " السّتّ " من غير شكّ، والتّرمذيّ من طريق غندر عن شعبة فقال " غزوات " ولَم يذكر عدداً. ورواه سفيان الثّوريّ عند الدّارميّ عن محمّد بن يوسف - وهو الفريابيّ - عنه ولفظه " غزونا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد. وكذا أخرجه التّرمذيّ من وجه آخر عن الثّوريّ , وأفاد أنّ سفيان بن عيينة روى هذا الحديث أيضاً عن أبي يعفور , لكن قال " ستّ غزوات ".

قلت: وكذا أخرجه أحمد بن حنبل عن ابن عيينة جازماً بالسّتّ، وقال التّرمذيّ: كذا قال ابن عيينة: ستّ , وقال غيره سبع. قلت: ودلَّت رواية شعبة على أنّ شيخهم كان يشكّ , فيحمل على أنّه جزم مرّة بالسّبع , ثمّ لَمَّا طرأ عليه الشّكّ صار يجزم بالسّتّ , لأنّه المتيقّن. ويؤيّد هذا الحمل: أنّ سماع سفيان بن عيينة عنه متأخّر دون الثّوريّ ومن ذُكر معه، ولكن وقع عند ابن حبّان من رواية أبي الوليد - شيخ البخاريّ فيه - " سبعاً أو ستّاً، يشكّ شعبة ". ورواه أبو عوانة عند مسلم عن أبي كامل عنه , ولفظه مثل الثّوريّ. وذكره البزّار من رواية يحيى بن حمّاد عن أبي عوانة , فقال مرّة: عن أبي يعفور , ومرّة: عن الشّيبانيّ، وأشار إلى ترجيح كونه عن أبي يعفور. وهو كذلك كما تقدّم صريحاً أنّه عند أبي داود. ورواه إسرائيل عند الطّبرانيّ من طريق عبد الله بن رجاء عنه , ولفظه " سبع غزوات فكنّا نأكل معه الجراد ". قوله: (نأكل الجراد) وللبخاري " وكنّا نأكل معه الجراد ". يحتمل: أن يريد بالمعيّة مجرّد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد. ويحتمل: أن يريد مع أكله. ويدلّ على الثّاني , أنّه وقع في رواية أبي نعيم في الطّبّ " ويأكل معنا " , وهذا - إن صحّ - يردّ على الصّيمريّ من الشّافعيّة في زعمه

أنّه - صلى الله عليه وسلم - عافه كما عاف الضّبّ. ثمّ وقفت على مستند الصّيمريّ. وهو ما أخرجه أبو داود من حديث سلمان: سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الجراد. فقال: لا آكله ولا أحرّمه. والصّواب مرسل. ولابن عديّ في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر , أنّه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضّبّ. فقال: لا آكله ولا أحرّمه، وسئل عن الجراد , فقال مثل ذلك. وهذا ليس ثابتاً , لأنّ ثابتاً قال فيه النّسائيّ: ليس بثقةٍ. ونقل النّوويّ الإجماع على حلّ أكل الجراد. لكن فصَّل ابن العربيّ في شرح التّرمذيّ بين جراد الحجاز وجراد الأندلس , فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل , لأنّه ضرر محض. وهذا - إن ثبت - أنّه يضرّ أكله بأن يكون فيه سمّيّة تخصّه دون غيره من جراد البلاد تعيّن استثناؤه. والله أعلم قوله: (الجراد) بفتح الجيم وتخفيف الرّاء معروف , والواحدة جرادة , والذّكر والأنثى سواء كالحمامة. ويقال: إنّه مشتقّ من الجرد , لأنّه لا ينزل على شيء إلَّا جرّده. وخلْقة الجراد عجيبة , فيها عشرة من الحيوانات , ذكر بعضها ابن الشّهرزوريّ في قوله: لها فخذا بَكْرٍ وساقا نعامة ... وقادِمَتَا نسر وجؤجؤ ضيغم حَبَتْها أفاعي الرّمل بطنًا وأنعمت عليها جياد الخيل بالرّأس والفم قيل: وفَاتَه. عين الفيل وعنق الثّور وقرن الأيّل وذنب الحيّة.

وهو صنفان طيّار ووثّاب، ويبيض في الصّخر فيتركه حتّى ييبس وينتشر , فلا يمرّ بزرعٍ إلَّا اجتاحه. واختلف في أصله: فقيل: إنّه نثرة حوت. فلذلك كان أكله بغير ذكاة. وهذا ورد في حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه عن أنس رفعه: إنّ الجراد نثرة حوت من البحر. ومن حديث أبى هريرة: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجّ أو عمرة فاستقبلنا رِجْلٌ من جراد، فجعلنا نضرب بنعالنا وأسواطنا، فقال: كلوه فإنّه من صيد البحر. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه. وسنده ضعيف. ولو صحّ لكان فيه حجّة لِمَن قال: لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، وجمهور العلماء على خلافه. قال ابن المنذر: لَم يقل لا جزاء فيه غير أبي سعيد الخدريّ وعروة بن الزّبير، واختلف عن كعب الأحبار، وإذا ثبت فيه الجزاء دلَّ على أنّه برّيّ. وقد أجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية , إلَّا أنّ المشهور عند المالكيّة اشتراط تذكيته. واختلفوا في صفتها. فقيل: بقطع رأسه. وقيل: إن وقع في قِدْر أو نار حلّ.

وقال ابن وهب: أخذه ذكاته. ووافق مطرّفٌ منهم الجمهورَ في أنّه لا يفتقر إلى ذكاته لحديث ابن عمر: أحلّت لنا ميتتان ودمان: السّمك والجراد والكبد والطّحال. أخرجه أحمد والدّارقطنيّ مرفوعًا , وقال: إنّ الموقوف أصحّ. ورجّح البيهقيّ أيضًا الموقوف إلَّا أنّه قال: إنّ له حكم الرّفع.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 387 - عن زهدم بن مضرّبٍ الجرمي، قال: كنا عند أبي موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - فدعا بمائدة وعليها لحم دجاجٍ، فدخل رجلٌ من بني تيم الله، أحمر شبيهٌ بالموالي، فقال له: هلمّ، فتلكّأ، فقال: هلم فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه. (¬1) قوله: (عن زهدم بن مضرّب الجرمي) بفتح الزّاي. هو ابن مضرّب - بضمّ أوّله وبفتح الضّاد المعجمة وتشديد الرّاء المكسورة بعدها موحّدة - والجرميّ - بفتح الجيم - بصريّ ثقة، ليس له في البخاريّ سوى حديثين: هذا الحديث. وقد أخرجه في مواضع له، وحديث آخر. أخرجه عن عمران بن حصينٍ في " المناقب " (¬2) , وذكره في مواضع أخرى أيضاً. قوله: (وعليها لحم دجاجٍ) الدجاج اسم جنس مثلث الدّال، ذكره المنذريّ في الحاشية وابن مالك وغيرهما، ولَم يحك النّوويّ الضّمّ. والواحدة دجاجة مثلث أيضاً، وقيل: إنّ الضّمّ فيه ضعيف. قال: الجوهريّ دخلتها الهاء للوحدة مثل الحمامة. ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه ضمن الحديث رقم (362) فانظره. (¬2) صحيح البخاري (3450) ومسلم (214) مرفوعاً: خير أمتي قرني , ثم الذين يلونهم .. الحديث.

وأفاد إبراهيم الحربيّ في " غريب الحديث ": أنّ الدّجاج بالكسر اسم للذّكران دون الإناث , والواحد منها ديك، وبالفتح الإناث دون الذّكران والواحدة دجاجة بالفتح أيضاً. قال: وسمّي لإسراعه في الإقبال والإدبار. من دجّ يدجّ , إذا أسرع. قلت: ودجاجة اسم امرأة - وهي بالفتح فقط - ويسمّى بها الكبّة من الغزل. قوله: (فدخل رجلٌ من بني تيم الله) هو اسم قبيلةٍ , يقال لهم أيضاً تيم اللات , وهم من قضاعة. قوله: (أحمر شبيهٌ بالموالي) أي: العجم. قال الدّاوديّ: يعني أنّه من سبي الرّوم. كذا قال. فإن كان اطّلع على نقلٍ في ذلك , وإلَّا فلا اختصاص لذلك بالرّوم دون الفرس أو النّبط أو الدّيلم. وهذا الرّجل. هو زهدم الرّاوي أَبْهَم نفسه، فقد أخرج التّرمذيّ من طريق قتادة عن زهدم قال: دخلت على أبي موسى وهو يأكل دجاجاً , فقال: ادن فكل، فإنّي رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكله. مختصراً. وقد أشكل هذا , لكونه وصف الرّجل في رواية الباب: بأنّه من بني تيم الله , وزهدم من بني جرم. فقال بعض النّاس: الظّاهر أنّهما امتنعا معاً زهدم والرّجل التّيميّ. وحَمْلُه على دعوى التّعدّد استبعاد أن يكون الشّخص الواحد ينسب

إلى تيم الله وإلى جرم، ولا بُعد في ذلك , بل قد أخرج أحمد الحديث المذكور عن عبد الله بن الوليد - هو العدنيّ - عن سفيان هو الثّوريّ عن أيّوب عن أبي قلابة فقال في روايته: عن رجلٍ من بني تيم الله , يقال له زهدم , قال: كنّا عند أبي موسى، فأتى بلحم دجاج. فعلى هذا فلعلَّ زهدماً كان تارة ينسب إلى بني جرم , وتارة إلى بني تيم الله. وجَرْم قبيلة في قضاعة , ينسبون إلى جرم بن زبان - بزايٍ وموحّدة ثقيلة - ابن عمران بن الحاف بن قضاعة. وتيم الله بطن من بني كلب , وهم قبيلة في قضاعة أيضاً , ينسبون إلى تيم الله بن رفيدة - براءٍ وفاء مصغّراً - ابن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فحلوان عمّ جرم. قال الرّشاطيّ في الأنساب: وكثيراً ما ينسبون الرّجل إلى أعمامه. قلت: وربّما أبهم الرّجل نفسه كما جاء في عدّة مواضع، فلا بُعد في أن يكون زهدم صاحب القصّة , والأصل عدم التّعدّد. وقد أخرج البيهقيّ من طريق الفريابيّ عن الثّوريّ بسنده المذكور إلى زهدم , قال: رأيت أبا موسى يأكل الدّجاج فدعاني , فقلت: إنّي رأيته يأكل نتناً، قال: ادنه فكل. فذكر الحديث المرفوع. ومن طريق الصّعق بن حزن عن مطر الورّاق عن زهدم , قال: دخلت على أبي موسى وهو يأكل لحم دجاج , فقال: ادن فكل،

فقلت: إنّي حلفت لا آكله. الحديث، وقد أخرجه موسى عن شيبان بن فرّوخ عن الصّعق , لكن لَم يسق لفظه، وكذا أخرجه أبو عوانة في " صحيحه " من وجه آخر عن زهدم نحوه وقال فيه. فقال لي: ادن فكل، فقلت: إنّي لا أريده. الحديث. فهذه عدّة طرق صرّح زهدم فيها بأنّه صاحب القصّة. فهو المعتمد. ولا يعكّر عليه إلَّا ما وقع في الصّحيحين ممّا ظاهره المغايرة بين زهدم والممتنع من أكل الدّجاج، ففي رواية عن زهدم: كنّا عند أبي موسى , فدخل رجلٌ من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي. فقال: هلمّ، فتلكّأ .. الحديث. فإنّ ظاهره أنّ الدّاخل دخل وزهدم جالس عند أبي موسى، لكن يجوز أن يكون مراد زهدم بقوله " كنّا " قومه الذين دخلوا قبله على أبي موسى، وهذا مجاز قد استعمل غيرُه مثلَه كقول ثابت البنانيّ: خطبنا عمران بن حصينٍ. أي: خطب أهل البصرة، ولَم يدرك ثابتٌ خطبةَ عمران المذكورة. فيحتمل: أن يكون زهدم دخل فجرى له ما ذكر، وغاية ما فيه أنّه أبهم نفسه، ولا عجب فيه. والله أعلم قوله: (هلمّ، فتلكّأ) بمثنّاةٍ ولامٍ مفتوحتين وتشديدٍ. أي: تمنّع وتوقّف وزنه ومعناه. وللبخاري " فدعاه إليه , فقال: إنّي رأيته يأكل شيئاً فقذرته , فحلفت لا آكله فقال: هلمّ ".

وله أيضاً " قال: ادن أخبرك أو أحدّثك " كذا للأكثر , فعل أمر من الدّنوّ، ووقع عند المستملي والسّرخسيّ " إذاً " بكسر الهمزة وبذالٍ معجمة مع التّنوين حرف نصب. وعلى الأوّل فقوله " أخبرك " مجزوم، وعلى الثّاني هو منصوب، قوله " فقذرته " بكسر الذّال المعجمة. وفي رواية أبي عوانة " إنّي رأيتها تأكل قذراً " , وكأنّه ظنّ أنّها أكثرت من ذلك بحيث صارت جلالة , فبيّن له أبو موسى أنّها ليست كذلك , أو أنّه لا يلزم من كون تلك الدّجاجة التي رآها كذلك أن يكون كلّ الدّجاج كذلك. قوله: (فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه) فيه جواز أكل الدّجاج إنسيّه ووحشيّه، وهو بالاتّفاق إلَّا عن بعض المتعمّقين على سبيل الورع، إلَّا أنّ بعضهم استثنى الجلالة وهي ما تأكل الأقذار، وظاهر صنيع أبي موسى أنّه لَم يبال بذلك. والجلالة. عبارة عن الدّابّة التي تأكل الجلة - بكسر الجيم والتّشديد - وهي البعر. وادّعى ابن حزم اختصاص الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التّعميم. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن ابن عمر , أنّه كان يحبس الدّجاجة الجلالة ثلاثاً. القول الأول: قال مالك والليث: لا بأس بأكل الجلالة من

الدّجاج وغيره، وإنّما جاء النّهي عنها للتّقذّر. وقد ورد النّهي عن أكل الجلالة من طرق: أصحّها. ما أخرجه التّرمذيّ وصحَّحه وأبو داود والنّسائيّ من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المجثّمة، وعن لبن الجلالة، وعن الشّرب من في السّقاء. وهو على شرط البخاريّ في رجاله، إلَّا أنّ أيّوب رواه عن عكرمة , فقال: عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقيّ والبزّار من وجه آخر عن أبي هريرة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة , وعن شرب ألبانها وأكلها وركوبها. ولابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن جابر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها , أو يشرب لبنها. ولأبي داود والنّسائيّ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحمها. وسنده حسن. القول الثاني: أطلق الشّافعيّة كراهة أكل الجلالة إذا تغيّر لحمها بأكل النّجاسة، وفي وجه إذا أكثرت من ذلك، ورجّح أكثرهم أنّها كراهة تنزيه، وهو قضيّة صنيع أبي موسى. ومن حجّتهم: أنّ العلف الطّاهر إذا صار في كرشها تنجّس فلا تتغذّى إلَّا بالنّجاسة، ومع ذلك فلا يحكم على اللحم واللبن بالنّجاسة. فكذلك هذا.

وتعقّب: بأنّ العلف الطّاهر إذا تنجّس بالمجاورة جاز إطعامه للدّابّة , لأنّها إذا أكلته لا تتغذّى بالنّجاسة وإنّما تتغذّى بالعلف، بخلاف الجلالة. القول الثالث: ذهب جماعة من الشّافعيّة , وهو قول الحنابلة إلى أنّ النّهي للتّحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء، وهو الذي صحَّحه أبو إسحاق المروزيّ والقفّال وإمام الحرمين والبغويّ والغزاليّ. وألحقوا بلبنها ولحمها بيضَها. وفي معنى الجلالة ما يتغذّى بالنّجس كالشّاة ترضع من كلبة، والمعتبر في جواز أكل الجلالة زوال رائحة النّجاسة بعد أن تعلف بالشّيء الطّاهر على الصّحيح. وجاء عن السّلف فيه توقيت. فعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر , أنّه كان يحبس الدّجاجة الجلالة ثلاثاً. كما تقدّم. وأخرج البيهقيّ بسندٍ فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً , أنّها لا تؤكل حتّى تعلف أربعين يوماً. وفي الحديث دخول المرء على صديقه في حال أكله، واستدناء صاحب الطّعام الدّاخل وعرضه الطّعام عليه ولو كان قليلاً، لأنّ اجتماع الجماعة على الطّعام سبب للبركة فيه.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 388 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - , أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسحْ يدَه حتى يلعقَها، أو يُلعقَها. (¬1) قوله: (إذا أكل أحدكم طعاماً) في رواية ابن جريجٍ سمعت عطاء عند مسلم " إذا أكل أحدكم من الطّعام ". قوله: (فلا يمسح يده) زاد مسلمٌ من طريق سفيان الثّوريّ عن أبي الزّبير عن جابر بلفظ " فلا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعق أصابعه ". لكن في صحيح البخاري عن سعيد بن الحارث عن جابر - رضي الله عنه - , أنّه سأله عن الوضوء ممّا مسّت النّار؟. فقال: لا. قد كنّا زمان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا نجد مثل ذلك من الطّعام إلَّا قليلاً , فإذا نحن وجدناه لَم يكن لنا مناديل إلَّا أكفّنا وسواعدنا وأقدامنا , ثمّ نُصلّي ولا نتوضّأ ". وهو صريح في أنّهم لَم يكن لهم مناديل، ومفهومه يدلّ على أنّهم لو كانت لهم مناديل لَمسحوا بها. فيحمل حديث النّهي على من وجد , ولا مفهوم له , بل الحكم كذلك لو مسح بغير المنديل. وأخرج ابن أبي شيبة من رواية أبي سفيان عن جابر - رضي الله عنه - بلفظ " إذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5140) ومسلم (2031) من طريق عمرو بن دينار , ومسلم (2031) من طريق ابن جريج كلاهما عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

طعم أحدكم فلا يمسح يده حتّى يمصّها ". وذكر القفّال في " محاسن الشّريعة ": أنّ المراد بالمنديل هنا المنديل المعدّ لإزالة الزّهومة، لا المنديل المعدّ للمسح بعد الغسل. وفي حديث كعب بن مالك عند مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها. فيحتمل: أن يكون أطلق على الأصابع اليد. ويحتمل: وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكفّ كلّها , فيشمل الحكم من أكل بكفّه كلّها أو بأصابعه فقط أو ببعضها. وقال ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ ": يدلّ على الأكل بالكفّ كلّها أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعرّق العظم وينهش اللحم، ولا يمكن ذلك عادة إلَّا بالكفّ كلّها. وقال شيخنا: فيه نظرٌ , لأنّه يمكن بالثّلاث، سلّمنا , لكن هو ممسك بكفّه كلّها لا آكل بها، سلّمنا , لكن محلّ الضّرورة لا يدلّ على عموم الأحوال. ويؤخذ من حديث كعب بن مالك , أنّ السّنّة الأكل بثلاث أصابع , وإن كان الأكل بأكثر منها جائزاً، وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد , أنّه رأى ابن عبّاس إذا أكل لعق أصابعه الثّلاث. قال عياض: والأكل بأكثر منها من الشّره وسوء الأدب وتكبير اللّقمة، ولأنّه غير مضطرٍّ إلى ذلك لجمعه اللّقمة وإمساكها من

جهاتها الثّلاث، فإن اضطرّ إلى ذلك لخفّة الطّعام وعدم تلفيفه بالثّلاث فيدعمه بالرّابعة أو الخامسة. وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل , أكل بخمسٍ. فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال. قوله: (حتّى يَلعقها) بفتح أوّله من الثّلاثيّ. أي: يلعقها هو قوله: (أو يُلعقها) بضمّ أوّله من الرّباعيّ. أي: يلعقها غيره. قال النّوويّ: المراد إِلْعاق غيره ممّن لا يتقذّر ذلك من زوجة وجارية وخادم وولد، وكذا من كان في معناهم كتلميذٍ يعتقد البركة بلعقها، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها. وقال البيهقيّ: إنّ قوله " أو " شكّ من الرّاوي، ثمّ قال: فإن كانا جميعاً محفوظين , فإنّما أراد أن يلعقها صغيراً , أو من يعلم أنّه لا يتقدّر بها. ويحتمل: أن يكون أراد أن يلعق إصبعه فمه , فيكون بمعنى يلعقها، يعني فتكون " أو " للشّكّ. قال ابن دقيق العيد: جاءت عِلَّة هذا مبيّنة في بعض الرّوايات فإنّه " لا يدري في أيّ طعامه البركة " وقد يعلّل بأنّ مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لِما يمسح به مع الاستغناء عنه بالرّيق، لكن إذا صحّ الحديث بالتّعليل لَم يُعدل عنه. قلت: الحديث صحيح أخرجه مسلم في آخر حديث جابر , ولفظه

من حديث جابر: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما أصابها من أذىً وليأكلها، ولا يمسح يده حتّى يلعقها أو يلعقها، فإنّه لا يدري في أيّ طعامه البركة. زاد فيه النّسائيّ من هذا الوجه " ولا يرفع الصّحفة حتّى يلعقها أو يلعقها ". ولأحمد من حديث ابن عمر نحوه بسندٍ صحيح، وللطّبرانيّ من حديث أبي سعيد نحوه بلفظ " فإنّه لا يدري في أيّ طعامه يبارك له " , ولمسلمٍ نحوه من حديث أنس , ومن حديث أبي هريرة أيضاً. والعلَّة المذكورة لا تمنع ما ذكره الشّيخ، فقد يكون للحكم علتان فأكثر، والتّنصيص على واحدة لا ينفي غيرها. وقد أبدى عياض عِلَّة أخرى فقال: إنّما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطّعام. قال النّوويّ: معنى قوله " في أيّ طعامه البركة ": أنّ الطّعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أنّ تلك البركة فيما أكل , أو فيما بقي على أصابعه , أو فيما بقي في أسفل القصعة , أو في اللّقمة السّاقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كلّه لتحصيل البركة. انتهى. وقد وقع لمسلم في رواية أبي سفيان عن جابر أوّل الحديث " إنّ الشّيطان يحضر أحدكم عند كلّ شيء من شأنه، حتّى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللّقمة فليمط ما كان بها من أذىً , ثمّ ليأكلها ولا يدعها للشّيطان " , وله نحوه في حديث أنس , وزاد " وأمر بأن تُسلت القصعة ".

قال الخطّابيّ: السَّلت تتبُّع ما بقي فيها من الطّعام. قال النّوويّ: والمراد بالبركة ما تحصل به التّغذية , وتسلم عاقبته من الأذى , ويقوّي على الطّاعة , والعلم عند الله. وفي الحديث ردّ على من كره لعق الأصابع استقذاراً. نعم. يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل , لأنّه يعيد أصابعه في الطّعام , وعليها أثر ريقه. قال الخطّابيّ: عاب قوم أفسد عقلهم التّرفّه , فزعموا أنّ لعق الأصابع مستقبح، كأنّهم لَم يعلموا أنّ الطّعام الذي علق بالأصابع أو الصّحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لَم يكن سائر أجزائه مستقذراً لَم يكن الجزء اليسير منه مستقذراً، وليس في ذلك أكبر من مصّه أصابعه بباطن شفتيه. ولا يشكّ عاقل في أن لا بأس بذلك، فقد يمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه , ثمّ لَم يقل أحدٌ إنّ ذلك قذارة أو سوء أدب. وفيه استحباب مسح اليد بعد الطّعام. قال عياض: محلّه فيما لَم يحتج فيه إلى الغسل ممّا ليس فيه غمرٌ ولزوجةٌ ممّا لا يذهبه إلَّا الغسل، لِمَا جاء في الحديث من التّرغيب في غسله والحذر من تركه. كذا قال , وحديث الباب يقتضي منع الغسل والمسح بغير لعق , لأنّه صريح في الأمر باللعق دونهما تحصيلاً للبركة. نعم. قد يتعيّن النّدب إلى الغسل بعد اللعق لإزالة الرّائحة، وعليه

يحمل الحديث الذي أشار إليه، وقد أخرجه أبو داود بسندٍ صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة رفعه: من بات وفي يده غَمْرٌ ولَم يغسله فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلَّا نفسه. أخرجه التّرمذيّ دون قوله " ولَم يغسله ". وفيه المحافظة على عدم إهمال شيء من فضل الله كالمأكول أو المشروب , وإن كان تافهاً حقيراً في العرف. تكملةٌ: وقع في حديث كعب بن عُجْرة عند الطّبرانيّ في " الأوسط " صفة لعق الأصابع , ولفظه: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بأصابعه الثّلاث: بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثمّ رأيته يلعق أصابعه الثّلاث قبل أن يمسحها: الوسطى، ثمّ التي تليها، ثمّ الإبهام. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": كأنّ السّرّ فيه , أنّ الوسطى أكثر تلويثاً , لأنّها أطول فيبقى فيها من الطّعام أكثر من غيرها، ولأنّها لطولها أوّل ما تنزل في الطّعام. ويحتمل: أنّ الذي يلعق يكون بطن كفّه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ بالوسطى انتقل إلى السّبّابة على جهة يمينه وكذلك الإبهام، والله أعلم.

باب الصيد

باب الصيد الصّيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيداً، وعومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصاد. الحديث الحادي عشر 389 - عن أبي ثعلبة الخشنيّ - رضي الله عنه - , قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسولَ الله، إنا بأرض قومٍ أهل كتابٍ، أفنأكل في آنيتهم،؟ وفي أرض صيدٍ، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بِمُعلَّم، وبكلبي المُعلَّم، فما يصلح لي؟ قال: أمَّا ما ذكرت من آنية أهل الكتاب (¬1) فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لَم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدتَ بقوسك، فذكرتَ اسم الله (¬2) فكل، وما صدَّتَ بكلبك المُعلَّم فذكرتَ اسم الله فكل، وما صدّتَ بكلبك غير المُعلَّم فأدركتَ ذكاته فكُل. (¬3) قوله: (عن أبي ثعلبة الخشنيّ) بضمّ الخاء وفتح الشّين المعجمتين ¬

_ (¬1) في بعض نسخ العمدة (أمّا ماذكرت - يعني من آنية أهل الكتاب -) كذا فيه (يعني) ولا وجه لها. وليست في الصحيحين. والصواب ما أثبتّه. (¬2) في النسخ المطبوعة زيادة (عليه) في هذا الموضع والذي بعده. وليست في الصحيحين. وقد أخرجه جماعةٌ من أهل السنن والصحاح عن شيوخ الشيخين. وفيه هذه الزيادة. (¬3) أخرجه البخاري (5161 , 5170 , 5177) ومسلم (1930) من طريق حيوة بن شريح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة - رضي الله عنه -.

ثمّ نون، نسبة إلى بني خشين بطن من النّمر بن وبرة بن تغلب. بفتح المثنّاة وسكون المعجمة وكسر اللام بعدها موحّدة ابن حلوان بن عمران بن الحافّ بن قضاعة. واختلف في اسم أبي ثعلبة. فقيل: جرثوم. وهو قول الأكثر , وقيل: جرهم , وقيل: ناشب , وقيل: جرثم. وهو كالأوّل لكن بغير إشباع , وقيل: جرثومة وهو كالأوّل لكن بزيادة هاء , وقيل: غرنوق , وقيل: ناشر , وقيل: لاشر , وقيل: لاش , وقيل: لاشن , وقيل: لا شومه. واختلف في اسم أبيه. فقيل عمرو , وقيل ناشب , وقيل ناسب بمهملةٍ , وقيل بمعجمةٍ , وقيل ناشر , وقيل لا شر , وقيل لاش , وقيل لاشن , وقيل لاشم , وقيل لاسم , وقيل جلهم , وقيل حمير , وقيل جرهم , وقيل جرثوم. ويجتمع من اسمه واسم أبيه بالتّركيب أقوال كثيرة جدّاً، وكان إسلامه قبل خيبر وشهد بيعة الرّضوان , وتوجّه إلى قومه فأسلموا، وله أخ يقال له عمرو , أسلم أيضاً. قوله: (قلت: يا رسولَ الله إنّا بأرض قوم أهل كتاب) يعني بالشّام، وكان جماعةٌ من قبائل العرب قد سكنوا الشّام وتنصّروا , منهم آل غسّان وتنوخ وبهز وبطون من قضاعة منهم بنو خشين آل أبي ثعلبة. قوله: (في آنيتهم) جمع إناء. والأواني جمع آنية، وقد وقع الجواب

عنه " فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها , وإن لَم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها ". فتمسّك بهذا الأمر مَن رأى أنّ استعمال آنيّة أهل الكتاب تتوقّف على الغسل لكثرة استعمالهم النّجاسة. ومنهم. من يتديّن بملابستها. قال ابن دقيق العيد: وقد اختلف الفقهاء في ذلك بناء على تعارض الأصل والغالب. واحتجّ مَن قال بما دلَّ عليه هذا الحديث: بأنّ الظّنّ المستفاد من الغالب راجح على الظّنّ المستفاد من الأصل. وأجاب مَن قال بأنّ الحكم للأصل حتّى تتحقّق النّجاسة بجوابين: أحدهما: أنّ الأمر بالغسل محمول على الاستحباب احتياطاً جمعاً بينه وبين ما دلَّ على التّمسّك بالأصل. الثّاني: أنّ المراد بحديث أبي ثعلبة حال من يتحقّق النّجاسة فيه. ويؤيّده ذكر المجوس , لأنّ أوانيهم نجسة , لكونهم لا تحلّ ذبائحهم. وقال النّوويّ: المراد بالآنية في حديث أبي ثعلبة آنية من يطبخ فيها لحم الخنزير ويشرب فيها الخمر كما وقع التّصريح به في رواية أبي داود " إنّا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير , ويشربون في آنيتهم الخمر , فقال: فذكر الجواب ". وأمّا الفقهاء. فمرادهم مطلق آنيّة الكفّار التي ليست مستعملة في النّجاسة , فإنّه يجوز استعمالها ولو لَم تغسل عندهم، وإن كان الأولى الغسل للخروج من الخلاف لا لثبوت الكراهة في ذلك.

ويحتمل: أن يكون استعمالها بلا غسل مكروهاً بناء على الجواب الأوّل , وهو الظّاهر من الحديث، وأنّ استعمالها مع الغسل رخصة إذا وجد غيرها , فإن لَم يجد جاز بلا كراهة للنّهي عن الأكل فيها مطلقاً , وتعليق الإذن على عدم غيرها مع غسلها. وتمسّك بهذا بعض المالكيّة لقولهم: إنّه يتعيّن كسر آنيّة الخمر على كلّ حال بناء على أنّها لا تطهر بالغسل. واستدل بالتّفصيل المذكور , لأنّ الغسل لو كان مطهّراً لها لَمَا كان للتّفصيل معنى. وتعقّب: بأنّه لَم ينحصر في كون العين تصير نجسة بحيث لا تطهر أصلاً , بل يحتمل أن يكون التّفصيل للأخذ بالأولى، فإنّ الإناء الذي يطبخ فيه الخنزير يستقذر , ولو غسل كما يكره الشّرب في المحجمة ولو غسلت استقذاراً. ومشى ابن حزم على ظاهريّته فقال: لا يجوز استعمال آنيّة أهل الكتاب إلَّا بشرطين. أحدهما: أن لا يجد غيرها. الثّاني: غسلها. وأجيب: بما تقدّم من أنّ أمره بالغسل عند فقْد غيرها دالٌّ على طهارتها بالغسل، والأمر باجتنابها عند وجود غيرها للمبالغة في التّنفير عنها كما في حديث سلمة عند البخاري. في الأمر بكسر القدور التي طبخت فيها الميتة، فقال رجلٌ: أو نغسلها؟ فقال: أو ذاك " , فأمر بالكسر للمبالغة في التّنفير عنها ثمّ أذن في الغسل ترخيصاً، فكذلك يتّجه هذا هنا. والله أعلم.

تكميل: ورد في بعض طرق الحديث منصوصاً على المجوس. فعند التّرمذيّ من طريق أخرى عن أبي ثعلبة: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قدور المجوس، فقال: أنقوها غسلاً واطبخوا فيها. وفي لفظ من وجه آخر عن أبى ثعلبة: قلت: إنّا نمرّ بهذا اليهود والنّصارى والمجوس فلا نجد غير آنيتهم، الحديث. والحكم في آنية المجوس لا يختلف مع الحكم في آنية أهل الكتاب , لأنّ العلة إنْ كانت لكونهم تحلّ ذبائحهم كأهل الكتاب فلا إشكال. أو لا تحلّ فتكون الآنية التي يطبخون فيها ذبائحهم ويغرقون قد تنجّست بملاقاة الميتة، فأهل الكتاب كذلك باعتبار أنّهم لا يتديّنون باجتناب النّجاسة , وبأنّهم يطبخون فيها الخنزير ويضعون فيها الخمر وغيرها. ويؤيّد الثّاني ما أخرجه أبو داود والبزّار عن جابر: كنّا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنصيب من آنية المشركين فنستمتع بها , فلا يعيب ذلك علينا. لفظ أبي داود، وفي رواية البزّار " فنغسلها ونأكل فيها ". قوله: (وفي أرضِ صيدٍ أصيدُ بقوسي) القوس معروفة، وهي مركّبة وغير مركّبة، ويطلق لفظ القوس أيضاً على الثّمر الذي يبقى في أسفل النّخلة , وليس مراداً هنا. قوله: (وما صدتَ بقوسك، فذكرتَ اسم الله عليه فكُلْ) جواب قوله " وفي أرض صيد أصيد بقوسي ". وتمسّك به من أوجب التّسمية على الصّيد وعلى الذّبيحة، وقد

أجمعوا على مشروعيّتها , إلَّا أنّهم اختلفوا في كونها شرطاً في حلّ الأكل. القول الأول: ذهب الشّافعيّ وطائفة , وهي رواية عن مالك وأحمد أنّها سنّة، فمن تركها عمداً أو سهواً لَم يقدح في حلّ الأكل. القول الثاني: ذهب أحمد في الرّاجح عنه وأبو ثور وطائفة إلى أنّها واجبة لجعلها شرطاً في حديث عديٍّ (¬1) ولإيقاف الإذن في الأكل عليها في حديث أبي ثعلبة، والمُعلّق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشّرط أقوى من الوصف. ويتأكّد القول بالوجوب. بأنّ الأصل تحريم الميتة، وما أذن فيه منها تراعى صفته، فالمسمّى عليها وافق الوصف وغير المسمّى باقٍ على أصل التّحريم. القول الثالث: ذهب أبو حنيفة ومالك والثّوريّ وجماهير العلماء إلى الجواز لمن تركها ساهياً لا عمداً. لكن اختلف عن المالكيّة: هل تحرم أو تكره؟ وعند الحنفيّة تحرم. وعند الشّافعيّة في العمد ثلاثة أوجهٍ: أصحّها يكره الأكل، وقيل: خلاف الأولى، وقيل: يأثم بالتّرك ولا يحرم الأكل. لقوله تعالى {ولا تأكلوا ممّا لَم يذكر اسم الله عليه وإنّه لفسقٌ}. قال البخاري: والنّاسي لا يُسمّى فاسقاً. انتهى. ¬

_ (¬1) حديث عدي - رضي الله عنه - سيأتي بعد هذا الحديث. لقوله فيه " وإن خالطها كلابٌ من غيرها فلا تأكل، فإنما سَمَّيت على كلبك، ولَم تسمّ على غيره ".

فاستنبط منها , أنّ الوصف للعامد , فيختصّ الحكم به. والتّفرقة بين النّاسي والعامد في الذّبيحة , قول أحمد وطائفة , وقوّاه الغزاليّ في " الإحياء " محتجّاً بأنّ ظاهر الآية الإيجاب مطلقاً وكذلك الأخبار، وأنّ الأخبار الدّالة على الرّخصة تحتمل التّعميم , وتحتمل الاختصاص بالنّاسي , فكان حمله عليه أولى لتجري الأدلة كلّها على ظاهرها , ويعذر النّاسي دون العامد. وأخرج سعيد بن منصور من طريق عكرمة عن ابن عبّاس: فيمن ذبح ونسي التّسمية. فقال: المسلم فيه اسم الله , وإن لَم يذكر التّسمية. وسنده صحيح، وهو موقوف. وذكره مالك بلاغاً عن ابن عبّاس، وأخرجه الدّارقطنيّ من وجه آخر عن ابن عبّاس مرفوعاً. وأخرج أبو داود وابن ماجه والطّبريّ بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس في قوله {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} قال: كانوا يقولون ما ذكر عليه اسم الله فلا تأكلوه , وما لَم يذكر عليه اسم الله فكلوه، قال الله تعالى: {ولا تأكلوا ممّا لَم يذكر اسم الله عليه}. وأخرج أبو داود والطّبريّ أيضاً من وجه آخر عن ابن عبّاس قال: جاءت اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقالوا: تأكل ممّا قتلنا , ولا تأكل ممّا قتله الله؟ فنزلت: {ولا تأكلوا ممّا لَم يذكر اسم الله عليه ...} إلى آخر الآية. وأخرج الطّبريّ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس نحوه. وساق إلى قوله {لمشركون} , إن أطعتموهم فيما نهيتكم عنه.

ومن طريق معمر عن قتادة في هذه الآية {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} قال: جادلهم المشركون في الذّبيحة فذكر نحوه. ومن طريق أسباط عن السّدّيّ نحوه، ومن طريق ابن جريجٍ , قلت لعطاء: ما قوله {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه}؟ قال: يأمركم بذكر اسمه على الطّعام والشّراب والذّبح، قلت: فما قوله {ولا تأكلوا ممّا لَم يذكر اسم الله عليه}؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهليّة على الأوثان. قال الطّبريّ: مَن قال: إنّ ما ذبحه المسلم فنسي أن يذكر اسم الله عليه لا يحلّ , فهو قول بعيد من الصّواب لشذوذه وخروجه عمّا عليه الجماعة. قال: وأمّا قوله {وإنّه لفسق} , فإنّه يعني: أنّ أكل ما لَم يذكر اسم الله عليه من الميتة , وما أُهلَّ به لغير الله فسق. ولَم يحك الطّبريّ عن أحدٍ خلاف ذلك. وقد استشكل بعض المتأخّرين كون قوله {وإنّه لفسقٌ} منسوقاً على ما قبله، لأنّ الجملة الأولى طلبيّة وهذه خبريّة , وهذا غير سائغ. ورُدّ هذا القول. بأنّ سيبويه ومن تبعه من المحقّقين يجيزون ذلك، ولهم شواهد كثيرة، وادّعى المانع أنّ الجملة مستأنفة. ومنهم مَن قال: الجملة حاليّة. أي: لا تأكلوه والحال أنّه فسق. أي: لا تأكلوه في حال كونه فسقاً، والمراد بالفسق قد بيّن في قوله

تعالى في الآية الأخرى {أو فسقاً أهل لغير الله به} , فرجع الزّجر إلى النّهي عن أكل ما ذبح لغير الله، فليست الآية صريحة في فسق من أكل ما ذبح بغير تسمية. انتهى. ولعلَّ هذا القدر هو الذي حذّرت منه الآية، وقد نوزع المذكور فيما حمل عليه الآية , ومنع ما ادّعاه من كون الآية مجملة والأخرى مبيّنة , لأنّ ثَمّ شروطاً ليست هنا. قوله: (وما صدت بكلبك المُعلَّم فذكرتَ اسم الله فكل) ستأتي مباحثه في حديث عدي بن حاتم الذي بعده. قوله: (فكل) وقع مفسّراً في رواية أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه , أنّ أعرابيّاً يقال له أبو ثعلبة , قال: يا رسولَ الله إنّ لي كلاباً مُكلَّبة. الحديث. وفيه: وأفتني في قوسي؟ قال: كُلْ ما ردّت عليك قوسك ذكيّاً وغير ذكيّ. قال: وإنْ تغيّب عنّي؟ قال: وإنْ تغيّب عنك. ما لَم يصِلّ , أو تجد فيه أثراً غير سهمك. وقوله " يصلّ " بصادٍ مهملة مكسورة ولام ثقيلة. أي: ينتن. وسيأتي مباحث هذا الحديث في الحديث بعده. وفي الحديث من الفوائد. جمع المسائل وإيرادها دفعة واحدة , وتفصيل الجواب عنها واحدة واحدة بلفظ. أمّا وأمّا. قوله: (فأدركتَ ذكاتَه فكُلْ) مفهومه أنّ الصّيد إذا مات بالصّدمة من قبل أن يدرك ذكاته لا يؤكل. قال ابن بطّالٍ: أجمعوا على أنّ السّهم إذا أصاب الصّيد فجرحه ,

جاز أكله ولو لَم يدر. هل مات بالجرح أو من سقوطه في الهواء أو من وقوعه على الأرض. وأجمعوا على أنّه لو وقع على جبل مثلاً فتردّى منه فمات لا يؤكل، وأنّ السّهم إذا لَم ينفذ مقاتله لا يؤكل إلَّا إذا أدركت ذكاته. وقال ابن التّين: إذا قطع من الصّيد ما لا يتوهّم حياته بعده , فكأنّه أنفذه بتلك الضّربة فقامت مقام التّذكية، وهذا مشهور مذهب مالك وغيره. تكميل: روى ابن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: سئل ابن مسعود عن رجلٍ ضَربَ رجلَ حمارٍ وحشيّ فقطعها؟. فقال: دعوا ما سقط , وذكّوا ما بقي وكلوه. وأخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن الحسن , قال في رجل ضرَبَ صيداً , فأبانَ منه يداً أو رجلاً وهو حيّ ثمّ مات , قال: لا تأكلْه. ولا تأكل ما بان منه إلَّا أن تضربه فتقطعه فيموت من ساعته، فإذا كان كذلك فليأكله. وروى ابن أبي شيبة حدّثنا أبو بكر بن عيّاش عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: إذا ضرب الرّجل الصّيد فبان منه عضو , ترك ما سقط , وأكل ما بقي. قال ابن المنذر: اختلفوا في هذه المسألة. القول الأول: قال ابن عبّاس وعطاء: لا تأكل العضو منه، وذكّ الصّيد وكله.

القول الثاني: قال عكرمة: إن عدا حيّاً بعد سقوط العضو منه فلا تأكل العضو , وذكّ الصّيد وكله، وإن مات حين ضربه فكله كله. وبه قال الشّافعيّ , وقال: لا فرق أن ينقطع قطعتين أو أقلّ إذا مات من تلك الضّربة القول الثالث: عن الثّوريّ وأبي حنيفة إن قطعه نصفين أُكلا جميعاً، وإن قطع الثّلثَ ممّا يلي الرّأس فكذلك، وممّا يلي العجُز أَكل الثّلثين ممّا يلي الرّأس. ولا يأكل الثّلث الذي يلي العجُز.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 390 - عن همام بن الحارث، عن عديّ بن حاتم - رضي الله عنه - , قال: قلت: يا رسولَ الله، إني أُرسل الكلاب المُعلَّمة فيمسكن عليّ، وأذكر اسم الله عليه، فقال: إذا أرسلتَ كلبكَ المُعلَّم، وذكرتَ اسمَ الله عليه، فكُلْ ما أمسك عليك، قلت: وإنْ قتلْنَ، قال: وإنْ قتلْنَ، ما لَم يشركْها كلبٌ ليس منها، قلت له: فإني أرمي بالْمِعراض الصيد، فأصيب، فقال: إذا رميتَ بالْمعراض فخزَقَ فكُلْه، وإن أصابه بعرْضه، فلا تأكله. (¬1) الحديث الثالث عشر 391 - وحديث الشّعبيّ عن عديٍّ نحوه، وفيه: إلَّا أن يأكل الكلب، فإنْ أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإنْ خالطها كلابٌ من غيرها فلا تأكل، فإنما سَمَّيتَ على كلبك، ولَم تسمّ على غيره. وفيه: إذا أرسلت كلبك المُعلَّم فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركتَه حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولَم يأكل منه فكُلْه، فإنّ أَخْذَ الكلب ذكاتُه. وفيه أيضاً: إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5160 , 6962) ومسلم (1929) من طريق منصور عن إبراهيم النخعي عن همَّام بن الحارث به. والسياق لمسلم.

وفيه: فإن غاب عنك يوماً أو يومين. وفي روايةٍ: اليومين والثلاثة (¬1) فلم تجد فيه إلَّا أثر سهمك فكل إنْ شئتَ، فإن وجدته غريقاً في الماء، فلا تأكل، فإنك لا تدري: الماء قتله، أو سهمك. (¬2) قوله: (عن همام بن الحارث) من كبار التابعين. قوله: (عن عديّ بن حاتم - رضي الله عنه -) أي ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج - بمهملة ثم معجمة ثم راء ثم جيم بوزن جعفر - بن امرئ القيس بن عدي الطائي. منسوبٌ إلى طيء - بفتح المهملة وتشديد التحتانية المكسورة بعدها همزة - بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ. ¬

_ (¬1) رواية (اليومين والثلاثة) ذكرها البخاري معلّقة عقِب رواية عاصم عن الشعبي برقم (5484) فقال: وقال عبد الأعلى: عن داود عن عامر عن عدي، أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يرمي الصيد فيقتفر أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتاً وفيه سهمه؟، قال: يأكل إن شاء. قال الحافظ في " الفتح " (9/ 757): هذا التعليق , وصله أبو داود عن الحسين بن معاذ عن عبد الأعلى به. قوله (فيفتقر) بفاء ثم مثناة ثم قاف. أي: يتبع فقاره حتى يتمكن منه , وعلى هذه الرواية اقتصر ابن بطال , وفي رواية الكشميهني " فيقتفي " أي: يتبع , وكذا لمسلم والأصيلي , وفي رواية " فيقفو " وهي أوجه. انتهى. قلت: كذا عزا هذه الرواية لمسلم , ولَم يروه أصلاً من هذا الوجه. ولعله سبق لسان. وهي عند أبي داود في " السنن " (2853) كما عزا الشارح هذا الحديث له. (¬2) أخرجه البخاري (173 , 1949 , 5158 , 5159 , 5160 , 5166 , 5167 , 5168 , 5169) ومسلم (1929) من طرق عن الشعبي عن عدي - رضي الله عنه -.

يقال: كان اسمه جلهمة فسمي طيئاً , لأنه أول من طوى بئراً. ويقال: أول من طوى المناهل. وأخرج مسلم: عن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر فقال: إنَّ أول صدقة بيَّضتْ وجهَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوهَ أصحابِه صدقة طيء جئت بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضاً جواداً، وكان إسلامه سنة الفتح، وثبت هو وقومه على الإسلام، وشهد الفتوح بالعراق، ثمّ كان مع عليٍّ وعاش إلى سنة ثمان وستّين. قوله: (إذا أرسلتَ كلبَك المعلَّم، وذكرتَ اسمَ الله عليه فكُلْ ما أمسك عليك) في رواية زكرياء عن الشعبي في البحاري " وسألته عن صيد الكلب؟ فقال: ما أمسك عليك فكُلْ، فإنّ أخذ الكلب ذكاةٌ ". وفي رواية بيان بن عمرو عن الشّعبيّ. في الصحيحين " قلت: إنّا نتصيّد بهذه الكلاب؟ فقال: إذا أرسلت كلابك المعلمة ". والمراد بالمعلَّمة: التي إذا أغراها صاحبها على الصّيد طلبتْه، وإذا زجرها انزجرت , وإذا أخذت الصّيد حبسته على صاحبها. وهذا الثّالث مختلف في اشتراطه. واختلف متى يعلم ذلك منها؟. فقال البغويّ في " التّهذيب ": أقلّه ثلاث مرّات. وعن أبي حنيفة وأحمد. يكفي مرّتين. وقال الرّافعيّ: لَم يقدّره المُعظم لاضطراب العرف واختلاف طباع

الجوارح , فصار المرجع إلى العرف. ووقع في رواية مجالد عن الشّعبيّ عن عديّ في هذا الحديث عند أبي داود والتّرمذيّ , أمّا التّرمذيّ فلفظه " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل " , وأمّا أبو داود فلفظه " ما علَّمت من كلبٍ أو بازٍ , ثمّ أرسلته وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. قلت: وإنْ قتل؟ قال: إذا قتل ولَم يأكل منه. (¬1) قال التّرمذيّ: والعمل على هذا عند أهل العلم. لا يرون بصيد الباز والصّقور بأساً. (¬2) وفي معنى الباز. الصّقر والعقاب والباشق والشّاهين. ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في " الكبرى " (9/ 398) (باب البزاة المعلّة إذا أكلت). ثم قال البيهقي: فجمع بينهما في المنع إلَّا أنَّ ذِكر البازي في هذه الرواية لم يأتِ به الْحُفاظ الذين قدَّمنا ذكرهم عن الشعبي , وإنما أتى به مجالد. والله أعلم. ويُذكر عن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أنه قال: إذا أرسلتَ كلبك أو بازك أو صقرك على الصيد فأكل منه فكل , وإن أكل نصفَه. فهذا جمع بينهما في الإباحة. ويُذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل , وإذا أكل الصقر فكل؛ لأنَّ الكلبَ تستطيع أن تضربه , والصقر لا تستطيع. فهذا فرق بينهما. والله أعلم. وفي حديث الثوري عن سالم الأفطس , عن سعيد بن جبير قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. وهذا بخلاف الأول. وروي عن الربيع بن صبيح في البازي أو الصقر إذا أكل قال: كرِهَه عطاء , وعن عكرمة قال: إذا أكل الباز والصقر فلا تأكل. انتهى كلام البيهقي. (¬2) وتمام كلامه: وقد رخَّص بعض أهل العلم في صيد البازي، وإنْ أكل منه، وقالوا: إنما تعليمه إجابته، وكرهه بعضهم، والفقهاء أكثرهم قالوا: نأكل وإن أكل منه. انتهى

وقد فسّر مجاهد الجوارح في الآية بالكلاب والطّيور، وهو قول الجمهور. إلَّا ما روي عن ابن عمر وابن عبّاس من التّفرقة بين صيد الكلب والطّير. قوله: (قلت: وإنْ قتلن؟، قال: وإنْ قتلن، ما لَم يشركها كلب ليس منها) في رواية زكريا " وإن وجدت مع كلبك أو كلابك كلباً غيره، فخشيت أن يكون أخذه معه، وقد قتله فلا تأكل، فإنّما ذكرت اسم الله على كلبك ولَم تذكره على غيره ". وفي رواية بيان " وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل " وزاد في روايته بعد قوله ممّا أمسكن عليك " وإن قتلن، إلَّا أن يأكل الكلب , فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسك على نفسه " وفيه إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، واستثنى أحمد وإسحاق الكلب الأسود , وقالا: لا يحلّ الصّيد به , لأنّه شيطان. ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك. وفيه جواز أكْل ما أمسكه الكلب بالشّروط المتقدّمة , ولو لَم يذبح. لقوله " إنّ أخذَ الكلب ذكاةٌ ". فلو قتل الصّيدَ بظفره أو نابه حلَّ، وكذا بثقله على أحد القولين للشّافعيّ وهو الرّاجح عندهم، وكذا لو لَم يقتله الكلب , لكن تركه وبه رمق , ولَم يبق زمن يمكن صاحبه فيه لحاقه وذبحه فمات حلَّ، لعموم قوله " فإنّ أخذ الكلب ذكاة " وهذا في المُعلَّم. فلو وجده حيّاً حياة مستقرّة , وأدرك ذكاته لَم يحلّ إلَّا بالتّذكية، فلو

لَم يذبحه مع الإمكان حرم، سواء كان عدم الذّبح اختياراً أو إضراراً كعدم حضور آلة الذّبح، فإن كان الكلب غير مُعلَّم اشترط إدراك تذكيته، فلو أدركه ميّتاً لَم يحلّ. وفيه أنّه لا يحلّ أكل ما شاركه فيه كلب آخر في اصطياده، ومحلّه ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذّكاة، فإنْ تحقّق أنّه أرسله من هو من أهل الذّكاة حلَّ. ثمّ يُنظر. فإنْ أرسلاهما معاً فهو لهما وإلاَّ فللأوّل، ويؤخذ ذلك من التّعليل في قوله " فإنّما سُمِّيت على كلبك ولَم تسمّ على غيره " , فإنّه يفهم منه أنّ المرسِل لو سمّى على الكلب لحل. ووقع في رواية بيان عن الشّعبيّ " وإن خالطها كلابٌ من غيرها فلا تأكل " , فيؤخذ منه أنّه لو وجده حيّاً وفيه حياة مستقرّة فذكّاه حلَّ، لأنّ الاعتماد في الإباحة على التّذكية لا على إمساك الكلب. قوله: (وحديث الشّعبيّ) عامر بن شراحيل. الفقيه المشهور. قوله: (عن عديٍّ) في رواية سعيد بن مسروق حدثني الشعبي سمعت عدي بن حاتم , وكان لنا جاراً ودخيلاً وربيطاً بالنهرين. أخرجه مسلم قوله: (إلَّا أن يأكل الكلب، فإنْ أكَلَ فلا تأكُل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) في رواية ابن أبي السّفر عن الشعبي عند البخاري " قلت: فإن أكل؟ قال: فلا تأكل، فإنّه لَم يمسك عليك ,

إنّما أمسك على نفسه ". وفي الحديث. وهو القول الأول: تحريم أكل الصّيد الذي أكل الكلب منه. ولو كان الكلب مُعلَّماً. وقد علَّل في الحديث بالخوف من أنّه " إنّما أمسك على نفسه ". وهذا قول الجمهور، وهو الرّاجح من قولي الشّافعيّ. القول الثاني: قال الشافعي في القديم , وهو قول مالك , ونقل عن بعض الصّحابة: يحلّ. واحتجّوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه , أنّ أعرابيّاً يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسولَ الله، إنّ لي كلاباً مكلبة، فأفتني في صيدها. قال: كل ممّا أمسكن عليك. قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه. أخرجه أبو داود. ولا بأس بسنده. وسلك النّاس في الجمع بين الحديثين طُرقاً: منها: للقائلين بالتّحريم حمل حديث أبي ثعلبة: على ما إذا قتله وخلاَّه , ثمّ عاد فأكل منه. ومنها: التّرجيح , فرواية عديٍّ في الصّحيحين متّفق على صحّتها، ورواية أبي ثعلبة المذكورة في غير الصّحيحين مختلف في تضعيفها. وأيضاً فرواية عديٍّ صريحة مقرونة بالتّعليل المناسب للتّحريم , وهو خوف الإمساك على نفسه متأيّدة بأنّ الأصل في الميتة التّحريم، فإذا شككنا في السّبب المبيح رجعنا إلى الأصل. وظاهر القرآن أيضاً , وهو قوله تعالى {فكلوا ممّا أمسكن عليكم}

, فإنّ مقتضاها أنّ الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح. ويتقوّى أيضاً بالشّاهد من حديث ابن عبّاس عند أحمد " إذا أرسلت الكلب فأكل الصّيد فلا تأكل، فإنّما أمسك على نفسه. وإذا أرسلته فقتل ولَم يأكل فكل، فإنّما أمسك على صاحبه " , وأخرجه البزّار من وجه آخر عن ابن عبّاس , وابن أبي شيبة من حديث أبي رافعٍ بمعناه. ولو كان مجرّد الإمساك كافياً لَمَا احتيج إلى زيادة {عليكم}. ومنها: للقائلين بالإباحة حمل حديث عديٍّ على كراهة التّنزيه، وحديث أبي ثعلبة على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أنّ عديّاً كان موسراً فاختير له الحمل على الأولى، بخلاف أبي ثعلبة فإنّه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التّمسّك مع التّصريح بالتّعليل في الحديث بخوف الإمساك على نفسه. وقال ابن التّين: قال بعض أصحابنا: هو عامّ فيحمل على الذي أدركه ميّتاً من شدّة العدو , أو من الصّدمة فأكل منه، لأنّه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال ولا الإمساك على صاحبه. قال: ويحتمل أن يكون معنى قوله " فإن أكل فلا تأكل " , أي: لا يوجد منه غير مجرّد الأكل دون إرسال الصّائد له، وتكون هذه الجملة مقطوعة عمّا قبلها. ولا يخفى تعسّف هذا وبُعدُه.

وقال ابن القصّار: مجرّد إرسالنا الكلب إمساكٌ علينا، لأنّ الكلب لا نيّة له , ولا يصحّ منه ميزها، وإنّما يتصيّد بالتّعليم؛ فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميّز ذلك بنيّة من له نيّة. وهو مرسِلُه، فإذا أرسله فقد أمسك عليه , وإذا لَم يرسله لَم يمسك عليه. كذا قال: ولا يخفى بعدُه أيضاً , ومصادمته لسياق الحديث. وقد قال الجمهور: إنّ معنى قوله {أمسكن عليكم} صِدْن لكم، وقد جعل الشّارع أكله منه علامة على أنّه أمسك لنفسه لا لصاحبه فلا يعدل عن ذلك. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة " إن شرب من دمه فلا تأكل , فإنّه لَم يعلم ما علمته " , وفي هذا إشارة إلى أنّه إذا شرع في أكله دلَّ على أنّه ليس بمعلمٍ التّعليم المشترط. ومنها: سلك بعض المالكيّة التّرجيح , فقال: هذه اللفظة ذكرها الشّعبيّ. ولَم يذكرها همّام، وعارضها حديث أبي ثعلبة. وهذا ترجيحٌ مردودٌ لِما تقدّم. وتمسّك بعضهم بالإجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهمّ بأكله فأدرك قبل أن يأكل. قال: فلو كان أكله منه دالاً على أنّه أمسك على نفسه لكان تناوله بفيه وشروعه في أكله كذلك، ولكن يشترط أن يقف الصّائد حتّى ينظر هل يأكل أو لا؟. والله أعلم.

قوله: (فإني أرمي بالمعراض) بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة. قال الخليل وتبعه جماعة: سهم لا ريش له ولا نصل. وقال ابن دريدٍ وتبعه ابن سيده: سهم طويل له أربع قذذ رقاق، فإذا رمى به اعترض. وقال الخطّابيّ: المعراض نصل عريض له ثقل ورزانة. وقيل: عود رقيق الطّرفين غليظ الوسط وهو المسمّى بالحذافة. وقيل: خشبة ثقيلة آخرها عصا محدّد رأسها وقد لا يحدّد. وقوّى هذا الأخيرَ النّوويُّ تبعاً لعياضٍ، وقال القرطبيّ: إنّه المشهور. وقال ابن التّين: المعراض عصاً في طرفها حديدة يرمي الصّائد بها الصّيد، فما أصاب بحدّه فهو ذكيّ فيؤكل، وما أصاب بغير حدّه فهو وقيذ. قوله: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكله) وهو بفتح المعجمة والزّاي بعدها قاف. أي: نفذ، يقال: سهم خازق. أي: نافذ. ويقال: بالسّين المهملة بدل الزّاي، وقيل: الخزق – بالزّاي. وقيل: تبدل سيناً - الخدش , ولا يثبت فيه، فإن قيل بالرّاء فهو أن يثقبه. قوله: (وإن أصابه بعرْضِه، فلا تأكله) في رواية زكرياء عن الشعبي " وما أصاب بعرضه فهو وقيذ " , وفي رواية ابن أبي السّفر عن الشّعبيّ " بعرضه فقتل فإنّه وقيذ فلا تأكل ".

وقيذ: بالقاف وآخره ذال معجمة وزن عظيم، فعيل بمعنى مفعول، وهو ما قتل بعصاً أو حجر أو ما لا حدّ له، والموقوذة: التي تضرب بالخشبة حتّى تموت. وحاصله أنّ السّهم وما في معناه إذا أصاب الصّيد بحدّه حلَّ وكانت تلك ذكاته، وإذا أصابه بعرضه لَم يحلّ , لأنّه في معنى الخشبة الثّقيلة والحجر ونحو ذلك من المثقّل. وقوله " بعرضه " بفتح العين. أي: بغير طرفه المحدّد، وهو حجّة للجمهور في التّفصيل المذكور. وعن الأوزاعيّ وغيره من فقهاء الشّام حِلُّ ذلك. وأخرج البيهقيّ من طريق أبي عامر العقديّ عن زهير - هو ابن محمّد - عن زيد بن أسلم عن ابن عمر , أنّه كان يقول: المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق نافع عن ابن عمر , أنّه كان لا يأكل ما أصابت البندقة. ولمالكٍ في " الموطّأ " عن نافع: رميت طائرين بحجر فأصبتهما، فأمّا أحدهما فمات , فطرحه ابن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبيد الله بن عمر عن سالم والقاسم , أنّهما كانا يكرهان البندقة، إلَّا ما أدركت ذكاته. ولابن أبي شيبة عن مجاهد وإبراهيم نحوه. وعن عطاء عند عبد الرّزّاق نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: إذا رمى الرّجل الصّيد

بالجُلَّاهِقة فلا تأكل، إلَّا أن تدرك ذكاته ". والجلاهقة - بضمّ الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء بعدها قاف - هي البندقة بالفارسيّة , والجمع جلاهق. قوله: (فإن غاب عنك يوماً أو يومين , وفي روايةٍ: اليومين والثلاثة , فلم تجد فيه إلَّا أثر سهمك فكل إن شئت) مفهومه أنّه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يأكل. وهو نظير ما تقدّم في الكلب من التّفصيل فيما إذا خالط الكلب الذي أرسله الصّائد كلب آخر. لكن التّفصيل في مسألة الكلب فيما إذا شارك الكلبَ في قتله كلبٌ آخر، وهنا الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرّامي أعمّ من أن يكون أثر سهم رامٍ آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة , فلا يحلّ أكله مع التّردّد. وقد جاءت فيه زيادة من رواية سعيد بن جبير عن عديّ بن حاتم عند التّرمذيّ والنّسائيّ والطّحاويّ بلفظ " قلت: يا رسولَ الله، إنّا أهل الصّيد , وإنّ أحدنا يرمي الصّيد فيغيب عنه الليلة والليلتين فيبتغي الأثر فيجده ميّتاً وسهمه فيه؟، قال: إذا وجدتَ سهمك فيه. ولَم تجد به أثر سبع , وعلمت أنّ سهمك قتله , فكل منه " قال الرّافعيّ: يؤخذ منه أنّه لو جرحه ثمّ غاب ثمّ جاء فوجده ميّتاً أنّه لا يحلّ، وهو ظاهر نصّ الشّافعيّ في " المختصر ". وقال النّوويّ: الحلّ أصحّ دليلاً.

وحكى البيهقيّ في " المعرفة " عن الشّافعيّ , أنّه قال في قول ابن عبّاس: كل ما أصميت ودع ما أنميت. (¬1): معنى " ما أصميت ": ما قتله الكلب وأنت تراه، وما " أنميت ": وما غاب عنك مقتله. قال: وهذا لا يجوز عندي غيره , إلَّا أن يكون جاء عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء , فيسقط كلّ شيء خالف أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , ولا يقوم معه رأي , ولا قياس. قال البيهقيّ: وقد ثبت الخبر يعني حديث الباب , فينبغي أن يكون هو قول الشّافعيّ. انتهى. ووقع عند مسلم في حديث أبي ثعلبة بسندٍ فيه معاوية بن صالح " إذا رميت سهمك فغاب عنك , فأدركته فكل ما لَم ينتن " , وفي لفظ في الذي يدرك الصّيد بعد ثلاث " كُلْه ما لَم ينتن ". ونحوه عند أبي داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه كما تقدّم التّنبيه عليه قريباً. فجعل الغاية أن ينتن الصّيد , فلو وجده مثلاً بعد ثلاث. ولَم ينتن حلَّ، وإن وجده بلونها. وقد أنتن فلا، هذا ظاهر الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (4/ 460) وابن أبي شيبة في " المصنف " (4/ 242) والبيهقي في " الكبرى " (9/ 404) من طرق عن ابن عباس به. موقوفاً. وأخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (12/ 27) عن ابن عبَّاس مرفوعاً. وسنده ضعيف قال البيهقي: وقد روي هذا من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً. وهو ضعيف. قال في خلافياته: فيه عثمان الوقاصي وهو ضعيف الحديث لا يُحتجُّ بروايته. قال: والمشهور وقفه على ابن عباس. انتهى من البدر المنير (9/ 261)

وأجاب النّوويّ: بأنّ النّهي عن أكله إذا أنتن للتّنزيه. واستدل به على أنّ الرّامي لو أخّر الصّيد عقب الرّمي إلى أن يجده أن يحلّ بالشّروط المتقدّمة , ولا يحتاج إلى استفصال عن سبب غيبته عنه. أكان مع الطّلب أو عدمه. لكن يستدلّ للطّلب بما وقع في الرّواية الأخيرة حيث قال " فيقتفي أثره " (¬1) فدلَّ على أنّ الجواب خرج على حسب السّؤال، فاختصر بعض الرّواة السّؤال، فلا يتمسّك فيه بترك الاستفصال. واختلف في صفة الطّلب: فعن أبي حنيفة: إن أخّر ساعة فلم يطلب لَم يحلّ، وإن اتّبعه عقب الرّمي فوجده ميّتاً حل. وعن الشّافعيّة: لا بدّ أن يتبعه. وفي اشتراط العَدْو وجهان. أظهرهما: يكفي المشي على عادته حتّى لو أسرع وجده حيّاً حل. الثاني: قال إمام الحرمين: لا بدّ من الإسراع قليلاً ليتحقّق صورة الطّلب، وعند الحنفيّة: نحو هذا الاختلاف. قوله: (فإن وجدته غريقاً في الماء، فلا تأكل، فإنك لا تدري: الماء قتله، أو سهمك) يؤخذ سبب منع أكله من الذي قبله، لأنّه حينئذٍ يقع التّردّد هل قتله السّهم أو الغرق في الماء؟. فلو تحقّق أنّ السّهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلَّا بعد أن قتله ¬

_ (¬1) تقدَّم ضمن تخريج حديث الباب.

السّهم فهذا يحلّ أكله. قال النّوويّ في " شرح مسلم ": إذا وجد الصّيد في الماء غريقاً حرم بالاتّفاق. وقد صرّح الرّافعيّ: بأنّ محلّه ما لَم ينته الصّيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلاً فقد تمّت زكاته. ويؤيّده قوله في رواية مسلم " فإنّك لا تدري الماء قتله أو سهمك " فدلَّ على أنّه إذا علم أنّ سهمه هو الذي قتله أنّه يحلّ. وفي الحديث إباحة الاصطياد للانتفاع بالصّيد للأكل والبيع , وكذا اللهو، بشرط قصد التّذكية والانتفاع، وكرهه مالك، وخالفه الجمهور. قال الليث: لا أعلم حقّاً أشبه بباطلٍ منه، فلو لَم يقصد الانتفاع به حرم , لأنّه من الفساد في الأرض بإتلاف نفسٍ عبثاً. وينقدح أن يقال: يباح، فإنْ لازمَه وأكثر منه كُره، لأنّه قد يشغله عن بعض الواجبات وكثير من المندوبات. وأخرج التّرمذيّ من حديث ابن عبّاس رفعه: من سكن البادية جفا، ومن اتّبع الصّيد غفل. وله شاهد عن أبي هريرة عند التّرمذيّ أيضاً , وآخر عند الدّارقطنيّ في " الأفراد " من حديث البراء بن عازب , وقال: تفرّد به شريك. (¬1) ¬

_ (¬1) ظاهر كلام الشارح رحمه الله. أنَّ حديث البراء غيرُ حديث أبي هريرة , وليس كذلك. فإنَّ مخرج الحديث متّحد , اختُلف فيه على الحسن بن الحكم النخعي كما بيَّن هذا الدارقطني في " العلل " رقم (1548) فانظره.

وفيه جواز اقتناء الكلب المُعلَّم للصّيد. وسيأتي البحث فيه في حديث " من اقتنى كلباً " (¬1). واستدل به على جواز بيع كلب الصّيد للإضافة في قوله " كلبك ". وأجاب من منع: بأنّها إضافة اختصاص. واستدل به على طهارة سؤر كلب الصّيد دون غيره من الكلاب للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولَم يذكر الغسل , ولو كان واجباً لبيّنه , لأنّه وقت الحاجة إلى البيان. ومن ثَمّ قال مالك: كيف يؤكل صيده. ويكون لعابه نجساً؟! وأجاب الإسماعيليّ: بأنّ الحديث سيق لتعريف أنّ قتله ذكاته، وليس فيه إثبات نجاسة ولا نفيها. ويدلّ لذلك: أنّه لَم يقل له اغسل الدّم إذا خرج من جرح نابه؛ لكنّه وكَلَه إلى ما تقرّر عنده من وجوب غسل الدّم، فلعله وكَلَه أيضاً إلى ما تقرّر عنده من غسل ما يماسّه فمه. وقال ابن المنير: عند الشّافعيّة أنّ السّكّين إذا سُقيتْ بماءٍ نجس وذُبح بها نجّست الذّبيحة، وناب الكلب عندهم نجس العين، وقد وافقونا على أنّ ذكاته شرعيّة لا تنجّس المذكّى. وتعقّب: بأنّه لا يلزم من الاتّفاق على أنّ الذّبيحة لا تصير نجسة ¬

_ (¬1) سيأتي حديث ابن عمر - رضي الله عنه - بعد هذا الحديث

بعضّ الكلب ثبوت الإجماع على أنّها لا تصير متنجّسة، فما ألزمهم به من التّناقض ليس بلازمٍ، على أنّ في المسألة عندهم خلافاً، والمشهور وجوب غسل المعضّ. وقد يتقوّى القول بالعفو , لأنّه بشدّة الجري يجفّ ريقه فيؤمن معه ما يخشى من إصابة لعابه موضع العضّ. واستدل بقوله " كل ما أمسك عليك " , بأنّه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حلَّ. للعموم الذي في قوله " ما أمسك " , وهذا قول الجمهور. وقال مالك: لا يحلّ، وهو رواية البويطيّ عن الشّافعيّ.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 392 - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه - رضي الله عنه - , قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اقتنى كلباً إلَّا كلب صيدٍ، أو ماشيةٍ فإنه ينقص من أجره كل يومٍ قيراطان. قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرثٍ , وكان صاحب حرثٍ. (¬1) قوله: (عن سالم بن عبد الله بن عمر) أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة. قوله: (من اقتنى) يقال: اقتنى الشّيء إذا اتّخذه للادّخار , والاقتناء بالقاف افتعال من القنية بالكسر, وهي الاتّخاذ. وللشيخين من طريق يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة " من أمسك كلباً فإنّه ينقص كل يومٍ من عمله قيراطٌ ". ورواية الباب مفسّرة للإمساك في هذه الرّواية. ورواه أحمد ومسلم من طريق الزّهريّ عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " من اتّخذ كلباً إلَّا كلب صيد أو زرع أو ماشية ". وأخرجه مسلم والنّسائيّ من وجه آخر عن الزّهريّ عن سعيد بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5164) ومسلم (1574) من طرق عن سالم به. واللفظ لمسلم. وليس عند البخاري قولُ سالم. وأخرجه البخاري (5165) ومسلم (1574) من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر. والبخاري أيضاً (5163) ومسلم (1574) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر.

المسيّب عن أبي هريرة بلفظ " من اقتنى كلباً ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض , فإنّه ينقص من أجره كلّ يوم قيراطان ". قوله: (كلباً) الكلب معروف , والأنثى كلبة , والجمع أكلب وكلاب وكَليب بالفتح، كأعبدٍ وعباد وعبيد. وفي الكلب بَهيميّة وسَبعيّة كأنّه مركّب. وفيه منافع للحراسة والصّيد. وفيه من اقتفاء الأثر وشمّ الرّائحة والحراسة وخفّة النّوم والتّودّد وقبول التّعليم ما ليس لغيره. وقيل: إنّ أوّل من اتّخذه للحراسة نوح عليه السّلام. قوله: (إلَّا كلب صيدٍ، أو ماشيةٍ) " أو " للتّنويع لا للتّرديد. ذكر البخاري حديث ابن عمر في ذلك من ثلاثة طرق عنه. ووقع في الرواية الأولى من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر " ليس بكلب ماشية أو ضارية ". وفي الثانية من رواية سالم " إلَّا كلباً ضارياً لصيدٍ أو كلب ماشية ". وفي الثالثة من رواية نافع " إلَّا كلب ماشية أو ضارياً ". فالرّواية الثّانية: تفسّر الأولى والثّالثة. فالأولى: إمّا للاستعارة على أنّ ضارياً صفة للجماعة الضّارين أصحاب الكلاب المعتادة الضّارية على الصّيد، يقال ضرا على الصّيد ضراوة. أي: تعوّد ذلك واستمرّ عليه، وضرا الكلب وأضراه صاحبه. أي: عوّده وأغراه بالصّيد، والجمع ضوارٍ. وإمّا للتّناسب للفظ ماشية مثل لا دريت ولا تليت , والأصل

تلوت. والرّواية الثّالثة: فيها حذف تقديره أو كلباً ضارياً. ووقع في الرّواية الثّانية في غير رواية أبي ذرّ (¬1) " إلَّا كلب ضاري " بالإضافة. وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، أو لفظ " ضاري " , صفة للرّجل الصّائد. أي: إلَّا كلب رجل معتاد للصّيد. وثبوت الياء في الاسم المنقوص مع حذف الألف واللام منه لغة. قوله: (كلب حرثٍ) زيادة الزّرع قد أنكرها ابن عمر (¬2)، ففي مسلم من طريق عمرو بن دينار عنه , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلَّا كلب صيد أو كلب غنم , فقيل لابن عمر: إنّ أبا هريرة يقول: أو كلب زرع , فقال ابن عمر: إنَّ لأبي هريرة زرعاً. ويقال: إنّ ابن عمر أراد بذلك الإشارة إلى تثبيت رواية أبي هريرة , وأنّ سبب حفظه لهذه الزّيادة دونه أنّه كان صاحب زرع دونه، ومن كان مشتغلاً بشيءٍ احتاج إلى تعرّف أحكامه. وقد وافق أبا هريرة على ذكر الزّرع , سفيان بن أبي زهير كما في الصحيحين، وعبد الله بن مغفل. وهو عند مسلم في حديث أوّله " أمر بقتل الكلاب , ورخّص في كلب الغنم والصّيد والزّرع ". ¬

_ (¬1) هو عبد بن أحمد الهروي , سبق ترجمته (1/ 114) (¬2) وجاء ذِكر الزرع عن ابن عمر أيضاً. ففي صحيح مسلم (2946) من طريق قتادة عن أبي الحكم قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من اتخذ كلباً إلَّا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط ". فلعلَّه حدّث به بعدما سمعه من أبي هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين.

قال ابن عبد البرّ: في هذا الحديث إباحة اتّخاذ الكلاب للصّيد والماشية، وكذلك الزّرع لأنّها زيادة حافظ، وكراهة اتّخاذها لغير ذلك، إلَّا أنّه يدخل في معنى الصّيد وغيره ممّا ذكر اتّخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياساً، فتمحض كراهة اتّخاذها لغير حاجة لِمَا فيه من ترويع النّاس وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هم فيه. وفي قوله: " نقص من عمله " أي: من أجر عمله , ما يشير إلى أنّ اتّخاذها ليس بمحرّمٍ، لأنّ ما كان اتّخاذه محرّماً امتنع اتّخاذه على كلّ حال. سواء نقص الأجر أو لَم ينقص، فدلَّ ذلك على أنّ اتّخاذها مكروه لا حرام. قال: ووجه الحديث عندي , أنّ المعاني المتعبّد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعاً لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفّظ منها , فربّما دخل عليه باتّخاذها ما ينقص أجره من ذلك , ويُروى أنّ المنصور سأل عمرو بن عبيد. عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه , فقال المنصور: لأنّه ينبح الضّيف، ويروّع السّائل. انتهى. وما ادّعاه من عدم التّحريم , واستند له بما ذكره ليس بلازمٍ. بل يحتمل: أن تكون العقوبة تقع بعدم التّوفيق للعمل بمقدار قيراط ممّا كان يعمله من الخير لو لَم يتّخذ الكلب. ويحتمل: أن يكون الاتّخاذ حراماً. والمراد بالنّقص: أنّ الإثم الحاصل باتّخاذه يوازي قدر قيراط أو قيراطين من أجر , فينقص من ثواب عمل المتّخذ قدر ما يترتّب عليه

من الإثم باتّخاذه , وهو قيراط أو قيراطان. وقيل: سبب النّقصان امتناع الملائكة من دخول بيته , أو ما يلحق المارّين من الأذى، أو لأنّ بعضها شياطين، أو عقوبة لمخالفة النّهي، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها فربّما يتنجّس الطّاهر منها، فإذا استعمل في العبادة لَم يقع موقع الطّاهر. وقال ابن التّين: المراد أنّه لو لَم يتّخذه لكان عمله كاملاً، فإذا اقتناه نقصنَ من ذلك العمل، ولا يجوز أن ينقص من عمل مضى , وإنّما أراد أنّه ليس عمله في الكمال عمل من لَم يتّخذه. انتهى. وما ادّعاه من عدم الجواز منازَعٌ فيه. فقد حكى الرّويانيّ في " البحر ": اختلافاً في الأجر. هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل؟. وفي محصّل نقصان القيراطين. فقيل: من عمل النّهار قيراط ومن عمل الليل آخر. وقيل: من الفرض قيراط ومن النّفل آخر. وفي سبب النّقصان. يعني كما تقدّم. واختلفوا في اختلاف الرّوايتين في القيراطين والقيراط (¬1). فقيل: الحكم الزّائد لكونه حفظ ما لَم يحفظه الآخر , أو أنّه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) جاء ذكر القيراطين. في حديث ابن عمر حديث الباب , وجاء أيضاً عن أبي هريرة في صحيح مسلم. أمّا القيراط. فأخرجه الشيخان عن سفيان بن أبي زهير - رضي الله عنه - , وأيضاً عن أبي هريرة.

أخبر أوّلاً بنقص قيراط واحد فسمعه الرّاوي الأوّل , ثمّ أخبر ثانياً بنقص قيراطين في التّأكيد في التّنفير من ذلك فسمعه الرّاوي الثّاني. وقيل: يُنزّل على حالين: فنقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتّخاذها، ونقص القيراط باعتبار قلته. وقيل: يختصّ نقص القيراطين بمن اتّخذها بالمدينة الشّريفة خاصّة , والقيراط بما عداها. وقيل: يلتحق بالمدينة في ذلك سائر المدن والقرى , ويختصّ القيراط بأهل البوادي، وهو يلتفت إلى معنى كثرة التّأذّي وقلته. وكذا مَن قال: يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب: ففيما لابسه آدميّ قيراطان وفيما دونه قيراط. وجوّز ابن عبد البرّ: أن يكون القيراط الذي ينقص أجر إحسانه إليه , لأنّه من جملة ذوات الأكباد الرّطبة أو الحرّى. ولا يخفى بُعدُه. واختلف في القيراطين المذكورين هنا. هل هما كالقيراطين المذكورين في الصّلاة على الجنازة واتّباعها؟. فقيل: بالتّسوية. وقيل: اللذان في الجنازة من باب الفضل , واللذان هنا من باب العقوبة , وباب الفضل أوسع من غيره. والأصحّ عن الشّافعيّة إباحة اتّخاذ الكلاب لحفظ الدّرب إلحاقاً للمنصوص بما في معناه. كما أشار إليه ابن عبد البرّ.

واتّفقوا على أنّ المأذون في اتّخاذه ما لَم يحصل الاتّفاق على قتله , وهو الكلب العقور. (¬1) وأمّا غير العقور. فقد اختلف. هل يجوز قتله مطلقاً أم لا؟ واستدل به على جواز تربية الجرو الصّغير لأجل المنفعة التي يئول أمره إليها إذا كبر، ويكون القصد لذلك قائماً مقام وجود المنفعة به , كما يجوز بيع ما لَم ينتفع به في الحال , لكونه ينتفع به في المآل. واستدل به على طهارة الكلب الجائز اتّخاذه , لأنّ في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقّة شديدة، فالإذن في اتّخاذه إذن في مكمّلات مقصوده، كما أنّ المنع من لوازمه مناسب للمنع منه. وهو استدلال قويّ لا يعارضه إلَّا عموم الخبر الوارد في الأمر من غسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل (¬2)، وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوّغه الدّليل. وفي الحديث الحثّ على تكثير الأعمال الصّالحة، والتّحذير من العمل بما ينقصها، والتّنبيه على أسباب الزّيادة فيها والنّقص منها لتجتنب أو ترتكب. وبيان لطف الله تعالى بخلقه في إباحة ما لهم به نفع، وتبليغ نبيّهم - صلى الله عليه وسلم - لهم أمور معاشهم ومعادهم. وفيه ترجيح المصلحة الرّاجحة على المفسدة لوقوع استثناء ما ينتفع به ممّا حرم اتّخاذه. ¬

_ (¬1) انظر تعريف الكلب العقور في حديث عائشة في الحج رقم (225). (¬2) انظر حديث أبي هريرة رقم (6) , وحديث عبد الله بن مغفل (7)

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 393 - عن رافع بن خديجٍ - رضي الله عنه - , قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحُلَيفة من تِهامة، فأصاب الناسَ جوعٌ، فأصابوا إبلاً وغنماً، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أُخريات القوم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور، فأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأكفئت، ثم قسم، فعدل عشرةً من الغنم ببعيرٍ، فندّ منها بعيرٌ فطلبوه، فأعياهم، وكان في القوم خيلٌ يسيرةٌ، فأهوى رجل منهم بسهمٍ، فحَبَسه الله، فقال: إنَّ لهذه البهائم أوابدَ كأوابد الوحش، فما ندّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا , قال: قلت يا رسولَ الله. إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مُدىً، أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أَنْهر الدّم، وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السّنّ والظفر، وسأحدّثكم عن ذلك، أما السّنّ فعظمٌ، وأما الظفر فمُدَى الحبشة. (¬1) قوله: (كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة) ذو الحليفة: هذا مكان غير ميقات المدينة، لأنّ الميقات في طريق الذّاهب من المدينة ومن الشّام إلى مكّة، وهذه بالقرب من ذات عرق بين الطّائف ومكّة، كذا جزم به أبو بكر الحازميّ وياقوت. ووقع للقابسيّ: أنّها الميقات المشهور , وكذا ذكر النّوويّ. قالوا: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2488 , 2372، 2910، 5179، 5184، 5187، 5190، 5223، 5224) ومسلم (1968) من طرق عن سعيد بن مسروق الثوري عن عباية بن رفاعة بن رافع عن جده رافع بن خديج - رضي الله عنه -.

وكان ذلك عند رجوعهم من الطّائف سنة ثمانٍ. وتهامة: اسم لكل ما نزل من بلاد الحجاز. سُمِّيت بذلك: من التّهم - بفتح المثنّاة والهاء - وهو شدّة الحرّ وركود الرّيح , وقيل: تغيّر الهواء. قوله: (فأصاب النّاسَ جوعٌ) كأنّ الصّحابيّ قال هذا ممهّداً لعذرهم في ذبحهم الإبل والغنم التي أصابوا. قوله: (فأصبنا إبلاً وغنماً) في رواية أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق. (¬1) عن عباية عند البخاري " وتقدّم سرعان النّاس , فأصابوا من المغانم " , ووقع في رواية الثّوريّ عن أبيه. في الصحيحين " فأصبنا نهب إبل وغنم ". قوله: (وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أُخريات النّاس) أخريات جمع أخرى. وفي رواية أبي الأحوص " في آخر النّاس ". وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك صوناً للعسكر وحفظاً، لأنّه لو تقدّمهم لَخَشِى أن ينقطع الضّعيف منهم دونه، وكان حرصهم على مرافقته شديداً فيلزم من سيره في مقام السّاقة صون الضّعفاء لوجود من يتأخّر معه قصداً من الأقوياء. قوله: (فعجِلوا وذبحوا ونصبوا القدور) يعني من الجوع الذي كان بهم، فاستعجلوا فذبحوا الذي غنموه ووضعوه في القدور. ¬

_ (¬1) الثوري. والد سفيان. قال الشارح: ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه.

ووقع في رواية داود بن عيسى عن سعيد بن مسروق في البخاري " فانطلق ناسٌ من سرعان النّاس فذبحوا ونصبوا قدورهم , قبل أن يُقسَم " , وفي رواية الثّوريّ " فأغلوا القدور " , أي: أوقدوا النّار تحتها حتّى غلت. وفي رواية زائدة عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عند أبي نعيم في " المستخرج على مسلم " وساق مُسلم إسنادها " فعجّل أوّلهم فذبحوا ونصبوا القدور ". قوله: (فأمر بالقدور) وللبخاري " فدفع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأمر .. " دفع - بضمّ أوّله - على البناء للمجهول، والمعنى أنّه وصل إليهم. ووقع في رواية زائدة عن سعيد بن مسروق " فانتهى إليهم " أخرجه الطّبرانيّ. قوله: (فأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأكفئت) بضمّ الهمزة وسكون الكاف. أي: قلبت وأفرغ ما فيها. وقد اختلف في هذا المكان في شيئين: أحدهما: سبب الإراقة الثّاني: هل أتلف اللحم أم لا؟ فأمّا الأوّل: فقال عياض: كانوا انتهوا إلى دار الإسلام والمحلّ الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة إلَّا بعد القسمة، وأنّ محلّ جواز ذلك قبل القسمة إنّما هو ما داموا في دار الحرب. قال: ويحتمل أنّ سبب ذلك كونهم انتهبوها، ولَم يأخذوها

باعتدالٍ وعلى قدر الحاجة. قال: وقد وقع في حديث آخر ما يدلّ لذلك. يشير إلى ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه - وله صحبة - عن رجلٍ من الأنصار , قال: أصاب النّاسَ مجاعةٌ شديدةٌ وجهدٌ , فأصابوا غنماً فانتهبوها، فإنّ قدورنا لتغلي بها إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرسه , فأكفأ قدورنا بقوسه، ثمّ جعل يرمّل اللحم بالتّراب، ثمّ قال: إنّ النّهبة ليست بأحلّ من الميتة. وهذا يدلّ على أنّه عاملهم من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم كما عومل القاتل بمنع الميراث. وقال المُهلَّب: إنّما أكفأ القدور ليعلم أنّ الغنيمة إنّما يستحقّونها بعد قسمته لها , وذلك أنّ القصّة وقعت في دار الإسلام , لقوله فيها {بذي الحليفة}. وأجاب ابن المنير: بأنّه قد قيل: إنّ الذّبح إذا كان على طريق التّعدّي كان المذبوح ميتةً , وكأنّ البخاريّ انتصر لهذا المذهب (¬1)، أو حمل الإكفاء على العقوبة بالمال , وإن كان ذلك المال لا يختصّ بأولئك الذين ذبحوا , لكن لَمَّا تعلق به طمعهم كانت النّكاية حاصلة لهم. قال: وإذا جوّزنا هذا النّوع من العقوبة فعقوبة صاحب المال في ¬

_ (¬1) بوَّب عليه البخاري في كتاب الذبائح والصيد (باب إذا أصاب قوم غنيمة، فذبح بعضهم غنماً أو إبلاً، بغير أمر أصحابهم، لَم تؤكل لحديث رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ في " الفتح ": هذا مصيرٌ من البخاري أنَّ سبب منع الأكل من الغنم التي طبخت في القصة كونها لَم تُقسم.

ماله أولى، ومن ثَمّ قال مالك: يراق اللبن المغشوش ولا يترك لصاحبه , وإن زعم أنّه ينتفع به بغير البيع أدباً له. انتهى. وأمّا الثّاني: فقال النّوويّ: المأمور به من إراقة القدور إنّما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأمّا اللحم فلم يتلفوه , بل يحمل على أنّه جمع وردّ إلى المغنم، ولا يظنّ أنّه أمر بإتلافه مع أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال , وهذا من مال الغانمين. وأيضاً فالجناية بطبخه لَم تقع من جميع مستحقّي الغنيمة , فإنّ منهم من لَم يطبخ , ومنهم المستحقّون للخمس , فإن قيل: لَم ينقل أنّهم حملوا اللحم إلى المغنم , قلنا: ولَم ينقل أنّهم أحرقوه أو أتلفوه، فيجب تأويله على وفق القواعد. انتهى. ويردّ عليه حديث أبي داود , فإنّه جيّد الإسناد , وترك تسمية الصّحابيّ لا يضرّ، ورجال الإسناد على شرط مسلم. ولا يقال لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه لإمكان تداركه بالغسل، لأنّ السّياق يشعر بأنّه أريد المبالغة في الزّجر عن ذلك الفعل، فلو كان بصدد أن ينتفع به بعد ذلك لَم يكن فيه كبير زجر، لأنّ الذي يخصّ الواحد منهم نزر يسير , فكان إفسادها عليهم مع تعلّق قلوبهم بها وحاجتهم إليها وشهوتهم لها أبلغ في الزّجر. وأبعدَ المُهلَّب فقال: إنّما عاقبهم لأنّهم استعجلوا وتركوه في آخر القوم متعرّضاً لمن يقصده من عدوّ ونحوه. وتعقّب: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان مختاراً لذلك كما تقدّم تقريره، ولا معنى

للحمل على الظّنّ مع ورود النّصّ بالسّبب. وقال الإسماعيليّ: أمره - صلى الله عليه وسلم - بإكفاء القدور. يجوز: أن يكون من أجل أنّ ذبح من لا يملك الشّيء كلّه لا يكون مذكّياً. ويجوز: أن يكون من أجل أنّهم تعجّلوا إلى الاختصاص بالشّيء دون بقيّة من يستحقّه من قبل أن يقسم ويخرج منه الخمس، فعاقبهم بالمنع من تناول ما سبقوا إليه زجراً لهم عن معاودة مثله. ثمّ رجّح الثّاني وزيّف الأوّل , بأنّه لو كان كذلك , لَم يحلّ أكل البعير النّادّ الذي رماه أحدهم بسهمٍ، إذ لَم يأذن لهم الكلّ في رميه، مع أنّ رميه ذكاة له كما نصّ عليه في نفس حديث الباب. انتهى ملخّصاً. وقد جنح البخاريّ إلى المعنى الأوّل. ويمكن الجواب عمّا ألزمه به الإسماعيليّ من قصّة البعير: بأن يكون الرّامي رمى بحضرة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والجماعة فأقرّوه، فدلَّ سكوتهم على رضاهم بخلاف ما ذبحه أولئك قبل أن يأتي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فافترقا. والله أعلم. قوله: (ثمّ قسم فعدل عشرة من الغنم ببعيرٍ) في رواية [أبي الأحوص " وقسم بينهم وعدل بعيراً بعشر شياهٍ "] (¬1) وهذا محمولٌ ¬

_ (¬1) مابين القوسين بياض بالأصل , ولعلَّ الشارح أراد رواية أبي الأحوص , فقد ذكرها عدة مرّات في الشرح.

على أنّ هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعلَّ الإبل كانت قليلة أو نفيسة , والغنم كانت كثيرة أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه. ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحيّ من أنّ البعير يجزئ عن سبع شياه، لأنّ ذلك هو الغالب في قيمة الشّاة والبعير المعتدلين. وأمّا هذه القسمة فكانت واقعة عين , فيحتمل أن يكون التّعديل لِمَا ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم، وحديث جابر عند مسلم. صريح في الحكم حيث قال فيه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر , كلّ سبعة منّا في بدنة. والبدنة تطلق على النّاقة والبقرة. وأمّا حديث ابن عبّاس: كنّا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى , فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة. فحسّنه التّرمذيّ. وصحَّحه ابن حبّان , وعضده بحديث رافع بن خديج هذا. والذي يتحرّر في هذا: أنّ الأصل أنّ البعير بسبعةٍ ما لَم يعرض عارض من نفاسة ونحوها , فيتغيّر الحكم بحسب ذلك. وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك. ثمّ الذي يظهر من القسمة المذكورة , أنّها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم التي كانوا غنموها. ويحتمل: - إن كانت الواقعة تعدّدت - أن تكون القصّة التي ذكرها ابن عبّاس أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطّبخ , والقصّة التي في حديث رافع. طبخت الشّياه صحاحاً مثلاً , فلمّا أريق مرقها

ضمّت إلى المغنم لتقسم ثمّ يطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النّكتة في انحطاط قيمة الشّياه عن العادة. والله أعلم. قوله: (فندّ) بفتح النّون وتشديد الدّال. أي: هرب نافراً. قوله: (منها) أي: من الإبل المقسومة. قوله: (وكان في القوم خيل يسيرة) فيه تمهيد لعذرهم في كون البعير الذي ندّ أتعبهم ولَم يقدروا على تحصيله، فكأنّه يقول: لو كان فيهم خيول كثيرة لأمكنهم أن يحيطوا به فيأخذوه. ووقع في رواية أبي الأحوص " ولَم يكن معهم خيل " أي: كثيرة أو شديدة الجري، فيكون النّفي لصفةٍ في الخيل لا لأصل الخيل جمعاً بين الرّوايتين. قوله: (فأهوى إليه رجل) في رواية أبي عوانة " فطلبوه فأعياهم , فأهوى إليه رجلٌ " أي: أتعبهم ولَم يقدروا على تحصيله. فقصد نحوه ورماه. ولَم أقف على اسم هذا الرّامي. قوله: (فحبسه الله) أي: أصابه السّهم فوقف. قوله: (إنّ لهذه البهائم) في رواية الثّوريّ وشعبة عن سعيد عند البخاري " إنّ لهذه الإبل ". قال بعض شرّاح المصابيح: هذه " اللام " تفيد معنى " من " لأنّ البعضيّة تستفاد من اسم إنّ , لكونه نكرة. قوله: (أوابد كأوابد الوحش) جمع آبدة بالمدّ وكسر الموحّدة. أي

: غريبة، يقال جاء فلان بآبدةٍ. أي: بكلمةٍ أو فعلة منفّرة، يقال: أبدت بفتح الموحّدة تأبد بضمّها. ويجوز الكسر أبوداً. ويقال: تأبّدت. أي: توحّشت، والمراد: أنّ لها توحّشاً. والظّاهر. أنّ تقديم ذكر هذا التّشبيه , كالتّمهيد لكونها تشارك المتوحّش في الحكم وقال ابن المنيّر: بل المراد أنّها تنفر كما ينفر الوحش , لا أنّها تعطى حكمها. كذا قال، وآخر الحديث يردّ عليه. قوله: (فما ندّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا) في رواية الثّوريّ " فما غلبكم منها " , وفي رواية أبي الأحوص " فما فعل منها هذا فافعلوا مثل هذا ". زاد عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه " فاصنعوا به ذلك. وكلوه ". أخرجه الطّبرانيّ. وفيه جواز أكل ما رُمي بالسّهم فجرح في أيّ موضع كان من جسده، بشرط أن يكون وحشيّاً أو متوحّشاً. وأخرج البيهقيّ من طريق أبي العميس عن غضبان بن يزيد البجليّ عن أبيه قال: أعرس رجلٌ من الحيّ , فاشترى جزوراً فندّت فعرقبها وذكر اسم الله، فأمرهم عبد الله - يعني ابن مسعود - أن يأكلوا، فما طابت أنفسهم حتّى جعلوا له منها بضعة , ثمّ أتوه بها فأكل. وروى ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: ما

أعجزك من البهائم ممّا في يديك فهو بمنزلة الصّيد. ورأى ذلك عليّ وابن عمر وعائشة. حكاه البخاري , وقد نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور. وخالفهم مالك والليث، ونُقل أيضاً عن سعيد بن المسيّب وربيعة , فقالوا: لا يحلّ أكل الإنسيّ إذا توحّش إلَّا بتذكيته في حلقه أو لبّته. وحجّة الجمهور. حديث رافع. قوله: (يا رسولَ الله: إنا لاقوا العدو غداً) في رواية أبي عوانة عن سعيد " إنّا لنرجو أو نخاف أن نلقى العدو .. " هو شكٌّ من الرّاوي. وفي التّعبير بالرّجاء إشارة إلى حرصهم على لقاء العدوّ لِمَا يرجونه من فضل الشّهادة أو الغنيمة، وبالخوف إشارة إلى أنّهم لا يحبّون أن يهجم عليهم العدوّ بغتة. ووقع في رواية أبي الأحوص " إنّا نلقى العدوّ غداً " بالجزم، ولعله عرف ذلك بخبر مَن صدّقه أو بالقرائن. وفي رواية يزيد بن هارون عن الثّوريّ عند أبي نعيم في المستخرج على مسلم " إنّا نلقى العدوّ غداً , وإنّا نرجو " , كذا بحذف متعلق الرّجاء، ولعل مراده الغنيمة. قوله: (وليست معنا مُدىً) بضمّ أوّله - مخفّف مقصور - جمع مدية بسكون الدّال بعدها تحتانيّة. وهي السّكّين، سُمّيت بذلك , لأنّها تقطع مدى الحيوان. أي: عمره. والرّابط بين قوله " نلقى العدوّ " و " وليست معنا مدىً ".

يحتمل: أن يكون مراده , أنّهم إذا لقوا العدوّ صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه. ويحتمل: أن يكون مراده , أنّهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتقوّوا به على العدوّ إذا لقوه. ويؤيّده ما تقدّم من قسمة الغنم والإبل بينهم فكان معهم ما يذبحونه، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم , لئلا يضرّ ذلك بحدّها والحاجة ماسة له. فسأل عن الذي يجزئ في الذّبح غير السّكّين والسّيف، وهذا وجه الحصر في المدية والقصب ونحوه , مع إمكان ما في معنى المدية وهو السّيف. وقد وقع في حديث غير هذا " إنّكم لاقو العدوّ غداً , والفطر أقوى لكم " (¬1) , فندبهم إلى الفطر ليتقوّوا. قوله: (أفنذبح بالقصب؟) في رواية حبيب بن حبيب عن سعيد بن مسروق عند الطّبرانيّ " أفنذبح بالقصب والمروة؟ " وفي رواية ليث بن أبي سليم عن عباية " أنذبح بالمروة وشقّة العصا؟ ". ووقع ذكر الذّبح بالمروة في حديث أخرجه أحمد والنّسائيّ والتّرمذيّ وابن ماجه من طريق الشّعبيّ عن محمّد بن صفوان، وفي رواية عن محمّد بن صيفيّ قال: ذبحت أرنبين بمروة، فأمرني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأكلهما. وصحَّحه ابن حبّان والحاكم. والمروة حجر أبيض، وقيل: هو الذي يقدح منه النّار. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1888) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

وأخرج الطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث حذيفة رفعه: اذبحوا بكل شيء فَرَى الأوداج (¬1) ما خلا السّنّ والظّفر. وفي سنده عبد الله بن خراش مختلف فيه، وله شاهد من حديث أبي أُمامة نحوه. والأشهر في رواية غير مَن ذكر " أفنذبح بالقصب "؟. وقوله " وليست معنا مدىً " فيه إشارة إلى أنّ الذّبح بالحديد كان مقرّراً عندهم جوازه، والمراد بالسّؤال عن الذّبح بالمروة جنس الأحجار لا خصوص المروة. وفي البخاري من حديث كعب بن مالك , أنّ جاريةً ترعى غنماً له بالْجُبيل - الذي بالسّوق , وهو بسلعٍ - فأُصيبت شاةٌ , فكسرتْ حجراً فذبحتْها به , فذكروا للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فأمرهم بأكلها. وفيه التّنصيص على الذّبح بالحجر. قوله: (ما أنهر الدّم) أي: أساله وصبّه بكثرة، شبّه بجري الماء في النّهر. قال عياض: هذا هو المشهور في الرّوايات بالرّاء، وذكره أبو ذرّ الخشنيّ بالزّاي. وقال: النّهز بمعنى الرّفع , وهو غريب. و" ما " موصولة في موضع رفع بالابتداء , وخبرها " فكلوا " , والتّقدير ما أنهر الدّم فهو حلال فكلوا. ويحتمل: أن تكون شرطيّة. ¬

_ (¬1) تقدَّم الكلام عليهما. انظر حديث أسماء رضي الله عنها (381).

ووقع في رواية محمد بن إسحاق (¬1) عن الثّوريّ " كل ما أنهر الدّم ذكاة " و " ما " في هذا موصولة. قوله: (وذكر اسم الله عليه) فيه اشتراط التّسمية، لأنّه علَّق الإذن بمجموع الأمرين وهما الإِنهار والتّسمية، والمُعلَّق على شيئين لا يُكتفى فيه إلَّا باجتماعهما وينتفي بانتفاء أحدهما. وقد تقدّم البحث في اشتراط التّسمية (¬2) قوله: (ليس السّنّ والظّفر) بالنّصب على الاستثناء بليس. ويجوز الرّفع. أي ليس السّنّ والظّفر مباحاً أو مجزئاً. ووقع في رواية أبي الأحوص " ما لَم يكن سنّ أو ظفر " وفي رواية عمر بن عبيد " غير السّنّ والظّفر "، وفي رواية داود بن عيسى " إلَّا سنّاً أو ظفراً ". قوله: (وسأحدّثكم عن ذلك) جزم النّوويّ: بأنّه من جملة المرفوع , وهو من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وهو الظّاهر من السّياق. وجزم أبو الحسن بن القطّان في " كتاب بيان الوهم والإيهام ": بأنّه مُدرج من قول رافع بن خديج راوي الخبر. وذكر ما حاصله , أنّ أكثر الرّواة عن سعيد بن مسروق أوردوه على ظاهر الرّفع، وأنّ أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله. أو ظفر , ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع من الفتح (أبي إسحاق عن سفيان) وهو خطأ , والصواب ما أثبتّه. كذا أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه " (6114) والطبراني في " الكبير " (4/ 362) من طريق محمد بن إسحاق عن سفيان الثوري به. (¬2) في حديث أبي ثعلبة برقم (389) قبل حديثين.

قال رافع: وسأحدّثكم عن ذلك. ونسبَ (¬1) ذلك لرواية أبي داود. وهو عجيب , فإنّ أبا داود أخرجه عن مسدّد عن أبي الأحوص , وليس في شيء من نسخ السّنن قوله " قال: رافع " وإنّما فيه كما عند البخاري بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدّد. هو شيخ البخاريّ فيه هنا. وقد أورده البخاريّ في الباب الذي بعده بلفظ " غير السّنّ والظّفر , فإنّ السّنّ عظم .. إلخ " وهو ظاهر جدّاً في أنّ الجميع مرفوع. قوله: (أمّا السّنّ فعظم) قال البيضاويّ: هو قياس حذفت منه المقدّمة الثّانية لشهرتها عندهم، والتّقدير أمّا السّنّ فعظم، وكلّ عظم لا يحلّ الذّبح به، وطوى النّتيجة لدلالة الاستثناء عليها. وقال ابن الصّلاح في " مشكل الوسيط ": هذا يدلّ على أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان قد قرّر كون الذّكاة لا تحصل بالعظم , فلذلك اقتصر على قوله " فعظم ". قال: ولَم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذّبح بالعظم معنىً يعقل، وكذا وقع في كلام ابن عبد السّلام. وقال النّوويّ: معنى الحديث: لا تذبحوا بالعظام , فإنّها تنجّس بالدّم , وقد نهيتكم عن تنجيسها , لأنّها زاد إخوانكم من الجنّ. ¬

_ (¬1) في مطبوع الفتح (9/ 831) " نسبت " بزيادة التاء , والظاهر أنها خطأ , والصواب ما أثبتُّه , وعليه فمقصود الشارح أنَّ ابن القطان نسَبَ هذه الرواية لأبي داود , وهو كذلك كما في كتابه " الوهم والإيهام " (2/ 291)

انتهى. وهو محتمل , ولا يقال كان يمكن تطهيرها بعد الذّبح بها , لأنّ الاستنجاء بها كذلك، وقد تقرّر أنّه لا يجزئ. وقال ابن الجوزيّ في " المشكل ": هذا يدلّ على أنّ الذّبح بالعظم كان معهوداً عندهم أنّه لا يجزئ، وقرّرهم الشّارع على ذلك , وأشار إليه هنا. قلت: وتقدّم من حديث حذيفة ما يصلح أن يكون مستنداً لذلك إن ثبت. قوله: (وأمّا الظّفر: فمُدى الحبشة) أي: وهم كفّار وقد نُهيتم عن التّشبّه بهم، قاله ابن الصّلاح , وتبعه النّوويّ. وقيل: نهى عنهما , لأنّ الذّبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالباً إلَّا الخنق الذي ليس هو على صورة الذّبح، وقد قالوا: إنّ الحبشة تدمي مذابح الشّاة بالظّفر حتّى تزهق نفسها خنقاً. واعترض على التّعليل الأوّل: بأنّه لو كان كذلك لامتنع الذّبح بالسّكّين وسائر ما يذبح به الكفّار. وأجيب: بأنّ الذّبح بالسّكّين هو الأصل , وأمّا ما يلتحق بها فهو الذي يعتبر فيه التّشبيه لضعفها، ومن ثَمّ كانوا يسألون عن جواز الذّبح بغير السّكّين وشبهها كما تقدّم واضحاً. ثمّ وجدت في " المعرفة للبيهقيّ " من رواية حرملة عن الشّافعيّ: أنّه حمل الظّفر في هذا الحديث على النّوع الذي يدخل في البخور ,

فقال: معقول في الحديث أنّ السّنّ إنّما يذكّى بها إذا كانت منتزعة، فأمّا وهي ثابتة فلو ذبح بها لكانت منخنقة، يعني فدلَّ على أنّ المراد بالسّنّ , السّنّ المنتزعة , وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفيّة من جوازه بالسّنّ المنفصلة. قال: وأمّا الظّفر فلو كان المراد به ظفر الإنسان , لقال فيه ما قال في السّنّ، لكن الظّاهر أنّه أراد به الظّفر الذي هو طِيبٌ من بلاد الحبشة , وهو لا يفري فيكون في معنى الخنق. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. تحريم التّصرّف في الأموال المشتركة من غير إذن ولو قلَّت ولو وقع الاحتياج إليها. وفيه انقياد الصّحابة لأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتّى في ترك ما بهم إليه الحاجة الشّديدة. وفيه أنّ للإمام عقوبة الرّعيّة بما فيه إتلاف منفعة ونحوها إذا غلبت المصلحة الشّرعيّة، وأنّ قسمة الغنيمة يجوز فيها التّعديل والتّقويم، ولا يشترط قسمة كلّ شيء منها على حدة. وأنّ ما توحّش من المستأنس يعطى حكم المتوحّش وبالعكس، وجواز الذّبح بما يحصّل المقصود. سواء كان حديداً أم لا. وجواز عقر الحيوان النّادّ لمن عجَزَ عن ذبحه كالصّيد البرّيّ والمتوحّش من الإنسيّ , ويكون جميع أجزائه مذبحاً فإذا أصيب فمات من الإصابة حلَّ.

أمّا المقدور عليه فلا يباح إلَّا بالذّبح أو النّحر إجماعاً. وفيه التّنبيه على أنّ تحريم الميتة لبقاء دمها فيها. وفيه منع الذّبح بالسّنّ والظّفر متّصلاً كان أو منفصلاً , طاهراً كان أو متنجّساً. وفرّق الحنفيّة: بين السّنّ والظّفر المتّصلين. فخصّوا المنع بهما وأجازوه بالمنفصلين، وفرّقوا بأنّ المتّصل يصير في معنى الخنق والمنفصل في معنى الحجر. وجزم ابن دقيق العيد: بحمل الحديث على المُتّصلَين. ثمّ قال: واستدل به قوم على منع الذّبح بالعظم مطلقاً لقوله " أمّا السّنّ فعظم " , فعلَّل منع الذّبح به لكونه عظماً، والحكم يعمّ بعموم علته، وقد جاء عن مالك في هذه المسألة أربع روايات. ثالثها: يجوز بالعظم دون السّنّ مطلقاً. رابعها: يجوز بهما مطلقاً. حكاها ابن المنذر. وحكى الطّحاويّ الجواز مطلقاً عن قوم. واحتجّوا بقوله في حديث عديّ بن حاتم: أَمِرَّ الدّم بما شئت. أخرجه أبو داود. لكن عمومه مخصوص بالنّهي الوارد صحيحاً في حديث رافع عملاً بالحديثين. وسلك الطّحاويّ طريقاً آخر: فاحتجّ لمذهبه بعموم حديث عديّ. قال: والاستثناء في حديث رافع يقتضي تخصيص هذا العموم،

لكنّه في المنزوعين (¬1) غير محقّق وفي غير المنزوعين محقّق من حيث النّظر، وأيضاً فالذّبح بالمتّصلين يشبه الخنق وبالمنزوعين يشبه الآلة المستقلة من حجر وخشب. والله أعلم. تكميل: ذكر البخاري معلَّقاً (¬2). ووصله سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس , أنه قال: الذكاة في الحلق واللبة، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه سفيان الثوري في " جامعه " عن عمر مثله، وجاء مرفوعاً من وجهٍ واهٍ. واللبَّة - بفتح اللام وتشديد الموحدة - هي موضع القلادة من الصدر , وهي المنحر. وكأنَّ البخاريَّ لَمَحَ بضعف الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن من رواية حماد بن سلمة عن أبي المعشر الدارمي عن أبيه. قال: قلت يا رسول الله. ما تكون الذكاة إلَّا في الحلق واللّبة؟ قال: لو طعنت في فخذها لأجزأك. لكن من قوَّاه حمله على الوحش والمتوحّش. ¬

_ (¬1) أي: السن والظفر إذا نُزعا من الإنسان. (¬2) كتاب الذبائح والصيد , باب النحر والذبح. ثم ذكر البخاري آثاراً تدلُّ على جواز نحر ما يُذبح. والعكس. انظر ما تقدَّم. ص 217.

باب الأضاحي

باب الأضاحي الأضاحيّ، جمع أضحيّة. بضمّ الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة فتفتح الضّاد. والجمع ضحايا، وهي أضحاة، والجمع أضحىً , وبه سُمِّي يوم الأضحى، وهو يذكّر ويؤنّث. وكأنّ تسميتها اشتقّت من اسم الوقت الذي تشرع فيه. وكأنّ البخاري ترجم بالسّنّة (¬1) إشارة إلى مخالفة مَن قال بوجوبها. قال ابن حزم: لا يصحّ عن أحدٍ من الصّحابة أنّها واجبة، وصحّ أنّها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدّين، وهي عند الشّافعيّة والجمهور سنّة مؤكّدة على الكفاية، وفي وجه للشّافعيّة: من فروض الكفاية. وعن أبي حنيفة: تجب على المقيم الموسر. وعن مالك: مثله في رواية , لكن لَم يقيّد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعيّ والليث مثله. وخالف أبو يوسف من الحنفيّة وأشهب من المالكيّة. فوافقا الجمهور. وقال أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة. وعن محمّد بن الحسن: هي سنّة غير مرخّص في تركها. ¬

_ (¬1) قال: باب سنة الأضاحي.

قال الطّحاويّ: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدلّ على وجوبها. انتهى. وأقرب ما يتمسّك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه: من وجد سَعَةً فلم يضحّ فلا يقربنّ مصلانا. أخرجه ابن ماجه وأحمد. ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصّواب. قاله الطّحاويّ وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب. وأخرج حمّاد بن سلمة في " مصنّفه " بسندٍ جيّد إلى ابن عمر قال: هي سنّة ومعروف. وللتّرمذيّ محسّناً من طريق جبلة بن سحيم , أنّ رجلاً سأل ابن عمر عن الأضحيّة: أهي واجبة؟ فقال: ضحّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده. قال التّرمذيّ: العمل على هذا عند أهل العلم أنّ الأضحيّة ليست بواجبةٍ. وكأنّه فهم من كون ابن عمر لَم يقل في الجواب نعم. أنّه لا يقول بالوجوب، فإنّ الفعل المجرّد لا يدلّ على ذلك، وكأنّه أشار بقوله " والمسلمون " إلى أنّها ليست من الخصائص، وكان ابن عمر - رضي الله عنه - حريصاً على اتّباع أفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فلذلك لَم يصرّح بعدم الوجوب. وقد احتجّ مَن قال بالوجوب: بما ورد في حديث مخنف بن سليمٍ

رفعه: على أهل كلّ بيت أضحيّة (¬1). أخرجه أحمد والأربعة بسندٍ قويّ. ولا حجّة فيه , لأنّ الصّيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، وليست بواجبةٍ عند مَن قال بوجوب الأضحيّة. واستدل مَن قال بعدم الوجوب: بحديث ابن عبّاس: كُتب عليّ النّحر ولَم يكتب عليكم. وهو حديثٌ ضعيفٌ. أخرجه أحمد وأبو يعلى والطّبرانيّ والدّارقطنيّ. وصحَّحه الحاكم فَذَهل. وقد استوعبت طرقه ورجاله في " الخصائص " من تخريج أحاديث الرّافعيّ (¬2). ¬

_ (¬1) وتمامه (وعتيرة , هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية) (¬2) أي: كتاب التلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير (3/ 118) , وقد ذكر الحافظ طرقَه , وتكلَّم عليها , ثم قال: فتلخَّص ضعْفُ الحديث من جميع طرقه. وانظر. باب العيدين من العمدة , فقد ذكر الشارح في شرح حديث البراء رقم (147) مسائلَ في الأضحية يحسن الرجوع إليها.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 394 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , قال: ضحَّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبَحهما بيده , وسَمّى وكبّر , ووضع رجله على صفاحهما. (¬1) قال المصنِّف: الأَملح: الأَغبر. وهو الذي فيه سواد وبياض. قوله: (ضحّى النبي - صلى الله عليه وسلم -) كذا في رواية شعبة عن قتادة عن أنس. بصيغة الفعل الماضي , وكذا في رواية أبي عوانة عند البخاري عن قتادة. وفي رواية همّام عن قتادة عند البخاري " كان يضحّي " , وهو أظهر في المداومة على ذلك. قوله: (بكبشين) الكبش فحل الضّأن في أيّ سنّ كان. واختلف في ابتدائه , فقيل: إذا أثنى , وقيل: إذا أربع. وللبخاري عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يضحّي بكبشين , وأنا أضحّي بكبشين. هكذا في هذه الطّريق، وقائل ذلك هو أنس بيّنه النّسائيّ في روايته. وهذه الرّواية مختصرة , ورواية أبي قلابة عن أنس عند البخاري , ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5234 , 5244 , 5245 , 6964) ومسلم (1966) من طرق عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه -. وللبخاري (5234) من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس نحوه.

أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين، فذبحهما بيده. مُبيّنةٌ. لكن في هذه زيادة قول أنس أنّه كان يضحّي بكبشين للاتّباع. وفيها أيضاً إشعار بالمداومة على ذلك، فتمسّك به مَن قال الضّأن في الأضحيّة أفضل. قوله: (أملحين) الأملح بالمهملة , هو الذي فيه سواد وبياض والبياض أكثر. ويقال: هو الأغبر. وهو قول الأصمعيّ , وزاد الخطّابيّ: هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود. ويقال: الأبيض الخالص. قاله ابن الأعرابيّ. وبه تمسّك الشّافعيّة في تفضيل الأبيض في الأضحيّة. وقيل: الذي يعلوه حمرة. وقيل: الذي ينظر في سواد , ويمشي في سواد , ويأكل في سواد , ويبرك في سواد، أي: أنّ مواضع هذه منه سود , وما عدا ذلك أبيض. وحكى ذلك الماورديّ عن عائشة. وهو غريب. ولعلَّه أراد الحديث الذي جاء عنها كذا , لكن ليس فيه وصفه بالأملح، فأخرجه مسلم من حديث عروة عن عائشة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبشٍ أقرن , يطأ في سوادٍ , وينظر في سوادٍ , ويبرك في سوادٍ , فأضجعه , ثمّ ذبحه , ثمّ قال: بسم الله. اللهمّ تقبّل من محمّدٍ وآل محمّدٍ ومن أمّة محمّدٍ , ثمّ ضحّى.

فإن ثبت فلعلّه كان في مرّة أخرى. واختلف في اختيار هذه الصّفة. فقيل: لحسن منظره، وقيل: لشحمه وكثرة لحمه. واستدلّ به على اختيار العدد في الأضحيّة. ومن ثَمّ قال الشّافعيّة: إنّ الأضحيّة بسبع شياه أفضل من البعير , لأنّ الدّم المراق فيها أكثر , والثّواب يزيد بحسبه، وأنّ من أراد أن يضحّي بأكثر من واحد يعجّله. وحكى الرّويانيّ من الشّافعيّة استحباب التّفريق على أيّام النّحر. قال النّوويّ: هذا أرفق بالمساكين , لكنّه خلاف السّنّة. كذا قال , والحديث دالٌّ على اختيار التّثنية، ولا يلزم منه أنّ من أراد أن يضحّي بعددٍ فضحّى أوّل يوم باثنين , ثمّ فرّق البقيّة على أيّام النّحر أن يكون مخالفاً للسّنّة. وفيه أنّ الذَّكَر في الأضحيّة أفضل من الأنثى , وهو قول أحمد. وعنه رواية , أنّ الأنثى أولى. وحكى الرّافعيّ فيه قولين عن الشّافعيّ. أحدهما: عن نصّه في البويطيّ الذّكر , لأنّ لحمه أطيب. وهذا هو الأصحّ. والثّاني: أنّ الأنثى أولى. قال الرّافعيّ: وإنّما يذكر ذلك في جزاء الصّيد عند التّقويم، والأنثى أكثر قيمة فلا تفدى بالذّكر، أو أراد الأنثى التي لَم تلد.

وقال ابن العربيّ: الأصحّ أفضليّة الذّكور على الإناث في الضّحايا , وقيل: هما سواء. وفيه استحباب التّضحية بالأقرن , وأنّه أفضل من الأجمّ , مع الاتّفاق على جواز التّضحية بالأجمّ , وهو الذي لا قرن له، واختلفوا في مكسور القرن. وفيه استحباب مباشرة المضحّي الذّبح بنفسه. واستدل على مشروعيّة استحسان الأضحيّة صفة ولوناً. قال الماورديّ: إن اجتمع حسن المنظر مع طيب المخبر في اللحم فهو أفضل، وإن انفردا فطيب المخبر أولى من حسن المنظر. وقال أكثر الشّافعيّة: أفضلها البيضاء ثمّ الصّفراء ثمّ الغبراء ثمّ البلقاء ثمّ السّوداء. قوله: (أقرنين) أي: لكلٍّ منهما قرنان معتدلان. قوله: (ذبحهما بيده) اتّفقوا على جواز التّوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكيّة رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم: يكره لكن يستحبّ أن يشهدها، ويكره أن يستنيب حائضاً أو صبيّاً أو كتابيّاً، وأوّلهم أولى ثمّ ما يليه. قوله: (وسَمّى وكبّر) في رواية شعبة عن قتادة " يُسمي ويكبر " , وهي أظهر في وقوع ذلك عند الذّبح. وفي الحديث غير ما تقدّم مشروعيّة التّسمية عند الذّبح، وتقدَّم بيان من اشترطها في صفة الذّبح.

وفيه استحباب التّكبير مع التّسمية. (¬1) قوله: (ووضع رجله على صِفَاحِهما) أي: على صفاح كلّ منهما عند ذبحه، والصّفاح - بكسر الصّاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة - الجوانب، والمراد الجانب الواحد من وجه الأضحيّة. وإنّما ثنّى إشارة إلى أنّه فعل في كلّ منهما، فهو من إضافة الجمع إلى المثنّى بإرادة التّوزيع. وفيه استحباب وضع الرّجل على صفحة عنق الأضحيّة الأيمن، واتّفقوا على أنّ إضجاعها يكون على الجانب الأيسر , فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذّابح في أخذ السّكّين باليمين وإمساك رأسها بيده اليسار. تكميل: قال البخاري في " صحيحه ": ويُذكر سمينين. أي: في صفة الكبشين، وهي في بعض طرق حديث أنس من رواية شعبة عن قتادة. أخرجه أبو عوانة في " صحيحه " من طريق الحجّاج بن محمّد عن شعبة. وقد ساقه البخاري في الباب من طريق شعبة عنه. وليس فيه " سمينين " وهو المحفوظ عن شعبة. وله طريق أخرى , أخرجها عبد الرّزّاق في " مصنّفه " عن الثّوريّ ¬

_ (¬1) قال العلامة ابن قدامة في المُغني: التسمية المعتبرة قوله: " بسم الله ". لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى ذلك، وقد ثبت , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذبح قال: بسم الله، والله أكبر. وكان ابن عمر يقوله. ولا خلاف في أن قوله: " بسم الله " يجزئه. انتهى

عن عبد الله بن محمّد بن عقيل عن أبي سلمة عن عائشة , أو عن أبي هريرة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحّي , اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين , فذبح أحدهما عن محمّد وآل محمّد , والآخر عن أمّته , من شهد لله بالتّوحيد وله بالبلاغ. وقد أخرجه ابن ماجه من طريق عبد الرّزّاق , لكن وقع في النّسخة " ثمينين " بمثلثةٍ أوّله بدل السّين. والأوّل أولى. وابن عقيل المذكور في سنده مختلف فيه، وقد اختلف عليه في إسناده: فقال زهير بن محمّد وشريك وعبيد الله بن عمرو كلّهم عنه عن عليّ بن الحسين عن أبي رافع، وخالفهم الثّوريّ كما ترى. ويحتمل: أن يكون له في هذا الحديث طريقان، وليس في روايته في حديث أبي رافع لفظ " سمينين ". وأخرج أبو داود من وجه آخر عن جابر: ذبح النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كبشين أقرنين أملحين موجوءين. قال الخطّابيّ: الموجوء - يعني بضمّ الجيم وبالهمز - منزوع الأنثيين، والوجاء الخصاء , وفيه جواز الخصي في الضّحيّة، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو، لكن ليس هذا عيباً , لأنّ الخصاء يفيد اللحم طيباً , وينفي عنه الزّهومة وسوء الرّائحة. وقال ابن العربيّ: حديث أبي سعيد , يعني الذي أخرجه التّرمذيّ بلفظ " ضحّى بكبشٍ فحل " , أي: كامل الخلقة لَم تقطع أنثياه , يردّ رواية موجوءين. وتعقّب: باحتمال أن يكون ذلك وقع في وقتين.

وأخرج أبو نعيم في " المستخرج " من طريق أحمد بن حنبل عن عبّاد بن العوّام أخبرني يحيى بن سعيد - وهو الأنصاريّ - سمعت أبا أُمامة بن سهل بن حنيف يقول: كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحيّة فيسمّنها ويذبحها في آخر ذي الحجّة. قال أحمد: هذا الحديث عجيبٌ. قال ابن التّين: كان بعض المالكيّة يكره تسمين الأضحيّة لئلا يتشبّه باليهود، وقول أبي أُمامة أحقّ، قاله الدّاوديّ.

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة الحديث الأول 395 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , أنّ عمر قال على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمّا بعد , أيّها النّاس , إنّه نزل تحريمُ الْخمرِ وهي من خمسةٍ: من العنب والتّمر والعسل والحنطة والشّعير , والخمر ما خامر العقل. ثلاثٌ: ودِدْتُ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيها عهداً ننتهي إليه. الجد , والكلالة , وأبواب من أبواب الربا. (¬1) قوله: (نزل تحريم الخمر) الذي يظهر أنّ تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، لِمَا روى أحمد من طريق عبد الرّحمن بن وعلة قال: سألت ابن عبّاس عن بيع الخمر , فقال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديقٌ من ثقيف أو دوس , فلقيه يوم الفتح براويةِ خمرٍ يهديها إليه، فقال: يا فلان. أما علمتَ أنّ الله حرّمها؟ فأقبل الرّجل على غلامه , فقال: بعها. فقال: إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي وعلة نحوه، ولكن ليس فيه تعيين الوقت. وروى أحمد من طريق نافع بن كيسان الثّقفيّ عن أبيه , أنّه كان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4343 , 5259 , 5266) ومسلم (3032) من طرق عن أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر - رضي الله عنه - به. وللبخاري (5267) من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي مختصراً. دون آخره.

يتّجر في الخمر، وأنّه أقبل من الشّام فقال: يا رسولَ الله: إنّي جئتك بشرابٍ جيّد، فقال: يا كيسان إنّها حُرّمت بعدك، قال: فأبيعها؟ قال: إنّها حرّمت وحرّم ثمنها. وروى أحمد وأبو يعلى من حديث تميم الدّاريّ , أنّه كان يهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلّ عام راوية خمر، فلمّا كان عام حرّمت جاء براويةٍ فقال: أشعرت أنّها قد حرّمت بعدك؟ قال: أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فنهاه. ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عبّاس، ومن حديث تميم تأييد الوقت المذكور , فإنّ إسلام تميم كان بعد الفتح. تكميل: روى النّسائيّ والبيهقيّ من طريق ابن عبّاس قال: نزل تحريم الخمر في ناسٍ شربوا، فلمّا ثملوا عبثوا، فلمّا صحوا جعل بعضهم يرى الأثر بوجه الآخر فنزلت، فقال ناسٌ من المكلَّفين: هي رجس , وهي في بطن فلان , وقد قتل بأحدٍ، فنزلت {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصّالحات جناحٌ} إلى آخرها وروى البزّار من حديث جابر , أنّ الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود. وروى أصحاب السّنن من طريق أبي ميسرة عن عمر , أنّه قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت الآية التي في البقرة {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ} فقُرِئت عليه، فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً

، فنزلت التي في النّساء {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} فقُرِئت عليه، فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في المائدة {فاجتنبوه - إلى قوله - منتهون} فقال عمر: انتهينا انتهينا. وصحَّحه عليّ بن المدينيّ والتّرمذيّ. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة نحوه دون قصّة عمر، لكن قال عند نزول آية البقرة " فقال النّاس: ما حرم علينا، فكانوا يشربون، حتّى أمّ رجلٌ أصحابَه في المغرب فخلط في قراءته , فنزلت الآية التي في النّساء، فكانوا يشربون ولا يقرب الرّجل الصّلاة حتّى يفيق، ثمّ نزلت آية المائدة , فقالوا: يا رسولَ الله ناس قتلوا في سبيل الله , وماتوا على فرشهم , وكانوا يشربونها، فأنزل الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصّالحات جناحٌ} الآية. فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لو حرّم عليهم لتركوه كما تركتموه. وفي مسند الطّيالسيّ من حديث ابن عمر نحوه، وقال في الآية الأولى: قيل حرّمت الخمر، فقالوا: دعنا يا رسولَ الله ننتفع بها، وفي الثّانية , فقيل حرّمت الخمر، فقالوا: لا إنّا لا نشربها قرب الصّلاة، وقال في الثّالثة , فقالوا: يا رسولَ الله حرّمت الخمر. قوله: (أنّ عمر قال على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولهما من رواية أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر قال: خطب عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. زاد مسلم " فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد. أَلا وإن الخمر .. "

قوله: (أمّا بعد , أيّها النّاس) وللبخاري عن مسدد عن يحيى عن أبي حيان " أمّا بعد نزل تحريم الخمر .. ". قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاء في جواب " أمّا بعد ". قلت: لا حجّة فيه، لأنّ هذه رواية مسدّد هنا، وللبخاري عن أحمد بن أبي رجاء عن يحيى القطّان بلفظ " خطب عمر على المنبر فقال: إنّه قد نزل تحريم الخمر " ليس فيه: أمّا بعد. وأخرجه الإسماعيليّ هنا من طريق محمّد بن أبي بكر المقدّميّ عن يحيى بن سعيد القطّان - شيخ مسدّد - وفيه بلفظ " أمّا بعد , فإنّ الخمر ". فظهر أنّ حذف الفاء وإثباتها من تصرّف الرّواة. قوله: (نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة) الجملة حاليّة , أي: نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة. ويجوز: أن تكون استئنافيّة أو معطوفة على ما قبلها، والمراد أنّ الخمر تصنع من هذه الأشياء لا أنّ ذلك يختصّ بوقت نزولها. والأوّل أظهر , لأنّه وقع في رواية مسلم بلفظ " أَلَا وإنّ الخمر نزل تحريمها يوم نزل , وهي من خمسة أشياء ". نعم. وقع في البخاري من وجه آخر " وإنّ الخمر تصنع من خمسة ". قوله: (من العنب إلخ) هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة , لأنّ له عندهم حكم الرّفع , لأنّه خبر صحابيّ شهد التّنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر

على المنبر بحضرة كبار الصّحابة وغيرهم , فلم يُنقل عن أحدٍ منهم إنكاره. وأراد عمر بنزول تحريم الخمر آية المائدة {يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر} إلى آخرها. فأراد عمر التّنبيه على أنّ المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصّاً بالمتّخذ من العنب , بل يتناول المتّخذ من غيرها. ويوافقه حديث أنس (¬1) فإنّه يدلّ على أنّ الصّحابة فهموا من تحريم الخمر تحريم كلّ مسكر. سواء كان من العنب أم من غيرها. وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صريحاً. فأخرج أصحاب السّنن الأربعة. وصحَّحه ابن حبّان من وجهين عن الشّعبيّ , أنّ النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2332 , 4342 , 4344 , 5258 , 5260 , 5262) ومواضع أخرى , ومسلم (1980) من طرق عن أنس قال: كنتُ أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيَّ بن كعب، من فضيخِ زهوٍ وتمرٍ، فجاءهم آت , فقال: إنَّ الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها. قال ابن حجر في " الفتح ": قوله (من فضيخ زهو وتمر) الفضيخ - بفاء وضاد معجمتين - وزن عظيم اسم للبسر إذا شدخ ونبذ , وأما الزهو - فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو - وهو البسر الذي يحمرّ أو يصفرّ قبل أن يترطَّب , وقد يُطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب كما يُطلق على خليط البسر والتمر. وكما يُطلق على البسر وحده , وعلى التمر وحده. كما قال أنس في البخاري: أنَّ الخمر حُرّمت وهي يومئذ البسر والتمر , وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس: وما خمرهم يومئذ إلَّا البسر والتمر مخلوطين , ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس: أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر. انتهى

إنّ الخمر من العصير والزّبيب والتّمر والحنطة والشّعير والذّرة، وإنّي أنهاكم عن كلّ مسكر. لفظ أبي داود، وكذا ابن حبّان، وزاد فيه: أنّ النّعمان خطب النّاس بالكوفة. ولأبي داود من وجه آخر عن الشّعبيّ عن النّعمان بلفظ: إنّ من العنب خمراً، وإنّ من التّمر خمراً، وإنّ من العسل خمراً، وإنّ من البرّ خمراً، وإنّ من الشّعير خمراً، ومن هذا الوجه. أخرجها أصحاب السّنن، والتي قبلها فيها الزّبيب دون العسل. ولأحمد من حديث أنس بسندٍ صحيح عنه قال: الخمر من العنب والتّمر والعسل والحنطة والشّعير , وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه بلفظ: حرّمت الخمر يوم حرّمت وهي. فذكرها , وزاد. الذّرة. وأخرج الْخِلَعيّ (¬1) في " فوائده " من طريق خلاد بن السّائب عن أبيه رفعه , مثل الرّواية الثّانية، ولكن ذكر الزّبيب بدل الشّعير، وسنده لا بأس به. ويوافق ذلك ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر: نزل تحريم الخمر , وإنّ بالمدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب. قوله " الذّرة " بضمّ المعجمة وتخفيف الرّاء من الحبوب معروفة. قوله: (والخمر ما خامر العقل) أي: غطّاه أو خالطه , فلم يتركه ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن علي بن الحسين الموصلي. ولد بمصر سنة 405. وتوفي بها سنة 492. قال ابن خلكان في " وفيات الأعيان " (3/ 318): والخلعي: بكسر الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى الخلع , ونسب إليها أبو الحسن المذكور لأنَّه كان يبيع بمصر الْخلع لأملاك مصر، فاشتهر بذلك وعرف به. انتهى

على حاله وهو من مجاز التّشبيه. والعقل هو آلة التّمييز , فلذلك حرّم ما غطّاه أو غيَّره، لأنّ بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه. قال الكرمانيّ: هذا تعريف بحسب اللّغة، وأمّا بحسب العرف , فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصّة. كذا قال , وفيه نظرٌ , لأنّ عمر ليس في مقام تعريف اللّغة , بل هو في مقام تعريف الحكم الشّرعيّ، فكأنّه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشّرع هو ما خامر العقل. على أنّ عند أهل اللّغة اختلافاً في ذلك، ولو سلم أنّ الخمر في اللّغة يختصّ بالمتّخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشّرعيّة. وقد تواردت الأحاديث على أنّ المسكر من المتّخذ من غير العنب يسمّى خمراً، والحقيقة الشّرعيّة مقدّمة على اللّغويّة. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , يقول: الخمر من هاتين الشّجرتين النّخلة والعنبة. قال البيهقيّ. ليس المراد الحصر فيهما , لأنّه ثبت أنّ الخمر تتّخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنّما فيه الإشارة إلى أنّ الخمر شرعاً لا تختصّ بالمتّخذ من العنب. قلت: وجعل الطّحاويُّ هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أنّ الخمر من شيئين مع حديث عمر. ومن وافقه أنّ الخمر تتّخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر: لقد حرّمت الخمر

وما بالمدينة منها شيء (¬1). وحديث أنس. واختلاف ألفاظه منها: إنّ الخمر حرّمت وشرابهم الفضيخ. وفي لفظ له: إنّا نعدّها يومئذٍ خمراً , وفي لفظ له: إنّ الخمر يوم حرّمت البسر والتّمر. (¬2) قال: فلمّا اختلف الصّحابة في ذلك , ووجدنا اتّفاق الأمّة على أنّ عصير العنب إذا اشتدّ وغلى وقذف بالزّبد فهو خمر , وأنّ مستحلّه كافر , دلَّ على أنّهم لَم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفّروا مستحلّ نبيذ التّمر، فثبت أنّه لَم يدخل في الخمر غير المتّخذ من عصير العنب. انتهى ولا يلزم من كونهم لَم يُكفّروا مُستحلّ نبيذ التّمر أن يمنعوا تسميته خمراً , فقد يشترك الشّيئان في التّسمية ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنّه هو يوافق على أنّ حكم المسكر من نبيذ التّمر حكم قليل العنب في التّحريم، فلم تبق المشاححة إلَّا في التّسمية. والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره. بحمل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي: أكثر ما يتّخذ الخمر من العنب والتّمر. ويُحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5257). (¬2) أخرجه البخاري (5262) عن بكر بن عبد الله، أنَّ أنس بن مالك حدَّثهم: أنَّ الخمر حُرِّمت، والخمر يومئذ البسر والتمر. وانظر حديثه الآخر الذي تقدّم تخريجه قبل قليل.

حينئذٍ أنّه يتّخذ منه الخمر. وأمّا قول ابن عمر. فعلى إرادة تثبيت أنّ الخمر يطلق على ما لا يتّخذ من العنب، لأنّ نزول تحريم الخمر لَم يصادف عند من خوطب بالتّحريم حينئذٍ إلَّا ما يتّخذ من غير العنب , أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة. وإن كانت موجودة فيها بقلةٍ، فإنّ تلك القلة بالنّسبة لكثرة المتّخذ ممّا عداها كالعدم. فأطلق النفي كما يقال فلان ليس بشيء مبالغة. ويؤيده. قول أنس عند البخاري: حرمت علينا الخمر حين حرمت، وما نجد - يعني بالمدينة - خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامَّة خمرنا البسر والتمر. ويحتمل: أن يكون مراد بن عمر وما بالمدينة منها شيء. أي يُعصر. قال الرّاغب في " مفردات القرآن ": سُمِّي الخمر لكونه خامراً للعقل , أي: ساتراً له، وهو عند بعض النّاس اسم لكل مسكر , وعند بعضهم للمتّخذ من العنب خاصّة، وعند بعضهم للمتّخذ من العنب والتّمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ. فرجّح أنّ كلّ شيء يستر العقل يسمّى خمراً حقيقة. وكذا قال أبو نصر بن القشيريّ في " تفسيره ": سُمّيت الخمر خمراً لسترها العقل أو لاختمارها. وكذا قال غير واحد من أهل اللّغة. منهم أبو حنيفة الدّينوريّ وأبو نصر الجوهريّ. ونقل عن ابن الأعرابيّ قال: سُمّيت الخمر لأنّها تركت حتّى

اختمرت، واختمارها تغيّر رائحتها. وقيل: سُمّيت بذلك لمخامرتها العقل. نعم. جزم ابن سيده في " المحكم " بأنّ الخمر حقيقة إنّما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمّى خمراً مجازاً. وقال صاحب " الفائق " في حديث " إيّاكم والغبيراء فإنّها خمر العالم " (¬1): هي نبيذ الحبشة متّخذة من الذّرة سُمِّيت الغبيراء لِمَا فيها من الغبرة. وقوله: " خمر العالم ". أي: هي مثل خمر العالم , لا فرق بينها وبينها. قلت: وليس تأويله هذا بأولى من تأويل مَن قال: أراد أنّها معظم خمر العالم. وقال صاحب " الهداية " من الحنفيّة: الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتدّ، وهو المعروف عند أهل اللّغة وأهل العلم. قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: كلّ مسكر خمر. (¬2) , وقوله: الخمر من هاتين الشّجرتين. ولأنّه من مخامرة العقل وذلك موجود في كلّ مسكر. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " (15481) وابن أبي شيبة في " المصنف " (8/ 198) من طريق يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس بن سعد بن عبادة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن ربي حرم عليَّ الخمر والكوبة والقنين، وإياكم والغُبيراء، فإنها ثلث خمر العالم. وسنده ضعيف لضعف عبيد الله بن زحر , والانقطاع بين بكر بن سوادة وقيس بن سعد - رضي الله عنه - (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (2003) عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

قال: ولنا إطباق أهل اللّغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأنّ تحريم الخمر قطعيّ وتحريم ما عدا المتّخذ من العنب ظنّيّ. قال: وإنّما سُمِّي الخمر خمراً لتخمّره. لا لمخامرة العقل. قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصّاً فيه، كما في النّجم فإنّه مشتقّ من الظّهور ثمّ هو خاصّ بالثّريّا. انتهى. والجواب عن الحجّة الأولى: ثبوت النّقل عن بعض أهل اللّغة: بأنّ غير المتّخذ من العنب يسمّى خمراً. وقال الخطّابيّ: زعم قوم أنّ العرب لا تعرف الخمر إلَّا من العنب، فيقال لهم: إنّ الصّحابة الذين سمّوا غير المتّخذ من العنب خمراً، عرب فصحاء، فلو لَم يكن هذا الاسم صحيحاً لَما أطلقوه. وقال ابن عبد البرّ: قال الكوفيّون: إنّ الخمر من العنب لقوله تعالى: {أعصر خمراً} قال: فدلَّ على أنّ الخمر هو ما يعتصر لا ما ينتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهل المدينة وسائر الحجازيّين وأهل الحديث كلّهم: كلّ مسكر خمر , وحكمه حكم ما اتّخذ من العنب. ومن الحجّة لهم: أنّ القرآن لَمَّا نزل بتحريم الخمر , فهم الصّحابة وهم أهل اللسان , أنّ كلّ شيء يسمّى خمراً يدخل في النّهي , فأراقوا المتّخذ من التّمر والرّطب , ولَم يخصّوا ذلك بالمتّخذ من العنب. وعلى تقدير التّسليم فإذا ثبت تسمية كلّ مسكر خمراً من الشّرع كان

حقيقة شرعيّة , وهي مقدّمة على الحقيقة اللّغويّة. والجواب عن الثّانية: أنّ اختلاف مشتركَين في الحكم في الغِلَظ لا يلزم منه افتراقهما في التّسمية، كالزّنا مثلاً , فإنّه يصدق على من وطئ أجنبيّة وعلى من وطئ امرأة جاره، والثّاني أغلظ من الأوّل، وعلى من وطئ محرماً له وهو أغلظ، واسم الزّنا مع ذلك شامل للثّلاثة. وأيضاً فالأحكام الفرعيّة لا يشترط فيها الأدلة القطعيّة، فلا يلزم من القطع بتحريم المتّخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتّخذ من غيره، أن لا يكون حراماً بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريقٍ ظنّيّ تحريمه، وكذا تسميته خمراً. والله أعلم. الجواب عن الثّالثة: ثبوت النّقل عن أعلم النّاس بلسان العرب بما نفاه هو، وكيف يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر بمحضر الصّحابة " الخمر ما خامر العقل "؟ كأنّ مستنده ما ادّعاه من اتّفاق أهل اللّغة. فيحمل قول عمر على المجاز. لكن اختلف قول أهل اللّغة في سبب تسمية الخمر خمراً. فقال أبو بكر بن الأنباريّ: سُمِّيت الخمر خمراً , لأنّها تخامر العقل. أي: تخالطه، قال: ومنه قولهم: خامره الدّاء أي خالطه. وقيل: لأنّها تخمّر العقل. أي: تستره. ومنه حديث جابر في الصحيحين " خمّروا آنيتكم " , ومنه خمار المرأة , لأنّه يستر وجهها، وهذا أخصّ من التّفسير الأوّل , لأنّه لا يلزم من المخالطة التّغطية.

وقيل: سُمِّيت خمراً , لأنّها تُخمَّر حتّى تدرك كما يقال: خمّرت العجين فتخمّر. أي: تركته حتّى أدرك، ومنه خمّرت الرّأي , أي: تركته حتّى ظهر وتحرّر. وقيل: سُمِّيت خمراً لأنّها تغطّى حتّى تغلي. ومنه حديث المختار بن فلفل , قلت لأنسٍ: الخمر من العنب أو من غيرها؟ قال: ما خمّرت من ذلك فهو الخمر. أخرجه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح. ولا مانع من صحّة هذه الأقوال كلّها , لثبوتها عن أهل اللّغة وأهل المعرفة باللسان. (¬1) قال ابن عبد البرّ: الأوجه كلّها موجودة في الخمرة , لأنّها تركت حتّى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتّى تغلب عليه وتغطّيه. وقال القرطبيّ: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره - على صحّتها وكثرتها - تبطل مذهب الكوفيّين القائلين: بأنّ الخمر لا يكون إلَّا من العنب , وما كان من غيره لا يسمّى خمراً ولا يتناوله اسم الخمر. وهو قول مخالف للغة العرب وللسّنّة الصّحيحة وللصّحابة، لأنّهم لَمَّا نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كلّ مسكر، ولَم يفرّقوا بين ما يتّخذ من العنب وبين ما يتّخذ من غيره، بل سوّوا ¬

_ (¬1) تقدَّم نقل كلام اللغويين فيه قبل قليل.

بينهما وحرّموا كلّ ما يسكر نوعه ولَم يتوقّفوا ولا استفصلوا، ولَم يشكل عليهم شيء من ذلك , بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردّد لتوقّفوا عن الإراقة حتّى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحقّقوا التّحريم لِما كان تقرّر عندهم من النّهي عن إضاعة المال، فلمّا لَم يفعلوا ذلك وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنّهم فهموا التّحريم نصّاً، فصار القائل بالتّفريق سالكاً غير سبيلهم، ثمّ انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، وهو ممّن جعل الله الحقّ على لسانه وقلبه، وسمعه الصّحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحدٍ منهم إنكار ذلك. وإذا ثبت أنّ كلّ ذلك يسمّى خمراً لزم تحريم قليله وكثيره. وقد ثبتت الأحاديث الصّحيحة في ذلك. ثمّ ذكرها. قال: وأمّا الأحاديث عن الصّحابة التي تمسّك بها المخالف , فلا يصحّ منها شيء على ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها فهو محمول على نقيع الزّبيب أو التّمر من قبل أن يدخل حدّ الإسكار جمعاً بين الأحاديث. قلت: ويؤيّده ثبوت مثل ذلك عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ولا فرق في الحلّ ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (5176) باب الانتباذ في الأوعية والتور , ومواضع أخرى , ومسلم (2006) عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أُسيد الساعدي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في عُرسه، وكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس، قال سهل: تدرون ما سَقَتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أنقعتْ له تمراتٍ من الليل، فلمَّا أَكَلَ، سقتْه إيّاه. وللبخاري: بلّتْ تمرات في تورٍ من حجارة من الليل فلمَّا فرغَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطعام =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أماثَتْه (أي مرسته بيدها) له فسقته تُتحفه بذلك. قال ابن حجر في " الفتح ": عبَّر البخاري في الترجمة بالانتباذ إشارةً إلى أن النقيع يُسمى نبيذاً، فيُحمل ما ورد في الأخبار بلفظ النبيذ على النقيع، وقد ترجم له بعد قليل " باب نقيع التمر ما لم يسكر ". قال المهلب: النقيع حلالٌ ما لم يشتدّ فإذا اشتدَّ وغلى حرُم. وشرَطَ الحنفيةُ أنْ يقذف بالزبد، قال: وإذا نُقع من الليل وشُرب النهار أو بالعكس لم يشتدّ، وفيه حديث عائشة. يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة " كانت تنبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقاء توكي أعلاه فيشربه عشاء، وتنبذه عشاء فيشربه غدوة " وعند أبي داود من وجه آخر عن عائشة , أنها كانت تنبذ للنبي - صلى الله عليه وسلم - غدوة، فإذا كان من العشي تعشَّى فشرب على عشائه، فإن فضلَ شيء صبته ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدى شرب على غدائه، قالت نغسل السقاء غدوة وعشية " وفي حديث عبد الله بن الديلمي عن أبيه , قلنا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما نصنع بالزبيب؟ قال: انبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم " أخرجه أبو داود والنسائي. فهذه الأحاديث فيها التقييد باليوم والليلة. وأما ما أخرج مسلمٌ من حديث ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُنبذ له الزبيب من الليل في السقاء، فإذا أصبح شربَه يومه وليلته ومن الغد، فإذا كان مساء شربه أو سقاه الخدم، فإنْ فضَلَ شيءٌ أراقه ". وقال ابن المنذر: الشراب في المُدّة التي ذكرتها عائشة يشرب حلواً، وأما الصفة التي ذكرها ابن عباس فقد ينتهي إلى الشدَّة والغليان، لكن يُحمل ما ورد من أمر الخدَمِ بشربه على أنه لم يبلغ ذلك , ولكن قرب منه، لأنه لو بلغ ذلك لأسكر. ولو أسكر لحرم تناوله مطلقاً. انتهى. وقد تمسَّك بهذا الحديث من قال بجواز شرب قليل ما أسكر كثيره، ولا حجة فيه لأَنّه ثبت أنه بدا فيه بعضُ تغير في طعمه من حمض أو نحوه فسقاه الخدم، وإلى هذا أشار أبو داود فقال بعد أن أخرجه: قوله: " سقاه الخدم " يريد أنه تبادر به الفساد. انتهى. ويحتمل: أن يكون " أو " في الخبر للتنويع لأنه قال: " سقاه الخدم أو أمر به فأهرق " أي إن كان بدا في طعمه بعض التغيّر ولم يشتد سقاه الخدم، وإن كان اشتد أمر بإهراقه. وبهذا جزم النووي. فقال: هو اختلاف على حالين إن ظهر فيه شدّة صبّه وإن لم تظهر شدة سقاه الخدم لئلا تكون فيه إضاعة مال، وإنما يتركه هو تنزها. وجمع بين حديث ابن عباس وعائشة بأنَّ شرب النقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم. ويحتمل: أن يكون باختلاف حال أو زمان يحمل الذي يشرب في يومه على ما إذا كان قليلا وذاك على ما إذا كان كثيرا فيفضل منه ما يشربه فيما بعد، وإما بأن يكون في شدة الحر مثلا فيسارع إليه الفساد، وذاك في شدة برد فلا يتسارع إليه. انتهى كلامه

بينه وبين عصير العنب أوّل ما يُعصر، وإنّما الخلاف فيما اشتدّ منهما. هل يفترق الحكم فيه أو لا؟ وقد ذهب بعض الشّافعيّة إلى موافقة الكوفيّين في دعواهم. أنّ اسم الخمر خاصّ بما يتّخذ من العنب , مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم , وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كلّ شراب. فقال الرّافعيّ: ذهب أكثر الشّافعيّة , إلى أنّ الخمر حقيقة فيما يتّخذ من العنب مجاز في غيره. وخالفه ابن الرّفعة فنقل عن المزنيّ وابن أبي هريرة وأكثر الأصحاب , أنّ الجميع يُسمّى خمراً حقيقة. قال: وممّن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان أبو الطّيّب والرّويانيّ، وأشار ابن الرّفعة إلى أنّ النّقل الذي عزاه الرّافعيّ للأكثر لَم يجد نقله عن الأكثر إلَّا في كلام الرّافعيّ. ولَم يتعقّبه النّوويّ في " الرّوضة "، لكنّ كلامه في " شرح مسلم " يوافقه وفي " تهذيب الأسماء " يخالفه. وقد نقل ابن المنذر عن الشّافعيّ ما يوافق ما نقلوا عن المزنيّ , فقال: قال إنّ الخمر من العنب ومن غير العنب. عمر وعليّ وسعيد وابن

عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عبّاس وعائشة، ومن التّابعين سعيد بن المسيّب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والأوزاعيّ والثّوريّ وابن المبارك والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وعامّة أهل الحديث. ويمكن الجمع: بأنّ من أطلق على غير المتّخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشّرعيّة، ومن نفى أراد الحقيقة اللّغويّة. وقد أجاب بهذا ابن عبد البرّ , وقال: إنّ الحكم إنّما يتعلق بالاسم الشّرعيّ دون اللّغويّ. والله أعلم. ويلزم مَن قال بقول أهل الكوفة: إنّ الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره , أن يجوّزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأنّ الصّحابة لَمَّا بلغهم تحريم الخمر أراقوا كلّ ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازاً، وإذا لَم يجوّزوا ذلك صحّ أنّ الكلّ خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك. وعلى تقدير إرخاء العنان والتّسليم أنّ الخمر حقيقة في ماء العنب خاصّة , فإنّما ذلك من حيث الحقيقة اللّغويّة، فأمّا من حيث الحقيقة الشّرعيّة فالكلّ خمر حقيقة لحديث " كلّ مسكر خمر " فكلّ ما اشتدّ كان خمراً، وكلّ خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم. وبالله التّوفيق. قوله: (وثلاث) هي صفة موصوف. أي: أمور أو أحكام. قوله: (وددتُ) أي: تمنّيت، وإنّما تمنّى ذلك , لأنّه أبعد من

محذور الاجتهاد وهو الخطأ فيه، فثبت على تقدير وقوعه، ولو كان مأجوراً عليه فإنّه يفوته بذلك الأجر الثّاني، والعمل بالنّصّ إصابة محضة. قوله: (أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيها عهداً ننتهي إليه) وللبخاري " لَم يفارقنا حتّى يعهد إلينا عهداً " , وهذا يدلّ على أنّه لَم يكن عنده عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نصٌّ فيها، ويشعر بأنّه كان عنده عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن الخمر ما لَم يحتج معه إلى شيء غيره حتّى خطب بذلك جازماً به. قوله: (الجدّ) الجدّ هنا من يكون من قِبَل الأب , وقد انعقد الإجماع على أنّ الجدّ لا يرث مع وجود الأب. (¬1) والمراد هنا قدر ما يرث مع الأخوة الأشقّاء ومن الأب , لأنّ الصّحابة اختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً. وعن عمر أنّه قضى فيه بقضايا مختلفة. فأخرج الدّارميّ بسندٍ صحيحٍ عن الشّعبيّ قال: أوّل جدٍّ ورث في الإسلام عمر , فأخذ ماله فأتاه عليٌّ وزيدٌ يعني ابن ثابتٍ , فقالا: ليس لك ذلك , إنّما أنت كأحد الأخوين ". وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الرّحمن بن غنمٍ مثله , دون قوله " فأتاه .. إلخ , لكن قال: فأراد عمر أن يحتاز المال , فقلت له: يا أمير المؤمنين إنّهم شجرةٌ دونك يعني بني أبيه. ¬

_ (¬1) تقدَّم الكلام على مسألة الجد مع الأخوة. انظر حديث ابن عباس (301).

وأخرج الدّارقطنيّ بسندٍ قويٍّ عن زيد بن ثابتٍ , أنّ عمر أتاه فذكر قصّةً فيها أنّ مثل الجدّ كمثل شجرةٍ نبتت على ساقٍ واحدٍ , فخرج منها غصنٌ ثمّ خرج من الغصن غصنٌ , فإن قطعت الغصن رجع الماء إلى السّاق , وإن قطعت الثّاني رجع الماء إلى الأوّل , فخطب عمر النّاس , فقال: إنّ زيداً قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته. وأخرج الدّارميّ من طريق إسماعيل بن أبي خالدٍ قال: قال عمر: خذ من الجدّ ما اجتمع عليه النّاس. وهذا منقطعٌ. وأخرج الدّارميّ من طريق عيسى الخيّاط عن الشّعبيّ قال: كان عمر يقاسم الجدّ مع الأخ والأخوين , فإذا زادوا أعطاه الثّلث , وكان يعطيه مع الولد السّدس ". وأخرج البيهقيّ بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن المسيّب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيبٍ , أنّ عمر قضى أنّ الجدّ يقاسم الإخوة للأب والأمّ والإخوة للأب ما كانت المقاسمة خيراً له من الثّلث , فإن كثر الإخوة أعطي الجدّ الثّلث. وأخرج يزيد بن هارون في " كتاب الفرائض " عن هشام بن حسّان عن محمّد بن سيرين عن عبيدة بن عمرٍو , قال: إنّي لأحفظ عن عمر في الجدّ مائة قضيّةٍ كلّها ينقض بعضها بعضاً. وروّينا في الجزء الحادي عشر من " فوائد أبي جعفرٍ الرّازيّ " بسند صحيح إلى ابن عونٍ عن محمّد بن سيرين. سألت عَبيدة عن الجدّ؟ فقال: قد حفظت عن عمر في الجدّ مائة قضيّةٍ مختلفةٍ.

وقد استبعد بعضهم هذا عن عمر , وتأوّل البزّار صاحب المسند قوله " قضايا مختلفةٍ " على اختلاف حال من يرث مع الجدّ , كأن يكون أخٌ واحدٌ أو أكثر أو أختٌ واحدةٌ أو أكثر. ويدفع هذا التّأويل , ما تقدّم من قول عبيدة بن عمرٍو: ينقض بعضها بعضاً. وروّينا في " كتاب الفرائض " لسفيان الثّوريّ من طريق النّخعيّ قال: كان عمر وعبد الله يكرهان أن يفضّلا أمّاً على جدٍّ. وأخرج سعيد بن منصورٍ وأبو بكر بن أبي شيبة بسندٍ واحدٍ صحيحٍ إلى عبيد بن نضلة قال: كان عمر وابن مسعودٍ يقاسمان الجدّ مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون السّدس خيراً له من مقاسمة الإخوة. وأخرجه محمّد بن نصرٍ مثله سواءً , وزاد " ثمّ إنّ عمر كتب إلى عبد الله: ما أرانا إلَّا قد أجحفنا بالجدّ , فإذا جاءك كتابي هذا فقاسم به مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون الثّلث خيراً له من مقاسمتهم , فأخذ بذلك عبد الله ". وأخرج محمّد بن نصرٍ بسندٍ صحيحٍ إلى عبيدة بن عمرٍو قال: كان يعطى الجدّ مع الإخوة الثّلث , وكان عمر يعطيه السّدس , ثمّ كتب عمر إلى عبد الله: إنّا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجدّ فأعطه الثّلث , ثمّ قدم عليٌّ ها هنا يعني الكوفة فأعطاه السّدس , قال عَبيدة: فرأيهما في الجماعة أحبّ إليّ من رأي أحدهما في الفرقة ". ومن طريق عبيد بن نضيلة , أنّ عليّاً كان يعطي الجدّ الثّلث , ثمّ تحوّل إلى السّدس , وأنّ عبد الله كان يعطيه السّدس , ثمّ تحوّل إلى

الثّلث. قوله: (والكلالة) الكلالة بفتح الكاف وتخفيف اللام , وهو من لَم يرثه أبٌ ولا ابنٌ , وهو قول أبي بكر الصّديق. أخرجه ابن أبي شيبة عنه. وجمهورِ العلماء من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم. وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل قال: ما رأيتهم إلَّا تواطئوا على ذلك. وهذا إسنادٌ صحيحٌ , وعمرو بن شرحبيل - هو أبو ميسرة وهو من كبار التّابعين - مشهورٌ بكنيته أكثر من اسمه. قال البخاري: وهو مصدرٌ من تكلّله النّسب , أي: تعطّف النّسب عليه , وزاد غيره: كأنّه أخذ طرفيه من جهة الولد والوالد , وليس له منهما أحدٌ , وهو قول البصريّين , قالوا: هو مأخوذٌ من الإكليل , كأنّ الورثة أحاطوا به , وليس له أب ولا ابن. وقيل: هو من كلَّ يكلّ يقال: كلت الرّحم إذا تباعدت وطال انتسابها. وقيل: الكلالة مَن سوى الولد , وزاد الدّاوديّ: وولد الولد. وقيل: مَن سوى الوالد , وقيل: هم الإخوة , وقيل: من الأمّ. وقال الأزهريّ: سُمِّي الميّت الذي لا والد له ولا ولد كلالةً , وسُمّي الوارث كلالةً , وسُمّي الإرث كلالةً. وعن عطاءٍ الكلالة: هي المال , وقيل: الفريضة , وقيل: الورثة والمال , وقيل: بنو العمّ ونحوهم , وقيل: العصبات وإن بعدوا ,

وقيل: غير ذلك. ولكثرة الاختلاف فيها صحّ عن عمر , أنّه قال: لَم أقل في الكلالة شيئاً. قوله: (وأبواب من أبواب الرّبا) لعلّه يشير إلى ربا الفضل , لأنّ ربا النّسيئة متّفق عليه بين الصّحابة، وسياق عمر يدلّ على أنّه كان عنده نصٌّ في بعض من أبواب الرّبا دون بعض، فلهذا تمنّى معرفة البقيّة. زاد البخاري قال أبو حيّان التّيميّ: يا أبا عمرو - هي كنية الشّعبيّ - فشيء يصنع بالسند من الأرز؟ قال: ذاك لَم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - , أو قال: على عهد عمر. أي: اتّخاذ الخمر من الأرز لَم يكن على العهد النّبويّ. وفي رواية الإسماعيليّ: لَم يكن هذا على عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان لنهى عنه، ألا ترى أنّه قد عمّ الأشربة كلّها فقال: الخمر ما خامر العقل. قال الإسماعيليّ: هذا الكلام الأخير فيه دلالة على أنّ قوله " الخمر ما خامر العقل " من كلام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال الخطّابيّ: إنّما عدّ عمر الخمسة المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه، ولَم تكن كلّها توجد بالمدينة الوجود العامّ، فإنّ الحنطة كانت بها عزيزة، وكذا العسل بل كان أعزّ، فعدّ عمر ما عرف فيها، وجعل ما في معناها ممّا يتّخذ من الأرز وغيره خمراً إن كان ممّا يخامر العقل، وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق

الاشتقاق. كذا قال. وردّ بذلك ابن العربيّ في جواب من زعم , أنّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: كلّ مسكر خمر. معناه مثل الخمر، لأنّ حذف مثل ذلك مسموع شائع. قال: بل الأصل عدم التّقدير، ولا يصار إلى التّقدير إلَّا إلى الحاجة. فإن قيل: احتجنا إليه , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يبعث لبيان الأسماء , قلنا: بل بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لا يعلمها. ولا سيّما ليقطع تعلّق القصد بها. قال: وأيضاً لو لَم يكن الفضيخ خمراً , ونادى المنادي حرّمت الخمر لَم يبادروا إلى إراقتها ولَم يفهموا أنّها داخلة في مسمّى الخمر، وهم الفصّح اللّسن. فإن قيل: هذا إثبات اسم بقياسٍ، قلنا: إنّما هو إثبات اللّغة عن أهلها، فإنّ الصّحابة عرب فصحاء فهموا من الشّرع ما فهموه من اللّغة ومن اللّغة ما فهموه من الشّرع. وذكر ابن حزم , أنّ بعض الكوفيّين احتجّ بما أخرجه عبد الرّزّاق عن ابن عمر بسندٍ جيّد قال: أمّا الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأمّا ما عداها من الأشربة فكلّ مسكر حرام. قال: وجوابه , أنّه ثبت عن ابن عمر أنّه قال: كلّ مسكر خمر. فلا يلزم من تسمية المتّخذ من العنب خمراً انحصار اسم الخمر فيه. وكذا احتجّوا بحديث ابن عمر أيضاً: حرّمت الخمر وما بالمدينة منها شيء. مراده المتّخذ من العنب، ولَم يرد أنّ غيرها لا يسمّى خمراً.

بدليل حديثه الآخر في البخاري: نزل تحريم الخمر وإنَّ بالمدينة خمسة أشربة كلّها تدعى الخمر , ما فيها خمر العنب. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم. ذِكر الأحكام على المنبر لتشتهر بين السّامعين، وذكر أمّا بعد فيها، والتّنبيه بالنّداء، والتّنبيه على شرف العقل وفضله، وتمنّي الخير، وتمنّي البيان للأحكام، وعدم الاستثناء.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 396 - عن عائشة رضي الله عنها , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البِتْع؟ فقال: كلّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ. (¬1) قال المصنِّف: البتع: نبيذ العسل. قوله: (سئل عن البِتْع) بكسر الموحدة وسكون المثناة بعدها عين مهملة. زاد شعيب عن الزّهريّ عند البخاري " وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه " , ومثله لأبي داود من طريق الزّبيديّ عن الزّهريّ. وظاهره أنّ التّفسير من كلام عائشة. ويحتمل: أن يكون من كلام مَن دونها، ووقع في رواية معمر عن الزّهريّ عند أحمد مثل رواية مالك (¬2)، لكن قال في آخره: " والبتع نبيذ العسل ". وهو أظهر في احتمال الإدراج , لأنّه أكثر ما يقع في آخر الحديث. وقد أخرجه مسلم من طريق معمر , لكن لَم يسق لفظه. ولَم أقف على اسم السّائل في حديث عائشة صريحاً. لكنّني أظنّه أبا موسى الأشعريّ، ففي صحيح البخاري من طريق سعيد بن أبي بُرْدة عن أبيه عن أبي موسى , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (239 , 5263 , 5264) ومسلم (2001) من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها (¬2) رواية مالك هي التي ذكرها المقدسي في الباب. عنه عن الزهري به

فسأله عن أشربة تصنع بها؟ فقال: ما هي؟ قال: البتع والمزر، فقال: كلّ مسكر حرام. قلت لأبي بُرْدة: ما البتع؟ قال: نبيذ العسل. وهو عند مسلم من وجه آخر عن سعيد بن أبي بُرْدة بلفظ " فقلت: يا رسولَ الله. أفتنا في شرابين كنّا نصنعهما باليمن: البتع من العسل ينبذ حتّى يشتدّ، والمزر من الشّعير والذّرة ينبذ حتّى يشتدّ؟ قال: وكان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطي جوامع الكلم وخواتمه، فقال: أَنْهى عن كلّ مسكر. وفي رواية أبي داود التّصريح بأنّ تفسير البتع مرفوع , ولفظه: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراب من العسل؟ فقال: ذاك البتع، قلت: ومن الشّعير والذّرة، قال: ذاك المزر. ثمّ قال: أخبر قومك أنّ كلّ مسكر حرام. وقد سأل أبو وهب الجيشانيّ عن شيءٍ ما سأله أبو موسى. فعند الشّافعيّ وأبي داود من حديثه , أنّه سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن المزر , فأجاب بقوله " كلّ مسكر حرام ". وهذه الرّواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب " كلّ شراب أسكر " , وأنّه لَم يرد تخصيص التّحريم بحالة الإسكار، بل المراد أنّه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله , ولو لَم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه. ويؤخذ من لفظ السّؤال , أنّه وقع عن حكم جنس البتع لا عن القدر المسكر منه، لأنّه لو أراد السّائل ذلك لقال: أخبِرني عمّا يحلّ منه

وما يحرم؟، وهذا هو المعهود من لسان العرب , إذا سألوا عن الجنس. قالوا: هل هذا نافع أو ضارّ؟ مثلاً. وإذا سألوا عن القدْر. قالوا: كم يؤخذ منه؟ وفي الحديث أنّ المفتي يجيب السّائل بزيادةٍ عمّا سأل عنه إذا كان ذلك ممّا يحتاج إليه السّائل. وفيه تحريم كلّ مسكر سواء كان متّخذاً من عصير العنب أو من غيره. قال المازريّ: أجمعوا على أنّ عصير العنب قبل أن يشتدّ حلال، وعلى أنّه إذا اشتدّ وغلى وقذف بالزّبد حرم قليله وكثيره، ثمّ لو حصل له تخلّل بنفسه حلَّ بالإجماع أيضاً، فوقع النّظر في تبدّل هذه الأحكام عند هذه المتّخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعضٍ، ودلَّ على أنّ عِلَّة التّحريم الإسكار , فاقتضى ذلك أنّ كلّ شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره. انتهى وما ذكره استنباطاً ثبت التّصريح به في بعض طرق الخبر. فعند أبي داود والنّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان من حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أسكر كثيره فقليله حرام. وللنّسائيّ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مثله، وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعاً: كلّ مسكر حرام , وما أسكر منه الفرق , فملء الكفّ منه حرام.

ولابن حبّان والطّحاويّ من حديث عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره. وقد اعترف الطّحاويّ بصحّة هذه الأحاديث. لكن قال: اختلفوا في تأويل الحديث. فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر، وقال بعضهم: أراد به ما يقع السّكر عنده، ويؤيّده , أنّ القاتل لا يُسمّى قاتلاً حتّى يقتل. قال: ويدلّ له حديث ابن عبّاس رفعه: حرّمت الخمر قليلها وكثيرها، والسّكر من كلّ شراب. قلت: وهو حديث أخرجه النّسائيّ ورجاله ثقات، إلَّا أنّه اختلف في وصله وانقطاعه , وفي رفعه ووقفه. وعلى تقدير صحّته فقد رجّح الإمام أحمد وغيره أنّ الرّواية فيه بلفظ " والمُسكر " بضمّ الميم وسكون السّين لا " السُّكر " بضمٍّ ثمّ سكون أو بفتحتين. وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد , ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحّتها وكثرتها؟. وجاء أيضاً عن عليّ عند الدّارقطنيّ , وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطّبرانيّ , وعن خوّات بن جبير عند الدّارقطنيّ والحاكم والطّبرانيّ , وعن زيد بن ثابت عند الطّبرانيّ. وفي أسانيدها مقال، لكنّها تزيد الأحاديث التي قبلها قوّة وشهرة. قال أبو المظفّر ابن السّمعانيّ - وكان حنفيّاً فتحوّل شافعيّاً -:

ثبتت الأخبار عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر، ثمّ ساق كثيراً منها. ثمّ قال: والأخبار في ذلك كثيرة , ولا مساغ لأحدٍ في العدول عنها والقول بخلافها، فإنّها حجج قواطع. قال: وقد زلَّ الكوفيّون في هذا الباب , ورووا أخباراً معلولةً لا تعارض هذه الأخبار بحالٍ، ومن ظنّ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب مسكراً فقد دخل في أمر عظيم وباءَ بإثمٍ كبير، وإنّما الذي شربه كان حلواً ولَم يكن مسكراً. وقد روى ثمامة بن حزن القشيريّ , أنّه سأل عائشة عن النّبيذ , فدعت جارية حبشيّة , فقالت: سل هذه، فإنّها كانت تنبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت الحبشيّة: كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكيه وأعلقه , فإذا أصبح شرب منه. أخرجه مسلم. وروى الحسن البصريّ عن أمّه عن عائشة نحوه. ثمّ قال: فقياس النّبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجلّ الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النّبيذ، ومن ذلك أنّ عِلَّة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النّبيذ، لأنّ السّكر مطلوب على العموم، والنّبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر , لأنّ حصول الفرح والطّرب موجود في كلّ منهما، وإن كان في النّبيذ غلظ وكدرة وفي الخمر رقّة وصفاء , لكن الطّبع يحتمل ذلك في النّبيذ لحصول السّكر كما تحتمل المرارة في الخمر لطلب السّكر.

قال: وعلى الجملة فالنّصوص المصرّحة بتحريم كلّ مسكر قلَّ أو كَثُر مغنية عن القياس. والله أعلم. وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصحّ في حلّ النّبيذ الذي يسكر كثيره عن الصّحابة شيء ولا عن التّابعين، إلَّا عن إبراهيم النّخعيّ، قال: وقد ثبت حديث عائشة " كلّ شراب أسكر فهو حرام ". وأمّا ما أخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل: كنّا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذاً شديداً، ومن طريق علقمة: أكلْتُ مع ابن مسعود. فأُتينا بنبيذٍ شديد نبذتْه سيرين فشربوا منه. فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لو حُمل على ظاهره لَم يكن معارِضاً للأحاديث الثّابتة في تحريم كلّ مسكر. ثانيها: أنّه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر قليله وكثيره، فإذا اختلف القليل عنه كان الموافق لقول إخوانه من الصّحابة مع موافقة الحديث المرفوع أولى. ثالثها: يحتمل أن يكون المراد بالشّدّة شدّة الحلاوة أو شدّة الحموضة , فلا يكون فيه حجّة أصلاً. وأسند أبو جعفر النّحّاس عن يحيى بن معين , أنّ حديث عائشة " كلّ شراب أسكر فهو حرام " أصحُّ شيء في الباب. وفي هذا تعقّب على من نقل عن ابن معين , أنّه قال: لا أصل له. وقد ذكر الزّيلعيّ في " تخريج أحاديث الهداية " - وهو من أكثرهم

اطّلاعاً -: أنّه لَم يثبت في شيء من كتب الحديث نقل هذا عن ابن معين. انتهى وكيف يتأتّى القول بتضعيفه مع وجود مخارجه الصّحيحة؟!. ثمّ مع كثرة طرقه، حتّى قال الإمام أحمد: إنّها جاءت عن عشرين صحابيّاً، فأورد كثيراً منها في " كتاب الأشربة " المفرد. فمنها ما تقدّم. ومنها حديث ابن عمر المتقدّم. وحديث عمر بلفظ " كلّ مسكر حرام " عند أبي يعلى. وفيه الإفريقيّ، وحديث عليّ بلفظ " اجتنبوا ما أسكر " عند أحمد. وهو حسن، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه من طريق ليّن بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر ليّن أيضاً بلفظ عليّ، وحديث أنس أخرجه أحمد بسندٍ صحيح بلفظ " ما أسكر فهو حرام ". وحديث أبي سعيد أخرجه البزّار بسندٍ صحيح بلفظ عمر، وحديث الأشجّ العصريّ. أخرجه أبو يعلى كذلك بسندٍ جيّد وصحَّحه ابن حبّان، وحديث ديلم الحميريّ. أخرجه أبو داود بسندٍ حسن في حديث فيه " قال: هل يسكر؟ قال: نعم، قال: فاجتنبوه ". وحديث ميمونة. أخرجه أحمد بسندٍ حسن بلفظ " وكلّ شراب أسكر فهو حرام " وحديث ابن عبّاس. أخرجه أبو داود من طريق جيّد بلفظ عمر، والبزّار من طريق ليّن بلفظ " واجتنبوا كلّ مسكر ". وحديث قيس بن سعد. أخرجه الطّبرانيّ بلفظ حديث ابن عمر،

وأخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ حديث عمر، وحديث النّعمان بن بشير. أخرجه أبو داود بسندٍ حسن بلفظ " وإنّي أنهاكم عن كلّ مسكر " وحديث معاوية. أخرجه ابن ماجه بسندٍ حسن بلفظ عمر. وحديث وائل بن حجر. أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرّة بن إياس المزنيّ. أخرجه البزّار بلفظ عمر بسندٍ ليّن، وحديث عبد الله بن مغفّل. أخرجه أحمد بلفظ " اجتنبوا المسكر " وحديث أمّ سلمة. أخرجه أبو داود بسندٍ حسن بلفظ " نهي عن كلّ مسكر ومفتّر ". وحديث بريدة. أخرجه مسلم في أثناء حديث , ولفظه مثل لفظ عمر، وحديث أبي هريرة. أخرجه النّسائيّ بسندٍ حسن كذلك. ذكر أحاديث هؤلاء التّرمذيّ في الباب. وفيه أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند النّسائيّ بلفظ عمر، وعن زيد بن الخطّاب أخرجه الطّبرانيّ بلفظ عليّ " اجتنبوا كلّ مسكر ". وعن الرّسيم (¬1) أخرجه أحمد بلفظ " اشربوا فيما شئتم , ولا تشربوا مسكراً " وعن أبي بُرْدة بن نيار. أخرجه ابن أبي شيبة بنحو هذا ¬

_ (¬1) قال الشارح في " الإصابة " (2/ 403): رسيم العبديّ الهجريّ: وهو عند ابن ماكولا بوزن عظيم، قال ابن نقطة: بل هو مصغر، وقال: إنه نقله من خط أبي نعيم. قلت: وكذلك رأيته في أصلين من كتاب ابن السكن وابن أبي حاتم. روى حديثه ابن أبي شيبة، وأحمد من طريق يحيى بن غسان، عن ابن الرّسيم، عن أبيه، قال: وفدنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهانا عن الظروف، ثم رجعنا إليه في العام الثاني فقال: اشربوا فيما شئتم .. الحديث. وقال ابن مندة في سياقه عن أبيه: وكان فقيهاً من أهل هجر. قال ابن السّكن: إسناده مجهول. انتهى.

اللفظ. وعن طلق بن عليّ. رواه ابن أبي شيبة بلفظ " يا أيّها السّائل عن المسكر لا تشربه ولا تسقه أحداً من المسلمين " , وعن صحار العبديّ. أخرجه الطّبرانيّ بنحو هذا، وعن أمّ حبيبة. عند أحمد في " كتاب الأشربة " , وعن الضّحّاك بن النّعمان. عند ابن أبي عاصم في " الأشربة " , وكذا عنده عن خوّات بن جبير. فإذا انضمّت هذه الأحاديث إلى حديث ابن عمر وأبي موسى وعائشة زادت عن ثلاثين صحابيّاً، وأكثر الأحاديث عنهم جياد , ومضمونها أنّ المسكر لا يحلّ تناوله , بل يجب اجتنابه. والله أعلم. وقد ردّ أنسٌ الاحتمال الذي جنح إليه الطّحاويّ. فقال أحمد: حدّثنا عبد الله بن إدريس سمعت المختار بن فلفل , يقول: سألت أنساً فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزفّت , وقال: كلّ مسكر حرام. قال: فقلت له: صدقت المسكر حرام، فالشّربة والشّربتان على الطّعام؟ فقال: ما أسكر كثيره فقليله حرام. وهذا سند صحيح على شرط مسلم , والصّحابيّ أعرف بالمراد ممّن تأخّر بعده، ولهذا قال عبد الله بن المبارك ما قال. واستدل بمطلق قوله " كلّ مسكر حرام " , على تحريم ما يسكر - ولو لَم يكن شراباً - فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها. وقد جزم النّوويّ وغيره: بأنّها مسكرة. وجزم آخرون: بأنّها مخدّرة، وهو مكابرة , لأنّها تحدث بالمشاهدة

ما يحدث الخمر من الطّرب والنّشأة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنّها ليست بمسكرةٍ , فقد ثبت في أبي داود " النّهي عن كلّ مسكر ومفتّر " وهو بالفاء، والله أعلم. (¬1) ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (34/ 205): وأما " الحشيشة " الملعونة المسكرة: فهي بمنزلة غيرها من المسكرات , والمسكر منها حرام باتفاق العلماء؛ بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكراً: كالبنج فإنَّ المسكر يجب فيه الحد وغير المسكر يجب فيه التعزير. وأما قليل " الحشيشة المسكرة " فحرام عند جماهير العلماء كسائر القليل من المسكرات , وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل مسكر خمر , وكل خمر حرام. يتناول ما يسكر. ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولاً أو مشروباً؛ أو جامداً أو مائعاً. فلو اصطبغ كالخمر كان حراماً , ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراماً. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بعث بجوامع الكلم. فإذا قال كلمة جامعة كانت عامَّة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها. سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن. فلما قال: كل مسكر حرام " تناول ذلك ما كان بالمدينة من خمر التمر وغيرها , وكان يتناول ما كان بأرض اليمن من خمر الحنطة والشعير والعسل وغير ذلك , ودخل في ذلك ما حدث بعده من خمر لبن الخيل الذي يتخذه الترك ونحوهم. فلم يفرق أحدٌ من العلماء بين المسكر من لبن الخيل والمسكر من الحنطة والشعير , وإن كان أحدهما موجوداً في زمنه كان يعرفه , والآخر لم يكن يعرفه؛ إذ لم يكن بأرض العرب من يتخذ خمراً من لبن الخيل. وهذه " الحشيشة " فإنَّ أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة. حيث ظهرت دولة التتر؛ وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكسخان لَمَّا أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلَّط الله عليهم العدو. وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات. وهي شرٌّ من الشراب المسكر من بعض الوجوه , والمسكر شرٌّ منها من وجه آخر. فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولاً تورث التخنيث والديوثة , وتفسد المزاج. فتجعل الكبير كالسفتجة , وتوجب كثرة الأكل , وتورث الجنون , وكثيرٌ من الناس صار مجنوناً بسبب أكلها ... الخ كلامه رحمه الله.

قوله: (كلّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ) أي: كان من شأنه الإسكار سواء حصل بشربه السّكر أم لا. قال الخطّابيّ: فيه دليل على أنّ قليل المسكر وكثيره حرام من أيّ نوعٍ كان؛ لأنّها صيغة عموم أشير بها إلى جنس الشّراب الذي يكون منه السّكر. فهو كما لو قال: كلّ طعامٍ أشبع فهو حلال , فإنّه يكون دالاًّ على حل كل طعامٍ من شأنه الإشباع وإن لَم يحصل الشّبع به لبعضٍ دون بعض. ووجه احتجاج البخاريّ (¬1) بالحديث على عدم جواز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر , أنّ المسكر لا يحلّ شربه , وما لا يحلّ شربه , لا يجوز الوضوء به اتّفاقاً (¬2). والله أعلم. وذهب الأوزاعيّ: إلى جواز الوضوء بالأنبذة كلّها. وهو قول عكرمة مولى ابن عبّاس , وروي عن عليّ وابن عبّاس. ولَم يصحّ عنهما. وقيّده أبو حنيفة في المشهور عنه: بنبيذ التّمر , واشترط أن لا يكون بحضرة ماءٍ , وأن يكون خارج المصر أو القرية. وخالفه صاحباه فقال محمّد: يجمع بينه وبين التّيمّم , قيل: إيجاباً , وقيل: استحباباً. وهو قول إسحاق. وقال أبو يوسف بقول الجمهور: لا يتوضّأ به بحالٍ، واختاره ¬

_ (¬1) بوَّب البخاري على حديث الباب (باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر) (¬2) أي: المسكر , أمّا النبيذ ففيه خلاف مشهور سيذكره الشارح رحمه الله.

الطّحاويّ. وذكر قاضي خان , أنّ أبا حنيفة رجع إلى هذا القول , لكن في المقيّد من كتبهم: إذا ألقى في الماء تمراتٍ فحلا ولَم يزل عنه اسم الماء جاز الوضوء به بلا خلاف. يعني عندهم. واستدلّوا بحديث ابن مسعود. حيث قال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجنّ: ما في إداوتك؟ قال: نبيذٌ , قال: ثمرةٌ طيّبةٌ وماءٌ طهورٌ. رواه أبو داود والتّرمذيّ , وزاد " فتوضّأ به " وهذا الحديث أطبق علماء السّلف على تضعيفه. وقيل: - على تقدير صحّته - إنّه منسوخ؛ لأنّ ذلك كان بمكّة , ونزول قوله تعالى {فلم تجدوا ماءً فتيمّموا} إنّما كان بالمدينة بلا خلاف. أو هو محمولٌ على ماءٍ أُلقيت فيه تمراتٌ يابسةٌ لَم تغيّر له وصفاً , وإنّما كانوا يصنعون ذلك؛ لأنّ غالب مياههم لَم تكن حلوة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 397 - عن عبد الله بن عبّاسٍ - رضي الله عنه - , قال: بلغ عمرَ , أنّ فلاناً باع خمراً , فقال: قاتل الله فلاناً , أَلَم يعلم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: قاتل الله اليهود , حرّمت عليهم الشّحوم , فجملوها فباعوها؟. (¬1) قوله: (بلغ عمر بن الخطّاب , أنّ فلاناً باع خمراً) في رواية مسلمٍ وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار " أنّ سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة ". زاد البيهقيّ من طريق الزّعفرانيّ عن سفيان: عن سمرة بن جندبٍ (¬2). قال ابن الجوزيّ والقرطبيّ وغيرهما: اختلف في كيفيّة بيع سمرة للخمر على ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنّه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية , فباعها منهم معتقداً جواز ذلك. وهذا حكاه ابن الجوزيّ عن ابن ناصرٍ , ورجّحه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2110 , 3273) ومسلم (1582) من طريق سفيان بن عيينة , ومسلم (1582) من طريق روح بن القاسم كلاهما عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 20) عن الحسن بن محمد الزعفراني ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال عمر: إنَّ سمرة بن جندب باع خمراً، قاتل الله سمرة، أَلَم يعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعن الله .. الحديث.

وقال: كان ينبغي له أن يوليهم بيعها , فلا يدخل في محظورٍ , وإن أخذ أثمانها منهم بعد ذلك , لأنّه لَم يتعاط محرّماً , ويكون شبيهاً بقصّة بريرة حيث قال " هو عليها صدقةٌ , ولنا هديّةٌ ". الثّاني: يجوز أن يكون باع العصير ممّن يتّخذه خمراً، والعصير يسمّى خمراً كما قد يسمّى العنب به , لأنّه يئول إليه. قاله الخطّابيّ. قال: ولا يظنّ بسمرة أنّه باع عين الخمر بعد أن شاع تحريمها، وإنّما باع العصير. الثّالث: أن يكون خلَّل الخمر وباعها، وكان عمر يعتقد أنّ ذلك لا يحلّها كما هو قول أكثر العلماء، واعتقد سمرة الجواز كما تأوّله غيره أنّه يحلّ التّخليل، ولا ينحصر الحلّ في تخليلها بنفسها. قال القرطبيّ تبعاً لابن الجوزيّ: والأشبه الأوّل. قلت: ولا يتعيّن على الوجه الأوّل أخذها عن الجزية , بل يحتمل أن تكون حصلت له عن غنيمةٍ أو غيرها. الرابع: قد أبدى الإسماعيليّ في " المدخل " فيه احتمالاً آخر، وهو أنّ سمرة علم تحريم الخمر , ولَم يعلم تحريم بيعها , ولذلك اقتصر عمر على ذمّه دون عقوبته، وهذا هو الظّنّ به. ولَم أر في شيءٍ من الأخبار , أنّ سمرة كان والياً لعمر على شيءٍ من أعماله، إلَّا أنّ ابن الجوزيّ أطلق أنّه كان والياً على البصرة لعمر بن الخطّاب. وهو وهْمٌ , فإنّما ولي سمرة على البصرة لزيادٍ , وابنه عبيد الله بن

زيادٍ بعد عُمر بدهرٍ، وولاة البصرة لعمر قد ضُبطوا , وليس منهم سمرة. ويحتمل: أن يكون بعض أمرائها استعمل سمرة على قبض الجزية. قوله: (قاتل الله اليهود) قال البخاري: قاتلهم الله لعنهم، {قتل} لعن. {الخراصون}. الكذابون. انتهى استشهد بأنّ قوله تعالى {قتل الخرّاصون} معناه: لعن , وهو تفسير ابن عبّاسٍ في قُتل. وقوله " الخرّاصون: الكذّابون " هو تفسير مجاهدٍ. رواهما الطّبريّ في " تفسيره " عنهما. وقال الهرويّ: معنى قاتلهم قتلهم، قال: وفاعل أصلها أن يقع الفعل بين اثنين، وربّما جاء من واحدٍ كسافرت وطارقت النّعل. وقال غيره: معنى قاتلهم عاداهم. وقال الدّاوديّ: من صار عدوّ الله , وجب قتله. وقال البيضاويّ: قاتل: أي عادى أو قتل، وأخرج في صورة المبالغة، أو عبّر عنه بما هو مسبّبٌ عنهم , فإنّهم بما اخترعوا من الحيلة انتصبوا لمحاربة الله , ومن حاربه حرب , ومن قاتله قتل. قوله: (حرّمت عليهم الشّحوم) أي: أكلها، وإلا فلو حرّم عليهم بيعها لَم يكن لهم حيلةٌ فيما صنعوه من إذابتها. قوله: (فجملوها) بفتح الجيم والميم. أي: أذابوها، يقال: جمله إذا أذابه، والجميل الشّحم المذاب.

ووجه تشبيه عمر بيع المسلمين الخمر ببيع اليهود المذاب من الشّحم الاشتراك في النّهي عن تناول كلٍّ منهما، لكن ليس كلّ ما حرم تناوله حرم بيعه كالحمر الأهليّة وسباع الطّير، فالظّاهر أنّ اشتراكهما في كون كلٍّ منهما صار بالنّهي عن تناوله نجساً , هكذا حكاه ابن بطّالٍ عن الطّبريّ. وأقرّه. وليس بواضحٍ , بل كلّ ما حرم تناوله حرم بيعه، وتناول الحمر والسّباع وغيرهما ممّا حرّم أكله إنّما يتأتّى بعد ذبحه، وهو بالذّبح يصير ميتةً , لأنّه لا ذكاة له وإذا صار ميتةً صار نجساً ولَم يجز بيعه. فالإيراد في الأصل غير واردٍ، هذا قول الجمهور , وإن خالف في بعضه بعض النّاس. وأمّا قول بعضهم: الابن إذا ورث جارية أبيه حرُم عليه وطؤها , وجاز له بيعها وأكل ثمنها. فأجاب عياضٌ عنه: بأنّه تمويهٌ , لأنّه لَم يحرم عليه الانتفاع بها مطلقاً , وإنّما حرم عليه الاستمتاع بها لأمرٍ خارجيٍّ، والانتفاع بها لغيره في الاستمتاع وغيره حلالٌ إذا ملكها، بخلاف الشّحوم فإنّ المقصود منها وهو الأكل كان محرّماً على اليهود في كل حالٍ , وعلى كل شخصٍ فافترقا. وفي الحديث لعن العاصي المعين. ولكن يحتمل: أن يقال إنّ قول عمر " قاتل الله سمرة " لَم يرد به ظاهره , بل هي كلمةٌ تقولها العرب عند إرادة الزّجر فقالها في حقّه

تغليظاً عليه. وفيه إقالة ذوي الهيئات زلاتهم , لأنّ عمر اكتفى بتلك الكلمة عن مزيد عقوبةٍ ونحوها، وفيه إبطال الحيل والوسائل إلى المحرّم. وفيه تحريم بيع الخمر. وقد نقل ابن المنذر وغيره في ذلك الإجماع، وشذّ مَن قال يجوز بيعها , ويجوز بيع العنقود المستحيل باطنه خمراً. واختلف في عِلَّة ذلك. فقيل: لنجاستها , وقيل: لأنّه ليس فيها منفعةٌ مباحةٌ مقصودةٌ , وقيل: للمبالغة في التّنفير عنها. وفيه أنّ الشّيء إذا حرم عينه حرم ثمنه، وفيه دليلٌ على أنّ بيع المسلم الخمر من الذّمّيّ لا يجوز، وكذا توكيل المسلم الذّمّيّ في بيع الخمر، وأمّا تحريم بيعها على أهل الذّمّة فمبنيٌّ على الخلاف في خطاب الكافر بالفروع، وفيه استعمال القياس في الأشباه والنّظائر. واستدل به على تحريم بيع جثّة الكافر إذا قتلناه وأراد الكافر شراءه. وعلى منع بيع كل محرّمٍ نجسٍ - ولو كان فيه منفعةٌ - كالسّرقين، وأجاز ذلك الكوفيّون. وذهب بعض المالكيّة: إلى جواز ذلك للمشتري دون البائع لاحتياج المشتري دونه، وتقدّم من حديث جابرٍ (¬1) بيان الوقت الذي قال فيه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة. وفيه البحث عن الانتفاع بشحم الميتة وإن حرم بيعها، وما يستثنى من تحريم بيع الميتة. ¬

_ (¬1) في البيوع برقم (275)

كتاب اللباس

كتاب اللباس الحديث الأول 398 - عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلبسوا الحريرَ، فإنّه من لبِسه في الدّنيا لَم يلبسْه في الآخرة. (¬1) قوله: (عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -) وقع في رواية النّضر بن شميلٍ عن شعبة حدّثنا خليفة بن كعب سمعت عبد الله بن الزّبير , يقول: لا تُلبسوا نساءكم الحرير، فإنّي سمعت عمر. أخرجه النّسائيّ (¬2). وقد أخرجه النّسائيّ أيضاً من طريق جعفر بن ميمون عن خليفة بن كعب , فلم يذكر عمر في إسناده، وشعبة أحفظ من جعفر بن ميمون. قوله: (من لبس الحرير في الدّنيا) الحرير معروف، وهو عربيّ. سُمِّي بذلك لخلوصه , يقال لكل خالص محرّر، وحرّرت الشّيء خلصته من الاختلاط بغيره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5496) عن علي بن الجعد , ومسلم (2069) من طريق عبيد بن سعيد كلاهما عن شعبة عن أبي ذبيان خليفة بن كعب قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يقول: ألا لا تُلبسوا نساءكم الحرير. فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واللفظ لمسلم. وليس عند البخاري قول ابن الزبير - رضي الله عنه -. وللبخاري (5492) ومسلم (2069) عن أبي عثمان عن عمر رفعه: لا يلبس الحرير إلَّا مَن ليس له منه شيء في الآخرة إلَّا هكذا. وانظر الحديث الأتي (403) (¬2) ورواه مسلم أيضاً كما تقدَّم. وسيعزوه إليه الشارح كما سيأتي في الشرح.

وقيل: هو فارسيّ معرّب قوله: (لَم يلبسْه في الآخرة) في رواية الكشميهنيّ " لن يلبسه " والمحفوظ من هذا الوجه (¬1) " لَم " , وكذا أخرجه مسلم والنّسائيّ. ولَم أقف في شيء من الطّرق المتّفقة عن عمر أنّه رواه بلفظ " لن " بل الحديث عنه في جميع الطّرق بلفظ " لَم ". وزاد النّسائيّ في رواية جعفر بن ميمون في آخره " ومن لَم يلبسه في ¬

_ (¬1) أي: طريق شعبة عن خليفة كما تقدّم ذكره. وإنما قيّده الشارح بهذا الوجه لمجيئه من وجوهٍ أخرى صحاح بلفظ " لن ". منها ما جاء في البخاري (5495) من حديث ثابت البناني قال: سمعت ابن الزبير يخطب يقول: قال محمد - رضي الله عنه -: من لبس الحرير في الدنيا لن يلبسه في الآخرة. وأخرجه أيضاً (5494) من حديث أنس - رضي الله عنه - مثله. قال الحافظ في " الفتح ": قوله: (قال محمد - صلى الله عليه وسلم -) هذا من مرسل ابن الزبير، ومراسيل الصحابة محتجٌ بها عند جمهور من لا يحتج بالمراسيل، لأنهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي آخر، واحتمال كونها عن تابعي لوجود رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين نادرٌ، لكن تبيَّن من الروايتين اللتين بعد هذه أنَّ ابنَ الزبير إنّما حمله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة عمر. ومع ذلك فلم أقف في شيء من الطرق المتفقة عن عمر أنه رواه بلفظ " لن " بل الحديث عنه في جميع الطرق بلفظ " لم " والله أعلم. وابن الزبير قد حفِظ من النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث، منها حديثه " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح الصلاة فرفع يديه " أخرجه أحمد. ومنها حديثه " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو هكذا. وعقد ابن الزبير " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. ومنها حديثه , أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن نبيذ الجر " أخرجه أحمد أيضاً. قوله: (لن يلبسه في الآخرة) كذا في جميع الطرق عن ثابت، وهو أوضح في النفي. انتهى قلت: وقول ابن حجر (لكن تبيَّن من الروايتين اللتين بعد هذه .. إلخ) يقصد حديث الباب. وكذا ما ذكره البخاري معلّقاً من طريق معاذة أخبرتني أم عمرو بنت عبد الله سمعت عبد الله بن الزبير سمع عمر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. نحوه. ووصله الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما. كما قال الشارح.

الآخرة لَم يدخل الجنّة , قال الله تعالى {ولباسهم فيها حرير}. وهذه الزّيادة مُدرَجة في الخبر، وهي موقوفة على ابن الزّبير، بيّن ذلك النّسائيّ أيضاً من طريق شعبة عن خليفة به. وفي آخره. قال ابن الزّبير: فذكر الزّيادة، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق عليّ بن الجعد عن شعبة. ولفظه " فقال ابن الزّبير من رأيه: ومن لَم يلبس الحرير في الآخرة لَم يدخل الجنّة، وذلك لقوله تعالى: {ولباسهم فيها حرير}. وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر أيضاً. أخرجه النّسائيّ من طريق حفصة بنت سيرين عن خليفة بن كعب , قال: خطبنا ابن الزّبير. فذكر الحديث المرفوع. وزاد. فقال: قال ابن عمر: إذاً والله لا يدخل الجنّة، قال الله: {ولباسهم فيها حرير}. وأخرج أحمد والنّسائيّ وصحَّحه الحاكم من طريق داود السّرّاج عن أبي سعيد. فذكر الحديث المرفوع مثل حديث عمر هذا في الباب. وزاد " وإنْ دخل الجنّة لبسه أهل الجنّة , ولَم يلبسه هو ". وهذا يحتمل: أن يكون أيضاً مدرجاً، وعلى تقدير أن يكون الرّفع محفوظاً فهو من العامّ المخصوص بالمكلفين من الرّجال للأدلة الأخرى بجوازه للنّساء. وفي هذه الأحاديث بيان واضح لِمَن قال يحرم على الرّجال لبس الحرير للوعيد المذكور. وفي معناه حديث ابن عمر , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من شرب

الخمر في الدنيا، ثم لَم يتب منها، حُرمها في الآخرة. متفق عليه، فإنّ الحكم فيها واحد , وهو نفي اللّبس ونفي الشّرب في الآخرة وفي الجنّة. قال الخطّابيّ والبغويّ في " شرح السّنّة ": معنى الحديث لا يدخل الجنّة، لأنّ الخمر شراب أهل الجنّة، فإذا حُرِم شربها دلَّ على أنّه لا يدخل الجنّة. وقال ابن عبد البرّ: هذا وعيدٌ شديدٌ يدلّ على حرمان دخول الجنّة، لأنّ الله تعالى أخبر أنّ في الجنّة أنهار الخمر لذّة للشّاربين، وأنّهم لا يصدّعون عنها ولا ينزفون. فلو دخلها - وقد علم أنّ فيها خمراً أو أنّه حرمها عقوبة له - لزم وقوع الهمّ والحزن في الجنّة، ولا همّ فيها ولا حزن، وإن لَم يعلم بوجودها في الجنّة , ولا أنّه حرمها عقوبة له لَم يكن عليه في فقدها أَلَم، فلهذا قال بعض من تقدّم: إنّه لا يدخل الجنّة أصلاً. قال: وهو مذهب غير مرضيّ. قال: ويحمل الحديث عند أهل السّنّة على أنّه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها , إلَّا إن عفا الله عنه كما في بقيّة الكبائر , وهو في المشيئة. فعلى هذا فمعنى الحديث: جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنّة , إلَّا إن عفا الله عنه. قال: وجائز أن يدخل الجنّة بالعفو , ثمّ لا يشرب فيها خمراً ولا تشتهيها نفسه , وإن علم بوجودها فيها.

ويؤيّده حديث أبي سعيد مرفوعاً " من لبس الحرير في الدّنيا لَم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنّة لبسه أهل الجنّة , ولَم يلبسه هو ". قلت: أخرجه الطّيالسيّ وصحَّحه ابن حبّان. وقريبٌ منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه: من مات من أمّتي وهو يشرب الخمر , حرّم الله عليه شربها في الجنّة. أخرجه أحمد بسندٍ حسن. وقد لَخّص عياض كلام ابن عبد البرّ , وزاد احتمالاً آخر , وهو أنّ المراد بحرمانه شربها: أنّه يحبس عن الجنّة مدّةً إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر " لَم يرح رائحة الجنّة ". قال: ومَن قال لا يشربها في الجنّة بأن ينساها أو لا يشتهيها , يقول: ليس عليه في ذلك حسرة , ولا يكون ترك شهوته إيّاها عقوبة في حقّه، بل هو نقص نعيم بالنّسبة إلى من هو أتمّ نعيماً منه كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذٍ بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطاً له. وقال ابن العربيّ: ظاهر الحديثين , أنّه لا يشرب الخمر في الجنّة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنّه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته، كالوارث فإنّه إذا قتل مورّثه فإنّه يحرم ميراثه لاستعجاله. وبهذا قال نفر من الصّحابة ومن العلماء، وهو موضع احتمال وموقف إشكال، والله أعلم كيف يكون الحال. وفصَّل بعض المتأخّرين بين من يشربها مستحلاً فهو الذي لا

يشربها أصلاً , لأنّه لا يدخل الجنّة أصلاً، وعدم الدّخول يستلزم حرمانها، وبين من يشربها عالماً بتحريمها فهو محلّ الخلاف، وهو الذي يحرم شربها مدّة ولو في حال تعذيبه إن عذّب، أو المعنى أنّ ذلك جزاؤه إن جوزي. والله أعلم. وحاصل أعدل الأقوال. أنّ الفعل المذكور مقتضٍ للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانعٍ كالتّوبة والحسنات التي توازن والمصائب التي تكفّر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا شفاعة من يؤذن له في الشّفاعة، وأعمّ من ذلك كلّه عفو أرحم الرّاحمين. قال ابن بطّال: اختلف في الحرير. فقال قوم: يحرم لبسه في كلّ الأحوال حتّى على النّساء، نقل ذلك عن عليّ وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزّبير، ومن التّابعين عن الحسن وابن سيرين. وقال قوم: يجوز لبسه مطلقاً , وحملوا الأحاديث الواردة في النّهي عن لبسه على من لَبِسَه خيلاء أو على التّنزيه. قلت: وهذا الثّاني ساقط لثبوت الوعيد على لُبسه. وأمّا قول عياض: حَملَ بعضهم النّهي العامّ في ذلك على الكراهة لا على التّحريم، فقد تعقّبه ابن دقيق العيد. فقال: قد قال القاضي عياض: إنّ الإجماع انعقد بعد ابن الزّبير ومن وافقه , على تحريم الحرير على الرّجال وإباحته للنّساء، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزّبير في الطّريق التي أخرجها مسلم " أَلا لا

تُلبسوا نساءكم الحرير، فإنّي سمعت عمر " فذكر حديث الباب. قال: فإثبات قول بالكراهة دون التّحريم , إمّا أن ينقض ما نقله من الإجماع , وإمّا أن يثبت أنّ الحكم العامّ قبل التّحريم على الرّجال كان هو الكراهة , ثمّ انعقد الإجماع على التّحريم على الرّجال والإباحة للنّساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السّابقة، وهو بعيد جدّاً. وأمّا ما أخرج عبد الرّزّاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال: لقي عمرُ عبدَ الرّحمن بن عوف فنهاه عن لبس الحرير , فقال: لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك. فهو محمول على أنّ عبد الرّحمن فهم من إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له في لبس الحرير نسخ التّحريم , ولَم ير تقييد الإباحة بالحاجة. واختلف في عِلَّة تحريم الحرير على رأيين مشهورين: أحدهما: الفخر والخيلاء. الثّاني: لكونه ثوب رفاهية فيليق بزيّ النّساء دون شهامة الرّجال. ويحتمل عِلَّة ثالثة , وهي التّشبّه بالمشركين. قال ابن دقيق العيد: وهذا قد يرجع إلى الأوّل لأنّه من سِمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبرين إلَّا أنّ المعنى الثّاني لا يقتضي التّحريم , لأنّ الشّافعيّ قال في " الأمّ ": ولا أكره لباس اللّؤلؤ إلَّا للأدب فإنّه زيّ النّساء. واستشكل بثبوت اللعن للمتشبّهين من الرّجال بالنّساء (¬1) فإنّه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5885) من حديث ابن عبَّاس - رضي الله عنه - , قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال "

يقتضي منع ما كان مخصوصاً بالنّساء في جنسه وهيئته. وذكر بعضهم عِلَّة أخرى , وهي السّرف. والله أعلم.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 399 - عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الْحرير ولا الدّيباج , ولا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة , ولا تأكُلوا في صِحَافها، فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة. (¬1) قوله: (لا تلبسوا الحَرير) تقدّم الكلام عليه في الذي قبله قوله: (ولا الديباج) الدّيباج نوعٌ من الحرير , وهو بكسر المهملة , وحكي فتحها. وقال أبو عبيدة: الفتح مُولَّدٌ , أي: ليس بعربيٍّ. قوله: (ولا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة) ولهما من رواية الحكم عن ابن أبي ليلى , إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة. ووقع في رواية ابن عون عن مجاهد عند الشيخين بلفظ " لا تشربوا. ولا تلبسوا. وكذا عند أحمد من وجه آخر عن الحكم. كذا وقع في معظم الرّوايات عن حذيفة الاقتصار على الشّرب. ووقع عند أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى. بلفظ " نهى أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5110 , 5309 , 5310 , 5493 , 5499) ومسلم (5515) من طريق مجاهد والحكم كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنهم كانوا عند حذيفة بالمدائن، فاستسقى فسقاه مجوسي. وفي رواية (دهقان بقدحِ فضةٍ) فلمَّا وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنَّه يقول: لَم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكر الحديث.

يشرب في آنية الذّهب والفضّة، وأن يؤكل فيها ". ولمسلم نحوه في حديث أمّ سلمة من طريق عثمان بن مرّة عن عبد الله بن عبد الرّحمن عنها " من شرب من إناء ذهب أو فضّة ". وله من رواية عليّ بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمريّ عن نافع عن زيد بن عبد الله عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عنها " إنّ الذي يأكل ويشرب في آنية الذّهب والفضّة ". وأشار مسلم إلى تفرّد عليّ بن مسهر بهذه اللفظة، أعني: الأكل. وقد وقع التّصريح في الحديث بالنّهي والإشارة إلى الوعيد على ذلك. ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشّرب في آنية الذّهب والفضّة , إلَّا عن معاوية بن قرّة أحد التّابعين فكأنّه لَم يبلغه النّهي. وعن الشّافعيّ في القديم , ونقل عن نصّه في حرملة: أنّ النّهي فيه للتّنزيه , لأنّ علته ما فيه من التّشبّه بالأعاجم. ونصّ في الجديد على التّحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه، وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنّار كما في الصحيحين عن أم سلمة , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. وإذا ثبت ما نُقل عنه. فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور. ويؤيّد وهْم النّقل أيضاً عن نصّه في حرملة , أنّ صاحب " التّقريب " نقل في كتاب الزّكاة عن نصّه في حرملة تحريم اتّخاذ الإناء

من الذّهب أو الفضّة، وإذا حرم الاتّخاذ فتحريم الاستعمال أولى. والعلَّة المشار إليها ليست متّفقاً عليها، بل ذكروا للنّهي عدّة علل: منها ما فيه من كسر قلوب الفقراء، أو من الخيلاء والسّرف، ومن تضييق النّقدين. تكميل: اختلف في الإناء الذي فيه شيء من ذلك , إمّا بالتّضبيب وإمّا بالخلط وإمّا بالطّلاء. فورد فيه حديث. أخرجه الدّارقطنيّ والبيهقيّ عن ابن عمر رفعه: من شرب في آنيّة الذّهب والفضّة , أو إناء فيه شيء من ذلك , فإنّما يجرجر في جوفه نار جهنّم. قال البيهقيّ: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه، ثمّ أخرجه كذلك. وهو عند ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه , أنّه كان لا يشرب من قدح فيه حلقة فضّة , ولا ضبّة فضّة. ومن طريق أخرى عنه , أنّه كان يكره ذلك. وفي " الأوسط " للطّبرانيّ من حديث أمّ عطيّة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تفضيض الأقداح، ثمّ رخّص فيه للنّساء. قال مُغلطاي: لا يطابق الحديثُ التّرجمةَ (¬1) إلَّا إن كان الإناء الذي سُقي فيه حذيفة كان مضبّباً , فإنّ الضّبّة موضع الشّفة عند الشّرب. وأجاب الكرمانيّ: بأنّ لفظ مفضّض - وإن كان ظاهراً فيما فيه فضّة - لكنّه يشمل ما إذا كان متّخذاً كلّه من فضّة، والنّهي عن ¬

_ (¬1) ترجم عليه البخاري رحمه الله في الأطعمة بقوله (باب الأكل في إناء مفضّض)

الشّرب في آنيّة الفضّة يلحق به الأكل للعلة الجامعة , فيطابق الحديث التّرجمة. والله أعلم. قوله: (ولا تأكلوا في صحافها) قال صاحب النهاية: الصّحفة إناءٌ كالقصعة المبسوطة. انتهى والصّحفة: ما تشبع خمسةً ونحوها , وهي أكبر من القصعة. قوله: (فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة) في رواية لهما " هنَّ لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة " , كذا فيه بلفظ " هنّ " بضمّ الهاء وتشديد النّون في الموضعين. وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر - شيخ البخاريّ فيه - عن شعبة عن الحكم بلفظ " هي " بكسر الهاء ثمّ التّحتانيّة، وكذا في رواية غندر عن شعبة، ووقع عند الإسماعيليّ. وأصله في مسلم " هو " أي: جميع ما ذكر. قال الإسماعيليّ: ليس المراد بقوله: " في الدّنيا " إباحة استعمالهم إيّاه , وإنّما المعنى بقوله " لهم ". أي: هم الذين يستعملونه مخالفة لزيّ المسلمين. وكذا قوله " ولكم في الآخرة " , أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدّنيا، ويمنعه أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعماله. قلت: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أنّ الذي يتعاطى ذلك في الدّنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدّم في شرب الخمر، وفي لباس الحرير، بل وقع في هذا بخصوصه من حديث أبي هريرة رفعه: من

شرب في آنية الفضّة والذّهب في الدّنيا لَم يشرب فيها في الآخرة، وآنية أهل الجنّة الذّهب والفضّة. أخرجه النّسائيّ بسندٍ قويٍّ. وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشّرب في آنية الذّهب والفضّة على كلّ مكلَّف رجلاً كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحليّ للنّساء , لأنّه ليس من التّزيّن الذي أبيح لها في شيء. قال القرطبيّ وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذّهب والفضّة في الأكل والشّرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التّطيّب والتّكحّل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور. وأغربت طائفة شذّت: فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التّحريم على الأكل والشّرب، ومنهم من قصره على الشّرب , لأنّه لَم يقف على الزّيادة في الأكل. قال: واختلف في عِلَّة المنع: فقيل: إنّ ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيّده قوله " هي لهم , وإنّها لهم ". وقيل: لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالها لجاز اتّخاذ الآلات منهما فيفضي إلى قلّتهما بأيدي النّاس فيجحف بهم. ومثّله الغزاليّ بالحكّام الذين وظيفتهم التّصرّف لإظهار العدل بين النّاس، فلو منعوا التّصرّف لأخلَّ ذلك بالعدل، فكذا في اتّخاذ الأواني من النّقدين حبس لهما عن التّصرّف الذي ينتفع به النّاس. ويردّ على هذا جواز الْحُليِّ للنّساء من النّقدين، ويمكن الانفصال

عنه. وهذه العلة هي الرّاجحة عند الشّافعيّة، وبه صرّح أبو عليّ السّنجيّ وأبو محمّد الجوينيّ. وقيل: عِلَّة التّحريم السّرف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء. ويرِد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النّفيسة وعاليها أنفس وأكثر قيمة من الذّهب والفضّة، ولَم يمنعها إلَّا من شذّ. وقد نقل ابن الصّبّاغ في " الشّامل " الإجماع على الجواز، وتبعه الرّافعيّ ومن بعده. لكن في " زوائد العمرانيّ " عن صاحب " الفروع " نقل وجهين. وقيل: العلة في المنع التّشبّه بالأعاجم. وفي ذلك نظرٌ. لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرّد التّشبّه لا يصل إلى ذلك. واختلف في اتّخاذ الأواني دون استعمالها. والأشهر المنع وهو قول الجمهور، ورخّصت فيه طائفة، وهو مبنيّ على العلة في منع الاستعمال، ويتفرّع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها وجواز الاستئجار عليها. وتمسّك بالحديث من منع استعمال النّساء للحرير والدّيباج، لأنّ حذيفة استدلَّ به (¬1) على تحريم الشّرب في إناء الفضّة , وهو حرام على النّساء والرّجال جميعاً , فيكون الحرير كذلك. ¬

_ (¬1) يشير إلى سبب ورود الحديث , وقد تقدّم ذكره في تخريج الحديث.

والجواب: أنّ الخطاب بلفظ " لكم " للمذكّر، ودخول المؤنّث فيه قد اختلف فيه؛ والرّاجح عند الأصوليّين عدم دخولهنّ. وأيضاً فقد ثبت إباحة الحرير والذّهب للنّساء , وأيضاً فإنّ هذا اللفظ " الذّهب والفضّة والحرير والدّيباج هي لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة " مختصر (¬1). وقد تقدّم بلفظ " لا تلبسوا الحرير ولا الدّيباج، ولا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة " , والخطاب في ذلك للذّكور. وقوله: " هي لهم في الدّنيا " , تمسّك به مَن قال: إنّ الكافر ليس مخاطباً بالفروع. وأجيب: بأنّ المزاد هي شعارهم وزيّهم في الدّنيا، ولا يدلّ ذلك على الإذن لهم في ذلك شرعاً. تكميل: زاد البخاري من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن أبي ليلى فيه " وعن لُبس الحرير والديباج , وأن نجلس عليه ". وقد أخرج البخاريّ ومسلم حديث حذيفة من عدّة أوجه ليس فيها هذه الزّيادة، وهي قوله " وأن نجلس عليه ". وهي حجّة قويّة لِمَن قال بمنع الجلوس على الحرير , وهو قول الجمهور، خلافاً لابن الماجشون والكوفيّين وبعض الشّافعيّة. وأجاب بعض الحنفيّة: بأنّ لفظ " نهى " ليس صريحاً في التّحريم. وبعضهم باحتمال أن يكون النّهي ورد عن مجموع اللّبس والجلوس ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ (5493)

لا عن الجلوس بمفرده. وهذا يردّ على ابن بطّال دعواه: أنّ الحديث نصّ في تحريم الجلوس على الحرير، فإنّه ليس بنصٍّ , بل هو ظاهر. وقد أخرج ابن وهب في " جامعه " من حديث سعد بن أبي وقّاص , قال: لأَنْ أقعد على جمر الغضا , أحبّ إليّ من أن أقعد على مجلس من حرير. وأدار بعض الحنفيّة الجواز والمنع على اللّبس لصحّة الأخبار فيه، قالوا: والجلوس ليس بلبسٍ. واحتجّ الجمهور بحديث أنس " فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس " (¬1) , ولأنّ لبس كلّ شيء بحسبه. واستُدل به على منع النّساء من افتراش الحرير , وهو ضعيف , لأنّ خطاب الذّكور لا يتناول المؤنّث على الرّاجح. ولعلَّ الذي قال بالمنع تمسّك فيه بالقياس على منع استعمالهنّ آنية الذّهب مع جواز لبسهنّ الحليّ منه، فكذلك يجوز لبسهنّ الحرير , ويمنعن من استعماله، وهذا الوجه صحَّحه الرّافعيّ. وصحّح النّوويّ الجواز. واستُدلّ به على منع افتراش الرّجل الحرير مع امرأته في فراشها. ووجَّهه المجيز لذلك من المالكيّة: بأنّ المرأة فراش الرّجل , فكما جاز له أن يفترشها وعليها الحليّ من الذّهب والحرير , كذلك يجوز له ¬

_ (¬1) تقدَّم برقم (77).

أن يجلس وينام معها على فراشها المباح لها. تنْبيهٌ: الذي يمنع من الجلوس عليه هو ما منع من لبسه , وهو ما صنع من حرير صرف , أو كان الحرير فيه أزيد من غيره.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 400 - عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - , قال: ما رأيتُ من ذي لِمَّةٍ في حلةٍ حمراء أحسنَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له شعرٌ يضرب منكبيه , بعيد ما بين المنكبين، ليس بالقصير ولا بالطّويل. (¬1) قوله: (البراء) كذا قال أكثر أصحاب أبي إسحاق. وخالفهم أشعث فقال: عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة. أخرجه النّسائيّ , وأعلَّه. والتّرمذيّ وحسّنه، ونقل عن البخاريّ أنّه قال: حديث أبي إسحاق عن البراء وعن جابر بن سمرة صحيحان. وصحَّحه الحاكم قوله: (لِمَّة) بكسر اللام وتشديد الميم , أي: شعر رأسه , ويقال له إذا جاوز شحمة الأذنين وأَلَمّ بالمنكبين لِمةٌ , وإذا جاوزت المنكبين فهي جُمّةٌ , وإذا قصرت عنهما فهي وفرةٌ. قوله: (في حلةٍ حمراء) تقدّم حديث أبي جحيفة (¬2) وفيه " حلة حمراء " أيضاً. ولأبي داود من حديث هلال بن عامر عن أبيه: رأيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب بمنىً على بعير , وعليه برد أحمر. وإسناده حسن. وللطّبرانيّ بسندٍ حسن عن طارق المحاربيّ نحوه , لكن قال " بسوق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3356 , 3358 , 3359 , 5510 , 5561) ومسلم (3337) من طرق عن أبي إسحاق عن البراء - رضي الله عنه -. (¬2) تقدّم حديثه - رضي الله عنه - في الأذان رقم (69).

ذي المجاز ". وقد تلخّص لنا من أقوال السّلف في لبس الثّوب الأحمر سبعة أقوال: القول الأوّل: الجواز مطلقاً. جاء عن عليّ وطلحة وعبد الله ابن جعفر والبراء وغير واحد من الصّحابة، وعن سعيد بن المسيّب والنّخعيّ والشّعبيّ وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التّابعين. القول الثّاني: المنع مطلقاً. لحديث عبد الله بن عمرو قال: رأى عليّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - ثوبين معصفرين فقال: إنّ هذه من ثياب الكفّار فلا تلبسهما. أخرجه مسلمٌ , وفي لفظٍ له " فقلت: أغسلهما؟ قال: لا بل احرقهما " , فإن غالب ما يصبغ بالعصفر يكون أحمر. قال البيهقيّ: فلو بلغ ذلك الشّافعيّ لقال به اتّباعاً للسّنّة كعادته , وقد كره المعصفر جماعةٌ من السّلف , ورخّص فيه جماعةٌ , وممَن قال بكراهته من أصحابنا الحليميّ , واتّباع السّنّة هو الأولى. وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المفدّم. وهو بالفاء وتشديد الدّال , وهو المشبع بالعصفر فسّره في الحديث، وعن عمر , أنّه كان إذا رأى على الرّجل ثوباً معصفراً جذبه , وقال: دعوا هذا للنّساء. أخرجه الطّبريّ. وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل الحسن: الحمرة من زينة الشّيطان ,

والشّيطان يحبّ الحمرة , وصله أبو عليّ بن السّكن وأبو محمّد بن عديّ، ومن طريق البيهقيّ في " الشّعب " من رواية أبي بكر الهذليّ - وهو ضعيف - عن الحسن عن رافع بن يزيد الثّقفيّ رفعه: إنّ الشّيطان يحبّ الحمرة، وإيّاكم والحمرة، وكلّ ثوب ذي شهرة. وأخرجه ابن منده. وأدخل في روايةٍ له بين الحسن ورافع رجلاً، فالحديث ضعيف. وبالغ الجوزقانيّ , فقال: إنّه باطل، وقد وقفت على كتاب الجوزقانيّ المذكور. وترجمه " بالأباطيل " وهو بخطّ ابن الجوزيّ، وقد تبعه على ما ذكر في أكثر كتابه في " الموضوعات " , لكنّه لَم يوافقه على هذا الحديث. فإنّه ما ذكره في الموضوعات. فأصاب. وعن عبد الله بن عمرو قال: مرّ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ. وعليه ثوبان أحمران , فسلَّم عليه , فلم يردّ عليه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - .. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وحسّنه والبزّار , وقال: لا نعلمه إلَّا بهذا الإسناد، وفيه أبو يحيى القتّات مختلف فيه. وعن رافع بن خديج قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى على رواحلنا أكسية فيها خطوط عهن حمر , فقال: ألا أرى هذه الحمرة قد غلبتكم، قال: فقمنا سراعاً فنزعناها حتّى نفر بعض إبلنا. أخرجه أبو داود، وفي سنده راوٍ لَم يسمّ. وعن امرأة من بني أسد قالت: كنت عند زينب أمّ المؤمنين ونحن نصبغ ثياباً لها بمغرةٍ، إذ طلع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلمّا رأى المغرة رجع، فلمّا

رأت ذلك زينب غسلت ثيابها ووارت كلّ حمرة، فجاء فدخل. أخرجه أبو داود. وفي سنده ضعف. القول الثّالث: يُكره لبس الثّوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفاً، جاء ذلك عن عطاء وطاوسٍ ومجاهد. وكأنّ الحجّة فيه حديث ابن عمر المذكور قريباً في المفدّم. القول الرّابع: يُكره لبس الأحمر مطلقاً لقصد الزّينة والشّهرة، ويجوز في البيوت والمهنة، جاء ذلك عن ابن عبّاس. ورخّص مالكٌ في المعصفر والمزعفر في البيوت , وكرهه في المحافل. القول الخامس: يجوز لبس ما كان صُبغ غزله ثمّ نسج، ويمنع ما صُبغ بعد النّسج. جنح إلى ذلك الخطّابيّ. واحتجّ: بأنّ الحلة الواردة في الأخبار الواردة في لبسه - صلى الله عليه وسلم - الحلة الحمراء إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر، وبرود اليمن يصبغ غزلها ثمّ ينسج. القول السّادس: اختصاص النّهي بما يصبغ بالمعصفر لورود النّهي عنه، ولا يمنع ما صبغ بغيره من الأصباغ. ويعكّر عليه حديث المغرة المتقدّم. القول السّابع: تخصيص المنع بالثّوب الذي يصبغ كلّه؛ وأمّا ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما فلا. وعلى ذلك تُحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء , فإنّ الْحُلل

اليمانيّة غالباً تكون ذات خطوط حمر وغيرها. قال ابن القيّم: كان بعض العلماء يلبس ثوباً مشبعاً بالحمرة يزعم أنّه يتبع السّنّة، وهو غلط، فإنّ الحلة الحمراء من برود اليمن , والبرد لا يصبغ أحمر صرفاً. كذا قال. وقال الطّبريّ بعد أن ذكر غالب هذه الأقوال: الذي أراه جواز لبس الثّياب المصبغة بكل لون، إلَّا أنّي لا أحبّ لبس ما كان مشبعاً بالحمرة ولا لبس الأحمر مطلقاً ظاهراً فوق الثّياب , لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا , فإنّ مراعاة زيّ الزّمان من المروءة ما لَم يكن إثماً، وفي مخالفة الزّيّ ضرب من الشّهرة. وهذا يمكن أن يلخّص منه قول ثامن. والتّحقيق في هذا المقام: أنّ النّهي عن لبس الأحمر. أولاً: إن كان من أجل أنّه لبس الكفّار. فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء كما سيأتي. ثانياً: إن كان من أجل أنّه زيّ النّساء , فهو راجع إلى الزّجر عن التّشبّه بالنّساء. فيكون النّهي عنه لا لذاته. ثالثاً: إن كان من أجل الشّهرة أو خرم المروءة , فيمنع حيث يقع ذلك، وإلَّا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التّفرقة بين المحافل والبيوت. قوله: (أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولهما من رواية إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كان

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن النّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً .. " بفتح المعجمة للأكثر، وضبطه ابن التّين بضمّ أوّله , واستشهد بقوله تعالى: {وإنّك لعلى خلق عظيم}. ووقع في رواية الإسماعيليّ بالشّكّ " وأحسنه خَلقاً أو خُلقاً " , ويؤيّده قوله قبله " أحسن النّاس وجهاً " , فإنّ فيه إشارة إلى الْحُسن الحسّيّ، فيكون في الثّاني إشارة إلى الْحُسن المعنويّ. وقد وقع في حديث أنس في الصحيحين: كان أحسن النّاس , وأشجع النّاس , وأجود النّاس. فجمع صفات القوى الثّلاث العقليّة والغضبيّة والشّهوانيّة، فالشّجاعة تدلّ على الغضبيّة، والجود يدلّ على الشّهوانيّة، والحسن تابع لاعتدال المزاج المستتبع لصفاء النّفس الذي به جودة القريحة الدّالّ على العقل، فوصف بالأحسنيّة في الجميع. وللبخاري من حديث جبير بن مطعم , أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ثمّ لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً. فأشار بعدم الجبن إلى كمال القوّة الغضبيّة وهي الشّجاعة، وبعدم الكذب إلى كمال القوّة العقليّة. وهي الحكمة , وبعدم البخل إلى كمال القوّة الشّهوانيّة. وهو الجود. قوله: (له شعرٌ يضرب منكبيه) ولهما من رواية شعبة عن أبي إسحاق " شعره يبلغ شحمة أذنيه " , وللبخاري عن يوسف بن إبي إسحاق عن جده " له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه ".

وله أيضاً عن إسرائيل عن أبي إسحاق " إنَّ جمّته لتضرب قريباً من منكبيه " والجمّة - بضمّ الجيم وتشديد الميم - أي: شعر رأسه إذا نزل إلى قرب المنكبين. قال الجوهريّ في حرف الواو: والوفرة العشر إلى شحمة الأذن، ثمّ الجمّة , ثمّ اللمّة إذا ألمّت بالمنكبين. وقد خالف هذا في حرف الجيم. فقال: إذا بلغت المنكبين فهي جمّة، واللّمّة إذا جاوزت شحم الأذن. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": كلام الجوهريّ الثّاني. هو الموافق لكلام أهل اللّغة. وجمع ابن بطّال بين اللفظين المختلفين في الحديث: بأنّ ذلك إخبار عن وقتين، فكان إذا غفل عن تقصيره بلغ قريب المنكبين , وإذا قصّه لَم يجاوز الأذنين. وجمع غيره: بأنّ الثّاني كان إذا اعتمر يقصّر , والأوّل في غير تلك الحالة. وفيه بُعد. ثمّ هذا الجمع إنّما يصلح لو اختلفت الأحاديث، وأمّا هنا فاللفظان وردا في حديث واحد متّحدا المخرج، وهما من رواية أبي إسحاق عن البراء؟ فالأولى في الجمع بينهما الحمل على المقاربة. قال ابن التّين تبعاً للدّاوديّ: قوله " يبلغ شحمة أذنيه " مغاير لقوله " إلى منكبيه ". وأجيب: بأنّ المراد أنّ معظم شعره كان عند

شحمة أذنه، وما استرسل منه متّصل إلى المنكب. أو يحمل على حالتين. وقد وقع نظير ذلك في حديث أنس عند مسلم من رواية قتادة عنه , أنّ شعره كان بين أذنيه وعاتقه. وفي حديث حميدٍ عنه " إلى أنصاف أذنيه " , ومثله عند التّرمذيّ من رواية ثابت عنه. وعند ابن سعد من رواية حمّاد عن ثابت عنه " لا يجاوز شعره أذنيه " , وهو محمول على ما قدّمته، أو على أحوال متغايرة. وروى أبو داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق الوفرة ودون الجمّة. وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند التّرمذيّ وغيره " فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه , إذا هو وفرة " أي: جعله وفرة، فهذا القيد يؤيّد الجمع المتقدّم. وروى أبو داود والتّرمذيّ من حديث أمّ هانئ قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أربع غدائر. ورجاله ثقات. قوله: (بعيد ما بين المنكبين) أي: عريض أعلى الظّهر، ووقع في حديث أبي هريرة عند ابن سعد " رحب الصّدر ". قوله: (ليس بالقصير ولا بالطّويل) ولهما من رواية شعبة عن أبي إسحاق " كان مربوعاً " , وللبخاري عن أنس " كان ربعة " بفتح الرّاء وسكون الموحّدة. أي: مربوعاً، والتّأنيث باعتبار النّفس، يقال رجل ربعة وامرأة ربعة.

وقد فسّره في رواية إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق بقوله عندهما " ليس بالطّويل البائن ولا بالقصير ". والبائن بالموحّدة اسم فاعل من بان , أي: ظهر على غيره أو فارق من سواه. والمراد المفرط في الطّول مع اضطراب القامة. ووقع في حديث أبي هريرة عند الذّهليّ في " الزّهريّات " بإسنادٍ حسن " كان ربعة وهو إلى الطّول أقرب ". ووقع في حديث عائشة عند ابن أبي خيثمة: لَم يكن أحدٌ يُماشيه من النّاس ينسب إلى الطّول إلَّا طاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطّول، ونسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرّبعة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 401 - عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - , قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ، ونهانا عن سبعٍ: أمرنا بعيادة المريض , واتّباع الجنازة , وتشميت العاطس , وإبرار القسم أو المقسم , ونصر المظلوم , وإجابة الدّاعي , وإفشاء السّلام. ونهانا عن خواتيم أو عن تختّمٍ بالذّهب , وعن الشّرب بالفضّة، وعن المياثر، وعن القسّيّ , وعن لبس الحرير , والإستبرق , والدّيباج. (¬1) قوله: (أمرنا بعيادة المريض) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة " حقّ المسلم على المسلم خمس " , فذكر منها عيادة المريض. ووقع في رواية مسلم " خمس تجب للمسلم على المسلم " فذكرها منها. وجزم البخاري بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة. (¬2) قال ابن بطّال: يحتمل: أن يكون الأمر على الوجوب , بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفكّ الأسير، ويحتمل: أن يكون للنّدب للحثّ على التّواصل والألفة. وجزم الدّاوديّ بالأوّل فقال: هي فرض يحمله بعض النّاس عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1182 , 2313، 4880، 5312، 5326، 5500، 5511، 5525، 5868، 5881، 6278) ومسلم (2066) من طرق عن أشعث بن سليم عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء - رضي الله عنه -. (¬2) بوَّب على الحديث بقوله (باب وجوب عيادة المريض)

بعض، وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حقّ بعض دون بعض. وعن الطّبريّ: تتأكّد في حقّ من ترجى بركته، وتسنّ فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك. ونقل النّوويّ الإجماع على عدم الوجوب، يعني على الأعيان. وفي البخاري من حديث أبي موسى مرفوعاً: فكوا العاني، يعني: الأسير، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض. واستدل بعموم قوله " عودوا المريض " على مشروعيّة العيادة في كلّ مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد. لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجيّ قد يأتي مثله في بقيّة الأمراض كالمغمى عليه. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعينيّ. أخرجه أبو داود وصحَّحه الحاكم , وهو عند البخاريّ في " الأدب المفرد " وسياقه أتمّ. وأمّا ما أخرجه البيهقيّ والطّبرانيّ مرفوعاً: ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدّمّل والضّرس. فصحّح البيهقيُّ أنّه موقوف على يحيى بن أبي كثير. ويؤخذ من إطلاقه أيضاً عدم التّقييد بزمانٍ يمضي من ابتداء مرضه. وهو قول الجمهور. وجزم الغزاليّ في " الإحياء " بأنّه لا يُعاد إلَّا بعد ثلاث. واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا

يعود مريضاً إلَّا بعد ثلاث. وهذا حديث ضعيف جدّاً. تفرّد به مسلمة بن عليّ وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم , فقال: هو حديث باطل. ووجدت له شاهداً من حديث أبي هريرة عند الطّبرانيّ في " الأوسط " وفيه راوٍ متروك أيضاً. ويلتحق بعيادة المريض تعهّده وتفقّد أحواله والتّلطّف به، وربّما كان ذلك في العادة سبباً لوجود نشاطه وانتعاش قوّته. وفي إطلاق الحديث. أنّ العيادة لا تتقيّد بوقتٍ دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النّهار، وترجمة البخاريّ في الأدب المفرد " العيادة في الليل "، وساق عن خالد بن الرّبيع , قال: لمَّا ثقل حذيفة أتوه في جوف الليل , أو عند الصّبح , فقال: أيّ ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النّار الحديث. ونقل الأثرم عن أحمد , أنّه قيل له بعد ارتفاع النّهار في الصّيف: تعود فلاناً؟ قال: ليس هذا وقت عيادة. ونقل ابن الصّلاح عن الفراويّ: أنّ العيادة تستحبّ في الشّتاء ليلاً وفي الصّيف نهاراً، وهو غريب. ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتّى يضجر المريض أو يشقّ على أهله. فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس كما في حديث جابر الذي بعده (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري " باب عيادة المُغمى عليه " (5651) وفي مواضع أخرى , ومسلم (4231) عن جابر قال: مرضت مرضاً، فأتاني النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأبو بكر وهما ماشيان، فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صبَّ وضوءه عليَّ، فأفقت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث.

وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرةٌ جياد. منها عند مسلم والتّرمذيّ من حديث ثوبان: إنّ المسلم إذا عاد أخاه المسلم لَم يزل في خرفة الجنّة. وخرفة: بضمّ المعجمة وسكون الرّاء بعدها فاء ثمّ هاء , هي الثّمرة إذا نضجت، شبّه ما يحوزه عائد المريض من الثّواب بما يحوزه الذي يجتني الثّمر. وقيل: المراد بها هنا الطّريق، والمعنى: أنّ العائد يمشي في طريق تؤدّيه إلى الجنّة. والتّفسير الأوّل أولى، فقد أخرجه البخاريّ في " الأدب المفرد " من هذا الوجه. وفيه " قلت لأبي قلابة: ما خرفة الجنّة؟ قال: جناها " , وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاريّ أيضاً من طريق عمر بن الحكم عن جابر رفعه: من عاد مريضاً خاض في الرّحمة حتّى إذا قعد استقرّ فيها. وأخرجه أحمد والبزّار وصحَّحه ابن حبّان والحاكم من هذا الوجه. وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسندٍ حسن. تكميل: في الكافر خلاف , قال ابن بطّال: إنّما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدّخول في الإسلام، فأمّا إذا لَم يطمع في ذلك فلا.

انتهى. والذي يظهر: أنّ ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماورديّ: عيادة الذمّيِّ جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. قوله: (واتّباع الجنائز) (¬1) الجنائز بفتح الجيم لا غير , جمع جنازة بالفتح والكسر لغتان. قال ابن قتيبة وجماعة: الكسر أفصح، وقيل: بالكسر للنّعش وبالفتح للميّت، وقالوا: لا يقال نعش إلَّا إذا كان عليه الميّت. وفي الصحيحين " حقّ المسلم على المسلم خمس .. واتباع الجنائز " , وفي رواية لمسلم " خمس تجب للمسلم على المسلم " (¬2). وقد تبيّن أنّ معنى " الحقّ " هنا الوجوب. خلافاً لقول ابن بطّال: المراد حقّ الحرمة والصّحبة، والظّاهر أنّ المراد به هنا وجوب الكفاية. قوله: (وتشميت) بالمعجمة وللسّرخسيّ بالمهملة، قال الخليل وأبو عبيد وغيرهما: يقال بالمعجمة وبالمهملة. وقال ابن الأنباريّ: كلّ داعٍ بالخير مشمّت بالمعجمة وبالمهملة، ¬

_ (¬1) تقدّم الحديث عن فضل اتباع الجنازة في شرح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - برقم (173). (¬2) لعلَّ الشارح نقله بالمعنى , وإلا فلفظه في صحيح مسلم (2162) " خمس تجب للمسلم على أخيه .... الحديث "

والعرب تجعل الشّين والسّين في اللفظ الواحد بمعنىً. انتهى. وهذا ليس مطّرداً , بل هو في مواضع معدودة , وقد جمعها شيخنا شمس الدّين الشّيرازيّ صاحب القاموس في جزء لطيف. قال أبو عبيد: التّشميت بالمعجمة أعلى وأكثر. وقال عياض: هو كذلك للأكثر من أهل العربيّة وفي الرّواية. وقال ثعلب: الاختيار بالمهملة , لأنّه مأخوذ من السّمت وهو القصد والطّريق القويم. وأشار ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام " إلى ترجيحه. وقال القزّاز: التّشميت التّبريك , والعرب تقول: شمّته إذا دعا له بالبركة، وشمّت عليه إذا برّك عليه. وفي الحديث في قصّة تزويج عليّ بفاطمة " شمّت عليهما " إذا دعا لهما بالبركة. ونقل ابن التّين عن أبي عبد الملك , قال: التّسميت بالمهملة أفصح , وهو من سمت الإبل في المرعى إذا جمعت، فمعناه على هذا جمع الله شملك. وتعقّبه: بأنّ سمت الإبل إنّما هو بالمعجمة , وكذا نقله غير واحد أنّه بالمعجمة , فيكون معنى سمّته دعا له بأن يجمع شمله. وقيل: هو بالمعجمة من الشّماتة , وهو فرح الشّخص بما يسوء عدوّه , فكأنّه دعا له أن يكون في حال من يشمت به، أو أنّه إذا حمد الله أدخل على الشّيطان ما يسوءه فشمت هو بالشّيطان. وقيل: هو من الشّوامت جمع شامتة وهي القائمة، يقال: لا ترك

الله له شامتة. أي: قائمة. وقال ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ ": تكلم أهل اللّغة على اشتقاق اللفظين. ولَم يبيّنوا المعنى فيه وهو بديع، وذلك أنّ العاطس ينحلّ كلّ عضو في رأسه وما يتّصل به من العنق ونحوه، فكأنّه إذا قيل رحمك الله كان معناه. أعطاه الله رحمة يرجع بها بذلك إلى حاله قبل العطاس ويقيم على حاله من غير تغيير. فإن كان التّسميت بالمهملة. فمعناه رجع كلّ عضو إلى سمته الذي كان عليه. وإن كان بالمعجمة. فمعناه صان الله شوامته. أي: قوائمه التي بها قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال. قال: وشوامت كلّ شيء قوامه؛ فقوام الدّابّة بسلامة قوائمها التي ينتفع بها إذا سلمت، وقوام الآدميّ بسلامة قوائمه التي بها قوامه وهي رأسه وما يتّصل به من عنق وصدر. انتهى ملخّصاً. قوله: (العاطس) قال ابن دقيق العيد: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيّده قوله في حديث أبي هريرة في البخاري مرفوعاً " إنّ الله يحبّ العطاس، ويكره التّثاؤب، فإذا عطس فحمد الله، فحقٌّ على كل مسلمٍ سمعه أن يشمّته ". وفي حديث أبي هريرة عند مسلم " حقّ المسلم على المسلم ستّ. فذكر فيها. وإذا عطس فحمد الله فشمّته ".

وللبخاريّ (¬1) من وجه آخر عن أبي هريرة " خمس تجب للمسلم على المسلم .. فذكر منها التّشميت " وهو عند مسلم أيضاً. وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد الله، وليقل من عنده: يرحمك الله " , ونحوه عند الطّبرانيّ من حديث أبي مالك. القول الأول: قد أخذ بظاهرها ابن مزينٍ من المالكيّة، وقال به جمهور أهل الظّاهر. وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنّه فرض عين. وقوّاه ابن القيّم في حواشي السّنن , فقال: جاء بلفظ الوجوب الصّريح، وبلفظ " الحقّ " الدّالّ عليه، وبلفظ " على " الظّاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصّحابيّ: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: ولا ريب أنّ الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء. القول الثاني: ذهب آخرون: إلى أنّه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجّحه أبو الوليد بن رشيد وأبو بكر بن العربيّ , وقال به الحنفيّة وجمهور الحنابلة. القول الثالث: ذهب عبد الوهّاب وجماعة من المالكيّة إلى أنّه ¬

_ (¬1) لَم يروه البخاري بهذا اللفظ , وإنما رواه بلفظ " حق المسلم على المسلم خمس. فذكرها .. "

مستحبّ، ويجزئ الواحد عن الجماعة. وهو قول الشّافعيّة. والرّاجح من حيث الدّليل القول الثّاني، والأحاديث الصّحيحة الدّالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإنّ الأمر بتشميت العاطس - وإن ورد في عموم المكلفين - ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصحّ ويسقط بفعل البعض، وأمّا مَن قال إنّه فرض على مبهم , فإنّه ينافي كونه فرض عين. وقد خُصّ من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعة: الأوّل: من لَم يحمد. فأخرج الشيخان عن أنس قال: عطس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فشمت أحدهما ولَم يشمت الآخر، فقال الذي لَم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست أنا فلم تشمتني، قال: إنَّ هذا حمد الله، وإنك لَم تحمد الله. ولمسلم من حديث أبي موسى بلفظ: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه , وإن لَم يحمد الله فلا تشمتوه. قال النووي: مقتضى هذا الحديث. أنَّ من لَم يحمد الله لَم يشمت. قلت: هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟. الجمهور على الثاني. قال: وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه، ويؤخذ منه أنه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يشمت. وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال: عطس رجلٌ فقال: السلام عليكم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

عليك وعلى أمك، وقال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله. واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لَم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولَم يسمع الحمد , بل سمع من شمت ذلك العاطس , فإنه يشرع له التشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد. وقال النووي: المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره. وحكى ابن العربي اختلافا فيه , ورجح أنه يشمته. قلت: وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد من علم أنَّ الذين عند العاطس جَهَلَة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لَم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد , فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده , لأنه لا يعلم هل حمد أو لا؟ فإن عطس وحمد ولَم يشمته أحدٌ فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه. وقد أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن , أنه كان في سفينة فسمع عاطساً على الشط حَمِد , فاكترى قارباً بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته , ثم رجع، فسئل عن ذلك؟ فقال: لعلَّه يكون مجاب الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول: يا أهل السفينة إنَّ أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم. الثّاني: الكافر. فقد أخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعريّ قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم ". قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول مَن قال من أهل اللّغة: إنّ التّشميت الدّعاء بالخير. دخل الكفّار في عموم الأمر بالتّشميت، وإذا نظرنا إلى من خصّ التّشميت بالرّحمة لَم يدخلوا. قال: ولعلَّ من خصّ التّشميت بالدّعاء بالرّحمة بناه على الغالب , لأنّه تقييد لوضع اللفظ في اللّغة. قلت: وهذا البحث أنشأه من حيث اللّغة، وأمّا من حيث الشّرع. فحديث أبي موسى دالٌّ على أنّهم يدخلون في مطلق الأمر بالتّشميت، لكن لهم تشميت مخصوص وهو الدّعاء لهم بالهداية وإصلاح البال وهو الشّأن. ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين , فإنّهم أهل الدّعاء بالرّحمة بخلاف الكفّار. الثّالث: المزكوم إذا تكرّر منه العطاس فزاد على الثّلاث. فإنّ ظاهر الأمر بالتّشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر. لكن أخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " من طريق محمّد بن عجلان عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: يشمّته واحدة وثنتين وثلاثاً، وما كان بعد ذلك فهو زكام ". هكذا أخرجه موقوفاً من رواية سفيان بن عيينة عنه. وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطّان عن ابن عجلان كذلك ولفظه " شمّت أخاك " , وأخرجه من رواية الليث عن ابن عجلان , وقال فيه: لا أعلمه إلَّا رفعه إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

قال أبو داود: ورفعه موسى بن قيس عن ابن عجلان أيضاً. وفي " الموطّأ " عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رفعه: إن عطس فشمّته، ثمّ إن عطس فشمّته، ثمّ إن عطس فقل: إنّك مضنوك. قال ابن أبي بكر: لا أدري بعد الثّالثة أو الرّابعة. وهذا مرسل جيّد، وأخرجه عبد الرّزّاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: فشمّته ثلاثاً، فما كان بعد ذلك فهو زكام. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن العاص: شمّتوه ثلاثاً، فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه. موقوف أيضاً، ومن طريق عبد الله بن الزّبير: أنّ رجلاً عطس عنده فشمّته , ثمّ عطس , فقال له في الرّابعة: أنت مضنوك. موقوف أيضاً. ومن طريق عبد الله بن عمر مثله , لكن قال " في الثّالثة ". ومن طريق عليّ بن أبي طالب: شمّته ما بينك وبينه ثلاث، فإن زاد فهو ريح " , وأخرج عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة: يشمّت العاطس إذا تتابع عليه العطاس ثلاثاً. قال النّوويّ في " الأذكار ": إذا تكرّر العطاس متتابعاً فالسّنّة أن يشمّته لكل مرّة إلى أن يبلغ ثلاث مرّات، رويناه في صحيح مسلم وأبي داود والتّرمذيّ عن سلمة بن الأكوع , أنّه سمع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وعطس عنده رجل فقال له: يرحمك الله، ثمّ عطس أخرى , فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرّجل مزكوم. هذا لفظ رواية مسلم، وأمّا أبو داود والتّرمذيّ فقالا: قال سلمة: عطس رجلٌ عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأنا شاهد

, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يرحمك الله، ثمّ عطس الثّانية أو الثّالثة , فقال رسول الله: يرحمك الله، هذا رجلٌ مزكومٌ ". انتهى كلامه , ونقلت من نسخة عليها خطّه بالسّماع عليه. والذي نسبه إلى أبي داود والتّرمذيّ من إعادة قوله - صلى الله عليه وسلم - للعاطس يرحمك الله , ليس في شيء من نسخها كما سأبيّنه، فقد أخرجه أيضاً أبو عوانة وأبو نعيم في " مستخرجيهما " والنّسائيّ وابن ماجه والدّارميّ وأحمد وابن أبي شيبة وابن السّنّيّ وأبو نعيم أيضاً في " عمل اليوم والليلة " وابن حبّان في " صحيحه " والبيهقيّ في " الشّعب " كلّهم من رواية عكرمة بن عمّار عن إياس بن سلمة عن أبيه , وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم. وألفاظهم متفاوتة، وليس عند أحدٍ منهم إعادة يرحمك الله في الحديث. وكذلك ما نسبه إلى أبي داود والتّرمذيّ , أنّ عندهما " ثمّ عطس الثّانية أو الثّالثة " فيه نظرٌ، فإنّ لفظ أبي داود " أنّ رجلاً عطس " , والباقي مثل سياق مسلم سواء إلَّا أنّه لَم يقل أخرى. ولفظ التّرمذيّ مثل ما ذكره النّوويّ إلى قوله " ثمّ عطس " , فإنّه ذكره بعده مثل أبي داود سواء، وهذه رواية ابن المبارك عنده , وأخرجه من رواية يحيى القطّان , فأحال به على رواية ابن المبارك , فقال: نحوه إلَّا أنّه قال له في الثّانية. أنت مزكوم. وفي رواية شعبة: قال يحيى القطّان. وفي رواية عبد الرّحمن بن مهديّ " قال له في الثّالثة

: أنت مزكوم ". وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن عمّار. وأكثر الرّوايات المذكورة ليس فيها تعرّض للثّالثة. ورجّح التّرمذيّ مَن قال " في الثّالثة " على رواية مَن قال " في الثّانية ". وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطّان. يوافق ما ذكره النّوويّ. وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في " مصنّفه " وابن عبد البرّ من طريقه قال: حدّثنا محمّد بن عبد السّلام حدّثنا محمّد بن بشّار حدّثنا يحيى القطّان حدّثنا عكرمة فذكره بلفظ " عطس رجلٌ عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فشمّته، ثمّ عطس فشمّته، ثمّ عطس فقال له في الثّالثة: أنت مزكوم. هكذا رأيت فيه. ثمّ عطس فشمّته. وقد أخرجه الإمام أحمد عن يحيى القطّان. ولفظه " ثمّ عطس الثّانية والثّالثة , فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: الرّجل مزكوم. وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث , لكن الأكثر على ترك ذكر التّشميت بعد الأولى. وأخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن عكرمة بلفظٍ آخر قال: يشمّت العاطس ثلاثاً؛ فما زاد فهو مزكوم. وجعل الحديث كلّه من لفظ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأفاد تكرير التّشميت. وهي رواية شاذّة لمخالفة جميع أصحاب عكرمة في سياقه، ولعلَّ ذلك من عكرمة المذكور لمَّا حدّث به وكيعاً. فإنّ في حفظه مقالاً، فإن

كانت محفوظة فهو شاهد قويّ لحديث أبو هريرة. ويستفاد منه مشروعيّة تشميت العاطس ما لَم يزد على ثلاث إذا حمد الله. سواء تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولَم يحمد لغلبة العطاس عليه , ثمّ كرّر الحمد بعدد العطاس. فهل يشمّت بعدد الحمد؟. فيه نظرٌ. وظاهر الخبر نعم. وقد أخرج أبو يعلى وابن السّنّيّ من وجه آخر عن أبي هريرة النّهي عن التّشميت بعد ثلاث، ولفظه: إذا عطس أحدكم فليشمّته جليسه، فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم، ولا يشمّته بعد ثلاث. قال النّوويّ: فيه رجل لَم أتحقّق حاله، وباقي إسناده صحيح. قلت: الرّجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحرّانيّ، والحديث عندهما من رواية محمّد بن سليمان عن أبيه، ومحمّد موثّق. وأبوه يقال له الحرّانيّ ضعيف، قال فيه النّسائيّ: ليس بثقةٍ ولا مأمون. قال النّوويّ: وأمّا الذي رويناه في سنن أبي داود والتّرمذيّ عن عبيد بن رفاعة الصّحابيّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يشمّت العاطس ثلاثاً فإن زاد فإن شئت فشمّته , وإن شئت فلا. فهو حديث ضعيف. قال فيه التّرمذيّ: هذا الحديث غريب، وإسناده مجهول. قلت: إطلاقه عليه الضّعف ليس بجيّدٍ، إذا لا يلزم من الغرابة الضّعف، وأمّا وصف التّرمذيّ إسناده بكونه مجهولاً فلم يرد جميع رجال الإسناد فإنّ معظمهم موثّقون، وإنّما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم.

وذلك أنّ أبا داود والتّرمذيّ أخرجاه معاً من طريق عبد السّلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرّحمن، ثمّ اختلفا: فأمّا رواية أبي داود. ففيها عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمّه حميدة أو عبيدة بنت عبيد بن رفاعة عن أبيها، وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل كما سأبيّن , وعبد السّلام بن حرب من رجال الصّحيح. ويزيد هو أبو خالد الدّالانيّ , وهو صدوق في حفظه شيء، ويحيى بن إسحاق وثّقه يحيى بن معين. وأمّه حميدة روى عنها أيضاً زوجها إسحاق بن أبي طلحة، وذكرها ابن حبّان في ثقات التّابعين. وأبوها عبيد بن رفاعة ذكروه في الصّحابة لكونه ولد في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وله رؤية، قاله ابن السّكن، قال: ولَم يصحّ سماعه. وقال البغويّ: روايته مرسلة , وحديثه عن أبيه عند التّرمذيّ والنّسائيّ وغيرهما. وأمّا رواية التّرمذيّ. ففيها عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمّه عن أبيها. كذا سمّاه عمر. ولَم يسمّ أمّه ولا أباها، وكأنّه لَم يمعن النّظر فيه. ثمّ قال: إنّه إسناد مجهول. وقد تبيّن أنّه ليس بمجهولٍ، وأنّ الصّواب يحيى بن إسحاق لا عمر، فقد أخرجه الحسن بن سفيان وابن السّنّيّ وأبو نعيم وغيرهم من طريق عبد السّلام بن حرب , فقالوا: يحيى بن إسحاق، وقالوا: حميدة بغير شكٍّ. وهو المعتمد.

وقال ابن العربيّ: هذا الحديث - وإن كان فيه مجهول - لكن يستحبّ العمل به , لأنّه دعاء بخيرٍ وصلة وتودّد للجليس، فالأولى العمل به. والله أعلم. وقال ابن عبد البرّ: دلَّ حديث عبيد بن رفاعة على أنّه يشمّت ثلاثاً , ويقال أنت مزكوم بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها. فالعمل بها أولى. ثمّ حكى النّوويّ عن ابن العربيّ: أنّ العلماء اختلفوا. هل يقول لمن تتابع عطاسه أنت مزكوم في الثّانية أو الثّالثة أو الرّابعة؟ على أقوال. والصّحيح في الثّالثة. قال: ومعناه إنّك لست ممّن يشمّت بعدها , لأنّ الذي بك مرض , وليس من العطاس المحمود النّاشئ عن خفّة البدن. قال: فإن قيل: فإذا كان مرضاً فينبغي أن يشمّت بطريق الأولى , لأنّه أحوج إلى الدّعاء من غيره، قلنا: نعم. لكن يدعى له بدعاءٍ يلائمه لا بالدّعاء المشروع للعاطس , بل من جنس دعاء المسلم للمسلم بالعافية. وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشّافعيّة , أنّه قال: يكرّر التّشميت إذا تكرّر العطاس إلَّا أن يعرف أنّه مزكوم فيدعو له بالشّفاء. قال: وتقريره أنّ العموم يقتضي التّكرار إلَّا في موضع العلة وهو الزّكام. قال: وعند هذا يسقط الأمر بالتّشميت عند العلم بالزّكام , لأنّ

التّعليل به يقتضي أن لا يشمّت من علم أنّ به زكاماً أصلاً. وتعقّبه: بأنّ المذكور هو العلة دون التّعليل , وليس المعلل هو مطلق التّرك ليعمّ الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو التّرك بعد التّكرير، فكأنّه قيل: لا يلزم تكرّر التّشميت لأنّه مزكوم. قال: ويتأيّد بمناسبة المشقّة النّاشئة عن التّكرار. الرّابع: ممّن يخصّ من عموم العاطسين من يكره التّشميت. قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ من عرف من حاله أنّه يكره التّشميت أنّه لا يشمّت إجلالاً للتّشميت أن يؤهّل له من يكرهه , فإن قيل: كيف يترك السّنّة لذلك؟ قلنا: هي سنّة لمن أحبّها، فأمّا من كرهها ورغب عنها فلا. قال: ويطّرد ذلك في السّلام والعيادة. قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنّه لا يمتنع من ذلك إلَّا من خاف منه ضرراً، فأمّا غيره فيشمّت امتثالاً للأمر ومناقضة للمتكبّر في مراده وكسراً لسورته في ذلك، وهو أولى من إجلال التّشميت. قلت: ويؤيّده أنّ لفظ التّشميت دعاء بالرّحمة. فهو يناسب المسلم كائناً من كان. والله أعلم. الخامس: قال ابن دقيق العيد: يستثنى أيضاً من عطس والإمام يخطب، فإنّه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والرّاجح الإنصات لإمكان تدارك التّشميت بعد فراغ الخطيب , ولا سيّما إن قيل بتحريم الكلام والإمام

يخطب، وعلى هذا. فهل يتعيّن تأخير التّشميت حتّى يفرغ الخطيب , أو يشرع له التّشميت بالإشارة.؟. فلو كان العاطس الخطيب فحمد واستمرّ في خطبته فالحكم كذلك , وإن حمد فوقف قليلاً ليشمّت فلا يمتنع أن يشرع تشميته. السّادس: ممّن يمكن أن يستثنى , مَن كان عند عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماعة. فيؤخّر ثمّ يحمد الله فيشمّت. فلو خالف فحمد في تلك الحالة , هل يستحقّ التّشميت.؟ فيه نظرٌ. قوله: (وإبرار القسم أو المُقسِم) أي: بفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارّاً. واختلف في ضبط السّين. فالمشهور: أنّها بالكسر وضمّ أوّله على أنّه اسم فاعل. وقيل: بفتحها. أي: الإقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلاً بمعنى الإدخال. وكذا أخرجته. قال الرّاغب وغيره: القسم بفتحتين الحلف، وأصله من القسامة , وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، ثمّ استعمل في كلّ حلف. قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردة. (¬1) ¬

_ (¬1) قال البخاري في صحيحه في كتاب الأيمان والنذور: باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} وقال ابن عباس: قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله، لتحدثني بالذي أخطأت في الرؤيا، قال: لا تقسم. ثم أورد أحديثَ منها حديثُ الباب. قال ابن حجر في " الفتح " (11/ 542): والغرض منه هنا قوله " لا تقسم " موضع قوله " لا تحلف " فأشار البخاري إلى الردِّ على من قال: إن من قال: أقسمت. انعقدت يميناً , ولأنه لو قال بدل أقسمت حلفتُ لم تنعقد اتفاقاً إلَّا إن نوى اليمين , أو قصد الإخبار بأنه سبق منه حلف، وأيضاً فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بإبرار القسم، فلو كان أقسمت يميناً لأبرَّ أبا بكر حين قالها، ومن ثم أورد حديث البراء عقبه، ولهذا أورد حديث حارثة آخر الباب " لو أقسم على الله لأبره " إشارة إلى أنها لو كانت يميناً لكان أبو بكر أحقَّ بأن يبرَّ قسمه , لأنه رأس أهل الجنة من هذه الأُمّة، وأما حديث أسامة في قصة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالظاهر أنها أقسمت حقيقة، فقد تقدم في الجنائز بلفظ " تُقسم عليه ليأتينها ". والله أعلم. انتهى

فقال قوم: هي يمين وإن لم يقصد، وممن روي ذلك عنه ابن عمر وابن عباس، وبه قال النخعي والثوري والكوفيون. وقال الأكثرون: لا تكون يميناً إلا أن ينوي. وقال مالك: أقسمت بالله يميناً وأقسمت مجردة لا تكون يميناً إلَّا إن نوى. وقال الإمام الشافعي: المجردة لا تكون يميناً أصلاً ولو نوى، وأقسمت بالله إن نوى تكون يمينا. وقال إسحاق: لا تكون يمينا أصلا. وعن أحمد: كالأول , وعنه: كالثاني. وعنه: إن قال قسماً بالله فيمين جزماً لأنَّ التقدير أقسمت بالله قسماً، وكذا لو قال ألية بالله قوله: (ونصر المظلوم) هو فرض كفاية، وهو عامٌّ في المظلومين وكذلك في الناصرين بناء على أنَّ فرض الكفاية مخاطب به الجميع. وهو الراجح.

ويتعين أحياناً على من له القدرة عليه وحده إذا لَم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علِم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير. وشرْطُ الناصرِ أن يكون عالماً بكون الفعل ظلما. ويقع النصْر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنقذ إنسانا من يد إنسان طالبه بمال ظلما وهدده إن لَم يبذله , وقد يقع بعد وهو كثير. تكميل: أخرج الشيخان عن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً , فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه، من الظلم. فإنَّ ذلك نصره ". ولمسلم في حديث جابر نحو الحديث. وفيه " إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصرة ". قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يئول إليه، وهو من وجيز البلاغة. قال البيهقي: معناه أنَّ الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسا ومعنى، فلو رأى إنساناً يريد أن يجب نفسه لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه الزنا مثلاً منعه من ذلك , وكان ذلك

نصراً له، واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم. قوله: (وإجابة الدّاعي) نقل ابن عبد البرّ ثمّ عياض ثمّ النّوويّ الاتّفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس , وفيه نظرٌ. نعم المشهور من أقوال العلماء. القول الأول: الوجوب، وصرّح جمهور الشّافعيّة والحنابلة بأنّها فرض عين. ونصّ عليه مالك. القول الثاني: عن بعض الشّافعيّة والحنابلة أنّها مستحبّة، وذكر اللخميّ من المالكيّة أنّه المذهب، وكلام صاحب الهداية يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنّها سنّة، فكأنّه أراد أنّها وجبت بالسّنّة , وليست فرضاً كما عرف من قاعدتهم. القول الثالث: عن بعض الشّافعيّة والحنابلة. هي فرض كفاية. وحكى ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام ": أنّ محلّ ذلك إذا عمّت الدّعوة. أمّا لو خصّ كلّ واحد بالدّعوة فإنّ الإجابة تتعيّن. وشرط وجوبها أن يكون الدّاعي مكلفاً حرّاً رشيداً، وأن لا يخصّ الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التّودّد لشخصٍ بعينه لرغبةٍ فيه أو رهبة منه، وأن يكون الدّاعي مسلماً على الأصحّ. وأن يختصّ باليوم الأوّل على المشهور، وأن لا يسبق فمن سبق تعيّنت الإجابة له دون الثّاني، وإن جاءا معاً قدّم الأقرب رحماً على الأقرب جواراً على الأصحّ، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذّى بحضوره من منكر وغيره , وأن لا يكون له عذر.

وضبطه الماورديّ بما يرخّص به في ترك الجماعة، هذا كلّه في وليمة العرس. وقال الكرمانيّ: قوله " الدّاعي " عامّ، وقد قال الجمهور: تجب في وليمة النّكاح وتستحبّ في غيرها , فيلزم استعمال اللفظ في الإيجاب والنّدب وهو ممتنع. قال: والجواب: أنّ الشّافعيّ أجازه، وحمله غيره على عموم المجاز. انتهى. ويحتمل: أن يكون هذا اللفظ - وإن كان عامّاً - فالمراد به خاصّ، وأمّا استحباب إجابة طعام غير العرس فمن دليل آخر. فأخرج الشيخان من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أجيبوا الدعوة إذا دعيتم. قال: كان عبد الله يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم. واللام في قوله " الدعوة ". يحتمل: أن تكون للعهد، والمراد وليمة العرس. ويؤيّده رواية ابن عمر الأخرى في الصحيحين " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها " , وقد تقرّر أنّ الحديث الواحد إذا تعدّدت ألفاظه , وأمكن حمل بعضها على بعض تعيّن ذلك. ويحتمل: أن تكون اللام للعموم , وهو الذي فهمه راوي الحديث , فكان يأتي الدّعوة للعرس ولغيره. وأخرجه مسلم وأبو داود من طريق أيّوب عن نافع بلفظ " إذا دعا

أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه ". ولمسلمٍ من طريق الزّبيديّ عن نافع بلفظ " من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب " , وهذا يؤيّد ما فهمه ابن عمر , وأنّ الأمر بالإجابة لا يختصّ بطعام العرس. وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشّافعيّة , فقال بوجوب الإجابة إلى الدّعوة مطلقاً عرساً كان أو غيره بشرطه؛ ونقله ابن عبد البرّ عن عبيد الله بن الحسن العنبريّ قاضي البصرة. وزعم ابن حزم: أنّه قول جمهور الصّحابة والتّابعين. ويعكّر عليه ما أخرجه أحمد في " مسنده " عن عثمان بن أبي العاص - وهو من مشاهير الصّحابة - أنّه قال في وليمة الختان: لَم يكن يُدعى لها. لكن يمكن الانفصال عنه بأنّ ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دُعوا. وعند عبد الرّزّاق بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر , أنّه دعا بالطّعام , فقال رجلٌ من القوم: أعفني، فقال ابن عمر: إنّه لا عافية لك من هذا، فقم. وأخرج الشّافعيّ وعبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس , أنّ ابن صفوان دعاه فقال: إنّي مشغول، وإن لَم تعفني جئته. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النّكاح. المالكيّة والحنفيّة والحنابلة وجمهور الشّافعيّة؛ وبالغ السّرخسيّ منهم فنقل فيه الإجماع.

ولفظ الشّافعيّ: إتيان دعوة الوليمة حقّ، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكلّ دعوة دعي إليها رجلٌ وليمةٌ. فلا أرخّص لأحدٍ في تركها، ولو تركها لَم يتبيّن أنّه عاصٍ في تركها كما تبيّن لي في وليمة العرس. قوله: (وإفشاء السّلام) الإفشاء الإظهار، والمراد نشر السّلام بين النّاس ليحيوا سنّته. وفي رواية لهما " وردّ السلام " بدل إفشاء السلام. ولا مغايرة في المعنى , لأنّ ابتداء السّلام وردّه متلازمان، وإفشاء السّلام ابتداء يستلزم إفشاءه جواباً. وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " بسندٍ صحيح عن ابن عمر: إذا سلّمت فأسمِع , فإنّها تحيّة من عند الله. قال النّوويّ: أقلّه أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه، فإن لَم يسمعه لَم يكن آتياً بالسّنّة. ويستحبّ أن يرفع صوته بقدر ما يتحقّق أنّه سمعه، فإن شكّ استظهر. ويستثنى من رفع الصّوت بالسّلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام , فالسّنّة فيه ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد , قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً , ويسمع اليقظان. ونقل النّوويّ عن المتولي أنّه قال: يُكره إذا لقي جماعة أن يخصّ بعضهم بالسّلام؛ لأنّ القصد بمشروعيّة السّلام تحصيل الألفة، وفي التّخصيص إيحاش لغير من خصّ بالسّلام. وقد جاء إفشاء السّلام من حديث البراء بلفظٍ آخر. وهو عند

البخاري في " الأدب المفرد " وصحَّحه ابن حبّان من طريق عبد الرّحمن بن عوسجة عنه رفعه: أفشوا السّلام تسلموا. وله شاهد من حديث أبي الدّرداء مثله عند الطّبرانيّ. ولمسلمٍ من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ألا أدلّكم على ما تحابّون به؟ أفشوا السّلام بينكم. قال ابن العربيّ: فيه أنّ من فوائد إفشاء السّلام حصول المحبّة بين المتسالمين، وكان ذلك لِما فيه من ائتلاف الكلمة لتعمّ المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدّين وإخزاء الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النّفور إلى الإقبال على قائلها. وعن عبد الله بن سلامٍ رفعه: أطعموا الطّعام وأفشوا السّلام. الحديث. وفيه: تدخلوا الجنّة بسلامٍ. أخرجه البخاريّ في " الأدب المفرد " وصحَّحه التّرمذيّ والحاكم، وللأوّلين وصحَّحه ابن حبّان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: اعبدوا الرّحمن، وأفشوا السّلام. الحديث. وفيه: تدخلوا الجنان. ومن الأحاديث في إفشاء السّلام. ما أخرجه النّسائيّ عن أبي هريرة رفعه: إذا قعد أحدكم فليسلم , وإذا قام فليسلم , فليست الأولى أحقّ من الآخرة. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر. قال: إن كنتُ لأخرج إلى السّوق , وما لي حاجة إلَّا أن أسلِّم ويُسلّم عليّ.

وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " من طريق الطّفيل بن أبيّ بن كعب عن ابن عمر نحوه , لكن ليس فيها شيء على شرط البخاريّ. واستدل بالأمر بإفشاء السّلام. على أنّه لا يكفي السّلام سرّاً بل يشترط الجهر , وأقلّه أن يسمع في الابتداء وفي الجواب. ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه. وقد أخرج النّسائيّ بسندٍ جيّد عن جابر رفعه: لا تسلِّموا تسليم اليهود , فإنّ تسليمهم بالرّءوس والأكفّ. ويُستثنى من ذلك حالة الصّلاة , فقد وردت أحاديث جيّدة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - ردّ السّلام وهو يُصلِّي إشارة، منها حديث أبي سعيد , أنّ رجلاً سلَّم على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي. فردّ عليه إشارة. (¬1) ومن حديث ابن مسعود نحوه. (¬2) وكذا من كان بعيداً بحيث لا يسمع التّسليم , يجوز السّلام عليه إشارة ويتلفّظ مع ذلك بالسّلام , وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/ 454) والطبراني في " الأوسط " (8631) من طرق عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به. وزاد , قال: فلمَّا سلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كنَّا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك. قال الهيثمي في " المجمع " (2/ 98): رواه البزار. وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. وثَّقه عبد الملك بن شعيب بن الليث فقال: ثقة مأمون، وضعَّفه الأئمة أحمد وغيره. (¬2) أخرجه الطبراني في " الكبير " (9783) وفي " الأوسط " (5918) عنه قال: مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلَّمت عليه فأشار إليَّ. قال الهيثمي في " المجمع " (2/ 98): رجاله رجال الصحيح. وفي الباب عن صهيب وابن عمر وغيرهم أخرجها أبو داود في السنن.

يكره السّلام باليد , ولا يكره بالرّأس. وقال ابن دقيق العيد: استدل بالأمر بإفشاء السّلام مَن قال بوجوب الابتداء بالسّلام، وفيه نظرٌ. إذ لا سبيل إلى القول بأنّه فرض عين على التّعميم من الجانبين , وهو أن يجب على كلّ أحد أن يسلم على كلّ من لقيه لِما في ذلك من الحرج والمشقّة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السّلام على واحد دون الباقين. قال: وإذا سقط على هذه الصّورة لَم يسقط الاستحباب , لأنّ العموم بالنّسبة إلى كلا الفريقين ممكن. انتهى. وهذا البحث ظاهر في حقّ مَن قال: إنّ ابتداء السّلام فرض عين، وأمّا مَن قال: فرض كفاية فلا يرد عليه , إذا قلنا إنّ فرض الكفاية ليس واجباً على واحد بعينه. قال: ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسّلام كالكافر. قلت: ويدلّ عليه قوله في الحديث المذكور قبل " إذا فعلتموه تحاببتم " والمسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبّته ومواددته. وقد اختلف أيضاً في مشروعيّة السّلام على الفاسق وعلى الصّبيّ، وفي سلام الرّجل على المرأة وعكسه، وإذا جمع المجلس كافراً ومسلماً هل يشرع السّلام مراعاة لحقّ المسلمين؟ أو يسقط من أجل الكافر؟.

وقد ترجم البخاري لذلك كلّه. وقال النّوويّ: يستثنى من العموم بابتداء السّلام , من كان مشتغلاً بأكلٍ أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء أو الحمّام , أو نائماً أو ناعساً , أو مصلياً أو مؤذّناً ما دام متلبّساً بشيءٍ ممّا ذكر، فلو لَم تكن اللّقمة في فم الآكل مثلاً شرع السّلام عليه، ويشرع في حقّ المتبايعين وسائر المعاملات. واحتجّ له ابن دقيق العيد: بأنّ النّاس غالباً يكونون في أشغالهم , فلو روعي ذلك لَم يحصل امتثال الإفشاء. وقال ابن دقيق العيد: احتجّ من منع السّلام على من في الحمّام: بأنّه بيت الشّيطان وليس موضع التّحيّة لاشتغال من فيه بالتّنظيف. قال: وليس هذا المعنى بالقويّ في الكراهة، بل يدلّ على عدم الاستحباب. قلت: وقد أخرج الثوري في " جامعه " عن حمّاد عن إبراهيم قال: إن كان عليهم إزار فيسلم وإلَّا فلا. والنّهي عن السّلام عليهم , إمّا إهانةٌ لهم لكونهم على بدعةٍ , وإمّا لكونه يستدعي منهم الرّدّ , والتّلفّظ بالسّلام فيه ذكر الله , لأنّ السّلام من أسمائه , وأنّ لفظ سلامٌ عليكم من القرآن , والمتعرّي عن الإزار مشابهٌ لمن هو في الخلاء. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أمّ هانئ: أتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل وفاطمة تستره. فسلمت عليه. الحديث. قال النّوويّ: وأمّا السّلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر

بالإنصات، فلو سلَّم لَم يجب الرّدّ عند مَن قال الإنصات واجب، ويجب عند مَن قال إنّه سنّة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يردّ أكثر من واحد. وأمّا المشتغل بقراءة القرآن. فقال الواحديّ: الأولى ترك السّلام عليه , فإن سلَّم عليه كفاه الرّدّ بالإشارة، وإن ردّ لفظاً استأنف الاستعاذة وقرأ. قال النّوويّ: وفيه نظرٌ، والظّاهر أنّه يشرع السّلام عليه , ويجب عليه الرّدّ. ثمّ قال: وأمّا من كان مشتغلاً بالدّعاء مستغرقاً فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنّه يكره السّلام عليه , لأنّه يتنكّد به ويشقّ عليه أكثر من مشقّة الأكل. وأمّا الملبّي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه , لأنّ قطعه التّلبية مكروه، ويجب عليه الرّدّ مع ذلك لفظاً أن لو سلم عليه. قال: ولو تبرّع واحدٌ من هؤلاء بردّ السّلام إن كان مشتغلاً بالبول ونحوه فيكره , وإن كان آكلاً ونحوه فيستحبّ في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصلياً لَم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السّلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التّحريم لا إن جهل في الأصحّ، فلو أتى بضمير الغيبة لَم تبطل، ويستحبّ أن يردّ بالإشارة، وإن ردّ بعد فراغ الصّلاة لفظاً فهو أحبّ، وإن كان مؤذّناً أو ملبّياً لَم يكره له الرّدّ لفظاً لأنّه قدر يسير لا يبطل الموالاة.

وقد تعقَّب والدي (¬1) رحمه الله في نكته على الأذكار. ما قاله الشّيخ في القارئ: لكونه يأتي في حقّه نظير ما أبداه هو في الدّاعي؛ لأنّ القارئ قد يستغرق فكره في تدبّر معاني ما يقرؤه. ثمّ اعتذر عنه: بأنّ الدّاعي يكون مهتمّاً بطلب حاجته فيغلب عليه التّوجّه طبعاً، والقارئ إنّما يطلب منه التّوجّه شرعاً , فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنّه يوفّق للحاجة العليّة فهو على ندور. انتهى. ولا يخفى أنّ التّعليل الذي ذكره الشّيخ من تنكّد الدّاعي يأتي نظيره في القارئ، وما ذكره الشّيخ في بطلان الصّلاة إذا ردّ السّلام بالخطاب ليس متّفقاً عليه، فعن الشّافعيّ نصٌّ في أنّه لا تبطل , لأنّه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدّعاء، وإذا عذرنا الدّاعي والقارئ بعدم الرّدّ فردّ بعد الفراغ كان مستحبّاً. وذكر بعض الحنفيّة: أنّ من جلس في المسجد للقراءة أو التّسبيح أو لانتظاره الصّلاة لا يشرع السّلام عليهم، وإن سلم عليهم لَم يجب ¬

_ (¬1) أي: والد الشارح رحمهما الله. ترجم له ابنه في " انباء الغمر بأبناء العمر " فقال: علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن حجر العسقلاني ثم المصري الكناني ولد في حدود العشرين وسبعمائة. اشتغل بالفقه والعربية ومهر في الآداب , وقال الشعر فأجاد , وله عدة دواوين , وكان موصوفاً بالعقل والديانة والأمانة ومكارم الأخلاق , ومن محفوظاته الحاوي الصغير , وله استدراك على الأذكار للنووي فيه مباحث حسنة. قرأت بخط ابن القطان وأجازنيه: مات يوم الأربعاء ثالث عشرين شهر رجب قلت: وتركني لم أكمل أربع سنين وأنا الآن أعقله كالذي يتخيل الشيء ولا يتحققه وأحفظ منه أنه قال: كنية ولدي أحمد أبو الفضل رحمة الله تعالى. انتهى بتجوز.

الجواب. قال: وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرّدّ. وكذلك الأستاذ إذا سلَّم عليه تلميذه لا يجب الرّدّ عليه. كذا قال , وهذا الأخير لا يوافق عليه. ويدخل في عموم إفشاء السّلام، السّلام على النّفس لمن دخل مكاناً ليس فيه أحد، لقوله تعالى {فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم} الآية. وأخرج البخاريّ في " الأدب المفرد " وابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن ابن عمر: يستحبّ إذا لَم يكن أحدٌ في البيت أن يقول: السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين. وأخرج الطّبريّ عن ابن عبّاس , ومن طريق كلٍّ من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه. ويدخل فيه من مرّ على من ظنّ أنّه إذا سلَّم عليه لا يردّ عليه , فإنّه يشرع له السّلام , ولا يتركه لهذا الظّنّ , لأنّه قد يخطئ. قال النّوويّ: وأمّا قول من لا تحقيق عنده أنّ ذلك يكون سبباً لتأثيم الآخر فهو غباوة؛ لأنّ المأمورات الشّرعيّة لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات. قال: وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارةٍ لطيفة ردّ السّلام واجبٌ، فينبغي أن تردّ ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على التّرك أن يحلله من ذلك لأنّه حقّ آدميّ. ورجّح ابن دقيق العيد في " شرح الإلمام " المقالة التي زيّفها النّوويّ

بأنّ مفسدة توريط المسلم في المعصية أشدّ من ترك مصلحة السّلام عليه، ولا سيّما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره. قوله: (ونهانا عن خواتيم , أو عن تختّمٍ بالذّهب) (¬1) جمع خاتم، ويجمع أيضاً على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياءٍ بدل الواو، وبلا ياء أيضاً. وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التّاء وكسرها وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء ختام، وبفتحها وسكون التّحتانيّة وضمّ المثنّاة بعدها واو خيتوم، وبحذف الياء والواو مع سكون المثنّاة ختم، وبألفٍ بعد الخاء وأخرى بعد التّاء خاتام، وبزيادة تحتانيّة بعد المثنّاة المكسورة خاتيام، وبحذف الأولى وتقديم التّحتانيّة خيتام، وقد جمعتها في بيت وهو: خاتام خاتم ختم خاتم وختا ... م خاتيام وخيتوم وخيتام وقبله: خذ نظم عدّ لغات الخاتم انتظمت ... ثمانياً ما حواها قبل نظام ثمّ زدت ثالثاً: وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتمّ العشر خاتام أمّا الأوّل: فذكر أبو البقاء في إعراب الشّواذّ في الكلام على من قرأ ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله حكم لبس خاتم الذهب مستوفى في شرح حديث ابن عمر الذي بعده. وقد أورد البخاريُّ حديث الباب وحديث ابن عمر الآتي في باب خواتيم الذهب.

العالمين بالهمز , قال: ومثله الخأتم بالهمز. وأمّا الثّاني: فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النّوويّ على أربعة. والحقّ أنّ الختم والختام مختصّ بما يختم به فتكمل الثّمان فيه، وأمّا ما يتزيّن به فليس فيه إلَّا ستّة، وأنشدوا في الخاتيام. وهو أغربها: أخذت من سعداك خاتياماً ... لموعدٍ تكتسب الآثاما قوله: (وعن شرب بالفضّة) زاد مسلم من طريق أخرى عن البراء " فإنّه من شرب فيها في الدّنيا لَم يشرب فيها في الآخرة " , ومثله في حديث أبي هريرة رفعه: من شرب في آنية الفضّة والذّهب في الدّنيا لَم يشرب فيها في الآخرة، وآنية أهل الجنّة الذّهب والفضّة. أخرجه النّسائيّ بسندٍ قويّ. (¬1) قوله: (وعن المياثر) جمع ميثرة. وهي بكسر الميم وسكون التّحتانيّة وفتح المثلثة بعدها راء ثمّ هاء ولا همز فيها، وأصلها من الوثارة أو الوثرة بكسر الواو وسكون المثلثة، والوثير هو الفراش الوطيء , وامرأة وثيرة كثيرة اللحم. وقد أخرج أحمد والنّسائيّ وأصله عند أبي داود بسندٍ صحيح عن عليّ , قال: نُهي عن المياثر الأرجوان. هكذا عندهم بلفظ " نُهي " على البناء للمجهول، وهو محمول على الرّفع. وقد أخرج أحمد وأصحاب السّنن وصحَّحه ابن حبّان من طريق ¬

_ (¬1) وقد تقدّم الكلام عليه مستوفي في حديث حذيفة - رضي الله عنه - رقم (399).

هبيرة بن يريم - بتحتانيّةٍ أوّله وزن عظيم - عن عليّ , قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذّهب، وعن لبس القسّيّ، والميثرة الحمراء. ولمسلم عن أبي بُرْدة، عن عليٍّ، قال: نَهاني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القسّيّ، وعن جلوسٍ على المياثر، قال: والمياثر: شيءٌ كانت تجعله النّساء لبعولتهنّ على الرّحل كالقطائف الأرجوان. قال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النّهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. وقال الطّبريّ: هي وعاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير من الأرجوان. وحكى في " المشارق " قولاً أنّها سروج من ديباج، وقولاً أنّها أغشية للسّروج من حرير، وقولاً أنّها تشبه المخدّة تحشى بقطنٍ , أو ريش يجعلها الرّاكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطّبريّ. والأقوال الثّلاثة. يحتمل: أن لا تكون متخالفة بل الميثرة تطلق على كلّ منها، وتفسير أبي عبيد. يحتمل: الثّاني والثّالث. وقيل: المياثر جلود السباع. قال النّوويّ: هو تفسير باطل مخالف لِمَا أطبق عليه أهل الحديث. قلت: وليس هو بباطلٍ، بل يمكن توجيهه، وهو ما إذا كانت

الميثرة وطاء صنعت من جلد ثمّ حشيت، والنّهي حينئذٍ عنها. إمّا لأنّها من زيّ الكفّار، وإمّا لأنّها لا تعمل فيها الذّكاة، أو لأنّها لا تذكّى غالباً فيكون فيه حجّة لمن منع لبس ذلك ولو دبغ، لكن الجمهور على خلافه، وأنّ الجلد يطهر بالدّباغ. وقد اختلف أيضاً في الشّعر. هل يطهر بالدّباغ؟. لكن الغالب على المياثر أن لا يكون فيها شعر. وقد ثبت النّهي عن الرّكوب على جلود النّمور. أخرجه النّسائيّ من حديث المقدام بن معد يكرب، وهو ممّا يؤيّد التّفسير المذكور. ولأبي داود: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر. وعلى كلّ تقدير فالميثرة , وإن كانت من حرير فالنّهي فيها كالنّهي عن الجلوس على الحرير، وقد تقدّم القول فيه (¬1). ولكن تقييدها بالأحمر أخصّ من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريراً، ويتأكّد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت من غير حرير فالنّهي فيها للزّجر عن التّشبّه بالأعاجم. قال ابن بطّال: كلام الطّبريّ يقتضي التّسوية في المنع من الرّكوب عليه. سواء كانت من حرير أم من غيره، فكان النّهي عنها إذا لَم يكن من حرير للتّشبّه أو للسّرف أو التّزيّن، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التّحريم والتّنزيه، وأمّا تقييدها بالحمرة. فمن يحمل المطلق على المقيّد وهم الأكثر , يخصّ المنع بما كان أحمر. ¬

_ (¬1) في شرح حديث حذيفة - رضي الله عنه - الماضي فبل حديث.

والأرجوان المذكور في الرّواية التي أشرت إليها , بضمّ الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثمّ واو خفيفة. وحكى عياض ثمّ القرطبيّ: فتح الهمزة , وأنكره النّوويّ , وصوّب أنّ الضّمّ هو المعروف في كتب الحديث واللّغة والغريب. واختلفوا في المراد به. فقيل: هو صبغ أحمر شديد الحمرة. وهو نور شجر من أحسن الألوان. وقيل: الصّوف الأحمر. وقيل: كلّ شيء أحمر فهو أرجوان. ويقال: ثوب أرجوان وقطيفة أرجوان. وحكى السّيرافيّ: أحمر أرجوان , فكأنّه وصف للمبالغة في الحمرة كما يقال: أبيض يقق , وأصفر فاقع. واختلفوا. هل الكلمة عربيّة أو معرّبة؟. فإن قلنا: باختصاص النّهي بالأحمر من المياثر , فالمعنى في النّهي عنها ما في غيرها كما تقدّم في حديث البراء قبله. وإن قلنا: لا يختصّ بالأحمر فالمعنيّ بالنّهي عنها ما فيه من التّرفّه، وقد يعتادها الشّخص فتعوزه فيشقّ عليه تركها , فيكون النّهي نهي إرشاد لمصلحةٍ دنيويّة. وإن قلنا: النّهي عنها من أجل التّشبّه بالأعاجم فهو لمصلحةٍ دينيّة، لكن كان ذلك شعارهم حينئذٍ وهم كفّار , ثمّ لمَّا لَم يصر الآن يختص

بشعارهم زال ذلك المعنى , فتزول الكراهة، والله أعلم. قوله: (وعن القسّيّ) بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء نسبة. وذكر أبو عبيد في " غريب الحديث ": أنّ أهل الحديث يقولونه بكسر القاف وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد يقال: لها القسّ. رأيتها , ولَم يعرفها الأصمعيّ. وكذا قال الأكثر: هي نسبة للقسّ بمصر. منهم الطّبريّ وابن سيده. وقال الحازميّ: هي من بلاد السّاحل. وقال المُهلَّب: هي على ساحل مصر , وهي حصن بالقرب من الفرما من جهة الشّام، وكذا وقع في حديث ابن وهب: أنّها تلي الفرما. والفرما بالفاء وراء مفتوحة. وقال النّوويّ: هي بقرب تنيس وهو متقارب، وحكى أبو عبيد الهرويّ عن شمر اللّغويّ: أنّها بالزّاي لا بالسّين نسبة إلى القزّ وهو الحرير , فأبدلت الزّاي سيناً. وحكى ابن الأثير في " النّهاية ": أنّ القسّ الذي نسب إليه , هو الصّقيع , سُمِّي بذلك لبياضه، وهو والذي قبله كلام من لَم يعرف القسّ القرية. وذكر البخاري معلَّقا. ووقع لنا موصولاً في " أمالي المحامليّ " , قال عاصمٌ: عن أبي بُرْدة، قال: قلت: لعليٍّ: ما القسّيّة؟ قال: ثيابٌ أتتنا من الشّأم، أو من مصر، مضلعةٌ فيها حريرٌ , وفيها أمثال

الأترنج. ولمسلم من طريق عبد الله بن إدريس سمعت عاصم بن كليب عن أبي بُرْدة - وهو ابن أبي موسى الأشعريّ - عن عليّ قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القسّيّ. وعن المياثر، قال: فأمّا القسّيّ فثياب مضلعة يُؤتى بها من مصر والشّام فيها شبه كذا. الحديث. وأخرج مسلم من وجهين آخرين. عن عليّ النّهي عن لباس القسّيّ , لكن ليس فيه تفسيره. وقوله " مضلعة فيها حرير ".أي: فيها خطوط عريضة كالأضلاع، وحكى المنذريّ: أنّ المراد بالمضلع ما نسج بعضه وترك بعضه. وقوله: " فيها حرير " يشعر بأنّها ليست حريراً صرفاً. وحكى النّوويّ عن العلماء: أنّها ثياب مخلوطة بالحرير. وقيل: من الخزّ وهو رديء الحرير. وقوله " وفيها أمثال الأترنج ". أي: أنّ الأضلاع التي فيها غليظة معوجّة واستدل بالنّهي عن لبس القسّيّ على منع لبس ما خالطه الحرير من الثّياب لتفسير القسّيّ. بأنّه ما خالط غير الحرير فيه الحرير. ويؤيّده عطف الحرير على القسّيّ في حديث الباب. ووقع كذلك في حديث عليّ عند أبي داود والنّسائيّ وأحمد بسندٍ صحيح على شرط الشّيخين من طريق عبيدة بن عمرو عن عليّ قال: نهاني النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن القسّيّ والحرير.

ويحتمل: أن تكون المغايرة باعتبار النّوع , فيكون الكلّ من الحرير كما وقع عطف الدّيباج على الحرير في حديث حذيفة الماضي قريباً. ولكنّ الذي يظهر من سياق طرق الحديث في تفسير القسّيّ , أنّه الذي يخالط الحرير لا أنّه الحرير الصِّرف. فعلى هذا. القول الأول. يحرم لبس الثّوب الذي خالطه الحرير. وهو قول بعض الصّحابة كابن عمر والتّابعين كابن سيرين. القول الثاني: ذهب الجمهور: إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير الأغلب. وعمدتهم في ذلك تفسير الحلة السّيراء (¬1) وما انضاف إلى ذلك من ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري (886) ومواضع أخرى , ومسلم (5522) عن ابن عمر أنَّ عمر بن الخطاب، رأى حلةً سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله. لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة .... " الحديث قال الشارح في الفتح: والسيراء - بكسر المهملة وفتح التحتانية والراء مع المد - , قال مالك: هو الوشي من الحرير. كذا قال , والوشي بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها تحتانية. وقال الأصمعي: ثياب فيها خطوط من حرير أو قز , وإنما قيل لها سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مضلع بالحرير , وقيل: مختلف الألوان فيه خطوط ممتدة كأنها السيور. ووقع عند أبي داود في حديث أنس , أنه رأى على أم كلثوم حلة سيراء. والسيراء المضلع بالقز. وقد جزم ابن بطال , أنه من تفسير الزهري. وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود , وقيل: ثوب مسير فيه خطوط يعمل من القز , وقيل: ثياب من اليمن. وقال الجوهري: بُرد فيه خطوط صفر. ونقل عياض عن سيبويه قال: لَم يأت فعلاء صفة , لكن اسماً: وهو الحرير الصافي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثم قال الحافظ: الحلة السيراء هي التي تكون من حرير صِرْف، قال ابن عبد البر: هذا قول أهل العلم، وأما أهل اللغة فيقولون: هي التي يخالطها الحرير، قال: والأول هو المعتمد. ثم ساق من طريق محمد بن سيرين عن ابن عمر نحو حديث الباب. وفيه " حلةٌ من حرير ". وقال ابن بطال: دلَّت طرق الحديث على أن الحلة المذكورة كانت من حرير محض، ثم ذكر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر , أن عمر قال: يا رسول الله، إني مررتُ بعطارد يعرض حلة حرير للبيع " الحديث. أخرجه أبو عوانة والطبري بهذا اللفظ. قلت: وللبخاري في البيوع من طريق أبي بكر بن حفص عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " حلة حرير أو سيراء "، وفي العيدين من طريق الزهري عن سالم " حلة من إستبرق " , وقد فسر الإستبرق في طريق أخرى بأنه ما غلظ من الديباج، أخرجه البخاري في " الأدب " من طريق يحيى بن إسحاق قال: سألني سالم عن الإستبرق؟ فقلت: ما غلظ من الديباج، فقال: سمعت عبد الله بن عمر " فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أنس في نحو هذه القصة " حلة من سندس ". قال النووي: هذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريراً محضاً. قلت: الذي يتبين أن السيراء قد تكون حريراً صرفاً , وقد تكون غير محض، فالتي في قصة عمر جاء التصريح بأنها كانت من حرير محض , ولهذا وقع في حديثه " إنما يلبس هذه من لا خلاق له " والتي في قصة علي لَم تكن حريراً صرفاً. لِما روى ابن أبي شيبة من طريق أبي فاختة عن هبيرة بن يريم عن عليٍّ قال: أُهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة مسيَّرة بحرير. إما سُداها أو لحمتها. فأرسل بها إليَّ فقلت: ما أصنع بها، ألبسها؟ قال: لا أرضى لك إلَّا ما أرضى لنفسي، ولكن اجعلها خمراً بين الفواطم. وقد أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق ابن إسحاق عن هبيرة , فقال فيه: حلة من حرير " وهو محمول على رواية أبي فاختة - وهو بفاء ومعجمة ثم مثناة - اسمه سعيد بن علاقة بكسر المهملة وتخفيف اللام ثم قاف، ثقة. ولَم يقع في قصة عليٍّ - رضي الله عنه - وعيد على لبسها كما وقع في قصة عمر - رضي الله عنه -، بل فيه " لا أرضى لك إلَّا ما أرضى لنفسي " ولا ريب أن ترك لبس ما خالطه الحرير أولى من لبسه عند من يقول بجوازه. والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر قلت: وحديث علي - رضي الله عنه - الذي أشار إليه ابن حجر , أصله في صحيح البخاري (2614) ومسلم (5544) من طريق زيد بن وهب عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: أهدى إليَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء فلبستها، فرأيت الغضب فى وجهه، فشققتها بين نسائى. ولمسلم (5543) من طريق أبى صالح الحنفي عن علي , أن أُكيدر دومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب حرير فأعطاه علياً .. الحديث "

الرّخصة في العلم في الثّوب إذا كان من حرير. كما سيأتي تقريره في حديث عمر (¬1). قال ابن دقيق العيد: وهو قياس في معنى الأصل، لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كلّ مختلط، وإنّما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنّسبة لجميع الثّوب , فيكون المنع من لبس الحرير شاملاً للخالص والمختلط، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة، ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة. قال: وقد توسّع الشّافعيّة في ذلك، ولهم طريقان: أحدهما: وهو الرّاجح اعتبار الوزن، فإن كان الحرير أقلّ وزناً لَم يحرم أو أكثر حرم، وإن استويا فوجهان. اختلف التّرجيح فيهما عندهم. والطّريق الثّاني: الاعتبار بالقلة والكثرة بالظّهور، وهذا اختيار القفّال ومن تبعه. وعند المالكيّة في المختلط أقوال ثالثها الكراهة، ومنهم من فرّق بين الخزّ وبين المختلط بقطنٍ ونحوه. فأجاز الخزّ ومنع الآخر. وهذا مبنيّ على تفسير الخزّ، وقد تقدّم في بعض تفاسير القسّيّ أنّه ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله في العمدة بعد حديث.

الخزّ. فمَن قال: إنّه رديء الحرير فهو الذي يتنزّل عليه القول المذكور. ومَن قال: إنّه ما كان من وبر فخلط بحريرٍ لَم يتّجه التّفصيل المذكور. واحتجّ أيضاً من أجاز لبس المختلط: بحديث ابن عبّاس: إنّما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثّوب المصمت من الحرير , فأمّا العلم من الحرير وسدى الثّوب فلا بأس به. أخرجه الطّبرانيّ بسندٍ حسن هكذا، وأصله عند أبي داود، وأخرجه الحاكم بسندٍ صحيح بلفظ " إنّما نهى عن المصمت إذا كان حريراً ". وللطّبرانيّ من طريق ثالث: نهى عن مُصمت الحرير , فأمّا ما كان سداه من قطن أو كتّان فلا بأس به. واستدل ابن العربيّ للجواز أيضاً: بأنّ النّهي عن الحرير حقيقة في الخالص، والإذن في القطن ونحوه صريح، فإذا خُلطا بحيث لا يسمّى حريراً بحيث لا يتناوله الاسم ولا تشمله عِلَّة التّحريم خرج عن الممنوع فجاز. وقد ثبت لبس الخزّ عن جماعة من الصّحابة وغيرهم. قال أبو داود: لَبِسَه عشرون نفساً من الصّحابة وأكثر. وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التّابعين بأسانيد جياد. وأعلى ما ورد في ذلك. ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ من طريق

عبد الله بن سعد الدّشتكيّ عن أبيه قال: رأيت رجلاً على بغلة وعليه عمامة خزّ سوداء. وهو يقول: كسانيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمّار بن أبي عمّار قال: أتت مروانَ بنَ الحكم مطارف خزّ، فكساها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والأصحّ في تفسير الخزّ أنّه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره. وقيل: تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه. وقيل: أصله اسم دابّة يقال لها الخرّ , سُمِّي الثّوب المتّخذ من وبره خزّاً لنعومته , ثمّ أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير. وعلى هذا فلا يصحّ الاستدلال بلبسه على جواز لبس ما يخالطه الحرير ما لَم يتحقّق أنّ الخزّ الذي لِبَسَه السّلف كان من المخلوط بالحرير. والله أعلم. وأجاز الحنفيّة والحنابلة: لبس الخزّ ما لَم يكن فيه شهرة، وعن مالك الكراهة، وهذا كلّه في الخزّ. وأمّا القزّ بالقاف بدل الخاء المعجمة. فقال الرّافعيّ: عدّ الأئمّة القزّ من الحرير وحرّموه على الرّجال ولو كان كمد اللون، ونقل الإمام الاتّفاق عليه , لكن حكى المتولي في " التّتمّة " وجهاً أنّه لا يحرم , لأنّه ليس من ثياب الزّينة. قال ابن دقيق العيد: إن كان مراده بالقزّ ما نطلقه نحن الآن عليه فليس يخرج عن اسم الحرير فيحرم، ولا اعتبار بكمودة اللون , ولا

بكونه ليس من ثياب الزّينة , فإنّ كلاً منهما تعليل ضعيف لا أثر له بعد انطلاق الاسم عليه. انتهى كلامه. ولَم يتعرّض لمقابل التّقسيم؛ وهو وإن كان المراد به شيئاً آخر فيتّجه كلامه، والذي يظهر أنّ مراده به رديء الحرير، وهو نحو ما تقدّم في الخزّ، ولأجل ذلك وصفه بكمودة اللون. والله أعلم. قوله: (وعن لبس الحرير , والإستبرق , والدّيباج) الحرير قد سبق القول فيه , والدّيباج والإستبرق: صنفان نفيسان منه. والإستبرق: ما غلظ من الدّيباج , وهو معرّب. والدّيباج هو بكسر المهملة. وحكي فتحها. وقال أبو عبيدة: الفتح مولدٌ. أي: ليس بعربيٍّ.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 402 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصْطَنع خاتماً من ذهبٍ، فكان يجعل فصّه في باطن كفّه إذا لبسه، فصنع النّاس كذلك، ثمّ إنّه جلس على المنبر فنزعه فقال: إنّي كنت أَلبس هذا الخاتم , وأجعل فصّه من داخلٍ , فرمى به , ثمّ قال: والله لا ألبسه أبداً فنبذ النّاس خواتيمهم. (¬1) وفي لفظٍ: جعله في يده اليمنى. (¬2) قوله: (اصطنع خاتماً من ذهبٍ) في رواية لهما " اتّخذ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهبٍ " , ومعنى اتّخذه: أمر بصياغته فصيغ فلبسه، أو وجده مصوغاً فاتّخذه. قال الخطّابيّ: لَم يكن لباس الخاتم من عادة العرب، فلمّا أراد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إلى الملوك اتّخذ الخاتم واتّخذه من ذهب، ثمّ رجع عنه لِما فيه من الزّينة ولِما يخشى من الفتنة، وجعل فصّه ممّا يلي باطن كفّه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5527 , 5528 , 5535 , 5538 , 6275) ومسلم (2091) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وللبخاري (5529 , 6868) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحوه. مختصراً. (¬2) أخرجه مسلم (2091) من طريق عقبة بن خالد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (5538) من طريق جويرية عن نافع. إلَّا أنه لم يجزم به كما سيأتي في الشرح إن شاء الله.

ليكون أبعد من التّزيّن. قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": دعواه أنّ العرب لا تعرف الخاتم عجيبة فإنّه عربيّ , وكانت العرب تستعمله. انتهى. ويحتاج إلى ثبوت لبسه عن العرب , وإلاَّ فكونه عربيّاً واستعمالهم له في ختم الكتب لا يردّ على عبارة الخطّابيّ. وقد قال الطّحاويّ بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنّسائيّ عن أبي ريحانة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الخاتم إلَّا لذي سلطان. : ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلَّا لذي سلطان. وخالفهم آخرون فأباحوه، ومن حجّتهم حديث أنس في الصحيحين , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ألقى خاتمه ألقى النّاس خواتيمهم. فإنّه يدلّ على أنّه كان يلبس الخاتم في العهد النّبويّ من ليس ذا سلطان، فإن قيل: هو منسوخ , قلنا: الذي نسخ منه لبس خاتم الذّهب. قلت: أو لُبس خاتم المنقوش عليه نقش خاتم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ثمّ أورد عن جماعة من الصّحابة والتّابعين أنّهم كانوا يلبسون الخواتم ممّن ليس له سلطان. انتهى. ¬

_ (¬1) لِما أخرجه البخاري (5877) ومسلم (5599) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه محمد رسول الله. وقال: إني اتخذت خاتماً من ورق، ونقشتُ فيه محمد رسول الله. فلا ينقشنَّ أحدٌ على نقشه.

ولَم يُجب عن حديث أبي ريحانة. والذي يظهر أنّ لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأولى، لأنّه ضربٌ من التّزيّن، واللائق بالرّجال خلافه، وتكون الأدلة الدّالة على الجواز هي الصّارفة للنّهي عن التّحريم. ويؤيّده: أنّ في بعض طرقه " نهى عن الزّينة والخاتم .. الحديث "، ويمكن أن يكون المراد بالسّلطان من له سلطان على شيء ما يحتاج إلى الختم عليه لا السّلطان الأكبر خاصّة , والمراد بالخاتم ما يختم به فيكون لبسه عبثاً. وأمّا من لبس الخاتم الذي لا يختم به , وكان من الفضّة للزّينة فلا يدخل في النّهي، وعلى ذلك يحمل حال من لبسه. ويؤيّده ما ورد من صفة نقش خواتم بعض من كان يلبس الخواتم ممّا يدلّ على أنّها لَم تكن بصفة ما يختم به. وقد سئل مالك عن حديث أبي ريحانة فضعّفه , وقال: سأل صدقةُ بن يسار سعيدَ بنَ المسيّب فقال: البَسِ الخاتم، وأخبر النّاس أنّي قد أفتيتك. والله أعلم. تكملة: جزم أبو الفتح اليعمريّ , أنّ اتّخاذ الخاتم كان في السّنة السّابعة، وجزم غيره بأنّه كان في السّادسة. ويُجمع بأنّه كان في أواخر السّادسة وأوائل السّابعة , لأنّه إنّما اتّخذه عند إرادته مكاتبة الملوك (¬1)، وكان إرساله إلى الملوك في مدّة الهدنة، ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (65) ومسلم (2092) عن أنس بن مالك، قال: لَمَّا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إلى الروم، قال: قالوا: إنهم لا يقرءون كتاباً إلَّا مختوماً، قال: فاتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من فضة، كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. نقشه محمد رسول الله.

وكان في ذي القعدة سنة ستّ، ورجع إلى المدينة في ذي الحجّة، ووجّه الرّسل في المحرم من السّابعة. وكان اتّخاذه الخاتم قبل إرساله الرّسل إلى الملوك. والله أعلم قوله: (فكان يجعل فصّه) قال الجوهريّ: الفصّ بفتح الفاء والعامّة تكسرها وأثبتها غيره لغة , وزاد بعضهم الضّمّ. وعليه جرى ابن مالك في المثلث. وللبخاري من طريق معتمر، قال: سمعت حميداً يحدّث عن أنسٍ - رضي الله عنه - , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان خاتمه من فضّةٍ , وكان فصّه منه. وفي رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميدٍ " من فضّة كلّه " فهذا نصٌّ في أنّه كلّه من فضّة. وأمّا ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ من طريق إياس بن الحارث بن معيقيب عن جدّه قال: كان خاتم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من حديد ملويّاً عليه فضّة، فربّما كان في يدي، قال: وكان معيقيب على خاتم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. يعني كان أميناً عليه. فيُحمل على التّعدّد. وقد أخرج له ابن سعد شاهداً مرسلاً عن مكحول , أنّ خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من حديد ملويّاً عليه فضّة، غير أنّ فصّه بادٍ.

وآخر مرسلاً عن إبراهيم النّخعيّ مثله دون ما في آخره. وثالثاً من رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص , أنّ خالد بن سعيد - يعني ابن العاص - أتى وفي يده خاتم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هذا؟ اطرحه، فطرحه فإذا خاتم من حديد ملويّ عليه فضّة. قال: فما نقشه؟ قال: محمّد رسول الله، قال: فأخذه فلبسه. وقوله " وكان فصّه منه ". لا يعارضه ما أخرجه مسلم عن أنس: كان خاتم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ورق , وكان فصّه حبشيّاً. لأنّه إمّا أن يُحمل على التّعدّد , وحينئذٍ فمعنى قوله " حبشيّ ". أي: كان حجراً من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعاً أو عقيقاً , لأنّ ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة. ويحتمل: أن يكون هو الذي فصّه منه , ونسب إلى الحبشة لصفةٍ فيه. إمّا الصّياغة وإمّا النّقش قوله: (في باطن كفّه إذا لبسه) قال ابن بطّال: قيل لمالك يجعل الفصّ في باطن الكفّ؟ قال: لا. قال ابن بطّال: ليس في كون فصّ الخاتم في بطن الكفّ ولا ظهرها أمر ولا نهي. وقال غيره: السّرّ في ذلك أنّ جعله في بطن الكفّ أبعد من أن يظنّ أنّه فعله للتّزيّن به، وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عبّاس جعله في ظاهر الكفّ. كما سأذكره قريباً. قوله: (فصنع النّاس كذلك) وللبخاري " فاتّخذ النّاس مثله ".

يحتمل: أن يكون المراد بالمثليّة كونه من فضّة (¬1) وكونه على صورة النّقش المذكورة. ويحتمل: أن يكون لمطلق الاتّخاذ. وقوله: (فرمى به , ثم قال: والله لا ألبسه أبداً) وقع عند البخاري في رواية جويريّة عن نافع " فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه , فقال: إنّي كنت اصطنعته، وإنّي لا ألبسه " , وفي رواية المغيرة بن زياد عن نافع عند النسائي " فرمى به، فلا ندري ما فعل ". وهذا يحتمل: أن يكون كرهه من أجل المشاركة، أو لَمَّا رأى زهوهم بلبسه. ويحتمل: أن يكون لكونه من ذهب وصادف وقت تحريم لبس الذّهب على الرّجال. ويؤيّد هذا رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر المختصرة في البخاري بلفظ " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس خاتماً من ذهب، فنبذه فقال: لا ألبسه أبداً. وفي رواية لهما " ثمّ ألقاه، ثمّ اتّخذ خاتماً من ورقٍ. ونقش فيه محمّدٌ رسول الله .. " قوله: (والله لا ألبسه أبداً) ولهما من رواية بشير بن نهيكٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه نهى عن خاتم الذّهب. قال ابن دقيق العيد: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث ¬

_ (¬1) كذا فيه! ولعله سهو من الحافظ رحمه الله فالصواب " ذهب " أمّا الفضة فسيأتي قريباً.

مراتب: الأولى: أن يأتي بالصيغة كقوله: افعلوا أو لا تفعلوا. الثانية: قوله (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ونهانا عن كذا) وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمراً ونهيا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمراً، إلَّا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. المرتبة الثالثة: أُمرنا ونُهينا على البناء للمجهول وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختصٌ بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء. قلت: وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة , أنّ النّجاشيَّ أهدى للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذه وإنّه لمعرض عنه، ثمّ دعا أُمامة بنت ابنته , فقال: تحلّي به. قال ابن دقيق العيد: وظاهر النّهي التّحريم، وهو قول الأئمّة واستقرّ الأمر عليه. وقال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم من تختّمه بالذّهب فشذوذ، والأشبه أنّه لَم تبلغه السّنّة فيه. فالنّاس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خبّاب , وقد قال له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن يُلقى؟ فقال: إنّك لن تراه عليَّ بعد اليوم. فكأنّه ما كان بلغه النّهي فلمّا بلغه رجع.

قال: وقد ذهب بعضهم: إلى أنّ لبسه للرّجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال ذلك في الحرير. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التّحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التّحريم، ولا بدّ من اعتبار وصف كونه خاتماً. قلت: التّوفيق بين الكلامين ممكن. بأن يكون القائل بكراهة التّنزيه انقرض , واستقرّ الإجماع بعده على التّحريم. وقد جاء عن جماعة من الصّحابة لبس خاتم الذّهب. من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن أبي إسماعيل , أنّه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاصّ وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستّة أو سبعة. وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن حذيفة , وعن جابر بن سمرة , وعن عبيد الله بن يزيد الخطميّ نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد: نزعنا من يَدَيْ أسيد خاتماً من ذهب. وأغرب ما ورد من ذلك. ما جاء عن البراء الذي روى النّهي. فأخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن أبي السّفر قال: رأيت على البراء خاتماً من ذهب. وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه. أخرجه البغويّ في " الجعديّات ". وأخرج أحمد من طريق محمّد بن مالك قال: رأيت على البراء خاتماً من ذهب , فقال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً فألبسنيه , فقال: البس ما

كساك الله ورسوله. قال الحازميّ: إسناده ليس بذاك، ولو صحّ فهو منسوخ. قلت: لو ثبت النّسخ عند البراء ما لبسه بعد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي حديث النّهي المتّفق على صحّته عنه (¬1). فالجمع بين روايته وفعله. إمّا بأن يكون حَمَله على التّنزيه. أو فهِم الخصوصيّة له من قوله: البس ما كساك الله ورسوله. وهذا أولى من قول الحازميّ: لعل البراء لَم يبلغه النّهي. ويؤيّد الاحتمال الثّاني. أنّه وقع في رواية أحمد " كان النّاس يقولون للبراء لِمَ تتختّم بالذّهب. وقد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيذكر لهم الحديث. ثمّ يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البس ما كساك الله ورسوله؟. ومن أدلة النّهي أيضاً. ما رواه يونس عن الزّهريّ عن أبي إدريس عن رجلٍ له صحبة قال: جلس رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي يده خاتم من ذهب , فقرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده بقضيبٍ فقال: ألق هذا. وعموم الأحاديث حيث قال في الذّهب والحرير: هذان حرامان على رجال أمّتي حلّ لإناثها. أخرجه أحمد وأصحاب السّنن. وصحَّحه ابن حبّان والحاكم من حديث عليّ - رضي الله عنه -. وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: من مات من أمّتي وهو يلبس ¬

_ (¬1) أي: حديثه الماضي قبل هذا.

الذّهب حرّم الله عليه ذهب الجنّة. الحديث. أخرجه أحمد والطّبرانيّ. وفي حديث ابن عمر حديث الباب ما يستدلّ به على نسخ جواز لبس الخاتم إذا كان من ذهب. واستدل به على تحريم الذّهب على الرّجال قليله وكثيره للنّهي عن التّختّم وهو قليل. وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ التّحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدّملج والمعضد وغيرهما، فأمّا ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النّهي جميع الأحوال فلا يجوز لبس خاتم الذّهب لمن فاجأه الحرب لأنّه لا تعلّق له بالحرب، بخلاف ما تقدّم في الحرير من الرّخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السّيف أو التّرس أو المنطقة من حلية الذّهب فإنّه لو فجأه الحرب جاز له الضّرب بذلك السّيف , فإذا انقضت الحرب فليُنتقض , لأنّه كلّه من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم. تكميل: أطلق بعض الشّافعيّة: أنّ اليمين بغير استحلافٍ تكره فيما لَم يكن طاعة، والأولى أن يعبّر بما فيه مصلحة. قال ابن المنير: مقصود التّرجمة (¬1) أن يخرج مثل هذا من قوله تعالى {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم} يعني على أحد التّأويلات فيها , لئلا يتخيّل أنّ الحالف قبل أن يستحلف يرتكب النّهي، فأشار إلى أنّ ¬

_ (¬1) أي: ترجمة البخاري على هذا الحديث في كتاب الأيمان والنذور بقوله " من حلف على الشيء وإن لَم يحلف "

النّهي يختصّ بما ليس فيه قصد صحيح كتأكيد الحكم، كالذي ورد في حديث الباب من منع لبس خاتم الذّهب. قوله: (فنبذ النّاسُ خواتيمَهم) فيه الاقتداء بأفعال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , والأصل فيه قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ}. وقد ذهب جمع إلى وجوبه لدخوله في عموم الأمر بقوله تعالى {وما آتاكم الرّسول فخذوه} وبقوله {فاتّبعوني يحببكم الله} وبقوله تعالى {فاتّبعوه} , فيجب اتّباعه في فعله كما يجب في قوله , حتّى يقوم دليل على النّدب أو الخصوصيّة. وقال آخرون: يحتمل الوجوب والنّدب والإباحة فيحتاج إلى القرينة. والجمهور: للنّدب إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لَم يظهر. ومنهم من فصّل بين التّكرار وعدمه. وقال آخرون: ما يفعله - صلى الله عليه وسلم - إن كان بياناً لمجملٍ فحكمه حكم ذلك المجمل وجوباً أو ندباً أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللنّدب وما لَم يظهر فيه وجه التّقرّب فللإباحة، وأمّا تقريره على ما يفعل بحضرته فيدلّ على الجواز. والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، ويتعلق بها تعارض قوله وفعله، ويتفرّع من ذلك حكم الخصائص. وقد أفردت بالتّصنيف. قال ابن بطّال بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - محتجّاً لِمَن قال بالوجوب بحديث الباب: لأنّه خلع خاتمه فخلعوا خواتمهم، ونزع

نعله في الصّلاة فنزعوا (¬1)، ولمَّا أمرهم عام الحديبية بالتّحلّل وتأخّروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أمّ سلمة: اخرج إليهم واحلق واذبح (¬2) , ففعل فتابعوه مسرعين، فدلَّ ذلك على أنّ الفعل أبلغ من القول، ولمَّا نهاهم عن الوصال. قالوا: إنّك تواصل، فقال: إنّي أطعم وأسقى (¬3) , فلولا أنّ لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنّه عدل عن ذلك , وبيّن لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. انتهى. وليس في جميع ما ذكره ما يدلّ على المدّعى من الوجوب، بل على مطلق التّأسّي به. والعلم عند الله تعالى. قوله: (جعله في يده اليمنى) وللبخاري عن موسى بن إسماعيل حدّثنا جويرية عن نافعٍ , وفيه قال جويرية: ولا أحسبه إلَّا قال: في يده اليمنى. قال أبو ذرّ في روايته: لَم يقع في البخاريّ موضع الخاتم من أيّ اليدين إلَّا في هذا. وقال الدّاوديّ: لَم يجزم به جويريّة، وتواطؤ الرّوايات على خلافه يدلّ على أنّه لَم يحفظه، وعمل النّاس على لبس الخاتم في اليسار يدلّ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 20) وأبو داود (650) وأبو يعلى (1194) والحاكم في " المستدرك " (1/ 260) وغيرهم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. وصحَّحه ابن خزيمة (1017) وابن حبان (2185). (¬2) أخرجه البخاري في " صحيحه " (2731) في قصة الحديبية الطويل. (¬3) متفق عليه. وقد تقدَّم في كتاب الصوم. رقم (199).

على أنّه المحفوظ. قلت: وكلامه متعقّب , فإنّ الظّنّ فيه من موسى شيخ البخاريّ، وقد أخرجه ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيليّ عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن محمّد بن أسماء كلاهما عن جويريّة. وجزما بأنّه لبسه في يده اليمنى. وهكذا أخرج مسلم من طريق عقبة بن خالد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. في قصّة اتّخاذ الخاتم من ذهب. وفيه: وجعله في يده اليمنى. وأخرجه التّرمذيّ وابن سعد من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ " صنع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب فتختّم به في يمينه، ثمّ جلس على المنبر , فقال: إنّي كنت اتّخذت هذا الخاتم في يميني. ثمّ نبذه .. الحديث " وهذا صريحٌ من لفظه - صلى الله عليه وسلم - رافع لِلَّبس. وموسى بن عقبة أحد الثّقات الأثبات. وأمّا ما أخرجه ابن عديّ من طريق محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى , وأبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي روّادٍ كلاهما عن نافع عن ابن عمر: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتختّم في يساره. فقد قال أبو داود بعده: ورواه ابن إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع " في يمينه " انتهى. ورواية ابن إسحاق. قد أخرجها أبو الشّيخ في " كتاب أخلاق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " من طريقه، وكذا رواية أسامة. وأخرجها محمّد بن سعد أيضاً.

فظهر أنّ رواية اليسار في حديث نافع شاذّة، ومن رواها أيضاً أقلّ عدداً وألين ممّن روى اليمين. وقد أخرج الطّبرانيّ في " الأوسط " بسندٍ حسن عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتختّم في يمينه. وأخرج أبو الشّيخ في كتاب " أخلاق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - " من رواية خالد بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر نحوه، فرجَحَتْ رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضاً. وقد ورد التّختّم في اليمين أيضاً في أحاديث أخرى: منها: عند مسلم من حديث أنس: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتماً من فضّة في يمينه فصّه حبشيّ. وأخرج أبو داود أيضاً من طريق ابن إسحاق قال: رأيتُ على الصّلت بن عبد الله خاتماً في خنصره اليمين، فسألته؟ فقال: رأيت ابن عبّاس يلبس خاتمه هكذا. وجعل فصّه على ظهرها، ولا إخال ابن عبّاس إلَّا ذكره عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وأورده التّرمذيّ من هذا الوجه مختصراً: رأيت ابن عبّاس يتختّم في يمينه. ولا إخاله إلَّا قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتختّم في يمينه. وللطّبرانيّ من وجه آخر عن ابن عبّاس: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتختّم في يمينه. وفي سنده لين. وأخرج التّرمذيّ أيضاً من طريق حمّاد بن سلمة: رأيت ابن أبي رافعٍ يتختّم في يمينه، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت عبد الله بن

جعفرٍ (¬1) يتختّم في يمينه، وقال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتختّم في يمينه. ثمّ نقل عن البخاريّ: أنّه أصحّ شيء روي في هذا الباب. وأخرج أبو داود والنّسائيّ والتّرمذيّ في " الشّمائل " وصحَّحه ابن حبّان من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنينٍ عن أبيه عن عليّ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتختّم في يمينه. وفي الباب عن جابر في " الشّمائل " بسندٍ ليّن، وعائشة عند البزّار بسندٍ ليّن، وعند أبي الشّيخ بسندٍ حسن، وعن أبي أُمامة عند الطّبرانيّ بسندٍ ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدّارقطنيّ في " غرائب مالك " بسندٍ ساقط. وورد التّختّم في اليسار من حديث ابن عمر كما تقدّم. ومن حديث أنس أيضاً. أخرجه مسلم من طريق حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان خاتم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه، وأشار إلى الخنصر اليسرى. وأخرجه أبو الشّيخ والبيهقيّ في " الشّعب " من طريق قتادة عن أنس. ولأبي الشّيخ من حديث أبي سعيد بلفظ " كان يلبس خاتمه في يساره " وفي سنده لين، وأخرجه ابن سعد أيضاً. وأخرج البيهقيّ في الأدب من طريق أبي جعفر الباقر قال: كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعليّ والحسن والحسين يتختّمون في ¬

_ (¬1) سقط ذِكْر عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - من بعض النسخ المطبوعة , واستدركته من سنن الترمذي رحمه الله.

اليسار. وأخرجه التّرمذيّ موقوفاً على الحسن والحسين فحسب. وأمّا دعوى الدّاوديّ: أنّ العمل على التّختّم في اليسار , فكأنّه توهّمه من استحباب مالك للتّختّم , وهو يرجّح عمل أهل المدينة , فظنّ أنّه عمل أهل المدينة. وفيه نظرٌ، فإنّه جاء عن أبي بكر وعمر وجمع جمّ من الصّحابة والتّابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التّختّم في اليمنى. وقال البيهقيّ في الأدب: يُجمع بين هذه الأحاديث بأنّ الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذّهب كما صرّح به في حديث ابن عمر. والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضّة، وأمّا رواية الزّهريّ عن أنس (¬1) التي فيها التّصريح بأنّه كان فضّةً ولبسه في يمينه فكأنّها خطأ، فالزّهريّ وقع له وهْمٌ في الخاتم الذي طرحه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنّه وقع في روايته أنّه الذي كان من فضّة، وأنّ الذي في رواية غيره أنّه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذّهب. انتهى ملخّصاً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5868) ومسلم (5604) من طريق الزهري عن أنس - رضي الله عنه - , أنه رأى في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ورق يوماً واحداً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه، فطرَح الناس خواتيمهم. قال الحافظ في " الفتح " (11/ 393): هكذا روى الحديث الزهري عن أنس، واتفق الشيخان على تخريجه من طريقه. ونُسب فيه إلى الغلط، لأنَّ المعروف أنَّ الخاتم الذي طرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب اتخاذ الناس مثله إنما هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر. قال النووي تبعا لعياض: قال جميع أهل الحديث: هذا وهم من ابن شهاب , لأنَّ المطروح ما كان إلَّا خاتم الذهب، ومنهم من تأوله ... " ثم ذكر أجوبةً عنه.

وجمع غيره: بأنّه لبس الخاتم أوّلاً في يمينه , ثمّ حوّله إلى يساره. واستدل له بما أخرجه أبو الشّيخ وابن عديّ من رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تختّم في يمينه، ثمّ أنّه حوّله في يساره. فلو صحّ هذا لكان قاطعاً للنّزاع، ولكن سنده ضعيف. وأخرج ابن سعد من طريق جعفر بن محمّد عن أبيه قال: طرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه الذّهب , ثمّ تختّم خاتماً من ورق فجعله في يساره. وهذا مرسلٌ أو معضلٌ. وقد جمع البغويّ في " شرح السّنّة " بذلك , وأنّه تختّم أوّلاً في يمينه ثمّ تختّم في يساره , وكان ذلك آخر الأمرين. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك؟ فقال: لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر. وقد تقدّم قول البخاريّ , أنّ حديث عبد الله بن جعفر أصحّ شيء ورد فيه. وصرّح فيه بالتّختّم في اليمين. وفي المسألة عند الشّافعيّة اختلاف. والأصحّ. اليمين. قلت. ويظهر لي أنّ ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللّبس للتّزيّن به فاليمين أفضل، وإن كان للتّختّم به فاليسار أولى لأنّه كالمودع فيها، ويحصل تناوله منها باليمين وكذا وضعه فيها. ويترجّح التّختّم في اليمين مطلقاً , لأنّ اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النّجاسة.

ويترجّح التّختّم في اليسار بما أشرت إليه من التّناول. وجنحت طائفة: إلى استواء الأمرين , وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم " باب التّختّم في اليمين واليسار " ثمّ أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح. ونقل النّوويّ وغيره الإجماع على الجواز ثمّ قال: ولا كراهة فيه - يعني عند الشّافعيّة - وإنّما الاختلاف في الأفضل. وقال البغويّ: كان آخر الأمرين التّختّم في اليسار. وتعقّبه الطّبريّ: بأنّ ظاهره النّسخ، وليس ذلك مراده بل الإخبار بالواقع اتّفاقاً. والذي يظهر أنّ الحكمة فيه ما تقدّم، والله أعلم.

الحديث السادس

الحديث السادس 403 - عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لُبوس الحرير إلَّا هكذا , ورفع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعيه: السّبّابة , والوسطى. (¬1) ولمسلمٍ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلَّا موضع أصبعين , أو ثلاثٍ , أو أربعٍ. (¬2) قوله: (نهى عن لبوس الحرير) تقدَّم الكلام عليه مستوفى. قوله: (إلَّا هكذا) زاد الإسماعيلي: وهكذا. قوله: (ورفع لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أُصبعيه: السّبّابة , والوسطى) وللبخاري " وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى " وهو لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5490 , 5491 , 5492) ومسلم (2069) من طرق عن أبي عثمان النهدي قال: كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان: يا عتبة بن فرقد، إنه ليس من كدِّك، ولا من كدِّ أبيك، ولا من كدِّ أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى. فذكره. واللفظ لمسلم. قال ابن حجر في " الفتح ": عتبة بن فرقد صحابي مشهور سُمي أبوه باسم النجم , واسم جدِّه يربوع بن حبيب بن مالك السلمي , ويقال: إن يربوع هو فرقد , وأنه لقب له , وكان عتبة أميراً لعمر في فتوح بلاد الجزيرة. وبيَّن أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر. سببَ قولِ عمر ذلك. فعنده في أوله , أنَّ عتبةَ بنَ فرقد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود فلما رآه عمر , قال: أيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال: لا. فقال عمر: لا أريده , وكتب إلى عتبة: إنه ليس من كدِّك. الحديث. (¬2) أخرجه مسلم (2069) من طريق عامر الشعبي عن سويد بن غفلة عن عمر - رضي الله عنه -.

يخالف ما في رواية عاصم عن أبي عثمان عند البخاري " وصفَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إصبعيه. ورفع زهيرٌ الوسطى والسبابة ". فيُجمع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار أوَّلاً ثم نقله عنه عمر. فبيَّن بعد ذلك بعضُ رواته صفة الإشارة. وللبخاري " قال أبو عثمان: فيما علمنا أنه يعني الأعلام " بفتح الهمزة جمع علَم بالتحريك. أي: الذي حصل في عِلمنا أنَّ المراد بالمستثنى الأعلام , وهو ما يكون في الثياب من تطريف وتطريز ونحوهما. ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي " فما بفتح الفاء بعدها حرف نفي عتمنا بمثناة بدل اللام " أي: ما أبطأنا في معرفة ذلك لَمَّا سمعناه. قال أبو عبيد: العاتم البطيء. يقال عتم الرجل القرى إذا أخَّره. ولمسلم والإسماعيليّ من طريق جرير عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن عمر - رضي الله عنه -. وقال فيه (¬1) بإصبعيه اللتين تليان الإبهام , فرأيناها أزرار الطّيالسة حين رأينا الطّيالسة. قال القرطبيّ: الأزرار جمع زرّ بتقديم الزّاي: ما يزرّر به الثّوب بعضه على بعض، والمراد به هنا أطراف الطّيالسة، والطّيالسة. جمع طيلسان وهو الثّوب الذي له علم وقد يكون كساء، وكان للطّيالسة التي رآها أعلام حرير في أطرافها. قلت: وقد أغفل صاحب " المشارق " و " النّهاية " في مادّة ط ل س ¬

_ (¬1) القائل: هو أبو عثمان النهدي كما في صحيح مسلم (2069)

ذكرَ الطّيالسة. وكأنّهما تركا ذلك لشهرته، لكن المعهود الآن ليس على الصّفة المذكورة هنا، وقد قال عياض في " شرح مسلم " المراد بأزرار الطّيالسة أطرافها. ووقع في حديث أسماء بنت أبي بكر عند مسلم , أنّها أخرجت جبّة طيالسة كسروانيّة , فقالت: هذه جبّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يدلّ على أنّ المراد بالطّيالسة في هذا الحديث ما يُلبس فيشمل الجسد، لا المعهود الآن. ولَم يقع في رواية أبي عثمان في الصّحيحين في استثناء ما يجوز من لبس الحرير إلَّا ذكر الإصبعين، لكن وقع عند أبي داود من طريق حمّاد بن سلمة عن عاصم الأحول عن أبي عثمان في هذا الحديث. أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير إلَّا ما كان هكذا وهكذا. إصبعين وثلاثة وأربعة. ولمسلمٍ من طريق سويد بن غفلة - بفتح المعجمة والفاء واللام الخفيفتين - أنّ عمر خطب فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلَّا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع. و" أو " هنا للتّنويع والتّخيير، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ " إنّ الحرير لا يصلح منه إلَّا هكذا وهكذا وهكذا. يعني أصبعين وثلاثاً وأربعاً " وجنح الْحليميّ: إلى أنّ المراد بما وقع في رواية مسلم أن يكون في كلّ قدر إصبعين، وهو تأويلٌ بعيدٌ من سياق الحديث، وقد وقع عند

النّسائيّ في رواية سويد " لَم يرخّص في الدّيباج إلَّا في موضع أربعة أصابع ". وفيه حجّة لمن أجاز لبس العلم من الحرير إذا كان في الثّوب، وخصّه بالقدر المذكور وهو أربع أصابع، وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة. وفيه حجّة على من أجاز العلم في الثّوب مطلقاً. ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكيّة. وفيه حجّة على من منع العلم في الثّوب مطلقاً، وهو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعاً , وإلاّ فالحديث حجّة عليهم فلعلهم لَم يبلغهم. قال النّوويّ: وقد نُقل مثل ذلك عن مالك وهو مذهب مردود، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير. والله أعلم. واستدل به على جواز لبس الثّوب المطرّز بالحرير، وهو ما جعل عليه طراز حرير مركّب، وكذلك المطرّف وهو ما سجفت أطرافه بسجفٍ من حرير بالتّقدير المذكور، وقد يكون التّطريز في نفس الثّوب بعد النّسج، وفيه احتمال. واستدل به أيضاً على جواز لبس الثّوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم سواء كان ذلك القدر مجموعاً أو مفرّقاً. وهو قويّ. وسبق البحث في ذلك في مسألة القسّيّ.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد الجهاد بكسر الجيم أصله لغة المشقّة، يقال: جهدت جهاداً بلغت المشقّة. وشرعاً بذل الجهد في قتال الكفّار. ويطلق أيضاً على مجاهدة النّفس والشّيطان والفسّاق. فأمّا مجاهدة النّفس: فعلى تعلّم أمور الدّين ثمّ على العمل بها ثمّ على تعليمها. وأمّا مجاهدة الشّيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشّبهات وما يزيّنه من الشّهوات وأمّا مجاهدة الكفّار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأمّا مجاهدة الفسّاق: فباليد ثمّ اللسان ثمّ القلب. وقد روى النّسائيّ من حديث سبرة - بفتح المهملة وسكون الموحّدة - ابن الفاكه - بالفاء وكسر الكاف بعدها هاء - في أثناء حديث طويل قال: فيقول - أي الشّيطان - يخاطب الإنسان: تجاهد فهو جهد النّفس والمال. واختلف في جهاد الكفّار. هل كان أوّلاً فرض عين أو كفاية؟ (¬1) ¬

_ (¬1) تقدّم في شرح حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه - في الحج برقم (224)

الحديث الأول

الحديث الأول 404 - عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو , انتظر، حتى إذا مالتِ الشمس قام فيهم، فقال: يا أيها الناس، لا تتمنَّوا لقاء العدوّ، واسألوا اللهَ العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اللهمَّ مُنزل الكتاب، ومُجري السّحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم. (¬1) قوله: (في بعض أيامه) رواه عمر بن شبة عن الأويسي عن ابن أبي الزناد عن موسى بن عفبة. فبيّن أنَّ ذلك كان يوم الخندق. قوله: (حتى إذا مالت الشمس قام فيهم) لأنّ الرّياح تهبّ غالباً بعد الزّوال فيحصل بها تبريد حدّة السّلاح والحرب وزيادة في النّشاط. وعند أحمد من وجه آخر عن موسى بن عقبة , أنّه كان - صلى الله عليه وسلم - يحبّ أن ينهض إلى عدوّه عند زوال الشّمس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2663 , 2678، 2804، 2861، 2862، 6810) ومسلم (1742) من طريق موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عبيد الله بن عمر , وكان كاتباً له , قال: كتب إليه عبد الله بن أوفى فقرأته. فذكر الحديث. وللبخاري (2775 , 3889 , 6029 , 7051) ومسلم (1742) من وجه آخر عن إسماعيل بن أبي خالد عن ابن أبي أوفى قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب، فقال: اللهمَّ منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهمَّ اهزمهم وزلزلهم ".

ولسعيد بن منصور من وجه آخر عن ابن أبي أوفى: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمهل إذا زالت الشّمس , ثمّ ينهض إلى عدوّه. وللبخاري من حديث النّعمان بن مقرن: كان إذا لَم يقاتل أوّل النّهار انتظر حتّى تهبّ الأرواح وتحضر الصّلوات. وأخرجه أحمد وأبو داود والتّرمذيّ وابن حبّان من وجه آخر. وصحّحاه، وفي روايتهم " حتّى تزول الشّمس وتهبّ الأرواح وينزل النّصر ". فيظهر أنّ فائدة التّأخير لكون أوقات الصّلاة مظنّة إجابة الدّعاء، وهبوب الرّيح قد وقع النّصر به في الأحزاب فصار مظنّة لذلك. والله أعلم. وقد أخرج التّرمذيّ حديث النّعمان بن مقرن من وجه آخر عنه. لكن فيه انقطاع، ولفظه يوافق ما قلته قال: غزوت مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فكان إذا طلع الفجر أمسك حتّى تطلع الشّمس فإذا طلعتْ قاتل، فإذا انتصف النّهار أمسك حتّى تزول الشّمس فإذا زالت الشّمس قاتل، فإذا دخل وقت العصر أمسك حتّى يصليها ثمّ يقاتل، وكان يقال: عند ذلك تهيج رياح النّصر , ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم. قوله: (لا تتمنّوا لقاء العدوّ , واسلوا الله العافية , فإذا لقيتموهم فاصبروا) وطريق الجمع بينه وبين جواز تمنّي الشّهادة، فإنّ ظاهرهما التّعارض، لأنّ تمنّي الشّهادة محبوب، فكيف ينهى عن تمنّي لقاء

العدوّ , وهو يفضي إلى المحبوب؟ وحاصل الجواب: أنّ حصول الشّهادة أخصّ من اللقاء , لإمكان تحصيل الشّهادة مع نصرة الإسلام ودوام عزّه بكسرة الكفّار، واللقاء قد يفضي إلى عكس ذلك فنهى عن تمنّيه , ولا ينافي ذلك تمنّي الشّهادة. أو لعلَّ الكراهيةَ مختصّة بمن يثق بقوّته ويعجب بنفسه ونحو ذلك. قال ابن بطّال: حكمة النّهي. أنّ المرء لا يعلم ما يئول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصّدّيق: لأَنْ أُعافى فأشكر أحبّ إليّ من أن أُبتلى فأصبر. (¬1) وقال غيره: إنّما نهى عن تمّني لقاء العدوّ لِمَا فيه من صورة الإعجاب والإتكال على النّفوس والوثوق بالقوّة وقلة الاهتمام بالعدوّ، وكلّ ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم. وقيل: يُحمل النّهي على ما إذا وقع الشّكّ في المصلحة أو حصول ¬

_ (¬1) الظاهر أنه عنى أبا بكر الصدّيق الصحابي. ولَم أره عنه. وإنما جاء عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. أخرجه ابن سعد في " الطبقات " (7/ 115) ومعمر بن راشد في " جامعه " (20468) والبيهقي في " الشعب " (6/ 250) بسند صحيح. وروى الطبراني في " الأوسط " (3/ 265) وأبو نعيم في " الطب " (112) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 45) عَن أَبِي الدرداء أنه قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي. لأنْ أُعافى فأشكر أحب إلي من أن أُبتلى فأصبر , فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ورسول الله معك يحب العافية. وفيه إبراهيم بن البراء بن النضر. قال العقيلي: يحدث عن الثقات بالبواطيل.

الضّرر، وإلاَّ فالقتال فضيلة وطاعة. ويؤيّد الأوّل: تعقيب النّهي بقوله " وسلوا الله العافية ". وأخرج سعيد بن منصور من طريق يحيى بن أبي كثير مرسلاً " لا تمنّوا لقاء العدوّ , فإنّكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم " وقال ابن دقيق العيد: لَمَّا كان لقاء الموت من أشقّ الأشياء على النّفس , وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحقّقة لَم يؤمن أن يكون عند الوقوع كما ينبغي فيكره التّمنّي لذلك , ولِما فيه لو وقع من احتمال أن يخالف الإنسان ما وعد من نفسه، ثمّ أمر بالصّبر عند وقوع الحقيقة. انتهى. واستدل بهذا الحديث على منع طلب المبارزة، وهو رأي الحسن البصريّ. وشرَطَ الأوزاعيُّ والثوريُّ وأحمد وإسحاق للجواز إذنَ الأمير على الجيش , وكان عليّ يقول: لا تدع إلى المبارزة، فإذا دعيت فأجب تنصر، لأنّ الدّاعي باغٍ. قوله: (واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف) أخرج الطّبرانيّ بإسنادٍ صحيح عن عمّار بن ياسر , أنّه قال يوم صفّين: الجنّة تحت الأبارقة. كذا وقع فيه , والصّواب " البارقة " وهي السّيوف اللامعة، وكذا وقع على الصّواب في ترجمة عمّار من " طبقات " ابن سعد. وروى سعيد بن منصور بإسنادٍ رجاله ثقات من مرسل أبي عبد الرّحمن الحبليّ مرفوعاً: الجنّة تحت الأبارقة.

ويمكن تخريجه على ما قاله الخطّابيّ: الأبارقة جمع إبريق , وسمّي السّيف إبريقاً فهو إفعيل من البريق، ويقال: أبرق الرّجل بسيفه. إذا لمع به والبارقة اللمعان. قال ابن المنير: كأنّ البخاريّ (¬1) أراد أنّ السّيوف لمَّا كانت لها بارقة , كان لها أيضاً ظلّ. قال القرطبيّ: وهو من الكلام النّفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الرّجازة وعذوبة اللفظ، فإنّه أفاد الحضّ على الجهاد والإخبار بالثّواب عليه والحضّ على مقاربة العدوّ واستعمال السّيوف والاجتماع حين الزّحف حتّى تصير السّيوف تظلّ المتقاتلين. وقال ابن الجوزيّ: المراد أنّ الجنّة تحصل بالجهاد. والظّلال جمع ظلّ. وإذا تدانى الخصمان صار كلّ منهما تحت ظلّ سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه , ولا يكون ذلك إلَّا عند التحام القتال. قوله: (ثمّ قال: اللهمّ منزل الكتاب .. الأحزاب) أشار بهذا الدّعاء إلى وجوه النّصر عليهم، فبالكتاب إلى قوله تعالى {قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم}. وبمجري السّحاب إلى القدرة الظّاهرة في تسخير السّحاب حيث يحرّك الرّيح بمشيئة الله تعالى، وحيث يستمرّ في مكانه مع هبوب ¬

_ (¬1) بوب عليه في كتاب الجهاد (باب الجنة تحت بارقة السيوف). قال ابن حجر: هو من إضافة الصفة إلى الموصوف , وقد تطلق البارقة ويراد بها نفس السيف. فتكون الإضافة بيانية.

الرّيح، وحيث تمطر تارة وأخرى لا تمطر، فأشار بحركته إلى إعانة المجاهدين في حركتهم في القتال، وبوقوفه إلى إمساك أيدي الكفّار عنهم. وبإنزال المطر إلى غنيمة ما معهم حيث يتّفق قتلهم، وبعدمه إلى هزيمتهم حيث لا يحصل الظّفر بشيئ منهم، وكلّها أحوال صالحة للمسلمين. وأشار بهازم الأحزاب إلى التّوسّل بالنّعمة السّابقة، وإلى تجريد التّوكّل، واعتقاد أنّ الله هو المنفرد بالفعل. وفيه التّنبيه على عظم هذه النّعم الثّلاث، فإنّ بإنزال الكتاب حصلت النّعمة الأخرويّة وهي الإسلام، وبإجراء السّحاب حصلت النّعمة الدّنيويّة وهي الرّزق، وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النّعمتين، وكأنّه قال: اللهمّ كما أنعمت بعظيم النّعمتين الأخرويّة والدّنيويّة وحفظتهما فأبقهما. وروى الإسماعيليّ في هذا الحديث من وجه آخر , أنّه - صلى الله عليه وسلم - دعا أيضاً فقال: اللهمّ أنت ربّنا وربّهم، ونحن عبيدك وهم عبيدك نواصينا ونواصيهم بيدك، فاهزمهم وانصرنا عليهم. ولسعيد بن منصور من طريق أبي عبد الرّحمن الحبليّ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً نحوه. لكن بصيغة الأمر عطفاً على قوله " وسلوا الله العافية: فإن بليتم بهم. فقولوا: اللهمّ. فذكره , وزاد: وغضّوا أبصاركم , واحملوا عليهم على بركة الله.

قال ابن بطّال: المراد بالإنزال إفهام العباد معاني الفروض التي في القرآن وليس إنزاله له كإنزال الأجسام المخلوقة؛ لأنّ القرآن ليس بجسمٍ ولا مخلوق. انتهى. والكلام الثّاني. متّفق عليه بين أهل السّنّة سلفاً وخلفاً. وأمّا الأوّل فهو على طريقة أهل التّأويل، والمنقول عن السّلف اتّفاقهم على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، تلقّاه جبريل عن الله , وبلغه جبريل إلى محمّد - صلى الله عليه وسلم - , وبلغه - صلى الله عليه وسلم - إلى أمّته. والآيات المصرّحة بلفظ الإنزال والتّنزيل في القرآن كثيرة. قال الرّاغب: الفرق بين الإنزال والتّنزيل في وصف القرآن والملائكة. أنّ التّنزيل يختصّ بالموضع الذي يشير إلى إنزاله متفرّقاً ومرّة بعد أخرى، والإنزال أعمّ من ذلك، ومنه قوله تعالى {إنّا أنزلناه في ليلة القدر}. قال الرّاغب: عبّر بالإنزال دون التّنزيل؛ لأنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماء الدّنيا ثمّ نزل بعد ذلك شيئاً فشيئاً، ومنه قوله تعالى {حم والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة}. ومن الثّاني قوله تعالى {وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكثٍ، ونزّلناه تنزيلاً} , ويؤيّد التّفصيل قوله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} , فإنّ المراد بالكتاب الأوّل القرآن وبالثّاني ما عداه، والقرآن نزل نجوماً إلى الأرض بحسب الوقائع بخلاف غيره من

الكتب. ويرِدُ على التّفصيل المذكور قوله تعالى {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة}. وأجيب: بأنّه أطلق نزّل موضع أنزل، قال: ولولا هذا التّأويل لكان متدافعاً لقوله {جملة واحدة}، وهذا بناه هذا القائل على أنّ نزّل بالتّشديد يقتضي التّفريق فاحتاج إلى ادّعاء ما ذكر، وإلا فقد قال غيره: إنّ الضّعيف لا يستلزم حقيقة التّكثير بل يرد للتّعظيم، وهو في حكم التّكثير معنىً. فبهذا يدفع الإشكال. قوله: (اهزمهم وانصرنا عليهم) ولهما من رواية إسماعيل بن أبي خالد عن ابن أبي أوفى " سريع الحساب , اهزم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم " والمراد الدّعاء عليهم إذا انهزموا أن لا يستقرّ لهم قرارٌ. وسريع الحساب. أي: سريع فيه , أو المعنى أنَّ مجيء الحساب سريع وقال الدّاوديّ: أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء فلا يثبتوا. وفي الحديث استحباب الدّعاء عند اللقاء والاستنصار، ووصيّة المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم بما يحتاجون إليه، وسؤال الله تعالى بصفاته الحسنى وبنعمه السّالفة، ومراعاة نشاط النّفوس لفعل الطّاعة، والحثّ على سلوك الأدب وغير ذلك.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 405 - عن سهل بن سعدٍ الساعديّ - رضي الله عنه -، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: رِباط يومٍ في سبيل الله، خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة، خيرٌ من الدنيا وما عليها، والرّوحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة، خيرٌ من الدنيا وما عليها. (¬1) قوله: (رباط يومٍ في سبيل الله) الرّباط بكسر الرّاء وبالموحّدة الخفيفة. ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفّار لحراسة المسلمين منهم. قال ابن التّين: بشرط أن يكون غير الوطن. قاله ابن حبيب عن مالك. قلت: وفيه نظرٌ في إطلاقة , فقد يكون وطنه وينوي بالإقامة فيه دفع العدوّ , ومن ثَمّ اختار كثيرٌ من السّلف سكنى الثّغور , فبين المرابطة والحراسة عمومٌ وخصوصٌ وجهيٌّ. قال الله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا .. الآية}. وأشهر التّفاسير، عن الحسن البصريّ وقتادة {اصبروا} على طاعة الله {وصابروا} أعداء الله في الجهاد {ورابطوا} في سبيل الله. وعن محمّد بن كعبٍ القرظيّ: اصبروا على الطّاعة , وصابروا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2641 , 2735 , 3078 , 6052) ومسلم (1881) من طرق عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سهد - رضي الله عنه -. واللفظ للبخاري.

لانتظار الوعد , ورابطوا العدوّ , واتّقوا الله فيما بينكم , وعن زيد بن أسلم: اصبروا على الجهاد , وصابروا العدوّ , ورابطوا الخيل. قال ابن قتيبة: أصل الرّباط أن يربط هؤلاء خيلهم وهؤلاء خيلهم استعداداً للقتال. قال الله تعالى {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ومن رباط الخيل} , وأخرج ذلك ابن أبي حاتمٍ وابن جرير وغيرهما , وتفسيره برباط الخيل يرجع إلى الأوّل. وفي الموطّأ (¬1) عن أبي هريرة مرفوعاً " وانتظار الصّلاة فذلكم الرّباط ". وهو في السّنن (¬2) عن أبي سعيدٍ. وفي " المستدرك " عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن بن عوفٍ , أنّ الآية نزلت في ذلك , واحتجّ بأنّه لَم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوٌ فيه رباط. انتهى. وحمل الآية على الأوّل أظهر. وما احتجّ به أبو سلمة لا حجّة فيه , ولا سيّما مع ثبوت حديث الباب , فعلى تقدير تسليم أنّه لَم يكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رباطٌ، فلا يمنع ذلك من الأمربه والتّرغيب فيه. ويحتمل: أن يكون المراد كلاً من الأمرين , أو ما هو أعمّ من ذلك. ¬

_ (¬1) وأخرجه مسلم في الصحيح (251) أيضاً (¬2) هكذا أطلق الشارح. ومراده أحد كتب السنن الأربعة لا مجموعها. والحديث أخرجه ابن ماجه في " السنن " (776) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن سعيد بن المسيّب عن أبي سعيد الخدري. قال البوصيري في " الزوائد ": رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحه. وله شاهد في صحيح مسلم وغيره.

وأمّا التّقييد باليوم وإطلاقه في الآية. فإنّ مطلقها يقيّد بالحديث فإنّه يشعر بأنّ أقل الرّباط يومٌ لسياقه في مقام المبالغة , وذكره مع موضع سوطٍ يشير إلى ذلك أيضاً. ووقع في حديث سلمان عند أحمد والنّسائيّ وابن حبّان: رباط يومٍ أو ليلة خير من صيام شهر وقيامه. ولأحمد والتّرمذيّ وابن ماجه عن عثمان: رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألف يومٍ فيما سواه من المنازل. قال ابن بزيزة: ولا تعارض بينهما , لأنّه يُحمل على الإعلام بالزّيادة في الثّواب عن الأوّل , أو باختلاف العاملين. قلت: أو باختلاف العمل بالنّسبة إلى الكثرة والقلة , ولا يعارضان حديث الباب أيضاً , لأنّ صيام شهر وقيامه خيرٌ من الدّنيا وما عليها. قوله: (خيرٌ من الدنيا وما عليها) في رواية لهما " خير من الدنيا وما فيها " وللبخاري " خيرٌ مما تطلع عليه الشمس وتغرب " وهو المراد بقوله " خير من الدنيا وما فيها ". قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس تحقيقاً له في النّفس لكون الدّنيا محسوسة في النّفس مستعظمة في الطّباع فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلَّا فمن المعلوم أنّ جميع ما في الدّنيا لا يساوي ذرّة ممّا في الجنّة.

والثّاني: أنّ المراد أنّ هذا القدر من الثّواب خير من الثّواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدّنيا كلّها لأنفقها في طاعة الله تعالى. قلت: ويؤيّد هذا الثّاني. ما رواه ابن المبارك في " كتاب الجهاد " من مرسل الحسن قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً فيهم عبد الله بن رواحة، فتأخّر ليشهد الصّلاة مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم. (¬1) والحاصل: أنّ المراد تسهيل أمر الدّنيا وتعظيم أمر الجهاد، وأنّ من حصل له من الجنّة قدر سوط يصير كأنّه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدّنيا. فكيف بمن حصل منها أعلى الدّرجات؟. والنّكتة في ذلك أنّ سبب التّأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدّنيا , فنبّه هذا المتأخّر أنّ هذا القدر اليسير من الجنّة أفضل من جميع ما في الدّنيا. قوله: (وموضع سوط أحدكم من الجنة) وللبخاري عن أنس " ولقاب قوس أحدكم من الجنة، أو موضع قيد - يعني سوطه - خير ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد (3/ 341) والترمذي (527) والبيهقي (3/ 187) وغيرهم من طريق الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس نحوه. قال الترمذي: حديثٌ غريبٌ لانعرفه إلَّا من هذا الوجه , قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: لَم يسمع الحكم من مقسم إلَّا ثلاثة أحاديث وعدَّها شعبة , وليس هذا الحديث فيما عدَّ شعبة. قال الترمذي: فكان هذا الحديث لَم يسمعه الحكم من مقسم. قال ابن حجر في " التلخيص " (2/ 66): وفيه حجاج بن أرطاة , وأعلَّه الترمذي بالانقطاع , وقال البيهقي: انفرد به الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف. انتهى

من الدنيا وما فيها " , شكّ من الرّاوي. هل قال قاب أو قيد؟، وهما بمعنىً , وهو المقدار. والقاب بتخفيف القاف وآخره موحّدة معناه القدر. وقيل: القاب ما بين مقبض القوس وسيته. وقيل: ما بين الوتر والقوس. وقيل: المراد بالقوس هنا الذّراع الذي يقاس به، وكأنّ المعنى بيان فضل قدر الذّراع من الجنّة. وكذلك القِيد. بكسر القاف بعدها تحتانيّة ساكنة ثمّ دالٌّ وبالموحّدة بدل الدّال. وقوله " يعني سوطه " تفسير للقيد غير معروف، ولهذا جزم بعضهم بأنّه تصحيف , وأنّ الصّواب " قدّ " بكسر القاف وتشديد الدّال. وهو السّوط المتّخذ من الجلد. قلت: ودعوى الوهم في التّفسير أسهل من دعوى التّصحيف في الأصل , ولا سيّما , والقيد بمعنى القاب كما بيّنته. قوله: (والرّوحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة) الغدوة: بالفتح المرّة الواحدة من الغدوّ. وهو الخروج في أيّ وقت كان من أوّل النّهار إلى انتصافه. والرّوحة: المرّة الواحدة من الرّواح. وهو الخروج في أيّ وقت كان من زوال الشّمس إلى غروبها. قوله: (في سبيل الله) أي: الجهاد.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 406 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: انتدب الله , ولمسلمٍ: (تضمّن الله) لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلَّا جهادٌ في سبيلي، وإيمانٌ بي، وتصديقٌ برسولي، فهو عليّ ضامنٌ، أن أُدخله الجنة، أو أُرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلاً ما نال من أجرٍ، أو غنيمةٍ. (¬1) الحديث الرابع 407 - ولمسلمٍ (¬2): مثل المجاهد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يجاهد في سبيله ـ كمثل الصائم القائم، وتوكّل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفّاه (¬3)، أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالماً مع أجرٍ أو غنيمةٍ. (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (36) ومسلم (1876) من طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (2955 , 7019 , 7025) ومسلم (1876) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة نحوه. (¬2) كذا قال رحمه الله , وهو وهْمٌ منه. فالحديث لم يخرجه مسلم بهذا اللفظ , وإنما أخرجه البخاري كما سيأتي. وقد نبّه على هذا الحافظ ابن الملقن " الإعلام " (10/ 291). والزركشي في تصحيح العمدة. أمّا رواية مسلم. ففي صحيحه (1878) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يعدلُ الجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ؟ قال: لا تستطيعونه، قال: فأعادوا عليه مرتين، أو ثلاثاً. كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام، ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى. (¬3) وقع في نسخ العمدة المحققة (إنْ توفّاه) والصواب ما أثبتّه , وهو الموافق لِما في البخاري. وسيأتي تنبيه الشارح على هذه الرواية. (¬4) أخرجه البخاري (2635) حدّثنا أبو اليمان عن شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به.

قوله: (انتدب الله) هو بالنّون , أي: سارع بثوابه وحسن جزائه. وقيل: بمعنى أجاب إلى المراد، ففي الصّحاح: ندبت فلاناً لكذا فانتدب. أي: أجاب إليه. وقيل: معناه تكفّل بالمطلوب، ويدلّ عليه رواية الشيخين من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ " تكفّل الله ". وللبخاري من طريق سعيد بن المسيّب عنه بلفظ " توكّل الله " وسيأتي الكلام عليها. وعلى رواية مسلم إن شاء الله تعالى. ووقع في رواية الأصيليّ (¬1) هنا " ائتدب " بياءٍ تحتانيّة مهموزة بدل النّون من المأدبة، وهو تصحيف، وقد وجّهوه بتكلّفٍ، لكن إطباق الرّواة على خلافه مع اتّحاد المخرج كافٍ في تخطئته. قوله: (لا يخرجه إلَّا جهادٌ في سبيلي وإيمانٌ بي) كذا هو بالرّفع على أنّه فاعل يخرج والاستثناء مفرّغ، وفي رواية مسلم والإسماعيليّ " إلَّا إيماناً " بالنّصب. قال النّوويّ: هو مفعول له، وتقديره لا يخرجه المخرج إلَّا الإيمان والتّصديق. وهو نصٌّ على اشتراط خلوص النّيّة في الجهاد. وسيأتي بسط القول فيه (¬2). قوله: (وتصديق برسلي) ذكره الكرمانيّ بلفظ " أو تصديق " ثمّ استشكله , وتكلَّف الجواب عنه، والصّواب أسهل من ذلك؛ لأنّه لَم ¬

_ (¬1) هو عبدالله بن ابراهيم , سبق ترجمته (1/ 114) (¬2) انظر حديث أبي موسى الآتي رقم (423)

يثبت في شيء من الرّوايات بلفظ " أو ". وقوله " بي " فيه عدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، فهو التفات. وقال ابن مالك: كان اللائق في الظّاهر هنا إيمان به، ولكن على تقدير اسم فاعل من القول منصوب على الحال، أي: انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلاً لا يخرجه إلَّا إيمان بي، و " لا يخرجه " مقول القول , لأنّ صاحب الحال على هذا التّقدير هو الله. وتعقّبه شهاب الدّين بن المرحّل: بأنّ حذف الحال لا يجوز، وأنّ التّعبير باللائق هنا غير لائق، فالأولى أنّه من باب الالتفات. وهو متّجه، وفي رواية لهما من طريق الأعرج بلفظ " لا يخرجه إلَّا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته ". قال ابن التّين: يحتمل: أن يكون المراد بكلماته الأوامر الواردة بالجهاد وما وعد عليه من الثّواب. ويحتمل: أن يراد بها ألفاظ الشّهادتين وأنّ تصديقه بها يثبت في نفسه عداوة من كذّبهما والحرص على قتله قوله: (فهو عليّ ضامن) أي: مضمون، أو معناه أنّه ذو ضمان. قوله: (أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه. الخ ..) انظر ما بعده.

قوله: (مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) فيه إشارة إلى اعتبار الإخلاص. وسيأتي بيانه في حديث أبي موسى. (¬1) قوله: (كمثل الصّائم القائم) ولمسلمٍ من طريق أبي صالح عن أبي هريرة " كمثل الصّائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام " , زاد النّسائيّ من هذا الوجه " الخاشع الرّاكع السّاجد ". وفي الموطّأ وابن حبّان: كمثل الصّائم القائم الدّائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتّى يرجع. ولأحمد والبزّار من حديث النّعمان بن بشير مرفوعاً: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصّائم نهاره القائم ليله. وشبّه حال الصّائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثّواب في كلّ حركة وسكون , لأنّ المراد من الصّائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمرّ. وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب لِمَا روى البخاري: أنّ المجاهد لتستنّ فرسه فيكتب له حسنات. وأصرح منه قوله تعالى {ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب} الآيتين. قوله: (وتوكّل الله إلخ) تقدّم (¬2) معناه مفرداً من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة. وسياقه أتمّ، ولفظه " انتدب الله ". ¬

_ (¬1) سيأتي حديثه إن شاء الله آخر كتاب الجهاد برقم (423). (¬2) انظر الحديث الذي قبله.

ولمسلمٍ من هذا الوجه بلفظ " تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلَّا إيمان بي " وفيه التفات وإنّ فيه انتقالاً من ضمير الحضور إلى ضمير الغيبة. وقال ابن مالك: فيه حذف القول والاكتفاء بالمقول، وهو سائغ شائع. سواء كان حالاً أو غير حال، فمن الحال قوله تعالى {ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعت} أي: قائلين ربّنا، وهذا مثله أي: قائلاً لا يخرجه. إلخ. وقد اختلفت الطّرق عن أبي هريرة في سياقه. فرواه مسلم من طريق الأعرج عنه بلفظ " تكفّل الله لمن جاهد في سبيله. لا يخرجه من بيته إلَّا جهاد في سبيله وتصديق كلمته ". وللبخاري كذلك من طريق أبي الزّناد. وكذلك أخرجه مالك في " الموطّأ " عن أبي الزّناد في كتاب الخمس. وأخرجه الدّارميّ من وجه آخر عن أبي الزّناد بلفظ: لا يخرجه إلَّا الجهاد في سبيل الله وتصديق كلماته. نعم. أخرجه أحمد والنّسائيّ من حديث ابن عمر، فوقع في روايته التّصريح بأنّه من الأحاديث الإلهيّة، ولفظه: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربّه , قال: أيّما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن رجعته أنْ أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة. الحديث رجاله ثقات. وأخرجه التّرمذيّ من حديث عبادة بلفظ: يقول الله عزّ وجل:

المجاهد في سبيلي هو عليّ ضامن إن رجَعتُه , رجَعتُه بأجرٍ أو غنيمة. الحديث. وصحَّحه التّرمذيّ. وقوله " تضمّن الله وتكفّل الله وانتدب الله " بمعنىً واحد، ومحصّله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة} , وذلك التّحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى، وقد عبّر - صلى الله عليه وسلم - عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله بالثّواب , بلفظ الضّمان ونحوه ممّا جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئنّ به نفوسهم. قوله: (بأن يتوفّاه أن يدخله الجنّة) أي: بأن يدخله الجنّة إن توفّاه، في رواية أبي زرعة الدّمشقيّ عن أبي اليمان - شيخ البخاري - عن شعيب عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة " أن توفّاه " بالشّرطيّة والفعل الماضي , أخرجه الطّبرانيّ. وهو أوضح. قوله: (أن يدخله الجنّة) أي: بغير حساب ولا عذاب، أو المراد أن يدخله الجنّة ساعة موته، كما ورد " أنّ أرواح الشّهداء تسرح في الجنّة " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1887) عن مسروق، قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} قال: أمَا إنّا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع إليهم ربهم اطّلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. الحديث.

وبهذا التّقرير يندفع إيراد مَن قال: ظاهر الحديث التّسوية بين الشّهيد والرّاجع سالماً , لأنّ حصول الأجر يستلزم دخول الجنّة. ومحصّل الجواب: أنّ المراد بدخول الجنّة دخول خاصّ. قوله: (أو يرجعه) بفتح أوّله، وهو منصوب بالعطف على يتوفّاه. قوله: (مع أجر أو غنيمة) أي: مع أجر خالص إن لَم يغنم شيئاً أو مع غنيمة خالصة معها أجر، وكأنّه سكت عن الأجر الثّاني الذي مع الغنيمة لنقصه بالنّسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة. والحامل على هذا التّأويل , أنّ ظاهر الحديث أنّه إذا غنم لا يحصل له أجر، وليس ذلك مراداً بل المراد أو غنيمة معها أجر أنقص من أجر من لَم يغنم، لأنّ القواعد تقتضي أنّه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتمّ أجراً عند وجودها، فالحديث صريحٌ في نفي الحرمان , وليس صريحاً في نفي الجمع. وقال الكرمانيّ: معنى الحديث أنّ المجاهد إمّا يستشهد أو لا، والثّاني لا ينفكّ من أجر أو غنيمة. ثمّ إمكان اجتماعهما، فهي قضيّة مانعة الخلوّ لا الجمع. وقد قيل في الجواب عن هذا الإشكال: إنّ " أو " بمعنى الواو، وبه جزم ابن عبد البرّ والقرطبيّ ورجّحها التّوربشتيّ، والتّقدير بأجرٍ وغنيمة. وقد وقع كذلك في رواية لمسلمٍ من طريق الأعرج عن أبي هريرة. رواه كذلك عن يحيى بن يحيى عن

مغيرة بن عبد الرّحمن عن أبي الزّناد، وقد رواه جعفر الفريابيّ وجماعة عن يحيى بن يحيى , فقالوا " أجر أو غنيمة " بصيغة أو. وقد رواه مالك في " الموطّأ " بلفظ " أو غنيمة " , ولَم يختلف عليه إلَّا في رواية يحيى بن بكيرٍ عنه. فوقع فيه بلفظ " وغنيمة " ورواية يحيى بن بكيرٍ عن مالك فيها مقال. ووقع عند النّسائيّ من طريق الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة بالواو أيضاً , وكذا من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة , وكذلك أخرجه أبو داود بإسنادٍ صحيح عن أبي أُمامة بلفظ: بما نال من أجر وغنيمة. فإن كانت هذه الرّوايات محفوظة. تعيّن القول بأنّ " أو " في هذا الحديث بمعنى الواو. كما هو مذهب نحاة الكوفيّين. لكن فيه إشكال صعْب , لأنّه يقتضي من حيث المعنى أن يكون الضّمان وقع بمجموع الأمرين لكلِّ مَن رجع، وقد لا يتّفق ذلك. فإنّ كثيراً من الغزاة يرجع بغير غنيمة، فما فرّ منه الذي ادّعى أنّ " أو " بمعنى الواو وقع في نظيره , لأنّه يلزم على ظاهرها أنّ من رجع بغنيمةٍ بغير أجر، كما يلزم على أنّها بمعنى الواو أنّ كلّ غازٍ يجمع له بين الأجر والغنيمة معاً. وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلَّا تعجّلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثّلث، فإن لَم يصيبوا غنيمة تمّ لهم

أجرهم. وهذا يؤيّد التّأويل الأوّل , وأنّ الذي يغنم يرجع بأجرٍ لكنّه أنقص من أجر من لَم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدّنيا وتمتّعه بأجر من لَم يغنم مع اشتراكهما في التّعب والمشقّة كان أجر من غنم دون أجر من لَم يغنم. وهذا موافق لقول خبّاب في البخاري " فمنّا من مات ولَم يأكل من أجره شيئاً " الحديث. (¬1) واستشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، وهو مخالف لِما يدلّ عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتهر تمدّح النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمّته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التّمدّح بها. وأيضاً فإنّ ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلاً. مع أنّ أهل بدر أفضل بالاتّفاق. وسبق إلى هذا الإشكال ابن عبد البرّ , وحكاه عياض , وذكر: أنّ بعضهم أجاب عنه بأنّه ضعّف حديث عبد الله بن عمرو , لأنّه من رواية حميدٍ بن هانئ , وليس بمشهورٍ. ¬

_ (¬1) وتمامه في البخاري (1217): هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير , ومنَّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. قُتل يوم أحدٍ فلم نجد ما نكفنه إلَّا بُردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه , وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه , وأن نجعل على رجليه من الإذخر. وأخرجه مسلم أيضاً (940).

وهذا مردودٌ , لأنّه ثقة يحتجّ به عند مسلم، وقد وثّقه النّسائيّ وابن يونس وغيرهما. ولا يُعرف فيه تجريح لأحدٍ. ومنهم: من حمل نقص الأجر على غنيمة أُخذت على غير وجهها. وظهور فساد هذا الوجه يغني عن الإطناب في ردّه، إذ لو كان الأمر كذلك لَم يبق لهم ثلث الأجر , ولا أقلّ منه. ومنهم: من حَمَل نقص الأجر على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده , وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضاً. وفيه نظرٌ , لأنّ صدر الحديث مصرّح بأنّ المُقسِم راجع إلى من أخلص لقوله في أوّله " لا يخرجه إلَّا إيمان بي وتصديق برسلي ". وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما. ولَم يُجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر. وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين، بل الحكم فيهما جارٍ على القياس لأنّ الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقّة فيما كان أجره بحسب مشقّته، إذ للمشقّة دخول في الأجر، وإنّما المشكل العمل المتّصل بأخذ الغنائم، يعني: فلو كانت تنقص الأجر لَمَا كان السّلف الصّالح يثابرون عليها. فيمكن أن يجاب: بأنّ أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئيّة على بعض , لأنّ أخذ الغنائم أوّل ما شرع كان عوناً على الدّين وقوّة لضعفاء المسلمين، وهي مصلحة عظمى يغتفر لها بعض النّقص

في الأجر من حيث هو. وأمّا الجواب عمّن استشكل ذلك بحال أهل بدر: فالذي ينبغي أن يكون التّقابل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه إذا لَم يغنم أو يغزو فيغنم، فغايته أنّ حال أهل بدر مثلاً عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها , ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولَم يرد فيهم نصّ أنّهم لو لَم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونه مغفوراً لهم وأنّهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى. وأمّا الاعتراض بحلِّ الغنائم فغير وارد، إذ لا يلزم من الحلّ ثبوت وفاء الأجر لكل غازٍ، والمباح في الأصل لا يستلزم الثّواب بنفسه، لكن ثبت أنّ أخذ الغنيمة واستيلاءها من الكفّار يحصل الثّواب، ومع ذلك فمع صحّة ثبوت الفضل في أخذ الغنيمة وصحّة التّمدّح بأخذها لا يلزم من ذلك أنّ كلّ غازٍ يحصل له من أجر غزاته نظير من لَم يغنم شيئاً البتّة. قلت: والذي مثّل بأهل بدر أراد التّهويل، وإلَّا فالأمر على ما تقرّر آخراً بأنّه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجراً ممّا لو لَم يحصل لهم أجر الغنيمة أن يكونوا في حال أخذهم الغنيمة مفضولين بالنّسبة إلى من بعدهم كمن شهد أُحداً لكونهم لَم يغنموا شيئاً , بل أجر البدريّ في الأصل أضعاف أجر من بعده. مثال ذلك , أن يكون لو فرض أنّ أجر البدريّ بغير غنيمة ستّمائةٍ

وأَجر الأُحديّ مثلاً بغير غنيمة مائة , فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث عبد الله بن عمرو كان للبدريّ لكونه أخذ الغنيمة مائتان - وهي ثلث السّتّمائة - فيكون أكثر أجراً من الأُحديّ، وإنّما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أوّل غزوة شهدها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفّار , وكان مبدأ اشتهار الإسلام وقوّة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعاً، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل. والله أعلم. واختار ابن عبد البرّ: أنّ المراد بنقص أجر من غنم أنّ الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب بما له فكان الأجر لِما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنّقص من أصل الأجر. ولا يخفى مباينة هذا التّأويل لسياق حديث عبد الله بن عمرو الذي تقدّم ذكره. وذكر بعض المتأخّرين للتّعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله بن عمرو حكمةً لطيفةً بالغةً: وذلك أنّ الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات: دنيويّتان وأخرويّة. فالدّنيويّتان السّلامة والغنيمة , والأخرويّة دخول الجنّة، فإذا رجع سالماً غانماً فقد حصل له ثلثا ما أعدّ الله له وبقي له عند الله الثّلث، وإن رجع بغير غنيمة عوّضه الله عن ذلك ثواباً في مقابلة ما فاته. وكأنّ معنى الحديث أنّه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من

أمر الدّنيا عوّضتك عنه ثواباً. وأمّا الثّواب المختصّ بالجهاد فهو حاصل للفريقين معاً. قال: وغاية ما فيه عدّ ما يتعلق بالنّعمتين الدّنيويّتين أجراً بطريق المجاز. والله أعلم. وفي الحديث أنّ الفضائل لا تدرك دائماً بالقياس، بل هي بفضل الله. وفيه استعمال التّمثيل في الأحكام. وأنّ الأعمال الصّالحة لا تستلزم الثّواب لأعيانها، وإنّما تحصل بالنّيّة الخالصة إجمالاً وتفصيلاً، والله أعلم.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 408 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مكلومٍ يُكْلَم في سبيل الله، إلَّا جاء يوم القيامة، وكَلْمه يَدْمى: اللون لون الدّم، والريح ريح المسك. (¬1) قوله: (ما من مكلومٍ) أي: مجروح , ولهما من رواية الأعرج عن أبي هريرة " والذي نفسي بيده لا يُكلم أحدٌ في سبيل الله. ولهما من رواية همام عن أبي هريرة " كل كَلْم يُكلمه المسلم في سبيل الله، ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت، تفجر دماً. وقوله: " أحدٌ " قيّده في هذه الرواية بالمُسلم. قوله: (يُكْلَم) بضمّ أوّله وسكون الكاف وفتح اللام , أي: يجرح. قوله: (في سبيل الله) زاد البخاري " والله أعلم بمن يكلم في سبيله " وهي جملة معترضة قصد بها التّنبيه على شرطيّة الإخلاص في نيل هذا الثّواب. قال النّوويّ: ظاهر قوله " في سبيل الله " اختصاصه بمن وقع له ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5213) ومسلم (1876) من طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهو ضمن الحديث الماضي (406) ساقه مسلم جميعاً , وفرّقه البخاري. وأخرجه البخاري (235 , 2649) ومسلم (1876) من طريقين آخرين عن همّام بن مُنبّه والأعرج كلاهما عن أبي هريرة نحوه.

ذلك في قتال الكفّار، لكن يلتحق به من قتل في حرب البغاة وقطّاع الطّريق وإقامة المعروف لاشتراك الجميع في كونهم شهداء. وقال ابن عبد البرّ: أصل الحديث في الكفّار. ويلتحق هؤلاء بهم بالمعنى، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من قتل دون ماله فهو شهيد " , وتوقّف بعض المتأخّرين في دخول من قاتل دون ماله لأنّه يقصد صون ماله بداعية الطّبع، وقد أشار في الحديث إلى اختصاص ذلك بالمخلص. حيث قال " والله أعلم بمن يكلم في سبيله ". والجواب: أنّه يمكن فيه الإخلاص مع إرادة صون المال، كأن يقصد بقتال من أراد أخذه منه صون الذي يقاتله عن ارتكاب المعصية وامتثال أمر الشّارع بالدّفع، ولا يمحّض القصد لصون المال، فهو كمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا مع تشوّفه إلى الغنيمة. قوله: (إلَّا جاء يوم القيامة) الحكمة في كون الدّم يأتي يوم القيامة على هيئته أنّه يشهد لصاحبه بفضله وعلى ظالمه بفعله. وفائدة رائحته الطّيّبة أن تنتشر في أهل الموقف إظهاراً لفضيلته أيضاً , ومن ثَمّ لَم يشرع غسل الشّهيد في المعركة. قوله: (وكَلْمه) بفتح الكاف وسكون اللام. قوله: (يَدْمى) بفتح أوله وثالثه. قوله: (اللون لون الدم) في رواية همّام " تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجّر دماً ". قوله: (والريح ريح المسك) في رواية همّام " والعَرْف " بفتح

المهملة وسكون الرّاء بعدها فاء وهو الرّائحة. ولأصحاب السّنن وصحَّحه التّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من حديث معاذ بن جبل: من جُرح جرحاً في سبيل الله , أو نُكِبَ نكبةً فإنّها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزّعفران وريحها المسك. وعرف بهذه الزّيادة. أنّ الصّفة المذكورة لا تختصّ بالشّهيد , بل هي حاصلة لكل من جرح. ويحتمل: أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدّنيا. فإنّ أثر الجراحة وسيلان الدّم يزول، ولا ينفي ذلك أن يكون له فضل في الجملة، لكنّ الظّاهر أنّ الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً من فارق الدّنيا وجرحه كذلك. ويؤيّده ما وقع عند ابن حبّان في حديث معاذ المذكور " عليه طابع الشّهداء " وقوله " كأغزر ما كانت " لا ينافي قوله " كهيئتها " لأنّ المراد لا ينقص شيئاً بطول العهد. قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى. واستدل بهذا الحديث على أنّ الشّهيد يدفن بدمائه وثيابه ولا يزال عنه الدّم بغسلٍ ولا غيره، ليجيء يوم القيامة كما وصف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفيه نظرٌ , لأنّه لا يلزم من غسل الدّم في الدّنيا أن لا يبعث كذلك

، ويغني عن الاستدلال لترك غسل الشّهيد في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - في شُهداء أُحدٍ: زمّلوهم بدمائهم. (¬1) قوله: (الْمِسك) بكسر الميم الطّيب المعروف. قال الجاحظ: هو من دويبة تكون في الصّين تصاد لنوافجها وسررها، فإذا صيدت شدّت بعصائب وهي مدلية يجتمع فيها دمها، فإذا ذبحت قوّرت السّرّة التي عصبت , ودفنت في الشّعر حتّى يستحيل ذلك الدّم المختنق الجامد مسكاً ذكيّاً بعد أن كان لا يرام من النّتن. ومن ثَمّ قال القفّال: إنّها تندبغ بما فيها من المسك فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات، والمشهور أنّ غزال المسك كالظّبي , لكن لونه أسود وله نابان لطيفان أبيضان في فكّه الأسفل، وأنّ المسك دم يجتمع في سرّته في وقت معلوم من السّنة , فإذا اجتمع ورِمَ الموضعُ فمرض الغزال إلى أن يسقط منه. ويقال: إنّ أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتاداً في البرّيّة تحتكّ بها ليسقط. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " (5/ 431) والنسائي (1/ 282) وغيرهما من طريق الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف على قتلى أحدٍ، فقال: إني أشهد على هؤلاء، زمّلوهم بكلومهم ودمائهم. وللبخاري في " صحيحه " (1343) وفي مواضع أخرى عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أُحدٍ في ثوب واحد، ثم يقول: أيُّهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولَم يغسّلوا، ولَم يصلِّ عليهم.

ونقل ابن الصّلاح في " مشكل الوسيط ": أنّ النّافجة في جوف الظّبية كالإنفحة في جوف الجدي، وعن عليّ بن مهديّ الطّبريّ الشّافعيّ أنّها تلقيها من جوفها كما تلقي الدّجاجة البيضة. ويمكن الجمع بأنّها تلقيها من سرّتها فتتعلق بها إلى أن تحتكّ. قال النّوويّ: أجمعوا على أنّ المسك طاهر يجوز استعماله في البدن والثّوب، ويجوز بيعه. ونقل أصحابنا عن الشّيعة فيه مذهباً باطلاً وهو مستثنىً من القاعدة: ما أبين من حيّ فهو ميّت. انتهى. وحكى ابن التّين عن ابن شعبان من المالكيّة: أنّ فأرة المسك إنّما تؤخذ في حال الحياة أو بذكاة من لا تصحّ ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها لأنّها تستحيل عن كونها دماً حتّى تصير مسكاً. كما يستحيل الدّم إلى اللحم فيطهر ويحلّ أكله، وليست بحيوانٍ حتّى يقال نجست بالموت، وإنّما هي شيء يحدث بالحيوان كالبيض. وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك إلَّا ما حكي عن عمر من كراهته، وكذا حكى ابن المنذر عن جماعة , ثمّ قال: ولا يصحّ المنع فيه إلَّا عن عطاء. بناء على أنّه جزء منفصل. وقد أخرج مسلم في أثناء حديث عن أبي سعيد , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: المسك أطيب الطّيب. وأخرجه أبو داود مقتصراً منه على هذا القدر. قال ابن المنيّر: استدل البخاريّ بهذا الحديث على طهارة المسك لوقوع تشبيه دم الشّهيد به، لأنّه في سياق التّكريم والتّعظيم، فلو كان نجساً لكان من الخبائث. ولَم يحسن التّمثيل به في هذا المقام.

تكميل: قد استُشكِل إيراد البخاري لهذا الحديث في (باب ما يقع من النّجاسات في السّمن والماء) فقال الإسماعيليّ: هذا الحديث لا يدخل في طهارة الدّم ولا نجاسته , وإنّما ورد في فضل المطعون في سبيل الله. وأجيب: بأنّ مقصود البخاري بإيراده تأكيد مذهبه في أنّ الماء لا يتنجّس بمجرّد الملاقاة ما لَم يتغيّر , فاستدل بهذا الحديث على أنّ تبدّل الصّفة يؤثّر في الموصوف , فكما أنّ تغيّر صفة الدّم بالرّائحة الطّيّبة أخرجه من الذّمّ إلى المدح , فكذلك تغيّر صفة الماء إذا تغيّر بالنّجاسة يخرجه عن صفة الطّهارة إلى النّجاسة. وتعقّب: بأنّ الغرض إثبات انحصار التّنجيس بالتّغيّر , وما ذكر يدلّ على أنّ التّنجيس يحصل بالتّغيّر وهو وفاق. لا أنّه لا يحصل إلَّا به وهو موضع النّزاع. وقال بعضهم: مقصود البخاريّ أنَّ يبيّن طهارة المسك ردّاً على من يقول بنجاسته؛ لكونه دماً انعقد فلمّا تغيّر عن الحالة المكروهة من الدّم - وهي الزّهم وقبح الرّائحة - إلى الحالة الممدوحة - وهي طيب رائحة المسك - دخلَ عليه الحلُّ , وانتقل من حالة النّجاسة إلى حالة الطّهارة كالخمرة إذا تخلّلت. وقال ابن رشيد: مراده أنّ انتقال الدّم إلى الرّائحة الطّيّبة هو الذي نقله من حالة الذّمّ إلى حالة المدح فحصل من هذا تغليب وصف واحد. وهو الرّائحة على وصفين وهما الطّعم واللون , فيستنبط منه

أنّه متى تغيّر أحد الأوصاف الثّلاثة بصلاحٍ أو فسادٍ تبعه الوصفان الباقيان , وكأنّه أشار بذلك إلى ردّ ما نقل عن ربيعة وغيره: أنّ تغيّر الوصف الواحد لا يؤثّر حتّى يجتمع وصفان. قال: ويمكن أن يستدل به على أنّ الماء إذا تغيّر ريحه بشيءٍ طيّبٍ لا يسلبه اسم الماء كما أنّ الدّم لَم ينتقل عن اسم الدّم مع تغيّر رائحته إلى رائحة المسك؛ لأنّه قد سمّاه دماً مع تغيّر الرّيح فما دام الاسم واقعاً على المسمّى فالحكم تابع له. انتهى كلامه. ويَرِد على الأوّل: أنّه يلزم منه أنّ الماء إذا كانت أوصافه الثّلاثة فاسدة , ثمّ تغيّرت صفةٌ واحدةٌ منها إلى صلاحٍ أنّه يحكم بصلاحه كلّه. وهو ظاهر الفساد. وعلى الثّاني: أنّه لا يلزم من كونه لَم يسلب اسم الماء أن لا يكون موصوفاً بصفةٍ تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه. والله أعلم. وقال ابن دقيق العيد لَمَّا نقل قول مَن قال. إنّ الدّم لَمَّا انتقل بطيب رائحته من حكم النّجاسة إلى الطّهارة , ومن حُكْمِ القذارة إلى الطّيب لتغيّر رائحته حتّى حُكم له بحكم المسك وبالطّيب للشّهيد: فكذلك الماء ينتقل بتغيّر رائحته من الطّهارة إلى النّجاسة. قال: هذا ضعيف مع تكلّفه.

الحديث السادس

الحديث السادس 409 - عن أبي أيوبٍ الأنصاريّ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غدوةٌ في سبيل الله، أو روحةٌ، خيرٌ مما طلعت عليه الشمس وغربت. أخرجه مسلم. (¬1) الحديث السابع 410 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غدوةٌ في سبيل الله، أو روحةٌ، خيرٌ من الدنيا وما فيها. أخرجه البخاري. (¬2) قوله: (خيرٌ مما طلعت عليه الشمس وغربت) هو المراد بقوله في الذي بعده " خير من الدّنيا وما فيها ". وتقدّم الكلام عليه قبل حديثين. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1883) من طريق شرحبيل بن شريك المعافري عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال: سمعت أبا أيوب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكره. (¬2) صحيح البخاري (2639 , 2643 , 6199) من طرق عن حميد الطويل عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم أيضاً (1880) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 411 - عن أبي قتادة الأنصاريّ - رضي الله عنه - , قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنينٍ. وذكر قصةً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل قتيلاً، له عليه بيّنةٌ، فله سلبه , قالها ثلاثا. (¬1) قوله: (حنين) حنين بمهملةٍ ونونٍ مصغّر. وادٍ إلى جنب ذي المجاز قريب من الطّائف، بينه وبين مكّة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات. قال أبو عبيد البكريّ: سمي باسم حنين بن قابثة بن مهلائيل. قال أهل المغازي: خرج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى حنينٍ لستٍّ خلت من شوّالٍ، وقيل: لليلتين بقيتا من رمضان. وجمع بعضهم: بأنّه بدأ بالخروج في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1994 , 2973، 4066، 4067، 6749) ومسلم (1751) من طريق يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى قتادة عن أبي قتادة. وتمامه قال: خرجْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين علا رجلاً من المسلمين , فاستدرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبْل عاتقه، فأقبل عليَّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت، فأرسلني، فلحقتُ عمر بن الخطاب , فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه، فقمت فقلت: مَن يشهد لي؟، ثم جلست. ثلاثاً , فقمت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك يا أبا قتادة؟، فاقتصصت عليه القصة، فقال رجلٌ: صدق يا رسول الله، وسلبه عندي فأرضه عني، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: لاها الله، إذاٍ لا يعمد إلى أسدٍ من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، يعطيك سلبه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق، فأعطاه، فبعت الدرع، فابتعت به مخرفاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثّلته في الإسلام.

أواخر رمضان وسار سادس شوّال؛ وكان وصوله إليها في عاشره. وكان السّبب في ذلك أنّ مالك بن عوف النّضريّ جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثّقفيّون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم. قال عمر بن شبّة في " كتاب مكّة ": حدّثنا الحزاميّ - يعني إبراهيم بن المنذر - حدّثنا ابن وهب عن ابن أبي الزّناد عن أبيه عن عروة , أنّه كتب إلى الوليد: أمّا بعد فإنّك كتبت إليّ تسألني عن قصّة الفتح، فذكر له وقتها، فأقام عامئذ بمكّة نصف شهر، ولَم يزد على ذلك حتّى أتاه أنّ هوازن وثقيفاً قد نزلوا حنيناً يريدون قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم عوف بن مالك. ولأبي داود بإسنادٍ حسن من حديث سهل ابن الحنظليّة , أنّهم ساروا مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى حنينٍ فأطنبوا السّير، فجاء رجلٌ , فقال: إنّي انطلقت من بين أيديكم حتّى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بَكْرة أبيهم (¬1) بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنينٍ، فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقال: تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله تعالى. وعند ابن إسحاق من حديث جابر ما يدلّ على أنّ هذا الرّجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ. قوله: (من قتل قتيلاً له عليه بيّنةٌ). اتّفقوا على أنّه لا يقبل قول من ¬

_ (¬1) أي: جميعهم. وليس ثَمَّ بَكرة، وإنما هو مثل. قاله أهل اللغة.

ادّعى السّلب إلَّا ببيّنةٍ تشهد له بأنّه قتله. والحجّة فيه قوله في هذا الحديث " له عليه بيّنةٌ " , فمفهومه أنّه إذا لَم تكن له بيّنةٌ لا يُقبل، وسياق أبي قتادة يشهد لذلك. وعن الأوزاعيّ: يقبل قوله بغير بيّنةٍ , لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاه لأبي قتادة بغير بيّنةٍ. وفيه نظرٌ , لأنّه وقع في " مغازي الواقديّ " أنّ أوس بن خوليٍّ (¬1) شهد لأبي قتادة، وعلى تقدير أن لا يصحّ , فيُحمل على أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - علم أنّه القاتل بطريقٍ من الطّرق. وأبعد مَن قال من المالكيّة: إنّ المراد بالبيّنة هنا الذي أقرّ له أنّ السّلب عنده فهو شاهدٌ. والشّاهد الثّاني وجود السّلب. فإنّه بمنزلة الشّاهد على أنّه قتله , ولذلك جعل لوثاً في " باب القسامة ". وقيل: إنّما استحقّه أبو قتادة بإقرار الذي هو بيده، وهو ضعيفٌ , لأنّ الإقرار إنّما يفيد إذا كان المال منسوباً لمن هو بيده فيؤاخذ بإقراره، والمال هنا منسوبٌ لجميع الجيش. ونقل ابن عطيّة: عن أكثر الفقهاء أنّ البيّنة هنا شاهدٌ واحدٌ يكتفى ¬

_ (¬1) كذا قال الشارح في كتاب " فرض الخمس " من الفتح , أمّا في " كتاب المغازي " فنقل عن الواقدي , أنَّ الشاهد عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه -. والذي في مغازي الواقدي " قال أبو قتادة: فقام عبد الله بن أنيسٍ فشهد لي، ثمّ لقيت الأسود بن الخزاعيّ فشهد لي، وإذا صاحبي الّذي أخذ السّلب لا ينكر أنّي قتلته .. الحديث. وعليه. فالصواب أنهما اثنان , والثاني هو الأسود الخزاعي. وليس أوس بن خولي. ولله أعلم

به. قوله: (فله سلبُه) السّلب بفتح المهملة واللام بعدها موحّدةٌ. هو ما يوجد مع المحارب من ملبوسٍ وغيره عند الجمهور. وعن أحمد: لا تدخل الدّابّة. وعن الشّافعيّ: يختصّ بأداة الحرب. وإلى ما تضمّنه الحديث ذهب الجمهور، وهو أنّ القاتل يستحقّ السّلب. سواءٌ قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلاً فله سلبه أو لَم يقل ذلك، وهو ظاهر حديث أبي قتادة. وقال: إنّه فتوى من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , وإخبارٌ عن الحكم الشّرعيّ. وعن المالكيّة والحنفيّة: لا يستحقّه القاتل إلَّا إن شرط له الإمام ذلك. وعن مالكٍ: يخيّر الإمام بين أن يعطي القاتل السّلب أو يخمّسه. واختاره إسماعيل القاضي. وعن إسحاق: إذا كثرت الأسلاب خمّست. ومكحولٍ والثّوريِّ: يخمّس مطلقاً، وقد حُكي عن الشّافعيّ أيضاً. وتمسّكوا بعموم قوله: {واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ لله خمسه} ولَم يستثن شيئاً. واحتجّ الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل قتيلاً فله سلبه. فإنّه خصّص ذلك العموم. وتعقّب: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لَم يقل من قتل قتيلاً فله سلبه إلَّا يوم حنينٍ، قال

مالكٌ: لَم يبلغني ذلك في غير حنينٍ. وأجاب الشّافعيّ وغيره: بأنّ ذلك حُفظ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في عدّة مواطن. منها يوم بدرٍ كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في الصحيحين (¬1). ومنها حديث حاطب بن أبي بلتعة , أنّه قتل رجلاً يوم أحدٍ فسلَّم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلَبَه. أخرجه البيهقيّ. ومنها حديث جابرٍ , أنّ عقيل بن أبي طالبٍ قتل يوم مؤتة رجلاً فنفله النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - درعه. (¬2) ثمّ كان ذلك مقرّراً عند الصّحابة كما روى مسلمٌ من حديث عوف بن مالكٍ في قصّته مع خالد بن الوليد , وإنكاره عليه أخذه السّلب من القاتل. الحديث بطوله. ¬

_ (¬1) حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في قصة قتل أبي جهل. قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار - حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما - فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم .. الحديث. وفيه: فابتدراه بسيفيْهِما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبراه. فقال: أيكما قتله؟، قال كلُّ واحدٍ منهما: أنا قتلتُه، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟، قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: كِلاكُما قتله، سلبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح. (¬2) أخرجه الطبراني في " الأوسط " (420) والبيهقي في " الكبرى " (6/ 504) من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر - رضي الله عنه -. قال الهيثمي في " المجمع " (5/ 331): فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو حسن الحديث. وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

وكما روى الحاكم والبيهقيّ بإسنادٍ صحيحٍ عن سعد بن أبي وقّاصٍ , أنّ عبد الله بن جحشٍ قال يوم أحدٍ: تعال بنا ندعو، فدعا سعدٌ , فقال: اللهمّ ارزقني رجلاً شديداً بأسه فأقاتله ويقاتلني , ثمّ ارزقني عليه الظّفر حتّى أقتله وآخذ سلبه. الحديث. وكما روى أحمد بإسنادٍ قويٍّ عن عبد الله بن الزّبير قال: كانت صفيّة في حصن حسّان بن ثابتٍ يوم الخندق. فذكر الحديث في قصّة قتلها اليهوديّ، وقولها لحسّان: انزل فاسلبه؛ فقال: ما لي بسلبه حاجةٌ. وكما روى ابن إسحاق في " المغازي ". في قصّة قتل عليّ بن أبي طالبٍ عمرو بن عبد ودٍّ يوم الخندق أيضاً , فقال له عمرٌو: هلاّ استلَبْتَ درعه , فإنّه ليس للعرب خيرٌ منها، فقال: إنّه اتّقاني بسوأته. وأيضاً فالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما قال ذلك يوم حنينٍ بعد أن فرغ القتال، كما هو صريحٌ في حديث عبد الرحمن بن عوف. حتّى قال مالكٌ: يكره للإمام أن يقول من قتل قتيلاً فله سلبه , لئلا تضعف نيّات المجاهدين، ولَم يقل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك إلَّا بعد انقضاء الحرب. وعن الحنفيّة: لا كراهة في ذلك، وإذا ناله قبل الحرب أو في أثنائها استحقّ القاتل. واستدل به على دخول من لا يسهم له في عموم قوله " من قتل

قتيلاً ". وعن الشّافعيّ في قولٍ، وبه قال مالكٌ. لا يستحقّ السّلب إلَّا من استحقّ السّهم , لأنّه قال: إذا لَم يستحقّ السّهم فلا يستحقّ السّلب بطريق الأولى. وعورض: بأنّ السّهم علق على المظنّة، والسّلب يستحقّ بالفعل فهو أولى، وهذا هو الأصل. واستدل به على أنّ السّلب للقاتل في كل حالٍ حتّى قال أبو ثورٍ وابن المنذر: يستحقّه ولو كان المقتول منهزماً. وقال أحمد: لا يستحقّه إلَّا بالمبارزة. وعن الأوزاعيّ: إذا التقى الزّحفان فلا سلب. واستدل به على أنّه مستحقٌّ للقاتل الذي أثخنه بالقتل دون من ذفَّف (¬1) عليه. كما في قصّة ابن مسعودٍ مع أبي جهلٍ في غزوة بدرٍ. (¬2) ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع (ذهب) وهو تصحيف. والذَّفُّ: الإِجْهازُ على الجَرِيحِ. قاله في اللسان. (¬2) أخرج البخاري (3962) ومسلم (1800) عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: من ينظر ما فعل أبو جهل. فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى بَرَدَ. فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبا جهل؟ قال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قال: قتلتموه؟. قال ابن حجر في " الفتح " (7/ 295): وفي حديث ابن عباس عند ابن إسحاق والحاكم. قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عُنقِه. فقلت: أخزاك الله يا عدو الله , قال: وبما أخزاني؟. هل أعمد رجل قتلتموه , قال: وزعم رجالٌ من بني مخزوم , أنه قال له: لقد ارتقيت يا رُويعي الغنم مرتقى صعباً. قال: ثم احتززتُ رأسه فجئت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: هذا رأس عدو الله أبي جهل , فقال: والله الذي لا إله إلا هو فحلف له.

واستدل به على أنّ السّلب يستحقّه القاتل من كل مقتولٍ حتّى لو كان المقتول امرأةً، وبه قال أبو ثورٍ وابن المنذر. وقال الجمهور: شرطه أن يكون المقتول من المقاتلة.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 412 - عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عينٌ من المشركين، وهو في سفرٍ، فجلس عند أصحابه يتحدَّث، ثم انفتل: فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اطلبوه، واقتلوه، فقتلتُه فنفّله (¬1) سلبه. (¬2) وفي رواية: فقال: من قَتَل الرجل؟ فقالوا: ابن الأكوع، فقال: له سلبه أجمع. (¬3) قوله: (أتى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عينٌ من المشركين) لَم أقف على اسمه. ووقع في رواية عكرمة بن عمّار عن إياس بن سلمة عن أبيه عند مسلم " أنّ ذلك كان في غزوة هوازن ". وسُمّي الجاسوس عيناً , لأنّ جلّ عمله بعينه، أو لشدّة اهتمامه بالرّؤية واستغراقه فيها , كأنّ جميع بدنه صار عيناً. قوله: (فجلس عند أصحابه يتحدّث ثمّ انفتل) في رواية النّسائيّ من طريق جعفر بن عون عن أبي العميس عن إياس " فلمّا طعم انسلَّ " , وفي رواية عكرمة عن إياس عند مسلم " فقيّد الجملَ ثمّ ¬

_ (¬1) وقع في نُسخ العمدة " فنفلني ". وما أثبتّه هو الموافق لرواية البخاري , أما " فنفلني " فهي رواية أبي داود كما سينبّه عليه الشارح. (¬2) أخرجه البخاري (2886) من طريق أبي العميس عتبة بن عبد الله المسعودي عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه - رضي الله عنه - (¬3) أخرجه مسلم (1754) من طريق عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة حدثني أَبِي -سلمة بن الأكوع - قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن. فذكر الحديث بطوله. كما سيذكره الشارح.

تقدّم يتغدّى مع القوم وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقّة في الظّهر، إذ خرج يشتدّ ". قوله: (اطلبوه واقتلوه) زاد أبو نعيم في " المستخرج " من طريق يحيى الحمّانيّ عن أبي العميس " أدركوه , فإنّه عين ". زاد أبو داود عن الحسن بن عليّ عن أبي نعيم - شيخ البخاري - عن أبي العميس فيه " فسبقتهم إليه فقتلته ". قوله: (فقتَلتُه فنفَّلَه سلبَه) كذا فيه، وفيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة، وكان السّياق يقتضي أن يقول: فنفلني. وهي رواية أبي داود. وزاد هو ومسلم من طريق عكرمة بن عمّار المذكور " فاتّبعه رجلٌ من أسلم على ناقة ورقاء، فخرجتُ أعدو حتّى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلمّا وضع ركبته بالأرض اخترطّت سيفي فأضرب رأسه فبدر، فجئت براحلته وما عليها أقودها، فاستقبلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: مَن قتلَ الرّجلَ؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: له سلبه أجمع ". وترجم عليه النّسائيّ " قتل عيون المشركين ". وقد ظهر من رواية عكرمة الباعث على قتله , وأنّه اطّلع على عورة المسلمين وبادر ليعلم أصحابه فيغتنمون غرّتهم، وكان في قتله مصلحة للمسلمين. قال النّوويّ: فيه قتل الجاسوس الحربيّ الكافر وهو باتّفاق، وأمّا المعاهد والذّمّيّ , فقال مالك والأوزاعيّ: ينتقض عهده بذلك. وعند

الشّافعيّة خلاف. أمّا لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتّفاقاً. وفيه حجّة لِمَن قال: إنّ السّلب كلّه للقاتل. وأجاب مَن قال لا يستحقّ ذلك إلَّا بقول الإمام: أنّه ليس في الحديث ما يدلّ على أحد الأمرين بل هو محتمل لهما، لكن أخرجه الإسماعيليّ من طريق محمّد بن ربيعة عن أبي العميس بلفظ " قام رجلٌ فأخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أنّه عين للمشركين , فقال: من قتَلَه فله سلبه، قال: فأدركته فقتلته، فنفلني سلبه ". فهذا يؤيّد الاحتمال الثّاني. بل قال القرطبيّ: لو قال القاتل يستحقّ السّلب بمجرّد القتل , لَم يكن لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له سلبه أجمع , مزيدُ فائدة. وتعقّب: باحتمال أن يكون هذا الحكم إنّما ثبت من حينئذٍ. وقد استدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب , لأنّ قوله تعالى {واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ} عامٌّ في كلّ غنيمة، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بزمنٍ طويلٍ أنّ السّلب للقاتل. سواء قيّدنا ذلك بقول الإمام أم لا. وأمّا قول مالك: لَم يبلغني أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلَّا يوم حنينٍ. فإن أراد أنّ ابتداء هذا الحكم كان يوم حنينٍ فهو مردود , لكن على غير مالك ممّن منعه، فإنّ مالكاً إنّما نفى البلاغ. وقد ثبت في سنن أبي داود عن عوف بن مالك أنّه قال لخالد بن الوليد في غزوة مؤتة: إنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسّلب للقاتل , وكانت

مؤتة قبل حنينٍ بالاتّفاق. وقال القرطبيّ: فيه أنّ للإمام أن ينفل جميع ما أخذته السّريّة من الغنيمة لمن يراه منهم، وهذا يتوقّف على أنّه لَم يكن غنيمة إلَّا ذلك السّلب. قلت: وما أبداه احتمالاً هو الواقع، فقد وقع في رواية عكرمة بن عمّار " أنّ ذلك كان في غزوة هوازن " , وقد اشتهر ما وقع فيها بعد ذلك من الغنائم. قال ابن المنير: ترجم البخاري (بالحربيّ إذا دخل بغير أمان) وأورد الحديث المتعلق بعين المشركين وهو جاسوسهم، وحكْمُ الجاسوس مخالف لحكْم الحربيّ المطلق الدّاخل بغير أمانٍ، فالدّعوى أعمّ من الدّليل. وأجيب: بأنّ الجاسوس المذكور أوهم أنّه ممّن له أمان، فلمّا قضى حاجته من التّجسيس انطلق مسرعاً ففطن له فظهر أنّه حربيّ دخل بغير أمانٍ.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 413 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريةً إلى نجدٍ، فخرجت فيها، فأصَبْنا إبلاً وغنماً، فبلغتْ سُهمانُنا اثني عشر بعيراً، ونفّلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً بعيراً. (¬1) قوله: (بعث سريّةً إلى نجدٍ) في رواية لهما " قِبل نجد " قبل بكسر القاف وفتح الموحّدة. أي: في جهة نجد، هكذا ذكرها البخاري بعد غزوة الطّائف. والذي ذكره أهل المغازي: أنّها كانت قبل التّوجّه لفتح مكّة. فقال ابن سعد: كانت في شعبان سنة ثمان. وذكر غيره , أنّها كانت قبل مؤتة، ومؤتة كانت في جمادى من السّنة. وقيل: كانت في رمضان. قالوا: وكان أبو قتادة أميرها، وكانوا خمسة وعشرين، وغنموا من غطفان بأرض محارب مائتي بعير وألفي شاة. والسّريّة: بفتح المهملة وكسر الرّاء وتشديد التّحتانيّة هي التي تخرج بالليل، والسّارية التي تخرج بالنّهار. وقيل: سُمِّيت بذلك لأنّها تخفي ذهابها. وهذا يقتضي أنّها أخذت من السّرّ , ولا يصحّ لاختلاف المادّة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2965 , 4083) ومسلم (1749) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

وهي قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة فما زاد على خمسمائة يقال له: منسر بالنّون والمهملة، فإن زاد على الثّمانمائة سُمِّي: جيشاً، وما بينهما يسمّى: هبطة، فإن زاد على أربعة آلاف يسمّى: جحفلاً، فإن زاد فجيش جرّار، والخميس الجيش العظيم. وما افترق من السّريّة يسمّى بعثاً، فالعشرة فما بعدها تسمّى حفيرة، والأربعون عصبة، وإلى ثلاثمائة مقنب بقاف ونون ثمّ موحّدة، فإن زاد سُمِّي جمرة بالجيم، والكتيبة: ما اجتمع ولَم ينتشر. قوله: (فأصبنا إبلاً وغنماً) ولهما من رواية مالك عن نافع " فغنموا إبلاً كثيرةً ". قوله: (فبلغت سهماننا) في رواية مالك " فكانت سهمانهم " أي: أنصباؤهم، والمراد أنّه بلغ نصيب كل واحدٍ منهم هذا القدر. وتوهّم بعضهم أنّ ذلك جميع الأنصباء. قال النّوويّ: وهو غلطٌ. قوله: (اثني عشر بعيراً , ونفّلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً بعيراً) في رواية مالك " فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً، أو أحد عشر بعيراً، ونُفّلوا بعيراً بعيراً " هكذا رواه مالكٌ بالشّكّ والاختصار وإيهام الذي نفلهم. وقد وقع بيان ذلك في رواية ابن إسحاق من نافعٍ عند أبي داود ولفظه " فخرجتُ فيها فأصبنا نعماً كثيراً. وأعطانا أميرنا بعيراً بعيراً لكل إنسانٍ، ثمّ قدِمنا على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقسم بيننا غنيمتنا. فأصاب كلَّ

رجلٍ منّا اثنا عشر بعيراً بعد الخمس ". وأخرجه أبو داود أيضاً من طريق شعيب بن أبي حمزة عن نافعٍ. ولفظه " بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشٍ قِبَل نجدٍ وأتبعت سريّةً من الجيش، وكان سهمان الجيش اثني عشر بعيراً اثني عشر بعيراً، ونفل أهل السّريّة بعيراً بعيراً، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيراً ثلاثة عشر بعيراً ". وأخرجه ابن عبد البرّ من هذا الوجه , وقال في روايته " إنّ ذلك الجيش كان أربعة آلافٍ ". قال ابن عبد البرّ: اتّفق جماعة رواة الموطّأ على روايته بالشّكّ، إلَّا الوليد بن مسلمٍ فإنّه رواه عن شعيبٍ ومالكٍ جميعاً فلم يشكّ، وكأنّه حمل رواية مالكٍ على رواية شعيبٍ. قلت: وكذا أخرجه أبو داود عن القعنبيّ عن مالكٍ والليث (¬1) بغير شكٍّ، فكأنّه أيضاً حمل رواية مالكٍ على رواية الليث. قال ابن عبد البرّ: وقال سائر أصحاب نافعٍ " اثني عشر بعيراً " بغير شكٍّ لَم يقع الشّكّ فيه إلَّا من مالكٍ قوله: (ونفّلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً بعيراً) في رواية مالك " ونفّلوا بعيراً بعيراً " بلفظ الفعل الماضي من غير مسمّىً. ¬

_ (¬1) رواية الليث عن نافع. أخرجها مسلم أيضاً كما سيذكرها الشارح بلفظ " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية قِبَل نجد، وفيهم ابن عمر، وأنَّ سهمانهم بلغت اثني عشر بعيراً، ونفلوا سوى ذلك بعيراً، فلم يغيّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "

والنّفل زيادةٌ يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة، ومنه نفل الصّلاة. وهو ما عدا الفرض. واختلف الرّواة في القسْم والتّنفيل , هل كانا جميعاً من أمير ذلك الجيش , أو من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , أو أحدهما من أحدهما؟. فرواية ابن إسحاق صريحةٌ أنّ التّنفيل كان من الأمير , والقسْم من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وظاهر رواية الليث عن نافعٍ عند مسلمٍ , أنّ ذلك صدر من أمير الجيش، وأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان مقرّراً لذلك. مجيزاً له لأنّه قال فيه: ولَم يغيّره النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية عبد الله بن عمر عنده أيضاً " ونفَّلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً بعيراً " وهذا يمكن أن يُحمل على التّقرير. فتجتمع الرّوايتان. قال النّوويّ: معناه أنّ أمير السّريّة نفلهم فأجازه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - , فجازت نسبته لكلٍّ منهما. وفي الحديث أنّ الجيش إذا انفرد منه قطعةٌ فغنموا شيئاً كانت الغنيمة للجميع. قال ابن عبد البرّ: لا يختلف الفقهاء في ذلك، أي: إذا خرج الجيش جميعه ثمّ انفردت منه قطعةٌ. انتهى وليس المراد الجيش القاعد في بلاد الإسلام. فإنّه لا يشارك الجيش الخارج إلى بلاد العدوّ. بل قال ابن دقيق العيد: إنّ الحديث يستدلّ به على أنّ المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الإمام ينفرد بما يغنمه.

قال: وإنّما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريباً منهم يلحقهم عونه وغوثه لو احتاجوا. انتهى. وهذا القيد في مذهب مالكٍ. وقال إبراهيم النّخعيّ: للإمام أن ينفّل السّريّة جميع ما غنمته دون بقيّة الجيش مطلقاً، وقيل: إنّه انفرد بذلك. وفيه مشروعيّة التّنفيل، ومعناه تخصيص من له أثرٌ في الحرب بشيءٍ من المال، لكنّه خصّه عمرو بن شعيبٍ بالنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دون من بعده. نعم. وكره مالكٌ أن يكون بشرطٍ من أمير الجيش , كأن يحرّض على القتال , ويعِد بأن ينفّل الرّبع إلى الثّلث قبل القسم، واعتلَّ بأنّ القتال حينئذٍ يكون للدّنيا، قال: فلا يجوز مثل هذا. انتهى. وفي هذا ردٌّ على من حكى الإجماع على مشروعيّته. وقد اختلف العلماء , هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس أو ممّا عدا الخمس؟. على أقوالٍ. والثّلاثة الأُوَل مذهب الشّافعيّ , والأصحّ عندهم أنّها من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيدٍ عن مالكٍ. وهو شاذٌّ عندهم. قال ابن بطّالٍ: وحديث الباب يردّ على هذا , لأنّهم نفّلوا نصف السّدس وهو أكثر من خمس الخمس. وهذا واضحٌ. وقد زاده ابن المنير إيضاحاً فقال: لو فرضنا أنّهم كانوا مائةً لكان قد حصل لهم ألفٌ ومائتا بعيرٍ. ويكون الخمس من الأصل ثلاثمائة بعيرٍ وخمسها ستّون، وقد نطق الحديث " بأنّهم نفّلوا بعيراً بعيراً "

فتكون جملة ما نفّلوا مائة بعيرٍ، وإذا كان خمس الخمس ستّين لَم يف كلّه ببعيرٍ بعيرٍ لكلٍّ من المائة، وهكذا كيفما فرضت العدد. قال: وقد ألْجَأَ هذا الإلزام بعضهم فادّعى أنّ جميع ما حصل للغانمين كان اثني عشر بعيراً , فقيل له: فيكون خمسها ثلاثة أبعرةٍ فيلزم أن تكون السّريّة كلّها ثلاثة رجالٍ كذا قيل. قال ابن المنير: وهو سهوٌ على التّفريغ المذكور، بل يلزم أن يكون أقل من رجلٍ بناءً على أنّ النّفل من خمس الخمس. وقال ابن التّين: قد انفصل مَن قال من الشّافعيّة بأنّ النّفل من خمس الخمس بأوجهٍ: الأول: أنّ الغنيمة لَم تكن كلّها أبعرةً , بل كان فيها أصنافٌ أخرى، فيكون التّنفيل وقع من بعض الأصناف دون بعضٍ. ثانيها: أن يكون نفلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها , فضمّ هذا إلى هذا , فلذلك زادت العدّة. ثالثها: أن يكون نَفَّل بعض الجيش دون بعضٍ. قال: وظاهر السّياق يردّ هذه الاحتمالات. قال: وقد جاء أنّهم كانوا عشرةً، وأنّهم غنموا مائةً وخمسين بعيراً فخرج منها الخمس وهو ثلاثون وقسّم عليهم البقيّة. فحصل لكل واحدٍ اثنا عشر بعيراً ثمّ نفّلوا بعيراً بعيراً , فعلى هذا فقد نفّلوا ثلث الخمس. قلت: إن ثبت هذا. لَم يكن فيه ردٌّ للاحتمال الأخير , لأنّه يحتمل

أن يكون الذين نفّلوا ستّةً من العشرة. والله أعلم. قال الأوزاعيّ وأحمد وأبو ثورٍ وغيرهم: النّفل من أصل الغنيمة. وقال مالكٌ وطائفةٌ: لا نفل إلَّا من الخمس. وقال الخطّابيّ: أكثر ما روي من الأخبار يدلّ على أنّ النّفل من أصل الغنيمة , والذي يقرب من حديث الباب أنّه كان من الخمس لأنّه أضاف الاثني عشر إلى سهمانهم، فكأنّه أشار إلى أنّ ذلك قد تقرّر لهم استحقاقه من الأخماس الأربعة الموزّعة عليهم فيبقى للنّفل من الخمس. قلت: ويؤيّده ما رواه مسلمٌ في حديث الباب من طريق الزّهريّ , قال: بلغني عن ابن عمر قال: نفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريّةً بعثها قِبَل نجدٍ من إبلٍ جاءوا بها نفلاً سوى نصيبهم من المغنم. لَم يسق مسلمٌ لفظه , وساقه الطّحاويّ. ويؤيّده أيضاً ما رواه مالكٌ عن عبد ربّه بن سعيدٍ عن عمرو بن شعيبٍ , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لي ممّا أفاء الله عليكم إلَّا الخمس، وهو مردودٌ عليكم. وصله النّسائيّ من وجهٍ آخر حسنٍ عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه. وأخرجه أيضاً بإسنادٍ حسنٍ من حديث عبادة بن الصّامت , فإنّه يدلّ على أنّ ما سوى الخمس للمقاتلة. وروى مالكٌ أيضاً عن أبي الزّناد , أنّه سمع سعيد بن المسيّب قال: كان النّاس يعطون النّفل من الخمس.

قلت: وظاهره اتّفاق الصّحابة على ذلك. وقال ابن عبد البرّ: إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنىً فيه فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة، وإن انفردت قطعةٌ فأراد أن ينفّلها ممّا غنمت دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثّلث. انتهى. وهذا الشّرط. قال به الجمهور. وقال الشّافعيّ: لا يتحدّد، بل هو راجعٌ إلى ما يراه الإمام من المصلحة، ويدلّ له قوله تعالى {قل الأنفال لله والرّسول} ففوّض إليه أمرها، والله أعلم. وقال الأوزاعيّ: لا ينفّل من أوّل الغنيمة، ولا ينفّل ذهباً ولا فضّةً. وخالفه الجمهور. وحديث الباب من رواية ابن إسحاق يدلّ لِمَا قالوا. واستدل به على تعيّن قسمة أعيان الغنيمة لا أثمانها، وفيه نظرٌ. لاحتمال أن يكون وقع ذلك اتّفاقاً أو بياناً للجواز. وعند المالكيّة فيه أقوالٌ ثالثها التّخيير. وفيه أنّ أمير الجيش إذا فعل مصلحةً لَم ينقضها الإمام.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 414 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جمع الله الأولين والآخرين، يُرفع لكل غادرٍ لواءٌ، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان. (¬1) قوله: (يرفع لكل غادرٍ) في رواية للبخاري " لكل غادرٍ لواءٌ يُنصب بغدرته يوم القيامة " , وله أيضاً " يعرف به " , ولمسلم من حديث أبي سعيد " يرفع له بقدر غدرته " , وله من حديثه من وجه آخر " عند استه ". والغدر حرام باتّفاقٍ، سواء كان في حقّ المسلم أو الذّمّيّ. وسواء كان من بر لفاجر أو بر , أو من فاجر لبر أو فاجر. قال ابن المنير: كأنّه عومل بنقيض قصده , لأنّ عادة اللواء أن يكون على الرّأس فنصب عند السّفل زيادة في فضيحته، لأنّ الأعين غالباً تمتدّ إلى الألوية فيكون ذلك سبباً لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم فيزداد بها فضيحته. انتهى وقال الكرمانيّ: الرّفع والنّصب هنا بمعنىً واحد، يعني لأنّ الغرض إظهار ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3016 , 5823 , 6694) ومسلم (1735) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. واللفظ لمسلم. وليس عند البخاري " إذا جمع الله الأولين والآخرين. والباقي مثله. وللبخاري (5824 , 6565) ومسلم (1735) عن عبد الله بن دينار. ومسلم (1735) عن سالم كلاهما عن ابن عمر نحوه.

قال القرطبيّ: هذا خطاب منه للعرب بنحر ما كانت تفعل، لأنّهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء، ليلوموا الغادر ويذمّوه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمّه أهل الموقف، وأمّا الوفاء فلم يرد فيه شيء ولا يبعد أن يقع كذلك، وقد ثبت لواء الحمد لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث غلظ تحريم الغدر , لا سيّما من صاحب الولاية العامّة , لأنّ غدره يتعدّى ضرره إلى خلق كثير (¬1)، ولأنّه غير مضطرّ إلى الغدر لقدرته على الوفاء. وقال عياض: المشهور أنّ هذا الحديث ورد في ذمّ الإمام إذا غدر في عهوده لرعيّته أو لمقاتلته أو للإمامة التي تقلدها والتزم القيام بها، فمتى خان فيها أو ترك الرّفق فقد غدر بعهده. وقيل: المراد نهي الرّعيّة عن الغدر بالإمام. فلا تخرج عليه , ولا تتعرّض لمعصيته لِما يترتّب على ذلك من الفتنة. قال: والصّحيح الأوّل. قلت: ولا أدري ما المانع من حمل الخبر على أعمّ من ذلك، وأنّ الذي فهمه ابن عمر راوي الحديث هو هذا (¬2). والله أعلم. ¬

_ (¬1) ويدل عليه ما رواه مسلم (1738) عن أبي سعيد - رضي الله عنه - , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكل غادر لواء يوم القيامة، يرفع له بقدر غدره، ألاَ. ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامّة. (¬2) أخرج البخاري في " الصحيح " (7111) عن نافع قال: لَمَّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابنُ عمر حشمَه وولدَه، فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينصب لكل غادرٍ لواء يوم القيامة , وإنّا قد بايعنا هذا الرجلَ على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يُبايع رجلٌ على بيع الله ورسوله , ثم يُنصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعَه، ولا بايع في هذا الأمر، إلَّا كانت الفيصل بيني وبينه.

قوله: (لواء) اللواء بكسر اللام والمدّ هي الرّاية، ويسمّى أيضاً العلم. قوله: (هذه غدرة فلان ابن فلان) فيه أنّ النّاس يُدعون يوم القيامة بآبائهم لقوله فيه " هذه غدرة فلان ابن فلان ". قال ابن دقيق العيد: وإن ثبت أنّهم يدعون بأمّهاتهم , فقد يخصّ هذا من العموم. وقال ابن بطّال: في هذا الحديث ردٌّ لقول من زعم أنّهم لا يدعون يوم القيامة إلَّا بأمّهاتهم ستراً على آبائهم. قلت: هو حديث أخرجه الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس. وسنده ضعيف جدّاً، وأخرج ابن عديّ من حديث أنس مثله , وقال: منكر. أورده في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الطّبريّ. قال ابن بطّال: والدّعاء بالآباء أشدّ في التّعريف وأبلغ في التّمييز. وفي الحديث جواز الحكم بظواهر الأمور. قلت: وهذا يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدّنيا لا على ما هو في نفس الأمر وهو المعتمد، وينظر كلامه من شرحه. وقال ابن أبي جمرة: والغدر على عمومه في الجليل والحقير. وفيه أنّ لصاحب كلّ ذنب من الذّنوب التي يريد الله إظهارها علامة يعرف بها صاحبها، ويؤيّده قوله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم}.

قال: وظاهر الحديث أنّ لكل غدرة لواء، فعلى هذا يكون للشّخص الواحد عدّة ألوية بعدد غدراته. قال: والحكمة في نصب اللواء أنّ العقوبة تقع غالباً بضدّ الذّنب، فلمّا كان الغدر من الأمور الخفيّة ناسب أن تكون عقوبته بالشّهرة، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب. وتمسّك بالحديث قوم في ترك الجهاد مع ولاة الجور الذين يغدرون. كما حكاه الباجيّ. (¬1) ¬

_ (¬1) المسألة مقيَّدة بالغادر. لا الجائر غير الغادر. قال البخاري: باب: الجهاد ماض مع البر والفاجر. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. ثم ساق سنده عن عروة البارقي - رضي الله عنه - وزاد: الأجر والمغنم. قال الشارح: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبو داود وأبو يعلى مرفوعاً وموقوفاً عن أبي هريرة. ولا بأس برواته إلَّا أن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة. وفي الباب عن أنس. أخرجه سعيد بن منصور وأبو داود أيضاً. وفي إسناده ضعف وقوله: (لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الخيل معقود .. إلخ) سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة , وفسره بالأجر والمغنم. المغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد , ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلاً. فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر. انتهى

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 415 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ امرأةً وُجدت في بعض مغازي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مقتولةً، فأنكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قتلَ النساءِ والصبيانِ. (¬1) قوله: (فأنكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قتلَ النساءِ والصبيانِ) روى الطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث أبي سعيد قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النّساء والصّبيان , وقال: هما لمن غلب. وأخرج الشيخان من رواية سفيان عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذراري من المشركين يُبيَّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم , وفي رواية " هم من آبائهم ". زاد الإسماعيليّ في طريق جعفر الفريابيّ عن علي بن المديني عن سفيان: وكان الزّهريّ إذا حدّث بهذا الحديث قال: وأخبرني ابن كعب بن مالك عن عمّه , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النّساء والصّبيّان. وهذا الحديث أخرجه أبو داود بمعناه من وجه آخر عن الزّهريّ، وكأنّ الزّهريّ أشار بذلك إلى نسخ حديث الصّعب. وقال مالك والأوزاعيّ: لا يجوز قتل النّساء والصّبيان بحال حتّى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2851 , 2852) ومسلم (1744) من طريق الليث وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

لو تترّس أهل الحرب بالنّساء والصّبيان , أو تحصّنوا بحصن , أو سفينة وجعلوا معهم النّساء والصّبيان , لَم يجز رميهم ولا تحريقهم. وقد أخرج ابن حبّان في حديث الصّعب زيادة في آخره " ثمّ نهى عنهم يوم حنينٍ " وهي مدرجة في حديث الصّعب، وذلك بيّن في سنن أبي داود فإنّه قال في آخره " قال سفيان: قال الزّهريّ: ثمّ نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن قتل النّساء والصّبيان ". ويؤيّد كون النّهي في غزوة حنينٍ ما سيأتي في حديث رياح بن الرّبيع الآتي " فقال لأحدهم: الحَقْ خالداً , فقل له: لا تقتل ذرّيّة ولا عسيفاً ". والعسيف بمهملتين وفاء الأجير وزناً ومعنىً، وخالد أوّل مشاهده مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غزوة الفتح، وفي ذلك العام كانت غزوة حنينٍ. وأخرج الطّبرانيّ في " الأوسط " من حديث ابن عمر قال: لَمَّا دخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مكّة أتي بامرأةٍ مقتولة , فقال: ما كانت هذه تقاتل. ونهى. فذكر الحديث. وأخرج أبو داود في " المراسيل " عن عكرمة , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأةً مقتولة بالطّائف , فقال: أَلَم أَنْه عن قتل النّساء، مَن صاحبها؟ فقال رجلٌ: أنا يا رسولَ الله. أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني فقتلتها، فأمر بها أن توارى. ويحتمل: في هذه التّعدّد. والذي جنح إليه غيرهم الجمع بين الحديثين. فإذا لَم يمكن الوصول

إلى الآباء إلَّا بوطء الذّرّيّة فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم، وهو قول الشّافعيّ والكوفيّين، وقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها. وقال ابن حبيب من المالكيّة: لا يجوز القصد إلى قتلها إلَّا إن باشرت القتل وقصدت إليه. قال: وكذلك الصّبيّ المراهق. ويؤيّد قول الجمهور. ما أخرجه أبو داود والنّسائيّ وابن حبّان من حديث رياح بن الرّبيع - وهو بكسر الرّاء والتّحتانيّة - التّميميّ قال: كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى النّاس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل. فإنّ مفهومه أنّها لو قاتلت لقتلت. واتّفق الجميع كما نقل ابن بطّال وغيره. على منع القصد إلى قتل النّساء والولدان، أمّا النّساء فلضعفهنّ، وأمّا الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولِمَا في استبقائهم جميعاً من الانتفاع بهم إمّا بالرّقّ أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به. وحكى الحازميّ: قولاً بجواز قتل النّساء والصّبيان على ظاهر حديث الصّعب، وزعم: أنّه ناسخ لأحاديث النّهي، وهو غريبٌ. ويستنبط من الحديث الرّدّ على من يتخلى عن النّساء وغيرهنّ من أصناف الأموال زهداً , لأنّهم وإن كان قد يحصل منهم الضّرر في الدّين , لكن يتوقّف تجنّبهم على حصول ذلك الضّرر، فمتى حصل اجتنبت وإلَّا فليتناول من ذلك بقدر الحاجة.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 416 - عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - , أنّ عبد الرحمن بن عوفٍ، والزبير بن العوام، شكيا القمْلَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ لهما، فرخَّص لهما في قميصِ الحرير، ورأيته عليهما. (¬1) قوله: (عبد الرحمن بن عوف) الزُّهري أحد العشرة. قوله: (والزبير بن العوام) ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، حواريُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - , يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي، وعدد ما بينهما من الآباء سواء، وأمُّه صفية بنت عبد المطلب عمةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان يكنى أبا عبد الله، وروى الحاكم بإسناد صحيح عن عروة قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. قوله: (شكيا القمل) القمل: الحُمنان بضم المهملة وسكون الميم شبة صغار الحلم - بفتح المهملة واللام. قال أبو عبيدة: القمل عند العرب هو الحمنان , والحمنان ضرب من القردان واحدتها حمنانة. انتهى وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عند البخاري " من حكّةٍ كانت بهما " , وكذا قال شعبة في أحد الطّريقين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2762 , 2763 , 2764 , 5501) ومسلم (2076) من طرق عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه -. بلفظ " شكوا ". أما لفظ " شكيا " بالتثنية. فهو عند الترمذي (1722).

وفي رواية همّام عن قتادة عند البخاري في أحد الطّريقين " يعني القمل ". ورجّح ابن التّين الرّواية التي فيها الحكّة , وقال: لعلَّ أحدَ الرّواة تأوّلها فأخطأ. وجمع الدّاوديّ: باحتمال أن يكون إحدى العلّتين بأحد الرّجلين. وقال ابن العربيّ: قد ورد أنّه أرخص لكلٍّ منهما , فالإفراد يقتضي أنّ لكلٍّ حكمة. قلت: ويمكن الجمع بأنّ الحكّة حصلت من القمل فنسبت العلة تارةً إلى السّبب وتارةً إلى سبب السّبب. ووقع عند البخاري في رواية محمّد بن بشّار عن غندر عن شعبة " رخّص أو أرخص " كذا بالشّكّ , وقد أخرجه أحمد عن غندر بلفظ " رخصّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " , وكذا قال وكيعٌ عن شعبة. كما في البخاري في كتاب اللباس. وأمّا تقييده (¬1) بالحرب. فكأنّه أخذه من قوله في رواية همّامٍ " فرأيته عليهما في غزاة " , ووقع في رواية أبي داود " في السّفر من حِكّةٍ " وقد ترجم له في اللباس (ما يرخّص للرّجال من الحرير للحكّة) , ولَم يقيّده بالحرب. فزعم بعضهم أنّ الحرب في التّرجمة بالجيم وفتح الرّاء. وليس كما زعم , لأنّها لا يبقى لها في أبواب الجهاد مناسبةٌ , ويلزم ¬

_ (¬1) أي: البخاري حيث ترجم للحديث في باب الجهاد (باب الحرير في الحرب)

منه إعادة التّرجمة في اللباس , إذ الحكّة والجرب متقاربان. وجعل الطّبريُّ جوازَه في الغزو مستنبطاً من جوازه للحكّة. فقال: دلَّتِ الرّخصة في لبسه بسبب الحكّة أنّ من قصد بلبسه ما هو أعظم من أذى الحكّة كدفع سلاح العدوّ ونحو ذلك فإنّه يجوز. وقد تبع التّرمذيُّ البخاريَّ فترجم له " باب ما جاء في لبس الحرير في الحرب ". ثمّ المشهور عن القائلين بالجواز أنّه لا يختصّ بالسّفر , وعن بعض الشّافعيّة يختصّ. واختاره ابن الصّلاح. وخصّه النّوويّ في " الرّوضة " مع ذلك بالحكّة , ونقله الرّافعيّ في القمل أيضاً. وقال القرطبيّ: الحديث حجّةٌ على من منع , إلَّا أن يدّعي الخصوصيّة بالزّبير وعبد الرّحمن , ولا تصحّ تلك الدّعوى. قلت: قد جنح إلى ذلك عمر - رضي الله عنه - , فروى ابن عساكر (¬1) من طريق ابن عوف عن ابن سيرين , أنّ عمر رأى على خالد بن الوليد قميصَ حريرٍ , فقال: ما هذا؟ فذكر له خالد قصّة عبد الرّحمن بن عوف , فقال: وأنت مثل عبد الرّحمن؟ أو لك مثل ما لعبد الرّحمن؟ ثمّ أمر من حضره فمزّقوه. رجاله ثقاتٌ إلَّا أنّ فيه انقطاعاً. وقد اختلف السّلف في لباسه. القول الأول: منع مالكٌ وأبو حنيفة مطلقاً. ¬

_ (¬1) هو علي بن الحسن , سبق ترجمته (1/ 114)

القول الثاني: وقال الشّافعيّ وأبو يوسف بالجواز للضّرورة. القول الثالث: حكى ابن حبيب عن ابن الماجشون , أنّه يستحبّ في الحرب. وقال المُهلَّب: لباسه في الحرب لإرهاب العدوّ , وهو مثل الرّخصة في الاختيال في الحرب. انتهى ووقع في كلام النّوويّ تبعاً لغيره , أنّ الحكمة في لبس الحرير للحكّة لِمَا فيه من البرودة. وتعقّب: بأنّ الحرير حارٌّ , فالصّواب أنّ الحكّة فيه لخاصّةٍ فيه لدفعٍ ما تنشأ عنه الحكّة كالقمل. والله أعلم. تنْبيهٌ: وقع في " الوسيط للغزاليّ ": أنّ الذي رخّص له في لبس الحرير حمزة بن عبد المطلب، وغلَّطوه.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 417 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - , قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لَم يوجف المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصاً، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعزل نفقة أهله سنةً، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسّلاح، عدّةً في سبيل الله عز رجل. (¬1) قوله: (كانت أموال بني النضير) بفتح النّون وكسر الضّاد المعجمة، هم قبيلة كبيرة من اليهود. قوله: (مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -) أصل الفيء الرّدّ والرّجوع، ومنه سُمِّي الظّلّ بعد الزّوال فيئاً لأنّه رجع من جانب إلى جانب، فكأنّ أموال الكفّار سُمِّيت فيئاً , لأنّها كانت في الأصل للمؤمنين. إذ الإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه، فإذا غلب الكفّار على شيء من المال فهو بطريق التّعدّي , فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنّه رجع إليهم ما كان لهم. واختلف العلماء في مصرف الفيء. القول الأول: قال مالك: الفيء والخمس سواءٌ يجعلان في بيت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2748 , 2927، 3809، 4603، 5042، 5043، 6347، 6875) ومسلم (1757) من طرق عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر - رضي الله عنه -.

المال , ويعطي الإمام أقارب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحسب اجتهاده. القول الثاني: فرّق الجمهور بين خمس الغنيمة وبين الفيء. فقال: الخمس موضوع فيما عيّنه الله فيه من الأصناف المسمَّين في آية الخمس من سورة الأنفال لا يتعدّى به إلى غيرهم. وأمّا الفيء: فهو الذي يرجع النّظر في مصرفه إلى رأي الإمام بحسب المصلحة. وانفرد الشّافعيّ كما قال ابن المنذر وغيره. بأنّ الفيء يخمّس، وأنّ أربعة أخماسه للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وله خمس الخمس كما في الغنيمة، وأربعة أخماس الخمس لمستحقّ نظيرها من الغنيمة. وقال الجمهور: مصرف الفيء كلّه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واحتجّوا بقول عمر: فكانت هذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصّة. وتأوّل الشّافعيّ قولَ عمر المذكور بأنّه يريد الأخماس الأربعة. قوله: (مما لَم يوجف المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركابٍ) أي: لَم يؤخذ بغلبة الجيش , وأصل الايجاف الإسراع في السير. وكان الكفّار بعد الهجرة مع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقسام: القسم الأول: وادَعَهم على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوّه، وهم طوائف اليهود الثّلاثة قريظة والنّضير وقينقاع. القسم الثاني: حاربوه ونصبوا له العداوة كقريشٍ. القسم الثالث: تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف من العرب.

فمنهم من كان يحبّ ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر. ومنهم من كان معه ظاهراً , ومع عدوّه باطناً وهم المنافقون. فكان أوّل من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع فحاربهم في شوّال بعد وقعة بدر فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبيّ - وكانوا حلفاءه - فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات (¬1). ثمّ نقض العهد بنو النّضير، وكان رئيسهم حييّ بن أخطب. ثمّ نقضت قريظة بعد غزوة الخندق. وأخرج عبد الرّزّاق في " مصنّفه " عن معمر عن الزّهريّ عن عروة: كانت غزوة بني النّضير - وهم طائفة من اليهود - على رأس ستّة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى نزلوا على الجلاء , وعلى أنّ لهم ما أقلَّت الإبل من الأمتعة والأموال لا الحلقة. يعني السّلاح , فأنزل الله فيهم {سبّح لله - إلى قوله - لأوّل الحشر} , وقاتلهم حتّى صالحهم ¬

_ (¬1) بالفتح ثم السكون وكسر الراء: اتفق الأقدمون على أنها بالشام، واختلفوا في تحديد موقعها .. وإذا كانت أذرعات هي (أذرع) فهي اليوم قريةٌ من عمل حوران داخل الحدود السورية قرب مدينة درعا، شمالاً، يسار الطريق , وأنت تؤمُّ دمشق .. ورد ذكرها أيام الفتوح، لَمَّا قدم عمر بن الخطاب الشام لقيه المقلّسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان ... قال أبو الفتح: وأذرعات: تصرف ولا تصرف. والصرف أمثل، والتاء في الحالين مكسورة، وأما فتحها فمحذور عندنا، لأنها إنْ فتحت زالت دلالتها على الجمع. المعالم الأثيرة في السنة والسيرة (1/ 25) لمحمد شراب رحمه الله.

على الجلاء فأجلاهم إلى الشّام، وكانوا من سبْط لَم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء , ولولا ذلك لعذّبهم في الدّنيا بالقتل والسّباء. وقوله (لأوّل الحشر) فكان جلاؤهم أوّل حشرٍ. حشراً في الدّنيا إلى الشّام. واتّفق أهل العلم على أنّها نزلت في هذه القصّة، قاله السّهيليّ. قال: ولَم يختلفوا في أنّ أموال بني النّضير كانت خاصّة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وأنّ المسلمين لَم يوجفوا بخيلٍ ولا ركاب , وأنّه لَم يقع بينهم قتال أصلاً. قال البخاري: وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأحدٍ. وقد ذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره من أهل العلم , أنّ عامر بن الطّفيل أعتق عمرو بن أُميَّة لَمَّا قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمّه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: ممّن أنتما؟ فذكرا أنّهما من بني عامر فتركهما حتّى ناما فقتلهما عمرو وظنّ أنّه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك , فقال: لقد قتلت قتيلين لأودينّهما. انتهى وخبرُ غزوة بئر معونة بعد غزوة أحد، وفيها عن عروة , أنّ عمرو بن أُميَّة الضّمريّ كان مع المسلمين، فأسره المشركون. قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النّضير يستعينهم في ديتهما فيما حدّثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النّضير وبني

عامر عقد وحلف، فلمّا أتاهم يستعينهم , قالوا: نعم. ثمّ خلا بعضهم ببعضٍ , فقالوا: إنّكم لن تجدوه على مثل هذه الحال. قال: وكان جالساً إلى جانب جدار لهم، فقالوا: مَن رجلٌ يعلو على هذا البيت فيلقي هذه الصّخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأتاه الخبر من السّماء , فقام مظهراً أنّه يقضي حاجة , وقال لأصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعاً إلى المدينة، واستبطأه أصحابه فأخبروا أنّه توجّه إلى المدينة، فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصّنوا، فأمر بقطع النّخل والتّحريق ". وذكر ابن إسحاق: أنّه حاصرهم ستّ ليالٍ، وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنّعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم، فتربّصوا، فقذف الله في قلوبهم الرّعب فلم ينصروهم، فسألوا أن يخلّوا عن أرضهم على أنّ لهم ما حملت الإبل فصولحوا على ذلك. وروى البيهقيّ في " الدّلائل " من حديث محمّد بن مسلمة , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى بني النّضير وأمره أن يؤجّلهم في الجلاء ثلاثة أيّام. قال ابن إسحاق: فاحتملوا إلى خيبر وإلى الشّام، قال: فحدّثني عبد الله بن أبي بكر , أنّهم جلوا عن الأموال من الخيل والمزارع , فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصّة. قال ابن إسحاق: ولَم يسلم منهم إلَّا يامين بن عمير وأبو سعيد بن وهب فأحرزا أموالهما. وروى ابن مردويه قصّة بني النّضير بإسنادٍ صحيحٍ إلى معمر عن

الزّهريّ أخبرني عبد الله بن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كتب كفّار قريش إلى عبد الله بن أبيّ وغيره ممّن يعبد الأوثان قبل بدر يهدّدونهم بإيوائهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويتوعّدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فهمّ ابنُ أبيٍّ ومَن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم، فلمّا سمعوا ذلك عرفوا الحقّ فتفرّقوا. فلمّا كانت وقعة بدر كتبت كفّار قريش بعدها إلى اليهود: أنّكم أهل الحلقة والحصون،، يتهدّمونهم، فأجمع بنو النّضير على الغدر. فأرسلوا إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتّبعناك. ففعل. فاشتمل اليهود الثّلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النّضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النّضير، فأخبر أخوها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصبّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثمّ غدا على بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه فانصرف عنهم إلى بني النّضير، فقاتلهم حتّى نزلوا على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل إلَّا السّلاح، فاحتملوا حتّى أبواب بيوتهم، فكانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أوّل حشر النّاس إلى الشّام " وكذا أخرجه عبد بن حميدٍ في " تفسيره " عن عبد الرّزّاق.

وفي ذلك ردّ على ابن التّين في زعمه أنّه ليس في هذه القصّة حديث بإسنادٍ. قلت: فهذا أقوى ممّا ذكر ابن إسحاق , من أنّ سبب غزوة بني النّضير طلبه - صلى الله عليه وسلم - أن يعينوه في دية الرّجلين، لكن وافق ابنَ إسحاق جلُّ أهل المغازي، فالله أعلم. وإذا ثبت أنّ سبب إجلاء بني النّضير ما ذكر من همّهم بالغدر به - صلى الله عليه وسلم - , وهو إنّما وقع عند ما جاء إليهم ليستعين بهم في دية قتيلَي عمرو بن أُميَّة، تعيّن ما قال ابن إسحاق، لأنّ بئر معونة كانت بعد أحد بالاتّفاق. وأغرب السّهيليّ فرجّح ما قال الزّهريّ، ولولا ما ذكر في قصّة عمرو بن أُميَّة لأمكن أن يكون ذلك في غزوة الرّجيع، والله أعلم. قوله: (وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصاً) وللبخاري " إنّ الله قد خصّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الفيء بشيءٍ " , وفي رواية مسلم " بخاصّةٍ لَم يخصص بها غيره ". وفي رواية سفيان عن معمرٍ عن الزّهريّ. في البخاري " كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يبيع نخل بني النّضير , ويحبس لأهله قوت سنتهم " أي: ثمر النّخل. في رواية أبي داود من طريق أسامة بن زيد عن ابن شهاب: كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث صفايا: بنو النّضير، وخيبر، وفدك. فأمّا بنو النّضير فكانت حبساً لنوائبه، وأمّا فدك فكانت حبساً لأبناء السّبيل،

وأمّا خيبر فجزّأها بين المسلمين ثمّ قسّم جزءاً لنفقة أهله، وما فضل منه جعله في فقراء المهاجرين. ولا تعارض بينهما لاحتمال أن يقسم في فقراء المهاجرين وفي مشتري السّلاح والكراع، وذلك مفسّرٌ لرواية معمر عند مسلم " ويجعل ما بقي منه مجعل مال الله " , وزاد أبو داود في رواية أبي البختريّ المذكورة " وكان ينفق على أهله ويتصدّق بفضله ". وهذا لا يعارض حديث عائشة , أنّه - صلى الله عليه وسلم - توفّي ودرعه مرهونة على شعير (¬1). لأنّه يُجمع بينهما بأنّه كان يدّخر لأهله قوت سنتهم ثمّ في طول السّنة يحتاج لمن يطرقه إلى إخراج شيءٍ منه فيخرجه، فيحتاج إلى أن يعوّض من يأخذ منها عوضه، فلذلك استدان. قوله: (فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعزل نفقة أهله سنةً) قال ابن دقيق العيد: في الحديث جواز الادّخار للأهل قوت سنة , وفي السّياق ما يؤخذ منه الجمع بينه وبين حديث " كان لا يدّخر شيئاً لغدٍ " (¬2) فيحمل على الادّخار لنفسه , وحديث الباب على الادّخار لغيره، ولو كان له في ذلك مشاركة، لكنّ المعنى أنّهم المقصد بالادّخار دونه حتّى ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة المتقدِّم في باب الرهن رقم (283) (¬2) أخرجه الترمذي (2362) والبيهقي في " الشعب " (3/ 59) وابن حبان في " صحيحه " (6356) والمقدسي في " المختارة " (1601) والبغوي في " شرح السنة " (13/ 253) من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - به. وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريبٌ , وقد روي هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. تنبيه: عزى الحديثَ الشارح رحمه الله في موضع آخر لمسلم. وهو وهمٌ منه.

لو لَم يوجدوا لَم يدّخر. قال: والمتكلمون على لسان الطّريقة جعلوا أو بعضهم ما زاد على السّنة خارجاً عن طريقة التّوكّل. انتهى. وفيه إشارة إلى الرّدّ على الطّبريّ حيث استدل بالحديث على جواز الادّخار مطلقاً خلافاً لمن منع ذلك، وفي الذي نقله الشّيخ تقييد بالسّنة اتّباعاً للخبر الوارد. لكن استدلال الطّبريّ قويّ، بل التّقييد بالسّنة إنّما جاء من ضرورة الواقع , لأنّ الذي كان يدّخر لَم يكن يحصل إلَّا من السّنة إلى السّنة، لأنّه كان إمّا تمراً وإمّا شعيراً، فلو قدّر أنّ شيئاً ممّا يدّخر كان لا يحصل إلَّا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادّخار لأجل ذلك، والله أعلم. ومع كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يحتبس قوت سنة لعياله فكان في طول السّنة ربّما استجرّه منهم لمن يرد عليه ويعوّضهم عنه، ولذلك مات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة على شعير اقترضه قوتاً لأهله. (¬1) واختلف في جواز ادّخار القوت لمن يشتريه من السّوق. قال عياض: أجازه قوم واحتجّوا بهذا الحديث، ولا حجّة فيه لأنّه إنّما كان من مغلٍّ الأرض، ومنعه قوم إلَّا إن كان لا يضرّ بالسّعر، وهو متّجه إرفاقاً بالنّاس. ثمّ محلّ هذا الاختلاف إذا لَم يكن في حال الضّيق، وإلَّا فلا يجوز ¬

_ (¬1) انظر حديث عائشة المتقدِّم في البيوع برقم (283)

الادّخار في تلك الحالة أصلاً. قوله: (ثم يجعل ما بقي في الكراع والسّلاح، عدّةً في سبيل الله عز وجل) الكراع بضم الكاف وتخفيف الراء اسم لجميع الخيل. والمجنّ: بكسر الميم وفتح الجيم وتثقيل النون. أي: الدرقة. من جملة آلات السّلاح. كما روى سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عمر , أنّه كانت عنده درقةٌ , فقال: لولا أنّ عمر قال لي: احبس سلاحك , لأعطيت هذه الدّرقة لبعص أولادي. قال ابن المنير: وجه هذه التراجم (¬1) دفع من يتخيّل أنّ اتّخاذه هذه الآلات ينافي التّوكّل , والحقّ أنّ الحذر لا يردّ القدر , ولكن يضيّق مسالك الوسوسة لِما طُبع عليه البشر. ¬

_ (¬1) قال البخاري: باب المجن ومن يتّرس بترس صاحبه. ثم روى حديث أنس: كان أبو طلحة يتتَّرس بترس صاحبه. وحديثَ سهل. في كسر البيضة على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر حديث الباب.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 418 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , قال: أجرى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما ضمّر من الخيل، من الْحفياء إلى ثنيّة الوداع، وأجرى ما لَم يضمّر من الثّنيّة إلى مسجد بني زريقٍ. قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى. قال سفيان: من الْحفياء إلى ثنيّة الوداع: خمسة أميالٍ أو ستةٌ، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريقٍ: ميلٌ. (¬1) قوله: (أجرى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما ضمّر من الخيل) ولهما من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بالخيل التي قد أضمرت. بضمّ أوّله وسكون الضّاد المعجمة. والمراد به أن تُعلف الخيل حتّى تسمن وتقوى , ثمّ يُقلل علفها بقدر القوت , وتدخل بيتاً وتغشّى بالجلال حتّى تحمى فتعرق , فإذا جفّ عرقها خفّ لحمها وقويت على الجري. وقوله فيها " أجرى " وفي الرواية الأخرى " سابق " وهو بمعناه. تكميل: السَّبْق بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر , وبالتحريك الرهن الذي يوضع لذلك. قوله: (من الْحفياء) بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها تحتانيّة ومدّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (410 , 2713 , 1714 , 2715، 6905) ومسلم (1870) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -. وسفيان هو الثوري. وقوله هذا ذكره البخاري دون مسلم.

مكانٌ خارج المدينة من جهةٍ (¬1). ويجوز القصر. وحكى الحازميّ تقديم الياء التّحتانيّة على الفاء , وحكى عياض ضمّ أوّله. وخطّأه. قوله: (إلى ثنيّة الوداع) الثّنيّة ما ارتفع في الأرض. وقيل: الطّريق في الجبل. وأخرج البخاري عن السّائب بن يزيد , قال: أذكر أنّي خرجت مع الصّبيان نتلقّى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ثنيّة الوداع مقدمه من غزوة تبوك. وأنكر الدّاوديّ هذا وتبعه ابن القيّم , وقال: ثنيّة الوداع من جهة مكّة لا من جهة تبوك , بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب. قال: إلَّا أن يكون هناك ثنيّةٌ أخرى في تلك الجهة. قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر إلى الشّام من جهتها , وهذا واضحٌ كما في دخول مكّة من ثنيّةٍ والخروج منها من أخرى , وينتهي كلاهما إلى طريقٍ واحدةٍ. وأخرج أبو سعيدٍ في " شرف المصطفى " , وروّيناه في " فوائد الْخِلَعيّ " من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعاً: لَمَّا دخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل الولائد يقلن: طلع البدر علينا من ثنيّة الوداع ... وجب الشّكر علينا ما دعا لله داع. قوله: (إلى مسجد بني زريقٍ) زريق - بتقديم الزّاي - مصغّراً. ويستفاد منه جواز إضافة المساجد إلى بانيها أو المُصلِّي فيها، ¬

_ (¬1) بياض بالأصل. ووادي الحفياء من الجهة الشمالية الغربية من المدينة النبوية.

ويلتحق به جواز إضافة أعمال البرّ إلى أربابها. وإنّما أورد البخاري التّرجمة بلفظ الاستفهام (¬1) لينبّه على أنّ فيه احتمالاً. إذ يحتمل: أن يكون ذلك قد علِمَه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. بأن تكون هذه الإضافة وقعت في زمنه. ويحتمل: أن يكون ذلك ممّا حدث بعده. والأوّل أظهر. والجمهور على الجواز. والمخالف في ذلك إبراهيم النّخعيّ. فيما رواه ابن أبي شيبة عنه , أنّه كان يكره أن يقول مسجد بني فلان , ويقول: مصلَّى بني فلان لقوله تعالى {وأنّ المساجد لله}. وجوابه: أنّ الإضافة في مثل هذا إضافة تمييز لا ملك. قوله: (قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى) في رواية لهما " وأنّ عبد الله بن عمر كان ممّن سابق بها " , وزاد الإسماعيليّ من طريق إسحاق - وهو الأزرق - عن الثّوريّ عن عبيد الله عن نافع في آخره: قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى , فوثب بي فرسي جداراً. وأخرجه مسلم من طريق أيّوب عن نافعٍ. وقال فيه: فسبقت النّاس فطفَّفَ بي الفرس مسجد بني زريق. أي: جاوز بي المسجد الذي كان هو الغاية , وأصل التّطفيف مجاوزة الحدّ. قوله: (قال سفيان: من الْحفياء إلى ثنيّة الوداع: خمسة أميالٍ أو ستةٌ، ومن ثنيِّة الوداع إلى مسجد بني زريقٍ: ميلٌ) سفيان هو الثّوريّ ¬

_ (¬1) بقوله في كتاب الصلاة (باب هل يقال مسجد بني فلانٍ؟)

, وهو موصول بالإسناد المذكور. وللبخاري عن أبي إسحاق الفزاري , فقلت لموسى: فكم كان بين ذلك؟ قال: ستة أميال أو سبعة - وسابق بين الخيل التي لَم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع , وكان أمدها مسجد بني زريق , قلت: فكم بين ذلك؟ قال: ميل أو نحوه. إلَّا أنّ سفيان قال في المسافة التي بين الحفياء والثّنيّة: خمسةٌ أو ستّةٌ , وقال موسى: ستّةٌ أو سبعةٌ , وهو اختلافٌ قريبٌ , وقال سفيان في المسافة الثّانية: ميل أو نحوه. وقد وقع في رواية التّرمذيّ من طريق عبيد الله بن عمر. إدراج ذلك في نفس الخبر والخبر " بالسّتّة وبالميل " والأمد الغاية , قال البخاري: وقوله أمداً: غاية. {فطال عليهم الأمد} وهو تفسيرُ أبي عبيدة في " المجاز " وهو متّفقٌ عليه عند أهل اللّغة. قال النّابغة: سَبْق الجواد إذا استولى على الأَمَد. (¬1) وفي الحديث مشروعيّة المسابقة , وأنّه ليس من العبث بل من الرّياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة , وهي دائرةٌ بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك. قال القرطبيّ: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدّوابّ وعلى الأقدام , وكذا التّرامي بالسّهام واستعمال الأسلحة لِمَا ¬

_ (¬1) وصدر البيت ... إلَّا لمِثْلِكَ أَو مَن أَنت سابِقُه ... اللسان (14/ 414)

في ذلك من التّدريب على الحرب. وفيه جواز إضمار الخيل ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المعدّة للغزو. وفيه مشروعيّة الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة , وفيه نسبة الفعل إلى الآمر به لأنّ قوله " سابق " أي: أمر أو أباح. تنْبيهٌ: لَم يتعرّض في هذا الحديث للمراهنة على ذلك , لكن ترجم التّرمذيّ له " باب المراهنة على الخيل ". ولعلَّه أشار إلى ما أخرجه أحمد من رواية عبد الله بن عمر - المكبّر - عن نافعٍ عن ابن عمر , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل وراهن. وقد أجمع العلماء كما تقدّم على جواز المسابقة بغير عوضٍ. لكن قصرها مالك والشّافعيّ على الخفّ والحافر والنّصل. وخصّه بعض العلماء بالخيل. وأجازه عطاء في كل شيء. واتّفقوا على جوازها بعوضٍ بشرط أن يكون من غير المتسابقين كالإمام حيث لا يكون له معهم فرس. وجوّز الجمهور أن يكون من أحد الجانبين من المتسابقين , وكذا إذا كان معهما ثالثٌ مُحلِّل , بشرط أن لا يخرج من عنده شيئاً ليخرج العقد عن صورة القمار , وهو أن يُخرج كلٌّ منهما سبقاً فمَن غلب أخذَ السّبقين فاتّفقوا على منعه. ومنهم: من شرط في المُحلِّل أن يكون لا يتحقّق السّبق في مجلس

السّبق. (¬1) ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود (2579) وابن ماجه (2876) والإمام أحمد (10557) من حديث أبي هريرة رفعه: من أدخل فرساً بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبق، فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين، وهو يأمن أن يسبق، فهو قمار. وسنده ضعيف. قال أبو داود: رواه معْمرٌ وشُعيْبٌ وعقِيلٌ عن الزهري عن رجال من أهل العلم. وهذا أصح عندنا. قال في " حاشية الروض " (5/ 353): في كلامه على شروط السبق. والشرط الرابع. كون العوض معلوماً مباحاً، بلا نزاع، (والخامس) الخروج عن شُبه القمار، فأمَّا من غير المتسابقين فبلا نزاع، ومن أحدهما عند الجمهور، وأما منهما فقيل: إلا بمحلِّل، وأجازه الشيخ وتلميذه وغيرهما من غير محلِّل. وقال (أي ابن القيم): عدم المحلل أولى، وأقرب إلى العدل، من كون السبق من أحدهما، وأبلغ في تحصيل مقصودِ كلٍ منهما، وهو بيان عجز الآخر، وأكل المال بهذا أكل للمال بحق، وأن هذا العمل للمسلمين مأمور به، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة، وأنَّ الميسر والقمار منه لم يحرم بمجرد المخاطرة، بل لأنه أكل للمال بالباطل، أو للمخاطرة المتضمنة له. فقال في خبر " من أدخل فرساً بين فرسين ": إنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل من كلام سعيد بن المسيب، وجوازه بغير محلِّل هو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح، وما علمتُ في الصحابة من اشترط المحلِّل، وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب، وعنه تلقاه الناس، ولهذا قال مالك: لا نأخذ بقول سعيد. وذكر ابن القيم وغيره من الحفاظ: أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال رجل عند جابر بن زيد: إنَّ أصحاب محمد لا يرون بالدخيل بأساً، فقال: هم كانوا أعفَّ من ذلك. قال ابن القيم: انظر إلى فقه الصحابة وجلالهم، أنهم كانوا أعف من أن يحتاجوا إلى دخيل، ونحن نقول كما قال جابر. وذكر المذاهب. ثم قال: ونتولى علماء المسلمين، ونتخير من أقوالهم ما وافق الكتاب والسنة، ونزنها بهما، وبهذا أوصانا أئمة الإسلام. وقال في الخبر على تقدير صحته: الذي يدلُّ عليه لفظه أنه إذا استبق اثنان، وجاء ثالث دخل معهما، فإن كان يتحقق من نفسه سبقهما كان قماراً، لأنه دخل على بصيرة أنه يأكل ما لهما، وإنْ دخل معهما وهو لا يتحقق أن يكون سابقًا، بل يرجو ما يرجوانه، ويخاف ما يخافانه، كان كأحدهما، ولم يكن أكله سبقهما قماراً. وأما اشتراط الدخيل - الذي هو شريك في الربح، بريء من الخسران - فكالمُحلّل في النكاح، والخبر يدلُّ على جواز حِل السبّق من كل باذل، وإذا كان منهما لم يختص أحدهما ببذل ماله لمن يغلبه، بل كل منهما باذلٌ مبذول له باختيار فهما سواء في البذل والعمل، ويسعد الله بسبقه من شاء من خلقه. وقال: والعقد المشتمل على الإخراج منهما أحلُّ من العقد الذي انفرد أحدهما فيه بالإخراج. انتهى من الحاشية.

وفيه أنّ المراد بالمسابقة بالخيل كونها مركوبةً لا مجرّد إرسال الفرسين بغيرٍ راكبٍ لقوله في الحديث " وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها ". كذا استدل به بعضهم. وفيه نظرٌ , لأنّ الذي لا يشترط الرّكوب لا يمنع صورة الرّكوب. وإنّما احتجّ الجمهور بأنّ الخيل لا تهتدي بأنفسها لقصد الغاية بغيرٍ راكبٍ , وربّما نفرت. وفيه نظرٌ , لأنّ الاهتداء لا يختصّ بالرّكوب فلو أنّ الفرس كان ماهراً في الجري بحيث لو كان مع كل فرسٍ ساعٍ يهديها إلى الغاية لأمكن. وفيه جواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيباً لها في غير الحاجة كالإجاعة والإجراء. وفيه تنزيل الخلق منازلهم , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - غاير بين منزلة المضمر وغير المضمر , ولو خلطهما لأتعب غير المضمر.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 419 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , قال: عُرضتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ، وأنا ابن أربع عشرة سنةً، فلم يجزني في المقاتلة، وعُرضتُ عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني. (¬1) قوله: (عُرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ، وأنا ابن أربع عشرة سنةً، فلم يُجزْني) بضم أوله من الإجازة , وعرض الجيش اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال للنّظر في هيئتهم وترتيب منازلهم وغير ذلك. وفي رواية مسلم " عرضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة " , وفي رواية ابن إدريس وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند مسلم " فاستصغرني ". وللبخاري من رواية أبي أسامة عن عبيد الله , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحدٍ، وهو ابن أربع عشرة سنةً فلم يجزني , ثمّ عرضني يوم الخندق. فيه التفات أو تجريد إذ كان السّياق يقتضي أن يقول فلم يجزه , لكنّه التفت، أو جرّد من نفسه أوّلاً شخصاً فعبّر عنه بالماضي ثمّ التفت فقال: " عرضني ". ووقع في رواية يحيى القطّان عن عبيد الله بن عمر في البخاري " ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2521 , 3871) ومسلم (1868) من طرق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -.

فلم يجزه ". قوله: (وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني). أي: أمضاه وأذن له في القتال. وقال الكرمانيّ: أجازه من الإجازة , وهي الأنفال , أي: أسهم له. قلت: والأوّل أولى. ويردّ الثّاني هنا , أنّه لَم يكن في غزوة الخندق غنيمةٌ يحصل منها نفلٌ. وفي حديث أبي واقدٍ الليثيّ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز وردّ من ردّ إلى الذّراريّ. فهذا يوضّح أنّ المراد بالإجازة الإمضاء للقتال، لأنّ ذلك كان في مبدأ الأمر قبل حصول الغنيمة أن لو حصلت غنيمةٌ، والله أعلم. ولَم تختلف الرّواة عن عبيد الله بن عمر في ذلك وهو الاقتصار على ذكر أُحدٍ والخندق، وكذا أخرجه ابن حبّان من طريق مالك عن نافع. وأخرجه ابن سعد في " الطّبقات " عن يزيد بن هارون عن أبي معشر عن نافع عن ابن عمر. فزاد فيه ذكر بدر. ولفظه " عُرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وأنا ابن ثلاث عشرة فردّني، وعرضت عليه يوم أحد ". الحديث. قال ابن سعد: قال يزيد بن هارون: ينبغي أن يكون في الخندق ابن ستّ عشرة سنة. انتهى وهو أقدم من نعرفه استشكل قول ابن عمر هذا، وإنّما بناه على قول ابن إسحاق، وأكثر أهل السّير: أنّ الخندق كانت في سنة خمس

من الهجرة وإن اختلفوا في تعيين شهرها. واتّفقوا على أنّ أُحداً كانت في شوّال سنة ثلاث، وإذا كان كذلك جاء ما قال يزيد أنّه يكون حينئذٍ ابن ستّ عشرة سنة. لكنّ البخاريّ جنح إلى قول موسى بن عقبة في " المغازي " , أنّ الخندق كانت في شوّال سنة أربع. وقد روى يعقوب بن سفيان في " تاريخه " , ومن طريقه البيهقيّ عن عروة نحو قول موسى بن عقبة، وعن مالك الجزم بذلك، وعلى هذا لا إشكال. لكن اتّفق أهل المغازي على أنّ المشركين لَمَّا توجّهوا في أحد نادوا المسلمين: موعدكم العام المقبل بدر، وأنّه - صلى الله عليه وسلم - خرج إليها من السّنة المقبلة في شوّال فلم يجد بها أحداً، وهذه هي التي تسمّى " بدر الموعد " ولَم يقع بها قتال. فتعيّن ما قال ابن إسحاق: إنّ الخندق كانت في سنة خمس , فيحتاج حينئذٍ إلى الجواب عن الإشكال. وقد أجاب عنه البيهقيّ وغيره: بأنّ قول ابن عمر " عرضت يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة " أي: دخلت فيها، وأنّ قوله: " عرضت يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة ". أي: تجاوزتها. فألغى الكسر في الأولى وجبره في الثّانية، وهو شائع مسموع في كلامهم، وبه يرتفع الإشكال المذكور. وهو أولى من التّرجيح. والله أعلم. تنبيهان:

الأوّل: زعم ابن التّين: أنّه ورد في بعض الرّوايات أنّ عرض ابن عمر كان ببدرٍ فلم يجزه ثمّ بأحدٍ فأجازه. قال: وفي رواية عرض يوم أحد وهو ابن ثلاث عشرة فلم يجزه وعرض يوم الخندق وهو ابن أربع عشرة سنة فأجازه. انتهى ولا وجود لذلك، وإنّما وجد ما أشرت إليه عن ابن سعد. أخرجه البيهقيّ من وجه آخر عن أبي معشر، وأبو معشر مع ضعفه لا يخالف ما زاده من ذكر بدر ما رواه الثّقات , بل يوافقهم. الثّاني: زعم ابن ناصر. أنّه وقع في الجمع للحميديّ هنا " يوم الفتح " بدل يوم الخندق. قال ابن ناصر: والسّابق إلى ذلك ابن مسعود أو خَلَفٌ فتبعه شيخنا , ولَم يتدبّره، والصّواب " يوم الخندق " في جميع الرّوايات. وتلقّى ذلك ابن الجوزيّ عن ابن ناصر , وبالغ في التّشنيع على من وهم في ذلك، وكان الأولى ترك ذلك , فإنّ الغلط لا يسلم منه كثيراً أحدٌ. تكميل: زاد الشيخان. قال نافعٌ: فقدِمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفةٌ، فحدّثته هذا الحديث , فقال: إنّ هذا لحدٌّ بين الصّغير والكبير، وكتب إلى عمّاله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة ". زاد مسلم " ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال. وقوله: " أن يفرضوا " أي: يقدّروا لهم رزقاً في ديوان الجند. وكانوا يفرّقون بين المقاتلة وغيرهم في العطاء، وهو الرّزق الذي

يجمع في بيت المال ويفرّق على مستحقّيه. واختلف العلماء في أقلّ سنّ تحيض فيه المرأة ويحتلم فيه الرّجل، وهل تنحصر العلامات في ذلك أم لا؟. وفي السّنّ الذي إذا جاوزه الغلام ولَم يحتلم , والمرأة ولَم تحض يحكم حينئذٍ بالبلوغ؟. فاعتبر مالك والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور الإنبات، إلَّا أنّ مالكاً لا يقيم به الحدّ للشّبهة، واعتبره الشّافعيّ في الكافر، واختلف قوله في المسلم. وقال أبو حنيفة: سنّ البلوغ تسع عشرة أو ثمان عشرة للغلام , وسبع عشرة للجارية. وقال أكثر المالكيّة: حدّه فيهما سبع عشرة أو ثمان عشرة. وقال الشّافعيّ وأحمد وابن وهب والجمهور: حدّه فيهما استكمال خمس عشرة سنة على ما في حديث ابن عمر في هذا الباب , فتجرى عليه أحكام البالغين. وإن لَم يحتلم، فيُكَلَّف بالعبادات وإقامة الحدود، ويستحقّ سهم الغنيمة، ويقتل إن كان حربيّاً، ويفكّ عنه الحجر إن أونس رشده وغير ذلك من الأحكام. وقد عمل بذلك عمر بن عبد العزيز , وأقرّه عليه راوية نافع. وأجاب الطّحاويّ وابن القصّار وغيرهما ممّن لَم يأخذ به: بأنّ الإجازة المذكورة جاء التّصريح بأنّها كانت في القتال، وذلك يتعلق بالقوّة والجلد.

وأجاب بعض المالكيّة: بأنّها واقعة عين فلا عموم لها، ويحتمل: أن يكون صادف أنّه كان عند تلك السّنّ قد احتلم فلذلك أجازه. وتجاسر بعضهم فقال: إنّما ردّه لضعفه لا لسنّه، وإنّما أجازه لقوّته لا لبلوغه. ويردّ على ذلك. ما أخرجه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ، ورواه أبو عوانة وابن حبّان في " صحيحَيهما " من وجه آخر عن ابن جريجٍ أخبرني نافع. فذكر هذا الحديث بلفظ " عُرضت على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق فلم يجزني , ولَم يَرَنِي بلغت " وهي زيادة صحيحة لا مطعن فيها، لجلالة ابن جريجٍ وتقدّمه على غيره في حديث نافع، وقد صرّح فيها بالتّحديث فانتفى ما يخشى من تدليسه، وقد نصَّ فيها لفظ ابن عمر بقوله: " ولَم يرني بلغت " , وابن عمر أعلم بما روى من غيره , ولا سيّما في قصّة تتعلق به. وفي الحديث: أنّ الإمام يستعرض من يخرج معه للقتال قبل أن تقع الحرب , فمن وجده أهلاً استصحبه وإلَّا ردّه، وقد وقع ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في بدر وأحد وغيرهما. وعند المالكيّة والحنفيّة: لا تتوقّف الإجازة للقتال على البلوغ، بل للإمام أن يجيز من الصّبيان من فيه قوّة ونجدة، فربّ مراهق أقوى من بالغ. وحديث ابن عمر حجّة عليهم , ولا سيّما الزّيادة التي ذكرتها عن ابن جريجٍ، والله أعلم.

تكملة: قال الله عزّ وجل: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} في هذه الآية تعليق الحكم ببلوعه الحلم، وقد أجمع العلماء على أنّ الاحتلام في الرّجال والنّساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام , وهو إنزال الماء الدّافق سواء كان بجماعٍ أو غيره سواءٌ كان في اليقظة أو المنام. وأجمعوا على أن لا أثر للجماع في المنام إلَّا مع الإنزال.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 420 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم في النّفل: للفرس سهمين، وللرجل سهماً. (¬1) قوله: (أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم في النّفل) وللبخاري " قسم يوم خيبر للفرس سهمين ". قوله: (للفرس سهمين، وللرجل سهماً) وللبخاري من رواية أبي أسامة عن عبيد الله " جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً ". أي: غير سهمي الفرس فيصير للفارس ثلاثة أسهمٍ. وله أيضاً , أنّ نافعاً فسّره كذلك , ولفظه " إذا كان مع الرّجل فرسٌ فله ثلاثة أسهمٍ , فإن لَم يكن معه فرسٌ فله سهمٌ ". ولأبي داود عن أحمد عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر بلفظ " أسهم لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم سهماً له وسهمين لفرسه ". وبهذا التّفسير يتبيّن أنْ لا وهم فيما رواه أحمد بن منصور الرّماديّ عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وابن نميرٍ كلاهما عن عبيد الله بن عمر , فيما أخرجه الدّارقطني بلفظ " أسهم للفارس سهمين ". قال الدّارقطني عن شيخه أبي بكر النّيسابوريّ: وهِمَ فيه الرّماديّ وشيخه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2708 , 3988) ومسلم (1762) من طرق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه -

قلت: لا. لأنّ المعنى أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين غير سهمه المختصّ به , وقد رواه ابن أبي شيبة في " مصنّفه " و " مسنده " بهذا الإسناد , فقال " للفرس ". وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم في " كتاب الجهاد " له عن ابن أبي شيبة , وكأنّ الرّماديّ رواه بالمعنى. وقد أخرجه أحمد عن أبي أسامة وابن نميرٍ معاً بلفظ " أسهم للفرس ". وعلى هذا التّأويل أيضاً يحمل ما رواه نعيم بن حمّاد عن ابن المبارك عن عبيد الله مثل رواية الرّماديّ. أخرجه الدّارقطني , وقد رواه عليّ بن الحسن بن شقيق - وهو أثبت من نعيمٍ - عن ابن المبارك بلفظ " أسهم للفرس ". وتمسّك بظاهر هذه الرّواية بعض من احتجّ لأبي حنيفة في قوله: إن للفرس سهماً واحداً ولراكبه سهمٌ آخر , فيكون للفارس سهمان فقط. ولا حجّة فيه لِما ذكرنا. واحتجّ له أيضاً بما أخرجه أبو داود من حديث مجمّع بن جارية - بالجيم والتّحتانيّة - في حديثٍ طويلٍ في قصّة خيبر قال: فأعطى للفارس سهمين وللرّاجل سهماً. وفي إسناده ضعفٌ , ولو ثبت يُحمل على ما تقدّم , لأنّه يحتمل الأمرين , والجمع بين الرّوايتين أولى , ولا سيّما والأسانيد الأولى أثبت , ومع رواتها زيادة علمٍ. وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث أبي عمرة , أنّ

النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهماً , فكان للفارس ثلاثة أسهمٍ. وللنّسائيّ من حديث الزّبير , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ضرب له أربعة أسهم سهمين لفرسه وسهماً له وسهماً لقرابته. قال محمّد بن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار , ونُقل عنه أنّه قال: أكره أنّ أفضّل بهيمة على مسلم. وهي شبهةٌ ضعيفةٌ , لأنّ السّهام في الحقيقة كلها للرّجل. قلت: لو لَم يثبت الخبر لكانت الشّبهة قويّة , لأنّ المراد المفاضلة بين الرّاجل والفارس فلولا الفرس ما ازداد الفارس سهمين عن الرّاجل , فمن جعل للفارس سهمين , فقد سوّى بين الفرس وبين الرّجل. وقد تعقّب هذا أيضاً: لأنّ الأصل عدم المساواة بين البهيمة والإنسان. فلمّا خرج هذا عن الأصل بالمساواة , فلتكن المفاضلة كذلك. وقد فضّل الحنفيّة الدّابّة على الإنسان في بعض الأحكام , فقالوا: لو قتل كلبَ صيدٍ قيمته أكثر من عشرة آلافٍ أدّاها , فإن قتل عبداً مسلماً لَم يؤدّ فيه إلَّا دون عشرةٍ آلاف درهم. والحقّ. أنّ الاعتماد في ذلك على الخبر , ولَم ينفرد أبو حنيفة بما قال , فقد جاء عن عمر وعليّ وأبي موسى , لكنّ الثّابت عن عمر وعليّ كالجمهور من حيث المعنى بأنّ الفرس يحتاج إلى مؤنةٍ لخدمتها وعلفها , وبأنّه يحصل بها من الغنى في الحرب ما لا يخفى.

واستدل به على أنّ المشرك إذا حضر الوقعة وقاتل مع المسلمين يسهم له , وبه قال بعض التّابعين كالشّعبيّ , ولا حجّة فيه إذ لَم يرد هنا صيغة عمومٍ. واستدل للجمهور بحديث " لَم تحل الغنائم لأحدٍ قبلنا " متفق عليه. وفي الحديث حضٌّ على اكتساب الخيل واتّخاذها للغزو لِمَا فيها من البركة وإعلاء الكلمة وإعظام الشّوكة. كما قال تعالى {ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوَّ الله وعدوّكم}. واختلف فيمن خرج إلى الغزو , ومعه فرسٌ فمات قبل حضور القتال. فقال مالك: يستحقّ سهم الفرس. وقال الشّافعيّ والباقون: لا يسهم له إلَّا إذا حضر القتال , فلو مات الفرس في الحرب استحقّ صاحبه , وإن مات صاحبه استمرّ استحقاقه وهو للورثة. وعن الأوزاعيّ. فيمن وصل إلى موضع القتال فباع فرسه: يسهم له , لكن يستحقّ البائع ممّا غنموا قبل العقد والمشتري ممّا بعده. وما اشتبه قسّم. وقال غيره: يوقف حتّى يصطلحا. وعن أبي حنيفة: من دخل أرض العدوّ راجلاً لا يقسم له إلَّا سهم راجلٍ , ولو اشترى فرساً وقاتل عليه.

واختلف في غزاة البحر إذا كان معهم خيلٌ. فقال الأوزاعيّ والشّافعيّ: يُسهم له تكميل: هذا الحديث يذكره الأصوليّون في مسائل القياس في مسألة الإيماء. أي: إذا اقترن الحكم بوصفٍ لولا أنّ ذلك الوصف للتّعليل لَم يقع الاقتران , فلمّا جاء سياق واحد أنّه - صلى الله عليه وسلم - أعطى للفرس سهمين وللرّاجل سهماً دلَّ على افتراق الحكم. مسألتان: المسألة الأولى: قال مالك: يسهم للخيل والبراذين لقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها}. قال ابن بطّال: وجه الاحتجاج بالآية. أنّ الله تعالى امتنّ بركوب الخيل , وقد أسهم لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , واسم الخيل يقع على البرذون والهجين بخلاف البغال والحمير , وكأنّ الآية استوعبت ما يركب من هذا الجنس لِمَا يقتضيه الامتنان , فلمّا لَم ينصّ على البرذون والهجين فيها , دلَّ على دخولها في الخيل. قلت: وإنّما ذكر الهجين , لأنّ مالكاً ذكر هذا الكلام في الموطّأ , وفيه " والهجين " والمراد بالهجين ما يكون أحد أبويه عربيّاً والآخر غير عربيّ. وقيل: الهجين الذي أبوه فقط عربيّ , وأمّا الذي أمّه فقط عربيّة فيسمّى المقرف. والبراذين. جمع برذون - بكسر الموحّدة وسكون الرّاء وفتح

المعجمة - والمراد الْجُفاة الْخِلقة من الخيل , وأكثر ما تجلب من بلاد الرّوم , ولها جلدٌ على السّير في الشّعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربيّة. وعن أحمد: الهجين البرذون. ويحتمل: أن يكون أراد في الحكم. وقد وقع لسعيد بن منصور , وفي " المراسيل " لأبي داود عن مكحول , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هجّن الهجين يوم خيبر وعرّب العراب , فجعل للعربيّ سهمين وللهجين سهماً. وهذا منقطع. ويؤيّده ما روى الشّافعيّ في " الأمّ " وسعيد بن منصور من طريق عليّ بن الأقمر , قال: أغارت الخيل فأدركتِ العراب وتأخّرت البراذن , فقام المنذر الوادعيّ فقال: لا أجعل ما أدرك كمن لَم يدرك , فبلغ ذلك عمر. فقال: هَبِلَت الوادعيَّ أمُّه , لقد أَذْكرتْ به (¬1) , أمضوها على ما قال. فكان أوّل من أسهم للبراذين دون سهام العراب. وفي ذلك يقول شاعرهم: ومنّا الذي قد سنّ في الخيل سنّة ... وكانت سواء قبل ذاك سهامها. وهذا منقطع أيضاً وقد أخذ أحمد بمقتضى حديث مكحول في المشهور عنه كالجماعة. وعنه: إن بلغت البراذين مبالغ العربيّة سوّى بينهما وإلَّا فضّلت ¬

_ (¬1) قال في " النهاية " (5/ 240): يقال: هبِلته أُمُّه تهبله هبَلاً، بالتحريك: أي: ثكلته. هذا هو الأصل. ثم يستعمل في معنى المدح والإعجاب. يعني: ما أعلمه وما أصوب رأيه!. وقوله: أذكرت به: أي ولدته ذكراً من الرجال شهماً. انتهى

العربيّة. واختارها الجوزجانيّ وغيره. وعن الليث: يسهم للبرذون والهجين دون سهم الفرس. المسألة الثانية: قال مالك: لا يُسهم لأكثر من فرس , وهو قول الجمهور. وقال الليث وأبو يوسف وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين لا لأكثر، وفي ذلك حديث أخرجه الدّارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ عن أبي عمرة قال: أسهم لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفرسي أربعة أسهمٍ ولي سهماً. فأخذت خمسة أسهم. قال القرطبيّ: ولَم يقل أحدٌ إنّه يسهم لأكثر من فرسين , إلَّا ما روي عن سليمان بن موسى , أنّه يسهم لكل فرس سهمان بالغاً ما بلغت , ولصاحبه سهماً. أي: غير سهمي الفرس.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 421 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفّل بعض من يبعث من السّرايا لأنفسهم خاصّةً، سوى قسم عامّة الجيش. (¬1) قوله: (كان ينفّل بعض ..) زاد مسلمٌ في آخره: " والخمس واجبٌ في ذلك كله " , وليس فيه حجّةٌ أنّ النّفل من الخمس لا من غيره، بل هو محتملٌ لكلٍّ من الأقوال (¬2). نعم. فيه دليلٌ على أنّه يجوز تخصيص بعض السّريّة بالتّنفيل دون بعضٍ. قال ابن دقيق العيد: للحديث تعلّقٌ بمسائل الإخلاص في الأعمال، وهو موضعٌ دقيق المأخذ، ووجه تعلّقه به أنّ التّنفيل يقع للتّرغيب في زيادة العمل والمخاطرة في الجهاد، ولكن لَم يضرّهم ذلك قطعاً , لكونه صدر لهم من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيدلّ على أنّ بعض المقاصد الخارجة عن محض التّعبّد لا تقدح في الإخلاص، لكنّ ضبط قانونها وتمييزها ممّا تضرّ مداخلته مشكلٌ جدّاً. قوله: (السّرايا) قال ابن السكيت: السرية ما بين الخمسة إلى الثلاثمائة , وقال الخليل: هي نحو أربعمائة. (¬3) ويدلُّ له قوله - صلى الله عليه وسلم -: خيرُ السرايا أربعمائة. أخرجه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2966) ومسلم (1750) من طريق ابن شهاب الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله عنه -. واللفظ للبخاري (¬2) تقدم الكلام عليه. انظر حديث ابن عمر - رضي الله عنه - المتقدّم برقم (314) (¬3) انظر الحديث الماضي برقم (413).

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر 422 - عن أبي موسى عبد الله بن قيسٍ الأشعريّ - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - , قال: من حَمَلَ علينا السلاحَ، فليس منّا. (¬1) قوله: (من حَمَلَ علينا السّلاحَ) في حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم " من سَلَّ علينا السّيف " , ومعنى الحديث. حمل السّلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حقّ , لِما في ذلك من تخويفهم وإدخال الرّعب عليهم، وكأنّه كنّى بالحمل عن المقاتلة , أو القتل للملازمة الغالبة. قال ابن دقيق العيد: يحتمل: أن يراد بالحمل ما يضادّ الوضع , ويكون كناية عن القتال به. ويحتمل: أن يراد بالحمل حمله لإرادة القتال به لقرينة قوله " علينا ". ويحتمل: أن يكون المراد حمله للضّرب به، وعلى كلّ حال ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين والتّشديد فيه. انتهى قلت: جاء الحديث بلفظ " من شهر علينا السّلاح " أخرجه البزّار من حديث أبي بكرة، ومن حديث سمرة، ومن حديث عمرو بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6660) ومسلم (100) من طريق بُريد عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه - رضي الله عنه -. وأخرجه الشيخان أيضاً عن ابن عمر رفعه مثله.

عوف. وفي سند كلٍّ منها لِيْن , لكنّها يعضّد بعضها بعضاً. وعند أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ " من رمانا بالنّبل فليس منّا " وهو عند الطّبرانيّ في " الأوسط " بلفظ " الليل " بدل النّبل , وعند البزّار من حديث بريدة مثله. قوله: (فليس منّا) أي: ليس على طريقتنا، أو ليس متّبعاً لطريقتنا، لأنّ من حقّ المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السّلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله. ونظيره " من غشّنا فليس منّا " (¬1) و " ليس منّا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب " (¬2) وهذا في حقّ من لا يستحلّ ذلك، فأمّا من يستحلّه فإنّه يكفر باستحلال المحرّم بشرطه لا مجرّد حمل السّلاح. والأولى عند كثير من السّلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرّض لتأويله. ليكون أبلغ في الزّجر. وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره , فيقول: معناه ليس على طريقتنا، ويرى أنّ الإمساك عن تأويله أولى لِما ذكرناه، والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحقّ , فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالماً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (101) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدّم في الجنائز من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (172).

الحديث العشرون

الحديث العشرون 423 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميّةً، ويقاتل رياءً، أيّ ذلك في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله. (¬1) قوله: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل) وللبخاري من رواية سليمان بن حرب عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل " جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل ". ولهما من رواية غندر عن شعبة " قال أعرابي ". وهذا يدلّ على وهْم ما وقع عند الطّبرانيّ من وجه آخر عن أبي موسى , أنّه قال: يا رسولَ الله. فذكره، فإنّ أبا موسى - وإن جاز أن يُبهم نفسه - لكن لا يصفها بكونه أعرابيّاً. وهذا الأعرابيّ يصلح أن يُفسَّر بلاحق بن ضميرة، وحديثه عند أبي موسى المدينيّ في " الصّحابة " من طريق عفير بن معدان. سمعت لاحق بن ضميرة الباهليّ , قال: وفدت على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن الرّجل يلتمس الأجر والذّكر؟. فقال: لا شيء له. الحديث، وفي إسناده ضعف. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (123 , 2655، 2958، 7020) ومسلم (1904) من طرق عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي موسى.

وروّينا في " فوائد أبي بكر بن أبي الحديد " بإسنادٍ ضعيف عن معاذ بن جبل أنّه قال: يا رسولَ الله كلّ بني سلمة يقاتل فمنهم من يقاتل رياء .. الحديث. فلو صحّ لاحتمل أن يكون معاذ أيضاً سأل عمّا سأل عنه الأعرابيّ، لأنّ سؤال معاذ خاصّ وسؤال الأعرابيّ عامّ، ومعاذ أيضاً لا يقال له أعرابيّ. فيحمل على التّعدّد (¬1) قوله: (عن الرجل يقاتل شجاعةً) في رواية منصور عن أبي وائل في الصحيحين " فقال: ما القتال في سبيل الله؟ فإنّ أحدنا يقاتل ". وفي رواية شعبة عن عمرو " الرّجل يقاتل للمغنم , والرجل يقاتل للذكر ". أي: ليذكر بين النّاس , ويشتهر بالشّجاعة , وهي رواية الباب حيث قال " ويقاتل شجاعة ". قوله: (ويقاتل حَميَّةً) أي: لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، وزاد في رواية منصور " ويقاتل غضباً " أي: لأجل حظّ نفسه. ويحتمل: أن يفسّر القتال للحميّة بدفع المضرّة، والقتال غضباً بجلب المنفعة. قوله: (ويقاتل رياءً) في رواية لهما " والرّجل يقاتل ليُرى مكانه " ¬

_ (¬1) ويقوِّيه رواية مسلم (1904) قال أبو موسى: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا رسول الله، الرجل يقاتل منا شجاعة ... "

فمرجعه إلى السّمعة , ومرجع رواية الباب إلى الرّياء , وكلاهما مذموم. فالحاصل من رواياتهم. أنّ القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشّجاعة، والرّياء، والحميّة، والغضب، وكلّ منها يتناوله المدح والذّمّ، فلهذا لَم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنّفي. قوله: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا , فهو في سبيل الله) أي: كلمة توحيد الله , وهي المراد بقوله تعالى {قل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} الآية. ويحتمل: أن يكون المراد بالكلمة القضيّة , قال الرّاغب: كلّ قضيّة تسمّى كلمة , سواء كانت قولاً أو فعلاً , والمراد هنا حكمه وشرعه , والمراد دعوة الله إلى الإسلام. ويحتمل: أن يكون المراد , أنّه لا يكون في سبيل الله إلَّا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط , بمعنى أنّه لو أضاف إلى ذلك سبباً من الأسباب المذكورة أخلَّ بذلك. ويحتمل: أن لا يخلّ إذا حصل ضمناً لا أصلاً ومقصوداً. وبذلك صرّح الطّبريّ فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأوّل لا يضرّه ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور. لكن روى أبو داود والنّسائيّ من حديث أبي أُمامة بإسنادٍ جيّد قال: جاء رجل فقال: يا رسولَ الله: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر

والذّكر مالَه؟ قال: لا شيء له، فأعادها ثلاثاً كلّ ذلك يقول: لا شيء له، ثمّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الله لا يقبل من العمل إلَّا ما كان له خالصاً. وابتغي به وجهه. ويمكن أن يُحمل هذا على من قصدَ الأمرين معاً على حدّ واحد فلا يخالف المرجّح أوّلاً، فتصير المراتب خمساً: أن يقصد الشّيئين معاً، أو يقصد أحدهما صرفاً أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمناً، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمناً، وقد لا يحصل ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دلَّ عليه حديث أبي موسى. ودونه أن يقصدهما معاً فهو محذور أيضاً على ما دلَّ عليه حديث أبي أُمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل ففيه مرتبتان أيضاً. قال ابن أبي جمرة: ذهب المحقّقون إلى أنّه إذا كان الباعث الأوّل قصد إعلاء كلمة الله لَم يضرّه ما انضاف إليه. انتهى ويدلّ على أنّ دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصليّ , ما رواه أبو داود بإسنادٍ حسن عن عبد الله بن حوالة قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولَم نغنم شيئاً، فقال: اللهمّ لا تكِلْهم إلى .. الحديث. وفي إجابة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، لأنّه لو أجابه بأنّ جميع ما ذكره ليس في سبيل الله احتمل

أن يكون ما عدا ذلك كلّه في سبيل الله وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهيّة القتال إلى حال المقاتل فتضمّن الجواب وزيادة. ويحتمل: أن يكون الضّمير في قوله " فهو " راجعاً إلى القتال الذي في ضمن قاتل , أي: فقتاله قتال في سبيل الله، واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وطلب ثوابه وطلب دحض أعدائه. وكلّها متلازمة. والحاصل ممّا ذكر. أنّ القتال منشؤه القوّة العقليّة والقوّة الغضبيّة والقوّة الشّهوانيّة، ولا يكون في سبيل الله إلَّا الأوّل. وقال ابن بطّال: إنّما عدل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن لفظ جواب السّائل , لأنّ الغضب والحميّة قد يكونان لله. فعدلَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام. وفيه بيان أنّ الأعمال إنّما تحتسب بالنّيّة الصّالحة، وأنّ الفضل الذي ورد في المجاهد يختصّ بمن ذكر. وفيه جواز السّؤال عن العلة، وفيه ذمّ الحرص على الدّنيا وعلى القتال لحظّ النّفس في غير الطّاعة. تكميل: زاد الشيخان " فرفع رأسه إليه، وما رفع رأسه إليه إلَّا أنه كان قائماً، فقال: من قاتل .. " فيه أنّ العالم الجالس إذا سأله شخصٌ قائمٌ لا يعدّ من باب من أحبّ أن يتمثّل له الرّجال قياماً. بل هذا جائز، بشرط الأمن من

الإعجاب. قاله ابن المنير. وظاهره أنّ القائل هو أبو موسى، ويحتمل: أن يكون من دونه فيكون مدرجاً في أثناء الخبر.

كتاب العتق

كتاب العتق العتق بكسر المهملة إزالة الملك، يقال عتق يعتق عتقاً - بكسر أوّله ويفتح - وعتاقاً وعتاقة. قال الأزهريّ: وهو مشتقٌّ من قولهم: عتق الفرس إذا سبق , وعتق الفرخ إذا طار، لأنّ الرّقيق يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء. قال الله تعالى: {فكّ رقبةٍ} والمراد بفكّ الرّقبة. تخليص الشّخص من الرّقّ من تسمية الشّيء باسم بعضه. وإنّما خُصّت بالذّكر إشارة إلى أنّ حكم السّيّد عليه كالغلِّ في رقبته. فإذا أعتق فكّ الغلّ من عنقه. وجاء في حديثٍ صحيحٍ. أنّ فكّ الرّقبة مختصٌّ بمن أعان في عتقها حتّى تعتق , رواه أحمد وابن حبّان والحاكم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعتق النّسمة وفكّ الرّقبة. قيل: يا رسولَ الله. أليستا واحدة؟ قال: لا، إنّ عتق النّسمة أن تفرد بعتقها، وفكّ الرّقبة أن تعين في عتقها. وهو في أثناء حديث طويل أخرج التّرمذيّ بعضه وصحَّحه. وإذا ثبت الفضل في الإعانة على العتق ثبت الفضل في التّفرّد بالعتق من باب الأولى (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (6715) ومسلم (1509) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضوٍ منه عضواً من النار، حتى فرجه بفرجه.

الحديث الأول

الحديث الأول 424 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - , أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق شِركاً له في عبدٍ، فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوّم عليه قيمة عدْلٍ، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق. (¬1) قوله: (من أعتق) ظاهره العموم، لكنّه مخصوص بالاتّفاق فلا يصحّ من المجنون ولا من المحجور عليه لسفهٍ، وفي المحجور عليه بفلسٍ والعبد والمريض مرض الموت والكافر تفاصيل للعلماء بحسب ما يظهر عندهم من أدلة التّخصيص. ولا يقوَّم في مرض الموت عند الشّافعيّة إلَّا إذا وسعه الثّلث، وقال أحمد: لا يقوَّم في المرض مطلقاً. وخرج بقوله: " أعتق " ما إذا أعتق عليه. بأن ورث بعض من يعتق عليه بقرابةٍ فلا سراية عند الجمهور، وعن أحمد رواية. وكذلك لو عجَزَ المكاتب بعد أن اشترى شقصاً يعتق على سيّده فإنّ الملك والعتق يحصلان بغير فعل السّيّد فهو كالإرث. ويدخل في الاختيار ما إذا أكره بحقٍّ، لو أوصى بعتق نصيبه من المشترك أو بعتق جزءٍ ممّن له كلّه لَم يسر عند الجمهور أيضاً , لأنّ المال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2359 , 2369 , 2386 , 2387 , 2388 , 2389، 2415) ومسلم (1501) من طرق عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وللبخاري (2385) ومسلم (1501) من طريق سالم عن أبيه نحوه مختصراً.

ينتقل للوارث ويصير الميّت معسراً، وعن المالكيّة رواية. وحجّة الجمهور مع مفهوم الخبر , أنّ السّراية على خلاف القياس فيختصّ بمورد النّصّ، ولأنّ التّقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات فيقتضي التّخصيص بصدور أمر يجعل إتلافاً. ثمّ ظاهر قوله: " من أعتق " وقوع العتق منجّزاً , وأجرى الجمهور المعلَّق بصفةٍ إذا وجدت مجرى المنجّز. تكميل: ادّعى ابن حزم. أنّ لفظ العبد في اللّغة يتناول الأمة. وفيه نظرٌ، ولعله أراد المملوك. وقال القرطبيّ: العبد اسم للمملوك الذّكر بأصل وضعه، والأمة اسم لمؤنّثه بغير لفظه، ومن ثَمّ قال إسحاق: إنّ هذا الحكم لا يتناول الأنثى، وخالفه الجمهور. فلم يفرّقوا في الحكم بين الذّكر والأنثى , إمّا لأنّ لفظ العبد يراد به الجنس كقوله تعالى: {إلَّا آتي الرّحمن عبداً} فإنّه يتناول الذّكر والأنثى قطعاً، وإمّا على طريق الإلحاق لعدم الفارق. قال: وحديث ابن عمر من طريق موسى بن عقبة عن نافع عنه , أنّه كان يفتي في العبد والأمة يكون بين الشّركاء " الحديث، وقد قال في آخره: يخبر ذلك عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) فظاهره أنّ الجميع مرفوع. وقد رواه الدّارقطنيّ من طريق الزّهريّ عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان له شرك في عبد أو أمة " الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (2525) وهو أحد روايات حديث الباب.

وهذا أصرح ما وجدته في ذلك، ومثله ما أخرجه الطّحاويّ من طريق ابن إسحاق عن نافع مثله , وقال فيه: " حمل عليه ما بقي في ماله حتّى يعتق كلّه ". وقد قال إمام الحرمين: إدراك كون الأَمَةِ في هذا الحكم كالعبد حاصل للسّامع قبل التّفطّن لوجه الجمع والفرق، والله أعلم. قلت: وقد فرّق بينهما عثمان الليثيّ بمأخذٍ آخر فقال: ينفذ عتق الشّريك في جميعه ولا شيء عليه لشريكه إلَّا أن تكون الأمة جميلة تراد للوطء فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضّرر. قال النّوويّ: قول إسحاق شاذّ، وقول عثمان فاسد. انتهى قوله: (شركاً) وهو بكسر المعجمة وسكون الرّاء , وفي رواية للبخاري " عبداً بين اثنين " هو كالمثال وإلا فلا فرق بين أن يكون بين اثنين أو أكثر. وفي رواية أيّوب عن نافع عن ابن عمر عند الشيخين " شقصاً " بمعجمةٍ وقاف مهملة وزن الأوّل، وفي رواية للشيخين " نصيباً " والكلّ بمعنىً، إلَّا أنّ ابن دريد قال: هو القليل والكثير. وقال القزّاز: لا يكون الشّقص إلَّا كذلك، والشّرك في الأصل مصدر أطلق على متعلقه وهو العبد المشترك، ولا بدّ في السّياق من إضمار جزءٍ أو ما أشبهه لأنّ المشترك هو الجملة أو الجزء المعيّن منها. وظاهره العموم في كل رقيق , لكن يستثنى الجاني والمرهون ففيه خلاف، والأصحّ في الرّهن والجناية منع السّراية , لأنّ فيها إبطال

حقّ المرتهن والمجنيّ عليه، فلو أعتق مشتركاً بعد أن كاتباه , فإن كان لفظ العبد يتناول المكاتب وقعت السّراية وإلا فلا، ولا يكفي ثبوت أحكام الرّقّ عليه، فقد ثبتت ولا يستلزم استعمال لفظ العبد عليه، ومثله ما لو دبّراه، لكن تناول لفظ العبد للمدبّر أقوى من المكاتب فيسري هنا على الأصحّ، فلو أعتق من أمة ثبت كونها أمّ ولد لشريكه فلا سراية لأنّها تستلزم النّقل من مالكٍ إلى مالكٍ، وأمّ الولد لا تقبل ذلك عند من لا يرى بيعها , وهو أصحّ قولي العلماء. قوله: (فكان له مالٌ يبلغ) أي: شيء يبلغ، والتّقييد بقوله: " يبلغ " يخرج ما إذا كان له مال لكنّه لا يبلغ قيمة النّصيب. وظاهره أنّه في هذه الصّورة لا يقوّم عليه مطلقاً، لكنّ الأصحّ عند الشّافعيّة وهو مذهب مالك , أنّه يسري إلى القدر الذي هو موسرٌ به تنفيذاً للعتق بحسب الإمكان. وللبخاري من رواية سالم عن أبيه " فإن كان موسراً قوّم " ظاهره اعتبار ذلك حال العتق، حتّى لو كان معسراً ثمّ أيسر بعد ذلك لَم يتغيّر الحكم، ومفهومه أنّه إن كان معسراً لَم يقوّم. وقد أفصح بذلك في رواية الباب حيث قال فيها: " وإلا فقد عتق منه ما عتق " , ويبقى ما لَم يعتق على حكمه الأوّل، هذا الذي يفهم من هذا السّياق وهو السّكوت عن الحكم بعد هذا الإبقاء. وسيأتي البحث في ذلك في الكلام على الحديث الذي يليه. قوله: (ثمن العبد) أي: ثمن بقيّة العبد، لأنّه موسر بحصّته،

وقد أوضح ذلك النّسائيّ في روايته من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عبيد الله بن عمر وعمر بن نافع ومحمّد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر بلفظ " وله مال يبلغ قيمة أنصباء شركائه , فإنّه يضمن لشركائه أنصباءهم ويعتق العبد ". والمراد بالثّمن هنا القيمة، لأنّ الثّمن ما اشتريت به العين، واللازم هنا القيمة لا الثّمن، وقد تبيّن المراد في رواية زيد بن أبي أنيسة المذكورة، وفي رواية أيّوب عن نافع بلفظ " ما يبلغ قيمته بقيمة عدل ". قوله: (قُوّم عليه قيمة عدل) (¬1) بضمّ أوّله، زاد مسلم والنّسائيّ في روايتهما من هذا الوجه " في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط ". والوكس: بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مهملة النّقص، والشّطط بمعجمة ثمّ مهملة مكرّرة والفتح. الجور. واتّفق مَن قال من العلماء على أنّه يباع في حصّة شريكه جميع ما يباع عليه في الدّين على اختلاف عندهم في ذلك، ولو كان عليه دين بقدر ما يملكه كان في حكم الموسر على أصحّ قولي العلماء، وهو كالخلاف في أنّ الدّين. هل يمنع الزّكاة أم لا.؟ ووقع في رواية الشّافعيّ والحميديّ عن سفيان عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه " فإنّه يقوّم عليه بأعلى القيمة أو قيمة عدل ". وهو شكّ من سفيان، وقد رواه أكثر أصحابه عنه بلفظ " قوّم عليه قيمة ¬

_ (¬1) قال في المرقاة: أي: تقويم عدل من المقوِّمين , أو المراد قيمةٌ وسط.

عدل " (¬1) وهو الصّواب. قوله: (فأَعْطَى شركاءه) كذا للأكثر على البناء للفاعل وشركاءه بالنّصب، ولبعضهم " فأعطي " على البناء للمفعول. وشركاؤه بالضّمّ. قوله: (حصصهم) أي: قيمة حصصهم , أي: إن كان له شركاء. فإن كان له شريك أعطاه جميع الباقي، وهذا لا خلاف فيه , فلو كان مشتركاً بين الثّلاثة , فأعتق أحدهم حصّته وهي الثّلث , والثّاني حصّته وهي السّدس , فهل يقوّم عليهما نصيب صاحب النّصف بالسّويّة أو على قدر الحصص؟. الجمهور على الثّاني، وعند المالكيّة والحنابلة خلاف كالخلاف في الشّفعة إذا كانت لاثنين هل يأخذان بالسّويّة أو على قدر الملك؟. قوله: (وإلاّ فقد عتق منه ما عتق). قال الدّاوديّ: هو بفتح العين من الأوّل ويجوز الفتح والضّمّ في الثّاني. وتعقّبه ابن التّين: بأنّه لَم يقله غيره، وإنّما يقال عتق بالفتح وأعتق بضمّ الهمزة، ولا يعرف عتق بضمّ أوّله , لأنّ الفعل لازم غير متعدٍّ. قال البخاري: رواه الليث وابن أبي ذئب وابن إسحاق وجويرية ويحيى بن سعيد وإسماعيل بن أُميَّة عن نافع عن ابن عمر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مختصراً. انتهى ¬

_ (¬1) وهي رواية البخاري في " صحيحه " (2385) عن ابن المديني , ومسلم (1501) عن عمرو الناقد وابن أبي عمر كلاهما عن سفيان به.

يعني. ولَم يذكروا الجملة الأخيرة في حقّ المعسر , وهي قوله: " فقد عتق منه ما عتق ". فأمّا رواية الليث. فقد وصلها مسلم , ولَم يسق لفظه، والنّسائيّ ولفظه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أيّما مملوكٍ كان بين شركاء , فأعتق أحدهم نصيبه فإنّه يقام في مال الذي أعتق قيمة عدل فيعتق إن بلغ ذلك ماله ". وأمّا رواية ابن أبي ذئب. فوصلها مسلم , ولَم يسق لفظها، ووصلها أبو نعيم في " مستخرجه عليه " ولفظه " من أعتق شركاً في مملوك , وكان للذي عتق مبلغ ثمنه , فقد عتق كلّه ". وأمّا رواية ابن إسحاق. فوصلها أبو عوانة , ولفظه " من أعتق شركاً له في عبد مملوك فعليه نفاذه منه ". وأمّا رواية جويرية - وهو ابن أسماء - فوصلها البخاري. وأمّا رواية يحيى بن سعيد. فوصلها مسلم وغيره. وأمّا رواية إسماعيل بن أُميَّة. فوصلها مسلم. ولَم يسق لفظها، وهي عند عبد الرّزّاق نحو رواية ابن أبي ذئب. وشكَّ أيّوب في هذه الزّيادة المتعلقة بحكم المعسر , هل هي موصولةٌ مرفوعةٌ , أو منقطعةٌ مقطوعةٌ؟. فرواه البخاري من رواية حماد عنه. قال: لا أدري. أشيء قاله نافع أو شيء في الحديث , وقد رواه عبد الوهّاب عن أيّوب , فقال في آخره: وربّما قال: وإن لَم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق , وربّما لَم يقله،

وأكثر ظنّي أنّه شيء يقوله نافع من قِبَله. أخرجه النّسائيّ. وقد وافق أيّوبَ على الشّكّ في رفع هذه الزّيادة يحيى بنُ سعيد عن نافع , أخرجه مسلم والنّسائيّ , ولفظ النّسائيّ " وكان نافع يقول: قال يحيى: لا أدري أشيء كان من قِبَله يقوله أم شيء في الحديث، فإن لَم يكن عنده فقد جاز ما صنع " , ورواها من وجه آخر عن يحيى. فجزم بأنّها عن نافع، وأدرجها في المرفوع من وجهٍ آخر. وجزم مسلم. بأنّ أيّوب ويحيى , قالا: لا ندري أهو في الحديث , أو شيء قاله نافع من قِبَله. ولَم يختلف عن مالك في وصلها ولا عن عبيد الله بن عمر، لكن اختلف عليه في إثباتها وحذفها، والذين أثبتوها حفّاظ فإثباتها عن عبيد الله مقدّم، وأثبتها أيضاً جرير بن حازم كما عند البخاري , وإسماعيل بن أُميَّة عند الدّارقطنيّ. وقد رجّح الأئمّة رواية من أثبت هذه الزّيادة مرفوعة. قال الشّافعيّ: لا أحسب عالماً بالحديث يشكّ في أنّ مالكاً أحفظ لحديث نافع من أيّوب، لأنّه كان ألزم له منه، حتّى ولو استويا فشكّ أحدهما في شيءٍ لَم يشكّ فيه صاحبه كانت الحجّة مع من لَم يشكّ. ويؤيّد ذلك قول عثمان الدّارميّ: قلت لابن معين: مالك في نافعٍ أحبّ إليك أو أيّوب؟ قال: مالك. وسأذكر ثمرة الخلاف في رفع هذه الزّيادة , أو وقفها في الكلام على حديث أبي هريرة الذي يليه إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الحديث دليلٌ على أنّ الموسر إذا أعتق نصيبه من مملوك عتق كلّه. قال ابن عبد البرّ: لا خلاف في أنّ التّقويم لا يكون إلَّا على الموسر، ثمّ اختلفوا في وقت العتق: القول الأول: قال الجمهور والشّافعيّ في الأصحّ وبعض المالكيّة: إنّه يعتق في الحال. القول الثاني: قال بعض الشّافعيّة: لو أعتق الشّريك نصيبه بالتّقويم كان لغواً , ويغرم المعتق حصّة نصيبه بالتّقويم. وحجّتهم رواية أيّوب في البخاري حيث قال: من أعتق نصيباً , وكان له من المال ما يبلغ قيمته , فهو عتيق. وأوضح من ذلك رواية النّسائيّ وابن حبّان وغيرهما من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ " من أعتق عبداً وله فيه شركاء , وله وفاء فهو حرّ , ويضمن نصيب شركائه بقيمته ". وللطّحاويّ من طريق ابن أبي ذئب عن نافع " فكان للذي يعتق نصيبه ما يبلغ ثمنه فهو عتيق كلّه "، حتّى لو أعسر الموسر المعتق بعد ذلك استمرّ العتق وبقي ذلك ديناً في ذمّته، ولو مات أخذ من تركته، فإن لَم يخلف شيئاً لَم يكن للشّريك شيء واستمرّ العتق. القول الثالث: المشهور عند المالكيّة أنّه لا يعتق إلَّا بدفع القيمة، فلو أعتق الشّريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه، وهو أحد أقوال الشّافعيّ.

وحجّتهم رواية سالم في البخاري حيث قال: فإن كان موسراً قوّم عليه ثمّ يعتق. والجواب: أنّه لا يلزم من ترتيب العتق على التّقويم ترتيبه على أداء القيمة، فإنّ التّقويم يفيد معرفة القيمة، وأمّا الدّفع فقدرٌ زائد على ذلك. وأمّا رواية مالك التي فيها " فأعطى شركاءه حصصهم , وعتق عليه العبد " فلا تقتضي ترتيباً لسياقها بالواو. وفي الحديث حجّة على ابن سيرين حيث قال: يعتق كلّه , ويكون نصيب من لَم يعتق في بيت المال، لتصريح الحديث بالتّقويم على المعتق. وعلى ربيعة حيث قال: لا ينفذ عتق الجزء من موسر ولا معسر، وكأنّه لَم يثبت عنده الحديث. وعلى بكير بن الأشجّ حيث قال: إنّ التّقويم يكون عند إرادة العتق لا بعد صدوره. وعلى أبي حنيفة حيث قال: يتخيّر الشّريك بين أن يقوّم نصيبه على المعتق , أو يعتق نصيبه , أو يستسعي العبد في نصيب الشّريك. ويقال إنّه لَم يُسبق إلى ذلك , ولَم يتابعه عليه أحدٌ حتّى ولا صاحباه. وطرد قوله في ذلك. فيما لو أعتق بعض عبده. فالجمهور قالوا: يعتق كلّه. وقال هو: يستسعي العبد في قيمة نفسه لمولاه.

واستثنى الحنفيّة ما إذا أذن الشّريك , فقال لشريكه: أعتق نصيبك، قالوا: فلا ضمان فيه. واستدل به على أنّ من أتلف شيئاً من الحيوان فعليه قيمته لا مثله، ويلتحق بذلك ما لا يكال ولا يوزن. عند الجمهور. وقال ابن بطّال: قيل الحكمة في التّقويم على الموسر أن تكمل حرّيّة العبد لتتمّ شهادته وحدوده. قال: والصّواب أنّها لاستِكْمال إنقاذ المعتق من النّار. قلت: وليس القول المذكور مردوداً , بل هو محتملٌ أيضاً، ولعل ذلك أيضاً هو الحكمة في مشروعيّة الاستسعاء.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 425 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق شِقصاً له من مملوكٍ، فعليه خلاصه كلّه في ماله، فإن لَم يكن له مالٌ قوّم المملوك، قيمةَ عدلٍ، ثم استُسعي العبد، غير مشقوقٍ عليه. (¬1) قوله: (من أعتق شقصاً له من مملوكٍ ...) وللبخاري من وجهٍ آخر عن جرير بن حازم عن قتادة بلفظ " من أعتق شقصاً له في عبدٍ أعتق كلّه إن كان له مال , وإلاَّ يستسعَ غير مشقوق عليه " , وأخرجه الإسماعيليّ من طريق بشر بن السّريّ ويحيى بن بكير جميعاً عن جرير بن حازم بلفظ " من أعتق شقصاً من غلام , وكان للذي أعتقه من المال ما يبلغ قيمة العبد أعتق في ماله، وإن لَم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه ". قوله: (قوّم المملوك، قيمة عدلٍ، ثم استسعي العبد) في رواية عيسى بن يونس عن سعيد عن قتادة عند مسلم " ثمّ يستسعى في نصيب الذي لَم يُعتِق " الحديث. وفي رواية عبدة عند النّسائيّ ومحمّد بن بشر عند أبي داود كلاهما عن سعيد " فإن لَم يكن له مال قوّم ذلك العبد قيمة عدل , واستسعي في قيمته لصاحبه " الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2360 , 2370 , 2390) ومسلم (1503) من طرق عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وأشار البخاري في الترجمة (¬1) إلى أنّ المراد بقوله في حديث ابن عمر " وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق " أي: وإلاَّ فإن كان المعتق لا مال له يبلغ قيمة بقيّة العبد فقد تنجّز عتق الجزء الذي كان يملكه , وبقي الجزء الذي لشريكه على ما كان عليه أوّلاً إلى أن يستسعي العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرّقّ إن قوي على ذلك، فإن عجَزَ نفسه استمرّت حصّة الشّريك موقوفة. وهو مصيرٌ منه إلى القول بصحّة الحديثين جميعاً , والحكم برفع الزّيادتين معاً وهو قوله في حديث ابن عمر " وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق ". وقد تقدّم بيان من جزم بأنّها من جملة الحديث، وبيان من توقّف فيها , أو جزم بأنّها من قول نافع (¬2). وقوله في حديث أبي هريرة " فاستسعى به غير مشقوق عليه " وسأبيّن من جزمَ بأنّها من جملة الحديث ومن توقّف فيها أو جزم بأنّها من قول قتادة. وقد بيّنت ذلك في كتابي " المدرج " بأبسط ممّا هنا. وقد استبعد الإسماعيليّ إمكان الجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة , ومنع الحكم بصحّتهما معاً , وجزم بأنّهما متدافعان. ¬

_ (¬1) ترجم عليه البخاري في الصحيح بقوله (باب إذا أعتق نصيبا في عبد وليس له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه، على نحو الكتابة) (¬2) في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الماضي.

وقد جمع غيره بينهما بأوجهٍ أخر. يأتي بيانها إن شاء الله تعالى قوله: (غير مشقوقٍ عليه) تقدّم توجيهه. وقال ابن التّين: معناه لا يستغلي عليه في الثّمن، وقيل: معناه غير مكاتب وهو بعيد جدّاً. وفي ثبوت الاستسعاء حجّة على ابن سيرين حيث قال: يعتق نصيب الشّريك الذي لَم يعتق من بيت المال. قال البخاري: تابعه حجّاج بن حجّاج وأبان وموسى بن خلف عن قتادة , واختصره شعبة. انتهى أراد البخاريّ بهذا. الرّدّ على من زعم أنّ الاستسعاء في هذا الحديث غير محفوظٍ. وأنّ سعيد بن أبي عروبة (¬1) تفرّد به، فاستظهر له برواية جرير بن حازم بموافقته. ثمّ ذكر ثلاثة تابعوهما على ذِكْرها. فأمّا رواية حجّاج , فهو في نسخة حجّاج بن حجّاج عن قتادة. من رواية أحمد بن حفص أحد شيوخ البخاريّ عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن حجّاج. وفيها ذكر السّعاية، ورواه عن قتادة أيضاً حجّاج بن أرطاة , أخرجه الطّحاويّ. وأمّا رواية أبان. فأخرجها أبو داود والنّسائيّ من طريقه , قال: حدّثنا قتادة أخبرنا النّضر بن أنسٍ ولفظه " فإنّ عليه أن يعتق بقيّته إن كان له مال , وإلا استسعي العبد " الحديث، ولأبي داود " فعليه أن يعتقه كلّه والباقي سواء ". ¬

_ (¬1) رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة هي رواية الباب التي أوردها المقدسي في العمدة. أما رواية جرير بن حازم. فهي عند البخاري كما تقدم في الشرح.

وأمّا رواية موسى بن خلف. فوصلها الخطيب في " كتاب الفصل والوصل " من طريق أبي ظفر عبد السّلام بن مظهر عنه عن قتادة عن النّضر. ولفظه " من أعتق شقصاً له في مملوك فعليه خلاصه إن كان له مال، فإن لَم يكن له مال استسعي غير مشقوق عليه ". وأمّا رواية شعبة. فأخرجها مسلم والنّسائيّ من طريق غندر عنه عن قتادة بإسناده. ولفظه " عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في المملوك بين الرّجلين فيعتق أحدهما نصيبه , قال: يضمن "، ومن طريق معاذ عن شعبة بلفظ " من أعتق شقصاً من مملوك فهو حرّ من ماله ". وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الطّيالسيّ عن شعبة , وأبو داود من طريق روح عن شعبة بلفظ " من أعتق مملوكاً بينه وبين آخر فعليه خلاصه ". وقد اختصر ذكرَ السّعاية أيضاً هشام الدّستوائيّ عن قتادة , إلَّا أنّه اختلف عليه في إسناده: فمنهم من ذكر فيه النّضر بن أنس , ومنهم من لَم يذكره، وأخرجه أبو داود والنّسائيّ بالوجهين , ولفظ أبي داود والنّسائيّ جميعاً من طريق معاذ بن هشام عن أبيه " من أعتق نصيباً له في مملوك عتق من ماله إن كان له مال " , ولَم يختلف على هشام في هذا القدر من المتن. وغفل عبد الحقّ , فزعم أنّ هشاماً وشعبة ذكرا الاستسعاء فوصلاه. وتعقّبَ ذلك عليه ابنُ الموَّاق فأجاد. وبالغ ابن العربيّ , فقال: اتّفقوا على أنّ ذكر الاستسعاء ليس من

قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنّما هو من قول قتادة. ونقل الخلال في " العلل " عن أحمد أنّه ضعّف رواية سعيد في الاستسعاء، وضعّفها أيضاً الأثرم عن سليمان بن حرب، واستند إلى أنّ فائدة الاستسعاء أن لا يدخل الضّرر على الشّريك. قال: فلو كان الاستسعاء مشروعاً للزم أنّه لو أعطاه مثلاً كل شهر درهمين أنّه يجوز ذلك، وفي ذلك غاية الضّرر على الشّريك. انتهى. وبمثل هذا لا تُرد الأحاديث الصّحيحة. قال النّسائيّ: بلغني أنّ همّاماً رواه فجعل هذا الكلام , أي: الاستسعاء من قول قتادة. وقال الإسماعيليّ: قوله " ثمّ استسعي العبد " ليس في الخبر مسنداً، وإنّما هو قول قتادة مدرج في الخبر على ما رواه همّام. وقال ابن المنذر والخطّابيّ: هذا الكلام الأخير من فتيا قتادة ليس في المتن. قلت: ورواية همّام. قد أخرجها أبو داود عن محمّد بن كثير عنه عن قتادة , لكنّه لَم يذكر الاستسعاء أصلاً , ولفظه " أنّ رجلاً أعتق شقصاً من غلام، فأجاز النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عتقه وغرّمه بقيّة ثمنه ". نعم. رواه عبد الله بن يزيد المقرئ عن همّام فذكر فيه السّعاية وفصَلَها من الحديث المرفوع. أخرجه الإسماعيليّ وابن المنذر والدّارقطنيّ والخطّابيّ والحاكم في " علوم الحديث " والبيهقيّ والخطيب في " الفصل والوصل " كلّهم من طريقه , ولفظه مثل

رواية محمّد بن كثير سواء. وزاد , قال: فكان قتادة يقول: إن لَم يكن له مال استسعي العبد. قال الدّارقطنيّ: سمعت أبا بكر النّيسابوريّ يقول: ما أحسن ما رواه همّام , ضبطه وفصل بين قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبين قول قتادة. هكذا جزم هؤلاء بأنّه مدرج. وأبى ذلك آخرون. منهم صاحبا الصّحيح. فصحّحا كون الجميع مرفوعاً، وهو الذي رجّحه ابن دقيق العيد وجماعة، لأنّ سعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له , وكثرة أخذه عنه من همّام وغيره، وهشام وشعبة وإن كانا أحفظ من سعيد , لكنّهما لَم ينافيا ما رواه، وإنّما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس متّحداً حتّى يتوقّف في زيادة سعيد، فإنّ ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما. فسمع منه ما لَم يسمعه غيره. وهذا كلّه لو انفرد، وسعيد لَم ينفرد. وقد قال النّسائيّ في حديث قتادة (¬1) عن أبي المليح في هذا الباب. بعد أن ساق الاختلاف فيه على قتادة: هشام وسعيد أثبت في قتادة من همّام. وما أُعِلّ به حديث سعيد من كونه اختلط أو تفرّد به مردودٌ , لأنّه ¬

_ (¬1) وقع في بعض النسخ (أبي قتادة) وهو خطأ. وهذا الحديث أخرجه النسائي في " الكبرى " (5/ 34) من طريق قتادة عن أبي المليح , أنَّ رجلاً أعتق شقيصاً من مملوك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعتِق من ماله إنْ كان له , وقال: وليس لله شريك. وسيذكره الشارح بعد قليل.

في الصّحيحين وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط كيزيد بن زُريع , ووافقه عليه أربعة تقدّم ذكرهم , وآخرون معهم لا نطيل بذكرهم. وهمّام هو الذي انفرد بالتّفصيل، وهو الذي خالف الجميع في القدر المتّفق على رفعه , فإنّه جعله واقعةَ عين. وهُم جعلوه حكماً عامّاً، فدلَّ على أنّه لَم يضبطه كما ينبغي. والعجب ممّن طعن في رفع الاستسعاء بكون همّام جعله من قول قتادة , ولَم يطعن فيما يدلّ على ترك الاستسعاء , وهو قوله في حديث ابن عمر في الحديث الماضي " وإلَّا فقد عتق منه ما عتق " بكون أيّوب جعله من قول نافع كما تقدّم شرحه، ففَصَلَ قولَ نافع من الحديث وميّزه كما صنع همّام سواء فلم يجعلوه مدرجاً كما جعلوا حديث همّام مدرجاً مع كون يحيى بن سعيد وافق أيّوب في ذلك. وهمّام لَم يوافقه أحدٌ. وقد جزم بكون حديث نافع مدرجاً محمّد بن وضّاح وآخرون. والذي يظهر أنّ الحديثين صحيحان مرفوعان , وفاقاً لعمل صاحبي الصّحيح. وقال ابن الموَّاق: والإنصاف أن لا نوهم الجماعة بقولٍ واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به، فليس بين تحديثه به مرّة وفتياه به أخرى منافاة. قلت: ويؤيّد ذلك , أنّ البيهقيّ أخرج من طريق الأوزاعيّ عن

قتادة , أنّه أفتى بذلك، والجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ممكن بخلاف ما جزم به الإسماعيليّ. قال ابن دقيق العيد: حسبك بما اتّفق عليه الشّيخان فإنّه أعلى درجات الصّحيح، والذين لَم يقولوا بالاستسعاء. تعلَّلوا في تضعيفه بتعليلاتٍ لا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرِدُ عليها مثل تلك التّعليلات. وكأنّ البخاريّ خشي من الطّعن في رواية سعيد بن أبي عروبة فأشار إلى ثبوتها بإشاراتٍ خفيّةٍ كعادته، فإنّه أخرجه من رواية يزيد بن زريع عنه , وهو من أثبت النّاس فيه وسمع منه قبل الاختلاط، ثمّ استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته لينفي عنه التّفرّد، ثمّ أشار إلى أنّ غيرهما تابعهما. ثمّ قال: اختصره شعبة. وكأنّه جواب عن سؤال مقدّر، وهو أنّ شعبة أحفظ النّاس لحديث قتادة فكيف لَم يذكر الاستسعاء؟. فأجاب بأنّ هذا لا يؤثّر فيه ضعفاً , لأنّه أورده مختصراً وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد. والله أعلم. وقد وقع ذكر الاستسعاء في غير حديث أبي هريرة: أخرجه الطّبرانيّ من حديث جابر، وأخرجه البيهقيّ من طريق خالد بن أبي قلابة عن رجلٍ من بني عذرة. وعمدة من ضعّف حديث الاستسعاء في حديث ابن عمر قوله " وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق ". وقد تقدّم أنّه في حقّ المعسر , وأنّ

المفهوم من ذلك الجزء الذي لشريك المعتق باقٍ على حكمه الأوّل، وليس فيه التّصريح بأن يستمرّ رقيقاً، ولا فيه التّصريح بأنّه يعتق كلّه. وقد احتجّ بعض من ضعّف رفع الاستسعاء , بزيادةٍ وقعت في الدّارقطنيّ وغيره من طريق إسماعيل بن أُميَّة وغيره عن نافع عن ابن عمر , قال في آخره: ورقّ منه ما بقي " وفي إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبيّ. وليس بالمشهور , عن يحيى بن أيّوب. وفي حفظه شيء عندهم. (¬1) وعلى تقدير صحّتها. فليس فيها أنّه يستمرّ رقيقاً، بل هي مقتضى المفهوم من رواية غيره. وحديث الاستسعاء فيه بيان الحكم بعد ذلك. فللذي صحّح رفعه أن يقول: معنى الحديثين أنّ المعسر إذا أعتق حصّته لَم يسر العتق في حصّة شريكه , بل تبقى حصّة شريكه على حالها وهي الرّقّ، ثمّ يستسعي في عتق بقيّته فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيّده ويدفعه إليه ويعتق، وجعلوه في ذلك كالمكاتب، وهو الذي جزم به البخاريّ. والذي يظهر أنّه في ذلك باختياره لقوله: " غير مشقوق عليه " فلو كان ذلك على سبيل اللّزوم بأن يكلَّف العبد الاكتساب والطّلب حتّى يحصل ذلك لحصل له بذلك غاية المشقّة، وهو لا يلزم في الكتابة ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع (عنهم) ولا وجه لها عندي. ولعلَّ الصواب ما أثبته. والله أعلم

بذلك عند الجمهور , لأنّها غير واجبة فهذه مثلها. وإلى هذا الجمع مال البيهقيّ , وقال: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلاً. وهو كما قال. إلَّا أنّه يلزم منه أن يبقى الرّقّ في حصّة الشّريك إذا لَم يختر العبد الاستسعاء، فيعارضه حديث أبي المليح عن أبيه , أنّ رجلاً أعتق شقصاً له من غلام , فذكر ذلك للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لله شريك. وفي رواية " فأجاز عتقه " أخرجه أبو داود والنّسائيّ بإسنادٍ قويٍّ. وأخرجه أحمد بإسنادٍ حسن من حديث سمرة , أنّ رجلاً أعتق شقصاً له في مملوكٍ، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: هو كلّه، فليس لله شريك. ويمكن حمله على ما إذا كان المعتق غنيّاً. أو على ما إذا كان جميعه له فأعتق بعضه، فقد روى أبو داود من طريق ملقام بن التّلبّ عن أبيه , أنّ رجلاً أعتق نصيبه من مملوك فلم يضمّنه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وإسناده حسنٌ، وهو محمول على المعسر وإلا لتعارضا. وجمع بعضهم بطريقٍ أخرى. فقال أبو عبد الملك: المراد بالاستسعاء أنّ العبد يستمرّ في حصّة الذي لَم يعتق رقيقاً فيسعى في خدمته بقدر ما له فيه من الرّقّ، قالوا: ومعنى قوله " غير مشقوق عليه " أي: من وجه سيّده المذكور فلا يكلفه من الخدمة فوق حصّة الرّقّ. لكن يردّ على هذا الجمع , قوله في الرّواية المتقدّمة " واستسعى في قيمته لصاحبه "

واحتجّ من أبطل الاستسعاء بحديث عمران بن حصينٍ عند مسلم , أنّ رجلاً أعتق ستّة مملوكين له عند موته لَم يكن له مال غيرهم، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فجزّأهم أثلاثاً , ثمّ أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرقّ أربعة. ووجه الدّلالة منه: أنّ الاستسعاء لو كان مشروعاً لنجّز من كلّ واحد منهم عتق ثلثه , وأَمَرَه بالاستسعاء في بقيّة قيمته لورثة الميّت. وأجاب من أثبت الاستسعاء: بأنّها واقعة عينٍ. فيحتمل: أن يكون قبل مشروعيّة الاستسعاء. ويحتمل: أن يكون الاستسعاء مشروعاً إلَّا في هذه الصّورة , وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له أن يعتقه. وقد أخرج عبد الرّزّاق بإسنادٍ رجاله ثقات عن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة , أنّ رجلاً منهم أعتق مملوكاً له عند موته وليس له مال غيره , فأعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلثه , وأمره أن يسعى في الثّلثين. وهذا يعارض حديث عمران، وطريق الجمع بينهما ممكن. واحتجّوا أيضاً: بما رواه النّسائيّ من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ " من أعتق عبداً وله فيه شركاء وله وفاء فهو حرّ , ويضمن نصيب شركائه بقيمته لِمَا أساء من مشاركتهم , وليس على العبد شيء ". والجواب مع تسليم صحّته: أنّه مختصّ بصورة اليسار لقوله فيه " وله وفاء "، والاستسعاء إنّما هو في صورة الإعسار كما تقدّم فلا

حجّة فيه. وقد ذهب إلى الأخذ بالاستسعاء إذا كان المعتق معسراً أبو حنيفة وصاحباه والأوزاعيّ والثّوريّ وإسحاق وأحمد في رواية. وآخرون. ثمّ اختلفوا: فقال الأكثر: يعتق جميعه في الحال , ويستسعي العبد في تحصيل قيمة نصيب الشّريك. وزاد ابن أبي ليلى فقال: ثمّ يرجع العبد على المعتق الأوّل بما أدّاه للشّريك. وقال أبو حنيفة وحده: يتخيّر الشّريك بين الاستسعاء وبين عتق نصيبه، وهذا يدلّ على أنّه لا يعتق عنده ابتداء إلَّا النّصيب الأوّل فقط. وهو موافقٌ لِما جنح إليه البخاريّ من أنّه يصير كالمكاتب، وقد تقدّم توجيهه. وعن عطاء. يتخيّر الشّريك بين ذلك وبين إبقاء حصّته في الرّقّ. وخالف الجميعَ زفرُ فقال: يعتق كلّه وتقوّم حصّة الشّريك فتؤخذ إن كان المعتق موسراً، وترتّب في ذمّته إن كان معسراً.

باب بيع المدبر

باب بيع المدبّر الحديث الثالث 426 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: دبَّر رجلٌ من الأنصار غلاماً له. (¬1) وفي لفظ: بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً من أصحابه أعتق غلاماً له عن دُبُرٍ، لَم يكن له مالٌ غيره، فباعه بثمانمائة درهمٍ، ثم أرسل بثمنه إليه. (¬2) قوله: (دبّر) المدبّر الذي عَلَّق مالكُه عتقَه بموت مالكه، سُمِّي بذلك , لأنّ الموت دبر الحياة , أو لأنّ فاعله دبّر أمر دنياه وآخرته: أمّا دنياه فباستمراره على الانتفاع بخدمة عبد. وأمّا آخرته فبتحصيل ثواب العتق، وهو راجعٌ إلى الأوّل، لأنّ تدبير الأمر مأخوذٌ من النّظر في العاقبة. فيرجع إلى دبر الأمر وهو آخره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2397 , 6338 , 6548) ومسلم (997) و (3/ 1288) من طرق عن عمرو بن دينار عن جابر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (2034 , 2117 , 2273 , 6763) ومسلم (997) (3/ 1288) من طرق عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (2284) من طريق محمد بن المنكدر , ومسلم (997) من طريق أبي الزير كلاهما عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (997) من طريق مطر عن عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير وعمرو بن دينار , أنَّ جابر بن عبدالله حدَّثهم في بيع المدبر. كلُّ هؤلاء قال: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قوله: (رجلٌ من الأنصار غلاماً له) وللبخاري " أعتق رجلٌ منّا عبداً له عن دبرٍ " لَم يقع واحدٌ منهما مسمّىً في شيءٍ من طرق البخاريّ. وفي رواية مسلم من طريق أيّوب عن أبي الزّبير عن جابر , أنّ رجلاً من الأنصار يقال له أبو مذكور , أعتق غلاماً له عن دبر يقال له يعقوب " , ففيه التّعريف بكلٍّ منهما. وله من رواية الليث عن أبي الزّبير " أنّ الرّجل كان من بني عذرة "، وكذا للبيهقيّ من طريق مجاهد عن جابر، فلعله كان من بني عذرة. وحالف الأنصار. ولمسلم من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بلفظ: دبّر رجلٌ من الأنصار غلاماً له. لَم يكن له مال غيره فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاشتراه ابن النّحّام (¬1) عبداً قبطيّاً مات عام أوّل في إمارة ابن الزّبير. ¬

_ (¬1) قال في " الفتح " (7/ 497): هو نعيم بن عبد الله , والنحام بالنون والحاء المهملة الثقيلة عند الجمهور، وضبطه ابن الكلبي , بضم النون وتخفيف الحاء، ومنعه الصغاني، وهو لقب نعيم. وظاهر الرواية أنه لقب أبيه. قال النووي: وهو غلطٌ. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: دخلت الجنة فسمعتُ فيها نحمة من نعيم. انتهى. وكذا قال ابن العربي وعياض وغير واحد. لكن الحديث المذكور من رواية الواقدي وهو ضعيف، ولا ترد الروايات الصحيحة بمثل هذا، فلعل أباه أيضاً كان يقال له النحام. والنّحْمة بفتح النون وإسكان المهملة: الصوت , وقيل: السعلة , وقيل: النحنحة. ونعيم المذكور. هو ابن عبد الله بن أسيد بن عبد بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، وأسيد وعبيد وعويج في نسبه مفتوح أول كل منها، قرشي عدوي أسلم قديماً قبل عمر. فكتم إسلامه، وأراد الهجرة فسأله بنو عدي أنْ يُقيم على أيِّ دينٍ شاء , لأنه كان ينفق على أراملهم وأيتامهم ففعل، ثم هاجر عام الحديبية ومعه أربعون من أهل بيته، واستشهد في فتوح الشام زمن أبي بكر أو عمر. وروى الحارث في مسنده بإسناد حسن , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَمَّاه صالحاً، وكان اسمه الذي يعرف به نعيماً.

وهكذا أخرجه أحمد عن سفيان بتمامه نحوه. وقد أخرجه اللبخاري من طريق حمّاد بن زيد عن عمرو نحوه , وفيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن النحام .. " ولَم يقل: في إمارة ابن الزّبير , ولا عيّن الثّمن. قوله: (لَم يكن له مالٌ غيره، فباعه بثمانمائة درهمٍ، ثم أرسل بثمنه إليه) وللبخاري من وجه آخر عن عطاء عن جابر بلفظ: إنَّ رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر فاحتاج , فأخذه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يشتريه منّي؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله. فأفاد في هذه الرّواية سبب بيعه وهو الاحتياج إلى ثمنه. وفي رواية ابن خلادٍ زيادة في تفسير الحاجة. وهو الدّين، فقد ترجم له البخاري في الاستقراض " من باع مال المفلس فقسمه بين الغرماء أو أعطاه حتّى ينفق على نفسه ". وكأنّه أشار بالأوّل: إلى رواية ابن خلاد عن وكيع عن إسماعيل عن سلمة بن كهيل عن عطاء عند الإسماعيليّ في قوله " وعليه دين " , وقد أخرجه البخاري عن ابن نمير شيخه فيه هنا (¬1). لكن قال: عن محمّد بن بشر بدل وكيع. عن إسماعيل بن أبي خالد , ولفظه " بلغ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ رجلاً من أصحابه أعتق غلاماً له عن دُبُر لَم يكن له مال ¬

_ (¬1) أي: في كتاب البيوع من صحيح البخاري.

غيره , فباعه بثمانمائة درهم , ثمّ أرسل بثمنه إليه ". وإلى ما أخرجه النّسائيّ من طريق الأعمش عن سلمة بن كهيل بلفظ " إنَّ رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دُبر - وكان محتاجاً وكان عليه دين - فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثمانمائة درهم فأعطاه , وقال: اقض دينك ". وبالثّاني: إلى ما أخرجه مسلم والنّسائيّ من طريق الليث عن أبي الزّبير عن جابر قال: أعتق رجلٌ من بني عذرة عبداً له عن دُبر، فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألك مال غيره؟ فقال: لا. الحديث. وفيه " فدفعها إليه , ثمّ قال: ابدأ بنفسك فتصدّق عليها " الحديث. وفي رواية أيّوب عن أبي الزبير نحوه ولفظه " وإذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله .. الحديث ". فاتّفقت هذه الرّوايات على أنّ بيع المدبّر كان في حياة الذي دبّره، إلَّا ما رواه شريك عن سلمة بن كهيل عن عطاء عن جابر , إنَّ رجلاً مات وترك مدبّراً وديناً، فأمرهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فباعه في دينه بثمانمائة درهم. أخرجه الدّارقطنيّ، ونقل عن شيخه أبي بكر النّيسابوريّ: أنّ شريكاً أخطأ فيه، والصّحيح ما رواه الأعمش وغيره عن سلمة. وفيه " ودفع ثمنه إليه ". وفي رواية النّسائيّ من وجه آخر عن إسماعيل بن أبي خالد " ودفع ثمنه إلى مولاه ".

قلت: وقد رواه أحمد عن أسود بن عامر عن شريك بلفظ " إنّ رجلاً دبّر عبداً له وعليه دين، فباعه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في دين مولاه ". وهذا شبيه برواية الأعمش , وليس فيه للموت ذكرٌ، وشريك كان تغيّر حفظه لَمَّا ولي القضاء، وسماع من حمله عنه قبل ذلك أصحّ , ومنهم أسود المذكور. وقد اتّفقت طرق رواية عمرو بن دينار عن جابر أيضاً على أنّ البيع وقع في حياة السّيّد، إلَّا ما أخرجه التّرمذيّ من طريق ابن عيينة عنه بلفظ " أنّ رجلاً من الأنصار دبّر غلاماً له فمات ولَم يترك مالاً غيره " الحديث. وقد أعلَّه الشّافعيّ: بأنّه سمعه من ابن عيينة مراراً لَم يذكر قوله " فمات "، وكذلك رواه الأئمّة أحمد وإسحاق وابن المدينيّ والحميديّ وابن أبي شيبة عن ابن عيينة. ووجّه البيهقيُّ الرّوايةَ المذكورة بأنّ أصلها , أنّ رجلاً من الأنصار أعتق مملوكه إن حدث به حادثٌ فمات، فدعا به النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فباعه من نعيم. كذلك رواه مطر الورّاق عن عمرو. قال البيهقيّ: فقوله " فمات " من بقيّة الشّرط، أي: فمات من ذلك الحدث، وليس إخباراً عن أنّ المدبّر مات، فحذف من رواية ابن عيينة قوله " إن حدَثَ به حدَثٌ " فوقع الغلط بسبب ذلك , والله أعلم انتهى. وقد تقدّم الجواب عمّا وقع من مثل ذلك في رواية عطاء عن جابر

من طريق شريك عن سلمة بن كهيل , والله أعلم. تنبيهات: الأوّل: اتّفقت الطّرق على أنّ ثمنه ثمانمائة درهم، إلَّا ما أخرجه أبو داود من طريق هشيمٍ عن إسماعيل عن سلمة بن كهيل قال " سبعمائةٍ أو تسعمائةٍ ". الثّاني: وجدت لوكيعٍ في حديث الباب إسناداً آخر , أخرجه ابن ماجه من طريق أبي عبد الرّحمن الأدرميّ عنه عن أبي عمرو بن العلاء عن عطاء بلفظ " باع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدبر " مختصراً. الثّالث: وقع في رواية الأوزاعيّ عن عطاء عند أبي داود , زيادة في آخر الحديث وهو " أنت أحقّ بثمنه , والله أغنى عنه " قال القرطبيّ وغيره: اتّفقوا على مشروعيّة التّدبير، واتّفقوا على أنّه من الثّلث، غير الليث وزفر فإنّهما قالا: من رأس المال. واختلفوا هل هو عقد جائز أو لازم؟ فمَن قال , لازم. مَنَعَ التّصرّف فيه إلَّا بالعتق، ومَن قال , جائز أجاز. وبالأوّل. قال مالك والأوزاعيّ والكوفيّون. وبالثّاني. قال الشّافعيّ وأهل الحديث. وحجّتهم حديث الباب (¬1)، ولأنّه تعليق للعتق بصفة انفرد السّيّد ¬

_ (¬1) وكذا ما تقدَّم في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رقم (349) " في بيع الأمة إذا زنت " وقول الشارح: وجهه عموم الأمر ببيع الأمة إذا زنت، فيشمل ما إذا كانت مدبّرة أو غير مدبّرة , فيؤخذ منه جواز بيع المدبّر في الجملة.

بها فيتمكّن من بيعه كمن علق عتقه بدخول الدّار مثلاً، ولأنّ من أوصى بعتق شخص جاز له بيعه باتّفاق , فيلحق به جواز بيع المدبّر لأنّه في معنى الوصيّة. وقيّد الليث الجواز بالحاجة وإلَّا فيكره، وعنه: يجوز بيعه إن شرط على المشتري عتقه. وعن أحمد: يمتنع بيع المدبّرة دون المدبّر،. وعن ابن سيرين: لا يجوز بيعه إلَّا من نفسه. ومال ابن دقيق العيد إلى تقييد الجواز بالحاجة , فقال: من منع بيعه مطلقاً كان الحديث حجّةً عليه , لأنّ المنع الكليّ يناقضه الجواز الجزئيّ. ومن أجازه في بعض الصّور فله أن يقول: قلتُ بالحديث في الصّورة التي ورد فيها، فلا يلزمه القول به في غير ذلك من الصّور. وأجاب من أجازه مطلقاً: بأنّ قوله " وكان محتاجاً " لا مدخل له في الحكم، وإنّما ذكر لبيان السّبب في المبادرة لبيعه ليتبيّن للسّيّد جواز البيع، ولولا الحاجة لكان عدم البيع أولى. انتهى وأجاب الأوّل: بأنّها قضيّة عين لا عموم لها فيحمل على بعض الصّور، وهو اختصاص الجواز بما إذا كان عليه دين، وهو مشهور مذهب أحمد والخلاف في مذهب مالك أيضاً. وأجاب بعض المالكيّة عن الحديث: بأنّه - صلى الله عليه وسلم - ردّ تصرّف هذا الرّجل لكونه لَم يكن له مال غيره , فيستدلّ به على ردّ تصرّف من تصدّق بجميع ماله.

وادّعى بعضهم: أنّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما باع خدمة المدبّر لا رقبته. واحتجّ بما رواه ابن فضيلٍ عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا بأس ببيع خدمة المدبّر " أخرجه الدّارقطنيّ. ورجال إسناده ثقات، إلَّا أنّه اختلف في وصله وإرساله. ولو صحّ لَم يكن فيه حجّة. إذ لا دليل فيه على أنّ البيع الذي وقع في قصّة المدبّر الذي اشتراه نعيم بن النّحّام كان في منفعته دون رقبته. قال المُهلَّب: إنّما يبيع الإمام على النّاس أموالهم إذا رأى منهم سفهاً في أموالهم، وأمّا من ليس بسفيهٍ فلا يباع عليه شيء من ماله إلَّا في حقّ يكون عليه، يعني إذا امتنع من أداء الحقّ. وهو كما قال , لكنّ قصّة بيع المدبّر تردّ على هذا الحصر , وقد أجاب عنها " بأنّ صاحب المدبّر لَم يكن له مال غيره، فلمّا رآه أنفق جميع ماله، وأنّه تعرّض بذلك للتّهلكة نقض عليه فعله ولو كان لَم ينفق جميع ماله لَم ينقض فعله " كما قال للذي كان يخدع في البيوع: قل: لا خلابة " , لأنّه لَم يفوّت على نفسه جميع ماله. انتهى. فكأنّه كان في حكم السّفيه " فلذلك باع عليه ماله " وذهب الجمهور. إلى أنّ من ظهر فلَسُه فعلى الحاكم الحجر عليه في ماله , حتّى يبيعه عليه ويقسمه بين غرمائه على نسبة ديونهم. وخالف الحنفيّة. واحتجّوا بقصّة جابر حيث قال في دين أبيه: فلم يعطهم الحائط , ولَم يكسره لهم (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2601) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، أخبره , أن أباه قتل يوم أحد شهيداً، فاشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمته، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي، ويحلّلوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطي , ولَم يكسره لهم. ولكن قال: سأغدو عليك إن شاء الله، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمره بالبركة، فجددتها فقضيتهم حقوقهم، وبقي لنا من ثمرها بقية، ثم جئتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ، فأخبرته بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: اسمع، وهو جالس، يا عمر، فقال: ألا يكون؟ قد علمنا أنك رسول الله , والله إنك لرسول الله.

ولا حجّة فيه , لأنّه أخّر القسمة ليحضر فتحصل البركة في الثّمر بحضوره فيحصل الخير للفريقين , وكذلك كان. تكميل: أخرج ابن أبي شيبة عن طاوس , قال: يجزئ عتق المدبّر في الكفّارة وأمّ الولد في الظّهار، وقد اختلف السّلف. القول الأول: وافق طاوساً الحسنُ في المدبّر والنّخعيّ في أمّ الولد , وخالفه فيهما الزّهريّ والشّعبيّ. القول الثاني: قال مالك والأوزاعيّ: لا يجزئ في الكفّارة , مدبّرٌ ولا أمّ ولد ولا معلقٌ عتقه , وهو قول الكوفيّين. القول الثالث: قال الشّافعيّ: يجزئ عتق المدبّر. القول الرابع: قال أبو ثور: يجزئ عتق المكاتب ما دام عليه شيء من كتابته. واحتجّ لمالكٍ: بأنّ هؤلاء ثبت لهم عقد الحرّيّة لا سبيل إلى رفعها , والواجب في الكفّارة تحرير رقبة. وأجاب الشّافعيّ: بأنّه لو كانت في المدبّر شعبة من حرّيّة ما جاز بيعه.

§1/1